قراءات نقدية

شعرية المقدس في نص (الرصاص) للمغربي لمفضل ناميق

ahmad alshekhawiيا قدسَ الأقداسِ

لَكم تبكي جُدُرك

الحزينةُ...

يا قدسَ الأقداسِ...

لَكم تئنّ شوامخك العتيقةُ...

والأسوار...

لَكم تخاطب السماءَ...

بلغة الصمتِ الصّاخبِ...

بعد أن ضمّختها....

صرخات الأدناس...

بتوصيمة عارْ...

لَكم تتأوّه نسماتك...

الكئيبةُ...

وأنت تمخرين عباب الزمن...

الجريحِ...

على خيط نارْ...

لَكم يزغرد الرّصاصُ...

يا قدسَ الأقداسِ...

بين جوانحكِ...

فتجِمُ العصافيرُ...

يهجرُ الهديلُ صفحات أيّامكِ

تُمسي الخراطيشُ...

للحمامِ لقْطاً

للحدائقِ أزهارْ...

لَكم تتبارى الغربانُ...

يا قدسَ الأقداس...

في دروبك الثكلى...

على انتهاش لحظاتكِ...

لَكم يرفع جلاّدك...

عقيرتَهُ بالخُوارْ...

و يشرب نخب...

موتِ أمجادِك...

بعد أنْ طوّحتْ بها...

صولةُ ريحٍ...

مجّها إعصارْ...

لَكم يبيعك...

يا قدسَ الأقداسِ...

سماسرة السلام...

في سوق الخيانة...

في بلقع الخذلانِ...

في خضم غدرٍ...

لا يقرّ له قرارْ...

لَكم يسرقون بسمتكِ...

يكيلون تُربك...

لحفّاري القبورِ...

لطغمة الأقذارْ...

لكنكِ يا قدسُ...

يا قدسَ الأقداسِ...

تنتفضين من رمادِكِ...

كلَّ ليلةٍ...

تلفحين نيرونَ...

بدمائكِ...

تُلملمين جراحكِ...

تحاصرين حصار البغيِ...

بالحصارْ...

وتبحرين باسمةً...

جامحةً...

تهمهمين سابحةً...

في أفقِ الإصرارْ...

بتمليّ القصيدة أعلاه، إنّما يضعنا الشاعر المغربي لمفضل ناميق في صورة  واضحة الملامح،  تحتفي بعاصمة العروبة، وتنثر عليها بلا مراء أو مراوغة، من نخوة الشعوب التي تستشيط غضبا على اغتصاب يتكرر بحق قبلة الشعراء العشاق هذه، وتستفزّ ببياضات تومئ إلى ما مفاده إشكاليتنا الهوياتية والوجودية، إلى متى نظل مطعونين فيك يا عاصمة السماء والأرض؟ وليس في حوزتنا سوى أحرف متخبّطة في نزيف مستمر، و مهلهلة أنهكها لحن تعزية الذات،وجلجلة المواساة المرتدّة بعد انشطار على مرايا روح النكسة والانحسار.

على أجنحة الشعر كان ولم يزل التحليق ممكنا وضرورة إلى قبلة الشعراء العشاق، وسوف لن تكفّ القصيدة حتى تردها، وترد الصاع صاعين.

برائية تسع بعض وجعنا،و مناورة اتكاء على لازمة رافعة لقضية العروبة الأولى، وواصمة إياها بطقوسيات المقدس الذي لا يعلو عليه همّ ( يا قدس الأقداس) يدغدغ المتبقي فينا من نخوة وحسّ إنساني وضمير غائب يسعى إلى إدراجه في سياق ومرتع الفطرة والبديهة القائلة بأن فلسطين ولدت بتولا وستظل كذلك،وفي عصيان أبدي على نزوة العابرين.

ولجعل القصيدة تزأر على مقاس الحدث،أورد شاعرنا بضع مفردات خشنة ومزلزلة في وقعها على المسامع والأفئدة، نجردها تباعا كالتالي: توصيمة/ انتهاش/ بلقع/ طغمة،...وهو إنما فعل، حسب تقديري، لا ليثبت القاعدة النابضة بمقولة يجوز للشاعر ما يحضر على غيره، فقط، بل ليرفع مليا من سقف تأمل حالة الهوان التي باتت تصبغ الراهن العربي.

صرخة جريئة وشفافة،سوف لن تواتيها بكل تأكيد، سوى مفردات بهذه الطاقة من التجاوز والخرق وقلب القواعد المجتمعية تجاه العديد من القضايا الإنسانية بوجه عام، وقضية فلسطين على نحو نشاز ومستعجل.

إنه وفي خضم هذه الاضطرابات، يمكث المشهد المسكوت عنه هنا، في بعض ما أفرزته الزعامة المتغطرسة، والباقي خلف عبارة" ردّوها عليّ إن استطعتم" نقط حذف، نعم، مجرد نقاط حذف بأوسع ما يتّسم البعد اللّساني بمعاني القدح والتأفف والغضاضة.

سيكون من الحمق والتملّق أن ندّعي أن القصيدة لوحدها قادرة على ترع هكذا فراغا،وتلوين جغرافيا هذا الحذف، لكنا نزعم أن الشعر ديوان العرب،وفي مقدوره تخليق السياسي والإغراق في خطاب الحماسة واستنهاض الهمم والدفع بشعوبنا إلى تحس غد يليق بشرف وكرامة وبشرية النسل المقدس، ويقطع بسيف من وعي جذور الهزيمة المتكررة و يهيئ لاغتسال قطعي و أخير من عار رضيناه وارتديناه طويلا وبما يكفي لنقبع في مهملين منسيين في مراتب الذيلية، متلذّذين بعظمة من خيرات ما تجود به أوطاننا على مرتزقة، نعلم يقينا أنها ما تلبث تتقلّب في أقنعة شتّى، بشأن ما قد نتوهّمه أحيانا،  لصالحنا ووفق تيار حمايتنا وخيريتنا. 

مثل هذه المناداة لا يمكن إلا أن تشقّ مساربها في ذات فوارة، ومعتقدة بجدوى الرؤية الشمولية لحدود الأمور والقضايا، ومتخمة بمرارة الهمّ الجمعي، في مسايرة الطوارئ والالتزام بالخط الوجداني التصاعدي،والانعطاف بمنسوب الحمولة الإنسانية الجارفة، قبل أن يكون محرّكها الحسّ العروبي، في الانتصار لقضية من هذا الطراز المحفوف بهالة القداسة والجلال.

فطوبى لمثل هؤلاء العشّاق بمدينتهم المثالية الفاضلة.

 

احمد الشيخاوي/ شاعر وناقد مغربي 

 

 

في المثقف اليوم