قراءات نقدية

شعرية القدح في نص "شكرا ترامب" للمصري أحمد مصطفى سعيد

ahmad alshekhawiإنّ أسوأ النّقود ما طفا على سطح النّص، دونما فضّ قشرته واختراقها إلى درر الأغوار وكنوز الباطن، إذ ليس من المنصف، قطعا، أن تتمّ مجابهة المبدع عند السطّح، وتبعا لما يمكن أن تقدّمة قراءة رعوية تعلق خطوطها بطقس رغوي ومزاجية عمياء تكتفي بما يشبه العملية الإحصائية وعدّ أخطاء وهفوات المبدع سواء الإملائية أو النحوية بل والمطبعية حتّى والتي لا دخل له بها ولا ذنب، كما هو الحاصل في كثير من الأحيان.

من هنا وجب الحذر مراعاة للتحوّلات الجذرية التي أضحت تعيشها القصيدة العربية، استجابة لتسارع هواجس الإنسان في دورة تقدّمه وانشغالاته بالمستقبلي والملوّح من حجب الماوراء.

وحتما، للنصوص القوية بوصلتها الراجحة في توجيه الممارسة النقدية، ووضعها في المسار الصّحيح، وانتشالها من ملهاة الظاهري إلى لذة استشعار مسؤولية اسكناه الخفي والمتواري خلف رهافة المتون من ألوان ورؤى ومعطيات خامّة، قد ترتقي بالنّص إلى أعلى مستوياته الرّسالية والقيمية والأخلاقية والجمالية، جاعلة منه نصاّ مضافا ومحفورا في سجلّ الأدبيات الخالدة.

والأكيد أن مثل هذه النصوص متوفّرة وموجودة، على نذرتها، فقط، تنتظر دورها في الحفريات والتنقيب، وقلّما يصفعنا بمخمليتها، أصحابها المقتدرين، بين الفينة والأخرى. ويجب ألاّ يلهينا عنها سيلان الاستسهال الإبداعي الجارف، والغوغاء المشينة التي تطبع راهن أدبنا العربي إجمالا.

من هنا، وبصراحة لم يحث معي في التعاطي مع منجز الشاعر المصري الواعد أحمد مصطفى، أن طالعت بذات الحرارة نصّا، من ذي قبل، كالذي بين يدي الآن، بعد أن اقترحه عليّ صاحبه، ولم يخف عليّ قراءة الحماسة في عينيه، وهي حماسة لا تقلّ عمّا ضخّت به الذات الإبداعية فصول قصيدة أحسبها من أبرز وأهمّ ما قيل حتّى الآن، ردا عن الغطرسة الأمريكوصهيونية، وهذا التمادي في إذلال العرب عبر ضرب هويتهم ومقدساتهم وثوابتهم التي لا يغسل عارها سوى الولادات الثانية بعد أشواط من تراخي الهمم وموت الضمائر والجنوح إلى مستنقع الخنوع والخور والاستسلام.

قصيدة شكرا ترامب، ليست مجرد كلام عابر، أو صرخة عروبية ارتفعت مع ضباب أحقاد المتكالبين على مصالح الأمّة العربية، ثمّ ذابت قبله، لا ... هي أقدس وأجلّ من ذلك، فلوه وكبد رطبة، استنبتت بماء ذاكرة الأمجاد والبطولات التي رسمها جند أرض الكنانة، مصر، على مرّ التاريخ، بحيث لا توزّع حلوى انتصار على سلالة كهؤلاء أعادي، وينتشى بثمالتها، قبل أن يقال:

"mod in egypt"

وعذرا على العبارة، لكنّه التاريخ يحكي لنا وعلى امتداد تعاقب صفحاته بشتّى ألوانها، كيف أنّ النسل العربي عزيز بربّه وأرض كنانته، مثلما وقع مع المغول وغيرهم من شياطين ومردة الإنس.

النّص:

[ 1.

هيَ كلمةٌ واحدةٌ

أسقطتْ ورقَ توتِ

العربِ

ولا مكانَ للهرب

فالعالمُ يشاهدُ بعمقِ استرخاء

ونداؤنا أعرج

نندد .. نشجبُ

والحياء انفلق

.2.     

شكرًا ترامب

أيقنّا جميعًا

أن عروبتنا كلامٌ

وساعة الجدّ

أمةٌ منْ ورق

3.

شكرًا ترامب

أيقنَّا

أنَّ الوقارَ اختصرناه

في زبيبةِ الصلاةِ

إذا كنا على الملأ

وسرًّا

نبتهل في الفرج

ونتبارك بالنهد وزبيبة

السرة مبتدأ السعي

تقينا شر السهو

والخطأ

المسبحة جهرًا لا تفارق يمنانا

والحبة الزرقاء في مخبإ محافظنا

والواقي

نخشى الفضيحة

والعينَ الحاقدة

ألمْ تلحظْ

لا جيبَ في شمال جلبابنا

واختصرنا قرآننا

في "قل أعوذ برب الفلق"

4.

شكراً ترامب

علمتَنا كظم الغيظ

فمن يجرؤ

إذا انسل فيه خازوق

أن يتأفف

وإن أمطرت عيناه خنوعًا

وأبرقتْ

نحن من وهبناك مؤخراتِ الوطنِ

على طبق

5.

شكرًا ترامب

أجيالُنا القادمةُ

بفضلكَ ستيعشُ أسوياء

فالحلمُ القدسُ عربية

انقضى ولا قضية

فكيف سيصابونَ

بانفصامِ الشخصية

6.

شكرًا ترامب

سنصطبر على الأحزانِ

وغيظًا فيكَ

عندنا صلاح جديد*1

وخمسُ دولٍ هولامية

في بلادِ الدببة روسيا

سينسوننا الغصة

ما إن تنقل الكاميرا

أعلامًا ترفرفُ

استحياءً

وعلى الوجنات

العدنانية

7.

شكرًا ترامب

وكلّ ترامب يأتي بعدك طمئنه

نحنُ لا نزيدُ على فقاعاتٍ

انفرطَ عقدُ العرب

والأقصى يتسولُ الكرامةَ

في البلادِ النفطيةِ

الفراتيةِ

البابليةِ

الآشوريةِ

8.

شكرًا ترامب

أبلغْ لينكون

لوثر

وتمثالَ الحرية

لا غبارَ عليكم

وضعنا بأيدينا

شارةَ الحدادِ

على الخريطةِ

العربية

مذْ ماتتْ في عروقنا

وحناجرنا

وقرانا

الحرية ].

فتلكم القصدية في ترك عنونة مهذبة بهذا الشكل في مقاربة أستشكال هوياتي من الحساسية والخطورة بمكان، تركها خارج مزدوجتين تقرّان بازدراء صانع الأزمة الأول، ترامب، وتتّهمانه، تنمّ عن حنكة شاعرنا، وتحيل على تأويل متطاوس يكمن في كون تيمة الشكر هاهنا بوصفها لازمة ساهرة على تعدد المعنى الساخر و اللاذع، راعية لحقول تناسلاته عبر جسد القصيدة الشيقة هته ككلّ، كما سوف نتبيّن ذلك لاحقا، ولّدت بغرض الذّم لا أكثر.

وما المراوحة مابين خطابين، كوميدي وتراجيدي بفعل التناوب، إلاّ سلطة بوح متفجّر من الصميم الإنساني المعاند، والرافض للخمول والجمود السياسي على نحو أخص، باعتباره الهوة المفضية مباشرة إلى الأخطاء القاتلة الناجم عنها كلّ هذا التفريط والتقصير والتقاعس والعزف على الأوتار المترهّلة فيما يرتبط بأحلام أمة واهية تتمنّى وتقول ما لاتفعل، فهيهات هيهات، البون شاسع، وما تصبو إليه من قبيل استرداد الكرامة والشرف والمقدس يكاد يكون أنأى من أنجم سماء باتت لا تتسع لنظير هذه الأحلام.

هكذا، فشكر ترامب على فعلته، هو شكر مقولب ومفخخ وعلى مقاس ما تحتفظ به الشعوب العربية من أمل في هبوب المقبل لصالح بعض ما تشتهيه الأمة، بعد هجعة الطوفان، وانطفاء وهج الصفعة التي وجهها ترامب لجيل بأكمله.

بقدر ما تلهمنا الصفعة من حماسة وبسالة وثأر للمروءة العربية المعطّلة.

أما آل الزعامة، فصورتهم لن تزيد أو تنقص، حسب القصيدة، عن أسلوبية تعشيشها في الذاكرة والوعي العربي، إغراقا في امتهان ثقافة البلاط، وانغماس سدنته في عسل التخنّت و غيبوبة اللذتين.

هي قصيدة واعية لم تنرسم فصولها انطلاقا من خلفية انطباعية، من ردّ فعل متهور ومتسرّع، بقدر ما سجّلت نزيفا للذات المبدعة المولعة بهوية المكان والمقدس ضمن أفق إنساني شامل.

عبّرت صوتا وصورة وإيقاعا على رزء عروبي مفت بتعاليم حراك حقيقي ململم للشرخ وممكّن لصولة الجنس المقدس وباعثا لحضارة.

 

احمد الشيخاوي / شاعر وناقد من المغرب

 

في المثقف اليوم