قراءات نقدية
عندما يثور قلم الشاعر خلدون جاويد
الشاعر القدير خلدون جاويد شاعر عراقي مغترب يعيش حاليا بالدنمارك،ولد في 25 نيسان 1948 وقيل في 1947 في سدة الهندية التي تتنقل إداريا ما بين كربلاء وبابل، والدته من بابل – ربة بيت - ووالده من بغداد، موظف تنقل بين محافظات الجنوب حتّى استقرّ في بغداد.
أنهى مراحل الدراسة وأكمل الجامعة عام 1973، فرع اللغة الإنجليزية في كلية الآداب " كلية اللغات الملغاة ".
بدأ كتابة الشعر منذ عام 1964 وفي 1966 بدأ ينشر في صحف بغداد باسم خلدون الموالي، الصحف هي: المنار والجمهورية وملحقها الأدبي والشعب ومجلات مثل الإذاعة والتلفزيون والأجيال لإتحاد المعلمين والمتفرج .
ترك فكرة النشر في الصحافة بعد 1968 لكنّه كتب ونشر باسم خلدون جاويد في طريق الشعب وحاول جهده أن لا يظهر كإسم في مجال الشعر أو سواه في تلك الفترة .
في 1978 غادر العراق على أمل أن يعود له لكن العام القادم سيكون قد مرّ 36 عاما على غيابه القسري منه لتوالي التراجيديات عليه .
بدأ التطواف المضطر عليه من أول محطة هي بلغاريا لقرابة عام ومن ثمّ الجزائر لتسعة أعوام. ودمشق لفترة ما، وموسكو لثمان أشهر، والدانمارك منذ 1991. زار العراق لشهر في نوفمبر عام 2003 .
كتب في كل هذه المراحل شعرا وقصة ونقدا ورواية وخواطر.. إلخ.
لديه الآن بحدود 15 – 20 مخطوطة تنتظر الطبع.
حصل على شهادة الماجستير من الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن قبل عامين من الآن. لم يستفد منها في التعيين الذي تأمله في بغداد مدينة أحلامه ! . الآن هو متقاعد ومتفرّغ للكتابة.
مؤلفاته المطبوعة:
– كتابة على صليب وطن شعر .
– شكرا من الكامب شعر .
– البقايا . شعر .
– لماذا هجوت الجواهري ورثيته . مذكرات .
– قم ياعراق . شعر.
– " هذي العمائم لاتطاق ُ ... جرب ٌ اُصيبَ به العراق ُ". شعر .
– " قم ياعراق فقد تناهبك الوبا ". شعر .
– " قسما بنهدك والقميص الأحمر ِ " . شعر .
– نصبوا المشانق للمطر . شعر .
و أنا أتجوّل بين كتابات الشاعر خلدون جاويد، اخترتُ باقة جميلة من بستان كلماته أقدّمها للقارئ في مزهريات يفوح منها العبق الخلدوني العراقي الأصيل، بها أكاليل الورود الحمراء رمز الحبّ والشيوعية والنضال واليسار .
يشيبُ الرأس، والقلب شابٌّ لا يشيبُ هذا ما حاول أن يشرحه لنا الشاعر خلدون جاويد في قصيدة (يوم لا أعشق أموت):
أنا مُريدكِ
الجوع سؤلي
و الظمأ وجهتي
و السهاد ديدني
و صلاة الروح مرادي
ماذا أريد من دنياي سوى تراب يتكلم
بغيتي إنسان ولو من حجر ناطق
و له قلب يخشع معي
و عين تناجيني
سوى عشق لا أريد.
أنا سكير عشق
أين خمرتي؟
أنا خمار هوى
أين من تلوّعني التياعا؟
أنا مدمن حبّ
يوم لا أعشق أموت
الشاعر خلدون جاويد لا يكتب عن الثورة والشيوعية فقط، إنما يكتب عن الحبّ أيضا، كيف لا وهو شيوعي يحترم المرأة ويدافع عنها ضد العنف والظلم الشرقي.
الشاعر هنا يصف نفسه بالمريد في العشق الروحي والهوى كما قال السهروردي:
و ضلوعي لها هواك ضلوعا
بل وقلبي له المحبّة قلب
شاعرنا خلدون جاويد يقول:
أنا سكير عشق
أين خمرتي؟
أنا خمار هوى
الحبّ هو تحليق الإدراك إلى أعلى مدى، إلى ما وراء المادة وما وراء الجسد في اللحظة التي تفهم فيها الحب كشيء فائق، أو كشيء يتجاوز الحدود الطبيعية، حين ذلك لن يعود الحب سؤالا أساسيا.
إنّ السؤال الأساسي، هو كيف تتجاوز الجسد؟ كيف تعرف شيئا يعيش فيك وهو يتجاوز كلّ شيء.. يتجاوز كل المقاييس (أوشو)
يقول ميخائيل نعيمة:
لولا الحب ما تذوّق الإنسان سعادة الوجود، ولا انتشى بخمرة الحياة.
القلب العاشق لا يعرف المستحيل، وللقلب العاشق كل الأشياء ممكنة، مثلما قال جلال الدين الرومي: نحن أبناء العشق.. لا ننتمي إلاّ إليه.
وفي قول الشاعر خلدون:
أنا مدمن حبّ
وكأنه يقول: ولا مطلب لي.. إلاّ الذي يرضى به الحبّ.
و في قوله:
يوم لا أعشق أموت
ذكّرني بقول أبو يزيد البسطامي:
شربتُ الحبّ كأسا بعد كأس.. فما نفذ الشراب وما رويتُ.
وهنا الشاعر خلدون جاويد يؤكّد لنا أنّ العشق هو ماء الحياة.
يقول الشاعر خلدون في قصيدة (يا حزبي الرائع يا حمامة السلام) التي كتبها في 2013:
يا حزبي الرائع يا حمامة السلام
في زمن الصقور
جميعهم مدجّجون بالكواتمْ
وأنت لا تملك إلاّ الحبّ
والطيبة والكلام.
الشاعر خلدون جاويد يتحدّث عن الحزب الشيوعي العراقي، ويخاطبه:
" يا حزبي الرائع يا حمامة السلام" لأنه نشر وما يزال ينشر المحبة بعيدا عن الكراهية والحقد والبغض والطائفية.
كما كتبت أنا يوما :
" الشيوعية ليست دينا، لذا هي لا تُقدّم بديلا للدين.
الشيوعية هي آلية لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية.
الشيوعية ليست إلحادا كما قال الكثيرون.
الشيوعية ترفض كلّ سلطة تُهيمن على الناس وتسلبهم كرامتهم ولقمتهم باسم الدين".
و يقول أحدهم:
لا تخش صوت الرصاص، فالرصاصة التي ستقتلك لن تسمع صوتها.
وحدهم الغدّارين من يملكون كاتم الصوت في مسدساتهم لينهوا حياة الشيوعيين الذين يُهدّدون راحتهم وأمنهم، لا لسبب معيّن أكثر من كونه شيوعي مثقّفا واعيًا، يعمل على إيقاظ العقول النائمة من سباتها.
الحزب الشيوعي العراقي قدّم الكثير للوطن وضحّى بخيرة شبابه وأبنائه الذين ذاقوا ويلات العذاب والألم في السّجون زمن البعث.
هو الحزب الذي لم يخش شيئا رغم التّهديدات التي حصل عليها المنتمون إليه من أبناء العراق، لقد كان الشّبح المرعب للوحوش الآدمية وكذلك للصنم في ذلك الزّمن الكابوسي الذي لا يُنسى أبدا.
و من نفس القصيدة يقول:
يا حزبي
يا سومريّ الصبر
إنّ شعبنا
منذ ثمانين عامْ
قد ظلّ في فراش سجنه مستلقيا
و بالشعارات مخدرا
يقرأ عن ماركس
و لينين
و جيفارا العظيم
حتّى نامْ
هنا عاد بنا الشّاعر للوراء بعجلة الزّمن متحدّثا عن صبر مؤسّسي الحزب الشيوعي العراقي الذين عاشوا تحت وطأة التّهديد والتّرهيب والتّخويف بعد اغتيال الزّعيم عبد الكريم قاسم وسلام عادل، وذكّرنا بمؤسّسي الحزب الشّيوعي العظماء (ماركس ولينين دون نسيان الثائر والمناضل الخالد جيفارا).
و الشّاعر خلدون جاويد قدّم لنا شرحا وافيا من خلال قوله:
قد ظلّ في فراش سجنه مستلقيا
و بالشعارات مخدرا
تحمل في ثناياها عذابا وألما وذكريات سيّئة جدّا لا تُنسى.
لكن الصّبر كان يأتي بشعارات ماركس ولينين وجيفارا التي كانت تُعتبر بلسما شافيا ومعالجا للشّيوعيّين وهُمْ في سجون البعث بين أيدي الوحوش الآدمية.. تلك الشّعارات كانت تجعل الشّيوعيين الأبطال والمناضلين ينامون رغم ألم العذاب بتهويدة تلك الأقوال العظيمة التي ستظلّ محفورةً في أعماقنا نتغنّى بها وننقلها للأجيال القادمة.
و يقول الشاعر خلدون أيضا:
و هل يكفّ لصّ يرتدي التقى
و فوق رأسه عمامة
و يدّعي الإسلامْ
رؤوسنا يا سيدي تساقطتْ
تدحرجت مثل كرات
تحت أقذر الأقدام
نحن نعرف حقّ المعرفة أنّ رجال الدّين والأثرياء لا يُخاطبوننا باسم الدّين إلاّ ليستغلّونا (لينين).
هذا ما اعتدنا رؤيته في عصرنا الحالي من لصوص المنطقة الخضراء وتلك العمائم الزائفة، بفتاوى مختلفة، حتّى اختلط الحابل بالنّابل بسببهم، ونشأت طائفية تسبّبت في إطاحة رؤوس بريئة لا علاقة لها بالدّين سوى انتمائها الشّيوعي.
حيث صدرت فتاوى تُحلّل قتل الشيوعي بصفته ملحدا أو كافرا بالدّين.
على أيدي قذرة ملوثة بعار القتل وإراقة دماء بريئة لا حول لها ولا قوّة.
يقول ابن سينا:
" بُلينا بقوم يظنّون أنّ الله لم يهْدِ سواهم".
و من الصّعب هزيمة شخص لم يهزمه اليأس من داخله.
من قصيدة ( لا بدّ من قتل الشيوعيين) يقول:
أليس من يدافع عن حقّ الإنسان يالخبز يُقتل؟
هذا قانون
و الشيوعيون هم منذرون لهذا الدفاع
فهم قرابين قتل
معادلة رياضية.. أين الغرابة؟
و كذلك الدفاع عن حقوق المرأة ونور العلم
يقول أحدهم:
علّموا أولادكم الصّدق والصّدق يُعلّمهم كلّ شيء.
قال نزار قباني:
يا وطني الحزين، حوّلتني بلحظة من شاعر يكتبُ شعر الحبّ والحنين لشاعر يكتب بالسكّين.
لكثرة الوعي الذي ينشره الشيوعي المثقّف في الوطن، ونشر المعرفة بين أبناء الشّعب مُناديا بالمساواة والعدل، مدافعا عن حقوق المرأة التي أُهينت في المجتمعات الشرقية، هي المرأة والموءودة والمسلوبة الحقوق والمحرومة حتّى من إبداء رأيها أو المدافعة عن نفسها، هي من قال عنها الثائر جيفارا:
علّموا أولادكم أنّ الأنثى هي الرفيقة، هي الوطن، هي الحياة.
الشيوعي لأنّه ينادي بالمساواة والتّخلص من الرأسمالية والطبقية أصبح دمه حلالا ولا بُدّ من قتله لأنّ أفكاره خطيرة على السراق واللصوص،يقول جيفارا:
منحاز أنا للفقراء.. إلى ذلك الحدّ الذي جعلني أتعامل مع الأغنياء على أنّهم مذنبون.
و يقول في نفس القصيدة:
الشيوعيون أجدر بالقتل من سواهم
هم المحرضون على الكهرباء
أي على "العقرباء"
و القصد الدفع إلى الفتنة
يريدون إعادة النور لمصابيح البيوت والمدينة
هذا وحده حرب أهلية
الشيوعيون دوما معارضون لكلّ ما يمسّ الشّعب ويقلق راحته، وحدهم من يرفعون الرايات الحمراء في ساحات التّحرير، رافعين أصواتهم عاليا جدّا، وحدهم من يزعزعون راحة اللص المتخفّي ووحدهم أصحاب الكلمة العادلة.
يتّهمونهم بإشعال الفتن والتّحريض على الفوضى حتّى ينفضّ الشّعب عنهم، لكن العكس، يقول بلال فوراني:
في أوطاننا
نسينا الكهرباء وصرنا نعيش على الشّموع
نسينا الماء وصرنا نشرب من أيّ نهر أو ينبوع
نسينا المستقبل فقد صار أسخف وأتفه موضوع
في أوطاننا
لم يعد هناك جائع لا يأكل
فقد صارت النّاس تأكل بعضها البعض من الجوع.
من يحرض على الفوضى إذن؟ هل هو الشّيوعي أم ناهب حقّ المواطن؟
صدق لي كوان بو حين قال:
عندما يسير اللّصوص في الطرقات آمنين، فهناك سببان: إمّا النّظام لصّ كبير أو الشّعب غبيّ أكبر.
و لهذا صوتُ الشيوعي في ساحة التّحرير يُعتبر فتنة، كيف لا وهو يُحرّض على الاستيقاظ من سبات عميق؟
و في قصيدة ( ذا فاسد يمضي ويأتي أفسدُ) يقول الشاعر خلدون:
ذا فاسدٌ يمضي ويأتي أفسدُ
و الفأر في جنباتها يستأسدُ
يا للعراق – القلبُ أبيض طيبٌ
في عمقه – لكن حظّه أسودُ
فيه المفكّر مقعدٌ ومهمّشٌ
و الفيلسوف به غريب مبعدُ
الحرّ فيه مصفّد ومكبّل
قال نيلسون مانديلا:
عندما يسكت الحكماء، يتكاثر الحمقى.
فمن عثر على حجر وعاد إليه، كان اللّوم والعتب عليه.
كثرة الأحزاب الفاسدة صارت داء لا دواء له سوى بالتّخلص منها نهائيا وللأبد برفع شعار (المجرّب لا يجرّب) مثلما صار في آخر الانتخابات بالعراق التي كانت في الشّهر الخامس.
يتكاثر الفاسدون مثل بكتيريا أو فيروس ليُصيب النّاس بمرضه، لكن في يومنا هذا هناك المثقّفون ومن يملكون الوعي. ليس كالسّابق في الأعوام الماضية، حيث كان المتظاهر يُسجن أو يعذّب أو يُقتل ليُطمس ويكون عبرة لغيره، فيخاف الكثيرون وينتهجون مبدأ (صمٌّ، بُكمٌ، عُميٌ).
يقول المثل:
لا تحزن أيّها الأسد.. فهذا زمن أصحاب القرون..
لكن اليوم انقلبت الموازين، حيث انقشعتْ سلبيات تلك الأحزاب وأهدافها المدمّرة للشّعب فانفضّوا عنها وتركوها لمهب الرّيح.
في العراق اليوم زاد وعي الشعب فمعظم شباب اليوم يبحثون عن العلمانية وفصل الدّين عن السياسة، عراق اليوم أبعدَ الأحزاب الدينية ولم يعطها صوته.
في العراق، المُفكّر يعتبر مثيرا للفتن،و الفيلسوف كافرا وملحدا، ومن ينادي بحرية الفكر يُكبّل بالأصفاد ويُغيّب في السّجون.
و اليوم الشّعب لم يعد يخاف، فساحة التحرير أصبحت تجمع صوت الشّعب باللافتات المندّدة ضدّ الفساد دون خوف ولا ترهيب ولا تخويف.
لافتاتٌ تُطالب بحقوق الشّعب والمواطن البسيط والمتقاعد وأبناء الشّهداء والسّجناء السياسيين الذين ذاقوا الويلات، ومنهم من حمل آلاما كابدها بسبب التّعذيب حتّى وافته المنية، ومنهم من مازال يحمل آثار التعذيب ليومنا هذا في جسده.
و يقول أيضا:
يا موطن الشّهداء بل أيتامه
مهلا فمعظمنا، غدا يستشهد
الشّهيد نجمةٌ في السّماء واسمٌ مجهول في الأرض.
العراق أكبر موطن للشّهداء، إنّها الأرض المرتوية بدماء أبنائها الطاهرة.
الأرض الأمّ التي احتضنتْ تربتها خيرة أبنائها بعمر الزّهور، ناهيك عن الأطفال الصّغار.
لا ننس أنّ أغلب أراضي العراق عبارة عن مقابر جماعية مازالت مجهولة ليومنا هذا من أيّام البعث.
الشّاعر خلدون جاويد يخاطب أرض العراق بــ: " يا موطن الشهداء بل أيتامه"
و صدق الشّاعر في نهاية الجملة، لأنّ العراق ملئ بالأيتام الذين فقدوا آباءهم بسبب الحروب والتّفجيرات المفاجئة التي جعلتهم يتيمي الأب والأمّ معا.
صغار ذاقوا ألم اليتم، الحزن، ظلم المجتمع، تشريد، فقدان ذلك السّقف الذي كان يأويهم.
أغلب أطفال العراق ولدوا كبارا لأنّهم يحملون هموما كبيرة تفوق سنّهم بأضعافٍ مضاعفة، ففي داخل كلّ إنسان نعرفه، إنسان لا نعرفه.
و في آخر القصيدة يقول:
آمنتُ بالشعب الذبيح بدمعه
أنْ سوف ينعدم الطغاة ونوحد
قسما بنخيلك يا عراق سننتمي
لهلال نصرك بالفدا نعيّد
درب التحرّر بالنجوم مرصّع
و مشيّدٌ بجماجمٍ ومُعبّدُ
يقول الماغوط:
الشّهداء يتساقطون على جانبي الطريق، لأنّ الطّغاة يسيرون وسطها.
من أخلاق الجاهل: الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لا يعلم، وهذا من جعل السياسيين قططا في الخضراء بعد أن كانوا فئرانا، هذا ما قاله يوما علي عزت بيجو فيتش:
يكون الحيوان خطيرا عندما يكون جائعا، أمّا الإنسان فيكون خطيرا عندما يشبع.
هذا ما يحدث في الحكومات، فكلّ سياسي يدخل البرلمان يكون جائعا قبل جلوسه على الكرسي فيقدّم وعودا كاذبة، لكن أوّل ما يستلم زمام الأمور وتمتلئ جيوبه بالأموال من النّهب والسرقة تصيبه التخمة وينسى الشّعب وكأنّه لا ينتمي إليه ولا علاقة له به.
هنا الشاعر خلدون يقول:
آمنتُ بالشعب الذبيح بدمعه
أنْ سوف ينعدم الطغاة ونوحد
كأنّه يقول: إذا أردت معرفة حقيقة إنسان، أنظر كيف يعامل من هم أضعف منه.
يوما ما سيقوم الشّعب ويمسح دموعه ويرمي كلّ الفاسدين في مزابل التّأريخ.
ثمّ يُقسِمُ الشّاعر بنخيل العراق بأنّ كلّ شريف سيدافع عن أرض الوطن بالنّفس والنّفيس ليعود الوطن لسابق عهده، كيف لا وطريقه معبّد بأرواح الشّهداء وأرضه مرتوية بدماء طاهرة ستظلّ خالدة.
و في قصيدة ( الجثث الباسمة) يقول الشاعر خلدون:
المدينة نهر
يتدفق بالجثث الباسمة
و الناس راتعة بنعيم المجاعة
فالجراح في الرافدين ياسمين
و الدماء ياقوت
و الدموع لآلىء
شهداؤنا تبكي علينا
على بلوائنا وبأسائنا
و الموت شحاذ معمّم على كل باب
على كل رحمٍ
القصيدة هنا تتحدّث عن مجزرة سبايكر بــ 1700 شهيد، وكيف تدفّق نهر دجلة بالجثث الكثيرة واحتضنها في جوفه فاتحا ذراعيه لها مُرحّبا بها وحانيًا عليها بعد أن قتلتها الطائفية على يد وحوش آدمية بأبشع الطرق التي تشمئزّ منها النّفس.
جعل الشّاعر لرائحة الدماء عبق الياسمين، لأنّها دماء الشّهداء وهي طاهرة زكيّة، وشبّهها بالياقوت الذي زيّن النّهر، لأنّه تحوّل للّون الأحمر في ذلك اليوم المشؤوم.
الشّاعر عكسَ هنا المشهد فبدل أن يقول : ونحن نبكي شهداءنا،
قال: شهداؤنا تبكي علينا، لكن لماذا؟ لأنّنا بائسين حطّمتنا الطائفية وشتّتنا وأبعدت الأحبّة عن بعضهم البعض، لأنّ القلوب باتت مليئة بالضغينة والحقد لبعضنا البعض فأصبح دمنا حلالا في عين غيرنا وهو ينظر إلينا.
يقول الشاعر خلدون في قصيدة ( الكسكسة):
يتكسكسون وخنجر العجمي يغدر
و الناس نهب الموت والدفان يحفر
غام الطريق ونحن نحمده ونشكر
نفنى ! نكاد بخالق الحكّام نكفر
أغرب شيء نعيشه ونتعايش معه هو تدخّل الأجانب في حياة شعب، كما حدث في العراق، تدخّلت أمريكا بهدف الاستعمار متخفّية بغطاء المساعدة والإنسانية، ومنذ 2003 وسقوط الصّنم وهي موجودة في العراق، ومازالت تستولي على خيراته ونفطه، وتسيّر الشّعب حسب أهوائها. فرح الشّعب يومها لأنّه تخلص من البعث والديكتاتور ولم يعرف أنّه في فم الأفعى وهي تبثّ سمومها عليه بالتّدريج.
العجيب أنّ العراق موطن له حكومته، لكن أمريكا هي من يقوم بذلك الواجب في الخفاء، واليوم انقشعت تلك الغيمة التي كانت تحجب كلّ شيء. كلّ هذا قدّمه لنا الشّاعر بصيغة أدبية مُنفّسًا عن غضبه بقصيدة الكسكسة، فكان العنوان وافيا للمضمون.
هكذا عوّدنا الشاعر خلدون جاويد، عندما يكتب هو يُعرّي الواقع ليُقدّم لنا حقائقا تكون ملفوفة بألف قناع وقناع.
يا لخيبتنا.. القاتل عربي، المقتول عربي، المموّل عربي والمخطّط أجنبي.
في قصيدة (تفٍ على إسلامكم) يقول:
إسلامكم مذابحٌ محارقٌ مسالخٌ
مساجدٌ تصدر السيوف
إسلامنا جنائنٌ مؤتلقة
إسلامكم "جنائز معلقة"
إسلامنا "أشودة المطر"
إسلامكم سياسي
إسلام تمييز وتفريق وتكفير
إسلامنا عباد شمس وقمر
إسلامكم خناجري
إسلامنا الوردة الإنسان
إسلامنا حنان
قصيدة حلّلت معنى الطائفية بأبعد الحدود، قصيدة تنشر رسالة عظيمة جدّا، وهي تدعو لتوحيد القلوب فيما بينها كما تنادي لأن نجعل اليد في اليد لنكون جسدا واحدا مثل سور عظيم ضدّ من ينوي زعزعة أمننا وتشتيت صفوفنا والمسّ بكرامتنا.
الشّاعر هنا لا يسبّ الدّين، بل يسبّ أفكار الطائفية.
في قوله:
إسلامكم مذابحٌ محارقٌ مسالخٌ
يقول جبران خليل جبران: ويلٌ لأمّة كلّ قبيلة فيها أمّة.
هنا فقط لو نقوم بتحليل كتابة الشّاعر خلدون، فهي تحكي عن سبايكر،و الانفجارات المفاجئة كما حدث قبل سنتين في الكرادة، وكما حدث في الطريق إلى السماوة السنة الماضية، وما نعيشه من أفكار رهيبة جعلت العائلة الواحدة متفكّكة فيما بينها من حقد الأخ على أخيه والابن على أبيه والأب على أبنائه وهكذا، وكلّ هذا من سموم رُسخت في العقل من خلال عقول يسودها الظلام.
لو نعود للدّين ونتعمّق فيه أكثر: فهو دين رحمة، لا دين قتل وهمج.
الدّين أن تبتسم في وجه غيرك، لا أن تكفهر وجهك، الدّين مسامحة لا إدانة وتجريم، الدّين أن تفرح لسماع موسيقى، لا أن تلطم وتصرخ وتبكي لفقدان الأحبّة بالموت، الدّين لا علاقة له بالسياسة، الدّين إنسانية لا عنصرية ولا طائفية.
هي ذي رسالة الشّاعر خلدون جاويد التي أرادنا أن نفهمها من خلال القصيدة التي شرح لنا فيها الفرق بين هذا الإسلام وذاك الذي نراه، بين الحقيقي والمزوّر المزيّف.
و من نفس القصيدة يقول الشاعر خلدون:
ضاع الزمان الجميل
بغدادنا تغصّ بالخراب
في ربعها الخالي
حين تحتضر الذكريات، تأخذنا إلى طريق الوجع.
قالت أهداف سويف:
نحن نتمسّك بالحزن، خوفا من أنّنا باقتلاعه سنرتكب خيانة كبرى.
و غنّت أم كلثوم يوما:
و عايزنا نرجع زي زمان
قول للزمان ارجع يا زمان
و هات لي قلب لا داب ولا حب ولا انجرح ولا شاف حرمان.
شتّان بين بغداد الأمس واليوم، بين حضارة الأمس وتخلّف اليوم، بين ضحكة الأمس ودمعة اليوم، بين تفتّح الأمس وخراب اليوم.
عن الزّمان والزّمن الجميل يتحدّث شاعرنا وعن حزن ما آلت إليه بغداد اليوم عكس الماضي الرائع.
صديقان رائعان ليس لديهما أيّ مصلحة: القهوة والقلم، وهنا كانت لنا وقفة مع قلم الشاعر خلدون جاويد من قصيدة ( كلامي طلقةٌ...):
كلامي طلقتي وفمي عتادي
و أصبعي رابضٌ
و على زنادي
و إنّي حتفُ من حابوا عروشا
و دجّلوا في المحافل
و النّوادي
أطالوا اللحية النكراء عمدا
و زُلفى قد توشّحوا
بالسواد
يقول الثائر جيفارا:
لا شيء أسوأ من خيانة القلم، فالرصاص الغادر قد يقتل فردا، بينما القلم الخائن قد يقتل أمما.
هو القلم يكتب ما يريد، يُعبّر عن الرّأي، أحيانا نضع له خطوطا حمراء لا يتجاوزها، ليس لأيّ كان سلطة عليه، ليس المهمّ أن يرضي النّاس والأهمّ أن يرضي ضمائرنا.
قلم الشّاعر أو الأديب، عبارة عن سلاح في وصف الشّاعر خلدون جاويد بقوله:
كلامي طلقتي وفمي عتادي
و أصبعي رابضٌ
و على زنادي
الكلمة رصاصة، الفم عتاد السّلاح، القلم كمسدس، والأصبع الذي يكتب كمن يضغط على زناد لتخرج تلك الرّصاصة (الكلمة) القوية الصّارخة والمدويّة أكثر من صاروخ، وحدها الكلمة الشّجاعة والبليغة تكون أقوى وفتاكة، لأنّها تصل العقول فتنيّرها والقلوب لتفتحها والعالم لتُجمّله، والشّعب لتوعّيه والفاسد لتخيفه والمنافق لتهدّده بفضح أمره.
يقول كامي لورانس:
بماذا يفيد الأدب إن لم يُعلّمنا كيف نُحبّ؟.
لانقلاب الموازين في الوطن قال أحمد مطر:
في بلادي تنبح القافلة والكلب يسير، فلنقرأ ماذا قال الشاعر خلدون.
في قصيدة (كلٌّ له حصّته وحصّتي جوعي) يقول الشاعر خلدون:
كلٌّ له حصّته وحصّتي جوعي
و النفي والإبعاد والاندحار
زرعتُ آمالي فلا
سنبلتي اخضلّت
في حقلي الأجرد
و طائري الغرّيد ما غرّد
يقول محمود درويش:
سنصير شعبا حين لا نتلو صلاة الشكر للوطن المقدّس كلّما وجد الفقير عشاءه.
أنا بخير لأنّني توقّفت عن منح الفرص لمن لا يستحقّ، لأنّني كبرتُ على فكرة العيش على محاولة إرضاء الجميع ولم أعد أهتمّ لما يقوله الكثير عنّي ( آل باتشينو).
علينا أحيانا أن نكون مستعدّين لتلقّي الصّدمات، فالحياة مفاجآت، قد تأتينا من البعيد، وقد تأتينا من أقرب النّاس إلينا، ففي كلّ صباح نقرّر أن لا نغضب، ونقضي يوما هادئا جميلا، ثمّ نلتقي ببعض الأغبياء الذين يجعلون ذلك مستحيلا، وعن ذلك المنفى والبعد عن الألم يقول المثل الفرنسي:
لتعش سعيدا، عش بعيدا.
قرحة المعدة لا تأتي ممّا نأكله، بل تأتي ممّا يأكلنا، إنّه القلق والهمّ والحزن، هم من يأكلنا.
يقول الشاعر خلدون في قصيدة ( جُلّ الطغاة الفاسدين ذئاب):
جُلّ الطغاة الفاسدين ذئاب
أمّا الغزاة فكلّهم أذناب
و الشعب في الإعصار طوح جثّة
بالدمع تطفو بالدما تنساب
حربٌ على الأزهار تُزهق روحها
هامٌ يدقّ وتستباح رقاب
ما أضيع الوطن الكسير، بأرضه
حلّ الدخيلُ، فأهله أغرابُ
تجارب الحياة، ليست للنّدم، بل للتّعلّم، منها أصبح الشّعب واعيا، منها تعلّم أنّ المجرّب لا يُجرّب، كما قال نجيب محفوظ:
ما لا يرتاح له قلبك لا تثق به أبدا فالقلب أبصر من العين.
الأخلاق كالأرزاق، النّاس فيها بين غنيّ وفقير، والشّهادة ورقة تُثبت أنّك متعلّم، لكنّها لا تُثبت أنّك تفهم، والمتسلّط الحاكم الفاسد يستطيع الحصول على كلّ شيء بالقوة، إلاّ الحبّ والاحترام من طرف شعبه.
قيل:
الحظّ لا يأت عندما تُعلّق حدوة الحصان على جدارك، بل عندما تنزع عقل الحمار من رأسك.
يقول الشاعر خلدون:
ما أضيع الوطن الكسير، بأرضه
حلّ الدخيلُ، فأهله أغرابُ
صدق باختصاره الأدبي والعمق في المعنى، وكأنّه يريد أن يقول لنا:
تقضي الأغنام حياتها خائفة من الذئب في حين يأكلها الراعي.
في الأخير:
قول الحقيقة وإزعاج النّاس أفضل من الكذب لإرضاء النّاس (باولو كويلو).
الشّاعر خلدون جاويد يساريا وغزليا وهو من الشّعراء العظماء الذين صنعوا بصمة خاصّة في تأريخ الشّعر والأدب العراقي والعربي، له نصوص بديعة وساحرة مهما توغّلت فيها تشعر بإيقاعها الخاصّ الخلدوني الرائع.
يملك قلما نابضا، قويّا، مناضلا، ثائرا وغزليا.
قلمه صارخ في وجه الفساد والنّفاق، غزلي في وجه الموسيقى والجمال والحبّ.
القلم الخلدوني له هيبة في السّاحة الأدبية والعالميّة، يعرّي المنافقين وينزع الأقنعة، ويعطينا البهجة حين يكتب عن الحبّ.
كُنْ شيوعيا بالفكرة والفكرة، ولا تكن شيوعيا بالمظهر (يوسف خندقجي).
عندما يكتب الشاعر خلدون جاويد عن الحبّ والمرأة نتذكّر قول الثائر جيفارا:
علّموا أولادكم أنّ الأنثى هي الرفيقة، هي الوطن، هي الحياة.
نوميديا جرّوفي،شاعرة،كاتبة، باحثة وناقدة (عراق)