قراءات نقدية

نبيَّة العنب للشاعرة ميثاق كريم

رحيم الغرباويمن مجموعتها الشعرية: راهب الخمر.. قراءة في المضمون الشعري.

بُني الكون على الأضداد، وأنَّ أقوى ضدين فيه ما تماهى عن حواسنا لكن آثاره تتجلَّى في عوالمه، وما يجسد هذين الركنين ما تأسست عليه الأساطير والمقدسات من نقيضين مهمين هما: الخير والشر، وما بينهما من صراع أزلي قاهر، وأنَّ في جميع الحكايات والروايات نجد الخير هو المنتصر في نهاية المطاف ؛ لذلك نرى الديانات تسعى " لكشفه والتمثل به، والثاني هو العالم المدنس الذي تسعى إليه الدنيا لكشفه والتمثل به " (1) بل والتعلق به طالما يمجد اللذائد ويعلى من ممارسة أباطيلها .

ولما كان الشاعر يكابد أزمة عصره، ويعيش فقر ضالته، نراه يستحضر رموز الشر في ظلمات القهر والحرمان والعبودية، مثلما يستحضر رموز الخير في غنى العدل والحرية والحياة المؤثَّلة بالكرم ؛ لأنَّ الأنماط العليا الكامنة في اللاشعور هي التي تتيح لمتخيلها أنْ يصف الواقع المعيش حين يفرض سيادته على النفوس ومن هذا نرى أنَّ الشاعر يعبِّر عما يصيبه منه (2).

و لعل شاعرتنا ميثاق الكريم وهي تلفت نظرنا ؛ لأنْ تجعل نفسها شطر الآخر لما تستشعره من الحياة التي صارت تناصر كل مافيه من خلاف حينما يغيب المقدس ؛ لتضع النقاط على الحروف وهي تسترسل في قصيدتها الرمزية نبيَّة العنب التي تقول فيها :

نبيِّةٌ..إسمُها ابنةُ العنبِ

أَرْسَلَها ربُّ الهوى،

إلى أمَّةِ جُنوني،

ثوبُ حياتي تَخَضَّبَ باسْمِها،

دونَها...كفقيرٍ مُلحِدٍ -

نشوةٌ اخْتَصَرَتْ الدارينَ،

ترقصُ بمحافل ليلي...

جسدُها مصحفٌ آياتُه الخمرُ

عينُها فضاءٌ من دُجى

عانقها الأَثمد..فصارتْ كالمُهَنَّدِ

فنراها تصف الخمرة التي عبَّرت عنها بالنبَّية، والنبي في كثير من سماته أنَّه رسول مُرسَل من الله، لكنَّ الخمرة عندها نبية شريرة طالما رسالتها هي الإغواء وقد أرسلها رب الهوى إلى أمَّةِ جنون الشاعرة، وهي تنشر رسالتها المتسمة باللهو والطيش ؛ مما جعلها تخضِّب ثوب حياتها دونها كفقير مُلحِد كناية على الالتحام والسكر في لذائذ مجونها بإشارة إلى طغيان المدنس ؛ نتيجة الاحتلالات التي أصابت الأمة الإسلامية لاسيما العربية من قبل قوى البغي والظلالة ؛ مما جعل  عهرهم يتفشى من خلال أجنداتهم المرتزقة من حاكمين وأذناب، فحلَّ الشر في جميع أرجاء هذه الأمة فحلَّتْ فيها لجج الظلام .

والشاعرة استطاعت بأسلوبها الفني التي استعملت فيه الاستعارات: (ربُّ الهوى، أمَّة جنوني، ثوب حياتي، محافل ليلي)، والتشبيهات: (كفقير ملحد، جسدها مصحف، آياته الخمر، عينها فضاء من دجى، صارت كالمهند)، هي تتوسل صور البيان ؛ كي تمنح النص دلالاته المعنوية بصياغات فنية عالية .

ويبدو أنَّ الشاعرة تلاقح بين وعيها ولا وعيها، وبين الواقع المعيش وما فيه من أدغال ومآس، فنراها تذهب إلى ماهو أعمق ؛ لتعبِّر برؤاها؛ لما ينتابها تجاه هذا الواقع البائس من ردود أفعال مما جعلها تعبِّر عن رفضها له .

ثم تقول :

نشوةٌ اخْتَصَرَتْ الدارينَ، ترقصُ بمحافل ليلي...

جسدُها مصحفٌ آياتُه الخمرُ

عينُها فضاءٌ من دُجى

عانقها الأَثمد..فصارتْ كالمُهَنَّدِ

شفتاها قيامةٌ من رُمَّان

قُبُلاتها مثل حكايا الشرقِ القديمةِ

لاتنتهي..إلا..بألف ليلةٍ .

فنراها تتلذذ بالخمرة التي توسمتها ؛ مما جعلها تختصر حياة (الدارين) في إشارة إلى خمرة الدنيا والآخرة، وهي تكشف عن حال ما يعيشه اللاهون من أنَّ المدنس في نظرهم بات مقدساً، فالزيغ والكذب والشعارات الموبوءة التي تُتَّخذ من القامات المقدسة، ماهي إلا تحقيق لمآرب المفسدين الدنيوية ؛ لذلك نراهم ليس لديهم من فرق بين الحياتين، إذ لا ارعواء ولا رادع يوقفهم عن غيِّهم طالما هم ينافحون من أجل لذائذهم الدنيوية بدلالة (جسدها) الذي وسمته بالمصحف لكن آياته الخمر، فالجسد يمثل الدنيوية التي شبهته بالمصحف وأنَّ آياته الخمر، والخمر كما أسلفنا يمثل الدنس، فهنا يتلاشى لدى شاعرتنا معرفة الحقيقة من دونها فنرى غلبة المدنس الذي لايُستشعر سوى بسط يده على قارعة الحياة، وإلغاء الزمن بالتفاتات تؤكد لنا أنَّ من يزرع بذار الجمال بنكهة اللذة والمتعة الجسدية، يعش في رذيلتها دون الارعواء إلى آثارها الذميمة، ومن ذلك إشارتها بـ ألفاظ (جسد، عناق، قُبل) ثم حكايا الشرق القديمة، وألف ليلة وليلة ؛ لما فيها من أنسٍ وغنج وترف مسكر يعيش ابن واقعنا متعتها وهو راتع في دوامة الجحود، وسبب ذلك كله الاحباطات الكبيرة التي عمَّت ابناء المجتمع العربي لاسيما العراقي .

ثم تؤكد لنا الشاعرة قوة إغواء الخمر، أي ملاذ الدنيا وشيوع الشر في الحياة الواقعية التي نعيشها بقولها:

هي تأريخٌ من الماءِ والنارِ

نافستْ تأريخَ العربِ والعجْمِ

يا ابنةَ العنبِ...

أيّامُك..طربُ حاناتٍ

وحديثُكِ كأسُ دهاقةٍ بالشعرِ

وجفاؤك.....توبةٌ

لايقبَلُها الله...ُ

وإن كانتْ بمحرابٍ منْ ذَهَبٍ .

ويبدو أن الفلاسفة تطرقوا إلى أصل الوجود، فقالوا أنه يتألف من أربعة عناصر، وهي: الماء والنار والتراب والهواء، ومن أوائلهم الفيلسوف امفيدوكليس الذي اعتقد أنَّ الطبيعة تتألف من هذه العناصر الأربعة التي أطلق عليها الجذور (3)، وأنَّ كلَّ شيء مكنون منها، ولعل الشاعرة أشارت عنصرين منهما، وهما: الماء والنار المكونان للخمرة (ابنة العنب)، فالنار تمثل عنصر الغواية التي تلهب النفس، فتجعلها مستعرة باللهو والمجون، بينما الماء هو ماء الخمرة، وتعدُّه مصدراً لها ؛ لإطفاء نار الهموم، وكلاهما يشيران إلى ما تحدثه في نفس شاربها، وقد أفصحت أنَّ جفاء الخمرة توبةٌ، لكنَّ الله لايتقبلها ؛ لأنَّها من كبائر المدنس الذي تتوق له النفس الظالمة والمشتغلة فيها روح الزلل والخسران .

ويبدو أنَّ شاعرتنا أشارت إلى أنَّ صناعة التكفير والفساد والحكم الضال هو ما فتح للمدنس أبوابه على مصاريعها؛ إذ ليس هناك إلا غواية للنفوس المشبعة بحب المال والجسد، ولاسبيل لواقعنا للمقدس الذي تلاشى من دون أنْ يجد له مكاناً يضيء فيه، وما بنت العنب إلا كناية عن الخمرة داعية الأغواء وساقية ملذات طالبيها الذين يكرعونها، بيد أنَّهم يمرحون داخل فخاخ الشيطان .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

.........................

(1)    العقل الشعري، خزعل الماجدي : 2 / 40

(2)    ينظر: النبوءة في الشعر العربي الحديث، رحيم الغرباوي:247 

(3)    ينظر: عالم صوفي، جوستاين غاردر : 44 .

 

في المثقف اليوم