قراءات نقدية

إرث البادية للكاتب يعقوب حمزة الزهيري والعودة إلى هوية الذات

رحيم الغرباويللأدب الشعبي ذوق خاص وقدرة على استنطاق عوالم كامنة في شعور كل منَّا، بوصفه مادةً توشك أنْ تعمِّق فينا رغبة الالتجاء إليه حين نجد أنفسنا نتوق لعوالمه لأيِّ سبب كان باعتباره الحاضن الأساسي للقيم والمضامين التي يمكن أن نسبغ عليها صفة (الفاضلة) لما لها من توجه إنساني ومعرفي كبيرين .

ولما كان الفن نشاطاً بشرياً عاماً نلتقي به لدى المتحضرين والبدائيين على السواء، بوصفه إنتاج غائي يقوم به موجود مفكِّر، فهو يبحث اليوم عين القيم، هو أولاً وقبل كل شيء إنسان مكتشف يحاول أن ينفذ إلى نواة القيمة، فالبحث عن الحياة في لون واسع منها ليس رهناً بالبحث العادي عن مطالب النفس ومشاغل الحياة المادية، بل هو رهن بعملية البحث عن القيم والسعي وراء المعاني الروحية؛ لأنَّها تظل متوارثة في حياتنا المعاصرة مادامت حيَّة وقابلة للنماء ؛ لما لها من جذور عميقة في دواخلنا ؛ كونها الهوية التي نعتزّ بها وإن تقادم عليها الزمن أو طغت عليها روح الحضارة وأفكار العولمة القادمة علينا من الخارج .

فبعدما اضمحلت قيم الأوائل في ممارساتنا الحياتية نتيجة التقدم العلمي والاحتكاك مع مشاريع العولمة والنزعة المادية التي طغت على النفوس نسي الكثير ما كان عليه الآباء بفعل مفاهيم التحضر ومواكبة بريق الحضارة القادمة، ما جعل مفاهيم القيم تضطرب عند البعض وتتلاشى عند البعض الآخر، فنعود لنقول أنَّ مهمة الفن هو رصد جوانب من الحياة المتعددة وتحصينها بالتذكير من خلال تسليط الضوء عليها بوصف الفن معلِّم البشرية " الذي طالما لقَّن الإنسان دروساً في الجودة، والإتقان وحسن الأداء، إذ يعلمنا دائماً كيف ننظر، وكيف نرى، وكيف نفهم "؛ لذلك نجد الكثير من الكتاب باتوا يعودون إلى منابعهم الأصلية متوخين بذلك القيم التي لايعمل بها الناس، فأخذو على عاتقهم التذكير بها أو بما يقاربها، وهي دعوة إنسانية تجعل من الفن مادة للمجتمع، لا لهواً أو لعباً كما هي في طروحات كانت وسبنسر وشيلر. بل من أجل خدمة المجتمع ومنفعته .

ومن أمثلتنا رواية إرث البادية للكاتب يعقوب حمزة الزبيدي الذي جسَّد فيها أعراف البادية ومقولاتهم العامة الشهيرة التي تقال في كل محتطب أو محترب أو قيمة إنسانية تأسست مبادئهم عليها، كما تناولت عالم البادية في نزاعاتها وسلمها، فرحها وحزنها، ثأرها وكرمها، عاداتها وتقاليدها بأسلوب يساعد من يقرأها على الفهم كونها كُتبت بلغة مباشرة مبسطة، إذ نراه يتجاذب معها، فتستفيق لديه حميَّة الأعراف، وفطرية التقاليد فيعيش عالم البداوة على الرغم من قسوتها وشظف العيش فيها، لكن الخيال يسرح في عوالمها وقيود الجدّ تلازم مخيلة مُطالِعها، إذ أنَّ تراث الأمة الشعبي يحاكي لاشعور الإنسان الحضري حين يسترجع ماضي آبائه وأجداده وإن لم يكن أصله من البادية إنما القيم النقية التي كان يتحلى بها الإنسان العربي، فقد يجد القارئ أنَّ الرواية تمنح المزيد من التمسك من قِبل أبنائها بمجتمعهم ومن ثم بتراث هذا المجتمع وخاصة العناصر الشعبية وبقية عناصر التراث بما يتعلق منها بالعادات والتقاليد على الرغم من صعوبة العمل بكثير منها في عصرنا الحاضر بيد أنها مازالت تحيط بنا من كل جانب وهي تتغلغل في حياتنا وتعيش في مشاعرنا، تتطور ولا تموت وتتجدد ولا تندثر.

ولعل الأستاذ يعقوب الزهيري حين عنى بكتابة روايته حاول أن يعيد إلى الأذهان طابع البداوة وصعوبة العيش في البادية، فضلاً عن توثيق عادات أهلها وتقاليدهم التي مازالوا يحتفظون بها، لأنهم يعيشون منقطعين عن العالم الخارجي بفلواتهم، ومن دون مؤثرات يمكنها اقتحام بيئتهم المقفلة عليهم.

ومن خلال قراءة الرواية وجدناها قصص متداخلة لكن التسلسل الزمني والوحدة المكانية هي من فرضت أن نطلق عليها رواية فهي تشكل سلسلة من الأحداث التراتبية بما يطلق عليها بالمتوالية في النقد الحديث، وهذا الخيار الذي اتَّبعه الكاتب كان لغرض عرض ما يدور في عالم البدوي ؛ ولكونه يبغي أن يلمَّ بالمصطلحات التي تعارف عليها الناس في عالمهم الذي يقضون فيه حوائجهم وأغراضهم وحل مشاكلهم، ومن بين هذه المصطلحات الشائعة لديهم (المنكول، وهو الشخص الذي يسعى لحل النزاعات بين المتخاصمين، والسنينة وهي العرف المتفق عليه بين القبائل لحل المشكلة، والعطوة ويقصد بها المدة المعطاة كهدنة بين المتخاصمين، والكصيد أي الجار، والفريضة وهو الحاكم المخول ليحكم بين أطراف النزاع، والمعزِّب ويعني الشخص المضيِّف، والكوامة وهي التبليغ بإنذار المعتدي للمجيء إلى الحق ... .) كما أنَّ الرواية حفلت بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تسدد الكثير من مواقفهم وقضاياهم الاجتماعية، كذلك تضمنت أقوالهم التي تعد أمثالاً وحكماً لحياتهم ومنها (أنا حر من ظهر نجراي، وظلام الليل يغطي اجبال وسبع بالسهيل متعب الخيَّال، ويُمَّه انا مشراكتك دوم وسترك لو يمر بيك العوز، و إن الحزن لايرجع الأموات، وطالب الأمر أعمى، ويوم تريد تخاوي رافق كريم يعالجك ويداوي، وعيّن ربعك بيهم أصيل وخاوي بعينك وانت الفهمان) كذلك ما يمثل نخوتهم وفخرهم بعبارات ما تسمى بـ (الهوسات) ومنها : (البوم مبركع ... والحر مندوم وينظر ليه، و طبت من كسر العشيره اليوم واسوي المايصير يصير). ما يدعم قولنا أن الكاتب حاول أن يضيف للثقافة معلومات شعبية تساير ثقافة المدينة ؛ لتوجهه فيما يبدو لهذا العالم الثر الأصيل الذي فيه من الالتزام والإيمان بالمبادئ التي لابد للإنسان أن يعمل بها من أجل اجتيازه المعوقات ؛ليحقق أهدافه المنشودة .

ولعل انتقاء أسماء الشخصيات هي من صلب البداوة لمن يعيش فيها ومن بين الأسماء هي (عايد، وغريب، ومصعب) وقد حاكى ما هو خارج البادية بطبيعة مسمياتهم لاسيما اسم (شيرين) الفتاة الفارسية التي تزوجها عايد .

وكان أسلوب الرواية سهلاً يمتاز بالوضوح والدقة في طرح أحداث محاكية لواقع البادية بما فيها من خصومات وقطاعي طرق وحيوانات مفترسة، لكن الذي رأيناه فيها أنَّ الكاتب يؤكد على فروسية البدو من دون أنْ يتطرق لحياتهم الاجتماعية العامة ومهنتهم الكبرى وهي رعي الجِمال .

فضلاً عن ذلك وجدنا مزحة الحزن شائعة في عاطفة الرواية لما فيها من معاناة وقسوة وأخذ ثارات نتيجة القتل والاستلاب وغيرها من الأمور التي تبعث على الحزن والألم .

كما أنَّها تدفع بالمتلقي لأن يرى إصرار البدوي على تحقيق هدفه والأخذ بثأره، والبلد يعيش اليوم بأزمة صراع حادة في إشارة إلى الواقع الأليم الذي يعيشه الإنسان العربي لاسيما إنساننا العراقي المجاهد، فضلاً عن أنَّنا نعيش تحت سلطة القبيلة بعد تخلي الأمن لكثير من مهامه، وإن لانتفق مع رؤية الكاتب في ذلك إلا أنه أوغل في دستور العشائر وحل النزاعات عن طريقها كما يحدث في مجتمعنا العراقي اليوم .

 

د. رحيم الغرباوي

 

في المثقف اليوم