قراءات نقدية

شعرية المفارقة في قصص محمد الكريم

مسار غازي(أبي يركض وراء قطيع الأحلام)

أصبحت لغة السرد القصصي تستمد حضورها من مدى انحرافها وخروجها عن المألوف، وهذا يعني أن العلاقة بين القص والواقع علاقة تجاوز، أي أن القص يفارق المرجعية الواقعية حتى وأن كان ينطلق منها ويتخذها مادة أولية، وبهذا يصبح القص أقرب إلى العملية التحويلية التي من شأنها أن تظهر الواقع من مظهر جديد ومختلف.

تبلغ لغة السرد القصصي بانزياحها عن صورة الواقع بمستويات بعيدة، حيث أنها لا تجد حرجا في أن تجمع بين أشياء مختلفة بل حتى متناقضة مثيرة لوجدان القارئ. وبهذا تكون مؤسسة للمفارقة بكل ما فيها من مفاجأة وكسر أفق التوقع عند القارئ، ومن شأن البناء المفارقي أن يضاعف شعرية النص القصصي ويضفي عليه قوة وأبعاد جمالية كثيرة.

1956 محمد كريم

وهو ما نلتمسه  في المجموعة القصصية البكر للقاص العراقي محمد الكريم (أبي يركض وراء قطيع الأحلام) التي أطلقها في العام (2013،عن دار تموز)، اذ نجد بنية التضاد وقودا لها بداية من العنوان؛ التي جمع فيه القاص بين نقيضين القطيع// والأحلام بطريقة تستفز القارئ ليدرك حجم التناقض بين الواقع والعالم الحالم، محاولا ابراز عوالم متضادة يقدم بوساطتها رؤيته للوجود بثقافة جديدة مغايرة، والمفارقة كما يقول "ميويك" هي: صيغة بلاغية تعبر عن القصد باستخدام كلمات تحمل المعنى المضاد، والمفارقة أخف من الهزء والسخرية لكنها أبلغ أثرا بسبب اسلوبها غير المباشر لذلك يتطلب ذكاء وحسا مرهفا" وقد تجلى ذلك كثيرا في قصص محمد الكريم، ولاسيما في قصته الأولى التي أفتتح بها مجموعته القصصية، نقتطف منها قوله (ربما أنا في كابوس أبيض يزورني الصباح بغتة) إذ عمد هنا القاص وبوساطة التضاد اللوني أن يجسد لحظة تتسع لإمتداد الزمن، كما يتمثله القاص زمن يفقد فَقدَ صباحاته، إذ كيف يكون الكابوس أبيضًا وفيه يرى الرائي أموراً خيالية حالكة بعيدة عن الواقع تبعث على التوتر والخوف، وبهذا يفقد الصباح صفاته وانزاح نحو دلالات أخرى مفعمة بالقلق والحزن ما يجعله يتساوى مع الليل، وهذا إن دلَّ على شيء إنما يدل على المعنى العميق المستكن في خيال الكاتب حيث جعل الجمال الذي يتصف به الصباح من اشراق وبياض كأنه السواد فالسواد قيمة لونية هيمنت بوساطة البنية الكابوسية على النص، وهي مخالفة للأصل ؛ ذلك أن الكاتب يعيش حالة قاسية من العتمة والكآبة، ولعل الكاتب يشير بواساطة هذه المفارقة الى حالة عامة لا خاصة به فقط؛ وهي حالة الشباب العراقي الذي يعيش حالة من الحزن والاحباط والضياع بسبب الحروب التي لا ناقه له فيها ولا جمل، ولعلها الثيمة المهيمنة على أغلب نصوص المجموعة التي عمد الكاتب الطرق عليها كما نلتمس ذلك في قصة (الراقص في المقبرة / إعلان في الجريدة/ نباح كلب/ وكسوف حلقي).

ولا أريد أن أتحدث كثيرا عن هذه المجموعة القصصية، فأترك للقارئ متعة القراءة والتحليل، ذلك أنها قصص المختلف، ذلك الانسان (القاص) الرائع في مفارقته حيث أثارت مجموعة من التساؤلات التي أراد بها أن يثير المتلقي لما فيها من تعارض وتناقض وتقابل لتحفيزه لإدراك المعاني الجوانية التي تنطوي عليها هذه المفارقات.

 

د. مسار غازي

 

 

 

في المثقف اليوم