قراءات نقدية

تمثلات المرأة وقدرتها على كسر التابوهات في رواية قلق المآذن

مسار غازيللروائي سالم حميد

يتبين لي أن سالم حميد روائي رفيع ومن طراز خاص، في كل مرة بعد الانتهاء من قراءة نصوصه التي يعمد فيها دائما إلى أن يكللها بفنية وحِرفية خبيرتين، تزخر روايته (قلق المآذن) التي صدرت مؤخرا عن دار نصوص(2021)، بمستويات عديدة، ومتداخلة، يفضي كل واحد منها إلى الآخر، يمنحه أبعادًا ودلالات تنتثر عبر القراءة، وإعادة القراءة أكثر من مرة. ولعل فرز أحد هذه المستويات، وتسليط الضوء عليه، للكشف عن بعض الوسائل والأساليب الفنية التي تضمنتها هذه الرواية، يساعد على كشف حقيقة ما أراد المؤلف قوله تخييلاً، وما ضمّن قولَه من آراء، وأفكار، وانطباعات لا تتعلق، في الظاهر، بموضوعة، أو موضوعات الرواية الرئيسة، ولكنها، في العمق، تكشف عن حقيقة بناء وكينونة الشخصيات الرئيسة فيها.

 تقدم لنا قلق المآذن شخصياتها النسوية وهي تسعى إلى الانفلات من الاشتراطات المجتمعية القارة، ومتمردة على الثقافة العراقية السائدة؛ تلك الثقافة التي انبنت على وفق أنساق ومرجعيات عقائدية  ضيقة تستند في تصوراتها  على مخيال ذكوري، يرتكن إلى اشتراطات اجتماعية، وتقنيات تاريخية شبه ثابتة، تستبطن قيم الذكورة التي تقوم على استراتيجيات سلطوية مرتكزة في الأصل على مفهوم تفوق الرجل على المرأة، بحكم طبيعته الرجولية الناتئة، وعندها يصبح الرجل هو المعيار الأساس (المثال) الذي نتعرف بوساطته على نقصان وسلبية ودونية الطرف الآخر (المرأة).

وتؤكد الرواية على أن خضوع العلاقة بين الرجل والمرأة إلى ثنائية الذكورة – الأنوثة، قد سوغت لتناسل منطوقات ثنائية متضادة، عملت بوصفها محددات في تنظيم اطر هذه العلاقة، تكشف عن علاقة قوة وسيطرة، وتنازع واضطهاد، مما أحدث تشويهات في مجمل العلاقات الانسانية الأخرى. لذلك عمدت السلطة الذكورية إلى استخدام المتاحات والموروثات التاريخية والاجتماعية، بل وحتى السياسية من أجل تطويع وإخضاع المرأة وممارسة مختلف أصناف الاستبداد والإقصاء والتهميش لفرض السيطرة عليها، فغدت ملكا مشاعا للرجل (ابا / أخا/ زوجا) تنتابه ايديولوجيا التدجين والتحقير والاذلال.

لذلك عمدت المرأة في قلق المآذن إلى التمرد على سياقات التأنيث والقوالب الجامدة والانفلات عنوة من الاشتراطات القارة؛ رافضة أن تكون مجرد مفردة ضئيلة في المنظومة اللغوية ذات الطابع الذكوري، أو مفردة حقيرة في لاهوت الرجل فحولي الطابع، امرأة اختارت أن تكون في اطار الشاذ، والنادر،و المنفلت،  تتجشم معاناة المغايرة وتقف مباشرة في مواجهة الصورة المركوزة في المخيال الجمعي الذكوري، هذا ما نلتمسه في شخصية (قرة العين) إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية التي قررت أن تخلع عنها كل ما يحجب وعيها ويصادر حقوقها كذات فجاءت خطوتها الأولى بخلع الحجاب (رمت حجابها في تجمع عام متحديه للأعراف الدينية والاجتماعية السائدة آنذاك/ قلق المآذن) وقرة العين بخلعها الحجاب أمام أعين الناس إنما هو رسالة للسلطة الذكورية تفيد بأنها ترفض البقاء خلف أستار الإهمال والتغييب القسري، وترفض العيش في كنف ثقافة ذكورية متسيدة تؤمن بايديولوجيا التغييب والإهمال والاقصاء للمرأة بوصفها وسائل تحقق للرجل سيادته وتضمن تحكمه وتبقي هيببته مصونة،. (ولم تمر سوى أيام حتى جيء بقرة العين إلى قصر الوالي العثماني . وكان جالسا على كرسي عالٍ يتناسب مع منصبه... قال الوالي لقرة العين: ما الذي تريده إمرأة مثلك من الناس؟

2158 سالم حميدقالت: أريدهم أن يعرفوا دينهم.

قال لها: وإذا عرفوا ما الذي سيحدث؟

قالت سيحدث الكثير!!

مثلا.. قال وهو يمسد لحيته

قالت : ربما سيعم العدل وتعم الحرية ويتطور المجتمع

قال: لا أظن أن الناس يتطورون إذا أخبرتيهم أن هناك رجلًا اسمه الباب يلتقي بالإمام المهدي..

قالت نعم، لا يحدث التطور إذا كان هكذا، ولكن هذا الباب سيحرر الناس من رجال الدين وأمثالهم، ويطلق سراح المرأة من سجن المجتمع. سيجعل الدين في سبيل الناس لا في سبيل الله، لأن الله لا يحتاج إلى الناس، الله كامل وهو الكمال..الله (غني حميد).

قال الوالي: ولكن الله خلق الناس من أجل أن يعبدوه ..وهناك آية صريحة بهذا الأمر..قالت أحسنت، من أجل أن يعبدوه .لا من أجل أن يتحولوا إلى عبيد، وهناك فرق بين أن تتعبد لتشعر بالحرية، وبين أن تتحول إلى عبد..

أصيب الوالي بخيبة أمل فهو لا يحب النساء من هذا النوع ..يحب المرأة الجارية .المرأة التي تغض الطرف وتقول بحياء مولاي..بطريقة شبقة ولينة فتجعل منه أسد يهم بافتراس حمل/ قلق المآذن)،يكشف النص أن المرأة التي وقفت أمام الوالي العثماني//السلطة السياسية والذكورية هي واعية لثقافة الرفض والاحتجاج، وكذلك الحال مع (زهرة عبد الحسين النكاش) التي صادرت الثقافة المجتمعية حقوقها، وهمشت رغباتها وإرادتها، من مثل إجبارها على الدخول في عالم الملالي، ذلك أنها تنتمي إلى عائلة كربلائية متدينة حيث والدها كان نقاشا للأضرحة والمساجد، نقش رواق الصحن الكاظمي، وأمها (فخرية الملاية ) التي كانت تقرأ وتنوح في أيام عاشوراء، أو في مناسبات وفاة أحد الناس، وقد لازمت زهرة أمها حتى خطبتها من إحدى صديقات أمها وهي تعمل في المجال ذاته لإبنها (ناصر) الذي لم تشاهده إلا في ليلة الزفة وقد كانت صغيرة في السن، وقد ظلت ترافق أمها في مجالس العزاء إلى أن أصبحت معروفة في الكاظمية بـ (زهرة الملاية)، ولكن ناصر كان يحب الغناء وكان يجيد العزف والتلحين، وما إن سنحت الفرضة لزهرة بتقليد المطربات أمثال سليمة باشا ووحيدة خليل لتبهره بجمال صوتها تقول (كنت أحب أن أبهره حين أقلد المطربات المشهورات، حتى كنت أرتدي الهاشمي البغدادي الذي يرتدينه فيتغير شكلي وأصير مثل نساء الأغنياء/ قلق المآذن) يكشف  قولها هذا عن حقيقة رغباتها التي طمرت في قاع الاعراف والتقاليد والمعتقد قسرا، فما أن سنحت لها الفرصة حتى تعبر عن رغباتها تلك التي احالتها من (زهرة الملاية) إلى المطربة (زهور حسين) بعد أن خدمتها الصدفة في أن تلتقي بالملحن العراقي اثناء عودته من الكويت والمشهور باسم (صالح الكويتي) والذي أعجب بصوتها وشجعها على الغناء تقول (غنيت بطريقة الملاية، ولكنني أتمرد بين إيقاع وإيقاع، فأنطلق وينطلق صوتي، والفنان الحقيقي وهو من يستطيع أن يروض قدراته المجنونة، التي تنبعث من إرثه ومن طبيعته ومن محيطه.. فجربت أن أغني بطريقة جديدة ..أمزج الطريقة الريفية مع إيقاع المدينة فغنيت/ قلق المآذن) فزهرة التي أجبرت على الزواج، وعدم إعطائها الحرية في اختيار شريك حياتها، والاتجار بها كسلعة تباع وتشترى، ومن ثم حرمانها من ممارسة دورها دورها الطبيعي في الحياة، تعلن رفضها والخروج على راهنية سلطة الوصاية المطلقة للذكر، والعرف والتقاليد وتدخل في المجال الذي تحبه وتجد فيه كينونتها وخصوصيتها الفردية.

وعليه قدم التمثيل السردي الانثى وهي تتبنى ممارسات مضادة للسائد متمردة تحاول بوساطتها أن تعيد رسم العلاقة بين الطرفين وتنظيمها على نحو يحقق لها سلطة معينة، تعوض من خلالها عما يمارس ضدها من تجاوزات وانتهاكات خطيرة تبقيها في الهامش. وقد اتكأت على خطاب مضاد يُملي عليها الارتكان إلى استراتيجيات خاصة تتبعها في عملية التزاحم والصراع مع الاخر، وقلب المعادلة لصالحها، فنشطت الانثى عبر حركتها وفعلها في المبنى السردي بوصفها مهيمنة ناتئة، ومحورا مركزيا تدور حوله الشخصيات، يغذي البنية السردية بما يضخه فيها من تلميحات مضمرة ودلالات خفية تتناثر في تضاعيفها، فكان الاحتجاج، والتمرد أهم الوسائل المتبعة للتخلص من عمليتي التنميط القسري والرقابة الصارمة، وما صاحبهما من تداعيات فرضتها الثقافة الذكورية والسلطة العقدية، أدت إلى محاصرتها في كينونة مهمشة.

 

د. مسار غازي

 

 

في المثقف اليوم