قراءات نقدية

واثق الحسناوي: تجلياتُ الرَّفض في شاهدةِ قبرِ السَّماوي.. دراسة سيميائية حجاجية تواصلية (1-4)

واثق الحسناويالمقدمة: لاشك أنَّ اسلوب الرفض، يتعلقُ بالغريزة الانسانية التي ترفضُ أيَّ اسلوب أو سلوك أو عملٍ ينتقصُ مِن كرامتِها وحريتِها وعيشها بسلام أو آمان ؛ فترفض الآخر المتعالي بشتى الوسائل والطرائق المُمكنة. وهذا الاسلوب أُتّبَعه كثيرٌ من الأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين والمصلحين، الذين رفضوا الوثنية أو الخرافة أو العادات والتقاليد القبلية العصبية الفاسدة أو البالية ؛ ايماننا منهم في التغيير وسلخ المجتمعات التي تنظر الى الآخر بغريزة الاستعلاء والانتقام والانتقاص، من هذه الغريزة الغيرية النرجسية الانوية.

ومن هذا المنطلق الابستمولوجي انطلق كثيرٌ من الشعراء والادباء في العالم لمقاومة السياسات الظالمة للحكّام أو المجتمعات الجاهِلة،وعرّضوا انفسهم للقتل أو الاعتقال أو النفي أو الاقصاء أو الحوادث المأساوية؛ ثمننا للكلمة الحُرّة الرّافضة للظلم والاقصاء والكبت والحرمان والابعاد.. فالرفض هو غريزة إلحاحية تناقض وتقاوم وترفض الكبت، والسكوت، والسكون، والقبول بالمذلة والحرمان والاقصاء، ضمن صراع الأنا والآخر الغيري، بعد أن تُقيم عليه الحِجج الدامغة لرفضه ومقاومته.

والرفضُ ذاتُه، المنهجُ الذي سلَكهُ كثيرٌ مِن الثُّوار في العالم مِن رجال الدين أو السياسية أو الاجتماع أو العِلم أو الفلسفة في العالم؛ لذلك لم يكن هذا المَسلك أو السلوك مُعبَّدا بالورد أمامهم، كما يظّن الكثيرون، بل هو ما بين المَقْصَلة والمَهلَكة او ما يسمى بطريق المشانق واللاعودة، و اللاحياة والعدم في أغلب أحواله، فهو توقٌ للانعتاق والتحرر من اقفاص السلطات الأوديبية السفسطائية المزيفة، التي جعلت من نفسها مركزا ولوغوسا متعالي ومسيطر ومتسلط على الذوات المستضعفة بدافع التعالي والسيطرة والاستحواذ الدنيوي الشخصي.

وشاعرُنا العراقي السَّماوي يحيى، هو مِمَن عشقَ واختار طريقَ الشهادة على عصر الزُّور والظّلم والفُجور والاقصاء والديكتاتورية، ورفضه بكلِّ ما أُوتي مِن قوّة، بدلا مِن أن يغلق عينيه وينام بائعا لضميره ووطنه، كمَن أغوتهم المناصبُ والمنابرُ والامنياتُ والطُّموحات، فهو صورةٌ للديمقراطية او الليبرالية المُحدَثة والمطوّرة التي تناقض وتنافي صورة الديكتاتورية التقليدية البائدة المُظلَلة والضالة،لذلك سيكون عنوانُ بحثنا هذا هو " تجليات الرفض في شاهدة قبر يحيى السَّماوي، دراسة سيميائية حجاجية تواصلية " لِما إنمازت به مجموعته الشعرية هذه، من تعدد وتنوع لأساليب الرفض فيها.

ونظراً لاتساع المجاميع الشعرية وكثرتها، وضيق الوقت، والتزامنا بالمنهج البحثي العلمي الاكاديمي، حاولنا تطبيق منهجنا النقدي (السيميائي الحجاجي التواصلي)، حول تجليات اسلوب الرفض في مجموعته الشعرية، التي حملت عنوان: (شاهدة قبر مِن رخام الكلمات) من دون الدخول في تفاصيل المتن والاجراءات النقدية التعقيدية، لكي لا يفقد التحليل ذوقه وجماليته، فهو لا يسعى الى تفكيك وبعثرة النّص كالأشلاء المتناثرة بقدر ما يسعى الى لملمته بعد تفكيكه، واظهار جماليته والقدر التي ابدعته، ولا يبحث عن زلات أوهنات المُبدع بقدر ما يسلط الضوء عليها بلغة ادبية نقدية جمالية موضوعية غير معقدة، تسهم في خلق متعة القارئ، وتزيد من وعيه النقدي وثقافته الادبية. وكذلك كونّ هذه المجموعة الشعرية،مثَّلت تجلياً سيميائياً حِجاجيا تواصلياً، واضحاً لمختلف اساليب الرفض في شعره، وحاولنا تطبيق بعض المناهج او النظريات او الاتجاهات النقدية من دون الخوض في تفاصيلها الاجرائية والتعريفية ؛ كونّها أصبحت مسلَّماتٍ نقديةً معروفة ومتداولة،و متعارفٌ عليها لدى القارئ أو المتلقي الأكاديمي.

وقد اقتضت خطّةُ البحث أن يكون على محورين المحورُ: الأول: نبذة مختصرة عن حياة وسيرة الشاعر السَّماوي، وأهم انجازاته المحلية و العربية والعالمية، فضلا عن التعريف بأسلوب الرفض لغةً واصطلاحاً، وجذور الرفض في الأدب العربي . أمَّا المحور الثاني: فاقتصر على تحليل لأساليب الرفض، وتجلياته في مجموعته الشعرية، تحليلا سيميائيا حجاجيا تواصليا، مردوفاً بالخاتمة التي تضمنت أهم نتائج البحث. ثم قائمة الهوامش، مردوفةً بقائمة المصادر والمراجع .

المحور الاول: يحيى السَّماوي

هو يحيى عباس الحسناوي، ولقبه السَّماوي نسبة الى مدينة السماوة الغرّاء، من مواليد مدينة المثنى / قضاء السماوة/ الحي الشرقي،ولد عام 1949،وتخرّج من الجامعة المستنصرية / كلية الآداب / عام 1974 . وقد ولع في المطالعة والقراءة الادبية منذ وقت مبكر جدا في حياته، ما دعاه للعمل في التدريس والصحافة والإعلام والاحتكاك بعدد من الادباء والمثقفين والاعلاميين اليساريين في ذروة النتاج والصراع الفكري والسياسي، فضلا عن نشاطاته الادبية والثقافية والسياسية المعارضة لنظام البعث الحاكم آنذاك .

ساهمت بيئتهُ السَّماوية على ضفاف نهر الفرات وتحديدا في بساتين الشرقي، في خلق الشعور المرهف والحِس الشّفاف الرّقيق، ومحاكاة الطبيعة، وتصويرها بأفضل ما يمكن، اذ نجده أقرب اليها من حبل الوريد . وما يدلل على ذلك هو توظيفه لمفردات بيئته بالفطرة والسليقة الصادقة الموحية المؤثرة، التي تبعث في نفس القارئ المحاكاة والتناغم، والانسجام والتوق، واللعب في مخياله، وهي تفجير واستنطاق ومحاكاة لتلك اللغة الصامتة، التي لا يستطيع أيُّ انسان عادي استنطاقها .

فالسَّماوي جعلنا نقرأ الطبيعة ونسمعها، ونستشعرها ونحاكيها، ونحاورها ونشعر بها، ونلمس احاسيسها من خلال عدسته التصويرية الدقيقة جدا . لذلك قد يرى القارئ الكريم أنننا نبالغ في انصاف هذا الشاعر الكبير، ولكن مَن يعرف السَّماوي عن كثب، حتماً سيعذرنا .

إنَّ رهافةَ حِس السَّماوي، وتدفق مشاعره، وخصب شعوره، ودقّة تصويره، ويناعة دلالاته، وخبرته في مجاله وفراسته، وقراءته للطبيعة والاشياء والناس من حوله، جعلته يتوغل ويتغلغل الى الاعماق، ويتفجر بعد ذلك على شكل شلال صادِح رافض للصمت والكبت، تتناسل فيه الافكار والمشاعر، والصوّر لتصبح سيلاً من النتاجات العربية والعالمية، ومنها المجاميع الشعرية: (عيناك دنيا - قصائد في زمن السبي والبكاء - قلبي على وطني - جرح باتساع الوطن - من أغاني المشرّد - الاختيار - رباعيات - عيناك لي وطن ومنفى - هذه خيمتي .. فأين الوطن ..؟ - أطبقت أجفاني عليك - الأفق نافذتي - زنابق برّية - نقوش على جذع نخلة - قليلك لا كثيرهن ..  ـ لماذا تأخرتِ دهرا ؟ ..  ـ البكاء على كتف الوطن ..  ـ شاهدةُ قبر مِن رخام الكلمات ـ تعالي لأبحث فيكِ عنكِ ـ بعيدا عني .. قريبا منكِ ـ أطفئيني بنارك ـ أنقذتِني مني ـ تيممي برمادي ـ نهر بثلاث ضفاف ـ مناديل من حرير الكلمات ـ حديقة من زهور الكلمات ـ ملحمة التكتك) .

نُشرت للشاعر عدّةُ قصائده في العديد مِن الصحف والمجلات الأدبية العراقية والعربية والأسترالية والسنغافورية والأمريكية، وترجمت مختارات مِن شعره إلى الإنكليزية والفرنسية والاسبانية والألمانية والفارسية والكردية والأوردية والصربية ... وشارك في العديد من المهرجانات الأدبية العراقية، والعربية والعالمية. وكتب عنه نقاد كثيرون في العراق والوطن العربي والعالم .

حازت مجاميعهُ الشّعرية على جوائز عديدة منها، جائزة الملتقى الثقافي العربي في أبها لأفضل ديوان شعر عن ديوانه " قلبي على وطني " عام 1992، وجائزة مؤسسة ابن تركي للإبداع الشعري، برعاية جامعة الدول العربية عن ديوانه " هذه خيمتي .. فأين الوطن " عام 1998وجائزة البابطين لأفضل ديوان شعر عن ديوانه " نقوش على جذع نخلة " عام 2008، وجائزة جبران خليل جبران العالمية، وجائزة شربل بعيني إضافة إلى جوائز عديدة أخرى . كما مُنح درع ديوان الشعر العربي عام 2007 وجائزة الابداع لمؤسسة المثقف – استراليا 2011 وقد حظي شعره بالعديد من الدراسات الجامعية لنيل شهادتَيْ الماجستير والدكتوراه وبحوث الأستاذية في جامعات عراقية وعربية وأجنبية ... كما تناول تجربته الشعرية عدد من النقاد العرب والعراقيين في كتب نقدية، وهو مقيم في أستراليا حالياً.(1)

الرفض (لغةً):

(رفض): رفض: الرفض: ترك الشيء ..الرفض: الترك . والرفض : الشيء المتفرق. والجمع ارفاض ..والرفاض: الطرق المتفرعة اخاديدها .. ترفض الشيء اذا تكسر ... ارفضه رفضا، فهو مرفوض ورفيض: كسرته . ورفض الشيء ما تحطم منه وتفرق .. ورفض الشيء جانبه ... والرفض: أن يطرد الرجل غنمه وإبله إلى حيث يهوى،فإذا بلغت لها عنها وتركها .ورفضتها وارفضها رفضا: تركها تبددت في مراعيها ترعى حيث شاءت،ولا يثنيها عن وجه تريده ؛وهي ابل رافضة وابل رفض وأرفاض . ورجل قبضة رفضة: يتمسك بالشيء ثم لا يلبث ان يدعه .ويقال راع قبضته رفضة للذي يقبضها ويسوقها ويجمعها، فإذا صارت إلى الموضع الذي تحبه وتهواه رفضها وتركها ترعى كيف شاءت. ويقول الأزهري: سمعت اعرابيا يقول: القوم رفض في بيوتهم أيّ تفرقوا في بيوتهم، والناس ارفاض في السفر أي متفرقون، وقال ذو الرمة:بها رفض من كل خرجاء صعلكةٍ واخرج يمشي مثل مشي المخَبلِ. والرًفض والرَفض من الماء واللبن: الشيء القليل يبقى في القربة أو المزادة، وهو مثل الجرعة، ورواه ابن السكيت،رفض بسكون الفاء ويقال: في القربة رفض من ماءٍ، أي قليل، والجمع ارفاض. والرفض: القوت، مأخوذ من الرًفضٍ الذي هو القليل من الماء واللبن، ويقال رفض النًخل، وذلك اذا انتشرت عذقه وسقط قيقاؤهٌ .(2)

الرفض (اصطلاحاً):

لا شكَّ أن لكلِّ فعلٍ ردّةَ فِعل معاكسة لها في الاتجاه ومساوية او مجاوزة لها في المقدار احيانا كثيرة بخاصة السلوكية والنفسية منها، وكذلك الحال بالنسبة لأسلوب الرفض فهو ردُّة فعلٍ ذاتيةٍ فرديةٍ أو جماعيةٍ، تُعبّرُ عن حالة عدمِ رِضا واستقرار واطمئنان، وربّما تصلُ الى الفورانِ والغليانِ والعنفِ في أحيانٍ كثيرة، للتعبير عن الاستقلال والتحرر الذاتي للانا بأسلوب الرفض والاحتجاج بعد قطع التواصل مع الآخر الغيري، فهو حالة (سيكولوجية سوسيولوجية أبستمولوجية) أي حالة انفعالية عاطفية حيوية نشاطية حركية حماسية شبيهه بالاهتزاز الذي نشعر به اثناء الحب العنيف والحماسة الفياضة والمؤثرات الموسيقية العذبة او أشبه بزلزال يعصف في الاعماق سلبا او ايجابا استجابة لفعل ما،وهي احساس باطني مصدره جوارح الانسان وقلبه . وينتج هذا الانفعال تحت تأثير العقل عن فكرة ذهنية او صورة رمزية تشترك فيها جميعُ اعضاء الجسم بتفاعل وتعاضد وتماهي حجاجي تواصلي، وتتفاعل مع العوامل البيئية / البيولوجية و الفسلجية والوراثية للإنسان، فتؤثر على سلوكه بفعل قولي أو انجازي فعلي، تصاحب أو تتولد في الذات / الأنا المستثار، فيستجيب لها الكائن سواء كان انسانا أو حيوانا، فتحدث تغيراً مفاجئاً وانقلابا جذريا، واستجابة شاملة لنداء الأنا الصارخ الصادح الرافض للظلم ضد الاخر الغيري المتعالي المُقصِي. فتكون تجلياتها على أرض الواقع، إما بصورة قولية / كلامية، أو فعلية حدثية سلوكية .وقد تكون إلحاحية عنيفة في كثير من الاحيان؛ كونَّها تجد في الظلم والكبت والاقصاء والتعسف انتقاصا لها كوجود يرفض العدم، أو لكبت حريتها أو اعاقة عيشها أو تقليص لحجمها وحيزها المكاني أو الزماني؛ لذلك تنتفض وبشدّة ضدَّ أيّة قوة أو عدو محتمل يداهمها أو يسلب حريتها. اذت الانفعال الذي يتسبب في وجود الرفض بمختلف انواعه وتشكلاته ووسائله هو علة العقل وسبب له ومنطلقه وعنصر الفعاليات الذهنية والجسدية ومنبع هذا الانفعال هو الغريزة التي اصبحت حدسا بعد ان تخلصت من كل مقصد عملي وتنزهت عن كل عمل اناني فأصبحت واعية بذاتها وموضوعها .(3) ومن هنا كانت انطلاقةُ الشاعر العراقي يحيى السَّماوي الرّافضة لكلّ مظاهرِ الظَلم والفسادِ والكبتِ والطغيانِ والاستعلاء والاقصاء بكافة انواعه وتشكلاته ورفض الاخر المتعالي في مجتمعه المغلق الساكن الرافض لأي تحرر فكري او تغير سياسي او عقائدي فكانت الاخلاق المفتوحة، والحركية منطلقا لأسلوب الرفض، إذ إن الاخلاق هي (جهاز من العادات تنحصر مهمته في صيانة كيان المجتمع... وهنا تكون مهمة الضمير مقصورة على تحديد واجبات الفرد نحو المجتمع ونحو غيره من افراد الجماعة). (4) وهو ما جسَّده الشاعرُ في مجموعته الشعرية: (شاهدة قبر من رخام الكلمات)، والتي سنتناولها في بحثنا هذا .

دوافع الرفض:

إنَّ الانفعالات -بحسب تعريفات وتوصيفات علماء النفس- هي حالةٌ نفسيةٌ سارّة أم غير سارّة،تصاحب السلوك،فالميل الى موضوع والتحمس له والاقبال عليه يمثل محركات ومنشطات للسلوك والشعور بالارتياح او عدمه،و تشترك فيها العواملُ البيئية و الفسلجية والوراثية للإنسان وتؤثّر على سلوكه، وتصاحب السلوك المستثار، فيستجيبُ لها الكائنُ الحي، وهي تغيرٌ مفاجئ واستجابةٌ عامة، تشمل الفردَ كلّه دون أن يختص بها جانب معين من جسم الإنسان .ويرى الدكتور "وليم جيمس": (يحصل الانفعال بتأثير مثيرات معينة في البيئة تتسبب في تغيرات فسلجية عند الشخص المنعل او المستثار، وهذه بدورها تثير الأعصاب الحسّية العديدة، الناقلة للمثيرات من أجزاء الجسم المختلفة إلى الدماغ، ويمكن القول: إنَّ الثقافة قد تكون مسؤولة عن تشكيل كل جوانب السلوك تقريبا، كما إن للمعتقدات تأثيرات على السلوك أيضا. (5)

ويُعدُّ التعبير عن الغضب في بعض المواقف ايجابيا، فالغضب الموجّه نحو معاملة غير عادلة من قبل شخص أو مجموعة، يُعدُّ صحيحا من الناحية النفسية يجب إن يعبر عنه، كونه يجعلنا إن نصلح من حياة أو سلوكيات مجتمعاتنا، وهو ما عبّر عنه شعراء الرفض من خلال شعرهم، واختياراتهم للموضوعات المعبرة عن غضبهم ورفضهم للظلم بدافع الحاجة إلى العدالة أو الاستقرار و الحرية.

منهج الاعتقاد:

علينا –كبشر- أن نُدرك جميعَ ما حولنا من مظاهر واحداث،ونتفاعل معها برموز ووسائل تواصل واعتقاد مختلفة، والادراكُ والتصور، والتمييز، والتفكر والتخيل، والتعبير اللغوشاري جوانب ابستمولوجية للسلوك او الاعتقاد . (6) ويعدُّ الشّعور وسيلةً تواصليةً حجاجيةً لغوشارية، لمعرفة ما يمرُّ به الانسان من حالات سيكولوجية وابستمولوجية وسيولوجية ضدّ خطاب او سلوك الدوغما، وما يحيط به من مؤثرات خارجية وداخلية، يحاول التكيف معها او التمرد عليها كما يفعل شاعرنا السَّماوي .(7)

والإنسانُ مفطورٌ على الإيمان بمعتقد يصبغ حياته، ويوجبها في مسار خاص نحو هدف معين، وكثيرا ما يلحُّ هذا الأمر عليه في بدايات حياته،حتى يكون بنائُه اللاحق خاضعاً بكلّ تفاصيله لحكم وتوجيه ذلك المعتقد، الذي يراه حقّا ويوجب الدفاع من أجله، ومن هنا كان أسلوبُ الرفض واضحاً للمعتقدات الأخرى، التي تبنتها الحكومات أو الأنظمة أو الجماعات الفاسدة أو غير العادلة، ما دعا إلى الرفض ومجابهتها والوقوف بوجهها بحزم، ولو كلَّف الأمرُ النفي أو الاعتقال أو الاستشهاد كما سيتضح لاحقا .كونَّها مخالِفة للأنظمة، والقوانين والاعراف، والعادات، والتقاليد الاجتماعية، الموكلة بتنظيم المجتمعات، والحفاظ عليها . فالإنسان عند " برجسون" يتمثل هذه الاخلاق عن طريق العقل،إذ إن (الاخلاق الاجتماعية أخلاق متعلقة بمجتمعات مكونة من كائنات عاقلة، وهذا هو الفارِق الجوهري بينها وبين المجتمعات الحيوانية،التي تعتمد كلّيا على نظام الغريزة، فالفردُ كائنٌ عاقلٌ وحرٌّ، وإنَّ وجوده بهذه الصفة، يجعل منه انسانا قادرا على تحمل مسؤوليته الاخلاقية، إننا لا نستطيع التكلّم عن الاخلاق وعن الواجب الاخلاقي، مِن دون التكلّم عن حضور العقل ذاته). (8)

جذور الرفض في الشعر العربي:

لقد حفل الشعر العربي الجاهلي بكثير من الشعراء، الذين تركوا لنا تراثا ادبيا حافلا بشعر الرفض لمختلف المظاهر السلبية، الخارجة عن الاعراف والقيم العربية آنذاك وبكل تفاصيلها منها، قانون الثأر والغزو، والإغارة، وشرب الخمر، وزير النساء... والتي نرى فيها صورة المظلوم، وهو يعتبُ على ظالميه بصورة عتاب أو هجاء لاذع، ورفض للحزن والفراق، وفقدان الأحبَّة، والخلّان والصرخة الاجتماعية، والسياسية المدوّية، ضدّ كلّ تجاوز أو انتقاص طبيعي أو بشري، ضدّ الذات الانسانية والتي تندد بالظلم والظالمين.

وكان لرفض القيم والظواهر والسلوكيات السلبية، طرح ظواهر وقيم وسلوكيات ايجابية منافية ومضادة للأخرى المتعالية والمتسلطة والمسيطرة وهو ما تجلّى في شعر المُعلّقات، والسلوكياتُ الشاذّة هي مِن الظواهر التي كانت مرفوضة لدى معظم القبائل العربية، التي انبرى شعراؤها لرفضها ومحاربتها من خلال شعر الرفض/ الهجاء، الذي مثَّل في بعض مضامينه الايجابية صورة من أسلوب الرفض للشاعر العربي، والثورة على مختلف الظواهر، والسلوكيات المنحرفة المناقضة للمروءة، والشهامة، والنخوّة، والإجارة العربية .(9)

فتعددت أنواع الرفض الجاهلي، منها رفض الدّية ورفض الإغارة، ورفض السبي، ورفض انتهاك الحرمات، ورفض الإجهاز على القتلى او الجرحى او الاسرى، وغيرها من المضامين التي دافع عنها الشعراء الجاهليين، منطلقين مِن الشيم والمبادئ العربية الأصيلة؛ كون الشاعر هو لسان حال قبيلته، كما لمسناه في مطلع معلقة عمرو بن كلثوم المشهورة.(10) دعوة لرفض المفاحِش والمفاسِد ايضا.وكان طرفةُ بن العبد لقي حتفه ؛ بسبب رفضه لسياسات عمر بن هند وأخيه قابوس،(11) بقوله:

فإن كنتَ لا تسطيعُ دفعَ منيتي    فَدعني أُبادرها بِما مَلكتْ يَدي

فكانت العربُ تسمّي عمراً بـ (مضرط الحِجارة)؛ لشدّة بأسه، لكن الشاعر طرفة رفض هذا الظلم فهجاه ؛ ما أدى إلى قتله، وهو ابنُ ستٍ وعشرين سنة .

وكذلك من مظاهر الرفض الجاهلي، رفض الشاعر للموالية والعبيد الدخول في القبلية؛ حفاظا على نقاوة النسب، ومدح ابناء القبيلة الصرحاء ممن تربطهم رابطة الدم والنسب،وكذلك رفضهم للرق والعبودية والاغارة والسلب والنهب والغزو وترسيخهم للاطار السياسي والاجتماعي للقبيلة، وصياغة دستورها بما يتلاءم مع طبيعة العصر وبيئته، ومعتقداته .فقد جعل زهير بن ابي سلمى هرما بن سنان مثلا للشخصية العربية التي يجب أن يقتدى بها في القيم النبيلة، التي جسدها في قصائده الرافضة لكلِّ مظاهر الفساد والظلم والاقصاء .(12)

يتبع

 

د. واثق الحسناوي - جامعة المثنى

 

في المثقف اليوم