قراءات نقدية

مفيد خنسه: الشاعرة سعاد الصباح ترفع الـ(فيتو) على نون النسوة

مفيد خنسةالشعر سلاحها، والتجربة الذاتية دليلها، وثقافتها رصيدها، وشجاعتها صدقها، فقصيدتها واضحة المعاني، مباشرة الدلالات، بسيطة البنية، لكنها غزيرة المضامين، لأنها تعبر عن موقفٍ رافضٍ للواقع الذي تعيشه المرأة العربية، وتثور على كل أشكال الاضطهاد والقمع الذي تعاني منه، وتدين نظرة المجتمع إلى المرأة على أنها أنثى قاصرة، لا يجوز لها أن تقتحم العوالم التي يمكن للرجل أن يتبوّأها في الفكر والثقافة والفن والشعر، أما كيف تتجلى هذه المعاني في شعرها؟ فالجواب يكون من خلال دراسة قصيدتها (فيتو على نون النسوة) المختارة من مجموعتها الشعرية (فتافيت امرأة).

الفرع الأول:

تقول الشاعرة:

 (يقولون:

إن الكتابة إثمٌ عظيمٌ ...

فلا تكتبي.

وإن الصلاة أمام الحروف ... حرامٌ

فلا تقربي.

وإن مداد القصائد سمٌّ ...

فإياك أن تشربي.

و هأنذا

قد شربتُ كثيراً

فلم أتسممْ بحبر الدواة على مكتبي

و هأنذا...

قد كتبتُ كثيراً

وأضرمتُ في كلِّ نجمٍ حريقاً كبيراً

فما غضبَ اللهُ يوماً عليَّ

ولا استاءَ مني النبي...)

تبين الشاعرة في هذا الفرع صورة الفيتو على المرأة التي تمارس الكتابة وعقدته (يقولون: إن الكتابة إثمٌ عظيمٌ) وشعابه الرئيسة هي: (يقولون: / إن الكتابة إثمٌ عظيمٌ ... / فلا تكتبي.) و(وإن الصلاة أمام الحروف ... حرامٌ / فلا تقربي.) و(وإن مداد القصائد سمٌّ ... / فإياك أن تشربي.)، أما شعابه الثانوية فهي: (و هأنذا / قد شربتُ كثيراً / فلم أتسممْ بحبر الدواة على مكتبي) و (و هأنذا. .. / قد كنتُ كثيراً / وأضرمتُ في كلِّ نجمٍ حريقاً كبيراً / فما غضبَ اللهُ يوماً عليَّ / ولا استاءَ مني النبي...).

في المعنى:

افتتاح الشاعرة القصيدة ب(يقولون) يشير إلى أن القول لا يعود إلى جماعة محددة بعينها إنما يشمل الذين تجعلهم أفكارهم يعتقدون بما يتضمنه القول من معنى، والزمن وإن كان حاضراً فإنه يشمل الماضي والمستقبل، وهي في الأحوال جميعاً تلخص مجمل القول بحق المرأة ثم ترفضه محتجة ومتعجبة حيناً، ومتحدية بالحجة والدليل حيناً آخر، فقولها: (يقولون: / إن الكتابة إثمٌ عظيمٌ ... / فلا تكتبي.) أي يعتبرون المرأة إن اقترفت الكتابة فإنها تكون قد ارتكبت ذنباً كبيراً، فينصحها المقربون بعدم الكتابة حرصاً منهم عليها، فيما يأمرها الآخرون محذرين ومنذرين من ارتكاب الكبائر، وقولها: (وإن الصلاة أمام الحروف ... حرامٌ / فلا تقربي.) أي يقولون: حرام على المرأة الكاتبة أن تصلي بعد أن اقترفت ذنب الكتابة بالحروف المقدسة، فمنهم من ينصحها بعدم الاقتراب من الصلاة حرصاً منهم عليها، فيما يأمرها الآخرون من خطر الارتكاب، وقولها: (وإن مداد القصائد سمٌّ ... / فإياك أن تشربي.) أي يقولون: إن الحبر الذي تستخدمه المرأة في كتابة قصائدها سمّ يقتل شاربه، فالمجتمع منذ نعومة أظفارها يخوفها تحذيراً وترهيباً من تجرّع كأس القصائد لأن نتيجتها الموت، وقولها: (و هأنذا / قد شربتُ كثيراً / فلم أتسممْ بحبر الدواة على مكتبي) أي تلك الأقوال لا صحة لها بدليل أن الشاعرة قد شربت مراراً ولم تتسمّم بمداد المحبرة على مكتبها، وقولها: (و هأنذا... / قد كتبتُ كثيراً / وأضرمتُ في كلِّ نجمٍ حريقاً كبيراً / فما غضبَ اللهُ يوماً عليَّ / ولا استاءَ مني النبي...) أي الادعاء أن كتابة المرأة إثم كبيرٌ عارٍ عن الصحة، والحجة لدى الشاعرة دامغٌ، فها هي قد كتبت كثيراً حول قضايا شتى، وقد تناولت خلال كتاباتها مواضيع ساخنة تتعلق بقضايا المرأة وحريتها، وأشعلت نيران التمرد والرفض لكل أشكال الاضطهاد التي تعاني منه المرأة، وهي في كل حالات ثورتها على المجتمع الظالم لها لكونها امرأة ثائرة، لم يغضب منها الله، ولم ينزعج من كتابتها نبي، في إشارة منها إلى أن تلك الادعاءات التي تقلل من شأن المرأة، هي من نتاج المجتمعات الذكورية، وإن تذرّع البعض بالأوامر الإلهية التي تفرض على المرأة واقعاً تُسلب منها فيه حريتها وحقوقها المشروعة.

 الفرع الثاني:

تقول الشاعرة:

(يقولون: إن الكلام امتياز الرجال

فلا تنطقي

وإنّ الكتابة بحرٌ عميق المياهِ

فلا تغرقي

وهأنذا قد سبحت كثيراً

وقاومت كلّ البحارِ .. ولم أغرقِ .....

يقولون: إني كسرتُ بشعري جدار الفضيلهْ

وإنّ الرجال هم الشعراءُ

فكيفَ ستولدُ شاعرةٌ في القبيلهْ؟؟

وأضحكُ من كلِ هذا الهراءْ

وأسخرُ ممنْ يريدونَ في عصرِ حربِ الكواكبِ..

وأدَ النساءْ..

وأسألُ نفسي:

لماذا يكونُ غناءُ الذكورِ حلالاً

ويصبحُ صوتُ النساءِ رذيلهْ؟)

تبين الصباح في هذا الفرع صورة الفيتو على المرأة الشاعرة، وعقدته (يقولون: إن الكلام امتياز الرجال) وشعابه الرئيسة هي: (فلا تنطقي) و(وإنّ الكتابة بحرٌ عميق المياهِ) و(فلا تغرقي) و(يقولون: إني كسرتُ بشعري جدار الفضيلهْ) و(وإنّ الرجال هم الشعراءُ)، أما شعابه الثانوية فهي: (وهأنذا قد سبحت كثيراً) و(وقاومت كلّ البحارِ .. ولم أغرقِ .....) و(فكيفَ ستولدُ شاعرةٌ في القبيلهْ؟؟) و(وأضحكُ من كلِ هذا الهراءْ) و(وأسخرُ ممنْ يريدونَ في عصرِ حربِ الكواكبِ.. / وأدَ النساءْ..) و(وأسألُ نفسي: / لماذا يكونُ غناءُ الذكورِ حلالاً / ويصبحُ صوتُ النساءِ رذيلهْ؟).

في المعنى:

تتابع الشاعرة سعاد الصباح الاعتراض على نظرة المجتمع الشرقي إلى المرأة، وتقدم أفكارها بكل بساطة ووضوح، فقولها: (يقولون: إن الكلام امتياز الرجال / فلا تنطقي) أي إن الكلام في المواقف العامة والخاصة، والقول الفصل هو للرجل في مجتمعنا الشرقي، فالرجل هو صاحب القرار في البيت والمؤسسة والمجتمع، ونعمة الكلام التي منحنا الله إياها زعم الرجل أنها امتياز له من دون النساء، والكلام يعني القول التام المعنى أيضاً، وهو كلام الإبداع في الشعر والنثر، وهذا الكلام جعله الرجل امتيازاً له من دون المرأة أيضاً، وانطلاقاً من هذا الامتياز للرجل تتلقى المرأة الأمر بعدم النطق، حرصاً عليها من تهمةِ تجاوزِ الحدود، وإنذاراً لها من العاقبة التي يمكن أن تواجهها في حال التجاوز والتعدي على امتياز الرجل في الكلام، وقولها: (وإنّ الكتابة بحرٌ عميق المياهِ / فلا تغرقي) أي يصوّرون الكتابة الإبداعية بالبحر الواسع العميق الذي لا يستطيع الغوص فيه إلاّ الرجال، وهم – القريبون والبعيدون- ينصحونها ويحذرونها من الغرق إن أبحرت، لأنهم يزعمون أن المرأة لا يمكنها الخوض في بحار الإبداع ومحيطات الكلام!، وقولها: (وهأنذا قد سبحت كثيراً / وقاومت كلّ البحارِ .. ولم أغرقِ .....) أي هي على يقين تام أن ما يقال محض ادعاء عارٍ عن الصحة، ودليلها الواضح الصريح هو تجربتها الذاتية في الكتابة النثرية، واستخدام صنوف الكلام للتعبير عن المعاني التي تدافع عن القيم الإنسانية النبيلة، وتدعو إلى تحرير المرأة من سلطة الرجل، وتقاوم كل أشكال التسلط والتمييز على أساس الجنس، وعلى الرغم من هذا كله بقيت مستمرة في إبحارها في مختلف أنواع البحار من دون أن تغرق، وقولها: (يقولون: إني كسرتُ بشعري جدار الفضيلهْ) أي حين لم يفلحوا في ثنيها عن الكتابة قالوا عن شعرها إنه يخالف القيم والتقاليد المتوارثة، وإنه يدعو إلى خرق العلاقة بين الرجل والمرأة القائمة على الفضيلة في حسن اتباع السلف، وقولها: (وإنّ الرجال هم الشعراءُ / فكيفَ ستولدُ شاعرةٌ في القبيلهْ؟؟) أي الذين يقولون عنها ما زالوا يعيشون بعقل قبليّ، فيرون أن الشعراء هم من صنف الرجال ويستكبرون على أنفسهم ولادة شاعرة في المجتمع الذي يفترضون أنه كان وما زال مجتمع القبيلة!، وقولها: (وأضحكُ من كلِ هذا الهراءْ / وأسخرُ ممنْ يريدونَ في عصرِ حربِ الكواكبِ.. / وأدَ النساءْ..) أي إنها تسخر من هذا النمط من التفكير القاصر في زمن بلغ فيه العقل الإنساني مرحلة حرب الكواكب، وما زالت مجتمعاتنا الشرقية مصرّة على دفن المرأة حية، بذرائع واهية ونمط تفكيرٍ متخلف وعاجز، وقولها: (وأسألُ نفسي: / لماذا يكونُ غناءُ الذكورِ حلالاً / ويصبحُ صوتُ النساءِ رذيلهْ؟) أي تتساءل بشيء من السخرية والاستغراب والدهشة، كيف يقبل المجتمع بالمعيار الذي يبيح الغناء للذكور؟، فيما يكون صوت المرأة عورة، ومحرم عليها أن ترفع صوتها في هذا المجتمع الشرقي الذكوري. وهذا التساؤل الذي يبين تلك المفارقة والخلل في المعيار القيمي بين الذكر والأنثى في المجتمعات التي يسود فيها هذا النمط من التفكير، كما يسود فيها هذا النوع من المعايير الموروثة، يشكل صرخة قوية رافضة، وصدمة للعقل صائبة.

 الفرع الثالث:

تقول الشاعرة:

(لماذا؟

يقيمون هذا الجدارَ الخرافيّ

بين الحقول .. وبين الشجر

وبين الغيوم .. وبين المطر

وما بين أنثى الغزال .. وبين الذكر؟

ومن قال: للشعر جنسٌ؟

وللنثر جنسٌ؟

وللفكر جنسٌ؟!

ومن قال: إن الطبيعة

ترفض صوت الطيور الجميلهْ ؟......

يقولونَ:

إني كسرتُ رخامةَ قبري...

وهذا صحيحْ.

وإني ذبحتُ خفافيشَ عصري...

وهذا صحيحْ.

وإني اقتلعتُ جذورَ النفاقِ بشعري

وحطمتُ عصرَ الصفيحْ

فإن جرحوني...

فأجملُ ما في الوجودِ غزالٌ جريحْ

وإن صلبوني. فشكراً لهمْ

لقد جعلوني بصفِّ المسيحْ...

تبين الشاعرة في هذا الفرع صورة الفيتو على نون النسوة وعقدته (لماذا؟ / يقيمون هذا الجدارَ الخرافيّ) وشعابه الرئيسة هي: (بين الحقول .. وبين الشجر / وبين الغيوم .. وبين المطر) و(وما بين أنثى الغزال .. وبين الذكر؟) و(يقولونَ:

إني كسرتُ رخامةَ قبري... / وهذا صحيحْ.) و(وإني ذبحتُ خفافيشَ عصري...

وهذا صحيحْ.) و(وإني اقتلعتُ جذورَ النفاقِ بشعري) و(وحطمتُ عصرَ الصفيحْ)،

أما شعابه الثانوية فهي: (ومن قال: للشعر جنسٌ؟ / وللنثر جنسٌ؟ / وللفكر جنسٌ؟!) و(ومن قال: إن الطبيعة / ترفض صوت الطيور الجميلهْ ؟......) و(فإن جرحوني ... / فأجملُ ما في الوجودِ غزالٌ جريحْ) و(وإن صلبوني. فشكراً لهمْ / لقد جعلوني بصفِّ المسيحْ...).

في المعنى:

تتابع الشاعرة الفيتو على نون النسوة، متسائلة باندهاش لماذا هذا الفصل الخرافي بين الرجل والأنثى، ما دامت العلاقة بينهما تكاملية بحيث لا يمكن لأحدهما أن يقوم من دون الآخر، فقولها: (لماذا؟ / يقيمون هذا الجدارَ الخرافيّ / بين الحقول .. وبين الشجر / وبين الغيوم .. وبين المطر / وما بين أنثى الغزال .. وبين الذكر؟) أي لماذا يفصلون بين الكائنات المرتبطة عضوياً فيما بينها بجدران غير معقولة، فتفقد تلك الكائنات أسباب وجودها، كالفصل بين الحقول والشجر، أو الفصل بين الغيوم والمطر، أو الفصل بين ذكر الغزال وأنثاه، فما قيمة الحقل من دون الشجر الكائن فيه؟، وما قيمة الغيم من دون المطر الذي يختزنه بين تلافيفه؟، وكيف يستمر الغزلان في الغابات إذا انفصل الذكر فيها عن أنثاه؟!، إن هذا التمييز والفصل بين الرجل والمرأة على أساس الجنس في المجتمع ضربٌ من الوهم والحماقة واللامعقول، لأن هذا الفصل يجعل الحياة فارغة من معناها، والتكامل الوظيفي في الطبيعة والتكوين يفقد خاصيته، وقولها: (ومن قال: للشعر جنسٌ؟ / وللنثر جنسٌ؟ / وللفكر جنسٌ؟! / ومن قال: إن الطبيعة / ترفض صوت الطيور الجميلهْ ؟......) أي من منظور الشاعرة لا يوجد جنسٌ للشعر، ولا يوجد جنسٌ للنثر، ولا يوجد جنسٌ للفكر، فالشعر والنثر والفكر نتاج العقل الإنساني ولا يقتصر على جنسٍ دون آخر من ذكر أو أنثى، بل صوت المرأة في هذه الأجناس كلها يبدو كصوت الطيور الجميلة في الطبيعة الرحبه، فكما أنه لا يعقل أن ترفض الطبيعة أصوات الطيور في أرجائها، فليس من المعقول أن يرفض المجتمع صوت المرأة المبدعة!، وقولها: (يقولونَ:إني كسرتُ رخامةَ قبري… / وهذا صحيحْ. / وإني ذبحتُ خفافيشَ عصري... / وهذا صحيحْ. / وإني اقتلعتُ جذورَ النفاقِ بشعري / وحطمتُ عصرَ الصفيحْ) أي تعترف الشاعرة الصباح أنها كسرت القيود التي فرضت عليها في المجتمع الشرقي، كما لو أنها في القبر من أجل أن تمتلك حريتها، وتلعب دورها الريادي في الأدب والكتابة والشعر من أجل الدفاع عن المرأة وحقوقها المشروعة، كما تعترف بأنها استطاعت أن تلغي من حياتها تلك النوعية من المنتقدين المعاصرين في الخفاء كالخفافيش، وتتخلص منهم حتى لا يبقى لهم أثر في حياتها، وتعترف الشاعرة أنها كانت شفافة صادقة بالتعبير عن مشاعرها الأنثوية تجاه الرجل الذي تحب واقتلعت بشعرها جذور التورية والمراوغة والمخاتلة، وحطمت كل الحواجز والجدران الخرافية التي تكرست في مجتمعاتنا الذكورية المتخلفه، وقولها: (فإن جرحوني... / فأجملُ ما في الوجودِ غزالٌ جريحْ / وإن صلبوني. فشكراً لهمْ / لقد جعلوني بصفِّ المسيحْ...) أي إذا كانت اعترافاتها سبباً في أن تتعرض للانتقاد والنيل منها، وبقصد جرحها في الصميم، فهذا لن يزيدها إلاّ جمالاً وبهاءً، فلا أحلى ولا أجمل من أنثى الغزال الطليقة في حالات الضعف والجرح والعجز من شدة الألم، وإن أقاموا عليها الحد بالصلب فإنها تشكرهم لأنهم يكونون قد جعلوها بصف السيد المسيح (ع) الذي صلب فداء للبشرية عن الخطيئة، فالشاعرة الصباح لا تتردد في أن تضحي بكل ما يمكن أن يلحق بها من أذى فداء للمرأة، ودفاعاً عن حقوقها.

الفرع الرابع:

تقول الشاعرة:

(يقولونَ:

إن الأنوثةَ ضعفٌ

وخيرُ النساءِ هي المرأةُ الراضيهْ

وإنَّ التحررَ رأسُ الخطايا

وأحلى النساء هي المرأةُ الجاريهْ

يقولونَ:

إنَّ الأدبياتِ نوعٌ غريبٌ

من العشبِ...ترفضهُ الباديهْ

وإنَّ التي تكتبُ الشعرَ...

ليستْ سوى غانيهْ!!

وأضحكُ من كلِ ما قيل عني

وأرفضُ أفكارَ عصر التنكْ

ومنطقِ عصر التنكْ

وأبقى أغني على قمتي العاليهْ

وأعرفُ أنَّ الرعودَ ستمضي...

وأنَّ الزوابعَ تمضي...

وأنَّ الخفافيشَ تمضي...

وأني أنا الباقيهْ...)

تبين الشاعرة في هذا الفرع صورة الفيتو على المرأة الحالمة بالحرية وعقدته (يقولونَ / :إن الأنوثةَ ضعفٌ)، وشعابه الرئيسة هي: (وخيرُ النساءِ هي المرأةُ الراضيهْ) و(وإنَّ التحررَ رأسُ الخطايا) و(وأحلى النساء هي المرأةُ الجاريهْ) و(يقولونَ: / إنَّ الأديباتِ نوعٌ غريبٌ / من العشبِ...ترفضهُ الباديهْ) و(وإنَّ التي تكتبُ الشعرَ... / ليستْ سوى غانيهْ!!)، أما شعابه الثانوية فهي: (وأضحكُ من كلِ ما قيل عني) و(وأرفضُ أفكارَ عصر التنكْ / ومنطقِ عصر التنكْ) و(وأبقى أغني على قمتي العاليهْ) و(وأعرفُ أنَّ الرعودَ ستمضي...) و(وأنَّ الزوابعَ تمضي... / وأنَّ الخفافيشَ تمضي... / وأني أنا الباقيهْ...).

في المعنى:

تستمر الشاعرة في الكشف عن حقيقة نظرة المجتمع للمرأة، وحين تكرر استخدام (يقولون) فذلك يشير إلى أن الشاعرة تعني القريب قبل البعيد، كما تعني المجتمع على وجه العموم، فقولها: (يقولونَ: / إن الأنوثةَ ضعفٌ / وخيرُ النساءِ هي المرأةُ الراضيهْ) أي ينظر المجتمع الشرقي إلى المرأة على أنها أنثى، ومن أبرز خصائصها أنها ضعيفة، وعلى هذا الأساس فإن أفضل النساء تلك التي ترضى بخاصيّة الضعف هذه، لكي تبقى أسيرة ضعفها وخضوعها للرجل، وقولها: (وإنَّ التحررَ رأسُ الخطايا / وأحلى النساء هي المرأةُ الجاريهْ) أي إن المجتمع يرى أن تحرر المرأة هو أكبر الذنوب و العصيان والخطايا التي يمكن أن تقترفها، وعلى هذا الأساس فإن أفضل النساء تلك التي ترضى أن تكون عبدة وجارية ومستلبة من كل حق لها في التحرر من العبودية، وقولها: (يقولونَ: / إنَّ الأدبياتِ نوعٌ غريبٌ

 / من العشبِ...ترفضهُ الباديهْ / وإنَّ التي تكتبُ الشعرَ / ...ليستْ سوى غانيهْ!!) أي إن المجتمع الشرقي ينظر إلى المرأة الكاتبة على أنها نوع غريب من النساء عليه، فهي مرفوضة ولا مكان لها في ذلك المجتمع، لأنه يرفضها كما يرفض ترفض البادية أن تنبت فيها عشبة غريبة عن طبيعتها وبيئتها، كما أن المجتمع ينظر إلى المرأة التي تكتب الشعر على أنها كالراقصة التي تعمل في الملاهي الليلية!!، وقولها: (وأضحكُ من كلِ ما قيل عني / وأرفضُ أفكارَ عصر التنكْ / ومنطقِ عصر التنكْ / وأبقى أغني على قمتي العاليهْ) أي تضحك الشاعرة ساخرة من كل ما قيل عنها، ومن كل ما يمكن أن يقال عنها، وهي المبدعة الكاتبة الشاعرة ترفض تلك الأفكار المحنطة عن المرأة، وترفض المنطق الذي يحكم أفكار ذلك العصر المتحجر، وهي تترفع عن تلك الأقوال البالية البائدة الوضيعة، وتختار الغناء على القمة المرتفعة حتى يبلغ صوتها المدى، معبرة عن نداءات أعماقها بألحان التحرر من العبودية، وقولها: (وأعرفُ أنَّ الرعودَ ستمضي... / وأنَّ الزوابعَ تمضي / ...

وأنَّ الخفافيشَ تمضي / ...وأني أنا الباقيهْ...) أي إن تلك الأقوال التي يهدف أصحابها إلى النيل من المرأة الكاتبة وما تثيره من أصداء في الأوساط الاجتماعية الخاصة والعامة ماضية وزائلة، كما تمضي الرعود والزوابع والخفافيش، وتبقى الجبال القوية الراسخة، فإن المرأة الشاعرة التي تمثلها الشاعرة سعاد الصباح كالصخرة القوية الراسخة الباقية، والأقوال بحقها ماضية كهبوب الرياح.

المنطق وأدوات الربط:

يحتاج القارئ في هذه الفقرة من التطبيق لمنهج النقد الاحتمالي إلى مراجعة المقدمة النظرية التي توضح المقصود بالمنطق، كأحد أهم الأسس التي يعتمدها المنهج مستفيداً من الربط بين المنطق الأرسطي خاصة، والمنطق الرياضي، وبين القصيدة التي تتشكل من تراكيب تتضمن جملاً خبرية يمكن النظر إليها كقضايا، كما يمكن النظر إليها كأحداث، مستفيداً من علم الاحتمالات ونظرياته، كما يبين أهمية الترتيب للقضايا منطقياً، ويبين أهمية أدوات الربط فيما بينها، وسأطبق ذلك على هذا الجزء من الفرع الثالث:

تقول الشاعرة:

: (يقولونَ

إني كسرتُ رخامةَ قبري...

وهذا صحيحْ.

وإني ذبحتُ خفافيشَ عصري...

وهذا صحيحْ.

وإني اقتلعتُ جذورَ النفاقِ بشعري

وحطمتُ عصرَ الصفيحْ

فإن جرحوني...

فأجملُ ما في الوجودِ غزالٌ جريحْ

وإن صلبوني. فشكراً لهمْ

لقد جعلوني بصفِّ المسيحْ...)

أولاً: تحديد القضايا

نلاحظ أن الأسلوب في هذا الجزء خبري، والجمل الشعرية التي يمكن اعتبارها قضايا قولها: (إني كسرتُ رخامةَ قبري...) هي صورة ذهنية تعتمد على الرمز، وتمثل قضية حملية موجبة، الموضوع فيها (المرأة)، والمحمول (كسرتُ)، ومن حيث الدلالة فهي دلالة عقلية، والشاعرة هي مصداق المرأة التي تمثل مفهوماً ذهنياً، و(رخامة القبر)، كناية عن القيود التي يفرضها المجتمع الذكوري على المرأة كالقبر الذي يدفن فيه الميت، وقولها: (إني ذبحتُ خفافيشَ عصري) هي صورة ذهنيّة تعتمد على الرمز أيضاً، وتمثل قضية حملية موجبة، الموضوع فيها(المرأة) والشاعرة مصداق المرأة والمحمول فيها هو(ذبحت)، والدلالة عقلية، وأداة الربط بين القضيتين هي (وَ)، والتركيب الشعري يشكل قضية مركبة من قضيتين بينهما أداة الربط (وَ)، أي [(كسرتُ) (وَ) (ذبحتُ)]، وهذه القضية يمكن اعتبارها حدثاً مركباً من حدثين بينهما أداة الربط (وَ)، وهذا الحدث المركب يحدث إذا وفقط إذا حدث الحدثان معاً، (كسرتُ) وَ(ذبحتُ) وهنا سنجد أهمية أداة الربط بين القضايا البسيطة للحصول على قضية مركبة، وقولها: (إني اقتلعتُ جذورَ النفاقِ بشعري) هي قضية حملية موجبة، والمعنى فيها ذهني، أما الدلالة فهي عقلية، والموضوع فيها (المرأة)، ومصداقها الشاعرة نفسها، والمحمول فيها هو(اقتلعتُ)، وقولها: (حطمتُ عصرَ الصفيحْ) هي قضية حملية موجبة، الموضوع فيها المرأة ومصداقها (الشاعرة) والمحمول هو (حطمت) والمعنى ذهني، أما الدلالة فهي دلالة عقليّة، ويمكن اعتبار التركيب الشعري قضية مركبة من قضيتين بينهما أداة الربط (وَ)، أي [(اقتلعتُ) وَ(حطمتُ)]، وإذا لا حظنا أن هذه القضية المركبة ترتبط مع القضية المركبة السابقة بأداة الربط (وَ)، أي [(كسرتُ) وَ(ذبحتُ)](وَ)[(حطمتُ) وَ(اقتلعتُ)]، وهكذا يمكننا اعتبار التركيب الشعري.

 

 مفيد خنسه

 

في المثقف اليوم