قراءات نقدية

سحر ماهر احمد: جماليات التشكيل الزمكاني في رواية: بلدة في علبة (3)

المبحث الثاني: تحليل زمكانية العمل الروائي

المطلب الأول: زمكانية الأمكنة المغلقة

أولًا: زمكانية الخيمة

تعد الخيمة من الأمكنة التي احتلت موقع الصدارة في رواية "بلدة في علبة"، فهي المكان الذي يحتضن الحكايات جميعها، حيث يأتي وصف الخيمة على لسان سلام: "انتهى الحوش إلى طارمة مسقفة بحصر القصب وجذوع النخيل، مسيّجة بسياج خشبي بطول المسافة بين قدم الرجل البالغ وركبته، مفروشة ببسط جنوبية كثيرة الألوان، بثت عليها وسائد لها سمات البسط، ركنت إلى الجدار لتكون متكأ في ديوان جدي أو خيمته.. عبرنا إلى الطارمة الواسعة. تركنا شير علي واتجه إلى الموقد العامر بالدلات.."(1).

لم تكن هذه الخيمة كأي خيمة، يصفها السارد: "حولت رأسي إلى صندوق أخبئ فيه الحكايات العجيبة الغريبة الساحرة التي كانت تتناسل في خيمة جدي المنصوبة تحت سقف الليالي، فباركتها السماء وألقت على كتفيها بردة من الأمن والأمان والنية الصافية، وانحنت كي تفيض عليها بضوء مصابيحها الدانية.."، ويكمل "لم تكن مثل تلك الخيام التي ينصبها البدو فوق مرايا الرمال، هي كما أرها في الصورة الآن، طارمة في بيت جدي، صباحًا تكون لنا نحن أحفاده ملعبًا، وفي الليل يقصدها السامرون.. تتخلق الحكايات في رحمها، فتصير الخيمة سكنًا. وفي الليل أيضًا تفوح منها رائحة القهوة، التبغ، الهيل، والنعناع.. صيفًا تفتح الخيمة زيقها لنسيم الشمال، وتخلع عن جيدها شالها لتغري القمر، فيضع طاقيته إذ يراها، ويلقي برأسه في حجرها.. شتاءً تلوذ الحكايات بموقدها، تتلفع عباءة دفء تحال بنار أغصان الغضا.."(2).

ويتحدث أيضًا عن مواقيت افتتاح الخيمة وانتهائها: "فللحكايات مواقيتها التي لم تنل منها خيول الزمان. ميعاد أولاها بعد صلاة العشاء، وميعاد أخراها حين يرفع قطار الليل عقيرة صافرته.."(3).

لكن زمانها يختلف في رمضان: "لكن مبتدأها في رمضان يكون بعد الفطور بساعة، ومنتهاها بساعة قبل السحور"(4).

ويصف جده في الخيمة فيقول: "شتاء كعادته يعد له شير علي متكأ قبالة الموقد كي يدفئ ذاكرته، وكعادته ايضًا يؤجج نار الموقد بملقط من حديد، ثم يدور على السامرين بالدلة والفناجين ليسقيهم القهوة المهيلة التي كانت تقلص وجهي، وتجبرني على إغماض عينيّ كلما تجرعت فنجانًا مقلدًا الرجال".

أما صيفًا فيتغير الحال: "صيفًا يترك شير علي جدي على راحته، يخليه يجلس قدام باب خيمته المشرعة، لعل نسيم الشمال يرطب ذاكرته، وقدامه يتبختر القمم بمعطفه الأسود بين الدلات النحاسية التي تنث عطر الهيل، فيمطر في صدور الرجال.. ثم تبدأ طقوس الحكايات، لفائف التبغ تطلق أفعوانها والفناجين ترقص بين أصابع شير علي، وأكف السامرين تلاعبها قبل أن يحستوها, وما أن تطفأ ذبالة إحدى اللفائف، حتى يدور على السامرين كيس التبغ ثانية، فيلف كل رجل لفافته، ليشارك في نسيج غلالة الدخان الشفيفة المحلقة فوق الرؤوس، بيضاء مثل غيمة في الربيع، لتكتسي الحكاية بحلة هيبتها، بعدها ينبري مَن يملك صوتًا رخيمًا ليطلب من السامعين الصلاة على النبي.. عندها يتنحنح جدي، يفتل شاربه المستباح بخيل المشيب، يجس لحيته التي تشي بتراكم السنين، يتلبث مثل صياد يخشى نفور الطريدة، تمد العيون العديدة، أسباب ضوء إلى فمه، ويلقي إليه الرجال بأسماعهم، فيرفع زير الحكايات رأسه، وينهمر غيث الحكي.."(5).

ثانيًا: زمكانية المدرسة

المدرسة هي ميدان التربية والتعليم، وكثيرًا ما تسهم في فتح آفاق رحبة وجديدة بالنسبة للمتعلم، حيث انتقل سلام من مدرسته في الشامية إلى مدرسة المنصور الابتدائية في مدينة السماوة، وكان حينها في الصف الرابع الابتدائي، يصف لنا سلام كيفية استعداده للذهاب إلى المدرسة، حيث يقول: "... وكان ذلك اليوم آخر يوم استمتع فيه بالنوم إلى الضحى، فقد أيقظتني أمي في الصباح الباكر، وبعد أن انتهت من ترتيب أختي زينب، أجلستني في الطشت، غسلت رأسي بصابونة الرقي، دعكت جسدي بالليفة، أرمستني بالماء الدافئ، مشطت شعري، وقصت أظفاري، ثم البستني القميص الأبيض الجديد، وحشرت ساقيّ في البنطال الرصاصي، وزنّرت خصري بالحزام، وخنقت قدميّ بقيطان الحذاء (أبو جزة)، ثم أوقفتني أمام المرآة..."(6).

ثم يصف سلام لقاءه بمدير المدرسة الذي لا يختلف عن مدير مدرسته السابقة في طريقة التعامل، وتعرفه بعد ذلك على صباح وعادل، ثم يتذكر سلام أصدقاءه في مدرسة الشامية، لكنه سرعان ما ينسجم مع باقي التلاميذ في المدرسة، حيث استعاد سلام ثقته في زمكانية المدرسة بعد تعرفه على صباح وعادل، وقد وصف سلام المدرسة التي تقع ملاصقة بمقبرة الخاتونة(7)، يقول: "لعبنا في ساحة المدرسة المتربة، التي تتوسطها سارية العلم العراقي المنتصبة في ساحة كرة السلة المفروشة بالاسمنت. واصطدنا بعض الجراد من الحديقة المزنرة بزنار من شجيرات الياس، المزدانة بالورد الجوري، والتي تفصل بين الساحة والصفوف المشطورة إلى قسمين بالممر المكشوف المؤدي إلى رواق الإدارة والمخزن وغرفة المعلمين.. القسم الذي يقع إلى يمين الممر يتكون من الصفوف الأول والثاني والثالث، والقسم الذي يقع إلى شماله يتكون من الصفوف الرابع والخامس والسادس. وكل فصل مشطور إلى شعبتين ألف وباء، وكل شعبة لها شباكين يطلان على مربع مفروش بسجادة من (الثيل) الذي تتوسطه شجرة سدر عملاقة.. في صفنا كان الزعيم عبد الكريم قاسم يتبسم لنا ويحينا في صورته المعلقة على ارتفاع نصف ذراع من هامة السبورة، التي علقت خارطة العراق إلى يسارها، وصورة الهيكل العظمي للإنسان إلى يمينها.."(8).

ويصف لنا سلام المدرسة في الشتاء، يقول: "كنا في أصباح الشتاء الباردة نصطف في ساحة المدرسة لتأدية طقوس رفع العلم التي تستهل بدعك الأكف والطبطبة على الأفخاذ لجلب الدفء إلى أجسادنا المقرورة"(9).

ثالثًا: زمكانية السينما

تعد السينما من الأمكنة التي لديها دلالة نفسية واجتماعية وسياسية، وقد جاء الحديث عن السينما في طفولة سلام في الشامية، حيث كان مولعًا بالأفلام السينمائية وخاصة الأفلام الصامتة لشارلي شابلن، يقول: "حدث ذلك يوم كنا بمدينة الشامية حين جاءت سيارة السينما المجانية المعروفة باسم (سينما بلاش)، التي كانت تأتي من بغداد على مكث، تحت سماء المدينة المضاءة بثريا النجوم.. هناك توقفت السيارة المتبوعة بمظاهرة من الأولاد والفتيان.. ترجل منها بضعة أشخاص، أنزلوا جهازًا أسودًا مكوننًا من بكرتين تشبهان عجلتي الدراجة الهوائية الصغيرة، ثبتوه على حامل خاص.. تطوع ولد أكبر مني سنًا فأخبرني أن ذلك الجهاز يسمى العارضة، ثم تطوع مرة أخرى ليخبرني أن قطعة القماش البيضاء التي نشرها أصحاب السينما تسمى الشاشة، وعلى تلك الشاشة شاهدت لأول مرة في حياتي رجلًا قصيرًا لفت انتباهي بقبعته، شاربه، عصاه، حذائه.. كان الرجل يتحرك بشكل على قطعة القماش البيضاء، يقوم بحركات مضحكة، يقفز، أو يرقص،..."(10).

لقد استعادت ذاكرة سلام زمان الطفولة والبراءة في الشامية، وزمكانية السعادة التي تبعثها سيارة السينما المتنقلة والتي تعرض أفلامًا دون أي مقابل.

ثم يذكر لنا سلام سينما بلدة السماوة (سينما الشعب)، وكانت تسمى سابقًا بـ (سينما الأمير عبد الإله)(11)، والتي تختلف عن (سينما بلاش)، حيث الدخول فقط مقابل مبلغ من المال، وتقسيم كراسي السينما حسب الأوضاع الاجتماعية للأشخاص، يقول: "كانت تلك السينما التي ما تزال صورتها الخارجة من العلبة توًا ساخنة في يدي قد بنيت على مساحة كبيرة في طرف المدينة المفتوح على الصحراء، لتكوّن هي وسكة القطار وثكنة الشرطة الخيالة، الحد الفاصل بين نهاية العمران والبر الشاسع، وقد شطرت بنايتها الكبيرة التي تبدو لعين الرائي من بعيد كظهر حوت خرافي إلى قسمين يلتقيان بمدخل واحد، ويفصل بينهما ممر واحد.. النصف الصيفي المطل على سكة القطار مكشوف لأعين سماء الصيف الزاهية بحيث يمكن للقمر والنجوم مشاهدة ممتعة للفلم، ولكنه أحيط بجدران عالية لا يمكن أن تتسلقها أعين الفضوليين الراغبين بمشاهدة مجانية، وقد شطر هو الآخر إلى نصفين، النصف الأعلى المبلط بالأسمنت، والمؤثث بكراسي جيدة نسبيًا، يرتفع بمقدار يمكن أنظار الجالسين فيه من اجتياز رؤوس الجالسين في النصف الأسفل، الذي خصصت مقدمته كصالونات للنساء اللاتي غالبًا ما يكُنَّ من نساء العصمليين، والموظفين الكبار، والعائلات المترفة,.. بينما خصصت مؤخرته للمشاهدين من الرجال، وقد أصطلح على تسميته بـ (لوج أو السبعين)، لزيادة تذكرته ثلاثين فلسًا على تذكرة النصف الأسفل المعروف بـ (أبو أربعين)، وهو النصف الذي رصت على أرضه الترابية قدام الشاشة الجبسية المبنية على الحائط الجنوبي باتجاه البصرة تخوت حازت على لقب المخضرمة، لأنها عصرت العهدين الملكي والجمهوري،.. يئن خشبها لعتيق تحت عجيزات المشاهدين"(12).

أما السينما في الشتاء: "قاعة كبيرة مسقفة بالصفيح المحدب، والمبطن بالخشب والقماش، وهذه القاعة مقسمة أيضًا إلى قسمين، القسم الأعلى أو (اللوج)، الذي خصصت مقدمته للعائلات والنساء ومؤخرته للرجال، القسم الأسفل الذي تنقل إليه تخوت القسم الصيفي بعد أن يضب الصيف خيمته ويرحل لترصف قدام شاشته القماشية المثبتة على الحائط الشمالي باتجاه بغداد.."(13).

لقد ارتبطت السينما بزمكانية الطفولة الجميلة عند سلام، والتي يتذكرها بالمكان والزمان، والأحداث، ففي مساء كل يوم يختفي قرابة نصف المدينة للذهاب إلى السينما والتي تعرض الفيلم مرتين، وكان الواقفون يمثلون سياجًا بشريًا يحيط بالجالسين، يقول: "يبدأ العرض عادة بصورة للزعيم عبد الكريم قاسم، حين تختفي صورة الزعيم من الشاشة، تبدأ الفقرة الإعلانية التي تستهل عادة بدعاية لدهن الطبخ المعروف باسم زبيدة... ثم تظهر سلسة من مقدمات الأفلام التي ستعرض قريبًا، تعقبها استراحة قصيرة، ثم يبدأ عرض الفلم، فتتسمر العيون على المستطيل الأبيض..."(14).

ثم يتحدث لنا سلام عن أفلام الكاوبوي (رعاة البقر)، وأفلام طرزان التي كانوا يقلدونها هم وأصدقائهم، وتتعالى أصواتهم كما يفعل طرزان.

لقد حملت السينما علامات زمكانية الفرح والسعادة والحب الذي انتشر عبر جنباتها، والتي انكشف على أساسها مدى تعلق سلام بحضور فيلم قبلة سبارتاكوس، والذي يمثل أول حب طفولي له من ابنة جيرانه أمل(15).

المطلب الثاني:

زمكانية الأمكنة المفتوحة

أولًا: زمكانية المدينة

المدينة هي الزمكان الجامع لأعداد كبيرة من البشر، وهي القابلة للتغير والتطور، حتى إننا لا نجد سجلًا بصريًا بالغ الدقة يضاهيها فهو سجل متحرك يقبل الجديد دائمًاـ فكل حلقة جديدة تزيد من التداخل الزمني في المدينة، وتثري فيها التفاصيل الدقيقة إلى درجة أنها تمثل السجل الاجتماعي.

وبناءً على تلك الأهمية الكبيرة للمدينة في الحياة الاجتماعية، والتاريخية، والسياسية، والاقتصادية وغيرها، فإنها تؤدي في الرواية دورًا شديد الأهمية، حتى أصبح يمكن القول بأنَّ الرواية هي ابنة المدينة، حيث يشكل تصويرها، والكتابة عنها، محورًا أساسيًا في تصوير الزمكان المعيشي الواقعي الذي تتواجد داخله جميع أصناف المجتمع، الرجل والمرأة، الفقير والغني، الجاهل والمثقف،... إلخ، وهذه الرواية الأم للرواية، وغالبًا ما يكون للمدينة أثر عميق في وعي الروائي، إذ يتفاعل معها معايشة، وتذكرًا، وتخيلًا.

أكد باختين أنَّ العلاقات الزمانية – المكانية مخترقة بالواقع المعيش والحياتي للأفراد، وعلى هذا الأساس فهي تدخل في نسيج وعيهم ولا وعيهم، لذا يبقى الإنسان تحت تأثير وفائه للمكان الذي ألفه. وفي رواية "بلدة في علبة" اهتم سلام بأدق خصوصية من تفاصيل الحياة اليومية التي تتميز بها مدينته، حتى صوَّر لنا إحدى الليالي الرمضانية وصواني الزلابية والبقلاوة، والباعة المتجولون، يقول: "ليالي رمضان السماوية ليالٍ جميلة، تزداد فيها نوافل الصلاة، الخشوع، القنوت، الدعاء،.. موائد الإفطار التي تبدأ بالتمر واللبن، وتبادل الأطعمة والعصائر والحلويات بين العوائل المتجاورة.."(16). والتي على الرغم من مرور الأزمنة عليها، بقيت محافظة على ترسيخ هذه العادات باعتبارها قيمًا اجتماعية جميلة تعبّر عن أصالة الأسرة السماوية.

ويكمل متحدثًا عن المسحراتي: "... ولا يتوقف إلا عندما يحين وقت المسحراتي، أو (أبو طبيلة) كما يسميه السماويون، وهو مصطلح يطلق على مجموعة من الشباب، يجوبون شوارع السماوة وأزقتها بعد منتصف الليل بساعة أو ساعتين، يقرعون الطبول، الصنوج، الصفائح الفارغة، كي يوقظوا النائمين للسحور"(17).

ثم يتحدث بشكل مفصل عن ليلتي القدر والعيد، ويصف لنا المعاناة في الحصول على مكان للاستحمام في الحمامات العامة، فيقول: "أصعب ما كنا نعانيه في ليلة العيد، هو الحصول على مكان في حمام السوق، رغم وجود ثلاث حمامات كبيرة في السماوة، هي حمام عفريت، حمام الفرات، الحمام الحسيني، والتي تخصص فترة الصباح للرجال، وفترة العصر للنساء، لكنها في ليلة العيد تستمر باستقبال الرجال حتى الصباح، ولأنَّ أبناء القشلة تعودوا على الاغتسال في حمام عفريت، فقد كنا في ليلة العيد ننتظر إلى ما بعد منتصف الليل، كي يخفف الزحام قليلًا ثم ندخل الحمام للاغتسال، بعد أن نكون قد اشترينا كيلو برتقال من ابن ورواش البقال لنأكله في الحمام،... وبعد أن أجهزنا على كيلو البرتقال، ونشفنا أجسادنا بشكل جيد خوفًا من البرد، وشربنا الدارسين، خرجنا من الحمام، وعبرنا الجسر باتجاه أهلنا في القشلة"(18).

ويستحضر لنا سلام الزمان الذي ينزلن فيه الفتيات القشلاويات إلى النهر لإشعال الشموع فيقول: "وقبيل الغروب حين تميل الشمس من التطلع بمرآة النهر، وتخبئ وجهها خلف جدائل النخيل وعباءات الصفصاف، تنزل البنات القشلاويات إلى شاطئ القشلة، يشعلن شموع الغائب، ويتركنها تنزلق على أمواج النهر على قطع صغيرة من الخشب، وما أن تذوي ذوبالاتها حتى يحلق قمر سماوي ينضوي عباءته ويلقي بها على كتفي الفرات، فيأخذه النهر بأحضانه ويشتبكان في عناق طويل قدام أعين النجوم، تحمر وجنتا القمر حين يسامره شباب السماوة وهم يفترشون رمال القشلة.."(19).

فهي مدينة لا تشبه باقي المدن، يصفها فيقول: "وبعد تلك الزيارة، عرفت أنَّ السماوة هي سليلة الوركاء التي خلعت الآلهة عليها الخُلع، فخرجت على قومها بزينتها الموشاة بالبردي والقصب، باركها إله الماء الذي تسوق إليه الرواسي نذور الشتاء، تعمم رؤوسها بعمائم الثلج، ولا تكشفها إلا لشمس الربيع، عندها يتحرر الماء من قيود الصقيع، فيهبط نازلًا من أعالي الجبال، فرحًا بحرية تختال على صهوات الربيع، لتردفه خلفها وتنطلق به إلى مرابع الدفء التي في الجنوب، فيغمر الفيض نهر الفرات..."(20).

ثم يكمل الوصف قائلًا: "والآن يتركها تستغشي ثوب الزمان، ليحكي عن سليلتها يوم استوت ما بين ماء وصحراء. أعدَّ العراق لها في بلاد السواد متكأ، وباركها مَن كانت سفينته تطفو على الماء، فتلفعت بعباءة خضراء. حملت على هودج النخل، زُفت إلى النهر، فاحتفى النهر بعروس البادية، التي لآبارها هفت قلوب أهل المدر، ولنهرها هفت قلوب أهل الحضر، وعلى صدرها ألقى الفرات برأسه المتعب، فطوقته بذراعين موشومين بالسدر، والتوت والرمان والعنب.. ثم استراحت على مطرح الخصب بين الرمل والماء، وغفت في خيمة الله المطرز سقفها بالنجوم.. قمر فضي يضعن في ليلها، وشمس ذهبية تحلق فوقها في النهار، وهي الفارعة الممشوقة المحلولة الشعر، الرافلة بثياب الواحات على طريق القوافل الساربة في الصحراء.."(21)، ويقول: "الوركاء غرة في جبين سومر. والسماوة غرة في جبين الجنوب"(22).

ثم يصف لنا زمان التحول على مرّ السنين الذي حصل للسماوة، فيقول: "تعاقب على الأخذ بزمام المدينة رؤساء العشائر، وتناسل في باديتها اللصوص وقطاع الطرق، وصارت نهبًا للغزاة، الذين يعبرون رمال النفوذ الفاصلة بين بادية السماوة وبادية الحجاز، وبقيت السماوة هي ناقة الصحراء الجلدة الصابرة.. أعوام مرت، ومرت أعوام، والبلد في مدٍ وجزر بين العافية والاعتلال، لحس لسان المال أذرع المحتاجين، فانتفخت بطون، وضمرت بطون..."(23). وما لبث إن تغير حال البلدة: "حتى تذكرها الرحمن، فامتدت يده الرحيمة لتنتشل السماوة من جب النسيان، تمسح جراحها وتمنحها البركة، الخير، العافية، الأمان .. أمنت البلدة بشرًا، أرضًا، دورًا وبساتين،... أورقت الأشجار، تفتحت الشقائق، رقصت السنابل، شمخ النخيل... ارتاح الفرات من عنائه، نصب أرجوحته بين شطري المدينة، وبسط ذراعين موشومين بأشجار الغَرَب، الصفصاف، السدر، اليوكالبتوس... وكلما ضج ليل السماوة بأصوات الوحوش في الأدغال، والأجمات، ضج نهارها بأصوات الباعة النخاسين المغنين، الخطباء، الشعراء..."(24).

ويذكر في موضع آخر من الرواية زمكانية المدينة التي تحولت عبر قرون حتى أصبحت ما عليه الآن، حين غيّر النهر مجراه (25).

وقد بقي سكانها أوفياء لهذه العادات التي لها ارتباط وثيق بتقاليد وعادات هذه المدينة العريقة في الزمان والمكان،" مثل مواكب عاشوراء، بعد أنْ ينتهي عيد الأضحى: "والذي ما أن تمر أيام على انتهائه حتى تتشح المدينة بالسواد استعدادًا لاستقبال شهر محرم الحرام، حيث تحيي المدينة ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-... حيث يقيم السماويون مواكب عزاء عاشوراء ابتداءً من اليوم الأول من محرم حتى العاشر منه، ومن المواكب الكبيرة في السماوة موكب الحاج مجللي في منطقة القشلة..."(26).

وما أكّده سلام من خلال الإشارة إلى الثقافة التي ينتمي إليها والتي تشكّل في الوقت نفسه، جزءًا من تجربة الحياة اليومية التي تركتها الأجيال السابقة إرثًا يعبّر على نوعية العلاقة التي تجمع الفرد بالمجتمع الذي ينتمي إليه من جهة، ومن جهة أخرى علاقته بالبنية الثقافية والحضارية التي لها دور في إعطاء زمكانية الرواية خصوصية تكشف عن أهمية التاريخ بالنسبة لشخصيّاتها.

وفي إطار هذه الدلالة يمكن اكتشاف حركة الزمان الماضي الذي يستدعيه سلام ممّا يحتفظ به في ذاكرته، والذي يتمّ استحضاره في شكل صور متلاحقة لإسعاف اللحظات الراهنة وهو يمسك بصورة أحد معالمها التي اشتهرت بها في علبة الصور وهو الجسر العتيق، "هذا هو الجسر العتيق، قلادة جيد السماوة، وهذا النهر المسافر نحو الجنوب، الشمس تسبح فيه بالنهار، وفي الليل يسبح فيه القمر، السماء تسكب فوق أمواجه زرقة، والنخيل يلقي على كتفيه عباءة من الخوص، وهو يسير الهوينا، يلحس رمل الشاطئ، يمسح طين الجوالي الفرات المقدس الذي كان لآلهة الماء عرشًا، ولكهنة المعابد مغتسلًا وشراب، السفن القادمة من الهند تمخر فيه، الأعلام تخفق في قمم الصواري، الأشرعة نوارس خرافية.. الصيادون يسحبون الشباك المليئة بالأسماك، يفرشونها على سجاجيد الشاطئ.."(27).

ويصف حركة الجسر وكيفية عمله في إطار حديثه عن البواخر الكبيرة، فيقول: "كانت السفن الآتية من القرى المنتشرة على ضفاف الفرات محملة بأبناء العشائر ونسائهم وأطفالهم وحيواناتهم ودجاجهم، توقظ الجسر في الصباح بصخب محركاتها، جالدة الشاطئ بسياط الموج، وهي ترسو على ضفة النهر اليمنى في القسم الشرقي من المدينة، كما تقطع قيلولته حين تعود بهم ظهرًا إلى قراهم وهم محملون ببضاعتهم التي كانوا يبتاعونها من سوق السماوة الكبير. حين ينفصل رأس الجسر العتيق عن صدره مثلما ينفصل خصره عن ساقيه.. كان (الجسّار) وهو الرجل المكلف بعملية قطع الجسر يمسك بعتلة البكرة الكبيرة ويبدأ بإرخاء السلسلة التي تربط الجزء المتحرك من الجسر فتتحرك (الدوّب) الوسطية لتنفصل مفسحة المجال للسفن بالمرور، ثم يعيد الجسار شد السلسلة ولفها ليضم الجسر الجزء الذي انفصل ويعود إلى هيئته الأولى، ليعبر عليه الناس والسيارات التي كانت تنتظر انتهاء مرور السفن"(28).

بنى السارد هذا الملفوظ على أساس الجمع بين ثنائية: الفرد/ الذاكرة بوصفها "علامة فارقة تدفع بالشخصية إلى أنْ تتعامل مع واقعها على نحو متميّز وفريد"(29).

فالواقع الذي يعيشه سلام حافل بأسرار الزمان الماضي لمدينته التي كانت طرفًا في حبه للسماوة... "ليل السماوة بلون ثياب الثكلى، وقمر السماوة بلون خدود العذراوات، وسماء السماوة تغيير ألوانها في عيون المتضرعين للدعاء"(30).

أخذ وصف السماوة منعطفًا آخر، حين يقول الشيخ النوري: "شوف .. السماوة كما أتخيلها على شكل بجعة، أو نعجة ماء كما تسموها أنتم أهل الجسر هو الرقبة، والجناحان هما الغربي والشرقي، وذيل البجعة هو الأرض المفتوحة ناحية الصحراء.."(31).

الملفوظ مفعم بعلامات المكان: الجسر، الصحراء، الغربي والشرقي.

إنَّ مدينة السماوة كانت لسلام بمكانة زمكانية مدينة هي الذاكرة المثقلة بالآمال والأوجاع والآهات، وهي صندوق الطفولة الجميل الحافل، ومنه يستحضر صورة القشلة التي كان يسكنها ونهر الفرات، يقول: "ولي في صندوق الطفولة صورة أخرى، عندما يقصر ثوب الفرات في الصيف، تسبح الأسماك الصغيرة التي نسميها (الحرش) في المياه الضحلة، نشد أنا وصباح ومجيد وعادل دشاديشنا ونجعلها كالشِباك لنصطادها ونحملها إلى أمهاتنا كي تصنع منها خبز الحرش.."(32).

ثانيًا: زمكانية الصحراء

اعتنى حامد فاضل برسم عالم تخييلي مرتبط بعادات ومعتقدات أهلها، وتقديسهم لهذا المكان متعلق بكينونتهم وإيمانهم به، فقد أنتجت الصحراء العربية أساطيرها وخرافاتها الخاصة بها مثلما فعلت ذلك مناطق جغرافية أخرى من العالم، هذا ما جعل الصحراء مكانًا متميزًا عن الأمكنة الأخرى.

ومن بين العناصر الدالة على تميز هذا المكان، نقله لوصف الصحراء كما ذكرها والده، يقول: "كنا نتمدد على مطرح الرمل بلا وسائد، نغرس مرفقينا في خاصرة خرجينا، وقريب منا راحلتينا تجتران، وأنت تعلم أن الليل الصحراوي برغم وحشته جميل، فوقنا سماء حلّت في واحتها قوافل النجوم، وقمر منير اعتلى منبره وراح يلقي خطبة الضوء على كائنات الرمال.. نسيم الليل البارد..."(33).

ويتحدث عن قلعة الهيس في صحراء السماوة في حوار الشيخ النوري مع سلام: "أتدري مَن أول من بنى هذه القلعة الجاثمة على عشرة دونمات من الرمال المسفوحة من منطقة دياحيم؟

ولأني لا أدري فقد بادرني بالجواب:

الجن يا صاحبي هم أول من شيد القلعة بأمر من الملك سليمان. انظر قدامك ما تبقى من سورها الشاهق العظيم، ثم انظر جدران أبراجها العالية، ألا ترى أنها ما تزال تشق ثوب الرمال وترتفع بأربعة أمتار كي تظل برؤوسها لتتمرأى بمرايا الصحراء، وحين تحل بفنائها الشمس، تنشر عباءات ظلالها على ما حولها من رمال، ثم أرجع البصر إلى الأفق، مصدر القوافل والضيوف والغزاة وعابري السبيل.. ها هي قبالتك أبراج القلعة المتينة بعرض ثمانية أمتار تتوسطها حجرات مشيدة بالطابوق المشوي. كانت تستخدم لإيواء الحراس والمحظيات والرعاة والعبيد، وفيها مخازن الطعام والسلاح.."(34).

ويكمل حديثه عن كيفية جلب الماء للقلعة، يقول: "نعم سر القلعة، وهو قناة تحت الأرض، هي الحبل السري الذي يربط بين بركة القلعة وبين نهر الفرات، وهي التي يستسقي منها أهل القصر في حالة حرب أو حصار..."(35).

ثالثًا: زمكانية السوق

إن قارئ الرواية يرى، بوضوح تام، كثافة وصف الفضاء الروائي، على اختلاف مركباته، بحيث نكاد نلمس بعض معالمه، فالروائي يعمل على التأثيث المكاني ليحمل دلالات عدة تبوح بدور هذا المكان وموقعه الاجتماعيّ، ودوره في إبراز مَن عليه من بشر. وقد حظي السوق بحيّز واسع منه، إنّه سوق عامر أشبه بالأسواق التي قرأنا عنها في "ألف ليلة وليلة"، وفي حكاياتنا الشعبية"، يصف سلام حركة بيع القرويين في المدينة في سوق الوقفة، يقول بعد نزول القرويين من السيارات: "فتقف لتفرغ حمولتها من البشر، الحيوانات، الطيور، الحبوب، السمن.. وما أن يترجل منها القرويون، حتى يهرع إليهم المشترين البائعين، ويحدث الهرج والمرج في المكان المسمى بالوقفة بعد أن تزدحم بكائنات سفينة نوح من الرجال والنساء، الغنم والمعزى، الثيران، والأبقار الصغيرة، البط والإوز والدجاج، الحنطة والشعير والرز والذرة، والسمن الحيواني"(36).

إنَّ الإشارة إلى ذكر السوق جاءت في سياق ذهاب سلام لبيع عصير البرتقال يقول: "كنت واحدًا من المستفيدين من أيام الجمع والعطلتين الربيعية والصيفية من أمة سفينة نوح، حيث كانت أمي تملأ لي سطلًا من الماء الممزوج بالصبغ الأصفر الفاقع والسكر، يحمله شير علي ويسير قدامي إلى الوقفة، فأتبعه حاملًا بضع كأسات وصحيفة فارغة أجلس عليها في انتظار سفينة نوح، حتى إذا اصطدمت السفينة بجذع النخلة، واستوت على أرض الوقفة، ارتفع صوتي بالنداء: عصير برتقال بخمسة فلوس. فإذا انفضت الوقفة بعد ساعة زمان، يمم القرويون شطر دكان أبي حُمَيد أقدم عطار في السوق الفوقاني والذي يجدون عنده كل ما يفكرون بابتياعه حتى لو فكروا بلبن العصفور، بينما أعود بسطل فارغ وجيب مملوء، فتسمح لي بلعب الكعاب أو الدعبل مع مجيد وعادل وصباح حتى يحين الزوال وهو موعد عودة القرويين إلى ديارهم حيث يتكدسون في السيارة مع ما ابتاعوه من التبغ، ودفاتر لفائف السكاير، والقماش والحبال، والسلاسل، والفؤوس والمناجل والدواء وصفائح النفط وكل ما يحتاجونه من المدينة، فأعود إليهم مرة أخرى لأبيعهم أقراص النعناع، وهي الحلوى المفضلة عند أولادهم.."(37).

وقد حفل السرد بنقل كل تفاصيل البيع والشراء، وإبداء رأي سلام حول جريان الزمان في هذا المكان. فالمكان لم يخل من زمان ينتشر عبر زواياه، ويتعلق الأمر بزمان التدفق السريع للقرويين على المدينة التي تلبي حاجيات مرتاديها من القرويين.

وترد إشارة أخرى إلى السوق في وصف سلام للسوق المسقوف في مدينة السماوة، يقول: "وقد دخلت ها أنذا كما أراني أمر بدائرة البريد، ودائرة الاستهلاك، وكتاب العرايض، ومعرض سنجر لمكائن الخياطة، ودكان مليح الاسكافي، وبائع التبغ الحاج محمد عنون، لأصل إلى التقاطع الأول للسوق الذي تستهل جهته اليمنى بدكان عبد ولَّو بائع شربت الزبيب، الذي تقابله مقهى محمد، ثم أدخل إلى مطعم الكباب الكبير لصاحبه محمد (الكبابجي)، وإن اجتزته فسأكون قدام مقهى صيادي السمك، المعروفة باسم مقهى عفريت.. أما الجانب الأيسر من التقاطع فيستهل بمطعم كباب عزوز الكائن في بداية سوق القصابين.. كم أحببت الرجل بائع عصير النومي بصرة الذي أراه في الصورة الآن وهو واقف وسط السوق، وقد بانت ذوائبه البلق من تحت طاقيته وهو ينادي بصوت لا يقلد: برِّد كلبك... سلسبيل!

وعلى بعد خطوات منه تقف عربة أبي الحلاوة الدبسية وقد تحول ذراعه إلى بندول وهو يطرد الذباب عن صواني الحلاوة بواسطة عصا قصيرة ثبت في رأسها مجموعة من الشرائط الورقية..."(38).

يُخيل لنا وكأننا نرى ونسمع ما يحدث في وسط السوق، وحركة الباعة، بالزمان والمكان، فهو يصف لنا زمكانية السوق بكل براعة.

ثالثًا: زمكانية المقهى

يعد المقهى أحد الأمكنة المفتوحة التي تعكس الواقع الاجتماعي، فهي أكثر الأمكنة المقصودة لجميع الفئات الاجتماعية كمكان يستقطب الجميع للقاءات العامة، كما يمثل المقهى بؤرة اجتماعية لها دلالاتها الخاصة في الرواية العربية، التي وجدت في هذا المكان علامة دالة على الانفتاح الاجتماعي الثقافي، وأنموذجً مصغرًا لعاملنا، فهو بيت الألفة العام الذي "يستوعب الجميع، ويحتوي الجميع دون شروط مسبقة، ودون مواعيد مسبقة"(39).

اقترنت تيمة المقهى بذلك المكان الذي يعجّ بالأشخاص الذين يفضّلون ارتشاف فنجان قهوة يتجاذبون فيه أطراف الحديث في شتى المسائل، بل لم تعد مقترنة بالمساء الذي يرتبط بوقت جلوس مرتاديه، وإنّما تحوّل إلى رمز يحمل الكثير من الدلالات التاريخية التي ساعدت على قراءة علامات الزمان المتفاعلة مع المكان.

وقد تفنن حامد فاضل في وصف مقهى عبود أو مقهى النقائض: "سور، جدر، أجذاع، قصب، حصر.. كوخ شيد بمثابة مقهى، بين الشط وبين البستان، حيث الجسر الحديدي المعلق فوق مطرح النهر المزنر بالنخل، العنب، التين، النبق، التوت، الرمان. يسمح للعابرين بسلق رواد المقهى بالنظرات، والمقهى الذي واحد من مقاهي الصوب الصغير بلا لافتة، أو عنوان.. كان أبي يسميه مقهى النقائض. وكنت أسميه مقهى عبود، نسبة إلى اسم مالكه عبود، الرجل العجوز القادم من الحلة هو وزوجته الخبازة زهرة الحلاوية"(40).

ثم يصف لنا أحوال المقهى في الصباح والمساء، يقول: "أعترف أني أدركت موائد مساءات سكارى المقهى، العامرة بالعرق والبيرة والمزات، وأدركت تخوت صباحاتها المكتظة بعمال المسطر، الذين يحتسون الشاي وهم يتناولون إفطارهم من الخبز الحار والقيمر الذي تبيعه الدبيات، وحين يُعد الضحى للشمس متكأ، أرى المسنين، المتقاعدين، المحاربين القدماء، يحملون هموم أمة العرب على أكتافهم ويلقونها في مقهى النقائض"(41).

هذا المقهى الشهير تسمع فيه جميع الأخبار، "يخنقهم السعال وهم يدخنون اللفائف، ويمسحون بيشاميغهم ما يسيل على ذقونهم من لعاب، يروحون بمهفات الخوص وهم يخوضون في تحليل أخبار راديو لندن التي استمعوا لها في أثناء الليل.. يعيدون عبارات جمال عبد الناصر، يلعنون أمريكا ويمتدحون الاتحاد السوفيتي، ثم يطلقون آهات نكسة حزيران"(42).

وفي وقت الضحى يأتي الحلاق شنان، "وهو يحمل في يمناه حقيبة تحتوي على عدة الحلاقة وفي يسراه (التنكة) التي يجلس عليها من يرغب بحلاقة رأسه أو ذقنه..."(43).

وفي الظهيرة يأخذ صاحب المقهى قيلولة وعندها: "تتحول المقهى إلى حانة رخيصة، بعد أن يغادرها إلى البيت عبود، حيث يأوي إليها الثلاثي المدمن عطا الله، عباس راشد، هاشم سعيد، يشاركهم صناع المقهى بالشرب والرقص... ثم تتحول إلى ورشة للوشم بعد مجيء الواشم حسين كسكين،... عصرًا أرى وأنا أمر بالمقهى جلاسًا من المثقفين السياسيين من أدعياء الثقافة السياسة..."(44).

وفي الليل تتحول إلى نادٍ ليلي، يقول: "انتشرت الموائد والكراسي في عتمة البستان، وتغيرت المقهى عنوانًا وجلاسًا لتمسي ناديًا ليليًا على مرأى من القمر السماوي الخجول"(45).

فمقهى عبود هي مقهى الفقراء والكادحين الحالمين بغد  أفضل وعالم أجمل، وهو يختلف عن بقية مقاهي القشلة، كمقهى الشيخ هادي المختصة بالفلاحين ومربي الجاموس، أو مقهى كاظم المترفة المختصة بأقارب المقيمين في الكويت، أو مقهى كامل المختصة بالشقوات والفارين من الجيش، أو مقهى جميل المختصة بأغاني الهجع(46)..

وهنا إشارة واضحة إلى طبيعة التركيب الطبقي لسكان المدينة، مالكي  الثروة  والجاه،  في جانب مالكي  قواهم  العضلية والفكرية  في الجانب الآخر.

لقد اقترنت ثيمة المقهى بذلك المكان الذي يعج بالتناقض، يحمل الكثير من علامات الزمكانية. يعد المقهى في الرواية إحدى العلامات المكانية البارزة، فهو المكان الذي يستقطب كل الناس على اختلاف مستوياتهم، وانتماءاتهم.

خاتمة:

لقد بنى الروائي حامد فاضل روايته بصورة محكمة، إذ قام بتشكيل فضاء مدينة السماوة الغنيّ بحضارته وثقافته، وأشبعه وصفًا، بحيث جعل القارئ يحسّ بمكانة هذه المدينة وأهميّة دورها التاريخي والحضاري.

فكرة العنوان (بلدة في علبة) فكرة جميلة من قبل الروائي، حيث جعل منا وكأننا نقرأ رواية ونرى فيلمًا في آنٍ واحد .

تتجلى قدرة الروائي وفرادته في رسم عوالم متكاملة أشبه بلوحة فنية قابلة للتشظي، كلما نظرت إليها اكتشفت بعدًا جديدًا فيها، فتحوّلت السماوة، من مجرد مدينة، إلى رمز للمكان الأوسع والأشمل، وهو العراق بأكمله.

نلاحظ حضور دور الأديب الشاعر الفصيح والشعبي والقاص.

تؤرخ الرواية لأحداث مفصلية شهدتها مدينة السماوة.

تطرح الزمكانية في رواية (بلدة في علبة علاقة الروائي بالتأريخي، بحيث تتوارى الرواية كنص إبداعي معاصر مع المكان التأريخي الذي يقتحم العوالم الروائية متلبسًا ببعده الزماني.

تكشف الرواية عن جملة من علاقات الصراع المكاني التي تعيشها الشخصيات الروائية، لعل أهمها: صراع الأنا والآخر، وصراع الحضارات، والقهر والاستبداد.

***

د. سحر ماهر أحمد

.......................

(1) بلدة في علبة، ص48-49.

(2) بلدة في علبة، ص50.

(3) السابق، ص50.

(4) السابق، ص181.

(5) بلدة في علبة، ص51-52.

(6) بلدة في علبة، ص63-64.

(7) انظر: بلدة في علبة، ص64.

(8) بلدة في علبة، ص65-66.

(9) السابق، ص70.

(10) بلدة في علبة، ص203.

(11) بلدة في علبة، ص212.

(12) بلدة في علبة، ص204-205.

(13) بلدة في علبة، ص205.

(14) السابق، ص206-207.

(15) انظر: بلدة في علبة، ص213-214.

(16) بلدة في علبة، ص182.

(17) السابق، ص182.

(18) السابق، ص183.

(19) بلدة في علبة، ص166.

(20) بلدة في علبة، ص30.

(21) السابق، ص30.

(22) السابق، ص33.

(23) السابق، ص41.

(24) بلدة في علبة، ص42.

(25) انظر، السابق، ص226.

(26) السابق، ص184-185.

(27) بلدة في علبة، ص165-166.

(28) بلدة في علبة، ص171.

(29) إيمان عبد دخيل، عدنان حسين العوادي، الزمكان في رواية جبرا إبراهيم جبرا، مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانية، المجلد 18، العدد4، ص941.

(30) بلدة في علبة، ص18.

(31) بلدة في علبة، ص154.

(32) السابق، ص166.

(33) بلدة في علبة، ص106-107.

(34) السابق، ص107.

(35) السابق، ص108.

(36) بلدة في علبة، ص145.

(37) بلدة في علبة، ص145-146.

(38) بلدة في علبة، ص156.

(39) شاكر النابلسي. جماليات المكان في الرواية العربية، (د.ن)، (د.ط)، 1994م، ص199.

(40) بلدة في علبة، ص217.

(41) بلدة في علبة، ص218.

(42) بلدة في علبة، ص218.

(43) بلدة في علبة، ص218.

(44) بلدة في علبة، ص218.

(45) بلدة في علبة، ص219.

(46) بلدة في علبة، ص220.

 

في المثقف اليوم