قراءات نقدية

جيل دولوز وفيليكس غوتاري: إكثار السلسلة (2)

ترجمة: صالح الرزوق

طبعا لم ير كافكا نفسه كما لو أنه حزب، ولم يتظاهر أنه ثوري، مهما بلغت درجة تعاطفه مع الاشتراكيين. وكان يعلم أن كل الخطوط تربطه بآلة تعبير أدبية، وكان هو بالمثل مكونا فيها: الميكانيكي، المشغل، والضحية. ولكن كيف تواصل مع هذه الآلة المفردة التي لم ينتفع من نقدها الاجتماعي، ولا كان بمقدوره الانتفاع منها؟. كيف يمكنه صناعة ثورة؟. كان يشغل اللغة الألمانية وهو في شيكوسلوفاكيا. وباعتبار أنها، لعدة اعتبارات، لغة دون أرض، كان عليه دفع فقدان الأرض نحو الأمام، ليس من خلال الكثافات، والالتواءات، وزيادة سمك اللغة، ولكن من خلال الوعي الذي يدفع اللغة لترحل بخط مستقيم، وتأمل أو تنتج جزئياتها. على التعبير أن يجرف المضمون، ويجب أن يحصل ذلك مع الشكل. ويؤدي هذا الدور إكثار (أو توغل) السلسلة في "المحاكمة". بما أن تاريخ العالم ناجز فعليا، ليس بسبب العود الأبدي، ولكن بسبب ضغط جزئيات هي دوما جديدة، ودوما قاسية، سوف يزيد من سرعة التجزيء، سرعة إنتاج الأجزاء هذه. وسوف يشكل سلسلة مقطعة، وسوف يضيف إليها. وبما أن الآليات الاجتماعية والجماعية تقود إلى إلغاء أرض الإنسان على نحو كبير، دفع كافكا هذه السيرورة لمسافة أبعد، حتى نقطة إلغاء مطلقة لمجال الجزيء. فالنقد عديم الفائدة تماما. والأهم أن ترتبط بالحركة الأخيرة والتي هي فعليا حقيقية، حتى لو أنها غير موجودة ولم نصل إليها (يوقف المحافظون والبيروقراطيون دائما الحركة في هذه النقطة أو تلك). وهذا ليس تشاؤما سياسيا، ولا هو مبالغة أدبية أو نوع من أنواع الخيال الفني). وهذه الطريقة في تسريع الأجزاء أو التوغل والإكثار تربط المتناهي، والمتماسات، والمتواصل، وغير المحدود بعضها ببعض. ولها منافع عديدة. فأمريكا موجودة في تطور صلابة ونشر رأسماليتها. وتفكيك الإمبراطورية النمساوية وصعود ألمانيا مهد الطريق للفاشية. والثورة الروسية أنتجت بسرعة بيروقراطية جديدة وغير مطلوبة.

طرق قادت إلى محاكمات جديدة

nouveau proces dans le processus.

"معاداة للسامية انتشرت بين أفراد الطبقة العاملة"، وهكذا. إنها رغبة رأسمالية، رغبة فاشية، رغبة بيروقراطية. ثاناتوس أيضا - كل شيء يدق على الباب. وبما أننا لا نستطيع الاتكال على الثورة الرسمية للتخلص من الترابطات المترسبة بين الأجزاء، علينا أن نتكل على الآلة الأدبية التي تنتظر التكاثفات، والتي ستتغلب على السلطات الشيطانية قبل أن تنوجد. الأمركة، الفاشية، البيروقراطية - كما قال كافكا: هي ليست مرآة ولكنها رقابة سريعة (6). وبما أنه ليس في أيدينا طريقة لرسم تمييز واضح بين القامع والمقموع أو بين الأنواع المختلفة للرغبة، علينا أن نمسك بها كلها في مستقبل محتمل جدا، ونحن نأمل كل الوقت أن هذا العمل سيقدم إلينا خطوط الهرب، خطوط الموكب الزاحف، وحتى لو أنها متواضعة، ولو أنها مترددة، وحتى وبالأخص حتى، أنها ذات معنى. وهذا يشبه قليلا الحيوان الذي يكون فقط نتيجة الحركة التي تضربه، وتدفعه لمسافة أبعد، كي تحثه على العودة إليك، وليواجهك، وليجد مخرجا. ولكن في الحقيقة لقد دخلنا عالما مختلفا تماما عن التحول إلى حيوان. من المؤكد أن التحول إلى حيوان هو طريقة لتحفر بها مخرجا، ولكن التحول إلى حيوان ليس قادرا على المثابرة القلبية الصادقة. ومن المؤكد أن التحول إلى حيوان يفرض ضياعا للأرض بشكل مطلق، ولكن ببطء بالغ ومن طرف واحد فقط. فهو يسمح لنفسه لاحقا باسقوط في الأسر، واستعادة الحيز، والعودة إلى المثلث. وتبقى الحيونة قضية عائلية. بقوة السلسلة أو الأجزاء، نرى شيئا آخر، أكثر غرابة. فحركة فقدان الإنسان لأرضه، حتى تشعر به الآلات الضخمة، ونتجاوز به الاشتراكية والرأسمالية أيضا، سوف يضع السلطة بيدها لتكون بأقصى ما يمكن وهي تتحرك على طول السلسلة. وبعد ذلك تعمل الرغبة بحالتين متعايشتين: من جهة سوف تسقط في ذلك أو في تلك الجزئية، في هذا المكتب أو ذاك، هذه الآلة أو تلك، أو في حالة الآلة. ستكون ملحقة بشكل هذا المحتوى أو ذاك، وتتبلور بشكل هذا التعبير أو ذاك (رغبة رأسمالية، رغبة فاشستية، رغبة بيروقراطية وهكذا).  من جهة أخرى وبنفس الوقت، تتحرك للهرب على كامل الخط، محمولة بتعبير متحرر، وحاملة معها محتويات مشوهة، حتى تقترب من عالم غير محدود قوامه حقل محتم وجاهز، أو حقل عدالة، بحثا عن مخرج، بالضبط باب للخروج. وتكتشف في هذه الأثناء أن الآلات هي ترسبات رغبة أوجدها التاريخ، وأن تلك الرغبة لا تتوقف عن إبطالها، فترفع رأسها (الصراع ضد الرأسمالية، الفاشية، البيروقراطية - صراع أقوى مما لو أن كافكا أنفق وقته ليكون ناقدا). حالتا الرغبة المتضامنتان هاتان هما حالتا القانون.

من جهة هناك القانون المتسامي المصاب بالبارانويا، والذي لا يتوقف عن تحريض جزئية متناهية حتى تصبح موضوعا كاملا، ومتبلورة في كل أرجاء المكان. من جهة مقابلة هناك القانون الشيزوفراني الملح الذي يعمل مثل العدالة، وضد القانون، وهي "عملية" سوف تفكك كل تركيبات القانون المصاب بالبارانويا. ولأن ذلك، والكلام مكرر، هو كل شيء بخصوص اكتشاف تركيبات المحتم وتفكيكاتها. ولتفكيك تركيب آلي عليك أن تصنع، وفعليا أن تأخذ خط هروب لا يمكن للحيونة أن تأخذه أو تصنعه. فهو خط مختلف كليا. فقدان أرض مختلف كليا. ولنتفق أن أحدا لا يقول بوجود هذا الخط في الروح فقط، وكأنه يقرر أنه ليس آلة فقط، وأنه ليس فعلا، حتى حينما يكون مستقلا عن النشر. كما لو أن آلة الكتابة ليست هي أيضا آلة (وليست بنية متفوقة على غيرها، وليست أكثر إيديولوجية من غيرها)، وأحيانا تأخذها الآلات الرأسمالية أوالفاشية أو البيروقراطية، وأحيانا تتبع أثر خط ثوري متواضع. والآن لنلاحظ فكرة كافكا المستقرة: حتى بالنسبة للميكانيكي المنعزل، تكون آلة التعبير الأدبي قادرة على توقع أو تكثيف الموضوعات في ظروف، بأسوأ وأفضل الحالات، تهم الجماعة كلها. إنها ضد الغنائية - "تفهم العالم" وتقوده ليباشر بالرحيل. وعوضا عن أن يهرب منه يحتضنه ويحتويه (7). ويمكن رؤية حالتي الرغبة أو القانون المذكورتين في عدة مستويات. وعلينا التأكيد على حقيقة هاتين الحالتين المتعايشتين لأننا لا نستطيع أن نقول مسبقا "هذه رغبة شريرة، وهذه رغبة طيبة". فالرغبة مزيج، خليط، لدرجة تكون فيها الأجزاء البيروقراطية أو الفاشية في قبضة القلق الثوري فعليا أو أنها دفينة فيه. وحين تكون متحركة فقط يمكننا تمييز "شيطانية" الرغبة و"قوتها"، لأن أحدهما يكون موجودا في أعماق الآخر. ولا شيء يسبق بالوجود أي شيء آخر. وبقوة توجهاته غير النقدية يكون كافكا خطيرا. ونستطيع القول ببساطة هناك حركتان متعايشتان، وكل منهما متورطة مع الأخرى. إحداهما تتضمن الرغبة ضمن تركيب شيطاني ضخم يجرف معه بحركة واحدة الخدم والضحايا، الرؤساء والتابعين، ولا يتولد عنه سوى ضياع كاسح لأرض الإنسان، وذلك بواسطة إعادة توطينه أيضا، إما في مكتب أو سجن أو مقبرة (قانون البارانويا).

وتدفع الحركة الأخرى بالرغبة لترتحل عبر كل التراكيب، ولتحتك بكل الجزئيات دون أن تستقر بأي واحدة منها، وتحمل معها دائما براءة سلطة الأرض المنتزعة والتي هي نفسها الهروب (قانون الشيزو). ولذلك يكون ل "أبطال" كافكا هذا الوضع الفضولي المتعلق بالآلات الضخمة وبالتركيبات: ومع أن ضابط "المستعمرة" كان في الآلة، أولا ميكانيكي يعتني بها، ثم ضحية من ضحاياها، ومع أن الشخصيات في الروايات تنتمي لحالة الآلة هذه أو تلك وإذا خرجوا عنها يفقدون كل وجودهم، يبدو أن كاف وعددا آخر من الشخصيات الذين يضاعفونه (قرائن له) هم دائما شكل من أشكال التجاور مع الآلة، ودائما بتماس مع هذه الجزئية أو تلك، ولكن أيضا دائما مرفوضون، ودائما هم في الخارج، ويتحركون بسرعة فائقة ولا يمكن "إمساكهم". على سبيل المثال كاف في "القلعة": حينما يكون صحيحا أن الرغبة بلا معيار مسبق، لا تمنعه رغبته المتوحشة لجزئية القلعة من احتلال وضع مستغرب يضطره للرحيل على طول خط مجاور.

التجاور - ذلك هو قانون الشيزو. وبنفس الطريقة، إن بارناباس الرسول، قرين كاف في "القلعة"، هو رسول فقط بطريقة معينة تلقائيا ولا بد أنه ينقل الرسالة بسرعة ملحوظة حتى لو أن هذه السرعة تلفظه من الخدمة الرسمية ومن وزنها الجزئي. وبنفس الطريقة، الطالب، قرين كاف في "المحاكمة"، لا يتوقف عن توجيه الحارس الرسمي باتجاه خاطئ، ويأخذ زوجته حينما ينقل الحارس رسالة ("مجددا بسرعة قصوى بالإضافة إلى أن الطالب كان هنا أمامي"). تعايش حالتي الحركة الاثنتين هاتين، حالتي الرغبة، حالتي القانون، لا تدلان على التردد، ولكن على تجريب عاجل سيفتح كل عناصر الرغبة ذات الأصوات المؤثرة، وبغياب معيار متسام. الاتصال والتماس هما بحد ذاتهما خط هروب نشط ومتواصل.

وتبدو حالتا التعايش بوضوح في الفقرة المنشورة من "المحاكمة" تحت عنوان "حلم". من طرف يوجد حركة انزلاق سريع ومرح أو فقدان للأرض ليصبح كل شيء مجاورا، حتى في اللحظة التي يبدو الحالم قد سقط في الهوة ("الممرات هناك كانت ملتفة جدا، وممهدة دون براعة وغير عملية، ولكن الانزلاق في أحدها يجعلك كأنك تنجرف بسرعة في تيار دون أن تفقد وضعيتك وتوازنك"). ومن طرف آخر هناك هذه الممرات، والتي هي جزئيات سريعة بالتساوي وتقودك لحظة بعد لحظة إلى إعادة توطين مميت للحالم (كومة التراب البعيدة - تقترب فجأة - وحفارو القبور - فجأة، الفنان - وارتباك الفنان - وكتابة الفنان على الضريح - والحالم الذي يحفر حفرة في الأرض - وسقطته).

بلا شك، هذا النص يلقي بعض الضوء على النهاية الزائفة لل "المحاكمة"، إعادة توطين كاف في جزئية قاسية، مثل "صخرة منفلتة".

حالتا الحركة هاتان، حالة الرغبة أو القانون، تظهران مجددا في المثال الذي بدأنا به، صور ورأس منكس. وبما أن الصورة شكل من أشكال التعبير وتعمل على نحو جيد بصفة واقع أوديبي، وذاكرة طفولية، أو وعد بالشراكة، فإنها تمسك الرغبة في تركيب يعمل على تحييدها، ويعيد توطينها، ويبترها من كل ترابطاتها. وتؤشر لخسارة التحول. وعليه شكل المحتوى الذي يترادف معها. وكان الرأس المحني علامة على الاستسلام، إشارة تدل على من وقع عليه الحكم أو حتى من يصدر أحكاما. ولكن في "المحاكمة" نواجه سلطة صورة متوغلة ومتكاثرة، سلطة البورتريه، سلطة الخيال. ويبدأ الإكثار في البداية، من صور غرفة فراولين بورستنير (السيدة بورستنير) - صور لديها السلطة لتحول من ينظر إليها (تحتوي الناس في الصورة أو البورتريه، لأنهم عرضة لسلطة تحويلهم). من صور السيدة بورستنير، ننتقل إلى صور فاضحة في كتاب القاضي، ثم إلى صور إلزا التي يعرضها كاف على ليني (كما فعل كافكا بصور فيمر في أول لقاء مع فيليس)، ثم السلسلة غير المحدودة لتصاوير تيتوريلي، والتي يمكن لنا أن نقول عنها، على نمط بورغيس، وأنها تتضمن العديد من الاختلافات فيما بينها لأنها متطابقة بشكل مطلق (8). باختصار البورتريه أو الصورة التي تؤشر لنوع من أرض الرغبة الصناعية أصبحت الآن مركزا لقلق حالات وشخصيات، ورابطا يكثف حركة فقدان الأرض. تعبير يتحرر من شكله الخانق ويأتي بتحرير مشابه للمحتويات. في الحقيقة استسلام الرأس المنكس يرتبط بحركة الرأس الذي ينتصب أو الذي يندفع إلى الأمام - من القضاة، الذين تنحني ظهورهم تحت السقف ويعملون على طرد العدالة من الصورة، وحتى فنان "حلم" الذي لا "ينحني مع أنه عليه أن ينحني نحو الأمام" بمحاولة كي لا يمشي على تراب القبر. وتكاثر الصور والرؤوس تفتح سلسلة جديدة وتكتشف مناطق غير مصورة تمتد إلى حقل المحتم غير المحدود.

***

.....................

الهوامش:

6- يانوش. 143.

7- مرجع سابق. 45:"يمكنك أن تقول المزيد عن الانطباعات التي تلهمك إياها الأشياء بالمقارنة مع الأشياء والذوات نفسها. هذا شعر غنائي. أنت تعانق العالم، ولا تقبض عليه".

8- بالمثل، في "القلعة، بارناباس يقارن "عدة لوحات عن كيلمان"، وتجليات مظهره المفترضة، ويرى الفروق أنها كلها مقلقة لأنها بحدودها الدنيا ولا يمكن ملاحظتها ولا وصفها.

ملاحظة من المترجم:

يتبع غوتاري ودولوز في قراءة كافكا نفس الأسلوب الذي اتبعه أندريه بروتون في تحرير "البيانات السريالية"، وهو أسلوب لا يخلو من القفزات، وإعادة كتابة أدب كافكا. وأول ما يلاحظ على هذا الأسلوب إبعاد كافكا عن أزمته الروحية، وأزمة يهود القرن العشرين، والمشروع الصهيوني. وركز غوتاري ودولوز على نا يلي:

1- ابطال كافكا هم كافكا ذاته. ضحية لمجتمع رأسمالي وبيروقراطي، خيمت عليه الدعاية الفاشستية.

2- لم تكن لأبطاله أوطان خاصة بهم. ولكن لم يبحثوا عن إقامة وطن دائم. ولذلك كانوا بحركة دائمة - وهذا يرمز لفقدان الأرض.

3- وكل الشخصيات ضحايا لقوة مجهولة وغير واضحة ولم يعمدوا لتحديها وانتقادها واستسلموا لها وأصبحوا جزءا منها. ويرمز الباحثان لذلك بصورة الرأس المنحني. أما الرأس المرفوع فهو بدافع الفضول وليس التحدي ولا القتال.

4- هذه المعاناة تسببت بصدع روحي ومادي أهل كل الشخصيات لتعاني من الشيزوفرانيا.

5- لم تكن الشخصيات خارج أرضها فقط، ولكن غريبة عن لسانها. فكافكا شيكوسلوفاكي ويكتب بلغة ألمانية. وكان يهوديا ويعيش في مجتمع مسيحي.

6- هرب من هذا الوضع المعقد بالتخلي عن إنسانيته والتحول إلى حشرة ضخمة. وبذلك أصبح غير مسؤول عما يجري. وبنفس الوقت أصبح العالم كله وطنه ولم تعد هناك ضرورة للاختصاص ببلد له حدود سياسية أو جغرافية. ويؤازر هذا الهروب قوة الاستحواذ أو الامتلاك التي تفرضها البورتريهات ومشاهد الطبيعة الخلابة. فهي تستهلك الناظر وتمنعه من اتخاذ قرار أو موقف شخصي وتفرض عليه سلطتها (وكأنهما يبرئان أوديب من الذنب، ويقترحان أنه نفذ أوامر رغبة لاشعورية، فرضتها عليه أمه. وكن المؤكد أن الأم من تحتضن ابنها وتغذيه - الجنس الفموي - قبل أن يستقل عنها ويذهب بطريقه).

* ترجمة الفصل السادس من كتاب (كافكا: نحو أدب هامشي). ص53-62.

في المثقف اليوم