قراءات نقدية

يوسف علوان: رمزية الفضاء الروائي في رواية: الذباب والزمرد

للروائي عبدالكريم العبيدي

يعني الفضاء الروائي، في مفهومه الفني، مجموع الأمكنة التي تظهر على امتداد بنية الرواية، مكونا بذلك فضاءها الواسع الشامل الذي يبنى عليه العمل الروائي، ويلعب هذا الفضاء دوراً مهماً في تشكيل نسيج رواية "الذباب والزمرد" للروائي عبد الكريم العبيدي، بل هو العمود الفقري الذي يربط أجزاء هذا العمل بعضها ببعض؛ من شخصيات وأحداث، وأرضية الفعل وخلفيته، فهو مكان تخیلي قائم بذاته، صنعه الروائي لتمكين القارئ من معرفة شخوص الرواية ودقائق الحياة في الفترة المعنية بالسرد، وفي خلق المعنى على المستوى الدلالي، لإضفاء الدلالة على الحكایة، سواء تلك التي تم تصويرها بشكل مباشر أو تلك التي تُدرك بالضرورة، وبطريقة ضمنية مع كل حركة السرد الحكائية. ويؤكد العديد من الباحثين أن الفضاء الفني، يسعى إلى تكوين حالات نفسية خاصة داخلنا، وذلك من خلال جعله ساحة للاحداث لتتقدم من خلاله الصور والشخصيات، فيصور الواقع او الخيال الفكري بشكل فني يحفز القارئ او المتلقي على مواصلة القراءة.

وقد زخرت رواية "الذباب والزمرد" في أغلب فصولها العشرة التي تكونت منها، بسِفر عميق في تاريخ وحاضر مكان الرواية؛ وهذا ما يميز السرد الروائي عن ما يسجله التاريخ، في حدث ما أو مرحلة معينة، فالكثير من الكتاب يدّعون ان التاريخ يعجز في الكتابة عن هذا الحدث، مثلما تسجله الرواية من خلال السرد الذي يعتمد تسجيل الاحداث الصغيرة وتفاصيلها، ولذلك تجيء الرواية محملة بدقائق الأمور التي عانى الناس فيها من ويلات واشكالات تلك الاحداث، وهو ما يسمى ببواطن الأمور، بعكس التاريخ الذي لا يذكر إلا ظواهرها، التي لا تعنى أكثرها بهموم البسطاء من الناس، الذين تقع عليهم اهوال تلك الأحداث ومآسيها.

البصرة مدينة الحدث، وهي مدينة ذاقت ويلات حرب الاعوام الثمان، وكانت حصتها من الخراب أكثر من باقي المحافظات، ثم تناوب عليها الموت والاعتقال والتغييب بعد انتهاء انتفاضتها التي قتل وغيب فيها مئات الالاف، ثم الحصار الذي اجبر الكثيرين على بيع كل ما يملكونه، كذلك القمع الذي جعل الناس تتخوف من خطواتها وتنفسها وأطفالها، فأقل شبهة سوف تؤدي بهم الى الموت على أقل تقدير.

جهد الكاتب في تصوير الفضاء الروائي، الذي كان يلف شخوص الرواية، من خلال الأمكنة التي عاشت فيها والظروف التي كانت تقاسيها، وصور لنا أجواء ما بعد قمع الانتفاضة في البصرة حيث استعادت الأجهزة الأمنية انفاسها، وقامت بمطاردة كل المطلوبين من المساهمين في هذه الانتفاضة، أو حتى ممن لم يساهموا فيها، "لكن بيوت البصريين لم تكتف بكل هذه الآلام. كانت تئن ليلا على ابنائها المفقودين منذ نهارات الانتفاضة وما اعقبها من هجمات مسلحة، وكانت تنوء بأوجاع مراجعات دوائر الأمن والاستخبارات المذلة وما تتلقاه من اهانات وشتائم وتهم لا تحصى بالعمالة والاجرام".

لابد ان نشير الى عملية الاستهلال التي ابتدأ بها الراوي، عندما رسم لنا صورة فولكلورية لاطفال البصرة في العابهم الشعبية، التي يمارسها اغلب الاطفال في العراق، لعبة الشرطي والحرامي؛ وهي عملية حساب يقوم بها الاولاد لقياس قامتهم بواسطة أكفهم الصغيرة، من أسفل القدم حتى قمة الرأس وهم يرددون، مع كل شبر وبصوت مسموع: شرطي/ حرامي، شرطي حرامي.. وقد رمز من خلال صورة هؤلاء الأطفال في آخر عملية قياس قام بها طفل حليق الرأس، ان عدد اللصوص الصغار، وصل الى أحد عشر لصاً مقابل شرطيين! احدهما كان صبياً بديناً حافي القدمين، بينما كان الآخر أعور!.

ولا شك ان هذا العدد من اللصوص أمام الشرطيين الذي كان وصفهم، صورة مُرّةٌ وساخرة، فقد وصل عدد السراق اكثر من رجال الشرطة، وهذا رمز بتفشي السرقة والسراق في هذه المدينة العريقة التي شهدت ثورات اجتماعية اصلاحية كبيرة في تاريخها القديم.!

الوصف الذي نقرؤه عن شوارع البصرة الفارغة، وأماكنها التي يلفها الظلام والخراب شمل المباني التي دمرت وأحرقت، "دخلنا الى سوق المغايز ولم يصدمنا الاحساس بدخولنا الى مقبرة لا تختلف كثيرا عن مقبرة اليهود".

الهرب من الحاضر يتطلب استرجاع الماضي، عندما كان الناس يتمتعون بخيرات البصرة؛ تمورها ونخيلها، كانت تلك المواسم يترقبها الجميع؛ الفقراء ليعملوا خلال الموسم في تجميع التمر، والاغنياء أصحاب "الجراديغ" التي تُعد فيها هذه التمور للحفظ والتصدير. "في تلك النهارات الجميلة كانت كل أسرة تتحلق حول احدى اشجار النخيل. وتظل رؤوس افرادها ترتفع ببطء مع ارتفاع أبصارهم المشدودة الى "الكاصوص" الشخص الذي يتسلق جذع النخلة بحزام خاص" الصاعد بقفزات متوالية وسريعة باتجاه موضع العذوق في اعلى النخلة. لكن هذا الماضي فيه أيضا ما يؤلم، فيوم علقت جثث ثلاثة أشخاص مشنوقين، وبقيت معلقة في ساحة أم البروم طيلة النهار، كان أحدهم يهوديا، هؤلاء الثلاثة الذين اتهموا بالتآمر على أمن البلد ومجموعة من المحتشدين في الساحة تردد: "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة"! يذكرنا بما مرت به الجالية اليهودية في البصرة، يوم هجروا واتهموا بهذه التهمة، التي يبدو أنها جاهزة لتلصق بأي فرد غير مرغوب فيه! أيام الفرهود التي شملت يهود العراق ومن بعدها تسفيرهم الى اسرائيل! هؤلاء اليهود الذين كان لهم دور مشهود في بناء هذا البلد، اكثر ممن يدعوون الان حبهم له، من خلال خطبهم وشعاراتهم الجوفاء! "ما زلت يا أبي تهيم بنعيم زلخة رئيس محكمة الاستئناف وروبين بطاطا نائب رئيس محكمة البداءة، والمحامين منشي اسحق وابراهيم شاؤول. وكم مرة أبديت اعجابك بداود سيزائي وعزرا يامين وصالح حسقيل وزعمت انهم أشهر الأدباء اليهود". حتى قبورهم، التي بقيت في العراق لم تسلم من حقد البعثيين، على اهالي البصرة الاصليين من اليهود فقد "شيدت على بعض قبورهم فرقة حزبية، ثم تحولت المقبرة فيما بعد الى ساحة وسوق لبيع المواشي والخيول والأبقار فوطأت أقدام الحيوانات مع أقدام رفاق المهلب بن أبي صفرة القبور لتذكرنا بحكاية الهولوكوست"!

اتخذت هذه المقبرة مكاناً لأغلب شباب البصرة، للجلوس بين هذه القبور، وتناول المشروبات واقامة جلساتهم الليلية، فبين هذه القبور يجد هؤلاء الشباب الأمان، يمضون اغلب لياليهم فيها، وهم يشكون أمور حياتهم التي لا يستطيعون ان يعبروا عنها في أي مكان آخر! هذا الماضي الذي افتقده البصريون والألفة التي ضاعت منهم: "في الليل تختلط قهقهات السكارى مع حواراتهم وتتداخل أصواتهم الصاخبة مع شتائمهم، بينما تدق أصوات البكاء والنحيب أجراس الثمالة والانتشاء بين قبور اليهود. وتتلاشى وحشة المقبرة وظلامها المخيف".

هذه وحدات تكوينية ودلالية للنص الروائي، بوصفها أدوات إحالة مرجعية، لما سيشهده السرد من أحداث قادمة، هيئت له تلك الوحدات لأحداث الرواية التي قادت الشخصيتين المحوريتين في الرواية؛ "الراوي" – الذي لم نعرف له اسماً- و"أوسم" الى شقة بشير لأجل قضاء سهرة في تلك الشقة التي كانت مرصودة منذ فترة من قبل الأجهزة الأمنية باعتبارها "وكرا" لمجموعة تخطط لقيادة انقلاب ضد السلطة! رغم تحذير احد عمال فرن الصمون واشارته لهم بعدم دخول الشقة، غير انهم لم يدركا ما الذي كان يرمي اليه هذا الشخص، فتم اعتقالهما وضربهما، ومن ثم نقلا الى مكان مجهول، كل ذلك يجري وهما وسط ذهول مرعب عن السبب الذي دعا رجال الأمن إلى التعامل معهم بهذه الصورة المخيفة: "احاط بنا الملثمون وانهالوا علينا بالضرب والركل والشتائم، بينما رحنا نتقلب بين عصيهم وأحذيتهم الثقيلة مثل سمكتين أخرجتا من النهر تواً". تنوعت الأماكن في الرواية، ورمزت لحالة الضياع التي عاشها الناس في البصرة، في سنوات الحصار والجوع والقمع، وأساليب التعذيب التي مورست عليهم، وكيف كانت تربط الايادي بالـ"گنارة" وما يسببه التأرجح بهذه الصورة من ألم حاد في الكتف. ثم يبدأ الجلادون جميعهم بتعذيب المعتقلين بالكيبلات، ثم حملات الاعدامات التي كانت تجري كل يوم ثلاثاء، وما يعيشه السجناء بشكل عام، وبالأخص الذين حكموا بالإعدام في المحاكم الخاصة، واستمرار التعذيب اليومي لهؤلاء حتى صعودهم الى المشانق وتنفيذ أحكام الموت بهم، ومن ثم وصف ما سيفعلون بجثث هؤلاء المشنوقين من قلع أعينهم وبعض الأعضاء من جثامينهم، للاستفادة منها في مستشفيات بغداد!

تعددت الأجواء والصور التي ملئت بها فضاءات الرواية، وتوزعت بين الأماكن الحميمة التي مثلت ماضي البصرة الجميل، ومع الناس الذين عاشوه، أيام المحبة والألفة فيما بينهم، وبين الأمكنة التي حملت الموت ورائحة دخان الحروب، والخوف وانتظار الأخبار التي تحمل للناس، أخبار موت أبنائهم في حروب النظام العبثية، وسنوات الحصار التي فُرض على الشعب العراقي، حتى بات هذا الشعب يأكل خبز الحصار الأسود، وانتشار الأمراض ووفيات الأطفال الذين لم تتوفر لهم اللقاحات، التي منعت من دخول العراق، بسبب الخوف من تحويلها الى مواد لصناعة الاسلحة الكيمياوية، التي كان صدام يتوعد العالم بها، وحالات القمع التي ازداد النظام في ممارستها ضد أبناء الشعب، واتهام أي شخص يتفوه بمجرد تساؤل بتهمة الخيانة والموت بعدها، كل ذلك كان مرسوماً في نهاية الشخصية المحورية في الرواية "أوسم"، هذه الشخصية مع شخصية "الراوي العليم" شكلتا القطبان اللذين تتمحور حولهما الخطاب السردي، والأداة التي استخدمها الروائي لتصویر الأحداث، حیث لعبتا دورا رئیسا ومهما في تجسی-;-د فكرة الكاتب، وكانتا عنصرين مهمين في تسی-;-ی-;-ر أحداث العمل، خصوصا نهاية أوسم الدرامية التي انتهت بانتحاره، بعد أن وصلت حالته النفسية الى عدم قدرته على استيعاب ما يحصل له من جراء التعذيب، الذي تحمله في اعتقاله مرتين بسبب اعتقال أخيه "أزيريه" واعتقاله في شقة بشير مع الآخرين الذين اتهموهم بتشكيل حزب سياسي لاسقاط النظام، ودخوله مستشفى الشماعية ومن ثم استغلاله من قبل ادارة المستشفى للاستجداء وأخذ ما يحصل عليه المرضى من هذه المهنة التي يشرف عليها بعض مسؤولي المستشفى، وحالة الهلع والخوف التي دفعته الى الانتحار. استطاع الروائي عبد الكريم العبيدي في هذه الرواية ان يعيد لنا؛ نحن الذين شهدنا وعشنا مثل هذه الحالات التي حصلت في سنوات حروب صدام وأعوام الحصار، وكذلك للأجيال التي سمعت ولم تعش تلك المرحلة السوداء، مشاهد قاسية من سنوات الجوع والخوف والموت، ما زالت آثارها ونتائجها تعيش معنا حتى هذه الأيام، بل حتى بعد سقوط النظام البعثي، فأنظمة الحكم التي جاءت بعد التغيير، لم يعد يهمها حياة العراقيين، انهم حيتان فساد يرون أن كراسي الحكم هي فرصة لسرقة خيرات البلد وتسخير مصالح مواطنيه لمصلحتهم الشخصية التي لا تشبع!

***

يوسف علوان

في المثقف اليوم