قراءات نقدية

عصام البرّام: ميلان كونديرا.. عندما يرقص في رقصة الوداع

يظن البعض إن الكاتب والروائي التشيكي ميلان كونديرا هو روائي مثل أي روائي آخر، لكن المطلع على أغلب ما كتبه كونديرا وتحديدا في سنواته المتقدمة من عمره، هو سعيه ولجوءه الى فلسفة كتاباته الروائية، ليمنح فكرة الصراع مستويات متعددة من التداخل السردي الذي يأخذ شكل البناء الروائي.

إن ميلان كونديرا هو فيلسوف الأدب الروائي إن صح التعبيرـ فضلاً عن بقية الروائيين الآخرين الذين سبقوه من أجيال مختلفة ومن جيله أيضاً، لقد حظي كونديرا بتقدير واهتمام كبير من قبل النقاد والأدباء حول العالم، بسبب أسلوبه الفريد والمميز في كتابة الروايات، إذ تتميز رواياته بالفلسفة والأفكار المعقدة والأبعاد المتعددة، فهويتناول الشخصية ليمنحها جدلية التعايش مع حركة النص الروائي الذي يكتبه، كذلك يبتعد في محور الشخصية التى منحها شكلاً  للوهلة الاولى بأنها عادية هزلية أو لا مبالاية او هامشية ..الخ، ثم يفاجيء بها القاريء بغرائبيتها وعمقها الفلسفي ودلالاتها المتعددة.

بصفة عامة، كانت روايات ميلان كونديرا تحظى باهتمام كبير ليس فقط من قبل النقاد بل حتى المراكز الثقافية في العالم، حيث اشتهرت رواياته بالتفكير الفلسفي العميق الذي يتناول فيه العديد من المواضيع الإنسانية، وقد عُرف بتقديمه لتحليلات دقيقة للشخصيات والعلاقات الإنسانية والتعامل مع المواقف الحياتية المتشعبة.

ومن الجدير بالذكر أن الرأي الفردي للنقاد والأدباء قد يختلف في التقدير والتفسير، لذا يلجأ الكثير من الباحثين للأخذ بالدراسة المقارنة لرواياته واسلوبه مع من يماثل طروحاته الفلسفية داخل النص الروائي، كما يُعتبر كونديرا من الأدباء الذين تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات وانتشرت شهرته حول العالم رغم تأخرها بعض الشيء، وتُدرس أعماله في الجامعات والمدارس الأدبية، حيث تميّزت القراءات والتحليلات لأعماله بالإشادة بالأفكار الفلسفية المعاصرة التي يقدمها للعالم، والتي تتناول صراع الانسان المعاصر بين الحرية والتحرر والبحث عن كينونة الاشياء وصراع الوجود الأبدي وماهيته وغيرها من قيم إنسانية وبأسلوب سردي مميز، الذي ينقل القارئ إلى عوالم مختلفة تجعله أكثر التصاقاً بواقع يتوزع بين التمرد تارةً وبين البحث عن معنى الحياة المتجددة في عالمنا المعاصر.

وفضلاً عما تقدم، الى إن روايات ميلان كونديرا، غالبًا ما تتناول مواضيع غير تقليدية او رتيبة وتقدم تحليلات عميقة للشخصيات والمجتمعات العالمية والانسانية.

 ولكي نعطي تفسيراً أكثر دقة، يمكن تلخيص الأبعاد النفسية لرواياته بشكل عام، حيث إن روايات كونديرا غالبًا ما تتناول مشكلة الهوية الشخصية والوجدان البشري، وتبحث شخصياته في أسئلة مثل من أنا؟ وما هي أهدافي ورغباتي؟ وكيف يمكنني تحقيق السعادة؟  كما تمتزج العديد من شخصيات كونديرا بين العقلانية والجوانب العاطفية والجدل الفلسفي، إذ تتيح للقارئ فرصة التفكير في أفكار مثل الحرية والقيم والوجود والزمن، إن رواياته تستكشف العلاقات الإنسانية بأشكالها المختلفة، مثل الحب والصداقة والخيانة والغيرة، حيث يعرض كونديرا طروحاته بابعاد مختلفة واصوات متعددة،  وكيف يمكن أن تؤثر هذه العلاقات على الأفراد نفسياً وتغير مسار حياتهم، فضلاً عن، يصبغ أسلوب كتاباته بالسخرية والفكاهة تارة، فيقدم تحليلاته العميقة بلمسة من الفكاهة، مما يساعد في جعل قراءته أكثر تشويقًا ومتعة، وبالتالي تشجع رواياته القراء على التأمل والتفكير العميق في معاناة الإنسان والبحث عن المعنى في الحياة تارة أخرى، فالمتابع لروايات كونديرا  يعرف بكتاباته الفلسفية والأدبية التي تتطلب تفكيراً عميقاً واهتماماً بالجوانب النفسية للشخصية البشرية.

وللخوض في قراءة أحدى روايات ميلان كونديرا التي شكلت أهمية أدبية في عالم الرواية الفلسفية المعاصرة،  هي رواية "رقصة الوداع" التي تعتبر من ضمن أعماله الادبية المهمة والتي سلط الضوء عليها عدد من النقاد في العالم لما تمتلك من خصائص  في الهندسة البنائية السردية التي أبدع بها كونديرا، والتي نُشرت لأول مرة في عام 1994، هذه الرواية تتميز بالأسلوب الفلسفي والأدبي العميق الذي يُعتبر عملاً مميزًا لكونديرا، فهي عمل أدبي يشكل تحقيقًا أدبيًا معقدًا يتناول مواضيع فلسفية وإنسانية، كونها تركز على حياة الشخصيات الرئيسية فيها هما توماس وتيريزا، كما تتقاطع مع أحداث التأريخ السياسي في تشيكوسلوفاكيا، وانعكسات أحداث براغ عند دخول الاتحاد السوفيتي السابق عام 1968. الرواية تتحدث عن التناقضات في العلاقات الإنسانية والحب، وكيف يتأثر الفرد بالظروف الاجتماعية والتاريخية التي يعيشها، فيطح أفكاراً فلسفية حول الحرية والقدر وتأثير القرارات الفردية على مجرى الحياة، كما يتمثل الوداع في الرواية في مواقف الفراق والفهم العميق للحياة ومعناها.

يتميز السرد في الرواية عند كونديرا بالتشعب والتفاعل بين الأحداث والشخصيات، وتشكل الرقصة عنده رمزًا لتعقيد العلاقات وتلازم الحياة، حيث يستخدم كونديرا أسلوبه الأدبي بمهارة لاستكشاف الجوانب العميقة للحياة البشرية بمنظور فلسفي.

ففي هذه الرواية، يقدم ميلان كونديرا نظرة عميقة على التأريخ السياسي والاجتماعي، هذه المنحنيات منحت كتاباته البعد السياسي والاجتماعي والفلسفي في معترك الحياة، والتي أنعكست في روايته (رقصة الوداع) مما أضافت له تجربة غنية في معظم ما كتبه فيما بعد هذه الاحداث، خاصة بعد أن هاجر الى فرنسا والاستقرار فيها لمدة طويلة.

أما شخصياته وأبطاله، فأن كونديرا يتميز برسم شخصياته بعناية فائقة وإعطائها عمقًا جدلياً كأن الفلسفة هي ديدنه، فعنده  الشخصيات في الرواية، تمثل رموزًا لمفاهيم مثل الحرية والحُب والسلطة والوجدان، كما تمثل تجاربهم الشخصية لأبطاله تصاعد هارموني للصراع بين الفرد والنظام من جهة، وبين الأنا للبطل ومنظوره الفلسفي للحياة وصراعه معها بشتى الطرق، أوأي وسيلة يسعى من خلالها لأجل التغيير.

كذلك، فأن  كونديرا يقدم في رواية رقصة الوداع مجموعة من الأفكار الفلسفية حول الحرية والتفكير والوجدان والمسؤولية الاجتماعية، كما يتناول أيضًا التناقضات والصراعات الداخلية في النفس البشرية التي ما أنفك عنها بجدلية تسكن أبطاله بنزعة يخلط فيها الدراماتيكية المتوزعة بين الفرح والألم، أو التراجيدي والكوميدي.

وإذا ما عرجنا الى التدقيق والغوص أكثر في أسلوبه وحواراته والمنلوج الداخلي، فيضعنا أمام تساؤلات وجودية متعددة على لسان أبطاله، ذلك لأن كونديرا يستخدم اللغة بشكل جميل لتجسيد الأفكار الفلسفية والمشاعر البشرية، لينقلها الى المتلقي دافئة ناضجة عميقة المعنى قريبة من القارئ، وكأن يشعره بأنه قريب منه أي القارئ، ويفهم ما يريد منه القارئ، فهذه الرواية  تحديداً تتميز بالعديد من المقارنات والرموز التي تعزز من تعقيد الرواية، ولكن بالتعقيد الذي يعطيك التحفيز نحو متابعة سلسلة أحداثه بشكل تفاعلي متناغم ومتطور مع صعود الاحداث داخل البناء السردي للرواية.

وهو كغيره مثل أكثرالمبدعين الكبار في الرواية العالمية، يمنح القارئ التفافاً حوله، ويسعى لزرع بكل ما يملك من أدواته الابداعية التي يرسمها بيانياً في سطور روايته، لكي يقول؛ إن الإلهام جزء أساس وحيوي في جسد كل رواية،  ويريد  أن يلهم في رواية رقصة الوداع القراء للتفكير في القضايا الأخلاقية والفلسفية المعقدة وتحفيزهم على البحث في المعاني العميقة للحياة والإنسانية.

ولاشك، فأن ميلان كونديرا لا يخلو من الانتقادات، فاستخدامه المفاهيم الفلسفية العميقة تكون عصية أحياناً لبعض القراء، أضافة الى أنه يميل إلى التفكير العقلاني الزائد، مما قد يؤدي إلى إبراز جوانب باردة وغير عاطفية في رواياته، كما أنتقدت بعض الآراء السياسية التي طرحها كونديرا في أعماله، والتي قد تكون مثار جدل لبعض القراء.

بأختصار، إن رقصة الوداع هي واحدة من روايات كونديرا التي تبحث لفك عقد الحياة الساكنة في الروح البشرية، تقدم نظرة عميقة على الإنسانية والعالم السياسي والثقافي وصراعاته وجدلية الانسان، والبحث عن الاستقرار، إنها تحتاج إلى وقت لفهم وتقدير جميع الأفكار والرموز المدرجة فيها، وهي قراءة مثيرة للعقل الانساني ولمحبي الأدب الفلسفي.

***

د. عصام البرّام

في المثقف اليوم