قراءات نقدية

محمد كريم الساعدي: مسرح الشارع وتحديد المسار الاصطلاحي (2)

رؤية نقدية في مسرح الشارع

إنَّ المنظور الذي نتناول فيه هذا المصطلح يأتي من كون (مسرح الشارع) غير متفق عليه بسبب عدم الارتكاز على المعنى الحقيقي المستقى من هذا المصطلح، هل أن هذا المصطلح يعني المسرح ذو التوجه الخاص المختلف عن المسرح الذي يقدم في الأماكن الأخرى المغلقة أو المفتوحة لكونها محددة في بناية قد تكون سقوفها مفتوحة أو ما يشابه ذلك؟ أم أن المصطلح يطلق على التشابه الكامن بين عناصر العرض في المسرح عمومًا دون تحديد المكان الذي تقدم فيه العروض المسرحية؟، ومن ناحية أخرى، هل يأخذ هذا المصطلح حضوره المعرفي في أذهان الدارسين لهذه الظاهرة المسرحية في كون هذه العروض هي من أجل التسلية والمتعة من خلال الاستعراضات التي تقدم في أماكن مفتوحة مثل الاحتفالات بذكرى النصر، أو الاحتفالات الدينية وغيرها؟، أم أن هذه العروض لها غاية معينة قدمت على أساسها في الأماكن المفتوحة من أجل الإفلات من سلطة ما، أو جهة رقابية ما وغيرها؟ وإذا اختلف هذا المصطلح عن غيره من أنواع العروض المسرحية التي تقدم في الأماكن المغلقة، هل من الممكن أن يقسم إلى أنواع أخرى داخل التقسيم ذاته وحسب الغرض المقام لأجله؟ أم لا؟.

إنَّ الكتابات الجادة في هذا الموضوع قليلة نوعًا ما، أو موجودة بشكل مبعثر في عدد من المؤلفات التي لا تشير إلى هذا الموضوع بشكل مباشر ، لذا فإن الخوض في تحديد هذا المصطلح واشتغاله فنيًا، وما هو الغرض منه، يحتاج إلى تحديد أهم ملامحه وتتبعها من خلال ما كتب عنه بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر. وسنتناول في هذه الفقرة أهم ما يحدد مصطلح مسرح الشارع، وبعد ذلك نحدد وجهة نظرنا في هذا الموضوع ومدى اتفاقها أو اختلافها في تحديد المصطلح.

يرى كل من (ألان ماكدونالد، ستيفن ستيكلي، فيليب هوثورن) في كتاب يحمل عنوان المصطلح نفسه (مسرح الشارع )، في معنى مصطلح (شارع) بقولهم الآتي: " عندما نقول شارع فإننا نعني فعلياً: حقلاً، أو شاطئ بحر، أو أحد الموالد، أو كرنفالاً أو احتفالاً، وهذا يعني في الحقيقة: أي مكان لا تجد له أبواباً، حيث يتجمع الناس، إذ من الطبيعي أن يكون لك متفرجون " (1). من جهة أولى، هم يميزون بين كلمة الشارع واستخدامها العرفي، وبين ما يقصدونه من كلمة الشارع التي تعني مساحة مكانية يمكن أن تتحول إلى مساحة فنية يمكن تقديم عرض مسرحي عليها. ومن جهة ثانية: هم يميزون أيضاً بين المكان المسرحي الذي يحمل اسم الشارع وبين المكان التقليدي، أو بناية المسرح التقليدية من حيث المكان، أو ما يسمى بمسرح المكان المغلق، أو مسرح العلبة، أو أي مسرح يحمل ما يقابل المكان المفتوح في الشارع، على اعتبار أن مسرح الشارع يمثل المكان المفتوح الذي لا تحدّه جدران وبين المكان الآخر الذي تحدّه جدران بغض النظر عن طبيعة المكانين، أي أن تحديد مصطلح مسرح الشارع قائم على التمييز بين الحد واللّاحد، وهذا ما يسوقونه في تميزهم بين المسرحين في تحديد شكل مصطلح مسرح الشارع من خلال السياق الآتي في كتابهم بالقول: " ونحن لا نعني بهذا المصطلح مسرح (شكسبير)، أو مسرح (أجاثا كريستي)، اللذين يقدمان في مكان عرض مزود بوسائل الراحة، بل نعني به الفرجة المليئة بالضجيج والموسيقى والرقص والألعاب البهلوانية والقافية والإيقاع والألوان، فهو بمعنى آخر: فرجة المسرح في أوسع معانيها وتعريفاتها، وهو كشيء يختلف عن مستوى المسرحية ذات الفصول الثلاثة " (2). ويقصد بالمسرحية ذات الفصول الثلاثة هو ما يقدم من المسرحيات المعتادة داخل المسارح في أوروبا والغرب بصورة عامة. ومن خلال ما يحمله الكلام السابق من تحديدات في التفريق بين المصطلحين في كون أن مسرح الشارع من حيث الفرجة في أوسع معانيها حسب اعتقادهم فيه حرية أكبر من المكان التقليدي الذي يحتوي على قوانين خاصة بالفرجة من حيث المكان والوسائل التي تحدّ من اتساع دائرة الضجيج والموسيقى وغيرها التي يحتويها مسرح الشارع، على اعتبار أن المسرح خارج الأطر التقليدية، أو " الذي يقام ويؤدى خارج الأبواب يجب أن تكون به اضاءة من الورق الأزرق الحساس ويتضمن الحدث الذي يعزز الموضوع. وإذا لم يوجد به استعراض، فسوف ينصرف الجمهور عنه، ويفر منه. ولا تباع التذاكر في مثل هذا المسرح. بينما المكسب الوحيد والفائدة التي يجنيها أصحابه تتوقف على الممثلين والمؤدين الذين يستطيعون بمهاراتهم احتجاز الجمهور هؤلاء المتفرجين والاحتفاظ بهم حتى نهاية العرض "(3)، دون أن يكون لهؤلاء المتفرجين نصيب من الضجر الذي يوجده العرض الرتيب.

ويستمر التمييز من قبل مؤلفي كتاب مسرح الشارع بين المسرحين في كون أن الفائدة المرجوة من مسرح الشارع هي ليست مادية، أو بالأدق مالية يشتغل من خلالها شباك التذاكر بشكل واضح وصريح على خلاف المسرح التقليدي الذي يقوم في أغلب الأحيان على المبدأ (المادي / المالي) والمرتكز في استمراريته على شباك التذاكر. وفي تمييز آخر لابد للقائمين على مسرح الشارع من السيطرة والحفاظ على الجمهور من خلال وسائل أخرى قد تختلف بشكل كبير عن المسرح التقليدي.

وفي تعريف آخر لمسرح الشارع يرتكز فيه المعرّف على قضايا أخرى في الأداء المسرحي ذاته من حيث ربطه بمفهوم الارتجال دون تحديد الجمهور، كون الارتجال يأتي من طرفي المعادلة المسرحية في طبيعة التمثيل المؤدى، وفي طبيعة الجمهور المشاهد للعرض، في العادة يكون في المسرح التقليدي في أغلب الأحيان التمثيل يعتمد الأداء المسرحي المبني على التنظيم المسبق، أي البعيد عن الارتجال، وليس سمة عامة في المسرح التقليدي إبعاد الارتجال، لكن عادةً ما يكون العرض قائماً على نص وفكرة وأداء معيّن مسبقاً يقدم للجمهور، وفي هذه الحالة يكون الجمهور على علم مسبق في ما يقدّم من عرض مسرحي من خلال الإعلانات وعرض نبذة مختصرة عن الممثلين واسم العرض المسرحي، تكون العملية مهيئة مسبقاً بين الطرفين، لكن في مسرح الشارع تكون سمة الارتجال حاضرة حسب رأي المعرّف لمسرح الشارع بين طرفي المعادلة من حيث المجموعة التي تؤدي العرض والجمهور الذي يفاجئ بطريقة العرض وتكون لديه المشاهدة مرتجلة أيضاً، والقصد بالارتجال في المشاهدة عدم تقصد مكان العرض ولا طريقة المشاهدة ولا أمور أخرى متعلقة بهذا المضمون، لذا فإن مسرح الشارع يعرف بأنه" فن مسرح الشارع أو ما يسمى الارتجالي": هو أداء مسرحي يعرض في الأماكن العامة المطلة على الهواء الطلق دون تحديد جمهور معين. حيث يمكن أن يكون في مراكز التسوق، مواقف السيارات، الأماكن الترفيهية كالحدائق، زوايا الشارع. وتم مزاولة مسرح الشارع في البداية كنشاط من قبل الموسيقيين المتجولين، و في المهرجانات والمسيرات، ولكنه تحديداً يقام من خلال مجموعة من الممثلين المتميزين في مجال فنون الأداء". (4) قد يجعل هذه الفنون الأدائية درامية بحتة، أو يدخلها في مجال الأداءات الفنية التي تشمل فنون أخرى غير المسرح.

ويعرف مسرح الشارع على أساس الغرض المستهدف من تقديم عروض مسرح الشارع، فهو لا يحدد طبيعة الجمهور المستهدف، أي يجعل الجمهور هو من يختار، لذا يعتقد من يضع هذا التعريف أن الجمهور وطبيعته ونوعه ليس شرطاً من شروط مسرح الشارع أن يكون محدد بفئة ما، أو طبقة ما، أو عرق ما، بل كل ما يكون حاضراً في العرض هو مستهدّف، وهنا تكمن العشوائية في طبيعة الجمهور، كما أن الأفكار التي يتخذها العرض قد لا تكون فنية تنتمي إلى عالم الدراما التي ترتبط بالخيال والقصص التي ليس لها علاقة بالواقع اليومي، بل أن العرض يستهدف يوميات الناس حتى يكون قريباً منهم في طرحه ووجوده، لذا فإن مسرح الشارع يعني:" كل عرض مسرحي يقدم في الشارع والساحات والأماكن العامة متخذاً من الناس الحاضرين عشوائياً جمهوراً له، ومستلهماً موضوعاته من الواقع اليومي بهدف إيصال أفكاره عن طريق المشاركة التفاعلية في العرض".(5)بين المؤدين والجمهور الحاضر كجزء من المكان المسرحي المحدد في الشارع.

ويركز (باتريس بافي) في تعريفه لمسرح الشارع على مجموعة من النقاط التي يرى بأنها تحقق فكرة هذا المسرح، على الرغم من عدم توضيح نوع الأمكنة التي يقصدها، أي أن طبيعة المكان الذي يشير إليه (بافي) يمكن أن يكون بجدران، لكنه يرى هذا المكان ينتمي لمسرح الشارع، لذا فهو يعرّف مسرح الشارع بـ " إنه مسرح يحصل في الأماكن الخارجية وفي مبان تراثية: شارع، سوق، ميترو، جامعة... إلخ.

إنَّ الإرادة في ترك حرم المسرح تأتي من رغبة في الذهاب لمقابلة جمهور لا يذهب لمشاهدة عرض مسرحي، ويأخذ مبادرة أجتماعية – سياسية مباشرة، ويشاركه بإحياء مناسبة ثقافية وتظاهرة أجتماعية، وينخرط في المدينة كمحرض وكضيف، لطالما كان هناك خلط بين مسرح الشارع والمسرح التحريضي والمسرح السياسي" (6). ومن ثم فإنه يرى في مسرح الشارع، غايات هي كالآتي:

1. إنَّ الغاية التي يهدف إليها مسرح الشارع هي عكس القضية التي اشتغل عليها المسرح التقليدي وهي أن يأتي الجمهور إليه، بينما مسرح الشارع يبحث عن غاية جديدة ويُستعمل بوصفه وسيلة لهذا الغرض، كون الجمهور في أماكن بعيدة عن الأماكن التقليدية والتي يستهدف من خلالها الجمهور الذي يشتغل من أجله في تكوين هذا العرض الجمهور، والذي يُعتَبر غاية هذا المشروع المسرحي.

2. أما الغاية الأخرى هي قلب اتجاه السير لتكون من المسرح إلى الجمهور بدلاً من الجمهور إلى المسرح، حتى لا يكون الجمهور القادم إلى البناية المسرحية مهيأ وقاصداً للعرض، ومن ثم لا يكون الغاية التي يبحث عنها المسرح متحققة، بسبب أن طبيعة الجمهور القادم إليه قد يكون هدفه الترويح عن مشاكل الحياة اليومية من خلال العرض.

3. أما الغاية الثالثة لمسرح الشارع من خلال استهداف الجمهور هو اقتحام المجال الفكري والنفسي والاجتماعي من أجل جعل التفكير في القضية التي يحملها العرض أكثر تأثيراً في حالة المفاجئة والدهشة التي يبحث عنها هذا المسرح.

4. أما الغاية الرابعة هي مشاركة الجمهور هو على طبيعته التي هو عليها دون أن يكون هناك شحن عاطفي واندماج مع ما يعرض، ومن ثم يكون فاصل بين الفضائين، العرض والجمهور، فالمشاركة وكسر مجال التوقع لدى الممثل والجمهور هو من أسس المشاركة الوجدانية الفاعلة في هذا المسرح.

ومن ثم فإن ما عمل عليه مسرح الشارع حسب (بافي) يحسب في رسالته التي ركّز عليها وبيئته الدرامية الفنية التي ارتكز عليها في اشتغالاته، مع أهم ما قدمه وحققه من تطور " في الستينيات بشكل خاص (بريد أند بابيت، والسيرك السحري، والهابيننغ، والتحركات النقابية) (...) وللمفارقة، فإن مسرح الشارع حاول أن يتمأسس وينتظم كمهرجان، ويقيم في إطار مدني أرضاً للفن، أو سياسة للتجديد المدني، مع محاولة البقاء أميناً لخطه الفني بالإشاحة عن ما هو يومي " (7)، لكنه لا يغفل عن اليومي في هذه الجزئية المهمة من عمل مسرح الشارع، فهو يقتحم اليومي وتحويله الى فني، لأن الجمهور في المسرح التقليدي يترك ما هو يومي وراء ظهره ويأتي لمشاهدة ما هو فني، بينما في مسرح الشارع فإن اقتحام اليومي بما هو فني يجعل من الرسالة مغايرة تماماً عما هو تقليدي ومتعارف عليه لدى الجمهور.

ويأتي تعريف آخر يركز على سمة اليومية أيضاً من خلال ما يدور في يوميات الانسان العادي، ويضاف إليه سمة أخرى هي أن مسرح الشارع ليس مسرحاً إيهامياً ولا يسعى لتحقيق الإيهامية في عمله، كون أن سمة اليومية والارتجال التي تناولناها في التعريفات السابقة تكسر رتابة إيهامية الشارع وما اعتاده الناس يومياً من أحداث تجري في الشارع ذاته، لذا فإن تسمية مسرح الشارع "تطلق على عروض مسرحية تجري خارج العمارة المسرحية في الساحات العامة وفي الشوارع (...) فالعرض الذي يجري في الشارع كمكان مفتوح مقتطع من الحياة اليومية لا يسعى بالضرورة إلى تحقيق الإيهام وإنما إلى مشاركة المتفرج " (8). لكن السؤال الذي يطرح في تبيان حقيقة أخرى أغفلها هذا التعريف إذا كانت الأحداث التي يناقشها عرض مسرح الشارع هي جزء من الحياة اليومية، فهل يعيد العرض رتابة الحياة اليومية ذاتها؟، أم يحاول إعادة صياغتها بأسلوب فني جديد يكسر هذه الرتابة في الأحداث اليومية العادية التي تجري في كل شارع؟

إنّ من يحاول أن يقدمه مسرح الشارع عليه أن يعيد ترتيب الأولويات في الحياة اليومية لدى الأفراد من أجل أن يصوغها في تساؤلات أخرى أكثر وعياً من كونها أحداث تجري كل يوم بنفس الطريقة أمام الفرد ذاته، وهذه الجزئية هي ما نعتقد أنها المقصودة في ما يتكرر من عبارة تقديم جزءاً من الحياة اليومية في مسرحي الشارع، وهذه النقطة وغيرها سنحاول أن نناقشها من خلال التركيز على أهم ما خرجت به هذه التعريفات، وما أغفلتها في تحديد مسرح الشارع.

***

أ.د محمد كريم الساعدي

...................

الهوامش

1. ألان ماكدونالد، ستيفن ستيكلي، فيليب هوثورن: مسرح الشارع / الأداء التمثيلي خارج المسارح، ترجمة: عبد الغني داود، أحمد عبد الفتاح، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999ص12.

2. المصدر نفسه، ص 12.

3. المصدر نفسه، ص 12.

4. يندريك هونزيل: سيمياء براغ للمسرح، ترجمة: أدمير كوريه، دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1997 ص99.

5. عبد العزيز بن فهد العيد: عن مسرح الشارع والعروض المبتكرة، انترنيت:

https://www.arabicmagazine.net.

6. باتريس بافي: معجم المسرح، ترجمة: ميشال ف. خطَّار، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2015، ص554.

7. نفسه، ص554.

8. الدكتورة ماري الياس والدكتورة حنان قصاب حسين: المعجم المسرحي، بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ب، ت ص 268.

 

في المثقف اليوم