دراسات وبحوث

فِي رِحَابِ الذِّكْرِ الحَكِيْمِ

بليغ حمدي اسماعيلوالناس في غفلة من أمرهم نظراً لحالة الهوس المرضي الفضولي إزاء خوف الإصابة بفيروس كورونا الهائج، تلك الحالة الاستثنائية التي يعانون من جذبتها، يتسنى للمرء أن يهرع دوماً نحو كتاب الله الحكيم، القرآن الكريم بوصفه دستوراً أبدياً لا لغط فيه ولا خلل، ولا يمكن للمرء أن يقدر على الحكي عن روعة وجمال ودقة القرآن الكريم مهما بلغ من علم ومعرفة ودراية، لأنه كتاب سماوي جامع ومانع، به أسرار النفس، وحكايا الروح، وما للإنسان من طاقة حتى يقدر على التوصيف أو حتى الرصد، ورغم ذلك من الأهمية في الأيام الآنية أن نلجأ بغير ملل إلى استذكار قول الله تبارك وتعالى، من أجل أمور عدة لا شك فيها، منها أن تدارس القرآن الكريم واجب وفرض عين وأمر إلزامي على كل مسلم مؤمن موحد بالله تعالى، ومنها أن القرآن الكريم هو قول الله رب العزة والإجلال وبه تطمئن القلوب في أوقات كالتي نعيشها مضطربة متسارعة الخطى ومحتدمة بالصراعات والرؤى والتحزبات المتباينة .

ومن الآيات التي يقف عندها المسلم بكثير من التأمل طلباً للفهم والإحاطة، الآية الثالثة عشرة من سورة الشورى، يقول الله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) . وجملة التفاسير التي نقدرها ونحترم أصحابها تشير في البداية إلى أن الآية الكريمة ذكرت أول أنبياء الله بعد آدم وهو نوح (عليه السلام) وآخر أنبياء الله ورسلهم خاتمهم جميها نبي الرحمة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وما بينهما من أولي العزم من الرسل إبراهيم (عليه السلام)، وموسى (عليه السلام) وعيسى بن مريم (عليه السلام)، ثم تفسير الدلالة اللفظية للآية الكريمة، إلا أن مسألة اشتراع الدين من المسائل الدينية بالغة الأهمية في سياقها القرآني . ومعلوم أن الذي أوصى الله به جميع الأنبياء وصية واحدة وهي إقامة الدين الحق وعدم الافتراق والفرقة والتنازع . وجدير بالذكر أن الذي وصي به نوح هو تحليل الحلال وتحريم الحرام .

فالمفسرون حينما يتحدثون عن الدين في مجمله العام فهم بذلك يقصدون أموراً منها الإيمان المطلق بالله عز وجل بغير شرك أو شراكة ضمنية، فهو واحد أحد، ويقصدون به توافق المصالح والمطامح والاشتراك النفعي بين البشر والذي يعود عليهم بالنفع والخير، وهو ما أطلق عليه فقهاؤنا الأماجد بالضرورات الخمس وهي: حفظ النفس، والدين، والعقل، والعِرض، والمال، ويعد الدين في ذلك الجمع صوناً مشتركاً لهذه الضرورات .

أما اشتراع الدين الذي يتكرر في أكثر من آية في القرآن الكريم بصور وصيغ مختلفة لكنها متقاربة في المعنى والدلالة هو أمر إلهي مقصود، ويقصد بها كما يشير عبد الرحمن السالمي الوصول إلى نتيجتين أساسيتين هما: الرؤية الإيمانية الصحيحة إلى أصل الكون والوجود، والنتيجة الأخرى هي ما يترتب على ذلك من تناغم وانتظام بين الفردي والجماعي . والاشتراع أمر إلهي يأتي بعد التزام العبد وإيمانه المطلق بالله عز وجل، ثم يأمر الله تعالى بالاتحاد والتعاون والمشاركة النافعة المثمرة وعدم التفرق بقوله تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، والواو هنا بمثابة حرف الفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب والله أعلى وأعلم، وهي نتيجة تعقب مقدمة منطقية .

والدين يعني أموراً عدة منها السلطان والورع والقهر والطاعة والعادة والقضاء والجزاء ، وحرص الله عز وجل بأمره في عدم التفرق دليل قاطع على أن في الفرقة هلكة كما أشار المفسرون، والخير في الجماعة والائتلاف والاتحاد لدوام النفع وشيوعه والثقة في رأيها على الدوام، وربما تعد الإشارة إلى ضرورة إقامة الدين وعدم التفرقة رسالة أو توجيهاً سماوياً للتفرقة بين النبوة والرسالة، حيث إن النبي ملتزم بصفة فردية، أما الرسول فهو بإزاء التزامات عامة واجتماعية، وحرص الرسول على توحيد الكلمة والمعتقد يسهل له مهمته في الدعوة ونشر رسالته السماوية لاسيما وأن رسالات الله جميعها تتعلق بالقيم والعادات المشتركة والجمعية العامة وليست الفردية التي تخص فرداً دون آخر . ورغم التأكيد الإلهي على وحدة الدين إلا أن الديانات نفسها تعددت، إلا أن في تعددها اتحاداً ومشاركة وليس اختلافاً في الرؤى والطبيعة، وليس تعدد الديانات منطلقاً للتفرقة والتنازع بل للالتقاء . فالقدر المشترك بين الأديان السماوية جميعها هو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت الشرائع والمناهج .

ويرى ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية الكريمة  أي لا تتفرقوا في إقامته بأن ينشط بعضهم لإقامته ويتخاذل البعض، إذ بدون الاتفاق على إقامة الدّين يضطرب أمره . ووجه ذلك أن تأثير النفوس إذا اتفقت يَتوارد على قصد واحد فيقوَى ذلك التأثير ويسرع في حصول الأثر إذ يصير كل فرد من الأمة مُعِيناً للآخر فيسهل مقصدهم من إقامة دينهم . أما إذا حصل التفرق والاختلاف فذلك مُفضضٍ إلى ضياع أمور الدّين في خلال ذلك الاختلاف، ثم هو لا يلبث أن يُلقِيَ بالأمة إلى العداوة بينها وقد يجرّهم إلى أن يتربص بعضهم ببعض الدوائرَ، ولذلك قال الله تعالى: (ولا تَنَازَعُوا فتفْشَلُوا وتَذهَبَ ريحُكم  (، وأما الاختلاف في فروعه بحسب استنباط أهل العلم بالدّين فذلك من التفقّه الوارد فيه قول النبي (صلى الله عليه وسلم):  « من يُرِدِ الله به خيراً يفقِهْه في الدّين " .

والدين كما يعرفه عبد الله دراز له عدة معان ودلائل منها السلطان، والجزاء، والقضاء والسياسة، والحساب، والطاعة والعادة . والدين في حقيقته علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الآخر ويخضع له، والتهانوي عرف الدين بقوله: " وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل .

ومن عظمة الدين الإسلامي وتفرده الاستثنائي على بقية الأديان السماوية أنه ليست مجموعة من الطقوس والشعائر الدينية التي تنظم العلاقة بين الخالق وعباده فحسب، بل إن الإسلام ضمن خير وصلاح الإنسانية بجملة من القواعد والضوابط التي تنظم علاقة العبد بغيره من العباد . وجملة القيم والمبادئ الدينية التي شرعها الله لنا هي أساس لضبط العلاقات الاجتماعية بين الناس كافة . ونرى في آيات الذكر الحكيم عدداً كبيراً من الإشارات والتنبيهات التي تحض المسلم المؤمن على اكتساب واستخدام القيم والمبادئ الإنسانية التي تضمن له صلاح وخير أحواله في الدنيا والآخرة بإذن الله تعالى، منها تطبيق العدل، والالتزام بما شرعه الله من أوامر ونواهي، والاعتدال، وتوازن المعاملات، والصبر، والتواضع، وإيثار الخيرات للآخرين، والرحمة .

ويقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) أن المشركين كبر عليهم ما يدعوهم إليه من إخلاص العبادة لله وحده وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد التي لا تفيد ولا تنفع . ولقد أنكر المشركون حقاً وكبر عليهم أن يشهدوا بأن لا إله إلا الله لذا فحق العذاب عليهم واستمرارهم في الغي والضلال . ولذلك نرى الله عز من قال في نهاية الآية الكريمة يقول: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي أن الله يصطفي من يشاء من عباده وخلقه ويختار لنفسه وولايته من أحب .

ونحن بصدد اختيار الولاية من الله، تجدر الإشارة إلى مفردة قرآنية فريدة، وقد يبدو الموضوع قديماً نسبياً، أن نشير إلى معنى كلمة الصمد التي جاء ذكرها في كتاب الله الحكيم في قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) ، بسورة الإخلاص التي يحفظها كل مسلم ومسلمة، لكن التذكرة جاءت عن طريق طفل صغير يحفظ القرآن استوقفني ليسألني عن معنى الكلمة، فأجبته باختصار واختزال شديدين، وعند عودتي للمنزل ظل سؤال الصبي الصغير يحاصرني بأسئلة مفادها هل ما قلته قد أصاب عين اليقين، لكنه القرآن سيبقى كعادته إلى أن تقوم الساعة، يدفع المرء طوعاً إلى استقراء معانيه ودلالاته، وسبر أغواره التي لا تنضب بجمال التعبير وقوة المعنى، وسحر التأثير .

ورغم أننا نعلم جميعاً فضل سورة الإخلاص التي جاء ذكر الصمد فيها، إلا أنه من باب فرض العين أن نشير على عجل إلى فضلها من خلال حديثين شريفين للنبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وسلم) كما جاءفي صحيح مسلم للحافظ زكي الدين المنذري، فعن أبي الدرداء (رضي الله عنه)، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن ؟ "، قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن ؟!، قال: " (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن " . (أخرجه مسلم ـ 811، ص 789) .

وعن عائشة (رضي الله عنها وعن أبيها الصديق)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: " سلوه، لأي شئ يصنع ذلك ؟ " . فسألوه . فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها . فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أخبروه أن الله يحبه " . (أخرجه البخاري: 7375، ومسلم: 813) .

والصمد في اللغة يعني القصد، نقول: صَمَدَه يصمِده صمداً، وصمد إليه أي قصده . وقد قال معاذ بن عمرو بن الجموح يوم قتل أبا جهل: " فصمدت له حتى أمكنتني منه غرة "، أي قصدت إليه وله تهيأت وانتظرت غفلته . والصمد أيضاً كلمة تعني السيد المطاع الذي لا ينقضي أمر دونه، والذي يقصد إليه في الحوائج والنوائب والشدائد والحوادث الجلل . والصمد في معاجم العرب تعني أيضاً الذي لا يطعم، ومن دلالاته الدائم، ولقد قال علماؤنا وشيوخنا في التفسير أن الصمد في قوله تعالى بسورة الإخلاص الذي يصمد إليه في الحاجات، وقال آخرون أنه يعني الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال . أما الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه وأكرم الله وجهه) فقال إن الصمد هو السيد الذي انتهى إليه كل أنواع الشرف والسؤدد . أما مقاتل فأشار إلى معنى لفظة الصمد بقوله: إنه الكامل الذي لا عيب فيه .

ولم يرد هذا الاسم إلا في سورة الإخلاص فقط، وقال ابن كثير في تفسيره أنها نزلت لما قال اليهود: نحن نعبد عزير ابن الله، وقالت النصارى: نحن نعبد المسيح ابن الله، وقالت المجوس: نحن نعبد الشمس والقمر، وقال المشركون: نحن نعبد الأوثان، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله (صلى الله عليه وسلم) هذه الآيات المحكمات. ودلالة الاسم تعني أن الله هو المقصود دوماً بالعبادة، والصمد وجه الحق، ومن نعم الله تعالى أنه جعل ذاته مقصد الناس جميعا في الحوائج، وعن الاسم قال أنشد أحد الصالحين شعراً:

ألجأت ظهري إلى ركني ومسندي،

إلى المهيمن رب الناس والصمد ..

وقلت يا منتهى الآمال أجمعها،

لك التحكم في الأدنى وفي البعد ..

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

في المثقف اليوم