قراءات نقدية

قراءات نقدية

يلعب الأب أوبو دورا هاما في مسرحيات أوبو ملكا؛ أوبو زوجا مخدوعا؛ أوبو مقيدا للكاتب الفرنسي ألفريد جاري

إن مسرحيات ألفريد جاري مسرحيات أوبو عبارة عن سلسلة من الأعمال الدرامية العبثية التي عُرضت لأول مرة في باريس في نهاية القرن التاسع عشر.

تتكون الثلاثية من أوبو ملكا أوبو زوجا مخدوعا وأوبو مقيدا، وتتبع مآثر الشخصية البشعة والاستبدادية، الأب أوبو. تشتهر مسرحيات جاري بتخريبها للأعراف المسرحية التقليدية ودفعها لحدود التوقعات، وتحدي الجماهير لمواجهة عبثية ديناميكيات السلطة، والأخلاق، والأعراف المجتمعية. خلال مسرحيات أوبو، يستخدم جاري الفكاهة السوداء والشخصيات المبالغ فيها للسخرية من الفساد السياسي والجشع وإساءة استخدام السلطة.

 يستكشف هذا المقال المواضيع والتقنيات التي استخدمها جاري في هذه الأعمال المميزة، مع التركيز على كيفية استمرار صداه في منهجه غير التقليدي للمسرح مع الجماهير المعاصرة. من خلال الخوض في عالم الأب أوبو السخيف وتحليل التعليقات المجتمعية المضمنة في مسرحيات جاري، يمكننا الحصول على فهم أعمق للأهمية الدائمة لمسرحيات  أوبو في سياق المشهد الاجتماعي والسياسي المتغير باستمرار في يومنا هذا.

مسرحيات أوبو

إن مسرحيات ألفريد جاري "مسرحيات أوبو" عبارة عن سلسلة من الأعمال الدرامية الساخرة والسخيفة التي تسخر من السلطة والسلطة والأعراف المجتمعية. تصور المسرحية الأولى في السلسلة، "أوبو ملكا"، صعود وسقوط الشخصية البشعة والمتعطشة للسلطة، الأب أوبو. على الرغم من افتقاره إلى الذكاء والبوصلة الأخلاقية، تمكن أوبو من التلاعب والمناورة في طريقه ليصبح ملك بولندا. ومع ذلك، فإن فترة حكمه لم تدم طويلاً لأن أفعاله الاستبدادية والأنانية أدت إلى سقوطه.

في "أوبو زوجا مخدوعا"، المسرحية الثانية في السلسلة، يواصل جاري السخرية من ديناميكيات السلطة والحماقة البشرية. تتبع المسرحية محاولات أوبو للحفاظ على مكانته وسيطرته على من حوله، لكنه يفشل مرارًا وتكرارًا بطرق كوميدية وغريبة. من خلال تصرفات أوبو السخيفة والسخيفة، يكشف جاري عبثية السلطة ونقاط ضعف الطبيعة البشرية.

 أخيرا، يستكشف فيلم "أوبو مقيدا" رحلة أوبو وهو يواجه عواقب أفعاله ومحاولاته الهروب من القيود التي صنعها بنفسه. من خلال الفكاهة السوداء والصور السريالية، يتعمق جاري في مواضيع السلطة والفساد والطبيعة المدمرة للغطرسة.

بشكل عام، تعد مسرحيات أوبو بمثابة نقد لاذع للهياكل المجتمعية والسلوك البشري، وذلك باستخدام السخافة والسخرية لتسليط الضوء على عيوب وإخفاقات من هم في السلطة. لا يزال نهج جاري الفريد والمبتكر في المسرح يتردد صداها مع الجماهير اليوم، مما يذكرنا بمخاطر السلطة غير المقيدة وأهمية التشكيك في الوضع الراهن.

أوبو ملكا:

مسرحية ألفريد جاري "أوبو ملكا" هي استكشاف فوضوي وسخيف للقوة والجشع والوحشية. إن شخصية أوبو، الشخصية البشعة والمستبدة، تجسد أسوأ جوانب الطبيعة البشرية. يعد صعود "أوبو" إلى السلطة من خلال القتل والتلاعب بمثابة تعليق لاذع على المدى الذي سيذهب إليه الناس من أجل إشباع رغباتهم الخاصة. المسرحية مليئة بالفكاهة السوداء والهجاء، حيث يشوه جاري نفاق وفساد من هم في مناصب السلطة. تصرفات أوبو مدفوعة بالجشع المطلق والتجاهل التام لرفاهية الآخرين، مما يجعله شخصية حقيرة حقا. على الرغم من سلوك أوبو المستهجن، إلا أن هناك شيئًا مقنعا بشكل غريب في شخصيته. إن طموحه الجامح وتجاهله المخزي للأعراف المجتمعية يجعله بطلا رائعا، مما يجذب الجمهور إلى عالمه الملتوي. من خلال "أوبو ملكا"، يجبرنا جاري على مواجهة الظلام داخل أنفسنا والمجتمع ككل. تعد المسرحية بمثابة تذكير صارخ بالقوة التدميرية للطموح الجامح والتهديد الدائم للاستبداد. وبهذه الطريقة، تظل "أوبو ملكا" عملا خالدا ومثيرا للتفكير ولا يزال يتردد صداه لدى الجماهير اليوم.

أوبو زوجا مخدوعا:

في مسرحية ألفريد جاري "أوبو زوجا مخدوعا"، نرى استمرارا للتصرفات الغريبة السخيفة والغريبة للشخصية الفخرية، الأب أوبو. هذه المرة، يجد أوبو نفسه وسط مؤامرة تنطوي على الخيانة والتلاعب والانتقام. تتعمق المسرحية في موضوعات الخيانة الزوجية، وديناميكيات السلطة، وعواقب الجشع والطموح الجامح. كما يوحي العنوان، يتم خداع الأب أوبو من قبل زوجته، الأم أوبو، مما يؤدي إلى سلسلة من الأحداث التي تكشف المزيد عن وجوده الفوضوي بالفعل. لا تمثل الخيانة بمثابة ضربة لغرور أوبو فحسب، بل تكشف أيضا عن هشاشة هيمنته وسيطرته المتصورة. من خلال هذا الفعل من الخيانة الزوجية، نشهد هشاشة ذكورة أوبو وانعدام الأمن المتأصل الذي يدفع أفعاله. علاوة على ذلك، يستكشف فيلم "أوبو زوجا مخدوعا" عواقب سعي أوبو القاسي للحصول على السلطة والثروة. إن هوسه بالمكاسب المادية وتجاهل النزاهة الأخلاقية يؤدي في النهاية إلى سقوطه، حيث تعود أفعاله لتطارده بطرق غير متوقعة. تعتبر المسرحية بمثابة حكاية تحذيرية حول مخاطر الطموح الجامح والطبيعة المدمرة للرغبات الأنانية. بشكل عام، تقدم أوبو زوجا مخدوعا تعليقا كوميديا قاتما ومثيرا للتفكير حول الطبيعة البشرية وعواقب أفعالنا. إنه يتحدانا للتفكير في تأثير خياراتنا وتكلفة التضحية بقيمنا من أجل مكاسب شخصية.

يتألق ذكاء ألفريد جاري الذكي وتعليقاته الاجتماعية اللاذعة في هذا الاستكشاف السخيف والمؤثر للحماقة البشرية.

أوبو مقيدا

في مسرحية ألفريد جاري الأخيرة لأوبو، "أوبو مقيدا"، نرى الشخصية المميزة، الأب أوبو، يواجه عواقب حكمه الاستبدادي وأفعاله العنيفة. مع بدء المسرحية، يجد أوبو نفسه مسجونا ومقيدا بالسلاسل، ومجردا من سلطته وسلطته. يمثل هذا خروجا كبيرا عن مسرحيات أوبو السابقة، حيث كان أوبو قادرا على التصرف دون عقاب وإحداث الفوضى دون خوف من الانتقام. طوال المسرحية، يتصارع أوبو مع ضعفه المكتشف حديثا وفقدان السيطرة. إنه مجبر على مواجهة عواقب أفعاله والأذى الذي ألحقه بالآخرين. بينما يكافح من أجل التصالح مع سقوطه من السلطة، يواجه أوبو حقيقة موته والطبيعة العابرة لحكمه الاستبدادي. يستخدم جاري مأزق أوبو لاستكشاف موضوعات السلطة والفساد وقدرة الإنسان على القسوة. من خلال تقييد أوبو، يسلط جاري الضوء على الطرق التي يمكن أن تكون بها السلطة جاذبة ومدمرة في نهاية المطاف. تعتبر سلاسل أوبو بمثابة استعارة للقيود التي تربطنا جميعًا، سواء كانت جسدية أو اجتماعية أو نفسية. وبينما يتصارع "أوبو" مع قيوده، فإنه يضطر إلى مواجهة حقيقة أفعاله وتأثيرها على من حوله. من خلال عملية التأمل والمحاسبة الذاتية هذه، يبدأ أوبو في تجربة تحول، وإن كان مترددا.

 يقترح جاري أنه حتى أكثر الحكام استبدادا ليسوا بعيدين عن الخلاص، وأن هناك دائما إمكانية التغيير والنمو. في "أوبو مقيدا"، يجبرنا جاري على مواجهة عواقب أفعالنا والطرق التي يمكن أن تفسدنا بها السلطة وتدمرنا في النهاية. من خلال تقييد أوبو، يتحدانا جاري للتفكير في قدرتنا على القسوة والطرق التي يمكننا من خلالها التحرر من القيود التي تقيدنا.

في الختام، تعتبر مسرحيات ألفريد جاري وتحديدا "مسرحيات أوبو" بمثابة نقد مؤثر للسلطة والجشع والعبثية في المجتمع. من خلال شخصية أوبو الغريبة والمتنافرة والمتناقضة، يدعو جاري القراء إلى التفكير في العواقب المدمرة للطموح والطغيان الجامحين. ولا تزال المسرحيات ذات أهمية اليوم كما كانت قبل أكثر من قرن من الزمان، لتذكرنا بأهمية تحدي السلطة والوقوف في وجه الظلم. يستمر عمل جاري الرائد في إلهام الجماهير وإثارة التفكير النقدي حول حالة العالم من حولنا.

والحياة مليئة بأمثال أوبو، ومصيرهم لن يكون بأحسن من مسرحيات ألفرد جاري... والسجلات التاريخية خير دليل على ذلك.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الأديب حسن مروّح يكتب بصمت، ويعيش بصمت أيضا، ولكنّ حروفه تنزف وجعا من حدة التجارب المختلفة التي عاشها ولامسها عن كَثَب، فأنتج مجموعات قصصية ومجموعة من الروايات التي مازالت مجرد مخطوطات بسبب ضيق ذات اليد، ولعل هذه الرواية الوحيدة التي استطاع طباعتها من خلال مطبعة (أور للطباعة والنشر) والتي تتناول مسحا لجزء من حرب الثمان سنوات بين العراق وإيران.

تلك الحرب التي غيّرت من طبيعة النسيج الاجتماعي العراقي، وساهمت في تجميد الزمن، وجعله مجرد عَتَبة لانتظار عقيم. الرواية لا تتناول الحرب بشكل مباشر، ولا تصف أحداثها من انتصارات أو هزائم أو كرّ وفر، فلا نسمع فيها صرير الدبابات ولا صراخ المدافع ولا ضجيج الطائرات ولا انفجار الألغام، لا نسمعه ونستشعره، فهو يحيط بنا، لأنه يصف هامش الحرب التي تبدو بأنها أكثر رعبا، باعتبارها تمثل هواجس الجنود المرابطين عند خطوط النار، واضطراب مشاعرهم الإنسانية، واجتثاث أحلامهم، وشلّ عواطفهم، والانغماس الكلي في محو الرمق الأخير من مشاعر الرقة والعواطف والمحبة ومشاعر الأخوّة بينهم، وكأن هناك حربين؛حرب مع الأعداء في الجانب الآخر، والذي لا يُسمع منه سوى أصوات الأذان أو صليل المدافع المتقطعة، أما الحرب الثانية، فهي التي تتمثل في الخوف والتوجس وعدم الثقة بين عسكر السرايا أنفسهم، وطبيعة التعامل اليومي بينهم في ظل قسوة الظروف المحيطة، والذي تتمثل في غياب أو بروز صفات الأخوّة والنبل والرجولة والشهامة والصدق. لقد أخفت الحرب هذه الصفات واحلت محلها صفات هجينة تتميز بالأنانية والحقد والكراهية، إنها الحرب التي تتسرب إلى أعماق من يكتوون بها، وتجعلهم لا يفكرون إلا بالنجاة بأنفسهم دون سواهم.3867 حسن مروح جبير

سامي عبد المجيد بطل الرواية الذي وجد نفسه في أحد المواقع العسكرية المواجهة للجيش الإيراني. وهو يقوم بسرد الوقائع اليومية، وكأن يقوم بكتابة ريبورتاج صحفي يخلو من الأحداث التي تشدّ بعضها في نسيج روائي ينمو ويتصاعد، فليس ثمة محاور سردية، مما جعلها بدون حكاية محورية تضبط الإيقاع، لذلك جاءت الأحداث مبعثرة على الثلاثة والعشرين فصلا، دونما تلتصق بخيط روائي يربطها مع بعضها، ويوفر للقارئ متعة سردها. فهي أقرب إلى اليوميات التي تصوّر أيام الحرب وانعكاساتها . ورغم ذلك فالكاتب قدم لنا لوحات فنية، عبّر فيها عن عمق المكان، من خلال القدرة على تصوير بؤس جبهات القتال والذي يتجلى في عفونة الملاجئ وبشاعتها، وروائح الدم الذي يلتصق بأسمال الموتى، وتفسخ الأغذية التي توزع على الجند، وتسرب بعض الوحوش الضارية الى الملاجئ للبحث عن طعام لها. كما حفلت الرواية بلمحات فنية عبرتيارات اللاوعي التي تجعل البطل يعيش في زمنين متجاورين؛ الواقع المُعاش بكل قسوته وخشونته، وغياب الإنسانية فيه، وبين الحلم ووهم الذكريات بكل رحابتها وإنسانيتها وقدرتها على انتشال المرء من أغلال اللحظة.

الزمن ينشطر في السرد حتى يمتزج ويتغلغل في الأمكنة بنسق حكائي يرافق رواية الأحداث من بدايتها إلى نهايتها، ويتشكل على هيئة حوارات داخلية بين سامي عبد المجيد وعوالمه المتخيلة، والتي تحف به كلما تعرض للانكسار، فيصبح الهروب من بؤس اللحظة سبيلا للتغلغل بين ثنايا الذكريات والتعلق بالأمومة، والحنين إلى حياة المدينة والبيت والشارع، والتعلق بخيال امراة، أو النزوح إلى الطفولة وذكرياتها الجميلة. كل ذلك نجده في الرواية حتى تشتبك الوقائع بالأخيلة، ويتحد الحاضر بالماضي. ورغم أن هذا الأسلوب ينأى عن المباشرة والتسطيح في السرد، ولكنّه من زاوية أخرى يغرق ذلك السرد بالابهام، ويعرقل السيولة في ترتيب الأحداث.

ورغم انهماك الرواية بهموم سامي عبد المجيد كشخصية محورية حيث يُجَنّد في القتال من أجل الوطن كبقية أبناء جيله، ولكنه يشخّص فداحة الحرب، ويصف أهوالها المدمرة على نفسية المقاتل ولاسيما حينما يشعر بأنها حرب عبثية ولا يمكن القبول باستمرارها، وحينما يجد نفسه في الجبهة وضمن إحدى السرايا المقاتلة. ومن هناك نُطل على حافة عوالم بائسة وظروف تفتقر إلى مقوّمات الحياة البشرية، فالخنادق الآسنة، هي التي تطمر أرواحهم في التراب، وتقي أجسادهم من الموت. والملاجئ المتعفنة، وسواتر الحجر والتراب، وأمامهم الأرض الحرام التي تزدحم بالألغام وبفوهات الموت المصوّبة باتجاههم، يُضاف إلى ذلك طبيعة ضباط ومراتب السرية الذين يمارسون القسوة والكراهية والحقد على بعضهم البعض، ولكنهم في نفس الوقت ينافقون بعضهم، بروز الأنانية في أسوأ تجلياتها، وظهور حالات من الشذوذ الجنسي بين بعض العاملين هناك، لقد رسم الكاتب عوالم تعيش في مستنقعات الذات البشرية الهشة، حيث الفضاء الملوّث بغبار الحرب والحقد والخوف والتمايز المقيت، لا ضوابط للعلاقة سوى أمزجة لنفوس تعاني من أمراض الكبرياء والتفوق، حيث يصف لنا سامي بأن آمر السرية يمقته، ويُكثر عليه الواجبات الخطرة مثل وضع الكمائن عبر حقول الألغام، أو الحراسات أو الأعمال الشاقة، وفي نفس الوقت يعامل البعض بمعاملة أخرى. ومثلما رسم عالم القسوة متمثلا ببعض الأسماء من أفراد السرية، فقد رسم صورا لبعض زملائه، ضحايا الإرهاق والتعسف والموت، فقد استشهد البعض منهم في معارك لم يصفها الكاتب، بل اكتفى بوصف ما تركه الشهيد من ملابس ملوثة بالدم.

ولكي لا يستغرق الكاتب في روايته في وصف البؤس فقد وصف لنا بعض المشاهد والدعابات والمفارقات التي تحدث في خضمّ القسوة، ولم يتورع في دندنة لبعض الأغاني الشائعة، مما يوحي بأن ثمة مسامات لقشرة البؤس، يستطيع الإنسان أن يستنشق بعض حريته منها.

لقد كانت الأحلام رفيقة لسامي عبد المجيد بطل الرواية في هذا الخواء المطلق، حيث لا روح ولا أمل، بينما الموت يترصد الجميع في كل لحظة، وليس ثمة ما يعزيه سوى اختراق هذا الواقع والسفر بعيدا عبر الذاكرة ومحاولة ترطيبها بحكايات الطفولة والمدرسة، وجدران البيت وحنوّ الجيران ووداعتهم، والمرأة التي تشكل عشقا مستحيلا، فهو يستحضرها في أخيلته ويناجيها ويقاسمها همومه، ولكنه حينما ينعتق ذاهبا في إجازته الدورية، وحالما يصل إلى بيته حتى يستسلم لنوم عميق بفعل الإرهاق والخوف وسوء المعاملة، تطارده في إجازته أيام المعسكر وأسماء الذين مارسوا قسوتهم ضده، كما تطارده أصوات المدافع وعجلات سيارة الايفا وهي تحمل المؤنة التي تعفنت بفعل العوامل الخارجية، يطل عليه( اليربوع والأحيمر وعامر جبل وشوكت) وغيرهم من الأسماء التي جعلها القدر تقتحم حياته وتؤثر فيها.بينما لا يجد في بيته أثناء الإجازة إلا ضغط العيش على أهله وجيرانه. وحتى الحبيبة التي حلم بملاقاتها كي تمنحه بعض الدفء، لم يجدها ولم يجد يدا حنونة تزيح بعض أوجاعه. فيعود إلى المعسكر مثقلا بهموم مضاعفة، ولكنه يجد أن ضابطا كبيرا رأى اللوحة التي خطها في مقدمة المعسكر، فأُعجب بها، وأمر بنقله إلى معسكر آخر.

(الطريق الذاهب شرقا) عمل روائي يتأمل فاجعةَ الحرب وتأثيراتها الكارثية على الإنسان، حيث تحوّله إلى حطام بشري، وقد اكتنز بحشد من التناقضات التي أفرزتها تلك المرحلة، كما استخدم الروائي حسن مروّح كل إمكاناته الأدبية في تطويع اللغة لتعبر عن فاجعة الحرب وعن معاناة الجنود الذين اكتووا بجحيمها، وكان بالإمكان أن يكون العمل أجمل لو تخلص من الإعادة والتكرار لبعض المواقف والمشاهد غير الضرورية. ولكنّه في كل ذلك كان صادقا مع نفسه في التعامل مع الحدث، مستخدما صياغات فنية تدل على احترافية عالية في كتابة الرواية.

***

رحمن خضير عباس – ناقد

كندا

عرفنا الرواية الفلسطينيّة على مَدار النّصف الثاني من القرن الماضي، القرن العشرين، رافعةً مشعلَ المعرفة، ومُنبّهةً الذاكرة، ومُستنهضةً الهمم، وباعثة الأمل، وراسمة دربَ المستقبل الواضحَ الطّريق. ولم تكن صرخةُ سائق الشاحنة في رواية "رجال تحت الشمس": لماذا لم تدقّوا الخزّان!؟ إلّا الصّرخةَ المدوّية التي أرادها غسان كنفاني: أنْ كفانا اتّكاليّةٌ على الغير، وانتظارُ رحمةِ الرّب، وأنّ علينا أنْ نأخذَ أمورَنا بأيدينا لتحقيقِ أهدافِنا التي نعمل لأجلها.

بهذا الاتّجاه الذي رسمه غسان كنفاني انطلقت معظمُ الرواياتِ الفلسطينيّة ترسمُ خطى الحاضرِ لتنطلقَ نحو المستقبل، عازفةً عن العودة للماضي الموجعِ للقلوب لتكونَ الاندفاعةَ لمستقبلٍ أقوى وأجْدى.

وكان اتّفاقُ أوسلو، وسقط الحلمُ على أرض الواقع، وتعثّرت خطواتُ المقاتل على أرض المعركة، وتراجعت الآمالُ لتتَقزّمَ في واقع لا يرحم. وكانت الصّرخاتُ المتألّمةُ التي أطلقتها شخصيّاتٌ صدمها تكسيرُ الحلم الكبير على أرض الواقع في الوطن الغريب كصرخة بطل رواية "نهر يستحمّ في بحيرة" ليحيى يخلف "أنا العائدُ أقفُ ضائعا في شارع من شوارع وطني، أشعر بالغربة والوحدة، أشعرُ بالرّغبة في البكاء" (ص26).

وصوّرت الروايةُ الفلسطينيّة نكسةَ الفلسطيني واختزالَ حلمه الكبيرِ في وطن يتكوّنُ من بَلداتٍ مُتقَطّعة تحرسُها حرابُ جندِ الاحتلال، وليس للفلسطيني إلّا أنْ يقبلَ بالواقع ويرضى بما يمُنُّ عليه المحتلُّ الغريب.

فراح الفلسطينيّ يهربُ من واقعه ليعودَ ليبحثَ في الذّاكرة، ويسردَ سيرَ الآباء والأجدادِ لعلّ في استحضارهم تعزيةً للحاضرين، وتعويضا لكلّ ما فقده من حلم ٍكبيرٍ أمِلَ أن يكونَ الذي يُجَسّده على أرض الوطن. مثل: ("فرَس العائلة" و "مديح لنساء العائلة" لمحمود شقير، و"ترانيم الغواية" لليلى الأطرش، و "سيرة بني بلوط" لمحمد علي طه، و"زمن وضحة" لجميل السحلوت.)

يحيى يخلف خلال حياته اليوميّة والأدبيّة عاش هذه المراحلَ المتغيّرةَ، عايش حلمَ الشابّ العربي المتوقّدِ ثورةً وعطاء وتضحية في "نجران تحت الصّفر" ورافق الفدائيّ المندفع نحو تنفيذ المهمّاتِ الكبيرة دون وَجَل في "تفّاح المجانين" وشارك المقاتلين الواثقين بانتصار قضيّتهم وتحقيقِ أهدافهم في "نشيد الحياة". ولكنّه عاد وعايشَ صدمةَ انكسار الحلم الكبير وتقزيمه في "نهر يستحمُّ في بحيرة" وبكى وخافَ فقدانَ البطلِ الأب في "تلك الليلة الطويلة" وظلّ يرصدُ التّحوّلاتِ والتّقلبّاتِ، ويكتبُ ويستفيد من الأحداث وتراكماتها، ويتمزّقُ لحالة العرب التي وصلوا إليها بعد تمزّقِ ما اعتقدوه ربيعا عربيّا فكان خريفا قاتلا.

يحيى يخلف ليس الكاتبَ والمفكّرَ الذي يتجمّد أمام النّظريّات والمقولاتِ والمواقف. بل هو صاحبُ الفكر الثوري النيّر الذي يستوعبُ ويستفيدُ ويتعلّمُ ويخرجُ بنتائجَ قَيّمةٍ. يحيى يخلف عرف أنّ الواقعَ المعيشَ لا أملَ لنا فيه، وأنْ نبني مستقبَلَنا على ما هو قائم من ضروب المستحيلات. لهذا وجد أنّ البناءَ يجب أن يكونَ من الأساس، من البدايات، طوبة فوق طوبة كما نقول. وأنّ الحياةَ والصّراعاتِ والانكساراتِ والنّكَساتِ والأحلامَ الكبيرةَ المتكسّرةَ عَلّمَتْنا كيف نُعمِلُ العقلَ ونُهدّئُ الطاقةَ المشتعلةَ فينا لنعرفَ كيف نرى طريقَنا وكيف نتعاملُ مع مَنْ حولنا لنبنيَ لنا الحياةَ الجديدةَ التي قد تكونُ التي نريدُ أو قريبةً منها.

وكانت رواية يحيى يخلف الجديدة "راكبُ الرّيح". واعتقدتُ لأوّلِ وَهْلةٍ أنني سأقرأ روايةً بطلُها مَسْحوبٌ من عالمِ ألفِ ليلةٍ وليلة وأساطيرَ بعيدةٍ في الأزمنة، أو من أجواءِ دون كيخوت أو حتى رامبو زماننا.

ووجدتُني أنسابُ مع اللغة الجميلة الموقّعة، وأقلّبُ الصفحاتِ الواحدةَ تلو الأخرى، وأختار رِفْقةَ يوسفَ في قَفْزه  فوق السّور والغَوْص العميق في البحر، وفي مواجهةِ الحوت وملاحقةِ الفتياتِ واللهو مَعَهن، واسْتراقِ القُبَلِ من أجملهِنَّ حتى وجدتُ نفسي ويوسف تأخذنا سِنَةٌ من النوم، ولم نستقيظْ إلّا وطابورٌ من الجواري الحسانِ تُحِطْنَ بنا.

يوسف الشخصيّة التي رسمها الكاتب بدقّة

يوسف هو الشخصيةُ الرئيسيّةُ ومركزُ أحداث الرواية. شخصيّةٌ اختارها الكاتب بدقّة وحساسيّةٍ لتكونَ كاملةَ الأوصاف. فمولده كان في مدينة يافا يومَ احتلّها القائدُ المصري محمد بك أبو الذهب من يد ظاهر العمر وأعادَها لحظيرة الخليفة العثماني(ص5). ويومها كانت مدينة يافا تمتاز بالحركة النشطة في مختلف مجالات الحياة، وكانت معروفة بتنوّع أهلها، ففيها تجد العربي والتركي والألباني والشّركسي والأوروبي، المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي، وتسمع تخالطَ اللغات وتَداخلها، وتلمس بسهولة مَحبّة الناس وتعاونهم، ولكن تشهد أيضا تعدّيات جند الأنكشارية على السكان ومحاولة فرض رغباتهم وأوامرهم، وضعف حكم الوالي العثماني أمام جبروتهم.

والدُ يوسف عمل في التجارة، وأمُّه بهنانة اعتنت بولدها وربّته أحسنَ تربية. تعلّم في حلقات الدّراسة في الجامعِ الكبير على يد كبار العلماء والفقهاء ورواة الحديث، فتعلّم الفقهَ واللغةَ والعلوم. وأرسله والده أيضا إلى مدرسة الراهبات فتعلّم اللغةَ الفرنسية. عشق الخطَّ العربي فتعلمَ خطَّ الثلث وخطَّ النّسخ وباقي الخطوط العربية، وتعلّم الرسمَ وأتقنَ الرسم بالفحم وبألوان الشّمع وألوانِ الزّيت، واشتهرت رسوماته، وزار مرسمَه أبناء الطبقات الغنيّة ومحبو الفنون. كما أحبَّ يوسف البحرَ وأحبّ القفزَ من الأعالي إلى البحر.

كان يوسف وسيما، جميلَ الطلعة، يمتلك عيني صقر، وحاجبين مرسومين كأنهما خُطّا بقلم، وجبينا كالفضّة، وشعرا كستنائيّا، وأنفا مستقيما. وفَمًا دقيقَ الشّفتين. ويبدو بقفطانه الأبيض والطّاقيّةِ الحمراء المشغولة بصِنّارة بهنانة، والشّالِ الأخضر الذي يُزنّر وسطه، مثلَ أمير من أمراء الأستانة، بل إنّ النساءَ من أحباب بهنانة كنّ يُشبّهنَ جمالَ خلقته بجمال النبي يوسف، الذي عشقته النساءُ حتى الذّهول(ص7). وما أنْ وصل إلى مرحلة الشباب المبكّر، حتى اكتسبَ لياقة وجسما مفتولَ العضلات، وبنيةً متينة، وجرأةً تفوّق فيها على أقرانه، خصوصا في رياضة القَفز من أعلى أسوار يافا إلى المياه العميقة. (ص8) وبهر الجميعَ بقَفزه ، وذات مرّة وجد نفسَه بعد أنْ أتمّ قفزتَه وغطس، وسبح نحو عُمق البحر وجها لوجه أمام حوت انشقّت الأمواج عنه وصعد إلى السطح ، ظهر رأسُه الرماديّ وزعانفُ ظهره المنقطة وكان يفتح فكيه. داهم يوسفَ خوفٌ ورعبٌ، وارتبك. وبعد مواجهة صامتة بين يوسف والحوت، أغلق الحوتُ فكيه وتوقّفَ عن نَفْث الماء وسَكنتْ حركتُه ثم انسحبَ واختفى كأنّه لم يكن. انتشرت قصةُ الحوت في المدينة وردّدتها المجالسُ في كلّ مكان.

إضافة إلى كلّ ما ذُكر سكنَ جسمُ يوسف القَرينُ الذي أعطاه القوّةَ الخارقةَ التي كانت تظهر في حالات الحبّ أو الحرب الشديدة. وقد بهرَ بهذه القوّةِ كلَّ مَن عرَفه، وجذبت إليه كلَّ الناس، خاصّة الفتيات وجواري وسيّدات القصور.

يوسف اتّسم بمسحة إلهية، فهو شبيهٌ بالنبي يوسف بجماله وفتنته وعِشْقِ الفتياتِ له، وهو كالنبي يونس قابَلَ الحوتَ، لكنّ الحوتَ بُهِتَ وصمت وتراجعَ ولم يحاولْ إيذاءَ يوسف. وهو البطلُ المغوار حامي المدينة وأهلِها، مَنْ قتلَ جندَ الانكشارية عندما اعتدَوْا على السكان، وقتلَ جُنْدَ نابليون الذين عملوا على تدمير يافا وقَتْلِ أهلها، وانتقم للغزال بقتل الفَهد الذي تعرّضَ له.

وهنا يدخلنا الكاتب في عالم الخيال السّحري اللامعقول وعالم رامبو حيث نرى يوسف في مواجهته لجند الانكشاريّة، يجمع نفسه وطار في الهواء وسقط فوق رؤوسهم، وتحوّلت أذرعه إلى سيوف، وأرجله إلى خناجر. وأعمل فيهم، أوسعهم ضربا حتى طحنهم كما يطحن حجر الرّحى حبّات القمح، ومَن ابتعدَ ولّى هاربا، ونجا تاركا طبنجتَه وسلاحَه الأبيض."(ص131) كذلك قصّة قتل يوسف للفَهد الذي أراد قتلَ الغزال، كيف التقط السوطَ الذي يحمله سائقُ العربة وقفز إلى الأرض العشبية التي تجاور النّبع . وإذا شعر بقرب الفهد من الغزال وأنّ الخطر داهم، داهمت السخونة جسد يوسف، اشتعلت نيران بداخله، داهمته عاصفة وأثارت حوله زوبعة، نشطت حوله الريح، فقفز عاليا واعتلى الريح، وطار في الهواء عاليا، وحطّ على الأرض على بُعد خطوة من الفهد الذي كان قد قبض على الغزال وأوشك أنْ ينشبَ أنيابَه في حنجرته. رفع السّوطَ الذي داخله شواظٌ من نار عاليا، وبيد من حديد، ضرب الفهدَ الذي يوشك على الفَتك بالفريسة. ضربة على رأسه وطرَحَه أرضا وصار يتفعفل بدمائه. (ص230).

وقصّة يوسف مع جند نابليون حيث وصل بقَفزة واحدة، وتحكّم في طاقته، وتحوّلت أصابعه إلى صلابة الحديد، وأعمل فيهم ضربا بحركات خاطفة، فشَلّ قدراتهم، وأفقدهم توازنهم، وضغط على نقاط ضعفهم. وبسماع يوسف لطلقات المدفعيّة في النّطاق العالي من المعسكر اندفع يوسف. ركّز وشحن جسده بطاقة مغناطيسيّة تُعادل القوّة المغناطيسيّة للأرض، فانفلت من الجاذبيّة، وبقفزة واحدة كان في أعلى الجبل، وأعمل بأصابع يده الحديديّة توجيه الطعنات إلى الجنود الذين يتهيَأون لتلقيم المدفع، وبقفزة أخرى، أجهز على آخرين، وولّى مِنْ تبقّى الأدبار. (ص293).

وهو الإنسانُ النبيلُ الطاهرُ الذي رفض إيذاءَ الفتيات اللاتي أحبّهن وعرفَهن تماما كفعل النبي يوسف الطاهر الأمين الذي رفض ملاحقة الفتيات وحتى زوجة فرعون مصر له: فماري التي أظهرتْ عشقَها له ساعةَ جاءت لوداعه اكتفى بتمَنّي النجاح والتوفيق لها. وفيديا اكتفى بالإعجاب والفرحِ برؤيتها ولم يتعدَ ذلك. حتى العيطموس التي كانتْ أمنيةَ حياته وحُلمِه الكبيرِ وسعادتَه، اكتفى بتَقْبيل شفتيها في الصورة ليُظهرَ طهارةَ حبّه لها رغم أنّها كانت على استعداد لتُعطيه خدَّها ليُقبّلَه. حتى ذات السنّ الذهبيةِ التي عمِلتْ على إذلاله لم يقُمْ بالانتقامِ منها واجبارِها على ممارسةِ الحبّ معه، وانّما اكتفى بالحُلم ليُحقّقَ ذلك.

ويوسف كان رجل العلم والثقافة، فقد اهتم من صغره بإتقان لغات عديدة، وبرّز في الرسم وكذلك في السّباحة والغَوص، كذلك لم يكتف بما اكتسب من علم، واستغل مدّة الحكم التي صدرت ضده بإبعاده عن يافا، عقابا له على قتله لجند الانكشاريّة، بالتوجّه نحو مدينة دمشق حيث التحق بمدارسها وتابع دراسته. كما أنه استغل تنقّلاته للاطّلاع على الفلسفات المختلفة وخاصّة الهندية منها، وتعرّف على الحكيم الهندي وتلقى العلوم عنه التي أفادته في فَهم نفسه والتّحكّم بقُدراته وتصرّفاته.

مركزيّة المرأة في الرواية

تستحوذُ المرأةُ على القسم الأكبر من الرواية، وما يجمعُ بين كل النساء اللاتي كنّ في قلب الأحداث: الجمالُ والفتنةُ وحلوُ الكلام وجرأةُ الفعل وعُلُوُّ المكانة وغنى المال واستقلاليةُ التصرّف. وينقلنا الكاتب إلى هذا الجوّ الجميل لمجالس النساء الذي يُبعدنا عن هموم الحياة اليومية، ويطلعنا على حياة القصور وأصحابها وأبناء الطبقات الغنيّة والحاكمة التي لا علاقة لها بما يجري في واقع الحياة للناس العاديين.

ويُدخلُنا عوالمَ ألفِ ليلة وليلة ومخادعَ حريمِ السّلطان العثماني وهو يصوّرُ مشهدَ اللهو في المتنزه الطبيعي بين المياه والينابيع وحدائقِ الورد، حيث كان يوسف يلهو مع الفتيات ويمسك بأيديهن، ويمسّدُ شعورَهنّ، ويُداعبُ خدودَهنّ، وتلك الفتاةُ الحسناء بعينيها الواسعتين ونظراتِها التي تشبهُ المخالبَ، التي أغوته فرافقَها بالدخول إلى الغابة وانتهى اللقاءُ بينهما بقبلته الحارقة لأسفلِ رقبتها عند نحرها بجَمر شفتيه. ويصفُ كيف وجد يوسف نفسَه عندما استيقظ بعد تقبيل الفتاة ومُداعبتها محاطا بكوكبة من جواري القصر، ينظرن إليه بشغَف وانبهار، وقد أماطت كلٌّ منهن الخمارَ، فظهرت له وجوهٌ تركية وشركسيّة وقوقازية وألبانية. ألقت إحداهن عليه غصنا من شجرة ليمون تفتّحتْ عليه زهورٌ بيضاء. وألقت أخرى بعِرْق من الريحان، وثالثة بباقة من النّرجس البريّ(ص 13-14).

ورغم كثرة المعجبات بيوسف والمطاردات له من الحسان إلّا أنّه اهتمّ، وبدرجات متفاوتة بـــــ:

ماري: الفتاة الشقراء، بيضاء البشرة ذاتُ العينين الزّرقاوين. هي ابنةُ قنصل الدولة العليّة العثمانية في مدينة باردو بفرنسا، أمّها طبيبة فرنسية، وعائلتها تقضي عطلتَها الصيفيّة في منزلها الفاخر في البيوت المتدرّجة على التلّة. زارته ماري في مرسَمه مَع أمّها ثلاث مرات. في المرّة الأخيرة جاءت وحدَها. طرقت البابَ ودخلت بوجهها الطفولي، وعينيها الزرقاوين، وشعرها الأصفر، وأنفها الدّقيق، وفمها رقيق الشّفتين، وثوبها الفضفاض. وقالت إنّها جاءت لتودّعه لأنّها عائدة مع العائلة إلى فرنسا، واغرورقت عيناها وألقت بنفسها على صدره، فربّت يوسف على كتفها ومسح دمعَها وتمنّى لها رحلة سعيدة.(24)

العَيطموس: هي المرأة الأولى التي دخلت حياة يوسف، وقد عرفها عندما زارته مع ماري وأمّها فشدّت اهتمامه وشغلت تفكيره. امرأة كاملة الأنوثة(ص27)، كاملة الأوصاف، مانحة ومانعة، مقبلة ومدبرة معا. محافظة ومتحرّرة، ذاتُ عزّة وذاتُ بساطة معا. عينان يرفرفُ فيهما طائرُ عناق وطائرُ فراق. ملامحُ مظلّلةٌ بالقداسة ومظلّلة بالغواية. (ص65) مليحةٌ مثلُ تمايل غصن، مهفهفةُ الخصر، مصقولةُ الترائب، ضحكتُها مجلجلةٌ. إطلالتُها مُفْعمةٌ بنسيم الصبا. خفيفةٌ، رشيقةٌ. تسحرك ببسمة ثغرها، وتَلويحة ٍمن يدها، ورنّة من خلخالها، وهفهفةٍ من ردائها، وتأوّدٍ وتثنّ من قامتها. (ص67)

قالوا إنها يهوديّة، وقالوا إنها مسيحيّة، وقالوا إنها تعتنقُ البوذيّة. ولكنها شوهدت تمارسُ العبادةَ في مصلّى النساء الملحق بالمسجد الكبير في حيّ العجمي، وأسست تكيةً بجانب مسجد حسن بيك في المنشيّة.

ولا يعرفُ أحدٌ إنْ كانت تركيةً أم شركسيّة أم من أصول إغريقيّة. وهي ثريّةٌ تملكُ عقارات وأموالا وأسطولا من السّفن التّجاريّة، تحظى بحماية أمير البحر جركس باشا. (ص26)

أحبَّها الناسُ الفقراء والبسطاءُ لتواضعِها، كانت تتصدّق على المحتاجين، وتزورُ المرضى في البيمارستان، وتوزّعُ لحمَ الأضاحي في الأعياد. (ص28).

أعجبت برسومات يوسف، وطلبت منه أنْ يرسمها مقابل قبلة تمنحه إيّاها. استقبلته في قصرها، وجالسته العديد من المرّات، شجّعته على الصّبر وتحمّل صعوبة الابتعاد عن يافا وأهلها بعد صدور حكم الإبعاد ضده. أحبّت يوسف بصدق، ولكنها رفضت أيّة علاقة جسديّة معه.

المرأة ذات السّنّ الذهبيّة: وهي الجارة في دمشق: التي عاكسَته وتحدّته ودَعَتْه: اعتلِ السورَ وتعال إلى مخدعي عندما ينتصف الليل.(178).وبالفعل غامر وجاءها منتصفَ الليل فاكتشفَ خديعتَها له، ووقع في أيدي الحرس فسلّموه للجند ووُضع في المخفر.

لكنها عادت للتّحرّش به وطلبت منه أنْ يتبعها فتبعها دون تلكؤ. (ص189) ووصل معها إلى بيتها الفَخم، وإذ طلبت منه الجلوس سألها: مَنْ أنت، أنسيّة أم جنيّة؟ فأجابته: الاثنان معا، في النهار إنسيّة، وفي الليل جنيّة. وتابعت وهي تُنْشبُ مخالبَ عينيها في عينيه: أنا قاتلةُ الرجال، لا أذبحهُم بالسّكين، إنّما أذبحهُم بسلاح المتعة واللذة وطاقةِ الجماع. أذبحهم بناري وشبَقي. أمتصّ كلّ الطاقة الكامنة في أجسادهم. أنهكهم، فأنا بقوّة عَشر نساء. فهل أنتَ مستعدّ للموت اللذيذ؟ إنّني مزيجٌ من الإنس والجان. أنا مِنَ اختلاط نار البراكين بسواد الدخان. أنا في النهار (أندروميدا)، وفي الليل (ميدوسا). أندروميدا التي تَسقيك من عينيها خمرا، وفي الليل، ميدوسا التي تحوّلك إلى حجر. أنا ساحرةٌ ومشعوذة أعلمُ ما في الغيب وأكون قبيحةً وشريرة أحيانا، وفي أحيان أخرى، أكون مثلَ قطعة نقود ذهبية، سَكّها الحاكمُ الإغريقي سكاريوس الذي حكم بلدَكم يافا. أمّا أنتَ، فإنّك في مَنزلة بين منزلتين، من جهة جميلٌ ومُذهل، ومن جهة ثانية قبيحٌ وكاذب. يتعيّنُ أنْ تكونَ غامضا ومختلفا مثلي، نهارُك أسود، ومساؤُك أبيض."

وبعد الجلسة الحواريّة السّاحرة صدّته بعيدا، وطلبت منه أن يغادرَ بيتَها دون إبطاء، ودفعته بعصبيّة إلى الخارج. (ص194-196) لم يستطع التّسليم بهزيمته، فحلم بها، وأنّه قام باغتصابها بقوّة أفقدتها وعيَها وتوازنها. وعوّضَ بحلمه ما فاته في الواقع.

فيديا التي كانت في خدمة الحكيم الهنديّ، لفتت اهتمامَ يوسف بجمالها ولطفها، وأحسّ بحنين قويّ لها وهي تمسك بيده وتُعلّمه الرّقص، أحسّ وهو ممسك بكفّها والدّماء الحارّة تسري في عروقها، كأنّه يمسك عصفورا ينبض في يده. أحسّ بها. أحسّ برسائلِ الودّ التي تُرسلها إليه، باللمساتِ الرقيقة، والنّظراتِ العميقة. كان يخشى من هذه المغامرة. كان عليه أنْ يفكّرَ أكثر، وأنْ يتصرّفَ بحكمة، فلماذا تُلاحقُه نزوةُ المغامرة أينما ذهب، وحيثما حَلّ. (ص266)

المُميّز في رواية "راكب الرّيح"

"راكبُ الريح" روايةٌ تبدأ مرحلةً جديدة في إبْداع يحيى يخلف، وتختلفُ عن رواياته السّابقة بالكثير، وتتفرّدُ بــــ:

اللغة الممَيّزة، الجديدة، السّلسة المنسابة بإيقاعيّةِ الحروف والمقاطعِ ومَخارجها "غابتْ عنك. غابَ عطر. وغابت هالةُ غواية. وغاب سوادُ كُحْل، وكَرَزُ شَفَةٍ، وعقيقُ قرط، ولؤلؤٌ يُحيط بجيدِها النّبيل."(ص67). و"تدور وتدور معها عيناه، تدور لهفتُه. تتوقّفُ فجأة. تتوقّف عيناه على انفعالات وجهها، طائرُ الشباب يرفرفُ في عينيها، هالة سرور تُكَلّلُ قامتَها، فجأة، تُطلق هتافَ فرح وتكادُ تقفز وتطير، تهتف مثلَ صَهيلِ فرس، مثلَ حنينِ ناقة، مثلَ سَليلِ غزالة، مثلَ تغريدِ بُلبُلة"(ص98)، وباللغةِ الجميلة المتداوَلةِ المطعّمةِ بالتعابيرِ الشعبية (فَرْكة كعب)(ص52)

وبالتّعابير القديمة التي تزيدُ العبارة جمالا والمعاني عُمقا (مانحةٌ ومانعةٌ هي، مُقبِلةٌ مُدبرةٌ معا. محافظةٌ ومُتحرّرةٌ معا. ذاتُ عزّة وذاتُ بساط معا. عينان يرفرفُ فيهما طائر عناق وطائر فراق) (ص65).

ومزيّنةٍ باقتباسات (مشت أمامه خطوةً خطوة، كمَشْي قَطاة إلى غدير)(ص66) " ولعلّها بعيدةُ مَهوى القِرط"(ص175) " كأنّما الموتُ طحنَ المدينة بكَلْكله" "وعلى ليلٍ شديدِ السّواد يُرخي سُدولَه على خَوْف  ، ويُغْلقُ رتاجَه على فَزَع"(ص304)

وببعضِ التّعابير التي تجعل القارئ يعيشُ لحظةَ ذهول وسُكْرٍ وتَجَلّ. "بينهما كان يمتدّ حبلُ شوق ورذاذ أحاسيسَ ومشاعرَ"(ص97) "همسَتْ ووصلته أنفاسُها، رائحةَ سِواك وأراك ومسك، لأنفاسِها رائحةُ حديقة"(ص84)

وبألفاظٍ ترسمُ الحركاتِ والمشاهدَ وتبعثُ الحركةَ في كلّ شيء، "سَحرَها كلامُه، وسَحَرتها إطلالتُه، وحرّكَ شهوةً في أعماقها، وأذْهلتْها جرأةُ عينيه اللتين تطلّ منهما مخالبُ."(ص106). "فصرختْ وهي جذلى: هيّا نأكلُ، نأكلُ بأصابعنا وبأَكفّنا وبأيدينا وبرموشنا، إلى الجحيم ذلك الإتيكيت. لا نريد وساطةً بين الزّادِ وأفواهنا"(ص89). وأخيرا، اكتملَ استواءُ السّيّدةِ على أريكتها، وبدتْ كأنّها خارجةٌ من وراء المجرّاتِ ونجومِها وأقمارِها، من وراء الرّياح والبرق والرّعد والمطر"(ص93).

وتألّقت اللغة في رثاء يوسف لأمّه: "اغفري لي إنْ كنتُ نسيتُ أو أخطأت. لا ظلّ إلّا ظلّك يا أمّاه. انهضي يا سيّدةَ الرّوح. انهضي يا سيّدةَ الدّفء والطيبة. انهضي يا مَنْ قلبُك مَعبدٌ للمحبّة. انهضي يا سيّدةَ الأيائل وحوريّات النجوم. انهضي لتنهض يافا من جديد."(ص317)

وفي كلمات العيطموس ليوسف في اللقاء الأخير قبل الوداع:"أمّا أنتَ يا يوسف، فإنّك حصان، بل مهر من أمهار البراري، مهر غير مُدَجّن يرمح ويعدو على طريق البّحث عن الحقيقة والمعرفة من خلال الرّقش والتّزيين والتّوريق والتّوشيح والتذهيب والتّرصيع والتّزجيج والتّشجير والتّزهير، وفي طريقه البكر، يتعرّفُ على لذّة المغامرة، وحسن الغواية، ويركب الريحَ، ويعلو.. ويعلو".

"أنتَ خُلقتَ من ضلع هذه المدينة، وأنتَ عنوانُ جمالها وأساطيرها ومخزونُ ذاكرتها وتراثها، ولا عشقَ لك بعد الآن سوى عشقِ بحرِها، ومآذنها، ومعمارها، ومنارتها، وأسواقها، وأسوارها، وأبراجها، وأروقةِ مساجدها".

"عِشْ كمهر غير مُدَجّن، فأنا أيضا أرغبُ في أنْ أكونَ مهرةً متحرّرةً من العبوديّة، مهرةً خارجة إلى الأبدِ من أسواق الرّقيق، ومن عبوديّة الحَرَملك، ومن أقفاص القصور." (ص341).

الزّمن

اعتدنا في قراءتنا لرواياتِ يحيى يخلف أنْ يُعيّشَنا الزّمنَ المعيشَ في رواياته، ويصرُّ على مُرافقة الأحداثِ وتسجيلِ نَبَضاتِ الزّمن والنّاس والمواقعِ التي تطؤها الأقدامُ، لكنّنا نجده في روايته هذه "راكب الرّيح" يسرقنا ويسحبُ بنا على صَهوة الرّيح إلى زمن بعيد في التاريخ، يعود إلى القرن الثامن عشر، فترةِ الحكم العثماني وغزوِ نابليون بونابرت للبلاد. وقد يكون الكاتبُ أراد أنْ يؤكدَ حقيقةً تاريخيةً أنّ البلادَ التي تشهدُ احتلالَ الغرباءِ لها قد عرفت الكثيرَ من الغازين والمحتلين، ولكنهم هُزموا ورَحلوا، وهذا هو مصيرُ كلِّ محتلّ ظالم غريب. وكما حدث في الماضي، هكذا سيكونُ في أيامنا، وفي كلّ زمان، مصيرُ المعتدي إلى الهزيمة، والمحتلِ إلى الرّحيل.

المكانُ بطل الرّواية

تساءل الشاعرُ أدونيس: هل المكانُ يموت هو أيضا؟ هل تموتُ الأمكنةُ حقّا، كما يموتُ البشر؟ علما أنّ المكانَ ليس مجرّدَ مساحةٍ جغرافيّةٍ. إنّه بالأَحْرى مساحةٌ إنسانيّةٌ – حضاريّةٌ. أنْ يموتَ المكانُ يعني أنّ البشرَ الذين يُقيمون في هذا المكان يموتون هم أيضا أو يُميتُهم بشرٌ آخرون. ربّما يستمرُ المكانُ ظاهريّا: سطحيّا ماديّا. لكنّه يستمرُ كمِثْلِ هيْكلٍ خاوٍ، لا جوهرَ له. المكانُ مسكونٌ بموته مثل الإنسان. مسكونٌ ببُعْدٍ استئصالي يُفْرغُه ممّا هو، ويملؤه بشيء آخر. إماتَةُ المكان تعني خَلقَه من جديد، على صورة الذين أماتوه. يُخرجونه من صورته القديمة، ويمنحونه صورةً جديدةً. مُحاكاةً لانبعاث الإنسان بعد الموت."(القدس العربي 18.8.2016)

وصدمةُ المكان هذه عاشَها يحيى يخلف يوم زارَ أطلالَ بلدته سمخ بعد اتّفاقِ أوسلو وعودتِهِ للوطن. "سمخ وردة كالدّهان، سدوم أكلتها الأمواج.. بل أكلتها أسنانُ الجرّافات، سمخ بلدةٌ غيرُ مَرئيّةٍ، وهذا الذي أراه على أنقاضها تلالٌ من بيوتِ الإسمنت، تلالٌ من الأسوار التي تحجبُ البحيرة، مدينةٌ على النّمط الأوروبي. مكانُ سمخ صارتْ مدينةٌ يهوديّةٌ جديدةٌ فوق ترابها، على أنقاض بيوتها. سمخ مدينةٌ تمّ ترويضُها وتهويدُها "(نهر يستحم في بحيرة ص77/80)

وكما الأزمنةُ هكذا الأمكنةُ، تُبَدّلُ شكلَها الخارجيَ وتتآلفُ مع مُغتصبها الجديد، وتتعايشُ معه، ولكنّها تُخفي حنينا قويّا إلى صاحبها الأوّل ولا تنساه أبدا.

وإذ يرى يحيى يخلف كيف تُنتَهكُ الأمكنةَ يوميّا على طول وعرض الأراضي المحتلة، ويعملُ المحتَلُّ على مَحو واقتلاع كلّ أثر للمكان الذي كان، ويعملُ بكلّ جدّ لتغييرِ شَكلِ وصورةِ الأمكنةِ وتَبْديلِ أسمائها لتُصبحَ غريبةً على أهلها الأصليين، فتنتهي العلاقاتُ وتتقطّعُ الوشائجُ. يركبُ الريحَ ويأخذُنا إلى يافا التي عرفَتْ جريمةَ الغزو الفرنسي لها وفضيحةَ نابليون بونابرت الذي أمرَ بقتل الآلافِ من أهل يافا وتدميرِ المدينة. أخَذَنا يحيى يخلف إلى يافا ليقولَ لنا: قد ينجحُ الغزاةُ الأقوياءُ في انتهاك الأرضِ وتدميرِها وقَتلِ الناسِ وتشريدِهم. لكنّ نهايةَ كلّ محتَلٍّ مهما عظمتْ قوّتُه وسَطْوتُه إلى الزّوالِ ومَزْبلةِ التاريخ، هكذا كان في الماضي، وهكذا يكون في الحاضر وفي المستقبل، فلا يأسَ مع الحياة ومع الثّقةِ بالنّفس.

المكانُ في "راكب الريح" هو البطلُ الوحيدُ المستحوذُ على كلّ جوانبِ الأحداثِ والشّخصيّاتِ، فالتّوقّفُ عند العديدِ من الأماكن يتكرّرُ ويكونُ الوصفُ الرّائعُ للمشاهدِ المختلفةِ مثل:" أطَلّ السّهلُ من وراء دَغلِ الأشجار، سهلٌ تكسوه الخضرةُ والعشبُ وزهورٌ تطرّز المشهدَ كلّه، وصخورٌ وأحجار ٌكبيرةٌ نحتَتْها الرياحُ وشذّبتها، فامتلأ السهلُ بمزيدٍ من السّحر. مشت ومشى إلى جانبها، وكلما تقدّما، ينفتحُ المشهدُ على مَزيد من بساتينِ الألوان: هذا أقحوانٌ، وهذا الزعمطوط أو عصاةُ الراعي، وهذه خزامى، وتلك سَوْسنةٌ، ومن بين الأشواك، تتفتّحُ زهرةُ الخرفيش بلون زهري ساحر، وإلى جانبها زهرةُ التّرمس تُشكّلُ زهورَها تدرّجا، وتبدو مثلَ مَنارة البحر. وراء الحجارةِ زهرةُ زعفران، وخلفَ نبات الخرفيش زنبقة بريّة. وزهور الحمّيض والخبيزى والمصيص والمرّار والسنّاريّة وأوراق السرخس. زهور وألوان وشموخ، فلسيقان بعضِ الأزهار عنقُ زرافة، وعرفُ ديك، وعَيْنُ غزالة، تشرئبُّ تيجانُه ومَيْسمُها وأوراقُها، كأنها تُطلُّ من شرفة. وتزهو بجمالها مثلَ صبيّة تستغرقُ في أحلامِها. وتضربُ جذورَها الطريّةَ في التربة. وتحيطُ بها الأعشابُ النديّة"(ص57).

"القَرين" حيلة لبَلوَرة شخصيّة الفلسطيني الجديد

آمن العربي منذ الجاهلية أنّ لكلّ شاعر شيطانا يوحي له بما يقول من شعر. وفي الإسلام آمن المسلم بوجود الشيطان وأنّه عدوه المبين، كما ورد في سورة يوسف آية (5)"إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين"، وآمن بملازمة القَرين له، وقد يكون قرين خير أو قرين شرّ. وفي سورة الصافات، الآية (51) ورد ذكر القَرين "قال قائل منهم إنّي كان لي قرين". وورد في حديث للرسول قوله: "ما من أحد إلّا وُكّل به قرينُه من الجنّ وقرينُه من الملائكة".

ويوسف يعترف بملازمة قرينه له بقوله: هناك قرين يسكنني. سألتُ شيخَ المسجد الكبير، فقال إنّ لكل مسلم عفريتا من الجن يُصاحبُه، ويحلّ في بدنه، ويغويه، والجنُ الذي يسكن جسدي لا يستيقظُ إلّا في وقت الحبّ ووقتِ الحرب. والشيخُ يقول إنّ ذلك ذُكرَ في القرآن والسنّة، وإنّ القرينَ يمكنُ أنْ يكونَ من الملائكة فيدفع صاحبَه لفعل الخير فيتجنّبَ أفعالَ الشرّ، ويمكن أنْ يكونَ من الشياطين فيدفعه لعمل الشرّ" (ص163-164)

والقَرين هو الصاحبُ أو الرّفيق بل هو الذي يتطابق في الصّفات مع قرينه. وكان دوستويفسكي (1821-1881) في روايته "القرين" قد رسم هذه الشخصيةَ الملازمةَ لغوليادكين بطلِ الروايةِ، والدّافعةَ لها للقيام بأعمالٍ مختلفة.

ويحيى يخلف استخدم هذا الإيمان بوجود القرين ليكون مُنْطلقَه في خلخَلة المسلّمات التي آمنّا بها وكبّلتنا عشرات السنين، وأبعدتنا عن إمكانية الشكّ بمصداقيّة ما نحن عليه، أو لنُعْطي أنفسَنا إمكانيّة التجريب لسُبُل جديدة لتحقيق أهدافنا وبناء مستقبلنا. يحيى يخلف يريد أنْ يقول إنّنا تصرّفنا وعملنا في الماضي منقادين بإرادتنا المشلولة وعقلنا المعطّل ورؤيتنا المحدودة، وكان قرين يقودنا ويُحدّد لنا مَسيرَنا. وآن لنا الآن، بعد كلّ ما أصابنا أنْ نتخلّص من قريننا ونملك مصيرَنا وقدرتَنا ونعملَ بإرادتنا الحرّة.

وكما رأينا في الرّواية لازَم القَرينُ يوسف، وكان مَصْدرَ القوّةِ الهائلة التي عُرف بها، وسببَ تميّزهِ وتفوّقه على كلّ زملائه في القفز للماء وغير ذلك. كذلك كان القرينُ وراء انتصارِ يوسفَ على جند الانكشاريّة بقَتلهم جميعا. وكذلك كان وراء القُبلةِ الحارقةِ خدّ الجارية الجميلة، ومن ثم مُلاحقةِ الفَهد وصَرعه، ومقارعةِ جندِ نابليون والتّنكيلِ بهم.

لكنّ استعمالَ القوّةِ المفرطة بغير تَفكير وتقديرِ العواقبِ أدّى إلى الحُكمِ على يوسفَ بمغادرة يافا والابتعادِ عن بلدته وأهله وأحبّائه. ممّا جعله يقف على خطإ تصرّفه واستخدامه القوّة، فقرّر التّخلصَ من هذا القرينِ الذي في داخله ليكونَ الإنسانَ العاديَّ البسيطَ الذي يفكّر برويّة، ويتّخذ قراره بعيدا عن تأثيرات غير محسوبة وقد تعود عليه بالضّرر. وبالفعل اهتمّ بالوصول إلى الحكيم الهندي الذي ساعده في ذلك، وجعله يفكرُ أنّ طريقَ استعمالِ القوةِ غير المحدودة المتهوّرةِ توصلُ للدمار، ولا خيرَ من طريق اتّباع السلام ونشرِ المحبّة وروحِ التّعاون بين الجميع. وقد أسهب الحكيم ساعة لقائه بيوسف في شرح رسالتَه في "دفاعه عن الشرق وحكمتِه وقيَمِه وعلومِه وثقافته في مواجهة التوحّش الغربي"(ص234) قائلا "نحن لدينا رسالةٌ، رسالةُ محبّة ومساواة وسلام. نحن نُبشّرُ بالأخوّة والمحبّة بين بني البشر، فالناس في دينِكم هم عيالُ الله. وهذه الأرضُ التي يتقاتلون عليها هي أرضُ الله، والبلادُ في الشرق والغرب هي ملكُ الخالق، وهو الذي يرثُ الأرض وما عليها يوم القيامة. رسالتنا للغرب الذي يغزو الشرقَ ويأتي إلينا ليستعبدَنا وينهبَ خيراتنا ويذلَّ حضارتنا وأدياننا ومعتقداتنا، رسالتنا بمثابة اليد الممدودةِ له للسلام والأخوّةِ من موقع الندّ والتّكافؤ"(ص241)

صعُبَ على يوسف بعد أن رأى ما فعل جندُ نابليون بيافا وأهلِها وباقي البلاد أنْ يتسامحَ مع عدوه، ورفضَ دعوةَ الحكيم للمصالحة قائلا:

- لا كلامَ ولا صلح مع مَن ذبحوا والدي وأهلَ مدينتي.

فجاء جوابُ الحكيم هادئا مقنعا: هذه البلاد تدفعُ ثمنَ موقعها في قَلبِ العالم. وتدفع ثمنَ قداستِها، فمنها انطلقت الرّسالاتُ السّماويّة، ولقد عبَرها حكماءُ وحاملو قناديلَ معرفة، وعبرتها رماحٌ وسيوفٌ ومنجنيقات. لكنّ غُزاتها مضَوْا وعبرُوا تاركينَ عمائرهم أطلالا. وهذه المدينةُ يافا تعرّضت لغزوات على مدى القرون، ومذابحَ لا تُحصى، وستتعرّض لغزوات أخرى في القرون القادمة، طالما أنّ الظلمَ قائمٌ، والقلوبَ سوداء" وختم كلامَه متوجّها إلى يوسف: "يا بنيّ، علينا أنْ نُخاطبَهم ونتحاورَ معهم بلغة الحكمة، لعلّنا نلتقي معهم عند منتصف الطريٌق" (ص331-332).

التّناغم التّاريخي بين الحاضر والماضي

مَن مثلُ يحيى يخلف يعرفُ مأساويّة الرّاهن العربي الذي نعيشُه؟

ومَن مثله يُدرك أثرَ هذا الواقع على إفْقاد الفلسطينيّ كلّ أمل له في تحقيق حلمه وأمله بدَحْر الاحتلال وقيامِ الدولة الفلسطينيّة العَتيدة التي قاتل لأجلها؟

لكنّ جذوةَ المبدع، ورُؤيا الثوريّ، وثقةَ المقاتل بعَدالة قضيّته، وقدرتَه على تحقيق الهدف، تدفع ُكلّها بيحيى يخلف نحو التّفكير الهادئ الرّزين، والتّبصّرِ بواقع الحالِ وصيرورةِ المستقبل، ومِن ثم الاندفاع نحو الماضي البعيد والقريب لاستخلاصِ التّجارب والعبر.

"التاريخُ يُعيد نفسَه" جملةٌ يتيمةٌ تتكرّرُ وتُستعادُ كبدهيّة مقبولة. ومثلها: "لا ظالمَ باقٍ" و "لا دولةً خالدة" و "الزمن دوّار يوم إلك ويوم عليك".

تعابير نُكرّرها ونستشهدُ بها، وكثيرا ما نسخرُ منها. ولكنّها في المحصّلة بنتَ تجاربِ الشعوب، استخلصتها وصاغتها بالكلمات الموجزة الرّصينة.

ويحيى يخلف وصل إلى القناعة الثّوريّة الواعية: أنّ الحقَّ لا يموت، لكنْ حتى تصلَ إليه وتنالَه عليك أنْ تكونَ حكيما، وإن لم تحصلْ على الكلّ فاقبل بالقليل، وإن واجهتَ المستحيلَ فلا تيأسْ، وغيّر من أسلوب فكرِك وعملك، واسْعَ لشقّ الصّعاب، وإذا وجدتَ في استعمال القوة تهوّرا يوصلُ للدمار، ففكرْ بإعمالِ فكرك في اتّباع الحكمة والتّروي.

هكذا ركبَ يحيى يخلف الريحَ، وحلّقَ بعيدا في الزّمان والمكان، يرصدُ أرضَ الوطن ويتابعُ حركاتِ الجيوش الزّاحفة والأخرى المنهزمة، وقَتْلَ وتشريدَ الناس، وتدميرَ بيوتهم وبلادِهم. فنزل في مدينة يافا، وكانت ككلّ البلاد يومها، أواخر القرن الثامن عشر، تدينُ للحكم العثماني وتخضعُ لظُلم جُندِ الانكشاريّة. وشهد الجريمةَ التي اقترفها نابليون بونابرت بحقّ أهلها حيث قتل الآلافَ ودمّرَ البيوتَ وحرق الزّرع .

وعاد راكب الريح بعد طوافه لواقع الحاضر، ووجدَ أنّ الامبراطوريةَ العثمانية انهزمت، و جُندَ الانكشاريّةِ اختفَوْا منَ الوجود، وغيّبتِ الأيامُ والسّنونُ والتاريخُ نابليون، وظلّت يافا قائمةً، وعادت لتكونَ عروسَ حوضِ البحر الأبيض المتوسط ودرّةَ فلسطين، وعاد أهلُ يافا ليزاولوا حياتَهم ويُقيموا الأفراحَ ويرقصوا ويغنّوا ويحلموا بمستقبلٍ أجمل.

"لا ظالمَ باق" و "التاريخُ يكرّر نفسَه" ولا دولةً خالدة". والتاريخُ عِبرٌ ودروس.

ويحيى المبدع الثوري المتفائل يستخلصُ العبرَ، يركبُ الريحَ ويعودُ من الزمن البّعيد ليحطّ في رام الله وهو أكثرُ ثقةٍ بالآتي.

الاستفادة من الآداب العالميّة والأساطير

الجوُّ السّحريُّ الخيالي المأخوذُ من أجواء "ألف ليلة وليلة"، واللغةُ السّلسةُ الجميلةُ المشحونةُ بالعواطف والحنين والحبّ، والحسانُ اللاتي التقينا بهنّ كالعيطموس الفاتنةِ الجمال المُستعارةِ من حوريّات الجنّة التي تقودنا إلى "أندروميدا" الجميلة ابنة كيفاوس ملك مدينة يافا وكاسيوبيا. وكيف أدّى تكبّر كاسيوبيا إلى أن تتباهى بأنّ ابنتها أندروميدا أجمل بكثير من حوريات البحر، أرسل بوسيدون إله البحر وحشَ البحار لتدمير المدينة كنوع من العقاب الإلهي. وفي محاولة لاستلطاف الوحش، قيّدَ الملك كيفاوس ابنتَه أندروميدا على الصخور كقربان، وقبيل أن يتمكن الوحش من اختطاف الأميرة، نزل البطل بيرسيوس من السماء على حصانه المجنّح وأنقذها من الموت وتزوّجها. (ويكيبيديا) وذات السنّ الذّهبيّة المتحديّةُ الرجالِ وقاتلتهم، تأخذنا مباشرة إلى أسطورة "ميدوسا" الجميلة التي مارست الجنس في معبد اثينا فأغضبتها وحولتها إلى امرأة بشعة المظهر كما حوّلت شعرَها إلى ثعابين، وكلّ مَن ينظر إلى عينيها يتحوّل إلى حجر. (ويكيبيديا).

وبتلك الجلسات العاطفيّة التي أقامتها العيطموس بحضور يوسف حيث تختار في كل جلسة مَن تروي حكاية رجل عشقَ امرأةً، وكاد يفقدُ حياته بسبب هذا العشق. (ص103-115) تأخذنا إلى قصص "الديكاميرون" المشهورة.

كما أنه اعتمد على الفلسفة القديمة والهنديّة خاصة كما وردت على لسان العيطموس حول القبلة التي تعتبر عند الهندوس مَدخلا إلى اللقاء الحميم الذي يمثّل نقاء للروح، وصفاء للذهن. وتعني السموّ الروحي ولها أنواع مختلفة. (ص165) وفي حديث الحكيم الهندي الذي علّمَ يوسف كيف يتخلّصُ من قرينه، الذي هو الطاقةُ الكامنة في الإنسان، باعتماده على الحكمة والعقل والتّمارين (ص269-271).

ورغم كلّ ما قلنا يظلّ الكثير

رواية "راكب الريح" جاءت بأسلوبها الجديد، وبنائها، رغم كلاسيكيّته، يوهمُنا بجديد لم يُطرَق بخَلط الأجواء والتّلاعب باللغة والزّمان والمكان وتقابل الشخصيّات. وفي "راكب الريح" نُحلّق بعيدا في الأعالي لنراقب كلّ ما كان وقائم ونفكّر بكل ما يجب أن يكون. نستذكر الماضي ونستشرف الآتي.

***

د. نبيه القاسم - الرامة - فلسطين

مستحدثات فنتازيا الموضوعة ونوعية الأسطرة المتعدية

توطئة: لعل الكتابة القصصية في عوالم تجربة الكاتب الأمريكي إدغار ألن بو، يمكننا وصفها بكونها مجموعة معادلات نفسانية معبئة في شحنة حوافز مركبة من صنيع لغة الذات الفردية ونزوعاتها السلوكية والاجتماعية والعاطفية التي راحت تغالب قهرية معايير (العقل- الممكن- التخييل) إذ أن المتحكم الرئيسي لدوافعية تلك النصوص التي قام بو في كتابها، لا تتخلى عن سيرورة طابعية (النشأة- الممارسة-الذئقة) وصولا الى دقائق ثمينة من عاملية التخييل وحنكة تصيير المكونات نحو ذلك المنحى المخصوص من ناحية العلامات وزمن ومكان الذات التي تفاعلت فيه لتقدم لنا صورية الأشياء بفطرة السارد العليم أم المشارك في عملية تمثيلات دلالات الحكاية ونواة خطابها المتقهقر بثوابت أصول كتابة الفن القصصي القصيرة، لتتاح لنا إستجابات القراءة والتلقي لتلك الهيئات الفنية، ضمن ذائقة تستشعر ذلك الوجود الحكائي في حدود مواضع معقولة أو غير معقولة في جملة ممارساتها الموضوعية:فهل ياترى أن حكايا هذا القاص الرائد تصب في وجودها ضمن حقائق صورية لها إستجابة وانعكاس خطابها وحكيها في زمنه تحديدا؟أم انها تواجدات لمتواليات خلقت فينا جملة التفاتات تتعلق بهوية هذا النص ومؤولاته الفرضية الخاصة؟ لذا نقول ليس غريبا أن يكتب القاص نصوصه القصصية في هيئة لحالات معادلة في الثيمة والموضوعة والمعالجة وفداحة التجريب، ولكن من الصعب ان نتلقى هذه الحكايات ضمن قواسم ذوقية عشوائية، تواجه صعوبات ما في عملية الاستقصاء والتمحور في محمولات تلك النصوص ومواضعها الكيفية من ناحيتي البناء والأسلوب.في الواقع ماجعلني التفت ألتفاتة معمقة لمشروع بو القصصي الكبير، وإختياري لعوالمه نموذجا للدراسة المستقلة في شكلها العضوي والمقدماتي والمدخلي، ليس لما كان تسجيلا من عدة انطباعات وفراسات لبعض من النقاد والأدباء، ممن زامنوا عصره وأعتاشوا مع طبيعة نصوصه، لا طبعا فالأمر ليس بهذه الصورة إطلاقا، فقط أقول أن سلسلة قراءاتي المبكرة لهذا الكاتب، هي من جعلت لدي ولع التقديم لهذه النصوص، حقيقة تقويمها من جهتي المنظورية الخاصة، وليس تقيدا بما اضفى عليه بعض من النقاد من توصيفات في أغلبها الأعم لا تتناسب مدلوليلا ولو للحظة مع شكل وبنية قصص عوالم بو.إذن الرغبة لدي كما قلت سابقا منذ قراءتي لأول قصة في مختارات كانت تجتمع فيه ثريا نصوص بو الساحرة. لذا فأقول في كل مرة من كتابتي عن قصة جديدة لهذا الفذ، أن كل ما كتبه النقاد في زمنه وحتى يومنا هذا، لا تتعدى حساسية القراءة المحاكاتية السائلة في وجهة نظرها، في حين كان بعضها لا يتجاوز كتابة السيرذاتية للمؤلف نفسه، أما ما الشكل النقدي الذي آثاره النقاد في بعض وقفاتهم شبه الجادة، فلا يتعدى هو الأخر حدود وصف عرضي يتلخص في كون قصص بو عبارة عن لوحات تثير الرعب والسخرية والعدمية لدى البعض منهم. بهذا وذاك تم وسم أدب بو القصصي ضمن عضوية آداب الناشئة قسرا وقهرا، ولو كان هناك فعلا علاقة نقدية وبحثوية ناضجة في مقارية أدب بو القصصي، لما استطاعت كل مناهج النقد التوقف عن مقاربة كل قصة من قصص الكاتب بموجب مواضعة وممارسة منهجية فعالة وجادة. في الواقع كنت لا أحبذ لنفسي مثل هذه الاطالة المدخلية من القراءة، خصوصا وإن ما ذكرته قد تحدثت عنه في قراءات سابقة لقصص بو، ولكن من الممكن أن تكون طبيعة دراستي القصيرة لقصة (الحيوان الغريب) هي ما أثارني في طرح هذه المدخلية الخارجة عن نوعية المقاربة للقصة موضع بحثنا.

- الحيوان الغريب: المبنى القصصي وفرضية الاستيهام بالوقائعي.

1- الحكاية الفنتازية ووسائط السارد العليم وصوته وتحولاته:

ان العناية بخلفيات زمن الحكاية القصصية في المفهوم السردي، ماهي إلا من الفواعل والاواصر البالغة في أهميتها وتأثيراتها عبر ممارسة الافعال المحكية من ناحية كون منظورها السردي هو السبيل في تنام متبايناتها الرابطة والمتحولة في هيئة حالات خاصة من الديمومة والاستقراء والتدليل، لذا وجدنا بدايات قصة (الحيوان الغريب) تعكس لنا ذلك المستوى التأشيري من عوامل وعناصر وأسباب حقبة زمنية غاطسة في وباء الكوليرا في نيويورك، ذلك قبل أن تتم دعوة السارد المشارك من قبل احد أصدقائه في منزله المطل على ضفاف الهدسن. وبو في هذا الإجراء والتحديد الزمني لاعراض ذلك الوباء، يمهد للقراءة تجلبات حدوثات زمن حكايته بنظام العلامة الخطية التتابعية والاستطرادية في نمو الوحدات الخاصة بالمكان المنظور من حيز التجاوز والممارسة في وسائطية مادة الحكي: ( كان لدينا هناك مختلف وسائل التسلية العادية التي يمارسها المصطافون، وكم كانت أيامنا تغدو جميلة وممتعة بنزهاتنا في الغابات أو الرسم ورياضة التجديف والصيد والسباحة والموسيقى والكتب، لو أننا لم نكن نتلقى كل يوم الأنباء المرعبة عما كان يجري في المدينة الآهلة ./ص145 النص اقصصي) من عبر هذه المواطن العرضية- المحكية، تتشكل تتابعية الزمن القصصي من ناحية كونه (الماقبل نصي) وفي هذه الزمن الصفري تواجهنا أدوارا للشخصية كإمكانية محورية دالة على بث المسرود له-كمساهمة مفصلية- تربط المسرود بين زمنين (خارج الحكاية- داخل الحكاية- ساردا ومحورا) وتتوازى العلاقة المكانية بالشخصية ورفيقها الذي يحل في المسرود والسرد عاملا، أو كعنصرا جهاتيا أو هو بمثابة المسند إليه -اي للشخصية المحور- حيث لا نلمس منه سوى حضوره كمادة جانبية في صلة متممة للمحور الفاعل.

2- الزمن الماقبلي تصورا:

تجدر الإشارة الى أن هناك جملة نوازع خاصة لدى متعلقات المحور العاملي، جعل السارد يوظفها وينسبها الى علاقة تصاهرية بين (السارد- الشخصية) على اساس من كونها مجموعة الحدوس التي تسبق عملية وقوع الاحداث، فتتجلى هذه القابلية من الحدوس لدى مركبي (السارد+الشخصية) ذلك تبعا لمواثيق وراثية على حد قول السارد في حال لسان الشخصية ( وهو أعتقاد كنت في هذه المرحلة من حياتي مستعدا للدفاع عنه ./ص145, النص القصصي) الشخصية الساردة هنا تحيل معتقداتها بصورة تعتمد على مؤثرات من ظواهر ما قد حدثت في حيز من حاضرها المعيشي المفترض، وعلى هذا فهي ترسم وفقا لذلك جملة من تتاليات من النوع الذي يشبه أن يكون ضمن حقيقة كاملة في صلب تلك الاحداث السابقة والمنصرمة، اي انها إذا مرت بظروف قاهرة في مرحلة سابقة، فإنها تتخيل بروح تنبؤية بأن شأن القادم حتما سوف يكون جديدا لتلك الخصائص من الاحداث المنصرمة، وعلى هذا النحو رأينا ان الشخصية يعثر في منزل صديقه على مجموعة من الكتب التي تولد عند المرء حالات ذهنية تشيع لمن يقرؤها إحاسيس غرائبية في التعامل والاعتقاد بوجود تلك الميول في حقيقة الظواهر الخرافية التي غدت بدورها تفصيلا في مشاهدات تتم للشخصية نفسه من منطلق فرضية حقيقية قادمة من عين الواقع الاستيهامي: (كانت أفكاري تشرد منذ وقت غير قليل بين الكتاب الذي أقرؤه وحزن المدينة المجاورة وخرابها .. وحين رفعت عيني رأيت سفح الرابية العاري ولمحت شيئا - مسخا غريب الخلقة يهبط سرعة كبيرة من الذروة الى الأسفل ثم يغيب أخيرا في الغابة الكثيفة./ص164 النص القصصي) من الواضح أن الواقع الفعلي للمشاهدة لم يكن ملتبسا على الشخصية، خصوصا وأن شريط الوصف التفصيلي لذلك المسخ كان في وضح النهار: ولكن بأي حقيقة يمكننا تلخيص هوية ذلك الكائن !,أهو محض تصورات تركتها انطباعات القراءة لمادة ذلك الكتاب خصوصا وان الشخصية أصبح يمارس طقسا سريا في قراءة ذلك الكتاب دون علم ومراءى من صديقه به! أم أنها اشباح ميكروبات الكوليرا التي تجسدت للرائي بتلك الهيئات الأليغورية حيث بدت الاحداث القصصية وكأنها شجرة في غابة الحقبة الرومانسية، حبكتها مختزلة من رحيق شرارات المدرسة الطبيعية، ولكن مضمونها حمالا لمغزى حكاية طافحة بدلالات الوصف والتأمل في الافاق الأليغورية المتوجة بملامح حكايا الاسطرة وتمثيلات الفاعل المؤسطر من احياز الفضاءات القصصية المعادلة في الموضوعة والثيمة والدليل.

تعليق القراءة:

لعل آليات الكتابة القصصية لدى بو تتعامل مع ثيمات الواقع في حدود منظومة رمزية حسية تخييلية تتعدى هيئات الاوضاع النمطية من وظيفة الرموز وزمن العلامات، لتمنحنا ظواهر نصية تقترب من الفنتازيا، ولكنها ليست كفنتازيا كافكا أبدا، ذلك لكونها تنطلق من حقيقة مشخصة ومفترضة في الان نفسه، لذا فإن بو لا يغرق نصه داخل حدود من ذلك المعنى المضلل، بل هو يستأثر ممارسة تشترط تواجد الطرفين (الواقع-المفترض) في أوضاع تشغلها المرموزات وليس الفعل الرمزي بذاته الكمولية والمنجزه في حدود وظيفة محالة .لعل بو يصور حقيقة التوالدات للمادة الحكائية داخل وسائط وملمحات أكثر توغلا في حاصيلات المتعدي والمتعدد من المعنى الظاهر في متن ومبنى النص القصصي.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

 

غابرييل غارسيا ماركيز يعود ليشغل القراء من جديد بعد عشرة اعوام على وفاته – رحل عن عالمنا في السابع عشر من نيسان عام 2014 - في روايته الأخيرة والتي اوصى بعدم نشرها " موعدنا في آب " – صدرت ترجمتها العربية قبل ايام ترجمة وضاح محمود -، يتناول غابرييل غارسيا ماركيز في روايته التي تبلغ ما يقارب المئة صفحة، حكاية " آنا مجدلينا باخ "، وهي امرأة في السادسة والاربعين من عمرها، عاشت حياة زوجيّة سعيدة طوال سبعة وعشرين عاما وليس لديها أيّ سبب للهروب من عالمها الذي بنته بيديها. مع ذلك، فإنها تسافر في السادس عشر من آب كل عام لزيارة قبر أمّها المدفونة في إحدى الجزر، لتتحول هناك الى امرأة مختلفة تماما لليلة واحدة فقط. :" كان شهر آب شهر الحر والعواصف المطرية المجنونة، المباغتة، لكنها اعتبرت زيارة قبر أمها كفّارة إضافية من الكفّارات التي يتعين عليها أن تؤديها في موعدها حتما " – موعدنا في شهر آب –.

 في معظم رواياته كان للنساء دور مهم،، إلّا أنّهن لا يؤدّين دور البطولة مثل آنا مجدلينا باخ، وهي امرأة قرّرت في لحظة ما من عمرها استكشاف حياتها الجنسيّة من جديد والبحث عن حريتها الفردية. وهذا الامر سيسبب لها صراعات في أعماق نفسها، لكنها تستمرّ في هذا الطريق، على الرغم من أنها كانت سعيدة في زواجها وليس لديها أسباب للقيام بما تقوم به. وصف روديغو الابن الكيبر لماركيز رواية " موعدنا في شهر آب " بأنها رواية نسوية بامتياز " واضاف في حديث لمحطة بي بي سي :" أعتقد أنّ هذه الرواية تعيد ترتيب جميع أعمال غارسيّا ماركيز وبخاصّة دور المرأة فيها، والذي يجب إعادة النظر فيه بعد هذه الرواية. ولهذا السبب بالذات أعتقد بأهميّتها البالغة ".

الرواية الأخيرة تفضح تعب الروائي الذي كان يبلغ " 72 " عاما عندما قرر كتابتها، بدأ التخطيط لكتابتها عام 1999 وانتهى منها عام 2002، لكنه تركها جانبا وانشغل بكتابة روايتة " ذاكرة غانياتي الحزينات " والتي كان تآخر عمل ادبي ينشره ماركيز في حياته، وفيها نتابع حياة رجل عجوز قرر أن يجعل من الحب المستحيل فرصته الاخيرة قبل الموت . يخبرنا محرر الكتاب " كريستوبال بيرا " والذي عمل مع ماركيز لسنوات وكان محررا لسيرته الذاتية " عشت لاروي " ان ماركيز فاجأ القراء قي آذار من عام 1999 بأنه يعمل على رواية جديدة من خمسة فصول وهي تعالج " موضوعة الحب لمن تقدم بهم العمر قليلا " . سينشر ماركيز الفصل الاول من الرواية عام 2003 في احدى المجلات الاسبانية وتشير سكرتيرته ان ماركيز استأنف العمل من جديد على الرواية في شهر تموز من عام 2003، وبنهاية عام 2004 كانت لديه خمس مسودات من رواية " موعدنا في شهر آب " . يخبرنا وفي المقدمة التي كتبها للرواية يخبرنا كريستوبال بيرا ان وكيلة اعمال ماركيز " كارمن بالثلس " اتصلت به عام 2010 لتخبرنه ان ماركيز " لديه رواية غير منشورة، لم يتمكن بعد من إيجاد خاتمة لها، فطلبت إليّ أن أحفزه على إنهائها "،وسيقوم بيرا بسؤال عن ماركيز عن الرواية وهل صحيح أنها تحتاج إلى خاتمة :" طلب من مونيكا النسخة الأخيرة منها، ثم قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختتم بها القصة ختاما مدهشاً..كان شديد التكتم على عمله، لكنه سمح لي بعد بضعة أشهر أن اقرأ ثلاثة فصول منها، والآن أتذكر ذلك الانطباع الذي خلفه في نفسي ببراعته المطلقة في معالجة موضوع مبتكر " – موعدنا في شهر آب - . من اخلال تتبع حكاية رواية " موعدنا في شهر آب" يتضح أنه كانت هناك لحظة شعر خلالها ماركيز بأن لروايته الاخيرة هذه يستحق النشر، حيث قرأ منها نهاية عام 1999 مقتطفات خلال ندوة مع صديقه الروائي خوسيه ساراماغو في مدريد. بعدها نشر مقتطفات منها في الصحيفة الإسبانية إلباييس"،. إلا أنه نحى مشروع الرواية جانباً، لكنه عام 2004 سيرسل مخطوطة إلى وكيلته كارمن بالثاس مع توصية بان ترتاح الرواية عندها .

كان فقدان الذاكرة الذي عانى منه ماركيز في سنواته الأخيرة سبب رئيسي في امتناعه عن نشر الرواية حتى أنه قال لزوجته :" هذا الكتاب لا نفع منه أبداً، ولابد من تمزيقه " .لكن العائلة لم تمزق الرواية تركته ضمن ارشيف ماركيز االذي انتقل الى جامعة تكساس بعد ان اشترته للحفاظ عليه .يقول الابن غونثالوا ماركيز، مبررا نشر الرواية :"لم يكن والدي في وضع يسمح له بالحكم على عمله لأنه كان يرى فقط العيوب وليس الأشياء المثيرة للاهتمام".، ويضيف :" بعد قراءة النص مرة أخرى مؤخرا، لم يجده كارثيا كما حكم عليه غابو" وقال رودريغو ماركيز في المقدمة التي كتبها للرواية " لقد قررنا بفعل يقارب افعال الخيانة أن ننشره مراهنين على مسرّة القراء قبل أي اعتبار آخر . فإن هم احتفوا بالكتاب وسُروا به، فعسى ان يغفر لنا غابو فعلتنا ويعفوا عنا " . وفي هذا العام كان ماركيز قد أدلى بتصريحات صحافية قال فيها إنه " راضٍ كل الرضى" عن مقاربته للأزمة التي كانت تعاني منها بطلة الرواية، لكن ناشره صرّح بعد عام على وفاته بأنه لم يكن مقتنعاً بالنتيجة النهائية التي آلت إليها الرواية على رغم السنوات التي أمضاها في كتابتها. والمعروف عن ماركيز أنه كان يعدّ كتابة رواياته ما لا يقلّ عن عشر مرات قبل أن يستقرّ على الصيغة التي يريدها، وهذا ما لم يحصل له مع " موعدنا في شهر آب " التي قرّر تنحية مخطوطها بين محفوظاته.

الذي يجعلنا نطارد كل ما كتبه ماركيز، سألت نفسي وانا استعد بالذهاب الى شارع المتنبي يوم امس الجمعة – الثالث من آيار 2024 – كان الجو ممطرا، وكنت انوي الذهاب مع صديق اعتذر في اللحظة الاخيرة مبررا :" ان الجو لا يشجع الذهاب الى المتنبي "، لكني منذ ان وضعت دار نابو قبل ايام قليلة اعلانا عن توفر رواية ماركيز، كنت استعجل الزمن لكي احصل على نسخة من الرواية .. واخذت اسأل نفسي هل شهرة ماركيز كانت وراء تلهفي على قراءة ىخر اعماله؟ يعتمد الحكم على الكتاب احيانا، على ما يكتب عنه من نقد او مراجعات في الصحف، واحيانا اخرى على رأي القراء .. ولكن علينا الإنتباه إلى ان الاعجاب بكتاب ما يعتمد على وجهة نظرنا فيه، فبعض الكتب نقول عنها عظيمة لانها حازت على هذه السمعة عبر العصور..كان برنادشو يقول اننا نقرأ احيانا بعض الأعمال الأدبية التي حازت على شهرة كبيرة بالطريقة التي نأكل بها الاطعمة الغريبة، فأنت لا تحبها تمامًا ولكن الجميع يقول عنها إنها أطعمة خارقة. .ولعل روايات ماركيز مثل الاطعمة الغريبة التي تحوي اشياء لم تخطر على بالنا.. ولهذا سواء كنت قرأت، او لم تقرأ كلمة من روايات غابريل غارسيا ماركيز، فانت بالتاكيد تجد نفسك مدمناً على الحديث عنها .. فالواقعية السحرية التي برع بها هي الوحيدة التي تجعل أغرب أحلامنا متاحة ويمكن تصديقها بشدة. فماركيز برع في ان يدمج عناصر خيالية في بيئة "واقعية"، نساء تطير في سماء طبيعية، جد يعيش على مدى قرون، ولكن لا أحد يلاحظ أن شيء تغير فيه، خلطة روائية غريبة فيها الشخصيات التي نحبها والتي نكرهها، القضايا الفاشلة في الحياة، الحب، والجنس، العنف، والخلافات التي لا نهاية لها، المأساة، والمؤامرات، الميلودراما، والواقعية، فقد قرر ماركيز أن تصل اعماله إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ليحقق المتعة والتسلية.. وعلى حد تعبير الناقد الادبي الشهير هارولد بلوم، فان مثل هذه الروايات يمكنك قراءتها اكثر من مرة لأنها لا تستنفذ اغراضها :" كل صفحة مليئة بالحياة تفوق قدرة أي قارئ واحد على استيعابها، لا توجد جمل ضائعة او زائدة، ولا مجرد انتقالات، في هذه الروايات، ويجب أن تلاحظ كل شيء في الوقت الذي تقرأ فيه." قال بابلو نيرودا عن ماركيز بانه افضل من كتب بالاسبانية منذ ان كتب ثيرفانتس ملحمته دون كيشوت .  

في معظم رواياته سيحاول ماركيز ان يخدع القارئ لكي يصدقه، وهو يستخدم مهارته الصحفية التي تعلم منها كيف يستخدام تفاصيل محددة للغاية عند وصف الأحداث الرائعة. وجد أن القراء كانوا أكثر ميلًا إلى تصديقه عندما وصف الاشياء الغريبة والخارقة، أصر على أنه كان يقدم الحقيقة ببساطة كما يراها:" الحقيقة ليست مجرد الطريق التي تحت قدميك. إنها أيضًا خرافات عامة الناس".

 قال يلينيو أبوليو مندوزا في حوار مطول نشر بعنوان " رائحة الجوافة :"   الحياة في حد ذاتها أكبر مصدر للإلهام، والأحلام ليست سوى جزء صغير جدا من هذا السيل الذي يمثل الحياة، أرى أن الأحلام جزء من الحياة بشكل عام، لكن الواقع أغنى بكثير".

في كلمتها امام لجنة جائزة نوبل قالت الكاتبة الجنوب أفريقية نادين جورديمر ان واجب الكاتب، هو أن يكتب بشكل جيد"

في مواجهة معركته مع المرض فعل ماركيز ذلك ايضا عندما قرر كتابة " موعدنا في شهر آب " فهذا العمل ثمرة صراعه مع المرض وفقدان الذاكرة، وهو شهادة على شكل حب ماركيز والتزامه بالأدب.

صحيحٌ أن الرواية ليست مصقولة مثل أعماله الأخرى كما يقول ابناه في المقدمة، لكنّ محرر الكتاب كريستوبال بيرا يؤمد انها رواية : " مكتملة وناجزة وسوف يرى القراء اكتمالها بأعينهم. لم أجدْ نفسي مضطرًّا ولا مرّة بالطبع لإضافة أيّ كلمة على النصّ، بل إنّني لا أجد ضرورة لذكر ذلك.

يقول غونزالو في حديث الى صحيفة الشرق الاوسط اجراه شوقي الريّس :" هذه الرواية هي ثمرة الجهد الأخير الذي بذله والدي للاستمرار في الكتابة رغم الظروف الصحية التي كان بدأ يعاني منها. ولدى قراءتها مرة أخرى بعد عشر سنوات تقريباً على وفاته، اكتشفنا أن النص يزخر بالعديد من المزايا التي تستدرج القارئ إلى التمتع بأبرز ما في أعمال غابو: قدرته على الإبداع، ولغته الشعرية، وسرديته الأخّاذة، ومعرفته العميقة بمكامن النفس البشرية، ومدى التصاقه الحميم بما عاشه من التجارب، وبخاصة في الحب الذي ربما هو المحور الأساس والمحرك الأول لكل أعماله " .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

قصيدة "أقنعة الرّهبة والصّمت" للشّاعر صالح أحمد كناعنة، من الأعمال الشّعريّة التي تعبّر عن معاناة الإنسان في زمن قاتم قاس وشعوره بالضّياع وفقدان الهويّة، والوحدة والاغتراب، تتميّز بلغتها الرّمزيّة وصورها الغامضة. تشير إلى الموت كحاضر دائم يهدّد كلّ شيء، ويلقي بظلاله على كلّ جوانب الحياة؛ ليصبح بمثابة دافع لصرخة مدوّية في وجه الظّلم والقهر، ولكنّ هذه الصّرخة لا تقف عند حدود التّعبير عن الألم، بل تصبح دعوة للكفاح من أجل عالم أفضل، ينتصر فيه النّور على الظّلمة، والأمل على اليأس، فيشعل الشّاعر جذوة التمرّد في قلوب قرّائه، تاركا إيّاهم في حالة من التأمّل والتّساؤل: هل يستطيع الإنسان التّغلّب على قوى الظّلام؟ أم سيظلّ أسيرا لقوى الشرّ؟. ومن وراء العتمة، ينادي صوته المقاوم للصّمت، يبحّر في عتمة الوجود باحثا عن بصيص أمل في هذا العالم القاتم.

صراع واضح يتجلّى بين الواقع المرّ، والخيال الذي يلجأ إليه، إذ يمثّل الحلم ملاذا بالنّسبة له من قسوة الواقع، فيحلّق بأجنحة خياله، لكن سرعان ما ينهار هذا الحلم، وتعوده قسوة الواقع، وعلى الرّغم من أجواء اليأس التي تسيطر عليه، إلا أنّه لا يفقد الأمل تماما، فيشير إلى فجر باحث عن نشوة جديدة، ففي داخله شعلة لا تزال تضيء، شعلة تؤمن بصبح جديد يبدّد العتمة، ويحيي في قلوب البشر الأمل والحبّ والحياة.

الأسلوب والتّأثير:

يتميّز أسلوب الشّاعر بالتّعبيريّة، فهو يعبّر عن مشاعره الدّاخليّة بشكل مباشر وصادق، فتترك قصيدته انطباعا عميقا لدى القارئ، وتجعله يفكّر في قسوة الحياة، تسلّط الضّوء على المعاناة البشريّة جرّاء العنف والصّراعات والحروب، فتثير مشاعر الحزن والتّعاطف مع المكلومين والضّحايا، وتذكّرنا بضرورة البحث عن الأمل وسط الأنقاض والرّكام.

تمّ توظيف تقنيّة التّقابل والتّضاد بين الكلمات، مثل تقابل الموت والحياة، الخير والشّر، الظّلم والعدالة، اللّيل والفجر والصّبح، ممّا يخلق تأثيرات دراميّة قويّة. كما استخدمت الجمل المتوازيّة في بعض الأبيات؛ وذلك لخلق شعور بالانسجام والتّوازن. ووظّفت تقنيّة التّكثيف؛ للتّعبير عن الكثير من المعاني في كلمات قليلة، الأمر الذي يخلق إيحاءات عميقة ودلالات متعدّدة، ويثير مشاعر القارئ بشكل مباشر وفعّال، ويحفّز خياله ويشركه في عمليّة التّأويل.

تكشف تقنيّة التّكثيف المستخدمة عن مهارة الشّاعر وبراعته في اختيار الكلمات، واستخدامه للصّور المجازية بحرفيّة.

الرمزيّة، ورحلة في أعماق المعنى:

للرّمزيّة دور هامّ في هذه القصيدة، فهي تزيدها عمقا ودلالة، تتيح للقارئ تفسيرها بطرق مختلفة، وتساعد على إثراء المعنى، وتعمل على إيصال أحاسيس الشّاعر المتناقضة كالخوف والقهر واليأس والرّجاء والأمل، تثير التّساؤلات حول القضايا الإنسانيّة المختلفة، مثل الحريّة والعدالة والظّلم؛ لتزداد السّطور جمالا ورونقا، وتغدو أكثر جاذبيّة.

إليكم بعض الأمثلة التي وردت فيها الرّمزيّة:

"أقنعة الرّهبَةِ والصّمتِ": ترمز إلى القمع والخوف الذي يُفرَض على النّاس.

"الدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى": ترمز إلى الطّريق الصّعب، المليء بالعقبات.

"الموتُ يُحايِلُ لَونَ المَوت": ترمز إلى تكرار عمليّات القتل والموت.

"العالم أنقاضٌ تعوي": ترمز إلى الدّمار والفوضى التي تسيطر على العالم.

"الغيم، لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم": ترمز إلى الأمل المتلاشي.

"الخَيمَةُ أوتادٌ في جُرح": ترمز إلى الشّعور بالوحدة، وتجسّد حالة اللّجوء والتشرّد نتيجة للظّلم.

"بَصَماتٍ لِنَهارٍ مات": ترمز إلى آثار الحرب والعنف والدّمار.

"النّاسِكُ لمّا صارَ المَوتُ هُناكَ هِوايَة، وضعَ النّظّاراتِ الأغمَق": ترمز إلى استسلام المثقّف لليأس والإحباط وفقدان للأمل، والتّجاهل واللّامبالاة، خوفا من ملاحقة الأيديولوجيّة الرسميّة في بلاده، وبالتّالي يختار الصّمت.

"تَتثاءَبُ أحلامُ النّهرين": ترمز إلى موت الحضارة العربيّة.

"سَيفُ المُتَنَبي": ترمز إلى قوّة الشّعر وقدرته على التّغيير؛ كأداة لمقاومة الظّلم والقهر.

"اللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ، يَرميها في نَعشِ المَوتى": ترمز إلى قسوة اللّيل وظلمه.

"الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة": تجسّد تطلّعا نحو غد أفضل، وتعبّر عن رغبة جامحة في التّغيير والتّجديد، وعن شوق لفجر متحرّر من قيود الظّلام، يبشّرنا بنهاية اللّيل وبدء نهار جديد.

كما تلعب الذّاكرة دورا في هذه القصيدة فتثير اللّوعة والأسى، ويدلّ الحبّ إلى التّوق إلى التّواصل والانتماء، لكنّه يظل بعيد المنال، كما يمثّل الزّمن قوّة قاهرة تسحق آمال الشّاعر وتفقده إيمانه بالحياة، فيثقل الهمّ صدره ويشعره بغصّة تعتصر دواخله، وبالضّيق والاختناق الذي يهدّد كينونته.

الفلسفة، بين عبثيّة الحياة والأمل:

تحمل هذه القصيدة فلسفة عميقة، تعبّر عن مشاعر مبدعها تجاه العالم، وتطرح التّساؤلات حول عبثيّة الحياة والموت ومعناهما، والحريّة والقمع والانتماء، وتُؤكّد على أهميّة الحلم والذّاكرة في الحفاظ على الهويّة. ولا تعدّ العبثيّة موضوعا رئيسيّا فيها، لكنّها تظهر كأحد الأفكار التي يناقشها الشّاعر، ويمكن تفسير العبثيّة في القصيدة بطرق مختلفة، وذلك حسب وجهة نظر القارئ، فهي مليئة بالرّمزيّة، ما يجعلها مفتوحة للتّأويل والتّفسيرات المختلفة، وإثارة ما يستحقّ النّقاش والطّرح.

كما تغلّف القصيدة أيضا، أجواء سياسيّة تجسّد صرخة الشّاعر ضدّ منع الحريّات وفرض الرّقابة على الأفكار في ظلّ الأنظمة القمعيّة، فالصّمت الأعمى يخيّم على المشهد، وهو رمز لقمع حريّة التّعبير وخنق الأصوات، أمّا "الدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى" فرمز إلى الفوضى والانهيار الذي يصيب المجتمع تحت وطأة القمع.

"يتمرّغُ منفيًّا زمني"، تعبّر عن الشّعور بالوحدة والاغتراب في المنفى، بعيدا عن الوطن والأهل.

"هَجَرَتني صَحوةُ أَسمائي": ترمز هذه العبارة إلى فقدان الهويّة بسبب النّفيّ والاقتلاع من الجذور.

"الصّحوةُ لا تُسبى": تعبّر عن إيمان الشّاعر بإمكانيّة التّغيير من خلال الثّورات التي تقوم بها الشّعوب.

"تردي لَيلَ الصَّمتِ الأعمى": تشير إلى انتصار الثّورة على القمع، وإسكات صوت الرّعب.

"نخاسٌ... إنّي نخاسٌ": تشير إلى الاستغلال والفساد.

الصّمت: يمكن تفسيره كرمز للقمع السياسيّ، فالأنظمة الدّيكتاتوريّة تقمع حريّة التّعبير، وتجبر النّاس على الصّمت.

الموت: يمكن تفسيره كرمز للقتل والقمع الذي تمارسه الأنظمة.

المنفى: يمكن تفسيره كرمز للتّشريد القسريّ نتيجة القمع السياسيّ.

النّاسِكُ: يمكن تفسيره كرمز للمثقّف أو المفكّر الذي يسجن أو ينفى بسبب أفكاره المعارضة.

النّخاسُ: يمكن تفسيره كرمز للنّظام الذي يتاجر بحياة النّاس ويستغلّهم.

اللّيلُ: يمكن تفسيره كرمز للظّلم والقهر الذي تفرضه السلطات على شعوبها.

الموسيقى وأدواتها:

تتميّز القصيدة بإيقاع منتظم يساعد على إيصال المشاعر بوضوح، أمّا الموسيقى الشّعريّة مثل التّكرار والجناس والطّباق، فتساعد على جذب اهتمام القارئ.

أضفت الموسيقى حزنا على أجواء القصيدة، تكرّرت بعض الكلمات والعبارات مثل "الصّمت" و"الموت" و"المنفى" مما عزّز من معانيها، وساهم في خلق شعور بالثّقل والضّيق.

كما تتّبع القصيدة نظام القافيّة الداخليّ، الذي يضفي عليها موسيقى هادئة تناسب موضوعها الحزين، ويربط أبياتها ببعضها البعض.

تتواجد القافية الدّاخليّة في نهاية كلّ بيتين أو أكثر من أبيات القصيدة، نجد أنواع مختلفة من القافية مثل القافية التّامّة: "يُمارِسُ سَكرَتَهُ" و "تَتعرّى"، والقافية النّاقصة: "يَسعى بيدينِ مُضرّجَتَين" و"تعوي"، والقافية المتشابهة: "يَستَجدي أنّاتِ مَخاضٍ" و "رَشحَةَ عُقم"، والقافية المتضادّة: "يَعرِفُ حالاتٍ وفُصول" و "ماضٍ مُغرِق".

بشكل عام، تتوزّع القافية بشكل عشوائيّ، مما يضفي على القصيدة إيقاعا متنوّعا، ويمنحها وحدة وتماسكا، ويسهّل على القارئ فهمها، ويساهم في جعلها عملا شعريّا منسجما ومؤثرا.

الاستعارة في القصيدة:

تضفي الاستعارة على القصيدة جمالا ودلالة، وقد استخدمت بشكل متكرّر، مما أشار إلى أهميتها في إيصال المعنى، وإثارة اهتمام القارئ وجذبه. هذه بعض الأمثلة:

"أقنعة الرّهبَةِ والصّمتِ": استعارة مركّبة تشبّه الخوف والقمع بأقنعة تغطّي الوجوه.

"الدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى": استعارة تشبّه الطّريق بالجروح المفتوحة.

"الموتُ يُحايِلُ لَونَ المَوت": استعارة تشبّه الموت بالشّخص الذي يغيّر ملابسه.

"العالم أنقاضٌ تعوي": استعارة تشبّه العالم بحيوان مصاب يصدر أصواتا مؤلمة.

"الغيم.. لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم": استعارة تشبّه الغيم بالعاجز الذي لا يقدّم أيّ مساعدة.

"الخَيمَةُ أوتادٌ في جُرح": استعارة تشبّه الخيمة بالجروح التي تسبّبها الوحدة والألم.

"بَصَماتٍ لِنَهارٍ مات": استعارة تشبّه آثار النّهار بالأثار المدمّرة والجروح التي تخلّفها الحرب.

"النّاسِكُ لمّا صارَ المَوتُ هُناكَ هِوايَة، وضعَ النّظّاراتِ الأغمَق": استعارة تشبّه الموت بالهواية التي يمارسها النّاس، وتشبّه النّظارات الأغمق باللامبالاة التي يظهرونها تجاه الحدث.

"تَتثاءَبُ أحلامُ النّهرين": استعارة تشبّه الأحلام بالنّوم والتّكاسل.

"سَيفُ المُتَنَبي": استعارة تشبّه الشّعر بالسّيف الذي يقاتل الظّلم.

"اللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ، يَرميها في نَعشِ المَوتى": استعارة تشبّه اللّيل بالوحش الذي يأكل الموتى.

"الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة": استعارة تشبّه الفجر بالشّخص الذي يبحث عن السّعادة.

الصّور واللّغة الشّاعريّة الأنيقة:

استخدمت اللّغة والبلاغة والصّور المجازيّة ببراعة؛ للتّعبير عن المشاعر والأفكار، واستخدمت الاستعارة والتّشبيه والكنايّة؛ لإيصال المعنى بشكل أكثر عمقا وجمالا.

يشبّه الشّاعر نفسه بأفعى في قيظ الصّحراء تتلوّى من شدّة الألم، وذلك لخلق شعور بالرّهبة والعناء، كما يشبّه أحلامه بنهر يتثاءب على شفتيه، ويستخدم التّكرار لخلق شعور بالضّغط والتأكيد على الأفكار الرئيسيّة للقصيدة، فيكرّر كلمات الصّمت والموت واللّيل، لإبراز أهميتها في إيصال المعنى.

من وحي المتنبّي:

تشير عبارة "سَيفُ المُتَنَبي" إلى شجاعة الشّاعر وإصراره على التّعبير عن آرائه ومشاعره، حتّى في ظلّ الظّروف القاسية، فكما استخدم المتنبّي سيفه للدّفاع عن نفسه ومبادئه، يستخدم الشّاعر كلماته كسلاح لمقاومة الصّمت والخوف والقهر، وعلى الرّغم من أنّ العالم من حوله قد تحوّل إلى "أنقاض تعوي" و "غيم لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم"، إلا أنّه لا يزال يملك "سيف المتنبّي" الذي يمكّنه من إيصال صوته معلنا إيمانه بالأمل، مؤكّدا على أنّ "الصّحوة لا تُسبى" وأنّ "الفجر الباحث عن نَشوة" سيأتي ويبدّد الظّلمة.

"اللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ يَرميها في نَعشِ المَوتى": تشير هذه الأبيات إلى أنّ الشّاعر يدرك أنّ قوى الظّلام قوية، لكنّه لا يستسلم لها، بل يواصل مقاومتها بكلماته.

"يصحو... الصّحوةُ لا تُسبى الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة يبعثُ أُغنيةً مُرتَجَلة تُردي لَيلَ الصَّمتِ الأعمى": تشير هذه الأبيات إلى أنّ الشّاعر يتمسّك بالأمل، ويؤكّد على أنّ "الفجر" سيأتي.

ختاما.. أبدع الشّاعر صالح أحمد كناعنة في هذه القصيدة لوحة فائقة، غَزَلَ خيوطها بمهاراته الشّعريّة العالية، ونسجها بلغة آسرة غنيّة بالصّور البيانيّة والمعاني العميقة، فاستخدم مفردات مختارة بعناية، تداعب مشاعر القارئ وتثير خياله، وظّف موسيقى شعريّة منسجمة تضفي على القصيدة سحرا خاصّا، ولم يكتفِ بذلك، بل أضاف إليها تقنيّات ذكيّة ودلالات رمزيّة غزيرة، تعمّق من معانيها وتضفي عليها أبعادا جديدة. ونتيجة لهذا التّكامل المتقن بين العناصر الشّعريّة المختلفة، برزت هذه القصيدة كتحفة فنّيّة، تثير الدّهشة وتحفّز على التأمّل. وإليكم القصيدة.

***

صباح بشير

............................

أقنِعَةُ الرّهبَةِ والصّمت

للشّاعر صالح أحمد كناعنة

كم يَقتُلُني زَمَنُ الصّمتِ الأعمى

في عمرٍ يَعشَقُ غُربَتَهُ..

يَتعمَّدُ عُذرًا بالبَرق..

والصّبحُ يُمارِسُ سَكرَتَهُ

فالدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى ..

تتوارى من عُريِ الخُطُواتِ مسافةُ رأي

وتلوذ بنارٍ تُذكيها سَكَراتُ الصّمت

والموتُ يُحايِلُ لَونَ المَوت

يسعى بيدينِ مُضرّجَتَين

والعالم أنقاضٌ تعوي

تَستَجدي أنّاتِ مَخاضٍ

والغيم...

لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم

لا تنبِتُ إلا عُشبًا مَسكونًا بالوَحل

لا يَعرِفُ حالاتٍ وفُصول

يتلوّى في ماضٍ مُغرِق

ماضٍ راحت عَنهُ الغيمَة

تَرَكَتهُ لأرياحٍ تتناوَح

تأبى أن تصرُخَ "واجرحاه"

وتلوذُ بأنقاضٍ تَعوي..

بَصَماتٍ لِنَهارٍ ماتْ

والمَنفى...يَجتاحُ المَنفى..

والخَيمَةُ أوتادٌ في جُرح

الجرحُ بلا ألمٍ لكن..

أَنساني أن أسمَعَ صَوتي

وأنا أتَحسّسُ أقنِعَةَ الرّهبَةِ والصّمت

وكأفعى في قيظِ الصّحراء

يتلوى الطّقسُ بذاكرتي

والطّقسُ شُرود..

النّاسِكُ لمّا صارَ المَوتُ هُناكَ هِوايَة..

وضعَ النّظّاراتِ الأغمَقْ..

وأسرّ لليلٍ يسكُنُهُ:

نخاسٌ.. إنّي نخاسٌ!

يتمرّغُ منفيًّا زمني..

وعلى شفَتَيْ..

تتثاءَبُ أحلامُ النّهرين..

لا يَسبي.. لا يُسبى الحُلُمُ!

هَجَرَتني صَحوةُ أَسمائي

يا عُنوانَ الفَجرِ الغائبِ عن لُغَتي..

سَكِروا...

تَرَكوا أُمنِيَتي للرّيح...

يسكُنُها سَيفُ المُتَنَبي

يُنزِلُها من قُرصِ الشّمس

يُعطيها رهنًا للّيل

لِحُروفٍ خَلَعت أضلُعَها

لِتُلائِمَ أَصواتَ اللّيل..

واللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ..

يَرميها في نَعشِ المَوتى..

يصحو...

الصّحوةُ لا تُسبى..

الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة..

يبعثُ أُغنيةً مُرتَجَلة

تُردي لَيلَ الصَّمتِ الأعمى.

"جنين مريمنا البتول" لعصري فيّاض، أنموذجًا

يشكل عنوان العمل الأدبي فضاء لغويًّا ينبغي أن يتسع للإشراقات الدلالية التي تضيء حنايا النصوص كلها، فالعنوان وفق المنظور النقدي هو العتبة التي يستشرف منها القارئ آفاق النص، وهو النافذة التي تتيح للقارئ أن يرى المدى الدلالي الذي يتشكل وفق تأملات القارئ وثقافته.

ويأتي عنوان "جنين مريمنا البتول"؛ ليجيب عن تساؤلات عتبة العنوان التي تعد في النقد السيميائي باكورة الإبداع الكتابي. المبتدأ المكاني في الجملة الاسمية يؤنسن بالإخبار عنه بمريمنا المقدسة، وليس (مريم)، ف(نا) تستدعي تفاعل الوعي الجمعي، وإضافة صفة القدسية والطهر لهذا التآلف (البتول)، فالقارئ المتأمل يجد أن لفظ (الطاهرة) معادلًا موضوعيًّا لكلمة "البتول" وفق المفاصل الدلالية للنصوص. ولكن المبدع يختار العنوان وفق رؤية شمولية، وإحساس مكثف في وقت تتداعى فيه عصارة الفكرة وعبق العاطفة، فيولد العنوان من هذا المزيج؛ ليشكل لوحة متمايزة تتعدد فيها تأويلات القراء، وفي التعدد والاختلاف جماليات التأويل، ومن المفيد التأكيد إن لفظة "مريمنا" في العنوان الرئيس تتجاوز دلالة (سيدتنا مريم) المألوفة إلى دلالات رحبة تشمل الوفاء والإيمان والإخلاص للخطاب الثقافي، الذي يشكل تحديًا للكاتب. وتغادر لفظة "مريمنا في العنوان المستوى المعجمي إلى مستوى تأويلي، يمتد إلى العصب النابض في جسد النصوص، وتختزل طهرها في رؤية ثقافية تتجلى في البنية العميقة لها.

واستئناسًا بدلالة العنوان فإن عصري فياض يبتكر أسلوبًا لافتًا في صياغة العنوان الرئيس، بعيدًا عن مضامين العناوين المجردة المألوفة، وكأنه ينقل الأفق الدلالي المتوقع من العنوان إلى مضامين النصوص، وفي هذا التحول الأسلوبي يكمن التجديد والابتكار والتفرد.

أما العتبة الثانية فهي الإهداء الذي اختزل الخلايا الدلالية للنصوص بوساطة ست علامات سيميائية موزعة على "روح، الشهيد، زياد، جنين، المخيم، ثرى". وتجسد العلامات الستة العصب الدلالي والتوهج الوجداني في الكتاب كله، فالنصوص لا تغادر دلالات العلامات الستة.3854 جنين مريمنا البتول

وأما العتبة الثالثة فهي العناوين الفرعية للنصوص التي جاءت في مسارات متعددة، منها ما هو قريب للقصة، ومنها ما هو خاطرة، ومنها ما هو قريب للشعر، وهي من حيث الدلالة جاءت في مسارين، منها ما هو مباشر تتجلى فيه العلاقة بين العنوان الفرعي ودلالة النص، ومسار إيحائي رمزي يقتضي تأملًا في العلاقة بين المعلن والمضمر، ويتعالق كلا المسارين مع الفضاء الدلالي للعنوان الرئيس، والآفاق الدلالية المبثوثة في خلايا النصوص.

ويغلب على عناوين النصوص التشكيل الاستعاري الظاهر في نسق العنوان، والذي يتوزع على التشخيص/الأنسنة/التجسيد/التجسيم، وفي غير موضع تتضاعف يقظة القارئ للمعنى حينما يتأمل الصورة الاستعارية التي تنقل المعنى من المألوف إلى الدهشة (طعم الصباح ص5، جنين مريمنا ص7، يا حيفا ماذا فعلت؟ ص12، لا تئدوا الزلزال ص23، هلّ الخريف ص71، طهر أحذيتكم ص91، رفيقي الرخ ص136، المخيم يحبس أنفاسه ص145، شمسنا محمد ص150)، ولا يخفى أن القدرة على التصوير تكشف عن قدرة المبدع في التحليق بخياله؛ لتشكيل دلالة غير مألوفة في الغالب، ورغبته في إعادة صياغة مفردات الحياة وفق رغباته غير المعلنة، ورؤيته التي تضمرها البنية الاستعارية، كما يحدد التصوير مدى تفاعل المتلقي مع مكونات الصورة، وإذا استطاع القارئ تفكيك مكنونات الصور الاستعارية يستطيع أن يرى جماليات المضمر، أو قبحه، وأسراره الذي حرص الكاتب على إخفائه من خلال ذلك البناء الاستعاري.

هناك عناوين فرعية أخرى ترتبط بالصور الاستعارية من خلال متنها (يزوره الضحى في فراشه ص10، يزرعون الحياة ويقتلعون الموت ص115، طوّق جيد نابلس سبحة حباتها من قرنفل وشقائق وإكليل الغار ص13، من يستطيع أن يقود القمر إلى كبد السماء؟ ص36، يقتلع الثلج الخيام ص42، كل طقوس الفرح مبتورة ص44، عناق الحلم ص56، من أغرق العيون ببحر الاحزان؟ ص60، المخيمات لسان الحق الصارخ في وجه البشرية ص16، أحاول كسر ليلي الثقيل ص26، القبلات مفاتيح النفاق والسلامات الحارة سموم الأفاعي ص29، ولدت ثورتنا من رح النكبة ص116). نلحظ أن الصور السابقة مؤسسة على الأفعال الحركية المتلاحقة والمتتابعة التي ترسم أطيافا نفسية ذات إيقاع صاعد أيحانا ثم ينحدر أحيانا أخرى، تكشف تلك الصور عن الأفق النفسي للنص، وتوجه المتلقي نحو المعنى المضمر الذي يحرص الكاتب على تجسيده وتكثيفه، نحو نص (يزرعون الحياة ويقتلعون الموت) الذي تتسارع فيه الدفقات الدلالية والإيقاع الصاخب بوساطة أفعال حركية ذات كثافة دلالية ونفسية، فالحياة والموت التي حصرها في العنوان وفي كافة متون النصوص تحصر الممارسات التي تحاول سلب الحياة من فلسطين، وما يحدث في جنين ونابلس وغيرها من المدن، التي تناولها الكاتب، لشاهد على ذلك، ولذلك سعى الكاتب إلى مخالفة هذه الأفعال الإحلالية بزرع الحياة واقتلاع الموت.

كما تصل بعض الصور الحركية إلى (التحريض) على التغيير الذي يعد رسالة سامية يتكفل بها الأدب عامة "تولد الثورة من رحم النكبة" التي ترسم فيها الأفعال المتتابعة فضاء دلاليًّا تحريضيًّا مقترنا بإيقاع وجداني صاخب يتجلى في فعل الولادة، المعادل الموضوعي لزراعة الحياة، واقتلاع الموت، ومن هنا تنهض هذه الأفعال بوظيفتها الدلالية الوجدانية.

يبدو واضحًا، إن المشارب الثقافية التي أفاد منها الكاتب في نصوصه، هي مشارب ثقافية تمنح الفضاء الدلالي للنصوص خاصية التناسل والتكاثر الدلالي التي اصطلح النقاد على تسميتها بـ"التناص"، الذي تشكل بفعل التلاقح الفكري والثقافي للأديب، فالتناص دلالة واضحة على مساحة اتساع الأفق لديه، وحجم ثقافته.

يتناص فياض أدبيًّا في قوله: "جنين، يا مريمنا البتول، قد جاوزت قدري بتوصيفك يا طهر الزمان والمكان… ص9"، مع الشاعر أحمد شوقي، في مدحه رسولنا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- في قصيدة "سلوا قلبي": أبا الزهراء قد جاوزت قدري ... بمدحك بيد أن لي انتسابا.

ونجده يتناص في عنوان النص "تلك المرأة الحمراء" ص128، من عنوان قصة قصيرة "تلك المرأة الوردة" للروائي يحيى يخلف. كما قد يستعير الأديب بعض أدوات مادية أو غيرية، وينسبها إلى أبطاله، تقديرًا لهم، واعتزازًا بهم، يقول: "نحن سيف علي، وصفحات في كتاب الله الجليّ، وروايات في سنة المصطفى، وهديه القويّ، نحن عصا موسى، وسفينة نوح، وصبر إسماعيل، ولسان عيسى، وطهر مريم، وبشرى زكريا، نحن قدر الله".

وقد ظهر التناص الديني؛ ليعمّق الدلالات التي تضمنتها رسالة الكاتب، فتعلق العنوان الرئيس (الذي تكرر في عنوان فرعي "جنين مريمنا البتول") بمعنى بالطهر والقدسية والنقاء، وظهر كذلك في اقتباسات من ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام، وحالة أمه مريم النفسية عند الولادة: "تلكم المدينة التي انتبذت لنفسها… مكانًا شرقيًا"، " كذلك قال ربك هو علي هيّن… هزّي إليك بجذع المجد، يتساقط عليك أنوارًا بهيّة" ص8، وفي قوله: "قالت بانبهار: أو حاصل هذا سيدي؟ قلت: أو لم تؤمني بما سمعت؟ قالت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي" ص62.

وأما الغلاف يعدّ العتبة الأهم التي تقابل بصر المتلقي، ويمكن من خلاله أن نفهم متن العمل قبل الولوج فيه، ومن شروط الغلاف القوي الفعال أن يكون قادرًا على جذب انتباه القارئ وإثارة اهتمامه، فهو يساعد القارئ على المضي في قراءة العمل، هو بمثابة بوابة عبور للجمهور، وهذا ما كان عليه غلاف "جنين مريمنا البتول"، حيث عرض صورة لبوابة مدخل مخيم جنين، تعبره سيدة وجهها ضبابي، لكن جسدها مغطى بلباس نساء الدين المسيحي، في إشارة إلى سيدتنا مريم، وعبور كل من هو طاهر، مخلص لقضية وطنه التي تمثلها أكبر شريحة هجّرت من أرضها وبيوتها وسكنت المخيم، فضلًا عن اللون الأحمر الذي سيطر على الغلاف، إشارة إلى حجم التضحيات التي قدمها المخيم من دماء وأرواح شهدائه. والملاحظ حجم العنوان الذي يكتسح ثلث لوحة الغلاف وبخط أبيض عريض، في حين ينزوي اسم المؤلف في الزاوية السفلية يسار الغلاف، وفي ذلك إشارة إلى تصغير الأشخاص إذا ما قورنوا بحجم الوطن، القضية الكبرى التي يفتديها كل إنسان فلسطيني بروحه ودمه، رخيصًا في سبيل نيل حريته.

في الخاتمة أجد الكاتب عصري فياض قد وُفّق في هذا العمل الذي يعدّ شاهدًا إبداعيًّا وموضوعيًّا، يوازي قضية كبرى بحجم وطن، كان وما زال يواجه صلف الاحتلال الإحلالي.

***

سماح خليفة - فلسطين

.....................

* الكتاب صادر عن دار الجنان للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1 سنة 2023م.

مرح شعري بين الأشياء والتفاصيل بالحنين والذكرى حيث الطفل بوجه الحيرة والضجيج... والقلق.

الشعر هذا الآخذ بناصية الأشياء والعناصر والتفاصيل حيث الذات (في حلها وترحالها) تلك الاقامة التامة بنبضها تشوفا ونشدانا وحلما... وقلقا تجاه الآخر.. العالم.. هذا القلق المولد بما يحدثه وينتجه من تجارب ونصوص وابداع اذا رمنا الخوض في هذا الجانب المتصل خاصة بحالات القلق قبل وأثناء وبعد الكتابة الشعرية بالنظر لطبيعتها المتصلة بالمبتكر والمختلف والجديد وهو الأمر المتطلب لعدم الطمأنينة والبحث الدائم والاجهاد.. انها لعبة الكتابة الشعرية في تجليات عناصرها ولحظاتها بل أزمنتها باعتبار معايشات الشاعر الممتدة والمفتوحة والتي منها تنطلق الخلاصات الباعثة على الكتابة وحتى التفكير فيها وملابسات كل ذلك.. وهكذا..

يقول سيجموند فرويد " لست في حاجة إلى تقديم القلق لكم، فكل منا قد ابتلي بهذا الشعور، والحق أقول لكم إنه حالة وجدانية نشعر بها بأنفسنا وتعاودنا مرة تلو الأخرى".

لقد تعددت الرؤى والأفكار بشأن القلق تعاطيا وبحثا وفق الأبعاد العلمية والطبية والنفسية والسوسيولوجية باعتبار التعقيدات المتصلة وبخصوص القلق قي صلته بالشعر فقد رأى الباحثون والنقاد في دراساتهم لنماذج من هذا الشعر أن القلق عادة ما يمثل المحرك الأبرز للكتابة الشعرية فهو الباعث على الاتيان بالجميل والمبتكر وما هو خصوصي وبالتالي فان القلق المبثوث في قصائد الشعراء منذ العصور القديمة ومنها العهد الجاهلي والى اليوم هو قلق عضوي في الذات القلقة وفي القصيائد الناجمة عن الحالة فالقلق وعدم القرار والحيرة وما الى ذلك هي من الطواهر التي برزت وشهدها الشعر العربي قديمه وحديثه وهي نتاج توق وحلم بين الخيالي والواقعي نشدانا للأجمل ولما هو بديعي.. وهنا نذكر بيت المتنبي الشهير (على قلق كأن الريح تحتي أوجهها جنوبا أو شمالا) انه يعيش قلقه يمتطيه يجعل له رياحا لا قرار لها... والشابي الذي ذهبت به حيرته وقلقه الى آفاق من الشعورالقاتم ليجعل من وجدانه وغربته حالة شعرية مخصوصة من عناوينها الأسى ويبرز ذلك في شعره وفي مذكراته حيث يقول “أشعر الآن أنني غريب في هذا الوجود، وأنني ما أزداد يوما في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورا بمعاني هذه الغربة الأليمة”.. انه الألم القادم من قلق الشاعر لفرط حساسيته.. وهذا القلق نجده عند بدر شاكر السياب الذي يعيش حيرة وغربة الواقع والمنشود والحلم والمثال..

هذا هو القلق الذي تخيره الشاعر الذي نحن بصدد ديوانه الشعري بل جعل منه قلقا مخصوصا عايشه ومضى به الى حالات من الكتابة لديه مشيرا الى حموضته فهو ليس بالقلق العادي والمألوف انه " قلق حامض " وهو العنوان.. عنوان هذه المجموعة الشعرية للشاعر جلال باباي التي تنوعت مناخات قصائدها بين اليومي والحنين وذاكرة الأشياء والتفاصيل فضلا عن حميمية التعاطي تجاه الأصدقاء لتتعدد الاهداءات وهو ما يحيل الى رؤية الشاعر بشأن الكتابة باعتبارها حاضنة شجن بحميمة فارقة ومن ذلك ما يرد في قصيدة " بعيد مطر البارحة " ص21:

على سطح بيتنا العتيق

صمت يراودنا

و مشهد أترتحنا وأفراحنا يلملم باقيات الذاكرة

ألمح الصديق يقتات من وقفته على طلل لذيذ

عنب الدالية... سفرا بلا بوابات

و فتات قصائدي المجلجلة

حل الخريف بغتة

وانتبذ الرفيق

مساءه اليتيم خرائط خلجاته

وصدى الخطاطيف في الأروقة

يقتفي وجهه في الغمام... ".

ثمة شجن في القصائد يفصح عنه الشاعر عبر تعدد الاهداءات في هذه المجموعة لشخصيات ثقافية وأسماء وشعراء وأصدقاء وما الى ذلك من مكونات المحيط الثقافي للشاعر الذي يرى في القصائد حالات وجد يغذيها القلق المقيم في الذات الشاعرة وفي النصوص ومن ذلك نقرأ مما يرد في قصيدة " قلق حامض... ومواسم غائرة بالسحب " ص71:

ما أكثر الظمأ

ينهمر واقفا في دمي

ما أمر شفتي عمياء فوق مراتيج من صخب

بددتني عاريا كثرة الخسارات ورأيت الأم ثكلى في الطريق

تحت مطر هشة ترثي كبدها

لذت من فقر الصباح

بفجر يشتعل بالشهب

أتوكأ بحبوب منع الأرق والاحتراق

و خطوط صوتي الى هبوط

تلك حماقاتي المتشنجة شردتني زهاء حبل غسيل... "

مجموعة " قلق حامض " كون قصائد متعددة يجمع بينها وجدان الشاعر القلق المتقلب والمسكون بجميمية العناصر والأشياء كل ذلك في بوح شعري تقول عنه الشاعرة أمال موسى في تقديمها لهذا الديوان في نص بعنوان " شعرية القلق الحامض " ولعل هذا البوح والقدرة على تعرية الوجدان بصور شعرية بسيطة غير متمنعة هو نتاج تراكم تجربة جلال باباي الشعرية وتقدمها النوعي حفرا في مكاشفات جديدة وراهنة تتفاعل مع الحاضر وحها لوجه فينحت الشاعر معناه الخاص ومعه السياق المنتج لقلقه والمحدد لطعم هذا القلق... ".

في قصيدة " تستند الى البحر ضاحكة... أو.. فوق تفاحة قلبي الجريح " ص 25 يقول الشاعر:

" مثل كمان الليل تغرد فتنتي

خارج سرب النائمين

تلقي بفوضاها اللذيذة على مياه متحركة

و تنبس في آذاننا...

سأتنحى بلا ضوضاء

من سماء ناعمة بالماء... ".

هكذا هي هذه المجموعة فسحة للشاعر مع الشعر بقصائد طافحة بما يشبهه من قلق حيث اللغة تدعو عباراتها قي كثير من الانتباه والانكسار والحلم أيضا ففي طيات قلق الشاعر أمل هو عين القصيدة وترجمانها..

"قلق حامض" قصائد يمرح فيها الشاعر بين الأشياء وتفاصيل الحياة متأنقا بالحنين وبالذكرى يعلي من شأن الطفل الكامن فيه بوجه الحيرة والضجيج... والقلق.

***

شمس الدين العوني

 

قراءة في زجلية للزجال المغربي يوسف أسكور

- تمهيد:

وجدتُ في هذه الزجلية المحلّقة شيئاً غريباً غرابةَ إدهاشٍ في عالم الشعر الباني أنساقَهُ داخلَ الإبداعِ اللّهجيّ باللسان اللّهْجِي. ويتعلّقُ الأمر بقصيدة الزجال المسفيوي (يوسف أسكور) النازح من جِدّة وجودةِ الكلام، الحامل لرسائل فنية إلى أهل الكلام، أنِ اقترِفوا الجمال في محاريب الجلالِ ولا تُهينوا الحرف العاميَّ بالزَّجِّ بهِ في لغطِ الكلام.

و الأمرُ هنا بائنٌ أن الزجال يوسف يدركُ عمقَ أن يكونَ المرءُ زجّالاً، كما يدركُ عقْمَ أن يتحاملَ المرءُ على الزجلِ في وهمِ تسطير جملتينِ أو ثلاثة تعيش سرابَ الشعرِ فيما الشعرُ منها براء...

القصيدةُ الزجلية اختارتْ لذاتِها عنواناً حاملاً للاعتراف الإبداعي والوجودي في جملة قويّة الرنين( أنا لي خنتْ لغْرامْ).

- مشاكسةُ العتبة:

و عادةً ما يكون فعل الخيانة مُسنداً إلى كائن بشرِيّ تتم خيانته أو تصدر منه الخيانة، لكن صياغة العنوان هنا انزاحتْ إلى تركيب عامر بالدلالة. (خنتْ لغرام) حيث وقع الفعل على مجرّدٍ هوالغرام. والمسألة أكبر من تصوّرنا المُعتقلِ داخل البداهَة التي ترى في الخيانة فعلاً مذموما وقبيحا ومرفوضاً من جهة الدين والقانون والقيم... وربّ قائل إن العبارةَ ( خنتْ لغرام) عبارة عادية ومستهلكة، أقول: إنها عبارة انزياحية غائرة في فنِّ الدلالة. فالخيانة المسندة إلى مخونٍ بشريّ قابلة أن تتحول إلى صلحٍ عبر تجاوزِ المخون زلّةَ الخائن، ولكن العبارة هنا ألحّتْ على إلصاق الفعل بالغرام. فأنتَ إن تمّتْ خيانتُك فلك أن تُعاقب أو تغفر. ولكن الشاعر الزجال يوسف ألقى بالأمر بين يدي الغرام الذي لا يغفر، ولا يتجاوز، لا لأنه بعيدٌ عن قيمِ الغفران والتغاضي والتجاوز وطيّ صفحة الماضي، ولكنْ لأنه كائنٌ مجرّدٌ يدخل في إطار القيمة، والقيمةُ تسجِّلُ الفعل في خاناتِ الذّاكرة وخاناتِ الزمان، ومن ثمّة فلا قِبلَ لنا بمحو ما تمّ فعلهُ واقترافهُ في حق الإنسان وفي حقّ القيمة. الأمر أكبرُ من سلوكٍ يمسّ طرفاً صدق في ظنّه وآخر خانَ الظن، الأمر تجريدي يلقي بظلاله الوارفة على كينونة تدركُ كم هو جليلٌ هذا الغرام، وكم هو صفيقٌ ظلمُ هذا الغرام.

- اشتغالُ الفضاء:

الزجل عالمٌ من الإبداعِ لا يقترفه إلا متمكّنٌ من المعنى ومن فائضِ المعنى، ومتمكنٌ من مغازلة اللهجةِ في تحليقها بعيداً عن لغة الخطاب اليومي. والقصيدة هنا حمّالةُ أوجه، ومن محمولاتها البديعة أن الشاعر الزجال يوسف لعب لعبة الفضاءات في تمرّدها عن المألوف. فقوله ( سدْ الخوفْ) استعارة تستحضرُ مكوّنَ البابِ في غيرِ ذكرٍ للباب. وهذا من مشوِّقات البناء اللهجي العامر بالجمال. فالخوفُ في منظور ومن منظور الزجال يوسف باب مفتوح على مصراعيْهِ، لا ينغلق أبداً إلا بقرارٍ شجاع. لأن الخوف ظاهرةٌ نفسيةٌ ولّادة، تستدعي الخوف المنتاسلَ في انثيالٍ مستمر إذا ما وجدتْ خائفاً ضعيفاً جدّا. والخوف هنا في سياق الزجلية أمرٌ عميقٌ لأسباب: منها أن المخاطب بإغلاق باب الخوف هو العشقُ لا المعشوق، وفي هذا التركيب نزوعٌ بديعٌ نحو رفض المتشيِّئِ في رسم دلالات الخطاب الزجلي اللهجي المسافرِ في غرابة الجمال.و هنا يحدثُ انسجامُ الفضاء (الباب) مع المخاطب ( العشق) مع الظاهرة (الخوف)... فتنتفي في العبارة أبعادُها المتشيِّئة لتحلّ محلّها الأبعادُ المجرّدة القابضة على فائضِ المعنى. فنكون أمام التأويل التالي:

لا وجود للخوف إذا حلّ العشق

و الدليلُ على افتراضنا هذا هو انسيابُ الكلام في السطر الثاني الذي يعضد البعد الفضائي في قول الشاعر (شْراجمْ السمعْ فِيَّ)... فالبابُ يستدعي النوافذ وهما يستدعيانِ معاً الفضاءَ المُختزلَ تعسُّفاً في تصورنا داخل غرفة أو ما شابه ذلك. لكنّ الأمر أبعد من هذا الاختزال، وأبعد من تسييجٍ بديهيٍّ للمعنى في إطار ضيق. وبالتالي فالذاتُ هي الفضاءُ لا الفضاء في مفهوم الحيّز والمكان. وهكذا الزجلُ عندما يلقي بظلالهِ الجمالية على الأجسادِ ويحولُها إلى فائضِ المعنى وإلى أبعد من فائضه. فالأصل في الكلام هو الكنايةُ لا العبارةُ المفضوحةُ في تلابيت المعنى.

- لعبة الأزمنة:

تشيرُ الزجلية فيما تشيرُ، إلى وجود الآخر مجسَّداً في الأنثى (رَبِّيتكْ في قفز الخاطر ابْنِيَةْ - وهَمْ فراقك مازال فيَّ حاتل) متعيِّنَةٍ في مفردتيْ (ابنية وكاف المخاطبة في كلمة فْراقك). وهذا مدخلٌ دلاليٌّ يتحول من المكان (قفْزْ) إلى الزمان (مازالْ).و هذه إشارة قوية الحضور الإبداعي من الزجال يوسف، الذي يداعبُ فكرة الزمان في تشعّبِها الجميل الماضِي في تشعبه إلى نحوٍ منسجم أشدّ الانسجام، في اتّجاهِ التصريح بالمقولة في عموميتها الأبعادية (بعتك لحر الزمان بالنِيَّةْ) حيث تقرر الذات تفويضَ أمر هذه الأنثى إلى سلطان الزمان، طلباً للإنصاف والعدل.

و في هذه المحطة الدلالية وفي غيرها لا تهمّنا تيمات الحكي الزجلي بقدر ما تهمّنا طريقة صوغ الزجال يوسف لهذه التيمات. فالزمان هنا لا يحضر كبعد فيزيائي قابل للتحيز داخل فعل التحقيب، إنه انزياحٌ نفسيٌّ يتدرّجُ من حالة عائمة (مازالْ) إلى حالةٍ مقولية (الزمان) إلى حالةٍ جزئية (الليل) إلى حالة الديمومة الواخزة (ليّامْ)... هذه الأخيرة صرّح فيها الشاعرُ وبطريقة سيميائية قاهرة عن أوج الاعتمال الضارب في نفسه مضرب الأثر الباقي بقاءً وجوديا يكادُ يتاخم الأزل، وعبارة الوشم أشدّ تدليلاً وبرهنة. قال الشاعر (‏ديك ليام الواشمة فيها شوفتنا - ‏مازال كتزورني في كل حلمة).

- في الصوغ الزجلي:

اختار الزجالُ يوسف أسكور الإبداعَ على صهوةِ اللهجة المحليّة، على اعتبار أنها صهوةٌ قادرة على استيعاب الذاتِ والموضوعِ في تجلّياتهما المفارِقة. وهي اللهجةُ الماتِحَةُ أصولَها من قلبِ (المرڭد العبْدي) في توجّهٍ إرْساليٍّ لا يُغرِقُ في المحليةِ ولا يجرى خلفَ المفرداتِ الغابرة في ترابِ الحزام الجغرافي الضيق. إنه شاعر يدركُ بعمقٍ رسالة الزجل، لهذا وجدناهُ ينتقي من اللهجةِ ما يتسمُ ببعض الشمولية في الخطاب، حيثُ يكادُ الوجديُّ والحسّاني وابن الشاوية وأهل الشمال والجنوب التفاعلَ مع منطوق الزجلية التي تمثل الشجرة وهي تُخفي غابة زجله قاطبةً...

من هنا عبقرية الزجل حين يُطوّعُ اللغةَ لا حين يأسرُ ذاتَه في اللغة. ومثال صاحبنا يوسف ينطق واضحاً ببعض رسالات الزجل في توجّهٍ يوسّع من رقعة التفاعل والانتشار.

و ربّ قائلٍ إن الزجال هنا يبسّطُ البناء اللهجي، ويُخشَى عليهِ من السقوط في الابتذال. نقول: إن الصوغَ هنا أبعد ما يكون عن السهل المتناول والذي يُبيحُ ذاتَه للقارئِ في مجانية خاوية. الزجالُ يوسف من الشعراء القلائل الذين يمتلكون القدرة على بناء القصيدة داخل السهل الممتنع، امتناعاً طافحاً بالشاعرية أو بالشِّعرية، أي عامراً بأدبية النص وأيضا باستيطيقا النص. من هنا نسلتْ انزياحات القصيدة الزجلية هادئةً وعميقةً وناطقةً خارج البداهة والرتابة والمألوف.

و الأمثلة وافرة هنا بحيث لا يخلو سطرٌ زجليٌّ من انزياحٍ ذكي يمكر بأذنِ المتلقي في احترامٍ جليٍّ لأبعاد العبارة ودلالاتها الماسكة بالمعنى وفائض المعنى على حدٍّ سواء.

خذ مثلاً قوله: سد الخوف – شْراجم السمع – قفز الخاطر – الهمّْ الحاتلْ – بعْتكْ – خنجر الشمتة... ولو تتبعنا هذه الانزياحات لوصلنا إلى حقيقةٍ أدبية هي أن الزجليةَ في كلّها وجلّها انزياحٌ كبير، حمّالٌ لكثير من الجمال:

- قفز الخاطر: انزياحٌ دالٌّ على ضيق الخاطر عبر اختيار فضاء استيعابٍ هو (القفز\القفص) الذي لا يتسع لطائر في حجم قبضة اليد. والشاعر هنا قد حوّل الفونيتيك الثاوي في صوت الصاد إلى فونيتيك الزايْ، في اختيارٍ ذكي للعلامة الصوتية القابعة في الوجدان الشعبي المغربي وهي التي تعبّر بشكل قويّ وواضح عن المعنى أكثر من الصاد، وتمارس تأثيرها المناسب الزجلي على المتلقي.

- خنجر الشمتة: وتبدو في العبارة آثارُ الطعنة من خلال ربط المسند (الخنجر) إلى المسند إليه (الشمتة) في توجّهٍ انزياحي بياني يستفيد من مسافةِ التوتّر الحاصلة بين محسوس هو (الخنجر) ومجرد هو (الشمتة) حيث يلتقيان في برزخ التصور الفنيّ للشاعر. فالزجالُ يوسف ردمَ المسافة بين المسند والمسند إليه في وعيٍ فنيّ يقتضي المضيَّ بالقارئ والمتلقي إلى أبعد حدود الإحساس بحالة الغبن أو (الشمتة) فاختار هذا الانزياح الماكر بآذاننا وهو يهدم المسافة الماهياتية بين مختلفين ويلقي بهما في إطارِ تجانسٍ أدبي موسوم بالبناء الزجلي الجميل. فكانت العبارة أشدّ تعبيراً عن إحساسنا ب(الشمتة).

- ‏وخيالك يمشطها بريق الكلمة: يُظهرهذا الانزياحُ كم هو ماكرٌ هذا الزجالُ يوسف بذائقتِنا مكراً أدبياً مشروعاً يمضي بالإدهاش الصوغيّ الزجليّ أيما مذهب. فمفردة (خيالك) تعوّضُ مفردة (وجودك) وهنا لعبةُ الاستبدال الدلالي على محور الاختيار في استنطاقٍ سيميائي غير مقصود من الشاعر ومقصود من جهتنا داخل الحق الأدبيّ في التأويل. فحضور المعشوقة جسداً هو أمر مألوف في التعبير الشعري، ولكن حضورها خيالاً فأمرٌ طريفٌ لا من باب الاستعمال المشترك الذي طبخه الشعراء طبخاً، ولكن من باب قوة الخيال في ممارسة الضغط على الذات المتكلمة. والخيال هنا حاضر في الفعل وفي القوة (يمشطها) والهاء تعود على الحلمة أو الأحلام في السطر الزجلي السابق. وبماذا يمشط الخيال أحلامَ الذات؟ إنه يمشطها بمادة زئبقية التجلي في المعنى. وإذا طرح الزجال يوسف العبارة في مفردة (بريق) المكونة من حرف جر هو (ب) واسم مجرور هو (ريق) أي الرضاب واللعاب النازح من ثغر المعشوقة، فلنا نحن القراء تأويلات أخرى في مضمار الانزياح المتعدد، بدلالتيْن أو أكثر، منها دلالة اللفظة على البرق في جهة التصغير (بْرَيّقْ) فيكون المعنى أو فائضه دالاًّ على لمعان الكلمة من ثغر المعشوقة. ومنها دلالة اللفظة على الإناء في حالة التصغير (إبريق – بْريّقْ) فيكون المعنى أن ثغر الحبيبة سائلٌ بإدهاش الكلمات مثل إبريق حليب... 

و لو تتبعنا تراكم هذه الانزياحات في جماليتها الدالّة لما أسعفنا مقام هذه الصفحات، وحسبنا من ذلك التمثيلُ لبلاغة الزجلية المسافرة في الجمال، لا حصر مظاهره المتعددة والمتنوعة.

و مما يضفي هالاتِ الجمالِ على القصيدة انسيابُها داخل إطار صوتيٍّ مُمَوسقٍ مثيرٍ وأخّاذ. ومن مظاهر هذا المستوى الصوتي نذكر وحدة الأروية في مثال: (باطل – حاتل – قاتل) ومثال (ابنيّة – النيّة) ومثال (دْموعْ – رْجوعْ – الطّوعْ) ... مما يضفي على الزجلية إيقاعاً آسراً لأذن المتلقي أسراً جليلاً يستدعي فيه تشنيفاً، وفوق التشنيف إدراكاً للمقصود في المعنى والدلالة.

- ختمٌ:

الشاعر الزجال يوسف أسكور أكبر من أن نختزل إبداعه في عبور قِرائيٍّ يقارب جانباً من عالمه الإبداعيّ، وقد نكون جانبْنا صواباً في إغفالِنا بغير قصدٍ جزءاً مما يمكن أن يكونَ أساساً في القصيدة، وشفيعُنا في هذا وذاك أننا ناوشْنا الزجلية وشاكسناها في انتظار قراءة أخرى أشدّ إحاطة بعالمٍ هيولانيٍّ وجميلٍ في حجم إبداع هذا الزجال المختلف.

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة

................................

المتن الزجلي:

انا لي خنت لغرام

...

سد الخوف ياعشقي

شراجم السمع فيَّ

وخلا السكات يشهد باطل

رَبِّيتكْ في قفز الخاطر ابْنِيَةْ

وهَمْ فراقك مازال فيَّ حاتل

بعتك لحر الزمان بالنِيَّةْ

وخنجر الشمتة سَمُّو كان قاتل

ياعمري

ياعمري

قلة عقلي دَوْبَتْ عنايتي

في تالي الليل ادموع

تهت في ادبال دروبو

ونسيت طريق الرجوع

عشقت لهبال وحروفو

عاندني ما اعطاني الطوع

 ياعمري

 ‏ديك ليام الواشمة فيها شوفتنا

 ‏مازال كتزورني في كل حلمة

 ‏انا نگول غير زغبة من لحلام

 ‏وخيالك يمشطها بريق الكلمة

 ‏ضفيرة وطوالت لحد لحزام

ؤ مقص لفياق من جناب مضمة ..

قطعها واقطع انعاسي .

خلاني وحدي نقاسي

نبكي ونگول

انا لي خنت لغرام

انا لي خنت  لغرام

يوسف أسكور

***

بقلم: ميغان أغويار(1)

ترجمة صالح الرزوق

***

عسكر، قصي (2)، مؤلف دانمركي - عراقي نشيط، تمكن بإسهاماته في الأدب أن يأسر القراء من عدة بلدان وعدة أجيال. ولد قصي في العراق عام 1951، تأثرت رحلته مع الكتابة بعاطفة عميقة  عبرت عن نفسها من خلال رواية الحكايات  لهدف متكرر وهو اكتشاف التجربة الإنسانية المعقدة.

نشر قصي خلال مهنته الطويلة أكثر من 20 رواية، في كل منها رؤية ثاقبة للنفس البشرية وإتقان لا يبارى لفن الكلمة المكتوبة.

وبالإضافة إلى رواياته، قصي شاعر متمكن وباحث، خلفت أعماله علامة واضحة على المشهد الأدبي.

بدأت رحلة قصي مع الأدب بالحصول على بكالوريوس في الأدب العربي من جامعة البصرة. وهناك انغمس بتفاصيل اللغة والثقافة العربية العريقة. ثم دعم موهبته بدرجة ماجستير في الأدب العربي، حصل عليها من جامعة دمشق، قبل أن يتوجها بدرجة دكتوراة فلسفة من الكلية الإسلامية بجامعة لندن عام 2004.

تجاوز عمل قصي في الدانمارك الكتابة، فأسس اتحاد الكتاب العرب في إسكندنافيا، وترأسه، ليعلي من شأن صوت الكتاب العرب في المنطقة. وأخلص لرعاية العلاقات الأدبية، وساعد ذلك على تشكيل المشهد الأدبي في إسكندنافيا.

ربحت مساعي قصي الأدبية ثناء واسعا، ومنحته اهتماما جاء من نقاد وباحثين  معروفين في الحقل الأدبي. في عام 2017 اختار الناقد العراقي نجم كاظم ثلاثا من رواياته، وأضافها إلى قائمة أهم 100 رواية عراقية في القرن العشرين، الأمر الذي ضمن له مكانة أدبية مرموقة.

حالما ندخل في عالم العسكر، قصي، نقوم برحلة اكتشاف، وتنوير، وتراحم، ودليلنا خلالها إتقانه لمهارات السرد، فلكلماته قدرات تتجاوز الحدود وتوحد القراء، وتمنحهم وعيا مشتركا بجمال وتعقيد الوضع البشري.3836 مكتبة نوتنكهام

أرحب بكم في مقدمة هذه المجموعة من قصار القصص، حيث نكتشف تعقيدات الحياة الإنسانية بموضوعات وسرديات مفصلة. فكل قصة تدخل في أعماق النفس البشرية،  وتقدم لنا لمحات عن ملايين العواطف والتحديات والانتصارات التي تعرفنا بجوانب حياتنا.

وفي هذه الصفحات ستلاقون مجموعة غنية من الموضوعات، تتراوح بين القبول بالموت وحتى التماس روابط العائلة ومسؤولياتها. موضوعات الخداع والأسف وعواقب اختيار الإنسان تربط حكائياته بخيوطها، وتطالب الشخصيات بمجابهة شياطين الداخل وتجاوز آثار أفعالهم. وعبر هذه القصص، ستشاهد قوة الاتحاد والتراحم التي تساعد على تخطي الصعاب، كلما تجمعت الشخصيات معا بوجه المحن، وشكلت روابط تتعالى على المكان والزمان. ويضيف تفهم الخلود والحدود السائلة بين الواقع والوهم طبقات عميقة للسرد، فتدعو القراء للتفكير بطبيعة الوجود وألغاز الكون المبهم. وخلال رحلتنا عبر الحكايات وما نكتشفه فيها، من مغامرات، وصداقات، نواجه ثنائية الأسطورة والواقع والتضحيات المبذولة في سبيل تحقيق الأحلام الشخصية. تباشر الشخصيات رحلات اكتشاف مستمر، وتتغلب على المخاطر وتبحث عن شيء واضح وسط فوضى الحياة. وبين القيم الاجتماعية المتبدلة وامتلاك السلطة، تبرز موضوعات التفرد والتردد والتعامل مع الشذوذ في المجتمع، ويتطلب ذلك من القارئ أن يتقبل التنوع وأن يحتفل بتميز كل إنسان على حدة. علاوة على ذلك، نواجه ضمن موزاييك الخبرة الإنسانية، أحلك جوانب المجتمع، ابتداء من سيادة الاتهامات الخاطئة وحتى الأثر النفسي للفساد واستغلال السلطة.  هذه القصص تأتي بمثابة إنذار يحذرنا من خطر القفز إلى خواتيم ويذكرنا بالحاجة للوضوح والانتباه أثناء التواصل كي نتجنب العواقب غير المقصودة. وفوق ذلك تحتفي هذه القصص بقوة الفن في إيقاظ العواطف والتأثير بحياة الإنسان، وتهيب بالقراء أن يكتشفوا أعماق إنسانيتهم ويمتحنوا تعقيدات العالم المحيط بنا. وأنا أدعوكم للدخول إلى أعماق  هذه الحكايات ومباشرة رحلة اكتشاف، وتنوير، ووعي الذات.

***

.......................

* المقالة مقدمة لترجمة منتخبات من قصص قصي الشيخ عسكر، إلى اللغة الإنكليزية، وهي قيد الطباعة.

1- ميغان أوغويار Meghan Aguiar أمريكية مقيمة في بريطانيا. تعمل مديرة مكتبة نوتنغهام. تحمل إجازة في علوم المكتبات من جامعة سان خوسيه الحكومية.

2 - قصي الشيخ عسكر كاتب عراقي، مقيم في إنكلترا. يحمل الجنسية الدانماركية. له أكثر  من 25 كتابا مطبوعا، من آخرها رواية "علاء الدين" الصادرة عن دار أمل الجديدة في دمشق.

ترجمة صالح الرزوق / حلب. سوريا

ثمة أسس معمارية هندسية متقنة بنى عليها الكاتب الروسي الشهير" ديستوفيسكي" افكارهِ الفلسفية في مجمل أنجازاته الأدبية والعلمية الأخوة كارمازوف، والآبله، الجريمة والعقاب، المقامر، المراهق، ورواية الشياطين ووو، أثرى المكتبة الروسية والعالمية ب43منجزا أدبيا وعلميا، هوعالم نفس محترف ومتفهم عميق للذات البشرية والكاتب العبقري والروائي الواقعي بحيثيات مدونته السوسيولوجية الأجتماعية " حياة لها معنى "، يقول في مقدمة الفصل الأول من الكتاب: علينا نحن البشر أن نتساعد ونحبُ بعضنا بمسك أيدي بعضنا بعضاً فإما الوصول إلى المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) وإما نهلك معاً في جحيم أتون مدينة الأشرار (الديستوبيا)، ويستعرض بعض من آراءهِ الثاقبة والحكيمة لتعبيد طريق الألف ميل أمام البشرية بالنضال والكفاح والتضحية بشجاعة فرسان لنيل قصب السبق في نيل (الحرية) لأن الجبناء لن يصنعوا الحرية .لا للحروب نعم للسلام، الحب والأنسنة لا تتغيران وإذا تغيرتا حصلت الكارثة ، وديستوفيسكي في عقيدته الوجودية يقول: عبثية الحياة بدون الله وبدون الخلود، وهو رجل دين لاهوتي من أرائهِ ان نهب محبتنا للرب  احراراً لا عبيداً، فهو يمثل جيل الواقعية السحرية للأدب الروسي، فهو مفكرليس واعظاً، يقول في روايته (الأبله): خيرٌللأنسان أن يكون تعيساً خيرُمن أن يكون سعيداً ومخدوعاً، ويقول في روايته (الجريمة والعقاب) ربما أبدوا للبعض عجيبا وغريباً " أيكون جريمة قتل قملة قذرة ضارة وقتل عجوز لا يحتاج أليها أحد مرابية تمتصُ دم الفقراء إلا أن قتلهم يمحو أربعين خطيئة، لا أظن إن هذا الفعل جريمة ولا أريد أن أتطهر منها وأكفر عنها !.

هوكاتب قدير، وفيلسوف متفهم عمق النفس البشرية وزواياها المظلمة، وقدم في كتابه (حياة لها معنى) وصفا ثاقبا وصادقا للحالة السياسية والسوسيولوجية للمجتمع الروسي آن ذاك والذي أصبح مصدر ألهام للفكر والأدب المعاصر، أضافة إنهُ مخابراتي بوليسي كما ظهر في روايته (الجريمة والعقاب)، وهو أحد أعضاء جماعة الفكر المتحرر(جماعة بيتراشيفيسكي)، يقول فيه فرويد: تعلمتُ سلوك النفس البشرية من روايات ديستوفيسكي، وقال فيه الفيبسوف الألماني هيغل: يمكن أن يكون في موقع النبي المصلح، وأمتدحهُ الفيلسوف الوجودي مارتن هيتجروعالم الرياضيات الحديثة لودويك وعالم الفيزياء أنشتاين، إذاً هو أستاذ كل الأزمنة، ففي عالم ديستوفيسكي تتصارع الأ ضداد الخير مع الشرالحقيقة مع الزيف الرحمن مع الشيطان الموت والخلود والعاقل والأهبل، وهو عليم بميتافيزيقيا الكينونة البشرية وبنهايات ممزوجة بالبراكماتية المطابقة للواقع، لا يهتم بالقاتل أكثر مما يهتم بالأسباب والدوافع، يقول في روايته المقامر:{الرذيلة لها مقياس واحد بالنسبة للجميع وحتى إن أختلفت بالدرجات لأن لطخة السوء تبقى} تمكن من فك شفرة الأنسان بالغوص في أعماقه يكتشف إن الذات البشرية ممزوجة بالخير والشر والنسبة تضطرب بينهما ربما غريزيا تعلو نسبة الشراكثر، وأثني على رأي الكاتب لأن الصراع بين الخير والشر أزلي وتأريخي وما حصل بين الأخوة قابيل وهابيل، فكان هابيل الضحية وقابيل القاتل الجلاد، الناس يميلون إلى قابيل القاتل ويسمون أبناءهم قابيل ولا يقتربوت من هابيل!؟، ويوثق هذه النزعة الشريرة والبائسة الدكتور علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري) .

ويلخص الكاتب الروسي الفذ الحالة البشرية بأكملها ضمن صفحة واحدة فقط، فهو في القمة الهرمية للأدب العالمي 1821-1881 .

مقاربات فكرية تأريخية في تلاقح الحضارات!؟

- وجدتُ التشابه والمقاربة بين رؤى ديستوفيسكي في مغزى روايته (حياة لها معنى) الوصول إلى المدينة الفاضلة وبين حيثيات سفر التكوين وملحمة كلكامش، حيثُ تظهر الحكاية الفنتازية السحرية أن Nintiآلهة الحب  والجمال السومرية التي خُلقت ْمن ضلع (أنكي) لتشفيهِ بعد أن أكل الزهورالسحرية المحرمة من الشجرة الممنوعة التي ظهرت كأساس لقصة أدم وحواء في سفر التكوين، وإن فكرة خلود الآلهة التي ظهرت في ملحمة كلكامش والتي دفع بطلها بهوس وجنون وركوب المخاطر والمغامرات المرعبة لأكتشاف سرموت صديقهُ الحمبم (أنكيدو) وهو سرالحياة والموت أنتهت بأستسلام البطل كلكامش بعد مقتل (أنكيدو) وسرقة الأفعى عشبة سر الخلود، ونصائح الكاهن (أتونابشتم) مندوب الآلهة في سماع القرار السماوي أن الخلود للألهة فقط والموت من نصيب البشرية وقرر البطل كلكامش الرجوع لموطنه وبناء مدينة أوروك لآعتقاده الأنساني { بأن سر الخلود للبشريكمن في العمل الخير والصالح والذكر الحسن في خدمة البشرية} أي تحقيق حلم البشرية في المدينة الفاضلة .

- توضحت رؤى فلسفة ديستوفيسكي تلك الحقيقة المطلقة في فهم قيمة الأنسان (كأثمن رأسمال) لكون هذا الأنسان قادر على تطوير ذاتهُ ليحصل على السعادة الحقيقية عبر ألتزامه بالفضيلة وترسيخ السلام العالمي ونبذ الحروب والبحث عن القيمية المعرفية وليس السعي وراء المتعة الفانية تلك هي الفكرة الفلسفية الأخلاقية، وهنا قراتُ دراسة لزميلي الكاتب الأكاديمي "علي القاسمي" في كتابه الموسوم (عودة كلكامش): إن الملحمة السومرية تصدت لثلاث قضايا مهمة (الحياة والحب والموت) بدأ من النهاية حسب أعتقادهِ ليست اٌقل شأناً من البداية، فأذاً الفكرة فلسفية أخلاقية صيغتْ بهيئة  (ملحمة شعرية مطولة) شرقية ظهرت في عراق وادي الرافدين، وليس غريبا أن تظهرالفكرة الفلسفية الأخلاقية في الألياذة الأغريقية لهوميروس في حروب طروادة في أزدراء وأحتقار (باريس) لخطفه (هيلين) زوجة الملك  مينالاوس)ملك أسبارطة أعتبرت خطيئة والتجاوز على قانون قواعد لعبة الحروب في الملحمة الطروادية، إن كلا الملحمتين الشرقية والأغريقية مكتوبتين بنص شعري مطول في نصه السردي وكلاهما يتقاربان بالفكرة الفلسفية: إن الأنسان يخلد بأعماله الصالحة للفوزبالتغيير ويذكرنا التأريخ بأنجازات عظمائه في نقلة نوعية في تحديثها وعصرنتها في زمن العولمة الرقمية نجد الكثير من الرموزالعلمية أضاءوا زمن العتمة أمثال أديسون مخترع الكهرباء، أنيشتاين صاحب النظرية النسبية في الفيزياء الكونية، ونلسون مانديلا صاحب الثورة البيضاء والقس لوثر صاحيب الأصلاح الديني، ووليم مورتون طبيب أسنان مكتشف (البنج) 1846، والزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم صاحب ثورة الخبز والسلام  .

***

عبد الجبار نوري

كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

مايس 2024

...........................

المصادر والهوامش

-عودة كلكامش – الدكتور علي القاسمي

- ملحمة كلكامش – الدكتور طه باقر

- ديستوفيسكي – ميخائيل ياختين

 

المَدخل المُثير

يضعنا الكاتب من البداية، في مُواجهة مع المشهد الذي اختاره ليكون عنوان روايته "مشاة لا يَعبرون الطريق"(الأهلية للنشر والتوزيع طبعة أولى. عمّان 2019) حيث يرتسم في مخيّلتنا مشهدٌ للعَشرات أو المئات أو الآلاف من الناس الذين يُقيمون داخل بلدة، قد تكون مدينة غزة حيث عاش الكاتب، محاطة بطريق طويلة، تشدّ بأهلها للمُخاطرة والسّعيّ لعبورها كي ينطلقوا نحو عالم جديد أكثر اتّساعا وأوفر حظا، لكنّهم إذا ما حاولوا، يجدون أنفسَهم عاجزين عن تحقيق رغبتهم، فيعودون، وقد أيقنوا أنّهم يعيشون داخل سجن كبير لا يُمكنهم الخروج منه، ليتابعوا حياتَهم بروتانيّتها المملّة وطموحاتها المحدودة.

وهذا الارتداد وافتقاد الأمل، وحتى الحلم بالأفضل، يأخذنا إلى النهاية الحَتْميّة التي هي الموت الذي "تنثر ضرَباتُ حوافره على الإسفلت دويّا صارخا يُقلق مضاجعَنا، وفي مرّات كثيرة يمرّ مرور البرق لا نكاد نتيقّن من وقوعه إلّا بعد أنْ يرحل مَن نحبّ"(ص7)، حيث لا يبقى لنا ما نتلهى به غيرُ نَدْبِ حاضرنا واستعادة أرواح موتانا الذين رحلوا، وترقّب الآتي، حيث لا بدّ وأنّه قادم، إن لم يكن في الغد، فبعد الغد.

بداية ليست من عالم السينما

اعتدنا في القصص والأفلام السينمائيّة البولسيّة على البدايات المثيرة، حيث تقع الجريمة، وتبدأ تحرّياتُ الشرطة في السّعي للوصول إلى مُرتكب الجريمة، فتأخذ بنا الأحداثُ إلى كلّ الاتّجاهات، وتتداخلُ الأزمنة والأمكنة وتتقاطعُ، وتتوالى الشخصيّات، تؤدّي دورَها المناط بها وتختفي.

لكنّ الكاتب عاطف أبو سيف لم تشده بداياتُ الأفلام والقصص البوليسية، وإنّما استمدّ بدايةَ قصّته، كما كشف في أمسية أدبية أقيمَتْ له في مدينة رام الله، من حادثة حقيقيّة حدثت معه حين أقَلّ على وجه السّرعة مُسنّا سقط أرضا دون مَعرفة السّبب من أزقّة المخيم إلى المستشفى، وهناك أصرّ الشرطي على اتّهامه بالمسؤوليّة، لولا أنّه، وبعد حين، ثبتت براءتُه حين استفاق المسنّ وقال الوقائعَ كما حدثت".

هذه الحادثة تركت أبو سيف في حالة ذهول لم يستوعبها في البداية.

فماذا كان سيحدث له لو لم يستفق الرجل المسن، ومات؟

كيف كان سيُثبت براءتَه وأنّه قام بعمل خير فقط؟

 وكيف كان سيقضي السّنوات الطويلة في السجن أو يُحكَم عليه بالإعدام بتهمة قتل الرّجل المسن.

وتساءل أبو سيف: كم من بريء تَرمي به الصّدفةُ في واقعة تكون المدمّرةَ لحياته.

وأخذت خيوطُ القصّة تتشابك، وترسم المشاهد، وتستحضر الشخصيّات، وتبني واقعا مُتَخيّلا، يضيق بكثرة الناس الذين رمَت بهم نكبةٌ هجّرتهم من بلداتهم المختلفة وجمَعتهم في مخيّم ينتظرون فيه يوم عودتهم. يعيشون حياتهم البسيطة العاديّة، يسعون لتأمين الطعام والشراب لأفراد أسرهم، يخافون أنْ يفقدوا عملَهم فيما لو أغضبوا المتحكّمين بهم، السّارقين قوت أطفالهم باسم الوطنيّة والنّضال والاستعداد لليوم الموعود.

حقيقة لا لبس فيها، أنّ حياة الواحد منّا، طالت أم قصُرَت، تتوزّع على عالمين لا ثالث لهما: عالم الواقع المعيش الذي نحياه بحواسّنا الخمس. والعالم المتخيّل الذي نحلم به طمَعا في حياة أفضل، أو نخافه لأنّه يُهاجمُنا على شكل كوابيس مُرعبة تشلّ إرادتَنا، وتوقعنا في مَطبّات مجهولة ومُعاناة وعذابات. 

ويقيني أيضا، أنّ كلّ عالَم مُتَخَيّل ينطلق من الواقع المعيش الذي نعملُ على تَغييره، فنعيش ساعات البُعد والحريّة والانطلاق لنعودَ بعدها إلى حيث كنّا، نتفقّدُ أحوالنا، ونراودُ أحلامَنا، وننطلق بخيالنا.

هكذا انطلق عاطف أبو سيف من الواقعة التي حدثت له مع الرجل المسنّ الذي سقط أمامه، وقام بنَقله إلى المستشفى، ليُواجَهَ هناك بتهمة التّسبّب في سقوط المسن. ليبني عالما متكاملا يرويها في قصّته "مُشاة لا يَعبرون الطريق".

"مرّت الشّاحنة سريعة عند المنعطف. كان يجرّ درّاجتَه الهوائيّة القديمة، يكاد يعبرُ الشارع حين صدَمته الشاحنة. وقعَ أرضا. ندّت عنه صرخة خفيفة. عجلاتُ الدّراجة الهوائيّة ظلّت تدور بوَهن بعد أن ارتمت على وجه الإسفلت. لم تتوقّف الشاحنة أكثر من عشرين ثانية ثم واصل السائق اندفاعَه في الشارع، كأنّ شيئا لم يحدث. ثم كأنّه انعطف عند نهاية الشارع شرقا إلى الضواحي المجاورة. مشهد بسيط لكنّه حدَث بتَعقيد كبير."(ص9)

هذا المشهد الكامل الذي حدث، افتتح به الكاتب روايتَه ليتابعَ في عالمه المتخيّل رسمَ المشاهد وبناءَ قصّته المتكاملة.

وطبيعي أنْ يثيرَ هذا المشهدُ مَن تَواجد صدفة في المكان. وبالفعل سارع صاحبُ دكّان الفاكهة القريب لمساعدة المسن، ومثله فعل السائق الذي مرّ، والفتاة الجامعيّة التي نزلت لتوّها من الباص، حيث قاموا بإدخال الرجل المسن إلى السيارة التي نقلته إلى المستشفى.

لم يستغرق الحدَثُ وقتا طويلا. ولم يُثر اهتماما كبيرا. فالحياة مستمرّة والناس يُتابعون حياتَهم الاعتياديّة:

 "طفل صغير، يمرّ صدفة، استغل عدمَ وجود الفاكهاني في دكّانه فتناول حبّة خوخ وأكلها غير عابئ بكلمات التأنيب التي يقذفه بها بائعُ الترمس والفول. شابّ يجلس على شرفة يُدخّن نرجيلة بطعم التّفاح، رأى المشهد كاملا ولم يُحرّك ساكنا. بائع في الثلاثينات من عمره يجرّ عربة ترمس وفول نابت. امرأة خمسينيّة تجرّ طفلها متأفّفة من الحرّ. تلاميذ مدارسَ يخرجون من الشارع الذي تقع فيه مدارسُهم. باص يتوقّف في المحطة لتنزلَ منه طالبة جامعيّة. ثلاث صبايا يدخلن محلَّ الموبايلات الذي افتتح حديثا. رائحة الدّجاج المشوي تفوح من داخل المطبخ الكبير على مَدخل أحد الأزقّة. من فوق سطح يقف طفل لم يتجاوز العاشرة يُطلق العنان لطائرته الورقيّة تحمل أحلاما كثيرة لتسافر بها إلى فضاء آخر. صوت الأم يحذر ابنَها من السقوط. تطير الطائرة الورقيّة سارحة في السّماء الواسعة شمالا. الأعينُ الكثيرة تشخص نحوها محلّقة في مساحات لا مُتناهية. الطائرة الورقية تبدو وكأنها تستقرّ فوق المستشفى الذي تمّ بناؤه حديثا على التلّة شمالي المخيم حيث ستَنقل السيّارة الرجلَ العجوز الذي دهسته الشاحنة"(ص10-12).

هذه المشاهدُ العاديّة لحياة الناس اليوميّة غير المبالية لوقوع هذا الحدَث أو ذاك، فكلٌّ مَشغول بهمومه الخاصّة. والأحداثُ العارضة تمرّ سريعا، لا تترك أثرا لها.

كان من الممكن أنْ تنتهي القصة بإدخال المسن إلى المستشفى، ونُتابع مشاهدَ الحياة الروتانيّة للناس. الدّالّة على استمرارية الحياة العاديّة.

لكنّ الكاتب عاطف أبو سيف عاد لتجربته الخاصّة، واتّهام الشرطي له بالتّسبّب في سقوط الرجل الذي نقَله إلى المستشفى لينطلق في عالمه المتَخَيّل، ويتغلغل في دواخل الشخصيّات التي استحضرها، ليكتشف سرّها وطُرقَ تفكيرها وعوالمها السريّة التي لا يعرف حقيقتَها غيرُها.

"أمام باب قسم الطوارئ في المستشفى التَمَّ المارّةُ والزوّار حول السيّارة ليساعدوا في نَقل الرجل إلى الدّاخل. الجميعُ يهتم لمعرفة ما حدَث: ما الذي حدث؟ ما له؟ حادث؟ شجار؟ هل اعتدى عليه أحد؟ أين عائلته؟ مَن قريبُه؟ معقول لا أقارب له؟ هل من قريب هنا لهذا الرجل؟ معقول أنّ الرجل نزل من الفضاء؟ مَن اللعين الذي حاول قَتْل الرجل؟  لكن أين أهله؟ لا بُدّ أنّ له ابنا أو بنتا أو زوجة أو أخا أو أختا. مقطوع من شجرة؟ لا بُدّ أنّ سائق السيارة الذي أحضره يعرف؟ أين سائق السيارة؟"(ص13-14).

الجلبة التي حدثت عند وصول الرجل المسن إلى المستشفى، واهتمام كلّ مَن صدَف وجوده بالحدَث، انتهت بمجرّد أن أُدْخِل الرجلُ إلى المستشفى، فتفرّق الناس، كلّ إلى همومه، وانحصر الاهتمامُ بالرّجل بين الذين أحضروه والصّحفى الذي يريد كتابة تقريره عن الحادث، والممرّضات والطبيب. ثم سرعان ما أصبح الرجلُ حالة طبيعيّة بالنسبة للممرّضات والطبيب. وظلّ الاهتمامُ به ينحصر في السائق وبائع الفاكهة والطالبة الجامعيّة والشرطي الموكل على الأمن والصحفي.

فَنيّة الكاتب الذّكيّة

استمرار الرجل المسن في غيبوبته أخرجَه من مركز الأحداث، وحوّله لينحصر في كونه نقطة الارتكاز الحياديّة التي يلتقي الجميع حولها. ممّا أتاح للكاتب أن ْينطلق في غَوْر ذاتيّة كلّ شخصيّة على حدَة ليكتشف المشترك بينها ويقفَ على الخاصّ بكلّ منها.

الصفة المشتركة البارزة التي جمعت بينهم، وحتى مع باقي الناس المّارّة والمتجمّعة في الشارع، حيث سقط الرجل المسن، والناس المتواجدين أمام المستشفى والممرضات والطبيب، كانت الناحية الإنسانيّة الدّافعة بالواحد ليكون إلى جانب الضّعيف والمريض والمصاب ليمُدّ له يدَ المساعدة المطلوبة. لكنّها حالة عابرة، سرعان ما يرتدّ الواحدُ عنها ليعتني بمشاغله ومتطلّبات حياته. وأيضا هذا الارتداد هو حالة إنسانيّة تفرضها رغبةُ كلّ واحد في استمرار حياته وتجاوز الصّعاب فيها. وهذا ما حدث بالفعل حيث عاد الفاكهاني إلى دكّانه، والسائق إلى عمله، والطالبة إلى جامعتها، والشرطي لمزاولة عمله المناط به، والصّحفي ليكتب التقريرَ المطلوب منه للجريدة. رغم أنّ حالة الرجل المسن لم تغب عن أيّ منهم، وظلّت تدفعهم لزيارته والاطمئنان عليه.

الصّفة المشتركة الثانية التي جمعت بين الجميع هي الشّك. فسَعْيُ كلّ منهم لمعرفة ما حدث للرجل، وكيف أصيب وسقط، أدْخَلت كلا منهم في دوّامة مُقلقة مخيفة، جعلت الواحدَ يشكّ في الثاني، والجميع يشكّون ببعضهم البعض، ويُطلقون الاتّهامات في كثير من الحالات بصوت عال وواضح. كما حدث بين السائق والشرطي "انفجر السائق في وجه الشرطي: أنت تشكّ؟ ونحن نشكّ فيك أيضا. نعم نحن نشكّ فيك. أنت تشك في كلّ شخص، تريد أن تحرف الحقيقة لأنّك تعرفها، أو لأنك فعلا جزء منها. لماذا تكون بريئا ونحن كلّنا متهمون؟ تعتقد أنّنا لا نعرف الحقيقة. الحقيقة أنّنا كلّنا متّهمون، وأنت متّهم أيضا. لماذا أنت وحدك بريء؟"(ص145).

والشكّ صفة إنسانيّة أيضا، فيها الجوانبُ الإيجابيّة التي تجعل الواحدَ لا يقتنع بما هو عليه، ولا يقبَلُ بالمسلّمات، ويريد تَغيير كلّ شيْء للأفضل، ويدفع الواحد للبحث والتّنقيب والعمل. وفيها السلبيّة التي توتّر العلاقات بين أقرب الناس، وقد تُدمّرُ حيوات الكثيرين، فتمزق الأسرَ والمجتمعات، وقد تؤدّي إلى الفوضى والعِداء.

وهذا ما حدث لجميع الشخصيّات التي التقت عند الرجل المسن الغائب في غيبوبته الطويلة، فكل واحد يشكّ في الثاني بأنّه وراء الجريمة التي حدثت، وكلّ واحد يعتقد أنّ الثاني يريد التّستّر على ما قام به، مُلقيا التّهمة على الآخر. ومع كل رواية جديدة تغيب الحقيقة أكثر، ويظلّ الرّجل في غيبوبته.

لم يشأ الكاتب أنْ يقفَ بنا عند شكّ الواحد في الثاني، وينهي الحكاية بهذه الحالة المرفوضة، وإنّما انطلق من فكرة أنّ حياة الواحد موزّعة، كما قلت سابقا، بين عالمين: عالم الواقع والعالم المتخيّل. وهما مُتداخلان في حياة كلّ إنسان. وانطلاقُنا من واقعنا لنُحلّق بالمتخيّل قد يُخلّصنا من جمودنا وافتقار إبداعنا لننطلقَ بالمتخيّل الذي يفتح أمامنا عوالمَ لا نهاية لها، وآفاقا تدفعُ بنا أكثر وأكثر.

وإذا كان الشرطي يُمثّل الغَباء برغبته في إرضاء المسؤول عنه الذي لا يقلّ عنه غباء، وهمّه فقط إثبات التّهمة وإلصاقها بأيّ واحد ليبرز موهبته وقُدُراته أمام المسؤولين عنه. فإنّ السائقَ والفتاة وحتى الفاكهاني يريدون التخلّصَ من شكّ الشرطي بهم باتّهام الغير. والحقيقة التي يعرفها، ورصدَها الشاب الذي كان يجلس في الشرفة بأنّ الشاحنة لم تصدم الرّجل المسن، وأنّه سقط وحده، ظلّت مَخفيّة، لأنّ أنانيّتَه، وقد يكون تخوّفُه من التّورّط في التّحقيق معه، دفعاه لالتزام الصمت، وعدم الإدلاء بمعلوماته لأحد.

هذه الحقائقُ الواقعيّة التي أبقت أصحابَها في دوّامة من الضّياع، كانت بحاجة لمَن يتحرّر منها ليخرجَ الجميع من دوّامتهم. وكان صوتُ المحرّر صاحب الصحيفة الدّافع لهذا التّحرّك. "القصّة الحقيقيّة ليست فيمَن حضر، بل فيمَن غاب. الغائبون هم الذين يصنعون الحكايات الحقيقيّة. فالقاتل غائب، كما أنّ أهل الرجل غائبون" (ص76).

والتقط الصحفيّ الإشارة الذكية من المحرّر، وفكّر: "عالم الغائبين، هو العالم الذي عليه أنْ يقومَ بصياغته، وخَلق حكاياته. من المؤكّد أنّ عالَمَ الحاضرين حول السّرير مليء بالقصص، أمّا البطل الحقيقيّ للتّقرير، الذي عليه أنْ يُبرزه، أيّ الرجل العجوز، فهو الغائبُ الأكبر في الحكاية. الحكاية والبطل توأمان عادة، لكن في هذه الحالة فثمّة حكاية بطلُها غائب. ومهمّته الكبرى يجب أنْ تكون خَلق عالم خاصّ بالرّجل العجوز. تخيّلُ حكايته الخاصّة، وافتراضُ وجود هذا العالم وتلك الحكاية، وتأسيسهما وفْق منظومة علاقات من الأشياء التي تتوفّر في مَتْن الحكاية، وتأثيثهما بكلّ ما تمّ العثور عليه على قارعة الحكاية."(ص77). 

هكذا أخذت القصّة المتَخيّلة تنبني انطلاقا من "صورة بالأسود والأبيض لشابّة جميلة وُجِدَتْ في محفظة بنيّة اللون، احتفظ بها الرجل. ودرّاجة هوائيّة قديمة. ثلاثة أشياء لا بُدّ أنْ تصلحَ لكتابة قصّة حياة الرّجل العجوز.". (ص 77)

القصّة المتَخَيّلَة

صورة الشّابّة الجميلة التي وُجِدَت في المحفظة كانت بدايةَ الانطلاق في بناء القصّة الكاملة. فلا بدّ أن تكون صاحبةُ الصورة عشيقةَ الرّجل، حيث احتفظ بها كلّ هذه السّنوات الطويلة. هكذا افترض الصّحفي في قصّته المتخيّلة. "فالحبّ هو الشيء الوحيد الذي لا يذوي في حياتنا. نشيبُ، وتوهن أجسادنا، ويفتك الزمن برغباتنا، وتدوس عرباتُه أحلامَنا، لكنّ الحبّ يظلّ فتيّا في القلب. له نفسُ إيقاع النّبضة الأولى، دهشةُ الرّوح ذاتها، وارتعاشةُ الجسد نفسها حين يخطر على بالنا مَن نُحبّ. فأجملُ ما في الحبّ هو إصراره على البقاء، على عبور الزمن، على التّعبير عن نفسه في أشدّ اللحظات قسوة، مقدرتُه على مَدّنا بأكسجين الأمل. لذلك فمَن نُحبّ يظلّ شابّا، فالعشّاق لا يشيخون، لا تدوس أرواحَهم عربةُ الزّمن". (ص78)

واختار اسمَ "سلوى" للفتاة لتتجسّدَ حقيقةً ملموسة. كلاهما من مدينة يافا. التقيا صدفة في أحد نهارات نيسان من العام 1946، كانت عائدة من مدرسة "حسن عرَفة" الثانوية فيما كان هو عائدا من مدرسة "العامريّة". وقف مثل مَن صَعَقته الكهرباء أكثر من دقيقتين دون أنْ يرمش. ظل يُحَملق إليها وهي تخطو مثل طاووس بين صديقاتها. وتطوّرت العلاقة بينهما، وتقاربت الأسرتان، وانتهزا فرصةَ التقاء العائلتين في سهرة من ليالي يافا الرّائقة ليختليا معا، ويخطفا قبلة سريعة، لا يُفارقُه مذاقُها طوالَ العمر. أمِلا بالزّواج بعد انتهاء دراسته في الكلية العربية في القدس والحصول على شهادة "المَتْرك". وكانت سلوى في وداعه ساعة سفَره إلى القدس، وظلّت تلوّح له بيديها والدّموع تُغطّي وجنتيها حتى اختفت الحافلة.

وحدث ما لم يكن مُتوقّعا. وقعت النّكبة. واحتلّ اليهود مدينة يافا وطرَدوا أهلَها العرب، فتشتّتت العائلاتُ. وحملت النّكبةُ عائلتَه إلى مدينة غزّة فيما كان هو في القدس. وفقط بعد ستة أشهر نجح في الوصول إليهم. لم ير محبوبتَه سلوى منذ لقائهما الأخير، ولم ينجح في العثور عليها أو معرفة أيّة معلومة عنها. ظلّ عمره كلّه ينتظرها. رفض كلّ العروض التي قُدّمت له للعمل، وفضّل أن يعمل ساعيا للبريد عَلّ رسالة منها تصله. مرّت السنوات وقارَبَ الثمانين من عمره وهو ينتظر، حتى جاءه خبرٌ من صديقه حبيب بأنّ أخبارا جديدة ومُفرحة من سلوى سيُفاجئه بها. وغمَره الفرحُ مرّة واحدة، استعدّ للقاء سلوى، صفّف شعره ، رتّب هندامَه نزلت دمعة ساخنة على خده، رشّ العطرَ على جسده، فكّر باستئجار سيارة توصله إلى بيت صديقه حبيب، لكنّ نظرته الخاطفة إلى درّاجته أعادته إلى صوابه. فهي رفيقة عمره في انتظاره لسلوى والبحث عنها. احتضن الدرّاجة الهوائيّة، شعر أنّه يستعيدُ شبابَه، اعتلاها وقادها شاقّا زقاقات المخيّم صَوْبَ بيت صديقه حبيب، حيث تنتظره، كما كان متأكدا، محبوبتُه سلوى. ، لكنّه وقد اقترب من الشارع الرئيس، نزل عن درّاجته من شدّة الازدحام، وتقدّم يجرّ درّاجته نحو الشارع، وإذا بالشّاحنة اللعينة تصدُمه، فسقط ودخل في غيبوبة طال أمدُها، وحرمته من الوصول إلى بيت صديقه حبيب واللقاء بمحبوبته سلوى. وكانت النهاية بأنْ عادت سلوى إليه، كما أمِلَ طوال سنوات عمره، حضرت إلى المستشفى "فتحت البابَ ودخلت. كانت عتمة تسحب عباءتَها عن الغرفة. وضعت يدَها على رأسه فأفاق من الغيبوبة على اللمسة التي ظلّ ينتظرها عقودا وعقودا. ترَجّل ونهضَ عن السرير مثل شمس تُشرقُ من بين تلال الغيوم. كأنّه كان ينتظرها، فتح عينيه وملأهما بحضورها في قلبه الثمانيني. وعاد طفلا يلهو في أزقّة يافا". (ص203)

مُواجهة المستسلمين الخانعين

كنتُ على ثقة، ولا أزال، أنّه لا وجودَ لإبداع حقيقيّ إذا لم يرتكز إلى واقع قائم، نتعايشُ معه بكل علّاته وفَضائله، ويتطلّع إلى واقع افتراضيّ يرسمُه له الخيال، يعمل على تَحريره من قيود الواقع المعيش المقَيِّد، ويأتي بالأفضل.

ومن هذا المنطلَق، كما أعتقد، أدخلَنا الكاتبُ في روايته إلى هذين العالمين ليوقفنا على الأخطار التي تتهدّدُ الناسَ الذين عاشوا وناضلوا وضحّوا لتحقيق أمل، حرصوا عليه عقودا وعقود، وبدأ يتوارى ويُغلّفُه الإهمال، وحتى النسيان، أمام هموم الناس اليوميّة، ولا مَعْقوليّة، ولا مُبالاة العالَم القريب والبَعيد، وتَحميل كلّ واحد لغيره مسؤوليّة الذي يحدث.

فالرجل المسن المقتربُ من الثمانين عاش عمره كلّه، رافضا أيّ عمل يُبعده أو يلهيه عن هدفه الوحيد في البحث عن محبوبته والوصول إليها والتّوحد معها. وفضّل العملَ ساعيا للبريد، يُوزّعُ الرّسائلَ إلى أصحابها وهو يقود عربتَه الهوائيّة. بينما باقي الناس أخذتهم المشاغلُ اليوميّة. منهم مَن أغرتهم المناصبُ والسّلطة فاتّخذوها وسيلةً للوصول إلى الغِنى والتّحكّم برقاب الناس ومَصائرهم. ومنهم مَن انشغل بهمومه العائلية الضيّقة البائسة، فلم يفكّر بغيرها. ومنهم مَنْ زاول حياته العادية اليومية فارتاح إليها، واختار هَدْأةَ البال على مُواجهة الصّعاب ومخاوف الموت والإبْعاد والسّجون. فتركوا أحلامَهم الكبيرة وعزَفوا عن العمل لتَجسيدها.

ووحده مَن عانى من تضاؤل تَعاطفِ الناس معه، والاكتفاء بالكلام المعسول المخادع، وشهد انحدارَ الجميع في خوضهم صراعات البقاء فيما بينهم، كلّ يشكّ بغيره ويُباعِده ويُعاديه ويعمل على إضعافه، وحتى مَحوه من الوجود. والرجل تُرهقُه السنواتُ الطويلة وهو يرفض الاستسلامَ، ويتشبث بالأمل والإيمان بأنّ محبوبتَه ستعرفُ الطريقَ إليه وستأتيه ليبدآ حياة جديدة سعيدة. 

قصص جانبيّة ولَسَعات قد تُنبّه 

كما في كلّ رواية، انطلق الكاتبُ ليتابعَ قصصَ الشخصيّات الأخرى التي تُحيط بالشخصيّة المركزيّة، لدورها المهم في بناء الجسم الكامل للرواية التي تُصوّرُ عالما مُتكاملا تنبضُ فيه الحياة، وتتفاعلُ الشخصيّات، وتتهادى الأمكنة، وتتزاحمُ الأزمنة.

لكنّ المثيرَ أنّ كلّ الشخصيّات مشغولةٌ بأمورها الخاصّة وحاجيّاتها اليوميّة غير مُنتبهة أو مُهْتمّة بالشّأن العام أو واضعة أمامَها هدَفا تسعى للوصول إليه. فالناس العاديون أمثال السّائق وبائع الفاكهة يهمّهم تأمينَ لقمة العيش لأفراد أسَرِهم. والشرطي الذي شارك في الانتفاضة واعتُقل خمسَ سنوات، وفرح يوم التقى الرئيس ياسر عرفات الذي كان يُخبّئ صورتَه في السجن ويرسمُه على الورق، أصبح العبدَ المطيعَ المنافقَ الساعي لنَيل رضا الضابط المسؤول عنه، ولا يفكّرُ بغير رضاه ليضمنَ لنفسه استمراريّة الوظيفة وتأمين مستقبل الأسرة. والطالبة الجامعيّة رغم لفتتها الإنسانيّة ومساعدتها للرجل المسن إلّا أنّ شغلَها الشّاغل في التفكير بحبيبها الذي تركها، وتعملُ جاهدةً لاستعادته ونَيْل رضاه، بينما هذا الحبيب تركها لأنّه غير راض عن تصرّفاتها. وهو شاب أنانيّ غير مهتم بكل ما يدور حوله، ويجري أمامه، فهو جَبانٌ لا يُواجِهُ، ويُؤْثرُ السّلامةَ على تَعْريض نفسه للخطر. والصّحفيُّ يُسايرُ رئيسَ التّحرير ويقبل بنصائحه ويجتهد ليكتب التّقرير الأفضل. ومنهم مَن انقلبَ على ماضيه النّضالي، وتسلّق سلالمَ السلطة الدينيّة والدّنْيَويّة، فتحكّم َبرقاب الناس، وظلمَهم، واستغنى على حسابهم باسم الوطن والنّضال.

عالم افتراضيّ هو أقربُ إلى الواقع المَعيش

في روايته "مُشاة لا يعبرون الطّريق" اهتمّ الكاتبُ عاطف أبو سيف أنْ ينقلَ لنا الصورةَ الحقيقيّةَ للواقعِ المأساويّ اليوميّ الذي يعيشُه الشّعبُ الفلسطيني في الأراضي المحتلّة. وقد اجتهد أن يُقدّم، بهدوء وبعيدا عن الصراخ والشعارات المعتادة، صورة بانوراميّة لمعاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة نتيجة لثقل نير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيّة وحرمان أبناء غزّة من المَخارج الجويّة والبحريّة والبريّة، إضافة إلى ثقل وظلم حكم المتسلّطين على الحكم في غزّة وانفلات الفئات الاستغلاليّة الانتهازية التي تلتهم أموال الناس، وتغنى على حساب الفقراء باسم النضال ومحاربة المحتل. فالشعب الفلسطيني يعيشُ حياةً باهتة، فارغة، عبثيّة، حالمة، غافلة عمّا يحدُث ويُنَفّذُ يوميّا. ويشهدُ انحسارَ الوطن، وافتقاده، وضياعَه، ولا يملك القُدرةَ على التّصدّي والمواجهة. يعيشُ حياة يتهدّدُها الخَرابُ، كما قال النّاقد فيصل درّاج "الممتدّة من متزعّم تآلف مع "الأنْفاق والمولات"، إلى مواطن بسيط هاجسُه "تأمين الأولاد" ومناضل قديم يوغل في التنازل يُفاخرُ بأنّه لا يتنازل، وصولا إلى فتاةٍ يقهرُها إخوتُها وأبٍ ينتظرُ زيارة ابْنٍ بَعيد، ومعلّم شبه أميّ غدا مسؤولا تربَويّا عالي المقام، وإنسان فاسد حافظ على امتيازاته في أزمنة غزة جميعا".(مجلة الكلمة.عدد 151 نوفمبر 2019)

نهاية الكلام

"مشاة لا يَعبرُون الشّارع" ليست مُجرّد رواية تُضاف إلى عدَد الروايات التي صدرت قبلها، وإنّما هي صَرخةٌ عالية، يوقفُنا بها الكاتبُ على الهُوَّةِ السّحيقة التي تنتظرُ الشعبَ الفلسطيني فيما لو ظلّ على حالِه مِنَ الاتّكاليّة والأنانيّة والانشغال بالصّراعات والعَداوات والهموم اليوميّة التي تُثقل كاهلَه.

في مجتمع يعيشُ حالةَ اغتراب، فقَدَ بوصلتَه، وضَيّع هدفَه. ومع شعب يُعاني تحت الاحتلال، يبحث عن طريق خَلاصِه، تصدرُ روايةُ عاطف أبو سيف "مُشاة لا يعبرون الطريق" لتصرخَ مُنبّهةً ومُثوّرةً ومُحذّرةً أنّ الاستمرارَ في المشي البطيء مرفوضٌ في زمن السّرعة الفَوْق ضَوئيّة اللامَعْقولة. والقُبولُ بالطّريق المسْدودة الملتفّة حول الأعناق، لم تَعُدْ بالقَدر المحتوم المرضي عنه. والعبورُ لم يَعد اختيارا، وإنّما هو فَرْضٌ حَتْميّ لحياة كريمة حرّة.

ولحرص الكاتب على تَثْبيت إيمان أبناء شعبه بمستقبلهم يرسمُ، من البداية، المشهدَ الذي يبعث الأملَ، ويُطمْئنُ على المستقبل الآتي مهما بعُد، "مَشهدَ طفل لم يتجاوز العاشرة، يقف فوق سطح البيت، يُطلقُ العنان لطائرته الوَرَقيّة، تحمل أحلاما كثيرةً لتُسافرَ بها إلى فَضاء آخر. تطيرُ الطائرةُ الورقيّةُ سارحةً في السّماءِ الواسعة شمالا، تَشْخَصُ نحوَها الأعْينُ مُحَلّقة في مساحات لا مُتناهية، لتستقرَّ أخيرا فوق المستشفى الذي تَمّ بناؤه حديثا على التّلّة شماليّ المخيّم، حيث ستقلُّ سيّارةُ الأجرة الرّجلَ العجوزَ الذي دهسته الشّاحنة". (ص12) 

***

د. نبيه القاسم - الرامة - فلسطين

* تأطير: هذه ورقة تعرف بمؤلف "النادل والصحف" للراحل الأستاذ عبد الرحمان الفايز، المربي والأستاذ المفتش قيد حياته، والذي أصدر كتابه سنة2019، وقد عرف الراحل بروح المرح والدعابة والطيبوبة الكبيرة والتطوع لخدمة الآخرين ومساعدتهم، وهي بعض الأصداء التي تعكسها فصول هذا الكتاب الغني بالمواقف والأحداث والمفارقات والطرائف . وهذه الورقة هي تقديم لعمل مفصل نستكمله قريبا إن شاء الله. فتحية إلى روح الراحل الأستاذ عبدالرحمان الفايز، وإليكم الورقة:

* سؤال التجنيس في "النادل والصحف":

أول ملاحظة تصادف القارئ لكتاب "النادل والصحف " هي غياب أية  إشارة لجنس هذا العمل سواء في الصفحة الأولى من الغلاف، أو في الصفحات الداخلية(1-2-3) الواردة قبل الإهداء (ص5). وهو غياب يجعل القارئ يتساءل عن هوية الكتاب الموجود بين يديه.

وليستطيع القارئ بناء افتراض معقول بهدف تصنيف الكتاب عليه أن يتوقف عند الصفحتين: 5 و7، إذ يرد في ملاحظة الكاتب بالصفحة الخامسة ما يلي:"تمت بداية تسجيل هذا العمل خلال سنة 2010، وما بعدها على وجه التقريب". هذه الملاحظة تقدم لنا معلومتين: اولاهما أن الكتاب في بدايته كان  تسجيلا والتسجيل هنا يحتمل: تسجيل شفهي بواسطة آلة تسجيل، ثم تأتي عملية تفريغ العمل كتابة. أو تسجيل كتابي بمعنى تدوين وكتابة وهو أمر آخر. فهل كان الكتاب شفهيا في البداية أم كتابة؟

ما الفرق بين الأمرين؟ لعل ذلك ينعكس على أسلوب الحكي، فالتلقائية والتداعي الحر يختلفان عن القصدية والانتقاء.

والمعلومة الثانية تحيل على زمن الكتابة/التسجيل(٢٠١٠ على وجه التقريب أي قبل ٩ سنوات من النشر).

و في نفس الصفحة يشير الكاتب إلى أن:" هذا العمل المتواضع". ولفظة التواضع سنحتاجها لاحقا لتساعدنا على تحديد هوية العمل.

أما في الصفحة السابعة فقد تم إثبات تقديم من ثلاثة أسطر وردت فيه المفاهيم التالية: عمل سردي/السيري والقصصي/ الواقع/ تخضيب الواقع بالخيال.

وبهذا يتضح أن الكاتب اختار هوية محددة لكتابته وأطرها في خانة السرد الحكائي.

وبالعودة إلى الهوية السردية للنص نستحضر التصنيفات النقدية المتداولة الآن فنقف عند الأنواع السردية المهمة الآتية:

السرد الروائي-القصصي، السرد السير/ذاتي (السيرة الذاتية)، والتخييل الذاتي. دون أن ننسى باقي الأنواع: السيرة الغيرية، الخاطرة،و الأشكال السردية التراثية....

ومع غياب أية إشارة إلى الهوية الروائية/القصصية لعمل "النادل والصحف"، وكذا غياب وسمه بالسيرة الذاتية الصريحة، يتبقى لنا افتراض قوي هو أن كتاب "النادل والصحف " عبارة عن تخييل ذاتي.

فما التخييل الذاتي؟

بالتوقف عند هذا المفهوم نعرف أن "سيرج دوبروفسكي"حدده من خلال أربع سمات:

سمة شكلية (مغامرة لغوية)، سمة أجناسية (الكاتب يصبح شخصية خيالية)، وسمة التخييل (الإهتمام بحياة الناس العاديين التي أشار إليها الكاتب بالتواضع)، وسمة الموضوعية (سرد الحياة الحقيقية مع انزياح عن المرجع/الواقع).

ورغم الانزياح عن الواقع فإن القصة تحرص على الإيهام بالواقع، مع توظيف أسماء مستعارة أو كنى وألقاب، ويسعى الكاتب إلى إضفاء التخييل على الذات ويبعدها عن الواقع/المرجع (كما يقول كولونا).

فهل يرقى هذا "التخييل الذاتي" إلى أن يكون جنسا أدبيا مستقلا أم هو مجرد سجل خطابي؟ أو وضعية خطابية تعتمد في الكتابة السردية؟ وهل هو جنس كامل؟ أم غير معروف؟ أم خفي؟

بالعودة إلى مقولة:" بمجرد أن يحرف اسم العلم يبدأ التخييل "(سيلين ومالرو)، نستطيع القول مع محمد الداهي بأن نص "النادل والصحف" يندرج ضمن التخييل الذاتي، وذلك لأسباب نذكر منها:

- انه يحكي حياة البسطاء(متقاعدون، الجيران،التلاميذ، القرويون،...)،أو حياة بسيطة: حياة رجل تعليم متقاعد وتفاعلاته مع الحياة ورصده لظواهرها السلبية: سرقة جرائد المقهى، ظاهرة المشردين، العنف الرياضي، سوء الجوار،العلاقة مع السلطة، مشاكل التعليم...). وقد عبر الكاتب بلفظة "المتواضع" مبعدا نفسه عن حياة العظماء التي هي موضوع السيرة الذاتية الصريحة كما يرى دوبروفسكي.فالكتابة هنا سيرة ذاتية لعموم الناس (وليس للمهمين فقط).

- ان الكتاب يقدم لنا "حقائق مزيفة"، أي ينطلق من مرجعية واقعية (حياة المتقاعد وباقي الشخصيات التي يذكرها وهي حياة اجتماعية ونفسية) ويلونها بالخيال (تزييف فني)، أي اضفاء التخييلي على الواقعي.

- ان الكاتب يقدم نفسه بصيغة:"هذا أنا وليس أنا" حسب تعبير جيرار حنيت، أو كما قال داربوسك ماأقوله:" حقيقي يجب عدم تصديقه".

- ان العلاقة بين الكاتب والشخصية والسارد تكون مبنية على التطابق الجزئي(على عكس السيرة الذاتية الصريحة التي تقوم على التطابق التام). فالكاتب  في "النادل والصحف" لا يصرح باسمه الحقيقي،وإنما صادفنا ثلاثة أسماء في الكتاب: أحمد (ص10)، عبد الله (ص134) ومحمد(ص167). وقد ورد اسم كل من عبد الله ومحمد مقرونا بصيغة السارد الشخصية المستعمل لضمير المتكلم(يظهر هنا التطابق بين الشخصية والسارد مع الاختلاف مع الكاتب). وأما اسم محمد فقد ورد بصيغة الغائب (تمايز الكاتب عن الشخصية/ تمايز الشخصية عن السارد/تمايز الكاتب عن السارد).

وهنا يطرح اشكال وحدة الشخصية/ البطل. هل هو نفس الشخصية في جميع الفصول؟ أم هو أكثر من شخصية؟

يبدو أن الفصول الاثنى عشر تتحدث عن نفس الشخصية التي يختفي خلفها الكاتب، وهذه الشخصية هي الخيط الرابط والناظم بين جميع الفصول. أما اختلاف الأسماء فقد يعود إلى "مكر التخفي" الذي يمارسه الكاتب. فاختلاف اسم البطل عن اسم الكاتب في التخييل الذاتي يفسر ب"المكر"الفني عبر تحريف أسماء الشخصيات(يشار إليها من وراء حجاب!) لأن المهم ليس الإسم في حد ذاته وإنما الدور الذي تقوم به الشخصية.

وهكذا نستخلص فيما يخص الهوية الأجناسية لنص "النادل والصحف " الآتي:

التخييل كتابة حكائية تخترق الخصائص الفنية للكتابات السردية: القصصية والروائية والسيرية. وهي تقوم على:" إضفاء التخييل على التجربة الذاتية المعيشة"حسب فانسون كولونا. وعلى المستوى الشكلي يتخذ التخييل الذاتي شكل طبقة من النصوص المتواجدة في السرد (حكايات الفصول الاثنى عشر وقد ترد أكثر من حكاية داخل الفصل الواحد). ويتوفر على بعض شروط ومواصفات الجنس الأدبي(تقنيات السرد: الاحداث، الحبكة، الشخصيات والصراع واللغة كوصف أو سرد أو حوار، المكان والرؤية السردية والزمن).

هذا الشكل الحكائي لم يرق بعد إلى مستوى أن يكون جنسا أدبيا معترفا به مؤسساتيا، ويبقى عبارة عن: وضعية تلفظية تعبر عنها عبارة (لنتخيل بأنني) حسب كولونا.وربما بحسب البعض هو" جنس غير مكتمل" أو في طور التشكل والاكتمال (منذ 1977-الابن لدوبروفسكي)، وربما له علاقة بالخانة الفارغة التي تركها فيليب لجون وهو ينظر للجنس السير-ذاتي.

وهذا كله لا يقلل من القيمة الأدبية للتخييل الذاتي فقد انتسبت إليه نصوص رائعة ك: مثل صيف لن يتكرر ودليل العنفوان وغيرهما كثير وضمنه نص "النادل والصحف "للراحل الأستاذ عبد الرحمن الفايز رحمه الله.

***

عبد الجليل لعميري

 

عند توقّد شرارة ما، جراء تماس ثقافي بين كيانين ثقافيين مستقلين ومتباعدين، سينتج عن ذلك كيان ثقافي جديد، هو ما يسُسمى اليوم "بالثقافة الهجينة" Cultural Hybridity، وهي حالة تزيد ثراء الثقافات، وتضاعف أهميتها وتأثيرها، عند إتصالها وإرتباطها بثقافات أخرى تؤثر وتتأثر بها. أي أن الثقافة المتأثرة بغيرها والتي تحمل الصفات الهجينية، لم تعد تحمل هوية عناصرها الأساسية فقط، على الرغم من مظاهر الخصوصية الذي تحمله، وذلك لإدماجها عناصر من ثقافة أو ثقافات أخرى، بفعل ما يمر به العالم من إنكماش في المسافات المكانية والزمانية عبر مختلف وسائل الانترنيت والاتصال وباقي وسائط العولمة. "فالتهجين الثقافي لا يعني محو أو تمييع الهوية الثقافية للفرد، بل يعني احتضان تنوع الثقافات والاحتفاء به." – كما تؤكد الباحثة والاكاديمية الامريكية غلوريا أنزالدوا. Gloria Anzaldúa  أي بعبارة أخرى، ان هذه الثقافة، التي تُدمج وتُصهر عناصر من ثقافة أخرى في صلب محتواها، لا يجعلها تُلغي أو تُذوّب هويتها الأساسية، بل تزيد تأثيرها في المحيط المُنتج والمستهلك لها على السواء. فالتهجين الثقافي مفهوم يستبطن إدماج عناصر وأفكار وممارسات ثقافية متنوعة بثقافة أخرى، فضلاً عن ان هذه الثقافة المُدمجة تُنتج أشكالاً تعبيرية جديدة، وإبداعات تجريبية خلاّقة، وثقافة جديدة تنبثق عنها هويات ثقافية بالوان جديدة.

وقد كان للمسرح دورٌ أساسيّ في مزج الثقافات، وفي إبتداع ملامح ثقافية جديدة، ونقل تجارب هذا الانصهار الثقافي عبر العروض الدرامية التي تتجاوز الموانع الجغرافية والثقافية والحضارية. حيث ان المسرح المعاصر يُمارس قوة تغييرية فعّالة في تعزيز التفاهم وإحترام ثقافات الآخر عبر توطيد التعاون والتبادل الثقافي. فمن ضمن الإمكانات الإبداعية للمسرح، تذويب الحواجز الثقافية التقليدية، ونبذ الاشكال النمطية، وتسهيل ازدهار الفكر والابداع التجريبي، والتحريض على التطوير والنماء الاجتماعي، وذلك بدعم ومساندة المجتمعات المهمشة، من خلال إستكشاف مساحات جديدة ومختلفة للحوار والتفاهم. فضلاً عن تقوية مشاعر التضامن والتعاطف الإنساني، وتعزيز الوعي بمعايير المساواة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. وعلى هذا الأساس فإن التهجين الثقافي يُمثل بيئة فريدة من الابتهاج والاحتفال المشترك بحالات ومفرزات التنوع والاختلاف.  ينتج عن هذا الابتهاج تنشيط وتعميق للقدرات الإبداعية، وخاصة التجريبية، كما يفضي الى دعم وتعزيز جهود التجانس والاندماج للمجاميع الاجتماعية، الأقل حظاً، ضمن نسيج المجتمع الواسع، وفي إطار ديناميكية عالمنا الذي لا يكف عن تحديث ذاته، فهو عالم شديد التغيّر، ومتواصل بشكل متزايد. وللمسرح تحدياته، وامتداداته في هذه الثقافة الهجينة، عبر التبادل المشترك للرؤى الفنية والأفكار، والقيم، والمعتقدات المختلفة، العابرة للثقافة الوطنية وجغرافية الحدود والقيود.

الثقافة الهجينة والقوة التغييرية للمسرح

من الواضح ان الثقافة الهجينة هي المولود المتميز لتيار العولمة. فالعولمة هي حالة من زيادة الترابط والاعتماد المتبادل بين مختلف الثقافات والمجتمعات التي أدّت الى تبلور حالة مبتكرة من التبادل الثقافي، عبر تشارك وتعلم الأفكار والقيم والممارسات. فالتهجين الثقافي، كما يصفه الاكاديمي وأحد أبرز المنظرين لهذا المفهوم، هومي ك. بهآبها، Homi K. Bhabha  "ليس كياناً منفرداً، بل هو عملية تفاوض وإعادة التعريف بشكل مستمر". وقد إنعكس ذلك بشكل مباشر وواضح على المسرح المعاصر بإعتباره حالة فريدة في ديناميكية التغيير والتطوير المستمر، فالمسرح لايعرف التوقف عند حدّ أو الاستكانة بثبات، لأنه في حركة تجريبية، دينامية، مستمرة ومتطورة من افراز الأفكار الجديدة، ومن الابداع في الرؤى المختلفة، ومن إبتكار وسائل جديدة للإدهاش، في إطار المشهدية الجمالية الإبداعية للمسرح وتطوير وتجديد عناصر ومرتكزات الشكل النهائي ومخرجات محتوى المضمون في العرض المسرحي. وكذلك فإن المسرح يعكس حالة العالم الراهنة، هذا العالم المتنوع والمترابط الذي نعيش فيه اليوم. من الثابت أن العولمة والتبادل الثقافي قد ساهما في تشكيل الملامح الجديدة في المسرح المعاصر، من خلال إثرائه بالتنوع والشمولية، وتعزيز التعاون بين الثقافات، وتعزيز العروض متعددة اللغات والعابرة لأسوار المجتمعات الثقافية.

غير ان التهجين الثقافي يستدعي التوقف، ببصيرة ثاقبة، عند عدد من التحديات الهامة والتي يستوجب الالتفات اليها بكثير من الحذر والانتقائية.  فالتبادل الثقافي في المسرح، مثلاً، يجب أن يتم التعامل معه بحساسية شديدة وإنتقائية. حيث إن الانخراط في مسارات التبادل والتعاون الثقافي يجب أن تتم على مستوى واحد من الاحترام والتقدير، خاصة في تبادل الأفكار والحوارات ووجهات النظر. كما يؤكد ذلك المنظر الادبي والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد بأن "لكل ثقافة إنسانية الحق في العيش في سلام والتطور وفقا لقيمها واحتياجاتها الخاصة، ولكن الشيء الأكثر أهمية هو توفير وسيلة يمكن من خلالها لجميع هذه الثقافات أن تتواصل مع بعضها البعض وتتعرف على بعضها البعض". حيث ان هيمنة ثقافة على أخرى ستؤدي بالضرورة الى الاستيلاء الثقافي، مما يُقوّض جوهر ما يرمي اليه التبادل الثقافي، وذلك بإدامة الصور النمطية البعيدة عن الابداع. أدناه، سأستعرض بعض أهم هذه التحديات.

أولاً. الاستيلاء الثقافي: يمكن أن يفرز التهجين الثقافي، أحياناً، عناصر قد تؤدي إلى الاستيلاء الثقافي، حيث يتم تبنّي عناصر من ثقافة هشة، أو غير مهيمنة، من قبل ثقافة واسعة الهيمنة دون إستيعاب مناسب لمفاهيم ومدلولات تلك العناصر، مما يؤدي الى تحريف هذه العناصر ضمن سلطة الثقافة المهيمنة وتحويلها الى سلعة للمتاجرة، أي إنهاء معناها ومدلولاتها الاصيلة. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي تهجين المسرح أيضًا إلى تسليع الثقافة. ففي عالم يتسم بالعولمة بشكل متزايد، غالبًا ما يتم استهلاك المنتجات الثقافية وتسويقها بسبب جاذبيتها واهتمام الناس بها. وهكذا بدأت بعض العروض المسرحية تتضمن عناصر من ثقافات مختلفة، ربما، ضمن منظور أنها ستكون أكثر قابلية للتسويق والنجاح التجاري.  وهذا يمكن أن يؤدي إلى استغلال التقاليد الثقافية لتحقيق الربح، دون إيلاء الاحترام الواجب للأهمية الثقافية والمعنى الكامن وراءها. بمعنى آخر، إنه يختزل الثقافة إلى سلعة، ويقلل من قيمتها الجوهرية، ويقوم بتسطيحها وتحويلها إلى مشهدية مُمسرحة لأغراض الترفيه.

ثانياً. غياب العدالة الاجتماعية: عند إستيلاء واستغلال الثقافة المهيمنة على عناصر من ثقافة هشة او مهمشة فإن ذلك يُضاعف من تهميش هذه المجتمعات، واضعافها ويخلّ بالتوازن القائم بين شرائح المجتمع، أي إدامة الهيمنة الثقافية والمساهمة بتغييب مبدأي المساواة والعدالة الاجتماعية، وبعبارة أخرى، المساهمة بتعميق الفوارق الطبقية عند الشرائح المهمشة من المجتمع.

ثالثاً. فقدان الأصالة الثقافية: إن التبادل الثقافي، او التمازج الثقافي قد يُعّرض الاصالة الثقافية والتقاليد الجمعية والفردية الى التشوية والتحريف، لذلك يُمكن ان يؤدي التهجين الثقافي الى تشويه الممارسات الثقافية الاصيلة وتمييعها لكي تنصهر ضمن عناصر فضفاضة تُفقدها معانيها ومدلولاتها الاصيلة. فالتهجين الثقافي يفترض التكيّف بهدف إستيلاد سياق ثقافي جديد، وقد يقود ذلك الى تمييع مميزات التنوع الثقافي وبالتالي ضياع اصالة التراث المجتمعي الثقافي.

رابعاً. تشويه الهوية الثقافية الاصيلة: ان التأثيرات العميقة التي تتركها الثقافات المختلفة على ثقافة الافراد، وخاصة أولائك الذين ينتمون الى شرائح ثقافية من أقليات مجتمعية، قد تُعّرض الافراد المعنيين الى الشعور بالانفصال عن المجتمع، أو الى الاغتراب الثقافي والانسلاخ من كلا الثقافتين، أي الثقافة الاصيلة وتلك المدمجة عبر التهجين. فالتهجين الثقافي "يتحدى فكرة الهويات الثابتة والنقية، وبدلاً من ذلك يعترف بالطبيعة السائلة والديناميكية للتفاعلات الثقافية."، يحاجج بذلك الاكاديمي وعالم الاجتماع البريطاني بول جيلروي،  Paul Gilroy، لذلك فإن الانفتاح على ثقافة الآخر يجب ان يتوازن دائماً مع مشاعر الانتماء والمواطنة. فالحاجة الى الثقافة الهجينة تزداد،  كحاجة الى الانفتاح والتنوع، ولكني أعتقد بانها أيضا حاجة لتأكيد خصوصية الهوية الثقافية التي تسعى الى مثل هذا الانفتاح والتنوع. فخصوصية الهوية الثقافية هي الاطار العام الذي يحتوي على الهوية الوطنية ويصونها.

تأثير المسرح في الثقافة الهجينة

بتزايد إستخدامات الانترنيت وما تتيحه من تنوع واسع في المعلومات والاتصالات بين مختلف الاجناس والثقافات أصبح من النادر، بل والشاذ، أن تجد ثقافة وطنية مجردة من أي تأثير ثقافي خارجي. أي أن الثقافة الهجينة هي المولود الواثق والمتميز للعولمة، في عالم يرفض الإستكانة لخصائص تجعله أسيراً وراء أسوار ونوافذ الحضارة العالمية الراهنة. فأهمية التهجين الثقافي هي إستكشاف ومزج عناصر وممارسات من مختلف الهويات الثقافية، بهدف تعزيز التنوع والابداع والابتكار والتجريب، وقد انعكس ذلك في سياقات المسرح المختلفة. أما التبادل الثقافي فهو أحد وسائل المسرح التي تتأكد عبر التعاون الدولي والإنتاج المشترك، مما يُفضي، غالباً، الى عروض مسرحية آسرة ومثيرة للتفكير والتأمل، علاوة على أنها تُوفر منصة للمسرحيين للتعلم من بعضهم البعض وتبادل الأفكار، بل وتجاوز آفاق إمكانياتهم الفنية.

ولا شك أن المهرجانات المسرحية تشكّل اهم وسائل التبادل المسرحي والثقافي، فهي معنية بفتح ثغرات في الحدود التقليدية للثقافة الوطنية ولفضاءات المسرح الإبداعية من أجل تمرير عناصر حداثية من ثقافة او ثقافات أخرى. فالمهرجانات تشكّل منصة تجمع بين المسرحيين والجماهير من مختلف البلدان والثقافات لعرض الأساليب والتقاليد المسرحية المتنوعة، والاندماج بالحوارات والمناقشات التي تخص الموضاعات الإنسانية ذات الصفات العالمية، وترتبط بهموم الانسان بعيدا عن الحدود الجغرافية والاسوار المحلّية للثقافة. هذه الحوارات تعزز خصوصية الهوية الوطنية، وتوسّع مدارك المواطنة العالمية. كما توفر المهرجانات المسرحية الفرصة للفنانين والمتفرجين باكتشاف التجارب الجديدة، والابتكارات، والابداعات في الأشكال المسرحية المتنوعة وتثمينها والتمتع بها. أدناه بعض أهم انعكاسات الثقافة الهجينة على السياقات المسرحية، وتأثير المسرح في هذه الثقافة:

التنوع والشمولية: إن للتنوع والشمولية تأثير عميق على مسارات المسرح الديناميكية والتغييرية، من خلال إستقطاب المسرح لمجموعة واسعة من الثقافات والخلفيات الفكرية، ووجهات النظر، والابداعات، والابتكارات. ولم يؤد هذا التأثر إلى إثراء التجربة المسرحية فحسب، بل عزز أيضًا إستيلاد نماذج من أشكال فنية أكثر جاذبية، وأوسع شمولاً وتمثيلاً. علاوة على ذلك، فقد أدى التنوع والشمول إلى تحفيز الإبداع والابتكار والتجريب في حرفية المسرح. فمن خلال احتضان مواهب واصوات جديدة، يتم تشجيع المسرحيين على استكشاف أنماط وتقنيات وأساليب جديدة لتشكيل السرديات الدرامية. وقد أدى ذلك إلى تطوير إنتاجات فريدة ورائدة تدفع حدود المسرح التقليدي الى ماوراء ماهو متعارف عليه.

التبادل والتعاون الثقافي: لا شك أن للتبادل والتعاون الثقافي في المسرح دورٌ أساسيّ في صياغة إنتاجات مبتكرة، تمزج بين التقاليد الفنية المتنوعة والتقنيات السردية الدرامية الابداعية. حيث انها تجمع فنانين من خلفيات ثقافية مختلفة، والمشاركة بآرائهم ووجهات نظرهم وخبراتهم وممارساتهم الفنية الفريدة. " يمكن أن يكون التهجين الثقافي مصدرًا للتمكين، حيث يتنقل الأفراد والمجتمعات ويتفاوضون بشأن هويات ثقافية متعددة."، (غلوريا أنزالدوا)، والنتيجة هي نسيج غني من الإبداع الذي يتخطى حدود المسرح التقليدي، ويخلق أشكالاً جديدة ومثيرة لسرديات وعروض مسرحية متميزة.

تعدد وتنوع اللغات: في عالم اليوم، حيث أصبح فيه التواصل والتفاعل بين الثقافات واللغات المختلفة أمرًا عادياً بشكل متزايد، تقدم لنا العروض المسرحية متعددة اللغات منصة لسماع الأصوات المتنوعة من خلال دمج لغات مختلفة في الأداء المسرحي، مما يُعرّض الجمهور لتعابير لغوية مختلفة وفروق ثقافية دقيقة. يعزز، هذا التعرض، الإحساس بفهم وتقدير كبيرين للنسيج الغني من اللغات والثقافات الموجودة في مجتمعنا الواسع والمعولم. فقد لعبت العروض متعددة اللغات دورًا مهمًا في تحدي إستكانة الجماهير وحثّهم على القبول والاشتراك في الانفتاح والتنوع اللغوي لمجتمعات حضارة اليوم. تتضمن هذه العروض استخدام وسائل مسرحية وفنية مختلفة، ولغات متعددة، مما يسمح بتجربة أكثر ثراءً وشمولاً وتمثيلاً للمشاهدين.

تطبيقات مسرحية في الثقافة الهجينة

ومن الأمثلة العالمية الموثقة حول تأثير المسرح في الثقافة الهجينة نذكرتجربة، تعتبر واحدة من أبرز وأهم هذه التجارب وأعني بها مسرحية "المهابهاراتا" وهي من إخراج بيتر بروك. نص المسرحية مقتبس من الملحمة الهندية القديمة والتي تحمل نفس الاسم، وتعتبر واحدة من أطول الأعمال الأدبية وأكثرها تأثيرًا في العالم. يضم الإنتاج ممثلين من بلدان وثقافات مختلفة، مثل الهند واليابان وفرنسا وإنجلترا وعدد من بلدان أفريقيا، ويستخدم مزيجًا من اللغات والموسيقى والرقص وعروض الدمى لسرد قصة حرب وآثارها الأخلاقية والروحية. تم عرض المسرحية للمرة الاولى في عام 1985 في باريس، ومنذ ذلك الحين تم عرضها في العديد من الأماكن والمهرجانات حول العالم، بالإضافة إلى تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني، وفيلم سينمائي. يُنظر إلى تجربة المهابهاراتا المسرحية، وعلى نطاق واسع، على أنها تحفة فنية لمسرح متعدد الثقافات، لأنها توضح كيف يمكن للتقاليد ووجهات النظر الفنية المختلفة أن تثري وتضيء الدراما الإنسانية على الصعيد العالمي.

وللتذكير، فإن المخرج بيتر بروك (بريطاني يعمل في المسرح الفرنسي) صاحب رؤية شمولية، سعى إلى إنشاء مسرح عالمي يتجاوز الحدود الثقافية، ويجذب جماهير واسعة ومتنوعة. لقد تعامل مع المسرح متعدد الثقافات من خلال العمل على استكشاف التقاليد المسرحية المختلفة من جميع أنحاء العالم، مثل الآسيوية والأفريقية والأوروبية، ودمجها في أعماله. لذلك فقد عمل بروك وتعاون مع ممثلين وموسيقيين وفنانين من بلدان وخلفيات مختلفة، وشجعهم على نقل وتقديم إبداعاتهم، وتعبيراتهم، ومايتمتعون به من رؤى فنية وثقافية إلى المسرح. يؤمن بيتر بروك أن المسرح العابر للثقافات يمكن أن يثري وينير الحالة الإنسانية، فضلا عن تحدي وعي، ووجدان المشاهدين والقيم الثابتة عندهم، والحث على إشراكهم في التجربة المسرحية.

المثال الثاني، والأقرب زمنياً، هو مسرحية "جزيرة الذهب” للمخرجة أريان منوشكين، والتي كانت شغوفة جدا باليابان والثقافة الآسيوية، حيث سافرت الشابة منوشكين، وهي تحمل على ظهرها حقيبة سفر صغيرة، بباخرة منطلقة من ميناء مرسيليا في فرنسا الى ميناء يوكوهاما في اليابان. كان ذلك في عام 1963 ومنذ ذلك الوقت، وهي في شغف تام بالثقافة الشرقية عامة والمسرح الياباني، وخاصة مسرح "النو" و "الكابوكي". وفي اليابان توجد جزيرة صغيرة لها تاريخ خاص ومؤثر جداً، وهي جزيرة "سادو" حيث تم نفي المثقفين والفنانين، بما في ذلك ممثل مسرح "النو" الشهير، آنذاك، زيمي موتوكيو في أعوام 1363-1443. هذه الجزيرة هي المُستعارة في مسرحية منوشكين الأخيرة والمسمّاة "الجزيرة الذهبية"، أي جزيرة الاحلام والفنتازيا والواقع الآخر، عُرضت هذه المسرحية في عام 2022 على مسرح الشمس، في باريس، الذي قامت بتأسيسه منوشكين بمشاركة عدد من الفنانيين منذ ستين عاماً. هذا التمهيد سيكون مهم ومفيد لفهم العرض المسرحي.

الكاتبة هيلين سيكسوس تقول في مستهل مقدمتها لهذه المسرحية " كم كنا مرضى من ماحولنا من رداءة، ومن إنحطاط، وكم كنا، جميعاً، مرضى في كلّ أنحاء العالم، من (الخوف) والجبن، ومن تسميم الحقيقة، ومن المُهربين المتاجرين بالضمائر والعلوم، المثيرون للشفقة، ومن تواطؤ السلطات مع جميع قوى الدمار، ومن الإنهيار المتعمد للغة التواصل، ومن السقوط الهائل للأنوار في قمع الظلام!". من هذا الواقع المعتم والخانق ينبثق، إذن، الحلم في جزيرة نائية خالية من أمراض الخوف والجبن والانحطاط والتواطؤ الوضيع. حلمٌ بجزيرة يتعايش الإنسان فيها بلغة لا لبس فيها، وبآمال تعبّد طريق الآخرين نحو حياة أفضل. حلمٌ "بجزيرة ذهبية" بعيدة عن الجوار.  ( للمزيد حول هذه المسرحية يمكن مراجعة مقالي المعنون "أريان منوشكين ومسرحية الجزيرة الذهبية” المنشور في "الحوار المتمدن" في 13 كانون الأول/ديسمبر 2022). اما إطار السرديات اللغوي في المسرحية فقد شمل اللغات الفرنسية، والانجليزية، واليابانية، والعربية والعبرية مع ممثلين وفنيين يمثلون ثقافة هذه اللغات.

الثقافة الهجينة والمجتمع العربي

لم يتوقف التهجين الثقافي عند عتبة بعينها، فقد تجاوز الحدود والمغلقات وإجتاز جدران سميكة من تقاليد وقيم ثابتة، وقد إنعكس ذلك على المجتمعات العربية من مشرقها الى مغربها، عبر تأثّرها المباشر والفعّال بمجتمعات وثقافات أخرى، في مجالات الفكر والفلسفة والعلوم والفنون في حين كان تأثير هذه المجتمعات -العربية- خارج أسوارها محدود للغاية. ويعود ذلك، كما أعتقد، لسببين، الأول، هو أن المجتمعات العربية لم تنجح في تنظيم وتحديث وتأمين إنسياب وتسلسل التراكم الفكري والتنظير الفلسفي، والبحوث العلمية التي أنتجها الاسلاف. والثاني، هو عدم تمكن هذه المجتمعات من الاستفادة من تجاربها التاريخية الهامة، وتصنيفها لها، بعيدا عن التعمق الفكري، والتأمل العلمي، والتحليل الواقعي عبر إستسهال العودة الى هذه التجارب ضمن مخزونات واسعة من مشاعر وعواطف الحنين والنوستالجيا لماضي الزمان، مما يُلحق ضررا بالغاً بنمو وتقدم وإزدهار هذه المجتمعات وثقافاتها. يذكر الباحث والناقد الادبي والاكاديمي هومي ك. بهابها،  Homi K. Bhabha في كتابه الهام (الموقع الجغرافي للثقافة)،  Location of Culture  "إن التهجين الثقافي ليس مجرد حقيقة من حقائق الحياة في العالم الحديث، بل هو ضرورة لبقاء الثقافات ونموها."

أما فيما يخص التهجين الثقافي، الواضح تأثيره أو تأثّره بالثقافة والمجتمع العربي، فهو يتمثل في مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية المتنوعة، والمختلفة. من أبرز هذه التأثيرات وضوحاً نجدها في الثقافة عامة، ومناهج البحث العلمي والفلسفي ومختلف مجالات الفن ولا سيما المسرح، ثم تأثيرات أخرى أساسية تمس مباشرة اللغة، والغذاء، والموسيقى، ووسائل الاعلام، وسأورد بعض الأمثلة على ذلك:

المسرح:

من التجارب العربية، ضمن مفهوم إمتدادات المسرح في الثقافة الهجينة، عدد من الاعمال المسرحية لمخرجين عرب بارزين، سأشير هنا الى ثلاثة أمثلة، كان لها أثر وتأثير مباشر وفعّال في مجمل سرديات وأطر العمل الفني والمشهدي في المسرح في المنطقة العربية. فالمثال الأول، قدم المخرج التونسي الكبير المنصف السويسي عملا مسرحيا قائمآً على دمج مختلف الأفكار والثقافات والتيارات التقليدية في عرض مسرحي متكامل ومبهر لنص مسرحية "واقدساه" للكاتب والمسرحي المصري الدكتور يسري الجندي، وقد إستعان المخرج بممثلين من عدد من الدول العربية ومن خلفيات مجتمعية متنوعة لتوحيد الرسائل السياسية التي يرمي اليها العرض المسرحي.  أما المثال الثاني فهو مجموعة أعمال وأفكار المخرج المسرحي المغربي الطيب الصديقي، فقد كان له الريادة في الاستثمار بالتراث العربي لإنارة حياة أكثر حداثة وانفتاح للمجتمعات العربية المعاصرة، وإجتذاب أوسع شرائح الجمهور لحضور العروض المسرحية. وبذات السياق فإن المثال الثالث البارز فهو للمخرج العراقي الرائد قاسم محمد الذي تعامل مع التراث العربي بإعتباره نوافذ يطلّ منها على عناصر الحداثة المعاصرة، بدمج حقب زمنية متباعدة، وقوالب ثقافية تبدو جامدة وساكنة ومركونة على رفوف التاريخ، غير انه نفض عنها الغبار وألبسها ضياء حداثي معاصر من خلال كتابته وإخراجه لمسرحية " بغداد الازل بين الجد والهزل". والجدير بالإشارة هنا بإن الارتكان للتراث، والثقافات غير السائدة، وقيم ومبادئ الاسلاف، شكّل اسلوباً ينفذ من خلاله المخرج من سلطة الرقابة. علاوة على ذلك فإن جدارة واهمية هذه الاعمال المسرحية تكمن بما سعت اليه من الخروج من أُطر الثقافة الوطنية والاحتباس المناطقي الجغرافي. ومما يعزز أهمية هذه الاعمال المسرحية هي انها كانت تسعى الى وضع أسس حقيقية لتشكيل عناصر هوية مبتكرة، وحداثية وخاصة لمسرح يُمكن تسميته "بالمسرح العربي". هذه الهوية لم تتشكل الى الآن، بل ازدادت ارتباكا وتشويهاً بسبب الإيغال بإنتاج أعمال مسرحية ذات طابع ثقافي مناطقي.

اللغة:

اللغة العربية لم تعد كافية في المحادثات العامة والنقاشات الفكرية عند بعض شرائح المجتمعات العربية، فبدت لهم بأنها عاجزة عن إشباع التعبير والافصاح عن المعنى، فظهرت قوالب لغوية جديدة مثل الفرانكوأرب، وغير ذلك. ويتضح هذا بجلاء في بعض المجتمعات العربية، مثلاً في دول المغرب العربي التي تستخدم لغة مدمجة بين الفرنسية والعربية، والامر نفسه يحدث بتزايد في دول المشرق العربي بالجمع بين اللغتين الإنجليزية والعربية في المحادثات العامة. ولاشك أن الانترنيت وسّعت مسألة إهمال اللغة العربية أو تشويهها بدمجها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية وتبني أفعال وصفات وأسماء من هذه اللغات وتوطينها ضمن النحو والصرف الخاصة باللغة العربية.

الغذاء:

- المطبخ المختلط في المنطقة العربية، يجمع بين عناصر من تقاليد الطهي المختلفة، وبتأثيرات من المطبخ التركي والإيراني والهندي وبعض الدول الغربية. وبذات الوقت فإن تأثيرات المطبخ العربي قد أُدمجت الى حد التبني في مطابخ أوربية وغيرها. ربما أشهر منتجات الاغذية في الدول العربية التي سافرت بعيدا عن موطنها الأصلي وعن مجتمعاتنا العربية هي الفلافل والحمص والتبّولة، تلى ذلك الكس كسي المغاربي والكباب ..الخ)

الموسيقى:

مزج آلات غربية وأجنبية مع آلات عربية في الموسيقى العربية المعاصرة مثل دمج السانتور والبيانو والفلوت والأبوا والكونترباس والأوكورديون وغير ذلك في الموسيقى والاغاني الحديثة ضمن تراث التخت الموسيقي الشرقي. هناك أيضا حالات لدمج وتوطين بعض تيارات ومناهج موسيقية عالمية في مجرى الغناء والموسيقى العربية، كما جرى مع موسيقى ورقصة الرومبا، والسالسا، والسامبا، والمامبو، وموسيقى ورقصة التانجو وأخيرا مع موسيقى وأغاني الجاز.

وسائل الإعلام:

في التلفزيون نلاحظ تحول الصور النمطية والجامدة لبرامج وأشكال تقديم الاخبار والحوارات، في معظم محطات التلفزيون العربية، الى الاشكال العالمية الأكثر تأثيرا في الاعلام متمثلة بشبكة تلفزيون السي أن أن CNN وما شابهها مما يعزز الايهام بوجود وممارسة الديموقراطية. أما في السينما فقد نسجت صناعة السينما المصرية، وهي اكبر صناعة سينمائية في المنطقة العربية، ويعتبر المجتمع العربي برمته المستهلك الأكبر، ويكاد ان يكون الوحيد لهذه السينما، نسجت سرديات وتقنيات مبنية على العنف المفرط والعصابات المتنوعة المهجّنة من عناصر مختلفة من السينما الهوليودية والبوليودية، ثم ادخلتها على الفيلم العربي الذي يبتعد فيها، نسبيا أو كليا، عن قيم وسلوكيات المجتمع المصري وكذلك بقية المجتمعات العربية.

توضح هذه الأمثلة كيف يمكن أن يحدث التهجين الثقافي في مختلف جوانب الحياة والمجتمع، مما يؤدي إلى خلق أشكال تعبير ثقافية فريدة ومتنوعة.

في الختام

مع تجذر ثورة الاتصالات، والتوسع في إستخدامات الانترنيت ووسائل الاتصال المختلفة، وتنامي الهجرات الخارجية، لم يعد التبادل الثقافي أو تجاوز أسوار المجتمع بحدث إختياري، وكذا الحال بالنسبة للثقافة الهجينة. فقد غيّرت العولمة ديناميات وآليات مدارك المجتمع وسلوكياته، ورفعت من مناسيب معاييره فيما يخص النظر الى القيم والتقاليد والسلوكيات عامة. ومن هذا المنظور فإن المسرح يُعدّ أداة سحرية قوية للمحافظة على الثقافة الوطنية وصيانتها ولكن بإنفتاح واعٍ وحذر لتبني ودمج عناصر من ثقافات أخرى بهدف إثراء المخزون الثقافي والاجتماعي على الصعيد الوطني، و لتعزيز التفاهم بين الثقافات والمجتمعات المختلفة. أهم الوسائل للوصول الى تلك النتائج تتمثل بتحدي الصور النمطية التي تفرزها الثقافات المغلقة والمجتمع الراكد والساكن، ثم تعزيز وتعميق التغيير في شتى مجالات الثقافة والمساهمة في تجذير الوعي الاجتماعي الحداثي، والتمسك بخصوصية الهوية الثقافية، وتعزيز الإحساس بالانتماء الوطني. ضمن هذا المفهوم، فإن قدرات المسرح التغييرية تعتمد بشكل جوهري على آليات التبادل الفني، والتعاون الدولي، وتنظيم وإستضافة المهرجانات والجلسات الحوارية، فالمسرح يتمتع بالقدرة على تجاوز الحدود الثقافية المناطقية وعبور اسوار المجتمع الثابتة والجامدة بهدف إنشاء مساحة مشتركة حيث يمكن سماع الأصوات المتنوعة لمختلف شرائح المجتمع والدفع بالهموم الجمعية والفردية في المجتمع الى مقدمة أولويات التنمية البشرية على الصعيدين الوطني والإقليمي. فالتهجين الثقافي  "يسمح بخلق أشكال جديدة ومبتكرة من التعبير، حيث تتجمع الثقافات المختلفة وتؤثر على بعضها البعض."، كما يؤكد ذلك هومي ك. بهابها.

ففي حين تتلمس مجتمعاتنا صعوبات التكيّف مع الثقافات الجديدة والوافدة، وتعقيدات ما يجري في عالم اليوم، هذا العالم المنكمش في مسافاته، كما هو منكمش في أزمانه، ينبثق المسرح بأنواره ليضئ الجوانب الخافية من الأجوبة المستحيلة والاحتفاء بها، تأكيدا وتعميقا لروابط إنسانيتنا المشتركة كأفراد وكمجتمع.

***

علي ماجد شبو

حين أسس عزرا باوند مدرسته التصويرية على أساس مشتق عن الهايكو ... كان ذكيا جدا إلا أن ضبابية الهايكو في وقتها وعدم سماح اللغة الإنكليزية اضطره أن يؤسس مذهبا جديدا في الشعرية العالمية من مرتكزات المشهد...

نحن وبعد عقد من كتابة الهايكو وتوظيفه والعمل على التنظير والنقد ليس من الممكن أن نعيد بناء النص بشكل مغاير عن تلك المرتكزات إلا أننا عملنا على الواقع العربي وكيف نوجد أرضية خصبة لهذا الوافد.

التصويرة أيضا مشتقة عن الهايكو بكل أجناسه في بلاغته المشهدية وبذات الأسلوب النقدي المتبع خارج اليابان من بنية وتقطيع وباقي الخصائص بتسميات عربية فلغتنا قادرة على تعريب كل شيء. وأكيد في كتاب الهايكو من مترو باريس إلى البيان الشعري في بغداد نشرنا تعريب لكل تقنيات الهايكو ومصطلحاته إلا أن كانت العقبة الوحيدة هي اسم النص...

أنا على يقين أن هناك من يعارض التسمية وهذا حقه إلا أننا اصطدمنا بمعنى العنوان ودلالاته في اللغة العربية... وللتجنيس لا ننظر إلى رفاهية الاسم المستورد بقدر إيجاد مرادف يحقق الغاية المرجوة من النص العربي وان أخذ مساحة عالمية.

كلمة هايكو لم ولن يعطينا أي كاتب معنى له خارج اليابان ما لم يعد إلى أصل التسمية داخل اليابان بالتالي أن أردنا العمل تحت التسمية يجب أن تكون نصوصنا ضمن خصائص تلك التسمية التي لم نصل إلى مستواها كما الشعر العمودي أمام اللغات الأخرى.

لذا؛ أن طالبنا ترجمة الشعر العمودي إلى اللغات الأخرى أيضا لن يكون بخصائص اللغة الأم بل سيكون النص ترجمة تفاعلية إن لم يكن ترجمة حرفية لذا؛ لن يقال عنه نص عامودي بالتأكيد.

التصويرة اسم بديل للهايكو

آن الأوان أن يكون للعرب تسميتهم الخاصة للهايكو ليس بعيدا عن الهايكو لكن من أصل اللغة العربية.

وقد بحثت كثيرا عن اسم يسع هذا الفن النبيل لم أجد أفضل من "التصويرة" ومن المؤكد لن نكون خارج الخصائص فنحن نعمل بها منذ سنوات.

وبما أننا نستحدث فنا جديدا على الذائقة العربية لا بد من أن نكون ضمن هذه الذائقة فنا وكتابة ولعل أبلغ ما اشتققت منه اسم التصويرة مرادفا للهايكو الذي بالتأكيد كتبناه بلغتنا بعيدا عن الكثير من أصل النص الياباني وأهمها الإيقاع والاكتفاء بالبلاغة المشهدية صار إلزاما أن نعطيه اسما يليق بإبداعنا وتراثنا من السهل ان تعرف معناه.

وقد حاول كيرواك أن يطلق عليه البوب الذي يعني الأدب الشعبي لذا سنطلق على النص اسم التصويرية الذي وجدته في تعريف للجاحظ عن الشعر حيث يقول

"فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير" فالشعر عند الجاحظ هو ذلك الكلام الذي يصنع وينسج ويصور، والشاعر عنده صانع ونساج ومصور، ويعلق إحسان عباس على هذا القول قائلا: "لو تخطى الجاحظ حدود التعريف لوجد نفسه في مجال المقارنة بين فنين: الشعر والرسم."

أن التصويرة هي مشتقة من الهايكو إلا أنها تمثل العرب فقط في التعاطي مع النص واعتبر هذا انفرادا وانعطافا مهما للتقبل من الشارع الثقافي والمتلقي على حد سواء

نحن نساج المشاهد أولى بهذا الاسم فنحن نرسم بالكلمات نصا وكي نخرج من بوتقة الاتهام خصوصا أن اسم الهايكو مربك في تعريفه ضمن ثقافتنا العربية من طفل الرماد أو النص الهزلي أجد هذه الأسماء مجحفة لما نكتب فنحن أهل التصويرية وهي أساس ثقافتنا ولغتنا

وكي لا يختار لنا أحد اسم كما حدث في شعراء الطبيعة الأولى بنا أن نشتق اسما خاصا بنا فنحن لا نكتب عن الطبيعة فقط إنما في كل شيء

وهذا ما حدث مع الهايكو لذا؛ كانت التصويرة هي الحل برأي ورأي أغلب النقاد في العراق ليس أمام الهايكو فقط بل في جميع الأجناس المستوردة كالشعر الحر أو النثر والشذرة ووو.

***

علي محمد القيسي

 

قدم مركز بغداد الثقافي للفنون عرض مسرحية (كرستال) يوم الجمعة ١٩/ ٤/ ٢٠٢٤ تأليف جبار القريشي، اخراج كريم خنجر.

إن الخروج من مسرح العلبة إلى الفضاء المفتوح لتقديم العروض المسرحية يتطلب مضامين على قدر من الجرأة والوضوح، وتتجلى في خطابه المواجهة المباشرة بين المؤدي والمتلقي، إذ لا حدود تفصل بين مساحة الأداء ومكان المتفرجين، ولا ضوء على المؤدين ولا عتمة تحجب المتفرجين الذين يعتمد مدى متابعتهم وتركيز انتباههم على توفر وسائل الجذب في العرض، وتيسير المشاهدة لذا " تعتبر الدائرة أنسب الأشكال لمشاهدة اي عرض مسرحي في الهواء الطلق، والقيام بالتمثيل للجماهير في كل الجوانب امراً محتملا لكنه ليس بالشيء اليسير، حيث يستلزم ذلك القيام بعملية دوران مستمر لكي يشاهد كل المتفرجين ما تقوم به، ولذلك يستخدم الممثلون ثلاثة أرباع دائرة مع وجود الأدوات والمعدات خلف الممثل "(1) وهذا ما عمل عليه فريق عرض مسرحية (كريستال) وهم مجموعة من المتحمسين الفاعلين في مسرح الشارع، عندما قدموا رسالة درامية توعية المجتمع، محورها مخاطر المخدرات، ومحاربة شيوعها في أوساط بعض الشرائح الاجتماعية، وبلا شك هي رسالة مهمة ويفترض تناولها وتداولها والتأكيد عليها عبر مختلف الفنون والآداب والوسائط الإعلامية، وقد تناولها المؤلف القريشي سابقا وأخرجها المخرج (كريم خنجر) نفسه، يمكن تصنيف العرض على أنه رسالة تهدف إلى استنارة الوعي الجمعي بآفة المخدرات والتبعات التي تلحق متعاطيها. وهو رسالة تأكيد أكثر مما يتضمن شكلا فنيا مغايرا لما سبق تقديمه في عرض مسرحية (كوكايين) للمخرج نفسه، ونوع من التواصل مع موضوعة ذات تأثير اجتماعي واسع.3801 مسرحية

تستلزم طبيعة الدراما -عادة- وجود طرفي صراع، ودرجة من التعقيد والتأزم، في عرض مسرحية كريستال غاب طرف الصراع المضاد من الحضور العياني / الملموس، واكتفى المؤلف / المخرج بالإيحاء بوجود المعاناة والقهر والخيبات التي يتعرض لها  المدمنين على المخدرات قبل إدمانهم مما يدفعهم إلى التعاطي كنوع من الهروب من الواقع، وفي الوقت نفسه في لحظات الوعي يحرض احدهم الآخر على مواجهة الواقع والتصدي لسلبياته بدلا من الاستسلام والخنوع.

لقد حضر طرف صراع واحد في العرض، أما الطرف الآخر فقد كان غائبا عن العين، ماثلا في الوجدان، من خلال علامات وإشارات وضعها المؤلف واعتمدها المخرج، وكلها تدل على تدهور المستوى المعيشي -ظهر المؤدون بملابس رثة ووجوه متعبة حتى ان احدهم لم تفارق يده قطعة الخبز الكبيرة - يعد غياب أحد طرفي العرض خروجا البنية التقليدية للنص/ للعرض، وبذات الوقت عمل الاخراج على اثارة مخيلة المتفرج ليتصور هذا الطرف السلبي/ الشرير الغائب.

قدم العرض رسالته عبر سرد خطابي ذي اتجاهين: الأول موجه للجمهور المحيط بالمؤدين مباشرة (من المؤدي إلى المتلقي)، أما الثاني: من المؤدي الى المؤدي، وبدء ذلك من محاورة بين الشخصيات حول العقل وأهمية الحفاظ على الوعي. 3802 مسرحية

تضمن العرض:

1. موضوعة المخدرات، ويفترض ان لا محور غيرها وهذا يتضح من عنوان العرض (كريستال)

2. التذمر من أوضاع الخدمات المقدمة للمواطن (مثل: الكهرباء، والماء …)

3. الابتزاز بأنواعه (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاليكتروني )

إن طرح ثلاث (ثيمات) لها ثقلها في مسرحية لا يتجاوز زمن عرضها أكثر من ثلاثين دقيقة يصعب إشباعها من الناحيتين الموضوعية والفنية، لاسيما ان عروض الشارع لا تحتمل تفرعات قد تشتت انتباه المتلقي وتبعد تركيزه عن القضية المحورية للعرض وهي (كريستال) وهنا تبرز الحاجة إلى الحضور الدراماتورجي كضرورة لمشاركة فريق العرض بالإمساك في دفة العرض وتوجيهها.3803 مسرحية

ينتهج مسرح الشارع سبلا عدة لجعل المتلقي مشاركا فاعلا في مجريات العرض المسرحي، وذلك من خلال جمع فنون متعددة في هذا النوع، منها الغناء والموسيقى والحركات الإيقاعية والتعبير الجسدي فضلا عن عماده الأساسي (الدراما المسرحية الحوارية)  لقد عمد هذا العرض إلى الموسيقى والغناء المسجل بصورة مختزلة مما جعله يفقد شيئا من خطوط المشاركة، إلا أن الموضوع المحوري الحيوي وأسلوب الأداء بات معادلا فنيا تعويضا لحالة التوتر والترقب لما سيؤول إليه مصير الشخصيات.

لقد تم حساب توزيع حركة الممثلين بالصيغة الدائرة بدقة وعدم انحياز الحركة على كتلة الأمامية من الجمهور التي غالبا ما يقع فيها الإخراج الحركي في مسرح الشارع، حين يتعامل مع الحركة على وفق الاعتبار في المسارح التقليدية وهذا ناتج عن خبرة د.كريم خنجر الواسعة في تقديم عروض مسرح الشارع.

المشهد المفصلي في عرض (كريستال) والذي ختم به العرض مشهد المرأة التي تتعرض لابتزاز بتهديدها بنشر صورها، رغم عن وجود الصلة المباشرة بموضوعة العرض الأساسية (المواد المخدرة) إلا أن مشهد ابتزاز المرأة حاز على التركيز الأعلى لعدة أسباب:3804 مسرحية

* رمزية قطع شيء من جسد المرأة من قبل مجموعة الرجال (عمد المخرج إلى ذهاب المرأة إلى رجل تتوسل اليه واذا به ينزع عنها شيء من القماش الذي يغطي جسدها وهكذا تذهب إلى رجل ثان وثالث ورابع … ) لكنهم يستدركون فيما بعد وينزعون عنهم قمصانهم ليغطوا جسد المرأة بها

* الأغنية ذات البعد الديني - رغم قصرها - عقدت صلة بين العرض والمتلقي ودفعته للمتابعة، بسبب من روحانيتها وتوفيرها لحالة من التنوع الصوتي، وكسر حالة الإلقاء الخطابي / السردي.

شكل المخرج كريم خنجر والمؤلف ثنائي متناغم في طروحات مسرح الشارع وسجلوا حضورا متميزا باضطراد العروض بفعل هاجس تقديم ما يعتمل في الشارع عبر مسرح الشارع.

مبارك لفريق العرض جميعا: وأخص بالذكر المؤدين الهواة بحماسهم واندفاعهم، والممثلة (شوق) التي وضعت بصمة جميلة في هذا العرض.

*** 

د. حبيب ظاهر حبيب 

.....................

بيم بيسون: مسرح الشارع والمسارح المفتوحة، تر: حسين البدري، القاهرة، ١٩٩٧، ص١٢٨.

 

يتمثل الشكل الجمالي في السرد، في براعة نسيج الصياغة الفنية، في لغة مغناطيسية تشد القارئ بتلهف، وتحفيزه الى متابعة احداث الحدث السردي، في ديناميكية متصاعدة في درامية تفاصيل الحدث وتطوراته المتلاحقة، وكذلك براعة الرؤية الفكرية والتعبيرية الدالة بشكل بليغ، التي لامست الاحساس الملتهب بمشاعره الانسانية الداخلية، والضمير الحي في تصوير معالم النص السردي وخياله الفني الواقعي بكل جوانبه، ليعطي جمالاً لدور الاديب الملتزم تجاه قضايا الناس والوطن، بالشعور الانساني المتضامن، كأنه يتعايش مع تفاصيل الحدث السردي في داخل مشاعره، بكل تفاصيل المعاناة والظلم والحرمان الكبير لشريحة كبيرة من الشباب، الذين امضوا زهرة شبابهم من أجل الحصول على الشهادة الجامعية، وحين تكللت جهودهم بالنجاح في نيل الشهادة الجامعية، وجدوا انفسهم امام أبواب الحياة موصدة في وجوههم، كأنهم فائضين عن الحاجة والطلب والقيمة الانسانية، مما يفجر الاحتقان بدواخلهم بالإحباط والخيبة، بأنهم أصبحوا ضمن جيش العاطلين، مما يزيد من معاناتهم وبؤسهم و فقرهم وعوزهم، بأن دروب الحياة جفت ويبست بشكل لا يرحم، هذا الشعور يعمق الفجوة والشرخ الكبير، بين الواقع وشباب المستقبل، أن يصبح مصيرهم مجهول الهوية، مما يزيد القهر الحياتي الذي يتفجر بداوخلهم، في مطالبهم البسيطة، التي تقرها الشرائع السماوية، بالخبز والعمل والحرية . وحين يعبرون عن معاناتهم بالتعبيرالحر أو التظاهر السلمي، نجد سوط الإرهاب والبطش يترصدهم في كل زاوية . كأن الواقع ضد التعبير عن نيران الظلم والحرمان والحيف ( فكان التظاهر وسيلة العاطلين الوحيدة ليطالبوا بحقوقهم بعد تخرجهم من الجامعات.. فقد اكلت معاول السنين أجمل محطات أعمارهم الفتية ونبذتهم ساحة عمال البناء وذاقوا لهب سياط العوز والفاقة..) ويصبح صوت القمع ورعيده المخيف، هو الوسيلة لخنق الأصوات الشابة وإجهاض تحركاتهم السلمية في مطالهم الشرعية والبسيطة، يرفضون أن يصبحوا من جيش العاطلين، هذا الرفض يواجه بالقسوة المفرطة (حتما سيكون التظاهر وسيلتهم الوحيدة وعزاء نفوسهم للتعبير عما يجول بخواطرهم المتعبة ومعاناتهم الأبدية مع الفقر الذي عصي الفكاك عنهم..) هذا الشاب الطموح الذي حصل على الشهادة الجامعية، اقترن بفتاة بعلاقة الحب الصادق والعفيف، كان يرسمون مستقبلهم بالألوان الوردية، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فوجدت الشابة التي كان يداعب قلبها الحب واصرت عليه بالبقاء، رغم ضغوط العائلة والعشيرة بفرض الزواج عنوة عليها، وكانت تعلل نفسها بالذرائع المختلفة، لعل تنفرج أزمة حبيها الشاب الجامعي، وكانت تغازل حبها وهي تتورد أوداجها بالفتنة والجمال . كأنها سليلة عشتار (إله الحب ) ( بضفائرها السود وعقد يطوق جيدها ونظرة عينيها الصغيرتين الحادتين تبدو أجمل صبية رأتها عيناه.. عشتار (كما يناديها) أضناها تعلقها به ولوعة روحها.. لكن أحلامها تبقى نقية..) وكان يأكلها القلق والهواجس المخيفة على حياة حبيبها الشاب، وهو ينغمر في حماسته في الانخراط بالتظاهر السلمي، يطالب بحقه الشرعي في فرصة العمل، ورفض أن يكون من جيش العاطلين، والتظاهر السلمي الوسيلة الوحيدة للعاطلين، فكانت تخاف عليه من العواقب الوخيمة، وخاصة ادارة سلطة الواقع، تعتبر التعبير بالرأي الحر والتظاهر، جريمة لا تغتفر، ونسوا كلام سيد البلاغة الامام العظيم علي (ع) يقول (الفقر في الوطن غربة) فكيف الخلاص من الواقع المأجور، الذي ينشر زعانفه واخطبوطه بالإرهاب والقمع، فكيف السبيل والمخرج؟، حتى مصباح علاء الدين رمي في اعماق البحر !! . هذه دوافع الخوف والقلق على حبيبها الجامعي / العاطل، اضافة الى الضغوط الهائلة من العائلة والعشيرة في ارغامها على الزواج عنوة . لذلك انها تعيش محنتين في آنٍ واحد، أحدهما أشد ضراوة من الاخر، هل هناك سبيل تطرح اسئلة كثيرة على نفسها، ولكن دون جواب . وهذا نص القصة:

***

جمعة عبد الله أديب وناقد ومترجم

...................................

محنة عشتار

 سنية عبد عون

سنية عبد عونتبدو الفتاة قلقة حياله.. والسؤال الذي يبقى ملحا داخل راسها لم تنطقه بعد أمامه.. فهي تلوذ بالتأني.. كانت تنتظره كل يوم بعد عودته من نهار عمل مضن من خلال كوة في غرفتها دون ان يلاحظ ذلك الترقب وتلك القطرات المتساقطة من مسام جسدها الرقيق في نهار تموز اللاهب.. لقد غدت تدور في أفلاكه ولا انفكاك منها وليت الزمان ينصفهما ويلم شملهما دون عناء..

بضفائرها السود وعقد يطوق جيدها ونظرة عينيها الصغيرتين الحادتين تبدو أجمل صبية رأتها عيناه.. عشتار (كما يناديها) أضناها تعلقها به ولوعة روحها.. لكن أحلامها تبقى نقية..

فقد قال لها يوما ان قاربنا لن يغرق أبدا وستجري الرياح بما تشتهي السفن ولن تبقى لهفتنا مضطربة في غد.. وهي تصدقه تماما لكن في دواخلها تسكن أفكارا مرعبة لا ترغب ان تبوح بها أمامه..

جرأته وحماسته أزاء الأحداث في ساحة التظاهر وازاء البطالة التي رافقته منذ سنين عالقة بمخيلتها.. فهي تقف بين نارين كليهما يعذب روحها..

براءتها تروي قصة شقائها انها تهرب منه واليه..

ومن الحاح اسرتها وسعيهم لتزويجها دون يعرفوا سبب رفضها.. فهذا زمن تتفجر فيه صخور الارض لمعاناة الارواح المثقلة بشظف العيش..

فكان التظاهر وسيلة العاطلين الوحيدة ليطالبوا بحقوقهم بعد تخرجهم من الجامعات.. فقد اكلت معاول السنين أجمل محطات أعمارهم الفتية ونبذتهم ساحة عمال البناء وذاقوا لهب سياط العوز والفاقة..

عشتار مصممة ان تمضي بانتظارها دون ان تضل طريقها.. لكنها تتوجس خوفا من اجله انه يسلك طريقا وعرا وإنها ابدا في قلق مريب.. حين يلقي قصائده بين حشود اقرانه.. وبين حشود المتظاهرين.اشعاره تلهب حماستهم ليطرقوا كل الابواب المؤصدة امام ربيع صباهم.. وكما يقول سيد البلاغة (الفقر في الوطن غربة)..

في سوق المدينة تسحب غطاء رأسها برقة وتأنٍ وترمقه بنظراتها الوله وهي تتهجى حروف اسمه مرارا في سرها وتتعمد ان يراها.. خطواته المتعثرة تنبئها بلهفته وشدة شوقه.. تبتسم له بغنجها المعهود وتمضي.. وكيف تفضح سر قلبيهما وان يشاع خبر قصتيهما..

ستجبر بالتأكيد على زواجها عنوة من أي طارق يتقدم لخطبتها.. وربما لا يتقدم لخطبتها أي رجل وتلك هي سمة تقاليدنا والعشائرية التي غدونا نسبح بفضائها عند ذاك يتهاوى قطار عمرها سدى..

في المقابل هناك في ساحة المدينة حيث يتجمع الفتية.. لم ينتبه الفتى الى ما حل بقدميه الحافيتين وقميصه المتهدل وهو يدس جسده المتهالك وروحه الهائجة بحماسة آمالهم الضائعة وغير آبه بمن قضى نحبه في هذا المكان.. .. فهم لا يمتلكون صخرة يستندون اليها ولا حتى قريب ذو نفوذ يسندهم بعد الله سبحانه وتعالى..

حتما سيكون التظاهر وسيلتهم الوحيدة وعزاء نفوسهم للتعبير عما يجول بخواطرهم المتعبة ومعاناتهم الأبدية مع الفقر الذي عصي الفكاك عنهم..

تقول فتاته.. يا لدهشتي ظننته لا يقوى على حمل جسده وسط حشود المتظاهرين.. كان الفتى يفتح ذراعيه واسعتين لإحساسه بوجع يدفعه بإرادة لم يشعر بها من قبل لكنه لا يعرف كيف يصفها لحبيبته التي تؤنبه وتخاف عليه من الأذى وترفض ان يندس بين تلك الحشود الصاخبة وهي تسمع وترى عويل الامهات الثكلى وأنين الحبيبات.. الخوف يملأ قلبها الغض دائما وأبدا من أجله..

كان التفكير بالهجرة أمرا واردا بالنسبة له.. لكن ذلك قبل ان يعرف تلك الحبيبة التي شدته لجذور هذه الأرض.. انها المرأة وهي الحبيبة والوطن..

أما الصبية.. فكانت تراقب سنان الرعد والغيث الهاطل.. أمانيها الموحشة يتسامق فيها العوز والضجر ولحظاتها أشد قسوة مما يعانيه فتاها فهي مثله غدت جليسة الدار بعد سنوات المثابرة لسنين خلت فهي تعيش ضمن أسرة كثيرة العدد قليلة المورد تشكو العوز هي الأخرى.. فلا منقذ لهما سوى مصباح (علاء الدين)..

تطفح حمرة على ملامح وجهها الأسمر وهي ترمقه بنظراتها المتفائلة.

فاجأته بضحكتها الخافتة وهي تسأله بشيء من الخجل: ما الذي يجري هناك في تلك الساحة.. ؟؟؟ وهل هناك نتائج بشرى قادمة.. ؟؟؟.. اتمنى المشاركة بالرغم من هواجسي وخوفي ولكن اهلي منعوا تواجدي هناك فهم يعرفون أساسا ليس هناك من يحترم انسانية الانسان وحقه في التظاهر..

أجابها بحماسة.. الشمس وحدها تعرف ضراوة المشهد وحماسة القلوب التي تحترق هناك

انها لحظات تعسر فيها الطلق وصراخ الوليد..

.. قالت: تقودني محنتي الى اسئلة كثيرة..

***

المضمون والبنية

"أنا مؤلف أكتبُ قصةَ مؤلف" ص 108

 تتداخلُ في هذه الرواية "مخطوطتان"، وتتكون من قسمين:

المخطوطة الأولى: "العهد القديم:

"صباحات عرزال بن أزرق" يقدمها مؤلفها باقتباس من الكاتب الألماني باتريك زوسكيد: ..." تعدى الخمسين من عمره عاش منها عشرين عاماً خالية من أي أحداث، حتى فاجئته ذات يومٍ حمامة". ص7

وعرزال راويها وشخصيتها المحورية، أما منوال أزرق فهو مؤلفها الذي كتبها خلال 12 ساعة، ويتحدث عن تكنيك كتابته، وسيصير راوياً للمخطوطة الثانية، أما الفرق بين المخطوطتين فهو اختلاف اسم الشخصية المحورية كما توضّحُ قطنه في الهامش كأنها سكرتيرة الكاتب! ص 121

تعتمد بنية "العهد القديم" على سرد الأحجيات ومناقشتها في استراحة السارد: "قبل ساعة تأمل" حيث يبدأ سرديته بعنوان محبطٍ: "إلى هنا يكفي هذا الهراء". ص 11

نلاحظ أن عرزال بن ازرق يكتبُ في هذا الفصل مذكراتِه، يقدّمها كأنه يقرأها أو يرويها، فنحن أمام راوٍ يقترب من "صورة الكاتب" أحياناً، كون السرد من مؤلف عن مؤلف آخر. 3790 سعود السنعوسي

المخطوطة الثانية: العهد الجديد:

يبدأ الساردُ سرديتَه "صباحات منوال بن ازرق"، مُلمّحًا عن "جريدة قديمة  مصفرة الأوراق" ص 23 ، وينتهي بها حيث نطلع على الخبر المنشور فيها عن "حادثة اختفاء توأمي ساحل المرسى..." ص 181. 

بينما أخذ منوال "يترنم وهو يستدعي صوتَ أمّه "يا نظير عيوني، ودعتك الله... نحت أنا لو أبرا، نوح الحمامه.... فتح عينيه التي رأت كل شيء. نفخَ صدره. باعد بين ذراعيه. ثنى ساقيه يهم بالقفز. غروووغ. ثمّ..... سمعَ طرقاً على باب شقته". ص 182 أراد أن ينتحرَ فلم يَجرُؤ على ذلك!

وبعد فصل: "قبل ساعة تأمّل" يُعنونُ روايته ب "مشروع رواية " و"نص لقيط" ، كونه "وُلد بغير فكرة"  كما قالت قطنه للمؤلف. ص 105 و"نص نسيب". وخمسة صباحات، كل منها فصل بحد ذاته تكوّن بنية الرواية.

وهناك فصل طويل بعنوان: "أثناء ساعة تأمل" مكرس لشخصية "قُطنه" البطلة "المحيرة التي ستتضح معالمها بعد انتهاء عملية سيرورة النص. ص 85-106

"أنا مؤلف أكتبُ قصةَ مؤلف، وهذه ساعة تأملي، لا تهدري وقتك!... أنا لا يرضيني هذا الهراء.... إقرئي المذكرات التي أخفاها فحسب... إخترتُ أن أكون أنا وفق ما أروم. كتبتُ نصاً يخالف النص اللقيط الذي تعرفين. ...هنا نصٌّ نسيب أنسبه إلى فكرة واضحة المعالم. انسَي المؤلف بن أزرق الحائر في نصه في العهد القديم". ص 108

نحن هنا أمام مذكرات يكتبها منوال بن أزرق. "مشروع رواية"، حيث يحاول الكاتب من خلال راوٍ آخر أن يفلسفَ النصَّ الأولَ، ويسهل المحتوى، لكن قد يحدث العكس أحيانًا! بالذات في حواراته مع بطلته قطنه. هنا، تكاد الحقيقة تغيب أو تضيع "أثناء ساعة تأمل"، لكنه من أجمل المقاطع السردية التجديدية التي طورت المونولوج التقليدي إلى هجين من مناجاة وحوارات فنية. ص 106

أما الفصل الأخير فهو قصير مكرس للراوي "عرزال" الذي يتحدث أحيانًا بانتقالات واقتضابات عن ذكرياته ويقدم الأحداث والشخصيات الحقيقية مثل زينه ورحال مختلِطَة بالحَمَام وبه والمعزه قطنه والخ.

عندما انتهيت من قراءتي الأولى لهذا العمل المهم، بالذات من الناحية اللغوية، تذكرت "الصخب والعنف"** للأميركي وليم فوكنر، "رواية الروائيين" الصعبة الفهم، لدرجة أن كاتبها أعاد إصدارها بملحق يوضح بعض غموضها! ولاحظت أن الروائي سعود السنعوسي عمل نفس الأمر في فصله الثاني "العهد الجديد" بلغة أقل ما يقال عنها إنها رائعة، سلِسة! أعادَ فلسفة الرواية وطرق الكتابة وفكرتها: الحقيقة أنه لا توجد حقيقة! ص 110

يصورُ الكاتبُ مؤلفًا خمسينيًا، يجلس أمام "مخطوطه" محتارًا "في أمره" كما يقول لمنيره! وهو مكتئِب ومحبَط مما يكتب  ويكرر: "إلى هنا يكفي هذا الهراء!". ص 11

نلحظُ أن الكاتب استجابَ لعقله الباطني، وأطلق العنان لأفكاره وتداعياته في هذا النص ضمن "عفوية" مقصودةٍ ومصمّمَة من قبل الروائي سعود السنعوسي بمهارةٍ عاليةٍ بحيث لا يشك القارئ بها، رغم سخرية الراوي من نصه.

يُفصحُ المؤلفُ هنا عن طريقته في السرد والبنية والتكنيك محاورًا القارئ: "ألفيتني أكتبُ فحسب" ص 13، أنا أعرف القليل عن شخوص روايتي ..." ص 14، وتتضح الإجابة بالتدريج في ثنايا النصوص عن "عرزال" الراوي و"منوال" الكاتب ومنيرة وأسماء أبنائه "البدوية" "الأليغورية" والحفيدين والطيور، إنه المفسّر في حواره مع  قطنة.

في إعادة فلسفة النص تقول قطنه للكاتب: "أنا هنا رسولة مِمّن كتبني ...هو لا يعرفني... أنتَ تقول أشياءً غريبةً عرزال!...سوف يحيطُ جسدَكِ بذراعيه يهمسُ بأذنكِ. الروائيون مرضى، يُنفّسون عن معاناتهم ويستزيدون بالكتابة تعويضًا لنقص في نفوسهم!". ص 103

يتحدث منوال مؤلف "العهد الجديد" عن رغبته في تحفيز شخصياته وحثّها "لفتح حوارات فيما بينها" ويود أن يعرف ايَّ شيء عنها، فقد يستطيع ان ينهي قصته بالانتحار. ص 15

ويقول: "...فجأة. وجدتني ألهثُ في الكتابة، شخص مضطرب اسمه عرزال بن أزرق! حتى الاسم غير مألوفٍ لا أدري من اين جاء. لا أملك تصوراً حول ما كتبت. لا الزمن.. لا المكان... لا الشخوص... بطل؟ الكلمة ذاتها تمنح صاحبها قيمة اشك في وجودها!". ص 13 كأنه هنا أيضًا يوكد فكرة التلقائية والفقد وضياع الحقيقة!

نلاحظ أن الرواية انتهت عملياً بفشل تحقيق فكرة الانتحار! وهنا أيضًا تعبير أليغوري عن استمرار الحياة! "أكتبُ لأدرك مشهد انتحار تلك الشخصية، وحينما اقتربتُ منها لم أقوَ على قتلها!". ص 13 

وهكذا تنتهي الرواية مع استمرار الحياة رغم الصعوبات! وهذا هو مغزاها!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

1 – القراءة

- مكرُ العتبات:

في مستهل المتن تتبدى علامتان، واحدة تفضح تيمة الضياع، وثانية تمكر بالتجنيس. وفي كلا العلامتين نحس شجْب الراوي هذا الماحولَ المادي والفكري وإدانته. ونقصد بالمادي تيمات الضياع واليباب والموت، في حين نقصد بالفكري رؤية الراوي لفن الحكي عبر قراره البائن بينونةً كبرى وهو يسائلُ جنساً أدبياً وينفي عنه خاصية الامتداد في وصمِهِ إيّاهُ بـ (ليست قصيرة) اعتباراً لسلطان الحجم والكمّ في تحديد الماهيات الأدبية. وهو السلطان الذي يبدو من خلال السياق أن صاحبنا لا يرضى عنها أبدا.

و من هذين المكرين نكتفي بواحد في هذه التوطئة، وهو المتعلق بالتجنيس، لحاجةٍ بعيدة عن المفاضلة بقدر ما هي لصيقة بمنهج التداول لهذا الموضوع في جرأته الأدبية العامرة داخل سياقٍ يروم التعتيم والتعميم وتسمية المتون بغير أسمائها هروبا من مسؤولية التجنيس أو تهريبا لعجزٍ واضح عن فعلِ التجنيس.

أصرّ السارد على وضع العنوان في وضعية ماكرة لا تبدو براءتُها التلقائية بقدر ما يبدو إثمُها المشروعُ في نقد الخطاب السردي. قال: (كتاب حب ضائع في أرض يباب.. ومقصلة). وهو عنوان مُذيّل بمكرٍ آخر. قال: (قصة ليستْ قصيرة). فما الدّاعِي إلى هذا الهجوم الأدبي على النوع القصصي متلبّساً بمفهوم( القصيرة) ؟ والجواب في نظري القاصر موجود في رؤيتيْنِ، واحدة عامة وأخرى خاصة. فأما العامّة فترتبط باستنكار السارد لتغوّل ما يُدَّعى أنه ينتمي إلى فن السرد، وفنّ القصّة. وقدْ سمّاهُ أصحابُهُ في يقينٍ غريبٍ تسميةً مُكثّفة وأقحموه في جسد السرديات، وبنوا له عالماً من الخرجات مشفوعةً بتراكمات تأليفية غمرتِ الساحة الثقافية وجنّدوا له ترساناتٍ من المقاربات والندوات والمحافل.. وأما الخاصّة فترتبط بميثاق براءة من هذا الجنس الأدبي إن جاز نعته بذلك. فالسارد يؤمن بالامتداد النفسي والزمني للإبداع، وهو لا يقدر على تصوّر خطفِ الحدث الذاتيّ أو الغيْرِيّ في مساحةٍ قوليةٍ مركّزَةٍ مسْروقَة وسريعة لا تُوفّر للقارئِ فسحةً زمنية من التفاعل المنساب مع صيرورة السرد في عمقه الوجودي وفي عمقِه الفنّي. ناهِيكَ عن إحساس السارد بعمق وغور ما يحدث له في صميم الحياة المتنكرة له، وبالتالي إحساسه بالغبْنِ وهو يغرف من سيرته الطويلة العميقة ثم يصبّه في إناءٍ نوعيٍّ لا يقدر على استيعاب دفق الروح المجروحة والمطروحة هنا. فالصورة في آخر المطاف تشبه من يروم صبّ مائة لترٍ من بنٍّ في فنجانٍ لا يتّسعُ لثلاثِ رشْفات، ولكم أن تتصوروا هُزءَ المشهدِ ووخْزَهُ  والروحُ العارمة تتدفق هدراً خارج هذا الفنجان المسكين. السارد هنا يشجب النعت( قصيرة) وكأنّه أيضا يصرخ في وجهِنا أنْ نُسمّي ما قَصُرَ في تصوّر مشّائي هذا النوع باسم آخر غير القصة، توقِيراً واحتراما لهذا الجنس الأدبي التاريخي والمارد.

- مكرُ السرد:

يتجلى هذا المكرُ الأدبيّ في بنيتيْن سرديتيْن تُسيِّجان مسار السرد، ويتعلق الأمر بفعل (أغلق) المتصدّرِ لصيرورة الحكي، وفعل (واصل) الخاتِمِ لهذه الصيرورة في تجدّد وانفتاح مُشْرعٍيْنِ على الممكن واللاممكن من عمليات اجتِراح السرد. فكيف نستوعبِ هذا الانشطارَ السردي بين نسقيْنِ: واحدٌ مغلقٌ والثاني منفتح؟

يتحرّك السرد في هذه القصة المستشكلة في حجمها داخل قدر البحث عن شكلٍ مناسبٍ لكتاب الحب، مادام الساردُ مقتنعاً جدّاً بأن الحبّ مستحيلٌ خامسٌ مضافٌ إلى الأربعة القابعة في استحالة الجمال القيمي كما سطّره همسٌ قديمٌ في التراث:

لَمَّا رَأَيْتُ بَنِي الزَّمَانِ وَمَا بِهِمْ  \\\ خِلٌّ وَفِيٌّ، للشَّدَائِدِ أَصْطَفِي

أيْقَنْتُ أَنَّ المُسْتَحِيلَ ثَلَاثَةٌ \\\ الغُولُ وَالعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الوَفِي – صفيّ الدين الحليّ

وهذا الهمسُ يتكرر في سياق آخر حداثِيٍّ موسوم بفكرة النوع الحاكي لا المترنّم. وبفكرة السرد المكتوي بسطحية الماحول وقسوته وتنكره لذاتٍ أجمعتْ كلُّ تفاصيلِها على تبنّي فلسفة العطاء في غير منٍّ ولا أذىً أو انتظار شكرٍ أو مقابل. وعِوضَ أن تُتَوَّجَ الذاتُ الساردة باعترافٍ جميلٍ وجليلٍ من قِبلِ هذا الماحول، نجد هذا الأخير يُسارِعُ في إعدامِ هذه الذات والتنكيل بها في غير رحمة أو حتّى شفقة، فيبْني لها مقصلة ويدعو الدهماء إلى الاحتفال بلحظة الشنق والفتك والقتل.

السردُ هنا لا يفتكُ بالإنسان وحده، بل يفتك بالقيمة، فالإنسانُ ماضٍ في تخومِ السديم فيما القيمةُ باقيةٌ ما بقيَ المعنى. من هنا قسوةُ السردِ في هذه القصة المستشكلة، لأن الأتّهامَ لا يستهدفُ الأنامَ في هبوطهِ بقدر ما يستهدِف الفكرةَ في تردِّيها وفي أفولِها واندحارِها. وهو لعمْرِي أقسى وأشدّ مضاضةً على الوجود الإنساني في مشروعِ كينونتِهِ وهو لا يدرِي كمْ يفتِك بهذه الكينونة خارجَ مقولاتِ التناغم والحب.

يتقدّمُ السرد إلى المتلقّي في بنيتيْنِ أخْريَيْنِ، واحدة مثبتَةٌ وأخرى منفية لحاجةٍ في نفس السارد. (أغلق – خرج – تعب – جلس .. نفت – واصل) في مقابل (لم يجد – لم يعرف – لا تعرفه – لا يعرفونه – لم ينتبه – لم يلاحظ). وهنا بالذّاتِ لا تهمُنا الأفعالُ في تعبيراتها المباشرة عن معناها الثاوي في وجودها القاموسيّ بقدر ما يهما سكونها وحركيتها، انغلاقها وانفتاحها، استسلامها وشجبها، مكرها وبراءتها، دناءتُها وكرمها.. ولنأخذ مثالاً لذلك، ففعل (أغلق) لا يرتبط في المحكي بعملية حسية فيزيائية ترتبط بوجود حسي لباب أو ما جاور، بقدر ما يرتبط بمدخل يتجلي في أبعاد غزيرة منها البعد المعرفي (أغلق ملف الدراسة النقدية) والبعد النفسي (لم يكملها بعد) والبعد الانتظاري المرتقب بقافيْنِ واحدةٌ مفتوحةٌ وأخرى مكسورة. وهكذا فكل الأفعال هنا لا تتحدد ماهيتها إلا داخل السرد في مكره الباني للأنساق المعرفية والنفسية والوجودية بشكل عام.

داخل هذه النسقية الواخزة، يتبدّى محورُ النفيِ قويّاً ومؤلماً لأنه ورد في سياق الآخر المتنكّر. وهو نفيٌ دلاليٌّ لا يقف عندحدود السلوك المجانب لقواعد السلوك البينية في مجال الاجتماع. إنه نفيٌ فلسفيٌّ من جهة الذات المستقبلة يستبطن القيمةَ في وجهَيْها: الوجه المعترف والوجه المتنكر. داخل هذه الثنائية ترقد المعاناةُ التي تتجاوزُ الإحساس بالغبنِ إلى الإحساس بالعبثية. وفي ذلك ما فيه من فلسفة تُلغي الفعل وردّ الفعل لتثبِتَ القيمة واللاقيمة.

والانغلاق في مقابل الانفتاح، هما أكبر من نسق سردي ينظّمُ عين القارئ وذهنه داخل مسار الحكي. إنهما إذانةٌ قاسيةٌ لفعل غير مسؤول، وشجبٌ وجوديٌّ لسلوكٍ جانبَ المعقول. وفي آخر المطاف، فهما مسارُ حكي يصرخُ في وجهِ الرّداءة القيمية التي تتغوّل في الماحول وتُملي على الذواتِ قراراتها العطنة وكأنها محاكم تفتيشٍ تعود من أزمنة الظلام القروسطي لتمارس سطوتها على الفن والإبداع والإنسان، تتسلطنُ وتتمادي في سلطانها لتحكم قبضتها على عنق الساحة الإبداعية، تؤشّرُ للمرور على ما أرادتْ هي في غير معيار.

- مكر الكمّ والحجم:

يُعْفينا السارد من البحث عن مبطّنِ حكيهِ فيما يخصّ شكل المتن الذي نتنزّه في عمقه المؤلم. والمتتبع لهذا المسار يدركُ مورفولوجيا الرسم، وأقصد الكتابة الطباعية للنص. وهي الموسومة بكثيرٍ من نقط الحذف. وهي علامة سيميائية شكلية تنطوي على أكثر من دلالة. وأقربُها إلى محطّتنا التحليلية هو تعبيرُها عن قناعة تجنيسية للمتحدّث هنا باسم السارد. إنه يعترف في مكر الحدث وسرد الحدث وتشكيل الفضاء بشيء واحد وأساسيّ، هو النوعُ الأدبي. فالسارد يقدّمُ في نقط حذفه رواية كاملة بتفاصيلها وجزئياتها ومتاهاتها وتلميحاتها وتصريحاتها. في لبوس جنس القصة القصيرة، مع العلم أن الافعال السردية هنا فاضحة لمشروع الرواية العميقة في مكر هذا السارد. والمتتبعُ باجتهادٍ لهذا الصوغ القصصي سيدرك لا محالة كم هو مختزلٌ هذا الحكيُ لعوالم أخرى معلنٍ عنها في قبضة الإشارة بدل العبارة الثواية في مستقْبَلِ الرواية.

- ختم مفتوح:

الباحثُ والناقدُ والشاعرُ والروائيُّ (عبدالرحمن بوطيب) علامة إبداعية مثقّفة كبيرةٌ جدّاً على وصفنا أو تقريضنا أو مدحنا أو تحليلنا. وهو رجل لمْ يحظَ بعدُ بأيّ اعترافٍ أو تقديرٍ أو حق. وعيبٌ ، كلُّ العيبِ أن يُتركَ هذا المبدعُ في الظل فيما هو يُزِيحُ باستمرارٍ قويٍّ الستائر عن المغمروينَ والمغموراتِ في ساحتنا الثقافية الموسومة بالتناقض القيمي الغريب.

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة

............................

2 – المتنُ المقروء:

حب ضائع في أرض يباب.. ومقصلة

أغلق ملف دراسته النقدية التي لم يكملها بعد.. خرج يبحث عن كتاب الحب في دروب المدينة.. لم يجد ضالته في الدكاكين والأكشاك والحمّامات والمقاهي.. لم يعرف طريقه إلى مكتبة في دروب لا تعرفه.. كل الوجوه التي يصادفها في طريقه لا تعرفه.. كل الوجوه لا تعرف الحب الضائع الذي يبحث عنه رجل لا يعرفونه.. وصل إلى مركز المدينة.. سأل كلَّ الناس عن مكتبة.. لم ينتبه إلى أن فرقة من الناس كانت تتغامز من وراء ظهره.. لم يلاحظ أن فرقة من الناس كانت تشفق على رجل يبحث عن كتاب حب ضائع في دروب أرض يباب.. تعب.. جلس على رصيف قديم.. أخرج من جيبه ورقة وقلماً.. كتب "هذا كتاب الحب والضياع".. بدأ يسرد.. يسرد.. يسرد.. يتعرق.. يتعرق.. يتعرق.. يرتجف.. أحس بحركة حوله.. رفع رأسه.. شاهد مقصلة منصوبة أمامه.. وعديد جلادين بألف قناع وقناع.. أشعل آخر سيجارة سوداء متبقية في علبته القديمة.. نفث من صدره سحابة دخان أسود كثيفة.. واصل سرده.

***

قصة.. ليست قصيرة. عبد الرحمن بوطيب.

الدار البيضاء / المغرب: الخميس 11 أبريل 2024.

{النص}

المرايا

تسألني المرايا

واسألها؟

من هذا الجسد الطافح بالحزن

تلك الملامح المتصلبة

كبقايا أخمس بندقية في ارضِ

الحرام

أو نطاق ،

كُمَ قميص لبدلة شهيد

لازالت تندبه ثكلى

يمر ذكرى  بأحلام جميلة لامس

الوجد    .

كم حرب مرت

أخذت من سمرة ملامحي

و من سواد رأسي شيبا

أكتست بالظلمة صباحاتي

لكن لازال لي قلب  ينبض بالود

وللود يحلم بوطن حر وأمل جديد لاطغات فيه .

***

تحليل النص  من خلال العناصر الأدبية والسيميائية  المتواجدة فيه:

1. الشكل الشعري: النص يتكون من أبيات مرتبطة بنظام القافية، وهو ما يميزه كقصيدة. الشكل الشعري يساهم في خلق تأثير جمالي وإيقاعي للنص.

2. الرمزية: النص يحتوي على تعابير رمزية ومجازية تعطيه طابعًا استعاريًا. على سبيل المثال، المرآة التي تسأل وتجيب تمثل تواصل الشاعر مع ذاته واكتشاف هويته الداخلية.

3. الصور البصرية: يستخدم الشاعر صورًا بصرية لتوصيل المشاعر والأفكار. على سبيل المثال، وصف الملامحالمتصلبة في الوجه ومقارنتها ببقايا البنادق والحروب يخلق صورة قوية تعبّر عن الآثار السلبية للصراعات والمعاناة على الجسد والروح.

4. العواطف: النص يحمل عواطف متعددة مثل الحزن، الألم، الود، والأمل. يستخدم الشاعر اللغة الشعرية لنقل هذه العواطف بشكل تفصيلي وعميق، مما يلمح إلى التجربة الإنسانية والمعاناة التي يمكن أن يواجهها الفرد.

5. الرؤية الاجتماعية والسياسية: يعكس النص رؤية الشاعر للوطن والحرية والعدالة. يعبر عن رغبة الشاعر في وجود وطن حر يعيش فيه الناس بكرامة وسلام، ويحلم بمستقبل أفضل خالٍ من الاضطهاد والظلم.

السيميائية في النص

 يمكن رؤية عناصر من السيميائية واستخدام الرموز والعلامات لنقل المعاني والرسائل.

1. المرآة: يمكن اعتبار المرآة رمزًا في النص. تعتبر المرآة نقطة تواصل بين الذات والعالم الخارجي، وتعكس الصورة الداخلية والهوية. في النص، تسأل المرآة وتجيب، مما يشير إلى التواصل الداخلي والتفكير الذاتي.

2. الألوان: يمكن أن تحمل الألوان دلالات سيميائية في النص. على سبيل المثال، يشير الحزن والظلمة إلى الألوان المظلمة والمظلمة، بينما يمكن أن يرمز الود والأمل إلى الألوان الزاهية والمشرقة.

3. الحروب والأسلحة: تعد الحروب والأسلحة رموزًا للصراع والعنف في النص. يشير استخدام البنادق والحروب إلى التدمير والدمار، وتأثيرها السلبي على الجسد والروح.

4. الحرية والأمل: تعتبر الحرية والأمل رموزًا للتحرر والتغيير في النص. تمثل الحرية الوطنية والشخصية، بينما يعبّر الأمل عن التطلع لمستقبل أفضل ووطن حر.

من خلال استخدام هذه الرموز والعلامات، يتم توصيل رسائل ومعانٍ عميقة في النص.

كما يمكننا استنتاج أن النص يحمل رسالة أدبية تعبّر عن الإنسانية والتجربة الشخصية، وتسلط الضوء على الصراعات والآثار السلبية للحروب والقهر. كما يدعو النص إلى الأمل والتغيير الاجتماعي، ويعكس رؤية الشاعر للعالم والواقع الذي يعيش فيه. كل المحبة.

***

بقلم الأديب الاستاذ الناقد خلف ابراهيم

يظل الأدب الألماني دون بقية الآداب الأوروبية الأخرى اِنتشارا واِطلاعا بين قراء العربية بالرغم من كونه يعتبر أحد أهم الآداب في العالم وربما يعود سبب قلة انتشاره بين العرب إلى عدم اطلاع المتعلمين العرب على اللغة الألمانية بصفة واسعة سوى نخبة قليلة نذكر من بينهم الدكتور عبد الرحمان بدوي الذي تخصص في الثقافة الألمانية وترجم منها عيون فلسفتها وأدبها وشعرها وإن كتابه حول الأدب الألماني في نصف قرن الصادر عن سلسلة، عالم المعرفة، يندرج ضمن جهوده للتعريف بهذا الأدب حتى يكون رافدا من روافد الابتكار والتجديد والإثراء في أدبنا العربي الحديث.

والشاعر الألماني رلكه عاش بين سنة 1875 وسنة 1926 وهو أهم الشعراء الألمان المعاصرين وقد حظي بأوسع شهرة وأرفع مكانة طوال القرن العشرين لأنه كان حقا نسيج وحده.

المولد والنشأة والانطلاقة:

هو رايتر ماريّا رلكة من مدينة براغ عاصمة الدولة التشكيوسلافيكية وقد ولد سنة 1875 لأب كان ضابطا في الجيش النمساوي وقد شارك هذا الأب في حملة النمسا ضد ايطاليا سنة 1859 ثم اضطر لترك الجيش بسبب صحته والتحق بإدارة السكة الحديدية أما أمه فهي ابنة تاجر كان مستشارا لإمبراطور النمسا لكن الحياة الزوجية لم تستمر طويلا بينهما فعاشا حالة انفصال من دون طلاق وكانت أمه هي التي أنفقت عليه ورعته ودفعته للمطالعة ونمّت فيه مواهبه الفنية.

بعد تعليمه الابتدائي التحق رلكه بالمدرسة العسكرية الثانوية بالقرب من فيينا عاصمة النمسا وذلك سنة 1886 ثم انتقل منها إلى الكلية الحربية سنة 1890 التي لم يمكث فيها سوى عام واحد حيث لم يكن منسجما مع جو الانضباط والقسوة الذي وجده بين زملائه والمدرسّين وقد شبّه ذلك الإطار ببيت الموتى.

ومن القصائد الأولى التي نشرها رلكه قصيدة تحت عنوان ( الفستان الجرار هو الموضة) وذلك سنة 1891 وفي نهاية 1894 ظهرت له مجموعته الشعرية الأولى (الحياة والأغاني) وقد اهتم فيها بالقصائد القصيرة ذات الإيقاع الذي يقوم على المحسنات اللفظية ومن بينها هذه القطعة التي يقول فيها:

غنّ من جديد لحبيبتي

يا صوت عودي المضيء بالحب

غنّ إبّان الليل

وفي هذه المجموعة قصائد أخرى تعتمد الومضة والإيجاز:

من يعرفون الإنسانية يقولون

إن العبقرية مقدّر عليها الهلاك

كلا:إذا كان الزمان لا يخلق عظماء

فإن الإنسان يخلق لنفسه زمان مجده

ونشر رلكه مجموعته الشعرية الثانية تحت عنوان "قربان إلى اللارات" واللارات في الديانة الرومانية القديمة هي الآلهات التي تحمي البيوت وموطن الميلاد فمعني العنوان كما رأى الدكتور عبد الرحمان بدوي أن القصائد الواردة في المجموعة تدور حول مدينة براغ موطن ميلاد الشاعر وحول أهلها ومن هنا نعتها البعض بأنها تندرج ضمن (شعر المدينة) حيث نجد فيها وصفا لبعض الأحياء المتميزة في براغ خصوصا الأحياء الشعبية مثل قوله في إحدى تلك القصائد:

هم يذهبون في حرارة المحبّ الحارة

ويخرجون من المصانع رجالا وفتيات

وعلى جباههم المنخفضة المغلّقة

كتب البؤس مدادا من العرق

الوجوه حزينة والعين منطفئة

والنعال الثقيلة تقرع الطريق

مثيرة التراب والغبار

لكن الشاعر – وهو يتحدث عن القضاء في المدينة بمختلف مكوّناته وأبعاده – نلاحظ انه ينخرط في الصراع السياسي في عصره فهو يقول في قصيد له بعنوان " الشك " :

النزاع الوحشي بين ألم

لا يصل إلى منه أيّ صدى

لأني لا أنحاز إلى أيّ طرف

إذا الحق ليس هناك ولا هنا

وفي أوائل سنة 1896 طبع مجلة أدبية اسمها "الشيكوريا البريّة" وهي تقع في 66 صفحة وقد وزعها مجانا على المستشفيات والنوادي المختلفة ثم راح بعد ذلك يوزعها على المارة بالمجان أيضا وقد قدّم لهذه المجلة قائلا: " مجرد كلمة واحدة: أنتم تنشرون مطبوعاتكم في طبعات رخيصة الأثمان وبهذا تسهّلون على الغني الشراء لكنكم لا تساعدون الفقير لأنه بالنسبة إليه كل شيء غالي الثمن... أنا أيضا فقير لكن هذا الأمل يجعلني غنّيا. إنّ "الشيكوريا البريّة" ستظهر مرة أو مرتين في العام فاقطفوها ولتكن مصدر سرور لكم".

ومن روائع الشاعر رلكه هذه القصيدة:

مثل الريح اخترقت الخمائل

ومن كل بيت كان ينبعث دخان

وبينما كان الآخرون يستمعون بما اعتادوه

بقيت أنا شبيها بعدة غريبة

يداي دخلتا دخولا رهيبا

في مصيرالآخرين المعلّق

لا بد من سند أرضي

لان الثقة لا تتولد إلا في الثقة

كل إحسان هو فعل بمثابة مقابل

أوّاه لم يتطلب مني الليل شيئا

لكن حين توجهت نحو النجوم

أين كنت أنا؟

* البحث عن الشرق

و تماما مثل الشاعر الألماني "قوته" وبتأثر حركة الاستشراق انبهر الشاعر رلكه هو أيضا بعالم الشرق و بما في حضارته من تأمّل وبساطة وروحانيات خاصة، لكن السبب المباشر في انفتاح مهجته على العوالم الشرقية يعود إلى زوجته التي قامت برحلة إلى مصر ومن زمن تلك الرحلة تراه مولعا بالنيل وبالصحراء وبتمثال أبي الهول الذي كتب فيه قائلا ضمن رسالة: "أبو الهول ليس ذلك الأثر الفني الذي صنعه نحات معيّن، بل هو أولا وقبل كل شيء ذلك الأثر الذي عاون في صنعها الزمان، إذن لقد اشترك في عمله فنانان: الفنان البشري ثم ذلك الفنان العظيم الآخر إلا وهو الزمان، فلم يعد الحجر مجرد نحت بل صار كائنا حيا وشاهد إصباح آلاف الأيام وأمواج الرياح وما لا يحصي من النجوم التي تطلع وتأفل ومواكب الأفلاك في العلا وحرارة السماوات الممتدة هناك أبدا.

رلكه في تونس

و قبل أن يصل إلى مصر زار رلكه بلاد الجزائر وتونس التي كتب عنها بعض رسائله قائلا انه طاف بأسواقها الغنية بعروضها ومتاجرها وأقمشتها المتعددة الألوان حيث يسود جوّ ألف ليلة وليلة وقد تجّول في سوق العطّارين فتعّرف إلى عطار لا تصافحه اليد حتي تظل معطرة النهار كله وهو في رسالة كتبها من القيروان بتاريخ 21 ديسمبر سنة 1910 يكشف الجانب الصوفي بما فيه من تقوى وزهد فيقول عن القيروان إنها مدينة مقدّسة وفيها مسجد جامع عظيم استخدمت في بنائه أعمدة كثيرة من آثار قرطاجنة والمدن الساحلية الرومانية والفينقية لتحمل سقفا من خشب الأرز وقبابا بيضاء ولا يحيط بالمدينة سوى السهول والمقابر لهذا تبّدت له كأن الموتى يحاصرونها وهم راقدون حولها يزدادون دائما ولا يتحّركون أبدا.

ويثير هذا المنظر في نفس رلكه خواطر عن الإسلام فيكتب قصيدة "رسالة محمد"، جاء فيها:

لّما تبدّى الملك الكريم الطاهر

ذو الملامح المعروفة والنّور الباهر

تبدّى رائعا له خلوته

خلع كل كبرياء وخيلاء وتوسّل إلى التاجر

وقد اضطرب باطنه إثر أسفاره

توسّل إليه أن يبقى

لم يكن قارئا، وها هي ذي كلمته

كلمة عظيمة حتى على حكيم

لكن الملك وجّهه بمهارة

إلى ما كان مسطورا في لوح

ولم ييأس، بل ظل

يردّد دائما: إقرا

فقرا حتى انحنى الملك

وأصبح ممن

يعرفون كيف يقررون

ويستمعون ويتمون "الرّسالة"

ويرى الدكتور عبد الرحمان بدوي أنّ السبب الذي كان وراء كتابة هذه القصيدة ربّما مأتاه التأثر بكتاب "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" أو أنّ الشاعر قد قرأ سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتأثر بها وبسورة "العلق".

الرحلة إلى مصر:

في سنة 1911 أبحر الشاعر إلى مصر وهو يشعر أن عالم الشرق بدا يتفتّح له بل وقد استولى على كامل وجدانه عندما بدأ رحلته من الإسكندرية إلى القاهرة ومنها ركب الباخرة إلى الصعيد عبر نهر النيل حيث أوحت إليه بقصيدة "الكرنك".

كان ذلك في الكرنك

إلى هناك ذهنيا على فرس

هيلمانه وأنا،بعد عشاء سريع

وتوقّف الترجمان: هنا طريق آباء الهول

آه..المدخل... لم أنص من قبل

في عالم جديد مثل هذا

أهذا ممكن أيتها العظمة؟

لقد عظمت في نفسي عظمة مفرطة

السفر، هل هو البحث؟ الآن، قد أصبح غاية

والحارس عند المدخل أشعرنا

بقشعريرة المقدار: فلكم كان صغيرا

إزاء ارتفاع البوّابة المتواصل

والآن، طول العمر كله

العمود، ذاك العمود،ليس كافيا

إنّ التدمير جعله على حق

لقد كان أعلى

من أيّ سقف؟ ولكنه بقي حاملا

لقد أودع الشاعر رلكه هذه القصيدة كل انطباعاته تلك التي خطرت له قبل مشاهدة الآثار الفرعونية وسجل فيها أيضا ما لمسه من عظمة الإبداع المصري القديم في الأقصر وطيبة ووادي الملوك والمناطق المجاورة حيث يقول في إحدى قصائده

الفلاح الذي كان يرافقنا

ظلّ في المؤخرة، لقد كنا في حاجة إلى وقت

لتحمل أثر هذا، إذ كان أثرا شبه مدمر

أثر الوقوف وحده في الوجود:

لو كان عندي ولد

لأرسلته إلى هناك في نقطة تحوّل العمر

التي فيها يكّرس المرء نفسه للحق وحده

وعلى طول الجدران ملاحم

الملوك: لم يسمع بمثلها

وامتلأت التماثيل بنور القمر

واحد إثراء آخر

لقد كان نحتا بارزا

و يتحدث رلكه عن رؤيته لتمثال أبي الهول فيقول "تركت ساعة العشاء تمرّ وكان الأعراب يقعون هناك بالقرب من نارهم والظلمة تحول بينهم وبين رؤيتي، لقد انتظرت حثي أسدل الليل ستائره بعيدا في الصحراء ثم مشيت من خلف أبي الهول وقدّرت أنّ القمر لا بد أن يكون على وشك الطلوع خلف الهرم القريب الذي أحرقته شمس المغيب ذلك أن الليلة كانت ليلة بدر، وفي الواقع لم أكد أستدير حول أبي الهول حتي كان القمر قد تصاعد عاليا في السّماء وانتشر منه فيض من النور على الأفق اللامتناهي". ونرى رلكه في قصيدة " أبي الهول " يخلط بين ذكريات الأقصر والكرنك وطيبة وبين ذكريات أبي الهول والأهرام حيث يقول فيها:

إنه يقوده بخفة خلال مناظر الأنين

ويدلّه على أعمدة المعابد أو إطلال

القصور المحصنة التي كان بها أمراء الأنين

يحكمون البلاد بحكمة

ويدله على أشجار الدموع وحقول الأحزان الزّاهرة

ولا يعرف الأحياء عنها إلا الأوراق الرقيقة

ويرى الدكتور عبد الرحمان بدوي أنّ القصيدة تحتاج إلى تفسير لأنها تحيل على عدة إشارات حول التاريخ الفرعوني.

إن الشاعر الألماني رلكه (1885-1927) كان أحد الشعراء في العالم الذين تعرفّوا إلى البلدان العربية واستلهموا حضاراتها فكانت إضافة نوعية في شعره مما جعله الشاهد على اِنصهار الثقافات وتداخل الحضارات في شعره ذي المنزع الإنساني الذي ينظر إلى الثقافة العربية ورموزها نظرة إيجابية.

***

سُوف عبيد – كاتب وأديب تونسي

 

(مقاربةٌ نسقيةٌ ثقافيةٌ في شعرِ سعد ياسين يوسُف)

سعد ياسين يوسف شاعرٌ عراقيٌ مبدعٌ وأكاديميٌ مقتدر، يعيش الكتابة الشعرية كونها ملاذاً وأكسير حياة، اكتشف ثمرة شعره الناضجة في شجرة روحه اليانعة بالإبداع منذ منتصف السبعينات، حتى أضحى شعره فردوسه الذي يظلله وعالمه الخاص به، فأضحت الشجرة تيمة من تيمات شعره في مجاميعهِ ودواوينهِ، عبر في شعرهِ عن مشاكل الإنسان ومآسيه في هذا الوجود، وقد لفت انتباهي في مجموع شعرهِ عتباته النصية التي عالجت مشاكل الإنسان مع الزمان واستشرافه المضيء لحياتنا القاتمة، عندما نقرأ شعره ما أن نبدأ به حتى يأخذنا لعوالم مختلفة لا تنتهي إلا بإيعاز شديدٍ منا. ومن خلال قراءتي لقصيدة شجرة بيروت والتي نشرها في مجموعته الشعرية شجر الأنبياء في تموز /٢٠٠٦، وظف الشاعر في هذه القصيدة (بيروت)حتى غدت صورة مصغرة عن (لبنان) بل واقعاً عن لبنان بل لبنان نفسه بل لبنان في حضوره وشخصه وذاته، وقد حاولت في هذه القصيدة أن استشفَ حركية الأنساق المضمرة، وتعالقها مع الأنساق الظاهرة في الخطاب الشعري، لأنهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، ولا يمكن أن ينفصل أحدها عن الآخر .

يستهل الشاعر قصيدته الموسومة ب (شجرة بيروت)استهلالا مكانياً محدداً (بيروت):

بيروت

روح البحر

قلادته الملأى بجواهره

الزرقاء

بحكايا الحوريات

على رمل شواطئه

شهوته الحرى .. لحياة

لا تشبه أي حياة

 تحيل هذه العتبة الاستهلالية المتلقي إلى أنساق نصية مضمرة،تكمن في نفسه الشاعرة لتجسيد غربته النفسية، خلال التيمة المكانية المشخصة في تعالق تشبيهي استعاري مكثف، حيث تتوالد الصور الاستعارية التشخيصية من التشبيه الكلي أو التمثيلي، وهو من خلال تلك التشبيهات يكشف النقاب عن الهوية المتفردة بكيانها وصورتها الفكرية، التي تحقق تمثلاته الثقافية إذ إِنٌ الحزن والوجع واحد في بلاد الرافدين، من خلال إبراز تلك المهيمنات الثقافية بأنساقها اللفظية الظاهرة، والتي تُضمر للدلالة عن رفض شعوري وسياسي لأي سلطة واعتداء صهيوني لهذه المدينة التي وسمها بروح البحر، تتضمن القصيدة العديد من الإشارات والإيماءات التي تتكشف مدلولاتها من خلال التوليد التصويري في تشبيهات وتعالق استعاري مكثف، لتصوير مواجهة بيروت في معركتها الشرسة مع الاعتداء الصهويني بصفاتها وعروبتها الشامخة. فكان الشاعر حاذقاً في اختياره للفضاء المائي في تجسيد تلك التجربة الشعرية، لما يمتلكه ذلك المهيمن الفضائي المائي (البحر) من كوامن وأنساق ثقافية مضمرة، تجسد تلك العوالم البيروتية القاهرة للعدو بعطائها الشبيه بالبحر. وقد اختار الشاعر المشبه به العقلي (روح البحر) ليحيل المخيلة المتلقية إلى عوالم من العطاء الذي لاينضب للمشبه (بيروت)، ثم تتوالى الصور التمثيلية التشبيهية الحسية فيشبهها بقلادة البحر في تعالق استعاري مكثف، حيث الجواهر الزرقاء ومايحيل إليها هذا الرمز اللوني إلى الصفاء، والعطاء المشترك .بين لون السماء، ولون البحر، وماينضوي عليه من دلالات الصفاء والعطاء، ثم تتوالى التيمات البحرية في توالٍ منسقٍ يستكشف عن مضمرات تخيلية مرتبطة بعالم الأسطورة، والطفولة، والحكايات الشعبية، عن الحوريات، وعروس البحر، في تجسيد لواقع بيروتي قبل الاعتداء مسترجعاً ذلك الواقع الصافي غير الملوث، من خلال تلك التيمات التي تعكس تلك الإيجابية الواقعية المعيشة، فالحياة ليست كأي حياة في ذلك الفضاء الرائع برونقه.

صخب الموج،

 هدير الريح،

نسمات ترقص غنجا

بليالي الصيف تهب

" من أطراف الوادي "

 يجئ صقيع الخبث

تستيقظ شهوةُ موت

الغرباء

كعادتها تقطرُ

موتاً وقذائف

 فيمزق شجر الأرز حبال الثلج

يمد غصونا بردا

 غارا

يا "سيدة نجاة" الجبل،

البحر

هاتي من كفيك زيتا

امسح وجع الجبل

البحر

ويقول أيضاً :

أنيرُ مرافئه الثكلى

وأهلة عشق مآذنه

الذهبية

أُسكتُ صفارات الإنذار

امسح قلب الأطفال،

 بهدأة عينيكِ

 بهدأة عينيكِ

وافتح أبواب الجبل

سلاما طلتك

سلاما همسات الروشة

كل مساء

صباحك يا"صنين "

أغاني الخبز الطالع من أفرانك

عند الفجر الأشهى

من شفتي الشاطئ

عند غروب الشمس

عند نزول الشمس

على شرفات الحمراء

فوق بيوت الضيعة،

في المتن

حيث الريحاني يغني

أخر أغنية للعشق

يشتعل القرميد

يميد الحبق المنثور

بممرات بيوت القرويين

بكهوف جعيتا

حيت أساطير ملوك

 وممالك تصعد تنزل

حفلات من رقص رخام

تتوالى الصور السمعية بدلالاتها الرمزية في هذه النصوص التي تجسد عطاء الطبيعة في مضمر خفي، إلى عطاء المدينة وواقعها قبل الاعتداء الصهيوني، ثم نسمات الصيف الراقصة غنجاً ودلالا في صورة استعارية تخييلية إبداعية، ثم يأتي الواقع المفروض بسلطة الاعتداءوالتدمير، فيوظف الشاعر صور الطبيعة القاسية، لتحيل وبذاكرة جغرافية ثقافية إلى تلك السلطة القاسية التي تصورها بالصقيع الخبيث، وبشهوة الموت في رؤية تجسيمية استعارية دالة،فينقلب الهدوء والطبيعة الرائعة إلى أجواء صقيعية، وموت، وقذائف،وصفارات إنذار، فتصبح المرافئ ثكلى لتلك الذكريات المورقة، ثم يستطرد الشاعر ثانية إلى ماضي بيروت في ذاكرة تجسد الهوية البيروتية، في تيمات تصويرية تحيل بأنساق مضمرة إلى ذلك الماضي البيروتي المورق قبل الصقيع والثكل والاعتداء الصهيوني، حيث شرفات الحمراء، وبيوت الضيعة، ونزول الشمس عليها وغروبها، وأغاني الريحاني، ويمتد ذلك الاسترجاع بعمق ثقافي إلى تأريخ بيروت حيث أساطير الملوك، والعصر الباروكي، وخيول وفرسان، وغجر، لتبقى بتأريخها شامخة في إبداعها:

العصر الباروكي

تصدح موسيقاها

شُرَفٌ مشرعةٌ

 وجميلاتٌ يتقنَ التلويحَ

خيولٌ، فرسان،غجرٌ

ألقى البحرُ عليهم

سحره، جمدوا

علَّ السحر يذوب، يفلُ،

تولد مدنٌ أخرى .

تتوالى في هذا النص التكرارات اللفظية لبعض التيمات الدالة كـ(الشمس، البحر، الجبل، سلاماً، المساء) المترجمة لذلك الاغتراب النفسي عن كل شيء، وقد تجلت الرؤية الشعرية للشاعر المتمخضة من الحالة الوجدانية، من خلال الاستهلال المكاني (بيروت)في سياقات تصويرية مجازية متعددة، تحقق تلك الرؤية لواقعين معيشين ماض مورق، وحاضر أليم، ثم تزداد الشحنات الانفعالية لتبلغ قمتها في تكرار عناصر الطبيعة بصورها الإيجابية والسلبية، لتجسد الواقعية المكونة لرؤية زمكانيةمجازيةمتفردة، تعكس مشاعر الحزن والأنين الثكلى لتلك المدينة الضائعة، ثم يختم تلك الصور النصية المتراكمة في تراكم تأريخي، يعكس تأريخ عريق وتراثي لبيروت الحبيبة، إذ إِنّ هذه الصور جسدت ذلك الغياب الحاضر الموجع، من خلال تقابل الثنائيات (الحضور، والغياب) حيث الوجه الغائب الحاضر المبعثر في ضباب الغياب، في حين لاشيء يظهر إلا ذلك الواقع الأليم، حيث يتماهى الغائب الماضي المورق، ويتجلى ذلك الإبداع التصويري التوليدي من خلال الاسترجاع الزمني،مسترجعاً ومستذكراً الأزمنة الماضية المورقة الشاخصة في قلبه، فضلا عن ذلك لايخفى ما للفونيم الصوتي للحروف المجهورة كالراء، والسين، والحاء من شحنات صوتية جسدت الطاقة التكرارية للراء المتكررة، حيث الوجع المتكرر النفسي للأنا التائهة المبعثرة في متاهات الآخر (بيروت)، ذلك الوجع المتمخض عن تجربته الوجدانية الموجعة، من الثنائية الضدية الماثلة بالدمع الكثير والأمل القليل في علاقات لغوية ولغة شعرية، تحيل إلى تراكمات نسقية ثقافية لتحقق ذلك الفقد والوجع الجمعي، فيغدو ظلام بني صهيون مغلفاً بالكوابيس الطبيعية حيث الصقيع والريح المقتلعة وصفارات الإنذار. فيوظف الشاعر عناصر الطبيعة لتكون معادلا موضوعياً في تجسيد الماضي والحاضر البيروتي، والذي يفضي إلى التردد والتكرار المنسجم مع دلالة التكرار المشهدي، لذلك الحزن والثكل والذكريات بمشهدياتها المختلفة، والطيف المنشود بالتحرر من الظلم والقمع، فضلا عن الواو العاطفة التي تكررت في النص، والتي حققت التواصل المشهدي النصي . إذ إِنّ ذلك الامتزاج والتراسل الحسي بين عناصر الطبيعة المختلفة والفضاء المكاني (بيروت)، يشكل رمزاً فاعلا وحياً لوحدة الحواس المنهمكة بالدال (بيروت)، وذلك ما ينسجم والدلالة النصية. وتتراكم الصور التجسيدية لتكون الذكريات الماضية ملاذاً مؤاسياً في تراصف وتجاور لفظي، حيث صورة ذبول الأمل، والفراغ الآهل بالحسرات، فتنبثق الصورة المائية لتشكل إيحاء رمزياّ فاعلا،في الدعاء بالسقيا والانبعاث لبيروت الضائعة، فتلك السقيا بدلالاتها ما هي إلا رمزاً ومعادلا للدعاء بالخلاص من الظلم والقمع.

وأخيراً أقول تشي نصوص سعد ياسين الشعرية بالقدرة على توليد الصور المبهرةوالمدهشة وغوص بالمعنى، يجعلنا نحلقُ بفضاءات المدى الوجداني والروحي، مع إيقاعات داخلية مموسقة في نسق النص، لأنه رهين لحظته الشعرية .

ملاحظة: شجرة بيروت قصيدة نشرها الشاعر في مجموعته الشعرية شجر الأنبياء، ص ١١٠ والصادرة عن دار الينابيع للتوزيع والنشر، دمشق -٢٠١٢ وقد كتبها إبان الاعتداء الصهيوني الآثم على جنوب لبنان في تموز عام ٢٠٠٦.

***

أ. د. أناهيد الركابي

الجامعة المستنصرية

تعد القرية المهجورة مجموعة قصصية للقاص المغربي محمد الورداشي، صدرت عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع-مصر سنة 2020، وتقع المجموعة في مئة وعشرين صفحة من الحجم المتوسط، وجاءت مقسمة على عشر قصص، في مقدمتها القصة المعنونة ب" دموع السماء"، وفي خاتمتها القصة المعنونة ب"نحو ثورة جديدة" .

قراءة في العنوان:

يتكون العنوان من لفظتين هما القرية المهجورة، تشكلان، من الناحية التركيبية، مركبا وصفيا يضم موصوفا وصفة، أما دلاليا، فإن اللفظتين مؤشرتان على بنية دلالية كبرى تساعد القارئ على فهم دلالات المجموعة، إذ كلمة "القرية" دلالة على مكان جغرافي، وإن شئنا قلنا مكان الإنسان البدوي المعزول عن العالم الحضري، والذي له تقاليده وعاداته ونمط عيشه. أما الصفة "المهجورة"، فإنها لفظة تحيل على الترك والعزلة، لأن الهجرة أضحت السبيل الوحيد للبحث عن سبل عيش كريم، وتحقيق أهداف اجتماعية وثقافية، ورغبة في النجاة من الفقر والعوز، والسعي الحثيث إلى التحرر من ربقة التقاليد والأعراف البائدة التي تعيق حركة الإنسان البدوي في عالم ينزع نحو أساليب الحضارة وأنماط العيش الجديدة التي تفرضها، فضلا عن قيمها التي اكتسحت العالم المتمدن.

موضوعات المجموعة:

تضم المجموعة جملة موضوعات تزخر بها حياة الإنسان وجدليته مع واقعه المعيش، مثل: الفقر، البطالة، الحرمان، الجوع، الموت، الحنين، الجهل، المرض، الحب، الأحلام..إلخ، وكلها تصور لنا وقائع الذات الإنسانية الجريحة؛ إما بسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية (البطالة، الفقر، الحرمان، الجوع...)، أو بسبب الحنين إلى قيم وذكريات ماضية، أو التشوف نحو مستقبل مغاير لماضي وحاضر الذات الإنسانية (الحب، الأحلام...).

الشخوص:

تعد الشخوص عنصرا بنائيا ضروريا لكل بناء سردي للأثر الأدبي؛ ذلك أنها حجر الأساس الذي ينجز الأحداث والأفعال داخل عالم الحكي، كما أن هذه الأحداث والأفعال تتبلور من خلال عنصر الشخوص. هكذا، نجد أن الشخوص، في المجموعة قيد القراءة، نوعان: شخوص ثانوية ليست لها أهمية كبيرة في تحريك أحداث القصص، وفي المقابل ثمة شخوص رئيسية تلائم زمان ومكان تبلور فعل الحكي، وتشغل دورا أساسا في بناء الأحداث. من هذه الشخوص: الشيخ عبد القادر المصون، المقدم، عمر، محمد..إلخ، ومن ثم تتضح لنا دقة الكاتب في اختيار شخوصه استجابة لأحداث القصة والقيم التي تنتجها أو تعيد إنتاجها بغية ترسيخها تارة، وتفكيكها ونقدها تارة أخرى.

مسار الأحداث:

يجري مسار الأحداث بشكل مستقيم من البداية إلى النهاية، وفق رغبة السارد في سرد الأحداث. وبهذا يبدو مسار الحكي في المجموعة خطا تصاعديا؛ إذ إن كل بداية تقود القارئ تجاه العقدة-المشكلة التي بدورها تحمل بذور النهاية.

الزمن في المجموعة:

وظف الكاتب أزمنة عدة في مجموعته، بحيث تخضع لصيرورة بناء الحدث في القصة، ونجد هنا جدلية الأزمنة من قبيل: الزمن الفيزيائي (الصباح المساء الصيف الخريف الفجر...)، والزمن التاريخي (التضحية بالنفس الفشل الثورة...)، ثم الزمن النفسي (الخوف، الانتظار، الشوق، الحيرة، الألم، الحزن، الخيبة...)، إذ إن هذا الزمن النفسي هو المهيمن في المجموعة؛ فالأحداث التي تقع فيه تصور الحالة النفسية لأهل القرية المهجورة التي تبعث الشفقة في نفسية القارئ، وتحمله على التعاطف مع شخوصها وما تعانيه من مصائر متشابكة ومعقدة .

الفضاء:

تحتوي المجموعة على العديد من الأمكنة، فهي تتعدد بتعدد أفعال الشخصيات، ما يجعل هذه الأمكنة تشكل فضاءين مختلفين في الأبعاد والدلالة. فالفضاء الأول هو القرية، ويضم (الأطلال، الودي، الجبل، الحقول، بساطة العيش، التعايش). وأما الفضاء الثاني فهو المدينة التي تحتوي على (البنايات، الشوارع، الحدائق…). فمن خلال هذين الفضاءين المتقابلين، استطاع الكاتب أن ينقل للقارئ تلك الاختلافات البنيوية والاجتماعية والقيمية بين القرية والمدينة. الشيء الذي جعل المدينة حاضنة لبعض القيم والسلوكات من قبيل: انحلال القيم الإنسانية وفقدها لجدواها باعتبارها وسيلة لخلق التماسك الاجتماعي والإنساني، وتوحيد سلوك الأفراد وتوجيهه نحو قيم وأهداف مشتركة، والهوة بين الفقراء والأغنياء، كما نجد، في المقابل، الوعي الشقي الثائر على العادات والتقاليد والمعتقدات البالية (ثورة عمر على العادات الظالمة).

الحوار:

إن المجموعة تضم نوعين من الحوار: حوار داخلي نفسي، الذي يدور بين الشخصية ونفسها مثل قصة "الثائر عمر"(هنا سأبني قصرا...)، وحوار خارجي يتم بين الشخصيات. فهذان النوعان من الحوار يضيئان الحالة النفسية والاجتماعية للشخوص، علاوة على الصراع ذي التجليات المتعددة الذي يحرك العلاقات بين الشخوص في حركة جدلية مستمرة من بداية المجموعة القصصية حتى نهايتها.

الوصف:

نجد أن الكاتب قد وظف الوصف بشكل ملحوظ في مجموعته، وهذا يعرب عن كونه يعلم جيدا شخصياته، ومنها يقدم صورة متكاملة ومعرفة حول حالها الاجتماعية والنفسية، كما عمد إلى توظيف أسلوب التشويق؛ إذ جعل بواسطته القارئ يتحمس لقراءة المجموعة القصصية حتى يبلغ النهاية دون ملل أو كلل.

ختاما

لا يسعنا إلا القول إن القرية المهجورة عمل قصصي بامتياز؛ لما تضمنه من مقومات سردية قصصية مختلفة، كما أن الكاتب اعتمد في حكي قصص مجموعته لغة سردية فصيحة، باستثناء حضور خافت لبعض التعابير الدارجة المغربية، وهذا جعل الأمر يسيرا على المتلقي في فهم المضمون، كما يوضح هذا حنكة الكاتب في جذب اهتمام القارئ. فالقرية المهجورة تجعل القارئ يتصور الأحداث كأنه يعيشها من خلال سطورها.

وتظل هذه القراءة البسيطة مجرد محاولة قد لا تستوفي المجموعة حقها، كما نأمل أن نقوم بقراءة أخرى لها في قادم الأيام.

***

محسن الورداشي -  متحصل على الإجازة في اللسانيات

هذه نسائم الشعر الاصيل في هذا الصباح الربيعي. قصيدة تحمل صياغة فنية ببراعة مدهشة ورؤية ورسالة تستلهم صميم موجودات التراث الحضاري والانساني والديني، وتطعيمها من حروف الحرير، لكي تكون السند الاساسي في رحلة هذه الرسالة في الارتقاء  الى العلى، وغايتها نقل الانسان من ضفة حالة الاختناق الى حالة أو ضفة آخرى واسعة ورحبة، يتنفس فيها الصعداء في النسائم الربيعية. أما صياغتها الفنية فمقوماتها خبز اللغة والبلاغة المتألقة الى القمة في الجمال والإغراء والغواية،، لتكون هديلاً  من النغم والإيقاع الموسيقي، الذي ينساب بعذوبة وشفافية كمياه الشلال مصاحبة بصدى الهديل النغمي. عند السماوي الكبير الشعر يغسل ويعجن بالماء الكوثر من رونقة الشعر الاصيل، يرتكز على مقومات الاستلهام ما نتج من براعة التراث الحضاري والانساني والديني، وبالتالي كل مقطع شعري هو سمفونية قائمة بذاتها، أو كل هديل شعري يحمل رسالة، ومجموع هذه الرسائل تصب في مرام واحد في غاية الاهمية وفي نسق متدرج، وصولا الى وضوح الرسالة الهادفة في صورتها المتكاملة الكاملة، من البداية من العنوان المعناطيسي الجذاب: الإفطار الاخير. يستلهم عينة ومرام المرادف في العشاء الاخير للسيد المسيح، حين جمع تلاميذه وغمس بيده ارغفة الخبز غمسها بالنبيذ في مأدبة العشاء الاخير وقال لهم: انطلقوا في رسالتكم فأنتم رسل المحبة والسلام، والسماوي الكبير ينطلق برحلته العشقية / الايروتيكية صباحاً ويشد رحاله في هذا المسير الطويل أو الرحلة الطويلة، لكي يرتوي من وحشية العطش الى الارتوى من ماء الكوثر، لكي يقطف ثمار الجنة، هذا الاستلهام المدهش بين الرسالتين، بين الخبز المغمس بالنبيذ، وبين الافطار الاخير، ليسد جوعه وعطشه الوحشي من اللثم:

مُـخَـرَّزًا بـالـعـطـشِ الـوحـشـيِّ لـلـكـوثـرِ..

والـجـوعِ لأشـهـى ثَـمَـرِ الـجـنَّـةِ..

هَـيَّـأتُ

قِـرى إفـطـاريَ الأخـيـرْ

هذا التمازج بين الرسالتين، رسالة  المحبة والسلام في الاولى، وفي الثانية رحلة العشق الايروتيكي في رحلة المسار والمسير الطويل، في الانطلاق الروحي، حتى الوصول الى فردوس اوروك، وهو المبتغى والمرتجى، لكي يبدل بالغربة الوطن، أو بمملكة الهديل، حتى لو كان في نفق السبعين، فأن معجزة الحب تعيده من جديد الى مرحلة الصبا. نحو السرير الوردي لكي يغفو:

وهـا أنـا

بـعـد دخـولـي نَـفَـقَ "الـسـبـعـيـنَ"

قـد عُـدتُ الـى صِـبـايْ

في هذه الرحلة نحو مملكة العشق الايروتيكي، يقوم بها رسولان هما، الهة الحب اينانا، ورمز البطولة والجسارة انكيدو:

يـشـدُّنـي حَـبـلٌ مـن الـضـوءِ الـى سـريـركِ الـوردِيِّ..

أغـفـو مُـطـبِـقـًا فـمـي عـلـى مـبـسَـمِـكِ الـنـديِّ..

أســتـيـقـظُ "أنـكـيـدو" جـديـدًا

أنـتِ "إيـنـانـايْ"

هذه مملكة الحب المبجلة، نشيدها هديل ونغم، وليس نشيدها (لاحت رؤوس الحرابِ / تلمع بين الروابي / هاكم وقود الشبابِ......) أو نشيد (احنه مشينا للحرب) اما رايتها فهي: ناي وربابة، وليس رايات حزبية وطائفية. وشرطتها تحمل الورود، وليس الرصاص أو القنابل الدخانية التي تخترق جماجم الشباب:

مـمـمـلـكـةً نَـشِــيـدُهـا الـهـديـلُ..

والـشـرطـةُ فـيـهـا تـحـمـلُ الـورودَ لا الـرّصاصَ..

والـرَّايـةُ يـاحـبـيـبـتـي: ربـابـةٌ

ونـايْ

مثلما في بيت الله المقدس (الكعبة) يطوف الحاج حول البيت سبعاً ويصلي صلاة الشكر. في المبتغى في رحلة العشق الايروتيكي، يطوف حول السرير الحريري ويصلي صلاة الشكر على سجّادة الشَّعر الحريري:

أطـوفُ حـولَ بـدرِكِ الـتـمـامِ ســـبـعـًـا..

وأُصَـلِّـيْ رُكـعَـتَـيْ شــكـرٍ

عـلـى سـجّـادةٍ مـن شَـعـرِكِ الـحـريـرِ..

أتـلـو مـا تُـيَـسِّـريـن مـن هـديـلِـكِ الـشـجـيِّ لـيْ..

فـمـا الـذي أرجـوهُ مـن لـذائـذِ الـدنـيـا؟

ومـا عـسـايْ؟

ليقطف ما يشاء من ثمار الجنة. التين والزيتون والرمان، في هالة انهار ضوئية والنجم في هالة البدر، والشوق المرهف والمتلهف يقوده الى سريرها الخمري (ها أنا هيئت لك، فأقطف من ثماري بما تشاء):

أقـودُ:

أنـهـاري الـى حُـقـولِـكِ الـضـوئـيَّـةِ الأشـجـارِ..

والـنـجـمَ الـى بـدرِكِ..

والـدَّلـوَ الـى بـئـرِكِ..

والـشـوقَ الـى خِـدرِكِ..

والأمـسَ الـى يـومِـكِ يـا:

أنـايْ

ولكن السؤال الأهم والاصعب، كيفية الوصول الى (ايثاكا) أو الى مملكة هديل العشق في فردوس اوروك، كيفية البلوغ. هل بدبابة غربية أو شرقية؟، أم  بسطوة (سليمان) أو عصا موسى التي شقت البحر؟:

لـسـتُ "سُــلـيـمـانَ"

فـكـيـفَ جـاءنـي بـعـرشِـكِ الـعـشـقُ؟

ولا "مـوسـى"

فـكـيـفَ ابـتـلـعَـتْ كـلَّ ثـعـابـيـنِ الـضـلالِ والأسـى.

عَـصـايْ؟

ليس بهذه الطرق الملتوية:

فأنا لـسـتُ "سُــلـيـمـانَ"

فـكـيـفَ جـاءنـي بـعـرشِـكِ الـعـشـقُ؟

ولا "مـوسـى"

فـكـيـفَ ابـتـلـعَـتْ كـلَّ ثـعـابـيـنِ الـضـلالِ والأسـى

عَـصـايْ؟

ليس بهذه الطرق الملتوية والماكرة، لقد انكشف الظاهر والمخفي ولم يعد التستر على العورة، كل الاشياء فضحت نفسها بنفسها، اصبحت رسل الضلال ثعابين، وانكسرت عصا موسى، اصبحت أفاعي سامة، وانما بإرادة وقوة الحب، بالحب تنتصر الحياة على كل الاشياء، بالحب يستقيم العدل، وليس للحياة إلا الحب والعشق. فهي رسالة خالدة تتجدد على الدوام.

ليس لي إلا ان اقول ايها السماوي: الشعر يتوج بك انت ايها الكبير.

***

جمعة عبدالله

 ......................................

يحيى السماوي: إفطاريَ الأخير

مُـخَـرَّزًا بـالـعـطـشِ الـوحـشـيِّ لـلـكـوثـرِ..

والـجـوعِ لأشـهـى ثَـمَـرِ الـجـنَّـةِ..

هَـيَّـأتُ

قِـرى إفـطـاريَ الأخـيـرْ:(1)

*

رغـيـفُ خـبـزٍ مـن طـحـيـنِ الـلـثـمِ

فـي صـحـنٍ مـن الـعـنـاقِ

فـي مـائـدةِ الـسـريـرْ

*

وكـأسُ زنـجـبـيـلَ مـن قـارورةٍ

نـمـيـرُهـا:

مـا تُـطـلِـقـيـن لـحـظـةَ امـتـزاجِ مـاءَيـنـا مـن

الـزفـيـرْ

*

إفـطـارُ مَـعـمـودٍ غـريـبِ الـقـلـبِ لا الـديـارِ

أضـنـاهُ الـسُّـرى

تـكـادُ عـيـنـاهُ مـن الأجـفـانِ تـسـتـجـيـرْ

*

يُـسـمِـنُ لـيْ روحـي(2)

ويُـغـنـيـنـي عـن الـجـوعِ إذا طـالَ بـيَ

الـمـسـيـرْ

*

فـي رحـلـتـي الـمـجـهـولـةِ

الـمـصـيـرْ

*

بـحـثـًا

عـن الـفـردوس فـي "أوروكَ"

يـا مـعـنـايْ

*

ومـا أضـعـتُ مـن فـصـولِ الـعـمـرِ

فـي مـنـفـايْ

*

سـأمْـسِـكُ الانَ عـن الـبـحـثِ

فـقـد وجـدتُ فـي إفـطـاريَ الأخـيـرِ

مُـبـتـغـايْ

*

حـبُّـكِ مـن أعـادَنـي إلـيَّ بـعـدَ غـربـةٍ

كـنـتُ بـهـا سِـوايْ

*

وهـا أنـا

بـعـد دخـولـي نَـفَـقَ "الـسـبـعـيـنَ"

قـد عُـدتُ الـى صِـبـايْ

*

أجـوبُ فـي بُـسـتـانِـكِ الـمُـمـتـدِّ

مـن بـدايـةِ الـدنـيـا

الـى آخـرِ مُـنـتـهـايْ:

*

أشـمُّ مـن نـخـيـلِـكِ الـطَّـلْـعَ ..(3)

ويَـسـتـثـيـرُنـي جُـمّـارُكِ الـبَـضُّ..

ويـسـتـفـزُّ تـنُّـورُكِ مـحـراثـي ..

وزهـرُ الـكَـرَزِ الـخـبـيءُ يـسـتـحِـثُّ مـا ادَّخـرتُ مـن جـمـري

ومـن نـدايْ

*

يـشـدُّنـي حَـبـلٌ مـن الـضـوءِ الـى سـريـركِ الـوردِيِّ..(4)

أغـفـو مُـطـبِـقـًا فـمـي عـلـى مـبـسَـمِـكِ الـنـديِّ ..

أســتـيـقـظُ "أنـكـيـدو" جـديـدًا

أنـتِ "إيـنـانـايْ"

*

مـن أيـن نـمـشـي فـالـدروبُ تـقـتـفـي ظِـلَّـكِ

أو خُـطـايْ

*

نُـطـرِّزُ الـصـحـراءَ بـالـواحـاتِ ..

والـغـدرانَ بـالـظـبـاءِ والـغـزلانِ..

نـبـنـي لـلـهـوى مـمـلـكـةً

يُـحـيـطُـهــا مـن جـهـةِ الـصّـبـاحِ سـاعـداكِ..

أمّـا جـهـةِ الـلـيـلِ فـسـاعـدايْ

*

مـمـمـلـكـةً نَـشِــيـدُهـا الـهـديـلُ ..

والـشـرطـةُ فـيـهـا تـحـمـلُ الـورودَ لا الـرّصاصَ..

والـرَّايـةُ يـاحـبـيـبـتـي: ربـابـةٌ

ونـايْ

*

تُـطـبِـقُ أجـفـانَـهـمـا عـلـيـكِ كـلَّ لـيـلـةٍ

عـيـنـايْ

*

أفـتـحُ أجـفـانـي عـلـى هُـدهُـدِكِ الـبـشـيـرِ بـالـهـدى وبـالـغـفـرانِ..

أتـلـو سُــوَرَ الـتـوبـةِ والإسـراءِ والـحـجِّ

فـيـغـدو ألـقًـا دُجـايْ

*

أطـوفُ حـولَ بـدرِكِ الـتـمـامِ ســـبـعـًـا ..

وأُصَـلِّـيْ رُكـعَـتَـيْ شــكـرٍ

عـلـى سـجّـادةٍ مـن شَـعـرِكِ الـحـريـرِ ..

أتـلـو مـا تُـيَـسِّـريـن مـن هـديـلِـكِ الـشـجـيِّ لـيْ ..

فـمـا الـذي أرجـوهُ مـن لـذائـذِ الـدنـيـا؟

ومـا عـسـايْ؟

*

تـقـطـفُ مـا تـشـاءُ مـن تـيـنٍ وزيـتـونٍ ورمّـانٍ

فـتـمـلآنِ سَــلَّـةَ الـمـنـى

يَـدايْ

*

أقـودُ:

أنـهـاري الـى حُـقـولِـكِ الـضـوئـيَّـةِ الأشـجـارِ..

والـنـجـمَ الـى بـدرِكِ..

والـدَّلـوَ الـى بـئـرِكِ..

والـشـوقَ الـى خِـدرِكِ..

والأمـسَ الـى يـومِـكِ يـا:

أنـايْ

*

لـسـتُ "سُــلـيـمـانَ"

فـكـيـفَ جـاءنـي بـعـرشِـكِ الـعـشـقُ؟

ولا "مـوسـى"

فـكـيـفَ ابـتـلـعَـتْ كـلَّ ثـعـابـيـنِ الـضـلالِ والأسـى

عَـصـايْ؟

***

يحيى السماوي

السماوة فجر الأربعاء 10/4/2024

..................

(1) القِرى ـ بكسر القاف: الطعام الذي يُقدم تكريما للضيف.

(2) إشارة الى قوله تعالى في سورة الغاشية: (لا يُسمن ولا يغني من جوع)

(3) الطلع: الثمر في وعائه كما في قوله تعالى: (والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نضيدٌ). والجُمّار / بضم الجيم وتضعيف الميم، جمع، واحدته جُمّارة: هو  قلب النخلة ويقع في قمّتها، له رائحة ذكية وطعم لذيذ.

(4) أنكيدو: من الشخصيات المحورية في ملحمة كلكامش، كان شبه وحش، يعيش مع الحيوانات في الغابة، ولكن الحبّ قد جعل منه إنسانا سويّا.. و إينانا: هي إلهة الحب والجمال والجنس والخصوبة والحرب والعدالة في ملحمة كلكامش.

في عالم يتسم بالتقلبات الدائمة والتحديات المستمرة، يبرز الشاعر المغربي الحسين العبويدي كصوت شعري يعكس العمق الإنساني والروابط المعقدة التي تُنسج بين الأفراد. في زمن يمكن أن يشعر فيه الأفراد بالعزلة وسط الضجيج الدائم والانقطاع التكنولوجي، تأتي قصائده لتعيد تعريف اللحظات البسيطة التي تُغني حياتنا اليومية، وتُبرز كيف يمكن للشعر أن يكون جسرًا يعبر به الإنسان نحو تفهم أعمق لذاته وللآخرين. القصيدة التي نحن بصدد تحليلها، تأخذنا في رحلة شعرية عبر الذكريات والصداقات، معيدةً تشكيل معاني الحياة اليومية واللحظات الثمينة التي نشترك فيها مع الآخرين. من خلال لغته الشاعرية الغنية وصوره البلاغية القوية، يكشف العبويدي عن الأبعاد العميقة للعلاقات الإنسانية وتأثيرها في تحملنا لصروف الدهر. القصيدة ليست مجرد تسجيل للأحداث، بل هي استكشاف للتفاعلات العميقة والتأثيرات المتبادلة بين الأصدقاء التي تُعطي الحياة قيمتها ومعناها. عبر استخدامه للمجاز والرمز، يُنظم العبويدي لوحات شعرية تفيض بالحساسية والدقة، مُظهرًا ببراعة كيف أن اللحظات اليومية - سواء كانت جميلة أو مؤلمة - تُسهم في نسج خيوط معقدة من الذاكرة والهوية. في هذه الرحلة الشعرية، يدعونا العبويدي لنغوص معه في أعماق النفس البشرية، لنستخلص منها دروسًا عن الصداقة، الحب، والتعاطف، التي تحمل بين طياتها القوة الكامنة في التغلب على الصعاب والمحن.

في هذا المقال، سنستكشف كيف يعالج العبويدي هذه الموضوعات بعمق وحساسية، مُقدمًا لنا نافذةً نطل منها على العالم الداخلي للإنسان وكيف يمكن للشعر أن يكون مرآة تعكس جمال وتعقيدات الحياة. في قصيدته، يستخدم الشاعر الحسين العبويدي مجموعة من المقارنات الشعرية التي تفتح آفاقًا جديدة لفهم العلاقات الإنسانية وأهميتها في تحقيق التوازن والرضا النفسي. من خلال تشبيه الأصدقاء بحبات الرمل ونجوم السماء، يُبرز الشاعر ليس فقط كثرتهم وأهميتهم، بل أيضًا يلمح إلى أن كل صديق يحمل خصائص فريدة تُسهم في تكوين شخصية الفرد، تمامًا كما تتفرد كل نجمة في السماء بلمعانها. هذه الصور البلاغية تعمل على مستويات متعددة؛ فهي تعكس الجمال والعظمة، وفي نفس الوقت تُظهر كيف يمكن لهذه العلاقات أن تملأ الفراغ الوجودي الذي قد يشعر به الفرد في لحظات من الوحدة أو الشك. العلاقات الإنسانية، كما يراها العبويدي، تُقدم الدعم والأمان، وتُعزز من قدرة الفرد على مواجهة التحديات اليومية.  الشاعر يُسلط الضوء أيضًا على الطقوس اليومية البسيطة مثل اللعب، تبادل القصص، وشرب الشاي، والتي تُعتبر من اللحظات الثمينة التي تُعمق الروابط الإنسانية. هذه اللحظات لا تُعتبر مجرد تسلية، بل هي جزء أساسي في بناء وتعزيز العلاقات. من خلال هذه التجمعات الصغيرة، يتم تبادل الأفكار والمشاعر والتجارب التي تُثري الفهم المتبادل وتُنمي الشعور بالانتماء. إضافة إلى ذلك، يُظهر العبويدي كيف أن هذه التجارب المشتركة تُعتبر مصدرًا للقوة والإلهام. الأصدقاء يُصبحون مثل المرايا التي تعكس أفضل ما فينا، وتساعدنا على رؤية أنفسنا بوضوح أكبر. هم أيضًا الشبكة الأمان التي تُمكننا من التعبير عن أحلامنا ومخاوفنا دون خوف من الحكم أو الرفض.

من خلال هذه القصيدة، يُبرهن العبويدي على أهمية الصداقة والذكريات في حياة الفرد، مؤكدًا على أن هذه العلاقات هي جوهر الحياة الإنسانية، وأن الشعر يمكن أن يكون وسيلة لاستكشاف وتقدير هذه العلاقات بعمق وحساسية أكبر.

تطور العلاقات الإنسانية في شعر العبويدي

مع تقدم القصيدة، يعمق الشاعر الحسين العبويدي استكشافه للعلاقات الإنسانية، مُبرزًا كيف تُشكل اللحظات المشتركة بين الأصدقاء نسيج هذه العلاقات. هذه اللحظات، سواء كانت تجمعات عفوية حول فنجان من الشاي أو جلسات مسائية لتبادل القصص، تعمل كلحظات حقيقية للتواصل والفهم المتبادل. الشاعر يوضح كيف أن الفرح والألم الذي يتشاركه الأصدقاء يُسهم في تعميق الروابط وتقوية الصداقات. خاصةً خلال التحديات والأزمات، تصبح هذه العلاقات مصدر دعم وقوة، حيث يستمد الأفراد القوة من بعضهم البعض في مواجهة المحن. في هذا السياق، يبرز العبويدي الأهمية الحيوية للصداقات في تحمل صروف الحياة. هذه اللحظات المشتركة تمثل أكثر من مجرد تجمعات اجتماعية؛ فهي تُعلمنا عن قيمة الصبر، التسامح، والدعم المتبادل. يُظهر الشاعر كيف يمكن للأصدقاء أن يساعدوا بعضهم البعض على تجاوز الخلافات والمحن، مما يُسهم في بناء ذكريات مشتركة تُثري العلاقة وتزيدها قوة ومتانة.

الصور الشعرية والأسلوب اللغوي

الشاعر العبويدي يتقن استخدام صور شعرية معبرة تعكس الدفء والقرب في العلاقات الإنسانية. استخدامه للشاي والقصص كرموز للتواصل والانسجام يُظهر كيف يمكن لهذه الأنشطة البسيطة أن تكون جسوراً للعبور نحو تفهم أعمق للآخر. كما أن إشاراته إلى الفضاء والرمل تُبرز الغموض والوسع، مما يُعزز الفكرة القائلة بأن الصداقات والذكريات تحمل تعقيدات وأبعادًا كبيرة كالكون نفسه. اللغة التي يستخدمها العبويدي تُعبر عن عمق عاطفي شديد، مُقدمة تأملات فلسفية حول الحياة والعلاقات الإنسانية. يُجيد الشاعر استخدام التناقضات والمفارقات، مما يُبرز التعقيدات في الحياة البشرية بطريقة تُحفز التفكير. هذه الأساليب اللغوية لا تُعزز فقط من جمال النص الشعري، بل تُعمق من قدرته على التأثير في القارئ ودفعه للتأمل في الطبيعة الحقيقية للعلاقات الإنسانية. من خلال هذا الأسلوب الغني والمُعبر، يدعونا العبويدي للنظر إلى الصداقة كعنصر أساسي في الحياة، وكقوة قادرة على تحويل التجارب الشخصية إلى روابط عميقة تحمل معاني أكبر من مجرد اللقاءات العابرة.

في ختام هذه الرحلة الشعرية مع الحسين العبويدي، نجد أنفسنا أمام فهم أعمق للطبيعة البشرية والروابط التي تشكل جوهر وجودنا. القصيدة التي تناولناها لا تمثل مجرد تأملات في الذكريات والصداقة، بل تعبير عن كيفية تأثير هذه العلاقات في تشكيل هوياتنا وإثراء تجاربنا الإنسانية. من خلال الصور الشعرية الدافئة والأسلوب اللغوي الغني، يكشف العبويدي عن القدرة الهائلة للشعر على توصيل الأحاسيس العميقة والمعقدة، مما يجعل القارئ يشعر بالتقارب مع الأبعاد الأكثر دقة في الحياة. الشعر، كما يُظهره العبويدي، هو أكثر من مجرد كلمات مكتوبة على صفحة؛ إنه نداء للقلب والروح، دعوة للتأمل في الأواصر التي تربطنا بالآخرين وكيفية تأثيرها في صياغة معاني حياتنا. في عالم يبدو أحياناً مفككاً ومنقسماً، يذكرنا شعر العبويدي بأهمية اللحظات البسيطة، تلك اللحظات المشتركة التي تبني جسور التفاهم والمحبة بين الناس. إذاً، بينما نطوي صفحات هذه القصيدة، نُدرك أن الصداقة والذكريات التي نتشاركها لا تعزز فقط من قوتنا الشخصية، بل تساهم في نسج نسيج مجتمعي أكثر ترابطاً وفهماً. هكذا يبقى الشعر، بألقه وقوته، وسيلة لا تنضب لاستكشاف الإنسانية والإحتفاء بالجمال الذي يُمكن أن ينشأ حتى من أدق التفاصيل في حياتنا اليومية.

***

زكية خيرهم

منظومة القيم إلى أين؟

شهد عالمنا خلال نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي مجموعة من التغيرات التي قلبت موازين العالم ومعها الأنظمة الاجتماعية، من خلال الاكتساح المهول للتكنولوجيا الحديثة وما رافقها من تغييرات في النظم الاجتماعية، فنحن نعيش زمنَ جيمس ويب (JAMES WEBB)، وعصر الذكاء الاصطناعي_ و من مظاهره برنامج شات جي بي تي ((CHAT GPT [1])_ وأصبحنا بموقع السّائل الحائر حيال مواضيع المجتمع والتاريخ والإنسان، في عالم سريع التحوّل والارتقاء من صورة إلى أخرى؛ عالم لا يمكن كبح جماحه في سيرورة التغيير، خاصة في صورته المتشكّلة بالزحف التقنيّ والتكنولوجيّ، حتّى غدونا نتحدّث عن أطروحات "نهاية التاريخ (THE END OF HISTORY)" و "ما بعد الإنسانية (TRANSHUMANISM)" و" المجتمع الرقمي (DIGITAL COMMUNITY)"  [2] ؛ ولقد صدقت نبوءة ستيف كوتش (Steve cutts) [3]حول مستقبل العلاقات الاجتماعية تحت ظل التكنولوجيا ونظرته التشاؤمية التي اعتقد الكثير وقتها أنها مبالغ فيها وتنزع نحو الخيال، غير أننا اليوم نعيش على وقع تداعيات اجتماعية خطيرة كانت لعهد قريب مجرد خيال خطه مخيال كوتس في فيلمه الشهير MAN) [4]).

وانضافت إلى معضلة التكنولوجيا ما يعيشه العالم اليوم من صراعات وحروب ونزاعات في شتى بقاع العالم، وأصبح معها العالم يئن جراء ويلات هذه الحروب، التي حولت العالم أو تكاد إلى يباب، فكان لزاما أن تعيش الإنسانية اليوم، صراعا قيميا واضحا زكاه التسويق لما اصطلح عليه اليوم ب «القيم العالمية"، التي أصّلت لها ثلاث قوى متداخلة ومتشابكة تصب مصالحها في معين واحد؛

أولها: الدول الكبرى التي تمتلك في يدها حصة الأسد من القوة والسلطة، ساعية إلى بسط سيطرتها على العالم تحت مسمى القيم العالمية التي تروج لها، بل وتتخذها مطية مشروعة لمزيد من الهيمنة والامبريالية الناعمة.

ثانيها: الشركات الاقتصادية المتغولة التي حاولت تسليع البشرية والدفع بها إلى نوع من السلوكيات المتجهة دوما نحو الإنتاج والاستهلاك بناء على مواثيق العولمة وما تفرضه من جشع.

ثالثها: مؤسسات الأمم المتحدة التي أصبحت هي الأخرى تفرض على العالم منظومات قيمية تخدم مصالح القوى السابقة وتستظل بظلالها، فتحولت بذلك موازين القوى في العالم بفضل ما تحقق لهذه المؤسسات الثلاث من انتعاش غير مسبوق على جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية.

فتسللت يدها فطاولت الجانب الفكري والثقافي وكذا السلوك الاجتماعي القيمي، إذ لا يمكن فصل الجانب الاجتماعي عن المجالات الأخرى التي غزتها التكنولوجيا كالصناعة والتجارة والسياسة وكذا منظومة التعليم والقيم، فقد امتزجت هذه الأخيرة مع مختلف التغيرات لتنذر بوضع كارثي لا يمكن تصوره، فتعرضت القيم الإنسانية إلى الكثير من الإقصاء والتهميش والنبذ، فلم تعد الدول تتمتع بذاك القدر الضروري من الخصوصية الفكرية والدينية والحضارية، ففتحت الباب على مصراعيه أمام اكتساح القيم العالمية أو ما اصطلح عليه ب"الشرعية الدولية" التي طالت فيما سبق الجانبين السياسي والعسكري، لتتخذ الحرب هذه المرة بعدا فكريا لتتسلل هيمنتها إلى ما يتعلق بالحقوق والحريات بما فيها حقوق الإنسان والمرأة والطفل ومفهوم الأسرة ومنظومة التعليم،  وباتت تبرز على السطح الفوضى الأخلاقية المستفحلة خاصة في وقتنا الحالي الذي عرف هزة اجتماعية أخلاقية تهدد منظومة القيم، ليستفحل الأمر أكثر فأكثر أمام فشل اجتماعي لمؤسسات التنشئة الاجتماعية خاصة مؤسستا الأسرة والتعليم وسط شلل تام لباقي المؤسسات، فبتنا ننتظر مستقبلا مجهولا وضبابيا  يزداد الأمر معه سوءًا، إذ نسجل غيابا تاما للوعي بخطورة هذه المستجدات ،وكذا غياب الوعي بالقيم الملائمة لخصوصياتنا الحضارية،  لذا فنحن نقول مع المفكر المغربي  المهدي المنجرة:  "أن يكون الانسان واعيا بقيمة القيم فتلك قيمة في حد ذاتها "[5] لذلك فلا عجب إن أصبح موضوع القيم من المواضيع التي استأثرت باهتمام الباحثين على تعدد مذاهبهم ومشاربهم الثقافية والأيديولوجية والفكرية ،خاصة وأنه موضوع يرتبط أساسا بفطرة الإنسان في تعدّده النفسي و الاجتماعي والثقافي، ولعلنا نركز بشيء من التفصيل في مقالتنا هاته على البعد الثقافي ، بالذات ما يرتبط بالشعر القيمي في  لامية العرب .

يتبع...

***

لطيفة أثر رحمة الله

......................

[1]  نقصد مقراب جيمس ويب الفضائي، الذي أطلق في 25 ديسمبر 2021، وهو مرصد فضائي طُوِّر بشكل مباشر من قِبل ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية الكندية سيمكن مجموعة واسعة من التحقيقات في مجاليّ علم الفلك وعلم الكون، بما في ذلك رصد بعض الأحداث والأجرام الفلكية الأكثر بُعدًا في الكون .

شات جي بي تي في أبسط تعاريفه نظام روبوتي اصطناعي للمحادثة يحاكي الذكاء البشري أُصدر لعامة الناس سنة 2022

[2] تمثل هذه الأطروحات الفكرية تتويجا لمرحلة إنسانية جديدة تغوّلت فيه التقنية مقتحمة هدوء البشرية، فارضةً نمط حياة جديد، خالقة ما يسمى بالإنسان "المعزَّز تقنيا" إزاء اقتراب نهاية الكائن البشري الكلاسيكي. ولعلّ الإنسانية، بهذا المعنى، انتقلت من السعي إلى الخلود في الأساطير الجلجامشية والثقافة الفرعونية، إلى البحث عن السوبرمان (الإنسان الخارق) في الفلسفة النتشوية، بالغةً شوط التماهي مع التقنية، أو ما عبّر عنه راي كير زويل (Ray Kurzweil) بالآلات الروحيّة في كتابه " عصر الآلات الروحية " (THE AGE OF SPIRITUAL MACHINES)، أو أر إيه بوكانان في كتابه " الآلة قوة وسلطة ".

[3] ستيف كوتس sterve cutts رسام بريطاني متخصص في الكاريكاتور والرسوم المتحركة وهو من أكثر رسامي الكاريكاتور وأفلام الصور المتحركة شهرة وأكثرهم شهرة في نقد الرأسمالية الجشعة، عمل عدة سنوات رساما في وكالة لندن للإبداع ضمن المشاريع الرقمية (ديجيتال) لمجموعة واسعة من العملاء بمن فيهم شركة غوغل وريبوك ونوكيا وسوني وتويوتا .

[4] يرصد فيلم MAN خلال ثلاث دقائق فقط وصفا مؤثرا عن تغير العالم في كرتنا الأرضية منذ وجد الإنسان عليها وكيف عاث فيها خرابا إلى اليوم الذي يحل عليها غرباء من الفضاء الخارجي فلا يجدون في الأرض سوى الخراب والدمارـ

[5] المهدي المنجرة: قيمة القيم، المركز الثقافي العربي الطبعة 2 مارس 2007 ص 14.

 

المجموعة القصصية "رقصة الغربان" لنور الدين خروب

يتشكل فسيفساء الكتابة من عوالم النص وعوالم موازية يختلف حضورها داخل بنية الكتابة النصية، الأثر وما يدل عليه، أو الحضور والغياب، مفهوم يتقاطع مع حوارية ميخائيل باختين وتناص جوليا كريستيفا، حيث يصبح الأثر الأدبي نسيج علاقات متعددة، وهي منطلقات تشكل تصورا منفتحا على النص في سياقاته المتعددة، الأمر الذي يجعل النص معطى لقراءات تأويلية لانهائية، ومن هذا المنطلق نسائل المجموعة القصصية "رقصة الغربان" لنور الدين خروب الصادرة عن دار بصمة للنشر والتوزيع، ط 1، 2024.

يقوم العالم القصصي لنور الدين خروب على مصادر مختلفة تؤثث عوالم قصصه، غير أن حضور البعد الاجتماعي الواقعي، يظل السمة المهيمنة على مجمل قصص "رقصة الغربان"، فالارتباط بمجتمع مليء بالتناقضات، جعل الكاتب يتوغل في بنيته لتعرية المسكوت عنه واللامفكر فيه من خلال أحداث تمزج بين الواقعية والرمزية في توليفة إبداعية تميز الخصائص الأسلوبية للكاتب في رسم معالم تجربته الإبداعية.

وإلى جانب البعد الاجتماعي الواقعي، يحضر البعد الفونتاستيكي بدرجة أقل، لاسيما في قصتي "البطل الذي.." و"البطلة التي.."، وهو ما يمنح المجموعة القصصية فرادتها، الفرادة التي استطاعت أن تشكل فسيفساء من النصوص بأبعاد مختلفة، وذات مقصدية أخلاقية سامية موجهة إلى المجتمع من أجل التغيير، نصوص أشبه بمرآة نرى فيها واقعنا القاتم والبشع، إنه تحقق لرغبات اللاشعور الجمعي الذي يحول هدف الرغبة الحقيقي إلى هدف أقل إيلاما عن طريق ميكانيزمات اللاوعي.

البعد الاجتماعي

يكشف البعد الاجتماعي في المجموعة القصصية "رقصة الغربان" عن تعلق الكاتب بواقع متفسخ أخلاقيا، وبيئة اجتماعية متناقضة لامفكر فيها أو مسكوت عنها، فلم يكن منه إلا أن حمل معول الإبداع لكسر تماثيل الذات الواهمة، والتي ليست سوى ذات القارئ، في قالب قصصي محكم البناء، ولغة سلسة ترسم مشاهد الأحداث بعناية فائقة كما في قصة "حب فوق الجسر" التي جاء فيها: "استيقظت أمي العالية قبل أن ينبلج ضوء الفجر ليوضح الألوان وراء أشجار الزيتون، با العربي ذهب للسوق رغبة منه في التخلص من شنبه مقابل ورقة نقدية خضراء، قالت أمي العالية أن ابن البيولي سيزيده أخرى إن فعل" ص: 6.

يغلف نور الدين خروب عوالمه القصصية بالرموز، با العربي الذي حلق شاربه مقابل مال البيولي، وانقلاب حياته رأسا على عقب بعد ذلك، هي في الحقيقة تأثر الكاتب بتأثير الاستعمار الفرنسي في المجتمع المغربي، الذي اشترى كرامة البسطاء بالمال، وفي معادلة إبداعية بسيطة، استطاع الكاتب بمماحكته اللغوية، ونسج الأحداث المعتمد على الثقافة والبيئة الاجتماعية، ربط الشارب بالكرامة، وهو في الواقع كناية عن الإنسان المهزوم الذي باع روحه/إنسانيته للشيطان، ولم يكن ذلك من أجل المعرفة كما فعل فاوست بل من أجل المال، وهو انتقاد مضمر أيضا للنظام الرأسمالي الذي حول كل شيء إلى سلعة قابلة للبيع والشراء، الكرامة/سلعة والأنفة/سلعة والحرية/سلعة، هذا التجزيء الذي يقود في النهاية إلى جعل الإنسان/سلعة، الاستعباد في ظل نظام كولونيالي رأسمالي ظل جاثما على صدور المستضعفين من المجتمع، والذين لا يملكون في هذه الحياة غير كرامتهم.

ويبلغ انتقاد سلوكات المجتمع أشده في قصة "فوضى أكتوبر"، حيث يظهر الكاتب بشكل جلي تفسخ العلاقات الاجتماعية، والانحلال الأخلاقي، في قالب إبداعي يشهد على براعة الكاتب في تحويل البشع القبيح إلى لغة الإبداع بالمعنى المطلق للكلمة، فها هو ينتقد العلاقات غير الشرعية التي تفشت في المجتمع على لسان السارد الذي ظل مترددا في سرد الأحداث، وهو يختبئ خلف ضمير المتكلم المفرد، حيث يبدي وجهة نظره في الحب، والتي تكشف عن أحداث كان السارد بؤرتها الدلالية: "الحب إذن هو تلك الفوضى العائمة في سرير أكتوبر دون احتساب عدد الأطفال المخنوقين في العوازل ومناديل الورق، الأطفال الذين يتسلقون شاحنات البلدية باكرا ويذهبون إلى الحمام قبل أن يأخذوا طريقهم إلى المدرسة وسط الأشجار ليقفوا في صف المطعم المدرسي في الثانية عشرة تماما. هل فكرت يوما كم من طفل وسيم أرسلناه إلى القمامة بدل أن نضع في يده شوكلاتة ونرسله إلى الروض" ص:12، أطفال القمامة هم أنفسهم أطفال الشوارع الذين يزداد عددهم بشكل مخيف، ألا يحق للضمير الفطن، والفطرة السليمة، أن تكتب الجرح إبداعا؟

يسلط نور الدين خروب الضوء على أحداثة هامشية، أو طابوهات يخشى الكل الحديث عنها، لاستفزازها الشعور الجمعي، لكن القالب القصصي خفف من وطئها، وكأننا أمام تطهير قصصي لكل ذات قارئة.

أما في قصة "خيانة تنزف دما" فقد مزج الكاتب بين البعدين الاجتماعي والرمزي في تشكيل عوالم هذه القصة، خيانة الأنثى التي أغلقت كل سبيل ممكن للعيش، الخيانة التي تجعل الحياة مستحيلة كما في نهاية القصة التي جاء فيها "حاولت الغزالة أن تنسب الآثار له غير أن المنديل المطروح فوق السرير لم يكن له، افتضح أمرها فاندفعت نحوه بقوة لتضمه إلى صدرها رغبة في الصفح لكنها غرست قرنيها في صدره سهوا. وبعد حين من البكاء، شعرت بحبه يطوق رأسها دما ويرسم الخيانة عند قدميها" ص: 29

يهيمن البعد الاجتماعي على البناء الدرامي لأحداث المجموعة القصصية، حيث ينتشر الفقر والخيانة والغدر والانحلال الأخلاقي... غير أن نور الدين خروب استطاع أن يحول كل هذه الأمراض الاجتماعية إلى قصص تغلفها الرمزية، أو المزج بين البعدين الاجتماعي والرمزي، وهي السمة التي تميز خصائص الكتابة الخروبية.

البعد الفونتاستيكي

إذا كان البعد الاجتماعي مهيمنا في نصوص المجموعة القصصية "رقصة الغربان" فإن البعد الفونتاستيكي لا يقل أهمية رغم تجلياته الواضحة في القصتين الأخيرتين فقط، ففي قصة "البطل الذي.." يعمد الكاتب إلى تقنية الكتابة داخل الكتابة، على منوال براندلو في رائعته "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، حيث يتوجه السارد إلى إحدى شخصياته الثائرة التي تريد تغيير مجرى الأحداث ضد رغبة الكاتب، الشخصية التي ترفض الانصياع للسارد في قتل إلهام، ومحاولة الشخصية إقناعه بالعدول عن هذا الفعل الشنيع، كما هو الأمر في المقطع التالي ص ص: 68 69

- قلت لك، عش ما أكتب فأنا الذي صنعتكما وزرعت في صدركما كل الأحاسيس. لقد طلبت منك أن تقتلها فاقتلها. فابستطاعتي تبرئتك وإبعاد التهمة عنك دون أن يقتفي شرطي أو شيطان أثر خطاك.

وبعد صمت أخذ يحوم في بياض الغرفة وهو يتمتم:

- أن تكون بطلا ليس بالضرورة أن تسفك دما. على سبيل المثال، اكتب أنها لا تطيق العالم من دوني سيحبك الناس وستتحدث الصحف عن كتاباتك. هذا أمر جيد

- فن الكتابة صنعة وأنا أعرف كيف أبدع، وما عليك سوى أن تعيش ما أكتب

- لا أستطيع ولن أستطيع قتل إلهام أفضل الانسحاب من هذه اللعبة، يؤسفني أن أعلن ذلك اللحظة. دعني أسافر لعلني ألقاها في مدينتها رغم أني أعرف بأن قلبها ينبض لغيري، هذا قراري ولست أدري لماذا خلقتني لتحسدني بعد فقرتين من الكتابة.

خلق هذه العوالم العجائبية لم يغير من روح الكتابة الخروبية، حيث يوجه مرة أخرى معوله بهذه التجربة للغدر، الفعل المذموم الذي تعرضت له الشخصية الرئيسية من طرف إلهام ليقوم بعدها بالانتحار، أو جعله السارد ينتحر بعد أن رفض قتلها انتقاما منه، هكذا يرسم نور الدين خروب عالما من الجنون القصصي بأسلوب مشوق ومثير.

وقد تتحكم الشخصيات في مجرى الأحداث كما وقع في قصة "البطلة التي.."، والتي جاء فيها: "خرجت من النص لوحدها وأبعدت عشيقها عن القصة والمستشفى، فعادت بين فقرتين تتحسس الورق إلى أن بلغت المطبخ فتحت قارورة الغاز قبل أن تلتحق بعشيقها من جديد، وبعد أن تجاوزا الفاصلة الرابعة في الفقرة الأخيرة، بلغ مسامعهما دوي انفجار اهتزت له باقي الفقرات" ص: 76.

لقد كان البعد الفونتاستيكي في المجموعة القصصية امتدادا للبعد الاجتماعي، حيث ظلت مقصدية معظم القصص محملة برسائل أخلاقية واجتماعية، كاشفة عن اللامفكر فيه والمسكوت عنه بلغة أقل إيلاما، وأقرب إلى الشعرية في التشبيهات والوصف والبناء، وهنا تكمن عبقرية الكاتب في تحويل الموضوع البسيط، من خلال تقنيات الكتابة القصصية، إلى عالم في منتهى الإبداع.

إن البناء السردي لهذا الفسيفساء القصصي يكشف عن كاتب تمكن من ترويض اللغة، والاعتناء برسم معالم الشخصيات الإشكالية التي تنخرط في أحداث اجتماعية وفونتاستيكية ورمزية، وخيال ينفتح على مرجعيات مختلفة يكشف عن تجربة غنية للكاتب نور الدين خروب في أولى باكورات أعماله بعد عشرين سنة أو أكثر من الكتابة.

***

عبيد لبروزيين

تجاوزت المجموعة القصصية " عدالة وطنجية" لسعيد يفلح العمراني مفهوم محاكاة الواقع إلى مفهوم الإبداع والتصوير الخلاق، إن المؤلف نقل واقعا شخصيا موجعا بلمسة فنية قد نجزم بأنه لا تخييل فيها، ولكنها مفعمة بالموضوعية والواقعية، والسخرية، وبأسلوب بلاغي يستحضر بقوة التورية، والطباق، والجناس، والتضمين، والمقابلة. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن اقتران البلاغة بالأدب كان حاضرا في هذه المجموعة حيث تحققت صفة الأدبية كما سماها قديما البلاغي "أمين الخولي" ومن بعد "محمد أنقار" و"محمد مشبال".

لقد عبرت هذه القصص فيما أسميه ب'التطابق"، أو "التماهي" بين ذات المؤلف وذات القارئ، وغالبا ما يتحقق هذا التطابق في السير الذاتية، أو التخييل الذاتي التي تندرج ضمنه هذه المجموعة وإن كان غلاف الكتاب لم يشر إلى مكون التجنيس، لكن المؤلف وصفها بالباقة، و المجموعة وأكد أنها تمتح من الواقع.

وفي إطار مفهوم الحكاية الإطار، و الحكاية المثال نتساءل لماذا هذه القصص لم تعرف طريقها إلى القراء ؟ وهو سؤال عبر عنه القاص بقصة عنوانها "سَرْدين على الكتابة"، فبعدما استفسر صاحب المكتبة عن نسبة المبيعات؛ كان التذمر من الكتبي قبل المؤلف، حينها قرر "سعيد" أن يطعم قططا جائعة، مفترشا لهم ما حملت جيوب بذلته الأنيقة من مسودات ومشاريع علمية، وكأنه يقول بأن القراءة اندثرت أو تناثرت ، كما ستندثر هذه المسودات ، فلا داعي إذن للكتابة. هي قصة ساخرة معبرة. تشربت القطط أفكار سعيد، كما ستلتهم بعض شخصياته الطنجية المراكشية، إن ثيمة الأكل في القصتين، استطاعت أن تحول موضوع التبئير من جديته إلى سخريته، لأن الناظم الأساس في مجموع القصص هو التعبير عن مضاضة الواقع من خلال تجربة حياتية، يرتشف منها القراء أدبا وخبرة ومتعة.

عودة إلى السؤال أقول إني اكتشفت هذه المجموعة مرتين، الأولى سنة 2019, فلم أدر ما تختزنه، كانت موضوعة في رف بمصلحة داخل مديرية تطوان، والثانية عندما قدم لها الصديق الأستاذ د. محمد الفهري مؤخرا في لقاء علمي، لذلك ما يوجهني في هذا التحليل هو ما استمعت إليه في هذه الندوة العلمية، فاقتنصت منه زادي وأفكاري.

إذا شئنا استعارة كلمة "الطنجية" سأقول بأن المجموعة عبرت عن معناها، فكلاهما يضمان قصة؛ للطبخ وللكتابة، لكن لا نستشعر اللذة إلا بعد التذوق والقراءة. إن سعيدا قد زهد في تقديم مجموعته، على مستوى التجنيس وعلى مستوى الشكل، و الإخراج، والتعريف بها، كما أن مرجعياته الفكرية والإيديولوجية، وخرجاته الواضحة، والفاضحة في مواقع التواصل، تحكمت في مدى انتشار العمل. بعدما أهداني عمله هذا ووشاه بعبارات صادقة، لم يطلب مني قراءته، ولكني كبُرت فيه تقديره لي دائما، فجعلت الكتاب في مكان خاص كلما أحل به، أطالع القصة والقصتين، فاستحضرت، قولا (إن الأعمال الأدبية تنتظر شخصا ما ليأتي، ويعتقها من ماديتها وجمودها)، وعدت إلى مقدمة المجموعة فإذا بي أقرأ (تحياتي لكل القراء ولكل من امتدت يده إلى هذا المؤلف ولو على سبيل الاكتشاف قبل الارتشاف).

هذه العلاقة بالمتن الحكائي/ المبنى الحكائي تحدد ماسمته "السرديات" بالانطباع الأول، وهذه الانطباعات تتحكم في قراءة النص في إطار ما عرفه بالفاعلية البلاغية، وهي الحجة والسلطة عند الجاحظ، والتمييز بين الأدب الجيد والردئ عند ابن سلام الجمحي، وابن قتيبة والآمدي وأبي هلال العسكري...

إن الانطباع عرف مستويات مختلفة إزاء هذا العمل، ابتدأ بالكشف، ثم بالإنصات، وأخيرا بالقراءة. فتحقق الارتشاف، وبعده اللذة التي تحدث عنها رولان بارت في كتابة لذة النص.

***

د. عبد المجيب رحمون

 

تشير أغلب الإحصاءات، المعتمدة رسميًّا من جهات حكوميّة عربيّة، ومن جهات معتمدة دوليّة، مثل منظمة اليونسكو، الى أن العالم العربي يقف دائماً في ذيل قائمة الأمم القارئة للكتب، فوفقًا الى تقرير صادر عن منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة في شباط 2023، ينشر العالم العربي 1650 كتابًا سنويًا، في وقت ينشر فيه الولايات المتحدة الامريكية 85 ألف كتاب سنويًا.

وتتفوق إصدارات الكتب في الدول الأوروبية بشكل محزن على ما يقابلها في العالم العربي، الذي إذ يصدر فيه كتابان سنويا، ففي الوقت نفسه يصدر في اوروبا 100 كتاب. والتقرير نفسه يشير الى أن الطفل العربي يقرأ 7 دقائق سنويًا، بينما الطفل الأميركي يقرأ 6 دقائق يوميًا.

 وبعد ...؟

تعاني الثقافة، بشكل عام، في البلدان العربيّة، من انحدار مريع، مع تهدم البنى التحتية الاجتماعية والسياسية، في العديد من الدول العربيّة، واختفاء أهم المؤسسات المدنية الفاعلة وتشوه تركيب المجتمعات، بزوال الطبقة المتوسطة، وظهور طبقة طفيليّة ساعدت على انقسام المجتمعات العربية طائفيًّا وإغراقها في طقوس غيبيّة، ويترافق كل ذلك مع التدهور في الحياة الاقتصادية، لأغلب البلدان العربية، وعيش العديد منها على عوائد النفط فقط، وتحولها الى بلدان استهلاكية وغير منتجة لاي بضاعة.

في الجانب الآخر، نجد أنفسنا، في العديد من البلدان العربية، نقف أمام حقيقة مريعة، هي تحول غالبية العاملين في حقول الثقافة الى موظفين في الدولة، وغياب وتغييب لدور المثقفين العضويين، فيوفر الفرصة لبروز جمهرة من المتثاقفين و(المثقفين نص ردن) أصحاب ثقافة الوجبات السريعة، ونجوم مواقع التواصل الاجتماعي، مع غياب أطر ثقافية فاعلة قادرة على خلق نهضة ثقافية، واستمرار معاناة المثقفين الحقيقيين مع تسيّد الأنظمة القمعيّة وأذرعها البوليسية من مليشيات وأجهزة أمنية قمعية، التي تفرض قيودًا لا عد لها حول أي نشاط ثقافي يتعارض مع منطلقاتها المذهبية والايديولوجية، يترافق هذا مع انتشار الأميّة، وتدهور أوضاع التعليم، بل وانحداره في بعض من البلدان العربية، هكذا تحولت القنوات الفضائية، المتكاثرة مثل الفطر، الى المصدر الأهم للمواطن العربي، منها يتلقى المعلومات والأفكار، عبر ما تقدمه وتسمح به الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها الرقابيّة، من برامج ومسلسلات تمثيليّة وأغان، تنشر الأفكار الظلاميّة والسطحيّة. هكذا أصبحت مصادر المعرفة بالنسبة للمواطن العربي محدودة، وصار يتلقى باستمرار جرعات من التفاهة عبر ما تقدمه له الفضائيات من مسلسلات تلفزيونية تسهم في تشكيل، وعيه وتربية ذوقه وقيمه.

في شهر رمضان المنصرم، تورطت ـ بالمعنى الكامل للكلمة!  وتابعت على مضض مسلسل (أولاد بديعة) من إنتاج شركة بنتا لينس، تأليف علي وجيه ويامن الحجلي وإخراج رشا شربتجي، وشارك في أداء أدواره نخبة من نجوم الدراما السورية. كنت أنشد بعض المتعة والمعرفة، فوجدت نفسي أخوض في مستنقع حكاية مفككة تجمّل القبح والجريمة والأفعال الشائنة وتحاول تقديمها خلف غطاء أسماء نخبة العاملين والنجوم من ممثلين وفنيين. ماذا أراد المسلسل أن يقول وأية رسالة؟ أي حكاية قدم؟.

غابت روح المنطق من كل الحكاية التي قدمها المسلسل، وسادت روح الثأر والانتقام التي سكنت قلوب أغلب الشخصيات، وجعلتهم يرتكبون سلسلة من الجرائم التي يقدمها المسلسل كأفعال مبررة وربما بطوليّة، ولأجل مط المسلسل الى ثلاثين حلقة، تم حشوه بكذا حكاية جانبيّة، رهلت أكثر من حكاية الأخوة الأعداء المتخاصمين حول الإرث والوجاهة والنسب.

يردد كبار السن، بأن (الكذب المصفط أفضل من الصدق المخربط)، ولكننا خلال ثلاثين حلقة، لم نجد لا كذبا مصفطا ولا خربطة صادقة.

طبّل منتجو العمل كثيرا، لاجل التسويق، في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، لما سموه بجرأة العمل، ولم أجد فيه كمشاهد أية أفكار جريئة تستحق التوقف عندها، ولا مشاهد فنيّة جريئة تستحق الإشادة، لم يكن هناك من (جرأة) سوى مشاهد كباريه عادية ترتدي فيه الراقصة سكر (الممثلة سلافة معمار) شورت رياضة تحت ملابس الرقص، فأين الجرأة؟.

لقد جمّل المسلسل بشكل فج الجرائم القبيحة والأعمال المشينة، التي ارتكبها أغلب شخصيات المسلسل، بل وتركهم من دون عقاب، وكما يبدو، ولأجل انتاج موسم ثانٍ، حاول ان يحول (أولاد بديعة) الى وطنيين بتعاونهم مع الأجهزة الأمنية وذلك بغدرهم بأحد شركائهم في الجرائم.

من المؤسف أن إمكانيات فنيّة وطاقات تمثيليّة، تهدر لإنتاج مسلسل بقصة مفبركة، إذ لا تخلو حلقة واحدة من حلقاته الثلاثين من أحداث مفتعلة وغير منطقيّة، وحيث تتطور الاحداث بشكل ملفق، مثل محاولة قتل أبو الهول (الممثل محمد حداقي) فإذ ينجو من المحاولة الاولى، بعد مشهد ساذج وذلك بفك عجلات سيارته التي سقطت في الوادي وتحولت الى خردة، ويتبين عدم موته!! ولأجل الخلاص من ابتزازه واسكاته تقرر الراقصة سكر وأخوها ياسين (الممثل يامن الحجلي) قتله على الطريق العام، السريع، بتفجير سيارته بعد رميها بالقنابل اليدويّة! وكأنَّ راكبي وسائقي السيارات المارة على الطريق السريع العام، في بلد عربي، مثل سوريا، مكفوفي البصر!!، فلم يلاحظوا تفجير السيارة ليتصل أحدهم بالسلطات المعنية، وتركوا أخوة بديعة بسهولة يأخذون جثة غريمهم لدفنها وتغييبها، وفق رغبة كاتب ومخرج العمل.

 الميزة الوحيدة لهذا المسلسل، أنه لا يمكنك توقع سير الاحداث وتطور الشخصيات، إنه يذكر بالمسلسلات الامريكية التي تنتج لذات الأهداف، تسطيح وعي المشاهد، وتسمى مسلسلات (ربات البيوت) حيث تكتب قصصها حسب رغبة المشاهدين والمتابعين، فتختفي منها شخصيات وتعشق وتتطلق وتتزوج شخصيات حسب طلبات ورغبات المشاهدين، وكأني بمسلسل (أولاد بديعة) تكتب حكايته خلال انتاج العمل، فالشخصيات تظهر وتختفي من دون مبررات مقنعة، تهبط وترتفع، تحب وتكره، تؤمن وتكفر، تعادي وتصالح، من دون منطق ومن دون مبررات كافية.

وستكون قمة السخرية والهزء بعقول الناس إذا تم انتاج موسم ثانٍ من هذا المسلسل، الذي يمجّد القبح ويجمّل الجريمة والشر وقدم للاسرة العربية، بحضور الكبار والأطفال، في الشهر الطهور، جرعة عالية من العنف، و... يا عزيزي القارئ، ليختر المواطن العربي ديكتاتوره المفضل ويرفع صورته في بيته، ولا تسأل لماذا يتم الاعجاب به من قبل آخرين كثيرين!، فهناك من يعمل على تجميل القبح والشر وتبرير التفاهة.

***

يوسف أبو الفوز 

(الى آخر الملكات) قصيدة للشاعر العراقي علاء سعود الدليمي. القصيدة مُفعَمةٌ بالمجازات والاستعارات البليغة، حيث يدور الشاعر مًلتفّاً على عشقه وإحساسه تجاه المحبوبة بعيداً عن غرائز الحبّ  بالتعلٌّق الحسيّ والتهيُّج العاطفي، والتعبير عن كلِّ ذلك بذكر المحاسن والانشداد الرغبوي والإثارة الحسيّة، من خلال تصوير الحالة الوجدانية عند الشاعر. لكننا نجده يتجه صوب الوجد الصوفيّ في الحبِّ الإلهي الذي يرفع العاشق الموجود الى منازل عليا من الوَلَهِ والذوبان في ذات المعشوق بوحدة اندماجية عاطفية روحية مقدسة، فيها رفعة للمعشوق وسموّ خارج إغراءات اللذات والرغائب التي تدنّسُ التعلّق الوجداني والتعالق الروحي، وحتى مخاطبة المعشوق حسيّا رغائبياً هو تعبير عن الامتزاج الروحي البريء، وهو ما يعبَّر عنه بالحلم، بمعنى ليس حقيقةً واقعية بل طيفاً من الأحلام، لشدّة التعلّق والوله والتشوّق للقاء المحبوب. وبما أنّ شاعرنا يعتبر الحبيبة آخر الملكات مجازاً، وذلك لبيان عمق وتجذُّر العاطفة الجيّاشة تجاه الحبيب. وعليه نجد الشاعر يعبر عن كلِّ ذلك ببيان مكانة المحبوب في روحه وقلبه، لدرجة أنها تأتي طيفاً في أحلامه بثياب البراءة والعفاف الطفوليين. حيث يصوّر لنا حلماً طفولياً ،وهما يغتسلان معاً (مع الحبيب) في النهر (الماء) وبثوب البراءة؛ للتطهّر من الخطايا - إنْ كانت لهما خطايا - كما في طقوس المندائيين، فقد جعل الله من الماء كلَّ شيء حيّ، كما ورد في القرآن الكريم. فالماء (النهر) ترميز للنظافة والتطهُّر والبراءة والحياة والنقاء، وهو ما يقوله في خاتمة القصيدة:

لـلسباحةِ في النهرِ

نغطسُ معًا برفقةِ ثيابِ البراءة

استعار الشاعر النهر اشارة الى الماء وجريانه (نقائه)؛ لأنّ الجريان يجرّ معه الشوائب العالقة، وينظّف الجسد، وكأنه هنا يشير الى التطهّر من الأدران العالقة بالنفس، لتصفو من الخطايا. كما أنه يرمي بذلك الى العفاف في العشق. فالعشق حلم إنسانيٌّ للسموّ بالنفس نحو مدارج العلا والوفاء والتقديس، فالحبُّ عاطفة مقدّسة مُطهّرة للنفس تجمعُ اثنين على سرير الحياة المشتركة، فقد خلق الله المرأة من ضلع لآدم، فهي عضو مكمّل له، وجزء منه لا ينفصل عنه. والشاعر يصف لنا مدى تعلّقه بالمحبوب لدرجة الذوبان معاً، كما يبيّن مدى وفائه في عاطفته، لأنّ الوفاء صفة المُطهَّرين من شوائب النفس الأمّارة بالسوء وبالإحساس والشهوات الآنية العابرة الزائلة. الوفاء هو غاية العشق للعاشق الصافي النيّة، المولّهِ حدَّ الذوبان والتوحّد بذات الحبيب:

خذي حرفي... قصيدتي

محبرتي بل خذي قلبي

لن يخفقَ لسواكِ

هذا العشقُ عشقٌ صوفيٌّ، يملأ أحلام العاشق، حيث تتعرّى مشاعره، فيكفر بأعراف القبيلة التي تقف حجر عثرة في طريقه السليم نحو الحبيبة، فهو طاهر النفس والوجدان نقيُّ السريرة، عفيف المشاعر الجيّاشة البريئة؛ لذا فالكشف عنها يأتي في طيات الأحلام كشفاً صوفيّاً عمّا يضطرب في قلبه وفي نفسه الموجودة:

في باحةِ الحلمِ

تتعرّى المشاعرُ

تكفرُ بعرفِ القبيلةِ

فالقبلةُ

ثورةُ إبتهالاتٍ صوفية

في الذوبان الروحيّ

عنوان النصّ الأدبي هو عتبة الدخول في عالمه - كما يقولون - لالتقاط مكامنه الخفيّة خلف الكلمات والصور والمجازات والاستعارات التي يعمل الشاعر على استخدامها للوصول الى غاياته في البوح عن التجربة الروحية التي عاناها، فيُلقي مرساها على شواطئ الكلمات، لتخلق نصّاً يوصل زورقه الى المتلقي كي يعتليه ويقوده قراءةً صوب ميناء مضمون القصيدة وصورها وبلاغتها، فيتجوّل بمنظار قراءته في زواياها كي يرى، فيلتقط الأحجار اللغوية الكريمة، واللوحات الفنية المرسومة بالحروف، والملوّنة بأصباغ البلاغة ببديعها وبيانها. وفي النظر الى عنوان القصيدة (الى آخر الملكات) نكتشف أنّ الشاعر علاء سعود الدليمي يقدّم لنا عتبةً ومدخلاً من ثلاث كلمات، لكنّها توصلنا الى مضمون النصّ ومكامن بوحه، إنّه يأخذ بأيدينا الى عالم الحبّ. فالتي يصوغ القصيدة من أجلها هي ملكة قلبه وروحه الموغلة في تلافيفهما، الى درجة الذوبان والغياب، لذا يعتبرها الملكة الأخيرة توريةً عن وفائه وإخلاصه وعميق عشقه، فلا ملكة عنده بعدها. نفتح بهذا العنوان بوابة النصّ لنلج في عالمه الواسع: مشاعر، وعواطف، وأحاسيس، وحلم، وعشق، وذوبان، وغياب، ونهر، واغتسال بثوب البراءة في النهر، وهي الصورة الأخيرة للنصّ وخاتمة القول الفصل (بيت القصيد). إنه بريء النفس، طاهر المشاعر، نقيّ السريرة، نفسه أمّارة بالصدق والبراءة والوفاء والعفاف والعذرية. فلماذا إذن أعراف القبيلة تقف جداراً عازلاً بينه وبين من يعشق بوله وهيام؟ إنها النهاية المختومة بختم العشق الصافي.

لقد ألبس الشاعر حبّه الشديد رداء الصوفية، وذلك كي يسمو به الى مراتب العشق الكبرى السامية، والى رقيّ وعمق مشاعره الصادقة والمتأجّجة، والباحثة عن كوّة تخرج منها الى الفضاء والهواء النقيّ الخالي منْ ذرات أتربة الأرض بما فيها من عوالق السوء.

***

عبد الستار نورعلي

...................................

نصُّ القصيدة: (إلى آخر الملكات)

لا غفوةَ لعاشقٍ

يمتطي صهوةَ حلمه

ينفثُ أشواقهُ قبلًا

على صدورِ الكلماتِ.

في باحةِ الحلمِ

تتعرى المشاعرُ

تكفرُ بعرفِ القبيلةِ

فالقبلةُ

ثورةُ إبتهالاتٍ صوفية

في الذوبان الروحيّ

في قطراتِ ثغرٍ عسلية.

يا آخر الملكات

خذي حرفي... قصيدتي

محبرتي بل خذي قلبي

لن يخفقَ لسواكِ

أعدكِ بالخنصر والبنصر

كما الأطفالُ.

كما القصبُ

يراقصُ ظلَّ الماءِ

تصيرهُ الأحزانُ نايًا

تأنسُ بهِ نفوسٌ أوهنها الغيابُ.

أما للطفولةِ من عودةٍ

لحلمةِ حياةٍ

أدمنها طفلٌ

يرتشفها أو يهلكُ

لـلسباحةِ في النهرِ

نغطسُ معًا برفقةِ ثيابِ البراءة.

***

علاء سعود الدليمي

أبو جعفر، حسّان الحديثي، صاحبُ هذه المقامات التي يسميها رحلات أدبية، أو (أدب رحلات)، لا يقصد بها الوصول إلى مدينة بعينها، مدينة قد تشبه مدينة )أين) الخيالية التي قضّى صديقنا ابنُ كركوك سركون بولص عمرَه القصير في البحث عنها دون أن يصل إليها. لأن ابنَ حديثة الذي يحمل في هاتفه وحقيبته خارطة الكرة الأرضية، يدور بها وحولها منذ عقود، كما تدور نواعير الفرات في مدينته الصغيرة، يريد أن يرتوي برؤية مدن العالم التي يذهب إليها للزيارة والتجارة، وبحثا عن السرّ المكنون في هذه المدينة أو تلك، دون أن يغادرها أو يغادر بعضها كللاً أو مللاً، ولا سأماً أو  ضجراً، وإنما اتباعا لما كان يراه شاعر لبنان بشارة الخوري، الذي يقول:

يشربُ  الكأس ذو الِحجا و ُيبِقّي

 ِلغـٍد في قرار ِة الكأس شيّا

وأنا أسمي ما يكتبه الحديثي (مقامات)، وليس رحلات، لأن هناك صلة قربى أراها تشدُّ الرحلات إلى صورة المقامات القديمة لغةً ومصطلحا يجمع بين الإقامة والمقام، ولا تختلف إلا في اختلاف مقتضيات العصر والزمان.

ولست أدري لماذا يأتي إلى الذاكرة راويةُ أبي القاسم الحريري البصري الحارثُ بن همّام كلما قرأت مقامة أو رحلة من رحلات أبي جعفر الحديثي، المنسوب عندي إلى عالم الحداثة في المغامرة والسفر والتعامل مع تجارة الحاسوب وملحقاته، وليس إلى حديثة الأنبار وحدها؛ أهو ما يجمع بين هذه المقامات العصرية وتلك التي أنشأها الحريري في بصرة القرن الهجري الخامس من متعة القص والحكي وتحقيق الغاية البيانية والبلاغية، وما تنطوي عليه كلتاهما من جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب والمشاهد ونوادرها؟! أم هو اسم الحارث بن همام، الذي نسب الحريري رواية هذه المقامات إليه، والذي يقول عنه ابنُ خلكان في وفيات الأعيان: إن الحريري قصد بهذا الاسم نفسَهُ، ونظر في ذلك إلى قول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): «كلكم حارث وكلكم همام» فالحارث: الكاسب، والهمام كثير الاهتمام بأموره، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام. وليس مثل أبي جعفر حسّان الحديثي حارثٌ وهمام، جمع في حياته بين الحسنين، ونجح في المهمتين، مهمة القلم والتجارة، اللتين لا يربطهما ربما شيء بما اختص به بطلُ الحريري أبو زيد السروجي من حرفة الكدية والشطارة، مع أن بطل المقامة الهمام هذا، الذي يحاول بكل طريقة كسب حياته بطريف الكلام، للفت الاهتمام، هو غير الراوية الحارث بن همام، ومن يقف وراءه، واضعُ المقامات أبو القاسم الحريري نفسه، الذي يحدثنا مترجمو حياته أنه كان من ذوي الغنى والمال، ولا علاقة له بالحاجة وذلّ السؤال.

ولو أتيح لنا أن نقلب الأدوار التاريخية ونجعل الحديثي حسان يعيش في بصرة القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، الذي عاش فيه الحريري، لما وجد إذا أراد ممارسة الكتابة أو الرواية التي لا تخلو من متعة وغواية سبيلا إلى غير أبي زيد السروجي أو ما يشبهه ليجري الحوار معه، ويجعل مدار الحكاية حوله؛

ويمكننا كذلك أن نتخيل ما يفعله الحريري إذا وجد نفسه في بصرة القرن الخامس عشر الهجري - الحادي والعشرين الميلادي، فهو الآخر لا يكون حينئذٍ بعيدا عن صاحبنا الحديثي الذي تحولت راحلته في سيرها الهيذبى أو الخيزلى الصعب فيما يسميه (طريق القمر) إلى طائرة أو بساط ريح قادر على أن يحمله خلال يوم أو بعض يوم من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وبالعكس.

ومن يقرأ مقالة االحديثي أو مقامته البصرية الأولى بين مقالات الكتاب ومقاماته، ويرى إلى الحوار الذي يجري بينه وبين صائد السمك البصري الذي كان يرمي سنارته إلى مياه شط العرب ليطعم السمك الساهر في مياه تلك الضفة لا ليصيده، ويعبر عن ذاته الجريحة بعد فراق زوجته بالغناء الحزين، ثم يقرأ مقامة الحريري (الحرامية)، ويرى إلى ما فيها من حوار بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي الذي كان شحاذا أريبا أديبًا ألقى خطبة بليغة في مسجد بني حرام، فيتبعه راوية الحريري الحارث الهمام ليعرف جلية أمره ويقف على سره، كما وقف الحديثي على سر ذاك الفتى البصري، سينتفي ربما عنده الزمن ويدرك، كما أدركتُ، صلة القربي هذه في البناء العام للنصين، وغرابة اللقاء في محتواهما، والعبرة التي يمكن الخروج بها من مثل هذه الصلة بين الأدباء الرحالة الغرباء.

وكم يمتعني أن أقرأ مثل هذا الكلام يقدم له أبو جعفر الحديثي وهو يروي قصته مع ذلك الشاب البصري، ناسيا أني أقرأ لصديق من الأصدقاء أعرفه من هذا العصر، وليس للحريري أبي القاسم في ذلك العصر يرويه، وهو يقدم للقاء راويه في مقاماته مع بطله أبي زيد السروجي:

"كنت أقيم في فندق شيراتون المطّل على شط العرب وقد كانت إحدى أمتع الاوقات عندي هو التمشي ليلاً بمحاذاة الماء في المسافة الواقعة بين تمثال السيّاب شمالا ومطعم شط العرب جنوبا. وفي ليلة من الليالي المقمرة وقد تأخر الوقت وأفلتت عيني النعاس فخرجت من الفندق وقد خلا رصيف الشط من الناس إّلا من اثنين؛ السيّاب حارس المعاني وفتى أسمر اللون هاديء القسمات لم يتجاوز عمره العقدين والنصف يجلس وحيدا مع سنارته المنغمسة في الماء ويرسل صوته الشجي بطور ريفي حزين مترنماً حد البكاء ببعض أبيات عروة بن الورد.."

وأقرأ بعد ذلك أو قبله مقدمة الحريري في مقامته الحرامية الثامنة والأربعين بين مقاماته:

"روى الحارث بن همام عن أبي زيد السّروجيّ قال: ما زلت مذ رحلت عنسي، وارتحلت عن عرسي وغرسي، أحنّ إلى عيان البصرة، حنين المظلوم إلى النّصرة، لما أجمع عليه أرباب الدّراية، وأصحاب الرّواية؛ من خصائص معالمها، وعلمائها، ومآثر مشاهدها وشهدائها، وأسأل الله أن يوطئني ثراها، لأفوز بمراها، وأن يمطيني قراها، لأفتري قراها. فلمّا أحلّنيها الحظّ، وسرح لي فيها اللّحظ، رأيت بها ما يملأ العين قرّة، ويسلي عن الأوطان كلّ غريب، فغلّست في بعض الأيام، حين نصل خضاب الظّلام، وهتف أبو المنذر بالنّوّام لأخطو في خططها، وأقضي الوطر من توسّطها، فأدّاني الاختراق في مسالكها، والانصلات في سككها، إلى محلّة موسومة بالاحترام، منسوبة إلى بني حرام، ذات مساجد مشهودة، وحياض مورودة، ومبان وثيقة، ومغان أنيقة، وخصائص أثيرة، ومزايا كثيرة."

لأرى أن ما يهم الاطلاع عليه في النصين أكثر من غيره، ليس الموضوعَ المنسوب إلى كل راوية من راويتيهما، بل هو الطريقة والأسلوب، والروح المستكشفة والباحثة عن المطلوب.

وهو دائما غامضٌ غيرُ ظاهر، ولا ينبغي أن ننخدع فيه بالمظاهر.

ومدينة حديثة التي خرج منها حسان الحديثي، وهو لا يحمل في رأسه غير الطموح بالذهاب بعيدا عنها والعودة إليها، ولا يحمل في خرجه البدوي غير حفنة من قصائد شعرية علّمها إياها، أخوه الكبير، وزرع في نفسه من خلالها حب الشعر وعشق الأدب والتراث العربي منذ أيام الصبا الباكرة، يسوح في أروقة ماضيه ولغته كما يسوح في شوارع مدن العالم وأسواقها الغريبة، تظل بعيدة نائية، قد يجيب إذا سئل عنها وعن أهله فيها بما يشبه ما أجاب به أبو تمام حينما سئل مرة عن مدينته وأهله:

في الشام أهلي وبغدادُ الهوى

وأنا   في الرقتين وفي الفسطاط إخواني

*

وما أظنُّ النوى ترضى بما  فعلت

حتى تبلّغني  أقصى  خراسان

وخرسان البعيدة هذه التي لا ترضى النوى بما فعلت بالشاعر الكبير حتى وصول راحلته إليها، مدينة واقعة في أقصى الشمال الإيراني. وكأنما هي في نأيها وصعوبة الوصول إليها آنئذٍ الرمزُ القديم لمدينة (أين) الخيالية، أو شنجن الصينية التي لابدّ من التفكير بالضياع لدى التفكير في الذهاب إليها، كما يقول الحديثي، الذي يمزج في رحلاته القريبة والبعيدة، كما قلنا، بين الزيارة والتجارة. فهي مدينة مفقودة مع وجودها على الخريطة ما دامت غير قادرة على الإمساك بزائرها، ليقيم أو يعيش فيها أكثر مما يتطلبه الظرف والحاجة. مع أن البحث عنها يبقى هو الهاجس الخفي عنده، مثلما كان لسلفه ابنِ كركوك، ولكل الرحالة القدماء والمعاصرين، الذين ما فتئوا يرددون قولة ابن زريق البغدادي في غربته الغريبة:

ما آبَ من سفر إلا وأزعجه

رأيٌ إلى سفر بالعزم يُزْمِعُهُ

نعم، فهو مثل هؤلاء، لا يكاد يعود إلى مدينته ومستقره اللندني الأليف هذه الأيام وهذه السنوات إلا وأزعجه الحنين إلى  مدنه الأخرى الموزعة على الخارطة في قارات العالم الخمس، بدءًا من مدينة القلب و(أم العراق) بغداد، التي يكتب في خاتمة رحلاته هذه الكلمات عنها:

"أعرف مدنَ الخيال كما أعرف مدن الواقع، غير أن بغداد هي المدينة التي تجمع الخيال بالواقع وسرُّها يكمن في كثرة المتكسرين على أعتابها، من العشاق حباً ومن الأوغاد عدوانا ً".

وانتهاءً بكل المدن التي زارها وسيزورها للسياحة والعمل، أو مجرد الفرجة والغزل.

وما يعشقه الحديثي في العادة ليس عماراتِ المدن وأحجارَها الإسمنتية الشاهقة، ولا مظاهر الحداثة فيها، لأنه من ذلك النوع من البشر الباحثين عن عراقة المدن وماضيها، لأننا والمدن، كما يقول "من أصل واحد كلانا من ماء عذب وطين لزب"!

وهو يجد نفسه "مسحوراً بحارات دمشق وأزقة بغداد وأحياء القاهرة وحجارة روما وبقايا أثينا، ولا أطيل المقام في سنغافورة وهونك كونك فالتأريخ مكتوب على حيطان المدن ورائحتُه مغموسة بتراب مماشيها وغبار أزقتها القديمة، ومدينة بلا نهٍر جارٍ وطين محروق وحجارة منحوتة، مدينة جامدةٌ وهياكل صامتة ومبان خرساء غريبة عنا نحن البشر".

وقبل أن يخرج المؤلف من بغداد ونخرج معه منها ومن العراق إلى مدن أخرى، لابد من التوقف معه عند بصرة السيّاب "مدينة النخل والمجاز" في الجنوب، وموصل أبي تمام أم الربيعين في الشمال. فهما عنده الطرفان للجسم الواحد، الذي تتوسطه مدينة القلب بغداد، يتردد بينهما ذهابا وإيابا كما يتردد النبض الخارج من شرايين القلب وأوردته.

وبعض الأوصاف التي يضفيها على مدينة مثل البصرة وهو يدخلها لا تختلف عن تلك التي اعتدنا أن نقرأها لدى الرحالة القدماء من الذين دخلوا المدينة قبله بقرون مثل ابن بطوطة..!

ولنقارن بين ما يقوله الحديثي عن المدينة هنا:

"هذه هي البصرة، ِسفرها ليس كالسفار، ولا شأنها كشأن باقي المدن والمصار، فهي ربيع دائم وكنز عائم، محفوفة بالخيرات من كل جانب فأرضها عطاء وأعلامها علماء، وأهلها وأن جارت عليهم الدهور والأزمنة، أهلُ جوٍد وكرٍم وسماحٍة وسخاء."

وما يقوله ابن بطوطة، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي في القرن الرابع عشر الميلادي عن المدينة نفسها:

"ومدينة البصرة إحدى أمهات العراق الشهيرة الذكر في الآفاق الفسيحة الأرجاء المونقة الأفناء، ذات البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة، توفر قسمها من النضارة والخصب... وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق وإيناس للغريب وقيام بحقه، فلا يستوحش فيما بينهم غريب."

لنرى كيف أننا في مثل هذين النصين لا نحتاج إلى إجراء مناقلة زمنية نضع أحدهما مكان الآخر، لأنهما موحدان أو متشابهان فيما يقولان، كما لو كان كاتباهما واحدا لا اثنين.

والأمر ليس عائدا إلى نظر الأول الحديث إلى الثاني القديم، وإنما هي وحدة المشاعر والأحاسيس البشرية المدركة عند النظر إلى الموضوع الخاص بالمدينة العريقة وطبيعتها الجغرافية والزراعية، وتاريخها الثقافي والديني والعلمي المعروف لصاحبي النصين كليهما.

ولا يختلف الأمر في الموصل (مدينة الأنبياء) التي يقول لنا الحديثي في أول جملة تخطها يراعته عنها لدى دخوله إليها:

"غبْ عنها ما تشاء من الزمان ستجدها هي نفسها بتلك اللفة وتلقاها بكرمها الذي يلفت النتباه وقد حف أهلوها ضيوفها بكل سماحٍة يتسابقون فيسبقون أنفسهم لخدمة هذا ولراحة ذاك وكأنهم خلية نحل، ستجدها هي ذاتها بجسورها التي تربط ال ُحسنين واللثغتين، بدجلتها الذي يحكي لك حكايات التاريخ والعصور".

ومن مدنه العراقية الثلاث هذه، التي يحجُّ إليها ويستوفي فروضَ العودة إليها وتجديد العهد معها المرّةَ بعد المرة، ينطلق صاحبُنا إلى مدنه الأخرى الواقعة على الطريق إلى القمر.

هذه المدن الموزعة على الخريطة بين آسيا، وأفريقيا وأوروبا وأمريكا، لا يكاد يستثني واحدة منها مهما بعدت ونأت دون أن يعقد العزم للذهاب إليها والوقوف على جلية الأمر فيها، ويسجل ملاحظاته عنها، إذا كان فيها من أسباب الجمال والإلفة ما يدعو النظر إليها للمعاينة والتثبت منها، مثل باريس مدينة النور، التي في كل ركن من أركانها "شعر وأدب وفي كل زاوية عاشق تعب ووراء كل عمود حبل حكاية يتأرجح بين حاضر الخير وماضي الشر بين واقع الترافة وغيب القهر".

وبراغ التي تشبه "اللحن الرقيق لقصيدة لم تُكتب بعدُ، وهي الخاطرةُ التي ما تزال تراود الخيال، واللوحةُ التي تحتاج الى الجرأة قبل الفرشاة والرسام".

وفلورنسا الإيطالية التي لا يملُّ المؤلفُ الرحالة من التجوال بين قصورها وكنائسها ومتاحفها ويرقب مندهشا أعمال فنانيها ويرى أن من الغريب "أن يضع الرسام حسابات رياضية دقيقة نحاول أن نفهمها الآن بصعوبة بالغة ونحن في عصر اختزلنا فيه علوم الفيزياء والرياضيات".

والمدهش أيضا أن "تضم تلك الرسوم والتصاميم فلسفة مخبوءة يعبر بها الفنان عن إنكاره او حبه او إيمانه أو رفضه لأشياء موجودة في لوحة أو منحوتة نتوهم حين نقف أمامها من ِمنا الجامد، ثم لننقلب حاسري الفكرة مكشوفي العيّ، كليلي العقل أمام عظمة الخلود وفلسفة الوجود".

ولا ننسى المدينة الإسبانية الجميلة أليكانتي التي لو كان للمدن وجوه، كما يقول، لأشرق وجه هذه المدينة لطفاً وجمالًا، ولو خلق الله للمدائن شفاهاً وألسنةً لتبسمت أليكانتي بوجوه الناس بل ولقالت شعراً عذباً يناسب روعتها وجمالها ويليق بحسنها وكمالها..!

وذلك لا يمنع من أن يرى في مدن أخرى مثل هونك كونك وتايبيه ما لا يسره ولا يرضيه، فالأولى المليئة بفنادقها الفاخرة وسياراتها الفارهة ومطاعمها الأنيقة ومراكز التسوق التي تضج بالحركة والضوء، تبقى عنده مدينة بائسة، "جعل منها الكونكريت أرضاً خالية من روح التاريخ مقطوعة النسب مع الماضي".

أما الثانية ف "جوّها رطب يكتم النفس وسماؤها معتمة تقبض الروح، وشعبها جامد وهواؤها فاسد وصباحها كئيب وليلها مريب والغريب فيها محضُ شقي غريب".

وهو في إدمانه على زيارة هذه المدن وتفحص قسمات وجوهها ووضع مبانيها وشوارعها وساكنيها والذين يتعامل معهم فيها، صار يرى أن "المدن كالنساء باختلاف السكنى والاطمئنان هذه تسكنك وتطمئن اليك، وأنت تسكن وتطمئن لتلك".. كما هو حاله مثلا مع زحلة اللبنانية التي سكنته، ولا أريد أن أختم كلامي عن الكتاب دون أن أضع هنا شيئا مما قاله فيها .

فهو، بحس الشاعر والأديب والرجل الأريب الذي يعشق الجمال مرتبطا بالتعبير عنه بالكلمات، لا يستطيع أن يرى وادي الجمال في بلدة مثلها دون أن يستذكر أحمد شوقي، وما قاله فيها:

شيّعتُ أحلامي بقلبٍ بــــــا ِك

ولممتُ من دربِ الملاحِ شباكي

*

ورجعتُ أدراج الشباب ووردِه

أمشي مكانهما  على  الاشواكِ

وهو يقول لنا إنه منذُ أن قرأ هذه الأبيات، ولثلاثة عقود مضت، وهو يتخيل زحلة ويرسم

لها صورا في عقله وقلبه، ويشعر أن أحمد شوقي قد أصابته نفثة من سحرها حين كتب لها هذه القصيدة الخالدة، "لكنه سحرٌ من نوع آخر يخترقُ حدود الزما ِن والمكان".

وربما جاز لنا القول بعد الفراغ من قراءة الكتاب إنه هو الآخر نوع من السحر الحلال، تعلق صورُه بالأفئدة والأسماع، ويلون بسحر أدبه المعدي كلّ الصفحات التي كتبت بها الرحلات بيد فنان صناع، اخترق حدود المألوف في إنشاء الكلمات، ورسم تلك اللوحات.

***

الدكتور ضياء خضير

تشير الطائفية في الأدب الإنجليزي إلى تمثيل واستكشاف الانقسامات الدينية أو السياسية أو الثقافية داخل الأعمال الأدبية. لقد كان هذا الموضوع سائدا خلال فترات مختلفة من الأدب الإنجليزي، حيث اعتمد العديد من المؤلفين على تجاربهم ووجهات نظرهم الخاصة لمعالجة القضايا المتعلقة بالطائفية. في هذا المقال، سوف نتعمق في السياق التاريخي للطائفية في الأدب الإنجليزي، وندرس الشخصيات الرئيسية التي ساهمت في هذا المجال، ونحلل تأثير الطائفية على الأعمال الأدبية، ونناقش التطورات المستقبلية المحتملة في هذا المجال.

السياق التاريخي:

للطائفية في الأدب الإنجليزي جذور عميقة في الصراعات الدينية والسياسية التي شكلت تاريخ إنجلترا. أدى الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر إلى انقسامات بين الكاثوليك والبروتستانت، وهو ما انعكس في الأعمال الأدبية في ذلك الوقت. على سبيل المثال، تستكشف مسرحية ويليام شكسبير "روميو وجولييت" العواقب المأساوية للعنف الطائفي بين عائلتين متحاربتين.

خلال الحرب الأهلية الإنجليزية في القرن السابع عشر، تفاقمت التوترات الطائفية، مما أدى إلى موجة من الكتابات السياسية والدينية التي عكست المجتمع المنقسم في ذلك الوقت. تعد قصيدة جون ميلتون الملحمية "الفردوس المفقود" مثالا رئيسيا على العمل الذي يتصارع مع عواقب الخلاف الديني وسقوط البشرية.

الشخصيات الأدبية الرئيسية:

أحد الشخصيات الرئيسية في استكشاف الطائفية في الأدب الإنجليزي هو جوناثان سويفت، وهو كاتب أيرلندي معروف بأعماله الساخرة. في روايته "رحلات جاليفر"، ينتقد سويفت الانقسامات الدينية والسياسية والثقافية في عصره من خلال عدسة مغامرة خيالية. ولا يزال ذكاؤه الحاد وملاحظاته الثاقبة يتردد صداها لدى القراء اليوم.

ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى جورج أورويل، الذي تستكشف روايته "مزرعة الحيوانات" بشكل مجازي صعود الشمولية ومخاطر الطائفية داخل الحركات السياسية. من خلال قصة حيوانات المزرعة التي تطيح بمضطهديها من البشر، يسلط أورويل الضوء على الفساد والصراع على السلطة الذي يمكن أن ينشأ داخل المجموعات ذات الدافع الأيديولوجي.

أثر الطائفية في الأدب الإنجليزي:

كان لاستكشاف الطائفية في الأدب الإنجليزي تأثيرا عميقا على طريقة تفاعل القراء مع الاختلافات الثقافية والسياسية والدينية. ومن خلال تسليط الضوء على عواقب العنف الطائفي والتمييز والتعصب، شجع الكتاب القراء على التفكير في معتقداتهم وقيمهم. هذا الحوار لديه القدرة على تعزيز التعاطف والتفاهم، وفي نهاية المطاف، التغيير الاجتماعي.

ومن الأمثلة على تأثير الطائفية في الأدب الإنجليزي رواية سلمان رشدي "الآيات الشيطانية"، التي أثارت الجدل والنقاش حول حرية التعبير، والتسامح الديني، وديناميكيات السلطة بين الأديان المختلفة. لا يزال استكشاف الرواية للتوترات بين الإسلام والغرب موضوعا للمناقشة والتحليل.

التطورات المستقبلية:

للمضي قدما، من المحتمل أن تستمر الطائفية في كونها موضوعا بارزا في الأدب الإنجليزي حيث يتصارع الكتاب مع تعقيدات عالم معولم. وسوف توفر قضايا مثل الهجرة والعولمة والتطرف الديني أرضا خصبة للاستكشاف والتأمل. ومن خلال الاعتماد على أصوات ووجهات نظر متنوعة، ستتاح للكتاب الفرصة لتحدي الصور النمطية، وتفكيك الأحكام المسبقة، وتعزيز الاحترام والتفاهم المتبادلين.

في الختام، كانت الطائفية في الأدب الإنجليزي موضوعا غنيا ومتعدد الأوجه ألهم الكتاب للتعمق في تعقيدات الانقسامات الدينية والسياسية والثقافية. من خلال دراسة السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية والتأثير والتطورات المستقبلية المحتملة المتعلقة بالطائفية في الأدب، يمكننا الحصول على تقدير أعمق لدور الأدب في تشكيل فهمنا للعالم من حولنا. ومن خلال التفكير المدروس والمشاركة مع وجهات نظر متنوعة، يمكن للكتاب والقراء على حد سواء المساهمة في مجتمع أكثر تسامحا و شمولا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

..........................

المراجع:

- Shakespeare, William. (1597). Romeo and Juliet.

- Milton, John. (1667). Paradise Lost.

- Swift, Jonathan. (1726). Gulliver's Travels.

- Orwell, George. (1945). Animal Farm.

- Rushdie, Salman. (1988). The Satanic Verses.

 

وعملية طوفان الأقصى

بالأمس ذهبت لإحدى بناتي المتزوجات وهي" رضوه"، لآصلها في عيد الفطر، فأصرت وأنا معها أن نشاهد سويا أحدث نسخة جديدة من الأفلام الأمريكية التي صدرت خلال هذا العام، وكان هذا الفيلم بعنوان "النحال The Beekeepe ؛ وهو فيلم حركة وإثارة أمريكي قادم من إخراج ديفيد آير، وتأليف كيرت ويمر.. الفيلم من بطولة الممثل البريطاني جيسون ستاثام، وإيمي رافر لامبمان، وجوش هاتشرسون، وبوبي نادري، وميني درايفر، وفيليسيا رشاد، وجيريمي آيرونز. ومن المقرر أن يتم إصداره في دور العرض بواسطة أستوديوهات أمازون في 12 يناير 2024.

وحسب ما عرفته بعد مشاهدتي للفيلم أنه قد أثار حالة من الجدل الواسع بين محبي السينما الأمريكية، تسبب فيها بمجرد طرحه في دور العرض السينمائي خلال الشهور الماضية، وهو الأمر الذي دفع عشاق السينما الأمريكية للسؤال عن قصة وأبطال الفيلم الذي نال إعجاب الكثيرين.

واللافت في الفيلم -الذي أخرجه ديفيد آير- هو ذلك التشبيه الجديد من نوعه لدولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية بخلية النحل، والتي يتم فيها بشكل سري تماما اختيار شخص واحد يتوجب عليه تطهير الخلية من أي تهديد داخلي تتعرض له الدولة حتى لو كان هذا التهديد هو رئيس الدولة نفسه.

  وهذا الفيلم حسب ما شاهدته وأرجو أن يتحملني القارئ في سرد تفاصيله من أنه كان يحكي عن منظمة سرية اسمها "الناحلين"، أو " مربي النحل"، والعاملين في تلك المنظمة على أعلى درجة من الكفاءة القتالية، إذ ينظر لأي منهم وكأنه يمثل جيش بأكمله، ويوجد شخص من تلك المنظمة، وهو بطل الفيلم، ويدعى " السيد كلاي"، وهو متقاعد في منطقة ريفية، حيث استأجر مكانا من سيدة مسنة، وهذه السيدة رئيسة جمعية خيرية، والمكان، وهذا المكان الذي يسكن فيه " كلاي" خصصه كمنحل، وهذه السيدة تعامله معاملة محترمة، وكأنها أمه، وقد دعته ذات يوم ليتناول معها  وجبة العشاء، فوافق كلاي .

  بعد ذلك رأينا تلك المرأة المسنة، وأثناء فتحها للكمبيوتر الخاص بها، جاءتها رسالة تحذيرية، والرسالة أخبرتها أن هادر الكمبيوتر الخاص بها، به مشاكل وأنه يوجد في متن تلك الرسالة رقم تليفون فيجب أن تتواصل من خلال هذا الرقم لحل مشاكل الهارد، فاتصلت به على الفور، خلال الفيلم اتضح أن هؤلاء الأشخاص الذين اتصلت بهم السيدة، تبين أنهم يمثلون شبكة عنكبوتية، حيث رد عليهم رئيسهم بنفسه، وتلك معها أمام صف الاحتيال وذلك كي يتعلموا منه طريقة النصب الصحيحة .

 حسب أحداث الفيلم رأينا السيدة تقول خلال تلك المكالمة بأنها قد أتتها رسالة تحذيرية بأن الهارد به مشكلة، فيرد عليها : "نعم، توجد مشكلة فعلا، ولهذا أٌرسل لكِ "تطبيق"، ثم تضغطين على كلمة "تحميل"، وبعد ذلك سوف تُحل مشكلة الهارد " . وبالفعل نفذت السيدة تعليماته بسذاجة ؛ سيما وأنه ليس لديها دراية عن عمليات النصب التي تتم من خلال الانترنت، فوثقت في كلامه، وفتحت التطبيق، فعرفت المنظمة أسرار حسابها البنكي، وهنا قال لها :" طالما أنك قد استخدمتي التطبيق الخاص بنا، فسأرسل لك خمسمائة دولار مكافأة، وفعلا أرسل لها المبلغ، ولكن بدلا من أن يرسل لها خمسمائة دولار، أرسل خمسين ألفا دولار، فأخبرها أنه أخطأ في التحويل فبدلا من تحويل خمسمائة دولار أرسل خمسين ألفا، وهنا قال لها : "من فضلك رجعي المبلغ، وإلا سأتضرر. فردت عليه : أنا لا يرضيني ذلك " .

وبالفعل أرجعت له الخمسين ألفا، ولكنها، كانت مضطرة بأن تكب الرقم السري لحسابها البنكي، وعقب الإرسال، فوجئت السيدة أن الكمبيوتر أنطفأ فجأة، وهنا تم سحب كل أموالها من السيرفر، وكان من ضمنهم حساب لجمعية خيرية كانت مسؤولة عنها وكان يوجد به حوالي أثنين مليون دولار، وعندما تم سحب المبلغ، عاد الكمبيوتر واشتغل مرة أخرى، ففوجئت أن كل الأرصدة الخاصة بها على السيرفر أضحت مشفرة، فانهارت السيدة وأخذت تبكي بحرقة، وعلى الجانب الآخر، رأينا الشخص الذي ابتزها قام بعمل حفلة مع فريق العمل الخاص به ليخبرهم بنجاح العملية الابتزازية على أحسن وجه لكونهم نصبوا عليها.

 من ناحية أخرى رأينا " كلاي" الذي عزمته السيدة على العشاء، ذهب ليعد برطمان من عسل النحل ليأخذه في عزومة العشاء، وعندما ذهب إلى بيتها، وجد أن مصباح بيتها منطفأ، وهنا يستغرب جدا، وهنا حاول أن يدخل بيتها كي يطمئن عليها، ولكن يفاجأ أن أبنتها " باركر" تأتي من خلفه للقبض عليه،واتضح من خلال مجريات الفيلم أن السيدة انتحرت عقب عملية الابتزاز الذي حدث لها، ثم اتضح أن "باركر"  تعمل في البوليس، بعد أن اعتقد أن كلاي قام بقتل أمها، حيث سألته : من أنت ؟، ولماذا جئت إلى هنا؟، وأخبرها بالحقيقة، ولكن لم تصدقه، والشرطة قبضت عليها، إلى أن تنتهي من تحرياتها، وترفع البصمات.

وبالفعل أكتشف "باركر" بعد تشريح الطب الشرعي لجثة أمها، أنها انتحرت، وأن كلاي ليس علاقة بقتلها، وأفرجوا عنه، وبعد ذلك قامت أينتها بفتح كمبيوتر أمها واكتشفت أن أمها قد وقعت أسيرة نصب عالية، ثم ذهبت أبنتها لكلاي لكي تعتذر له، وعزمته على فنجان شاي، وخلال ذلك أفهمته ما الذي حدث مع أمها ، وهنا غضب كلاي غضبا شديدا لما حدث، وأقسم لها أن ينتقم ممن فعل ذلك ؟ ؛ (سيما وأنها كانت تعامله مثل أمه كما قال كلاي في ثنايا حوادث الفيلم).

 وعقب عزومة الشاي ذهب كلاي إلى خلية النحل الخاصة به، وأخرج منها جهاز تواصل كان معه، فتواصل مع واحدة من معارفة في طاقم خلية النحالين، فطلب منها معرفة هوية الخلية التي قد أٌبتزت السيدة المنتحرة، وفي خلال أربع وعشرين ساعة أخبرته بمكانهم، وعلى الفور، أخذ جركنين بنزين، ولكن أمن الشركة، حاول أن يوقفه، ولكن كلاي ضربهم بكل بساطة علي طريقة أرنولد شوارزنيجر، وبعد ذلك دخل في حجرة الاستقبال فوجد فتاة،حيث قال لها : معي جركنين بنزين، وساحرق الشركة فورا، فلو سمحتي أخبري كل الموجودين بالمبني مغادرة المبني!، ثم صعد إلى الدور الذي يتواجد فيه صف النصابين الذين نصبوا على السيدة المنتحرة، وطلب من كل واحد منهم إغلاق سماعة التليفون، فرفض، ولكن كلاي شده من أنفه، وقال له : ألم أقل لك أغلق السماعة؟، ثم قام كلاي واحتك بشخص آخر وأخذ يبرحه ضربا بسماعة التليفون على رأسه إلى أن مات، وهنا طلب كلاي من الحاضرين المذعورين، أن يكرروا وراءه ما سيقوله :" أنا لن أسرق من شخص ضعيف ولا أحد محروم مرة أخري "، وطلب منهم أن يكرروا ذلك مرارا وتكرارا على مسامعه .

 وعقب ذلك قلم كلاي بصب جركنين البنزين على أجهزة الكمبيوتر التي أمامهم، ولكن حاولوا أن يمنعوه، ومعهم " جارنت" قائد عملية الابتزاز، ولكنهم لم يستطيعوا مقاومته، وهنا هرب " جارنت" بعد أن قطع أصابعه ليحتفظ بها،ثم تركه كلاي ليستكمل تفجير المبني، وتم ذلك بنجاح، وتستمر أحداث الفيلم، فنجد جارنت بعد أن هرب وجدناه يتصل برئيسه واسمه " هاتشر" يحكي لنا تفاصيل ما حدث له مع كلاي، ثم يسأل هاتشر : لماذا فعل ذلك ؟ .. فيقول له : لا أعرف السبب؟، وهنا يسأل " هاتشر " مسؤول الأمن الخاص به، والذي كان حسب أحداث الفيلم رئيس المخابرات الأمريكية المتقاعد لماذا فعل كلاي ذلك ؟، فأجابه بعد أن سأل عن هوية كلاي، فقال له : لا أستطيع أن أخدمك في ذلك ؟، وأعلم أن كلاي طالما وضع في حسبانه أن ينتقم منك فسيفعل!... لم يعبأ " هاتشر" بكلامه، وطلب من " جارنت" حسب أحداث الفيلم أن يؤجر له أحد قريب من خلية النحالين المرتزقة للتخلص من كلاي.

  على الجانب الآخر حسب أحداث الفيلم تذهب أبنة السيدة المنتحرة التي تعمل في البوليس إلى مكان الشركة المحروقة، لتعلم من زملائها في العمل أن أصحاب تلك الشركة لهم علاقة بالأفراد الذين نصبوا على أمها، وأن الذي قام بحرق الشركة لم يترك أي دليل، لأن الكاميرات اٌحترقت مع المبنى .

وتستمر أحداث الفيلم فنجد " جارنت" يأخذ معه مجموعة من المرتزقة ووصلوا إلى مكان كلاي، وذلك بعد أن تتبعوه، وهم في طريقهم إليه، فتحوا النار عليه ومروا مكان المنحل الذي يعيش فيه، انتقاما منهم، ولكنه أخذ يتتبعهم بعد ذلك، ودخل معهم المكان الذي كانوا فيه، وهم لا يدرون بذلك أن كلاي يقودهم لكمين، وهنا نجد حسب أحداث الفيلم ؛ حيث يصرخ جارنت، وهو ينادي على كلاي ويقول له "أظهر أيها الوغد "، ولكن كلاي لم يعبأ به، وأخذ يقتل كل واحد من مجموعة المرتزقة الذين معه بطرق مبتكرة، حتى أنه لم يتبقى سوي جارنت.

 والغريب أن كلاي لم يقتله ـ ولكن قام بتقطيع أصبعين من أصابع يده، ثم تركه وشأنه، فما كان على جارنت سوي الهرب، وهنا رأينا حسب أحداث الفيلم أن جارنت وهو على الجسر أتصل برئيسه "هاتشر"، وأثناء وهو يتكلم معه في التليفونـ يظهر كلاي، واتضح أن كلاي تركه كي يصل إلى معرفة رئيسه، ثم قام كلاي وربط جارنت بحبل ، ثم ربط هذا الحبل بسيارته بعد أعطاها غيار لتسير وحدها بدون سائق، فنجد العربة وهي تسير بدون سائق قد تجاوزت الجسر ومعها جارنت، وهنا رأينا هاتشر (رئيسه) يسمع صراخ جارنت من التليفون، ثم رأينا بعد ذلك كلاي يمسك بالتليفون ويكلم هاتشر ويقول له :" سوف أجبئ إليك أيها الأحمق وأفتك بك فتكاً لا تأخذني به رحمة بك" .

  ثم رجع هاتشر عقب المكالمة وتكلم مع رئيس الأمن الخاص به، وهنا رأينا هذا الرئيس في مشهد ينظر في كمبيوتر وهو بتابع بعض المعلومات عن كلاي، فأدرك أن كلاي أحد المنتمين إلى منظمة الناحلين والذين إذا كُلف أحدهم بعمل انتقامي من شخص ما، فلابد من أن يصفيه ويقتله، ومن ثم لا يستطيع أحد أن يواجهه مهما بلغت قوته، ثم طلب هاتشر من رئيس الأمن ألا يقف متكوف الأيدي.

 ثم تستمر الأحداث حيث نجد هاتشر يستنجد بأمه، والتي تحتل منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية حسب أحداث الفيلم، وهنا تحاول أمة أن تستأجر أحد المرتزقة الذين يعملون في نفس منظمة النحالين والذي كان كلاي واحد منهم، وتستمر أحداث الفيلم فنجد كلاي كان في بنزيمة يفول سيارته، ثم تدور مشاجرة قوية بينه وبين تلك المرتزقة، حيث انتهت بقتل كلاي لهم جميعا على طريقة السينما الأمريكية من الكر والفر. 

ثم نجد  كلاي يقوم بتقطيع أصابع جارنت،  ثم يقوم بربطه بسيارة مفخخه كي يموت في مشهد مروع، وفي اليوم التالي تذهب باركر ( ابنة المنتحرة) إلى البنزيمة، وتدرك أن كلاي وراء هذا الضرب والحرق الذي حدث في البنزيمة، والغريب أن باركر تحاول أن تقبض عليه مع العلم أنه يفعل كل هذا انتقاما لثأر أمها، وعلى الجانب الآخر تستمر الأحداث فنجد رئيس الأمن يستعين بمرتزقة آخرين وعلى مستوى أعلى مما سبق للتخلص من كلاي، ولكن أيضا تفشل العملية مرة أخرى بعد كر وفر، إلى أن بقي مشهد رائع من كلاي وهو يضرب رئيسهم بضراوة كي يخبره بمكان هاتشر وأعلمه أنه ابن رئيسة أمريكا، ومن الصعب الوصول إليه، وتستمر الأحداث في الفيلم إلى أن يصل إليه في أحد المنتجعات ويقتله أمام أمه في مشهد دراماتيكي، ويهرب بعد ذلك من خلال بدلة غوص وينتهي الفيلم.

والشيء المثير في الفيلم هو كيف استطاع كلاي القضاء على عشرات المقاتلين من الحرس الرئاسي والمرتزقة ورجال عصابة المسلحين في أوضاع قتال فردية رغم وجودهم معا، كان يشبك مع الواحد منهم، فيما يشاهد الآخرون حتى ينتهي من زميلهم، ثم يأتي دور التالي ليقضي عليه، وهكذا ليتخذ الفيلم شكل لعبة فيديو بدلا من شكل فيلم سينمائي يحتاج إلى بعض المنطق في أحداثه، ليصل الأمر أحيانا إلى درجة السخافة، وهو الأمر الذي جعل البطل النحال يخرج في الفيلم على القوانين المعلنة والسرية التي تقف في طريق تحقيقه العدالة، وبدلا من محاكمة السيدة التي احتلت منصب الرئاسة الأميركية وابنها المجرم وتابعيه قتلهم جميعا باستثناء السيدة التي اعترفت بالحقيقة وقررت دفع الثمن.

وبصرف النظر في كون الفيلم يسلط الضوء على ظاهرة عمليات الاحتيال الإلكترونية، من خلال قصة "آدم كلاي" الذي يلعب دوره جيسون ستاثام، والذي يتقاعد من عمله كعميل سابق في منظمة سرية تعرف باسم "بيي كيبرز" أو "النحالين"، والتي تم إنشاؤها لحفظ النظام داخل البلد، ويتفرغ لعيش حياة هادئة وتربية النحل.

والمثير جدا جدا أنه عقب مشاهدتي للفيلم الذي أثارني، رجعت إلى منزلي، فرأيت في منامي وأنا أحلم بكلاي، وكأنه قد خرج منه أكثر من سبعين رجلا، وهم يعبرون السور الحدودي لتنفيذ حادث طوفان الأقصى الذي حدث في السابع من أكتوبر الماضي، وأخذت أتساءل: ماذا لو كانت الرؤيا أو الحلم الذي رأيته صحيحا؟، وأن الذين قاموا بعملية طوفان الأقصى من المرتزقة الأمريكان، فهل كان سيحدث ما حدث من تصفية أكثر من 34 ألف فلسطيني في مؤامرة لن يشهد التاريخ بمثلها!! ... أترك الإجابة لإشعار آخر وأٌلقي ذلك في عباءة القارئ !! .. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي – كاتب مصري

 

معين بسيسو الذي تسطّر حياته ملحمة فلسطينيّة تقدّم النموذج المُلزم الاقتداء به في تلاحم المبدع مع شعبه وقضيته تلاحما كاملا.

فمنذ صرخته الأولى عندما خرج إلى الحياة في العاشر من تشرين الأوّل عام 1927 التي نبّه بها إلى وجوده، بدأت ترتسم أمامه الطريق النضالية الصعبة الطويلة التي تنتظره. فوطنه فلسطين كان مرهونا في يد المستعمر الإنكليزي الذي يعمل بجدّ لتقديمه هديّه رخيصة لزعماء الحركة الصهيونية كي يقيموا فيه الوطن القومي. وأبناء شعبه تتلاعب بهم الأهواء والانقسامات. ويشقى السواد الأكبر من الشعب من الفقر والعوز وصعوبة تحصيل ما يضمن لقمة العيش.

فيكبر ابن حيّ الشجاعية وسط هذا الواقع المرير غاضبا صاخبا واضعا أمامه هدفا كبيرا لتغيير الواقع وتأمين المستقبل الأفضل لأهله أبناء شعبه.

ترك مدينة غزة ليدرس في القاهرة، وفي مصر تعرّف على المناضلين وانحاز إلى جانب القضايا الوطنية والجماهير المستضعفة، وتابع أخبار التحوّلات الكبيرة التي تجتاح العالم والأفكارَ الاشتراكية التي بدأت تنتشر وتجتذب عقول الشباب وتمنيهم بعالم آخر. فانضمّ إلى صفوف الحزب الشيوعي وكان نشيطا وترقّى في المراتب حتى تمّ انتخابُه أمينا عاما للحزب.

هذه النشاطات المتعدّدة أدّت إلى اعتقاله وإدخاله السجون في مصر لسنوات عديدة. لكنها سنوات صقلته كرجل قويّ يتحدّى كلّ الصعاب، ويتمسّك بأفكاره واختياراته وانحيازه إلى جانب الجماهير.

فالشاعر كما يراه بسيسو يُشبه مُتسلّق الجبال الذي يصعد ثمّ يسقط ويعاود الصعود حتى يصل إلى القمّة التي بعدها لن يكون هناك من راحة أو استقرار، وكأنّ قدره أن يبقى في حالة صعود مستمر.

معين بسيسو عاش النكبة وما تمخّضت عنه، وعانى كغيره رحلة التّيه الفلسطيني، وظلّت غزّة في دمه حيثما حلّ.

وكان لكلّ هذه التجارب والتحوّلات والمعاناة التي عاشها وشعبه أثرها على تفجير مَكامن الإبداع عند معين بسيسو فتدفّق الشعر الثوري الملتزم الذي قرأناه في مجموعته الشعريّة التي صدرت عام 1952 باسم "المعركة" وبرزت في قصائده ملامحُ التجديد والنُّضج والالتزام بآمال وآلام شعبه.

أنا إنْ سقطتُ فخُذْ مكاني يا رفيقي في الكفاحْ

واحملْ سلاحي لا يخفكَ دمي يسيلُ من السلاح

وهتف أيضا:

* فإذا سقطنا يا رفيقي في جحيم المعركة

فانظر تجد علما يُرفرفُ فوق نار المعركة

ما زال يحمله رفاقك يا رفيق المعركة.

 وكما يصفه الشاعر إيهاب بسيسو: معين شكّل حالة ثوريّة وشعريّة مميّزة. وقد قاد المظاهرات في غزة في منتصف الخمسينات لإسقاط مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء بعيدا عن الوطن.

وصرخ معلنا: "كتبوا مشروع سيناء بالحبر، وسنمحو مشروع سيناء بالدم".

ورغم الملاحقات والمطاردات التي عاشها لمواقفه السياسية واعتناقه للأفكار الشيوعيّة إلّا أنّه سارع لينضم إلى المناضلين في المقاومة المصرية والتصدّي لجنود العدوان الثلاثي على السويس في مصر عام 1956 وهو يُعلنها عاليا:

قد أقبلوا فلا مساومة

المجد للمقاومة.

كما وأصدر معين كتابه الوثائقي "دفاتر فلسطينيّة" الذي كتبه خلال فترة اعتقاله في السّجون المصرية، ووصف فيه ما يتعرّض له المعتقلون الفلسطينيون.

ملاحقة معين بسيسو من قبل أجهزة السلطات المصرية جعلته يعيش حياة القلق والمطاردة ومن ثم الارتحال ما بين العواصم المختلفة: القاهرة بيروت دمشق موسكو ليستقرّ عام 1970 في بيروت وبقي هناك حتى الحصار الأخير.

 وفي هذه السنوات تولّى الكثير من المهمّات النضالية في إطار المقاومة الفلسطينية. وانتخب عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني وعضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين. ورئس تحرير مجلة "اللوتس" وعمل في مجلة "فلسطين الثورة" ونال جائزة "اللوتس".

وظلّ معين في حماسه وتدفّق شاعريّته وسرعة التّوثّبِ واتّخاذ القرار الصحيح الذي تفرضُه عليه الأحداث. ففي عام 1982 كان يشارك في مؤتمر أدبي في طشقند. وعندما سمع ببدء العدوان الإسرائيلي على الثورة الفلسطينية والحركة الوطنيّة اللبنانيّة ولبنان، ترك المؤتمر وعاد سريعا إلى بيروت ليكون مع المقاتلين.

ولدي محمّد: في ظلي الدامي تمدّد

أو فوق ركبة أمك العطشى تمدّد

وإذا عطشتَ وجُعتَ فاصعَدْ

وتألّم معين وهو يشهد ويعيش الصمتَ العربي التّام أمام العدوان على لبنان واحتلال بيروت وموت الآلاف من الفلسطينيين، وآلمه أكثر صمتُ المثقفين والمبدعين العرب.

الصمتُ موت

قُلها ومتْ

فالقولُ ليس ما يقوله السلطانُ والأمير

وليس تلك الضحكةُ التي يبيعُها المُهرّجُ الكبيرُ للمهرّج الصّغير

فأنتَ إنْ نطقتَ مُتّ

وأنتَ إن سكتَّ متّ. قُلْها ومُتْ

وفي قصيدته الملحميّة "القصيدة" صرخ عاليا في وجه كل العرب:

هذا العشاءُ هو الأخيرُ

على موائدكم

فمنذُ الآنَ سوفَ أكونُ وجهي

لم تكنْ عذراءَ نخلتُكمْ

ولا عَذراءَ مَريَمُكُمْ

فلا بيضا صنائعُكُمْ

ولا خُضراً مَرابعُكُمْ

ولا سودا مواقِعُكُمْ

ولا حُمرا مواضيكُمْ

ألا تَبّتْ أياديكُم

وداعا يا ليالي الكَرنفالْ

إضافة إلى إبداعات معين في الشعر فقد كتب المسرحية، وأصدر العديد من المسرحيات التي عرضت معظمها على المسارح. كما كتب الأعمال النثريّة العديدة. ولكنّه ظلّ البارز والمتألّق في الشّعر الثوريّ النّضالي.

وقد آمن معين بسيسو كما يقول الكاتب محمود شقير بأهميّة الالتزام في الأدب، وبضرورة أن يكون الأدب مُلهما للجماهير ومعبّرا عن همومها وتطلّعاتها. ومن هنا جاءت فرادتُه وصدقُ انتمائه في زمن القَمع والاستبداد."

ويصفه محمود درويش بقوله:

معين بسيسو شاعر مليء بالمظاهرة والشوارع، مزدحم بهتاف مُتدفّق، يؤمن حتى التديّن بأنّ القصيدة قوّة حركة، قوّة حزب، قوّة قادرة على التّغيير الفوري.

ويقول الكاتب خيري منصور: "من الشائع نقديّا عن شعر معين بسيسو أنّه مباشر وسياسي بامتياز. كما أنه مؤدلج وهذا أيضا سبب لعزوف النّقد عن نصوصه في ثقافة ساد فيها كسل ذهني وصلت فيه النّميمة مكان النّقد".

ويُدافع الروائي رشاد أبو شاور عن مباشرة قصيدة معين بقوله "قد يُقال بأنّ هذا الشعر فيه مباشرة، وتحريض آنيّ، والحقّ أنّ تلك المباشرة حمَلتها مواهب أصيلة ذكيّة، عرَفت كيف تغوص في عُمق الحدَث، وتستخرج منه قيما إنسانيّة جوهريّة لا تموت مع الزمن.". فمعين بسيسو شاعر معركة واشتباك يحيا ويتألّق في الميدان، بين الناس في أتون المعركة".

يقول الناقد محيي الدين صبحي في دراسة له حول شعر معين: إنه يتبع أخشن طرق الأداء، ويركب أوعر أساليب التعبير، شاعريّتُه ينقصُها الصّقل، ولكن نقصان الصّقل ميّزة فنيّة متّسقة تسِمُ أعمالَه كلّها بسمة الخشونة وإفراط في المباشرة، والانحراف بالصورة عن إطاره الإنساني إلى شيء من التّوغّل الوحشيّ، كلّ هذه لمقصد سياسي.

يقول معين رأيَه في الشعر:

لجهنّم يا الكلمة ذات القرط وذات الخلخال

بالشاعر وربابته، بالموّال

وسيرة فرسان بني "عبس وهلال"

لجهنّم يا أوزان بحور الشعر العَلنيّة

ووقوفا في الصّف

صفّا واحد.. بالخوذة والسونكي.

ويقول معين:

علّمتني الزنزانة السّفرَ لمسافات بعيدة، وعلّمتني أيضا الكتابة لمسافات بعيدة، فالسّجين دائما يُسافر بيده في الماء، ويُحاول الكتابة بصوته".

الشعر عند معين بسيسو حالة حبّ عنيفة، يقوم فيها الشاعر بعمليّة بَعث جديدة للغة حتى تستطيع حمْلَ العالم، والدّفاع عن ذلك العالم أمام الذين يريدون سرقته".

كان معين بسيسو قد شارك محمود درويش في كتابة قصيدة "رسالة إلى جندي إسرائيلي" التي استقبلها البعض بالنقد اللاذع والرفض واعتبرها عز الدين المناصرة قصيدة ضعيفة كذلك لم تعجب رشاد أبو شاور وغيره.

ثنائيّة الموت / البعث راسخة في شعر معين بسيسو وكثيرا ما يعود إلى الميثولوجيا المسيحية "المسيح والصّلب".

يقول محمود درويش "كان معين يطرد فكرةَ الموت كما يطرد ذبابة، وكان يُمازحنا ويهدّدنا جميعا بالرّثاء، كان يكره الرثاء ويمقت المشهد الفلسطيني اليومي في طابور الموت".

وكأنّ معين رغم تظاهره برفضه للموت وعدم اكتراثه به أو الخوف منه، كان في لا وعيه يخاف أنْ يموتَ غريبا عن وطنه، بعيدا عن أصدقائه فكتب:

 أخاف أن أموتَ تحت عَلَم غريب

أخاف أن أموت تحت عَلَم أرفض

كلّ خيط فيه

يا إلهي الكبير، يا وطني.

*

على الغريب أن يموتَ فوق أرضه

عليه أن يموت في بداية الطريق

في نهاية الطريق

وليس في منتصف الطريق.     

وتكرّر خوفُه ممّا قد يحدث له بهمسِه في أذن بسّام أبو شرف الذي كان يسير إلى جانبه أثناء مشاركتهما في موكب جنازة بلقيس زوجة الشاعر نزار قباني نحو مَثواها الأخير في مقابر الشهداء في بيروت: لقد وجدَتْ أرضا تحتضُنها وأصدقاء يودّعونَها نحو مَثواها، هل سنجدُ أرضا تحتضننا وأصدقاء يودّعوننا؟

يروي محمود درويش كيف أنّ معين كاد يقتله مرتين: الأولى، عندما استلّ مسدّسَه ليحسمَ نقاشا مع قارئ خبيث قال له إنّ المحاصَرين في تل الزعتر محتاجون إلى الماء أكثر من حاجتهم للشعر. فمرّت الرصاصة فوق كتفي. المرة الثانية: حين وضع على باب غرفته في لندن شارة "رجاء عدَم الازعاج" لم يُزعجه أحد.. ليموت على مَهل، فنبّهني إلى أننا قد ننجو من القذائف لنقعَ في غدر القلب. لنموت بطريقة أزعجت خالدَ بن الوليد. ومنذ وضعَ تلك الاشارة نزعْتُها عن أبواب غُرَفي في كلّ الفنادق. أريدُ مَن يزعجني وأنا أموت. ثم ناداني كثيرا إلى أن انقضّ قلبي عليّ.

تألّم محمود درويش من رَفْض السّلطات الإسرائيلية السّماح بدَفْن جثمان معين بسيسو في غزّة، ومن تلكؤ السلطات المصرية مدّة أربعة أيام لتسمح بدفنه في مقبرة الأربعينات في القاهرة. وذهب به الخيال لحالته وكيف سيتعاملُ الآخرون معه، فكتب في رسالة أرسلها إلى سميح القاسم من باريس يوم (19.5.1986) يختتمها بهذه الكلمات الحارقة:

"قريبا؟ ست عشرةَ سنة! ست عشرةَ سنةً كافية لتَقْبَلَ بنيلوب وُدّ خطّابها وتلعن بحرَ إيجة. ستّ عشرة سنة كافية لأنْ تتحوّل الحشرات الصغيرة على جراح أيوب إلى طائرات نفّاثة. ستّ عشرة سنة تكفي لأصرخ: بدّي أعود. بدّي أعود. كافية لأتلاشى في الأغنية حتى النّصر أو القبر.

ولكن، أين قبري يا صديقي؟ أين قبري يا أخي؟ أينَ قبري؟"

ولكنّ محمود درويش يرتاح في قبره بين أبناء شعبه الذين حوّلوا قبره إلى مَزار يؤمّونه كلّما زاروا رام الله.

* ونُنهي بهذه القصة الجميلة التي يرويها محمود درويش ما حدث له ولمعين عندما تقدّمت منهما فتاة جميلة تحمل الورد على رصيف محطة القطار في تالين استونيا لتأخذَهما إلى الفندق. يقول محمود: بعد قليل اتّصل بي معين ليقول:

- نحن في وَرْطة وعلينا أنْ نغادرَ الفندق فورا، فتلك الفتاة استقبلتنا باعتبارنا راقصَيْن من كوبا! قلتُ له: لن نخرجَ إلى ثلج يبلغ ارتفاعُه مترين حتى لو كلّفنا ذلك أنْ نرقص. فلنرقص إذن. ما الفارق: راقصان من كوبا أو شاعران من فلسطين.

***

د. نبيه القاسم

لقد كان تصوير الحياة الجنسية والشهوانية موضوعا ثابتا في الأدب الإنجليزي، خاصة في نوع الرواية. لقد تطور استكشاف الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية على مر القرون، مما يعكس المواقف المجتمعية، والأعراف الثقافية، والتصورات المتغيرة للجنس. يهدف هذا المقال إلى الخوض في السياق التاريخي للإيروتيكية في الروايات الإنجليزية، ومناقشة الشخصيات الرئيسية في هذا النوع، وتحليل تأثير الإيروتيكية في الروايات الإنجليزية، وتحديد الأفراد المؤثرين الذين ساهموا بشكل كبير في هذا المجال.

تاريخيا، يمكن إرجاع تصوير الموضوعات المثيرة في الروايات الإنجليزية إلى القرن الثامن عشر، حيث قام مؤلفون مثل دانييل ديفو وصموئيل ريتشاردسون بدمج عناصر الشهوانية والرغبة في أعمالهم. أدى ظهور الرواية القوطية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر إلى زيادة حدود الإثارة الجنسية في الأدب، حيث استكشف كتاب مثل آن رادكليف وماثيو لويس موضوعات العاطفة والرغبة والجنس. و مع بزوغ فجر العصر الفيكتوري، أصبح تصوير الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية أكثر تقييدا وتنظيما بسبب القواعد الأخلاقية والاجتماعية السائدة في ذلك الوقت.

إن أحد الشخصيات الرئيسية في تطور الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية هو دي إتش لورانس، الذي تحدت أعماله مثل "عشيق السيدة تشاترلي" و"نساء عاشقات" المحرمات المجتمعية وقوانين الرقابة من خلال تصويرها الصريح للجنس. مهد استكشاف لورانس الجريء للإثارة الجنسية الطريق أمام كتاب المستقبل للتعمق أكثر في موضوعات الشهوانية والرغبة في أعمالهم.

هناك شخصية أخرى مؤثرة في عالم الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية هي أنيس نين، التي تجاوزت مذكراتها ورواياتها مثل "دلتا الزهرة" و"الطيور الصغيرة" حدود الأدب المثير من خلال تصويرها الصريح للتجارب والتخيلات الجنسية. كان لاستكشاف نين للجنس الأنثوي والرغبة تأثيرا دائما على هذا النوع، حيث ألهم أجيالا من الكتاب لاستكشاف موضوعات الشهوانية والحميمية في أعمالهم.

يمتد تأثير الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية إلى ما هو أبعد من مجرد قيمة الإثارة أو الصدمة. إن تصوير الحياة الجنسية والرغبة في الأدب هو بمثابة انعكاس للتجارب والعواطف والعلاقات الإنسانية. من خلال الخوض في موضوعات الشهوانية والحميمية، يمكن للكتاب استكشاف تعقيدات التفاعلات البشرية، والرغبات، ونقاط الضعف بطريقة عميقة وبصيرة.

ومع ذلك، فإن تصوير الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية واجه أيضا انتقادات وجدلا. حيث يجادل البعض بأن التصوير الصريح للجنس يمكن أن يكون غير مبرر أو مسيئا أو غير مناسب، بينما يعتقد البعض الآخر أن مثل هذه المواضيع ضرورية لتمثيل النطاق الكامل للتجارب الإنسانية. يستمر الجدل حول الإثارة الجنسية في الأدب في التطور، حيث يتصارع الكتاب والقراء على حد سواء مع مسائل الرقابة والأخلاق والحرية الفنية.

في الختام، فإن استكشاف الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية له تاريخ غني ومعقد، مع شخصيات رئيسية مثل دي إتش لورانس وأناييس نين الذين يشكلون هذا النوع من الأدب من خلال أعمالهم الجريئة والاستفزازية. يمتد تأثير الإثارة الجنسية في الأدب إلى ما هو أبعد من مجرد الدغدغة، حيث يعمل بمثابة انعكاس لرغبات الإنسان وعواطفه وعلاقاته. في حين أن تصوير الحياة الجنسية في الروايات يمكن أن يكون مثيرا للجدل، فإن استكشاف موضوعات الشهوانية والرغبة يستمر في أسر القراء والكتاب على حد سواء، مما يدفع حدود التعبير الأدبي. من المرجح أن يستمر مستقبل الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية في التطور، مما يعكس المواقف المتغيرة تجاه الجنس والجنس والهوية في المجتمع.

مع الحب

***

محمد عبد الكريم يوسف

 

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع القيم دورا مركزيا في تشكيل الشخصيات وعلاقاتهم. يستكشف لورانس الصدام بين القيم المجتمعية التقليدية والرغبات الشخصية، ويقدم نقدا للقيود التي تفرضها الطبقة والجنس والأخلاق. تتبع الرواية بطلة الرواية، السيدة كونستانس تشاترلي، وهي تتنقل في انجذابها إلى حارس الطرائد، أوليفر ميلورز، وتتصارع مع توقعات ومعايير حياتها من الطبقة العليا. من خلال شخصيتي السيدة تشاترلي وميلورز، يدرس لورانس التفاعل المعقد بين القيم الفردية والتوقعات المجتمعية. إن كفاح الليدي تشاترلي للتوفيق بين شوقها إلى الإنجاز والعاطفة مع قيود وضعها الاجتماعي يسلط الضوء على الصراع الداخلي الذي ينشأ عندما تتعارض القيم الشخصية مع الأعراف الخارجية. وبينما تتكشف أحداث الرواية، يتعمق لورانس في تعقيدات العلاقات الإنسانية والطرق التي تشكل بها القيم تصوراتنا عن أنفسنا والآخرين. تعد عشيق السيدة تشاترلي في نهاية المطاف بمثابة استكشاف مؤثر للصراع الدائم بين الإلتزام والأصالة، مما يتحدى القراء للنظر في الطبيعة الحقيقية لقيمهم ورغباتهم.

النقاط الرئيسية

1. يعكس تصوير القيم التقليدية مقابل القيم الحديثة في رواية عاشق الليدي تشاترلي استكشاف دي إتش لورانس للأعراف المجتمعية والرغبات الفردية.

2. إن طبيعة الصراع الداخلي لكونستانس تشاترلي بين التوقعات المجتمعية والإشباع الشخصي يسلط الضوء على أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على  الرغم من الضغوط الخارجية.

3. يستخدم لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز لتوضيح أهمية الاتصال والثقة والأصالة  في دعم القيم في مواجهة الشدائد.

4. تتحدى الرواية المفاهيم التقليدية للأخلاق والإخلاص، مما يدفع القراء إلى التشكيك في صحة البنيات المجتمعية وتبني فهم أكثر شخصية ودقة  للقيم.

5. من خلال نقده للتصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين، يشجع لورنس القراء على إعادة تقييم قيمهم الخاصة والنظر في تأثير التأثيرات المجتمعية على المعتقدات والخيارات الشخصية.

التفاصيل:

1. يعكس تصوير القيم التقليدية مقابل القيم الحديثة في رواية عشيق الليدي تشاترلي استكشاف دي إتش لورانس للأعراف المجتمعية والرغبات الفردية.

عشيق الليدي تشاترلي هي رواية تتعمق في التفاعل المعقد بين القيم التقليدية والقيم الحديثة، وتسلط الضوء على التوتر بين الأعراف المجتمعية والرغبات الفردية. يعرض دي إتش لورانس ببراعة الصدام بين العالم القديم والعالم الجديد، ويدعو القراء إلى التشكيك في صحة العادات الراسخة في مواجهة الأوقات المتغيرة. طوال الرواية، يقدم لورانس تناقضا صارخا بين القيم التقليدية التي تدعمها شخصيات مثل السير كليفورد والقيم الحديثة التي تجسدها الليدي تشاترلي وميلورز. يمثل السير كليفورد، وهو نموذج للحرس القديم، الطبقة الأرستقراطية التي تقدر التقاليد واللياقة والرواقية فوق كل شيء آخر. إن التزامه بالتوقعات المجتمعية والقواعد الأخلاقية الصارمة يجعله في النهاية باردا وبعيدا ومنفصلا عن العالم من حوله. من ناحية أخرى، تقف الليدي تشاترلي وميلورز كتجسيدين للحداثة، حيث ترفضان قيود التقاليد وتحتضنان رغباتهما وعواطفهما. إن استيقاظ الليدي تشاترلي لاحتياجاتها ورغباتها الخاصة يتحدى المعايير الأبوية التي أملت سلوكها منذ فترة طويلة، مما دفعها إلى البحث عن الإنجاز خارج حدود زواجها. وعلى نحو مماثل، فإن ميلورز، حارس الطرائد الذي يتجنب توقعات المجتمع لصالح وجود أكثر بدائية وأصالة، يجسد رفض القيم التقليدية لصالح الاستقلال الشخصي. إن استكشاف لورانس للمشهد المتغير للقيم في عشيق السيدة تشاترلي هو بمثابة تعليق قوي على الطبيعة المتطورة للمجتمع والصراع الأبدي بين المطابقة والفردية. من خلال التوفيق بين الالتزام الصارم بالتقاليد والسعي الجامح لتحقيق الإنجاز الشخصي، يجبر لورانس القراء على مواجهة معتقداتهم الخاصة حول ما يعنيه أن يكون الشخص صادقا مع نفسه في عالم يتطلب غالبا الامتثال. بهذه الطريقة، تصبح عشيق الليدي تشاتيرلي أكثر من مجرد قصة حب؛ يصبح انعكاسا للتوتر الخالد بين التقاليد والتقدم والواجب والرغبة. إن تصوير لورنس الدقيق لهذه القيم المتضاربة يدعو القراء إلى النظر في الطرق التي تشكل بها المعايير المجتمعية حياتنا وأهمية البقاء صادقا مع الذات في مواجهة التوقعات المجتمعية. من خلال الرواية، يتحدانا لورانس للتشكيك في القيم التي تحكم حياتنا والبحث عن حقيقتنا، حتى لو كان ذلك يعني تحدي التقاليد.

2. إن طبيعة الصراع الداخلي لكونستانس تشاترلي بين التوقعات المجتمعية و الاشباع الشخصي يسلط الضوء على أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على الرغم من الضغوط الخارجية.

في رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاترلي"، تواجه شخصية كونستانس تشاترلي صراعا داخليا عميقا بين التوقعات المجتمعية والإشباع الشخصي. كعضو في الطبقة العليا، من المتوقع أن تلتزم كونستانس بمعايير سلوكية معينة وأن تلتزم بتوقعات طبقتها الاجتماعية. ومع ذلك، تجد نفسها غير راضية بشكل متزايد عن حياتها ومنفصلة عن زوجها السير كليفورد تشاترلي. يسلط الصراع الداخلي الذي تعيشه كونستانس الضوء على أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على الرغم من الضغوط الخارجية. طوال الرواية، تتصارع كونستانس مع الرغبات المتضاربة للتوافق مع الأعراف المجتمعية واتباع رغباتها الخاصة. إنها ممزقة بين واجبها كزوجة وشوقها إلى حياة أكثر إشباعا وعاطفة. على الرغم من التوقعات المعلقة عليها، اختارت كونستانس في النهاية أن تتبع قلبها وتواصل العلاقة مع حارس الطرائد، ميلورز. ومن خلال اتخاذ هذا الاختيار، يوضح كونستانس أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد ورغباته، حتى في مواجهة الضغوط الخارجية. من خلال اختيار الإنجاز الشخصي على التوقعات المجتمعية، تجد كونستانس في النهاية السعادة والوفاء في علاقتها مع ميلورز. وهذا بمثابة تذكير قوي بأن البقاء صادقا مع نفسه أمر بالغ الأهمية، حتى عندما يواجه ضغطا مجتمعيا للامتثال. في الختام، فإن الصراع الداخلي لكونستانس تشاترلي في عاشق الليدي تشاترلي هو بمثابة توضيح مؤثر لأهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على الرغم من الضغوط الخارجية. من خلال اتباع رغباتها الخاصة واختيار الإنجاز الشخصي على التوقعات المجتمعية، تجد كونستانس في النهاية إحساسًا بالهدف والسعادة. وهذا بمثابة تذكير قوي للقراء بأهمية البقاء صادقا مع الذات، حتى في مواجهة الشدائد.

3. يستخدم لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز لتوضيح أهمية الاتصال والثقة والأصالة في دعم القيم في مواجهة الشدائد.

في رواية دي إتش لورانس عشيق السيدة تشاترلي، تعد العلاقة بين كونستانس وميلورز بمثابة توضيح قوي لأهمية الاتصال والثقة والأصالة في دعم القيم وسط الظروف الصعبة. بينما تتصارع كونستانس مع رغباتها في العلاقة الحميمة الجسدية والعاطفية، تجد العزاء والوفاء في علاقتها مع ميلورز، حارس الطرائد الذي يجسد إحساسا بالأصالة الخام والصدق المفقود في زواجها من السير كليفورد. يصور لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز على أنها علاقة مبنية على أساس الثقة والاحترام المتبادل والاتصال الحقيقي. على عكس تفاعلاتها السطحية والمنفصلة مع السير كليفورد، تنجذب كونستانس إلى أصالة ميلورز وشفافيته. من خلال محادثاتهما الحميمة ولقاءاتهما العاطفية، يشكل كونستانس وميلورز رابطة عاطفية عميقة تتجاوز الأعراف والتوقعات المجتمعية، مما يسمح لهما بالعثور على العزاء والوفاء في حضور بعضهما البعض. في مواجهة الشدائد والحكم المجتمعي، يظل كونستانس وميلورز ملتزمين بقيمهما ومعتقداتهما، ويرفضان التنازل عن ارتباطهما وأصالتهما من أجل المطابقة. على الرغم من العقبات التي يواجهونها، بما في ذلك الاختلافات الطبقية والازدراء العام، فإنهم يختارون إعطاء الأولوية لسلامتهم العاطفية وسعادتهم على المصادقة الخارجية. من خلال ثقتهم التي لا تتزعزع في بعضهم البعض وقدرتهم على البقاء صادقين مع أنفسهم، يُظهر كونستانس وميلورز المرونة والقوة التي يمكن العثور عليها في الحفاظ على الروابط والعلاقات الحقيقية. بشكل عام، يستخدم لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز لتسليط الضوء على أهمية الاتصال والثقة والأصالة في دعم القيم في مواجهة الشدائد. من خلال تصوير الرابطة بينهما كمصدر للقوة والوفاء، يؤكد لورانس على القوة التحويلية للاتصالات الحقيقية والشجاعة المطلوبة للبقاء صادقا مع نفسه في خضم الضغوط المجتمعية. من خلال كونستانس وميلورز، يدعو لورانس القراء إلى التفكير في أهمية الأصالة والثقة في الحفاظ على قيم الفرد ونزاهته، حتى في مواجهة التحديات والعقبات.

4. تتحدى الرواية المفاهيم التقليدية للأخلاق والإخلاص، مما يدفع القراء إلى التشكيك في صحة البنيات المجتمعية وتبني فهم أكثر شخصية ودقة للقيم.

في رواية "عشيق السيدة تشاترلي" للكاتب دي إتش لورانس، تتحدى الرواية المفاهيم التقليدية للأخلاق والإخلاص، مما يدفع القراء إلى التشكيك في صحة البنيات المجتمعية واحتضان فهم أكثر شخصية ودقة للقيم. تبدأ بطلة الرواية، الليدي كونستانس تشاترلي، في رحلة لاكتشاف الذات والتحرر مما يجبرها على مواجهة التوقعات الصارمة التي يفرضها عليها المجتمع. من خلال علاقتها مع حارس الطرائد، أوليفر ميلورز، تجد الليدي تشاترلي نفسها تتساءل عن مؤسسة الزواج والقيود التي تفرضها على السعادة الشخصية. يتحدى لورنس القراء لإعادة النظر في القيم التقليدية للإخلاص والأخلاق، ويحثهم على النظر في تعقيدات العلاقات الإنسانية وأهمية الإشباع العاطفي. تتحدى الرواية فكرة أن الأعراف المجتمعية يجب أن تملي علاقات الفرد ورغباته الشخصية. من خلال استكشاف الطبيعة المحرمة لعلاقة السيدة تشاترلي وميلورز، يدفع لورانس القراء إلى التشكيك في القواعد التعسفية التي تحكم الحب والحميمية. وبدلا من الالتزام الأعمى بالبنيات المجتمعية، تشجع الرواية القراء على تبني فهم أكثر فردية وأصالة للقيم. بهذه الطريقة، يعد "عشيق السيدة تشاترلي" بمثابة تعليق قوي على حدود الأخلاق التقليدية وضرورة التشكيك في الأعراف الاجتماعية. من خلال تحدي القراء للتفكير بشكل نقدي حول صحة البنيات المجتمعية، يدفعهم لورانس إلى النظر في أهمية الأصالة والوكالة الشخصية في تشكيل قيمهم ومعتقداتهم. من خلال رحلة الليدي تشاترلي، يتم تذكير القراء بالحاجة إلى صياغة طريقهم الخاص والعيش وفقا لبوصلتهم الأخلاقية الداخلية.

5. من خلال نقده للتصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين، يشجع لورنس القراء على إعادة تقييم قيمهم الخاصة والنظر في تأثير التأثيرات المجتمعية على المعتقدات والخيارات الشخصية.

في روايته "عشيق السيدة تشاترلي"، يتعمق دي إتش لورانس في العديد من القضايا المجتمعية، مثل التصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين، لتحفيز القراء على التفكير في قيمهم ومعتقداتهم. من خلال نقده لهذه المواضيع، يتحدى لورانس القراء لإعادة النظر في تأثير التأثيرات المجتمعية على الخيارات الشخصية ووجهات النظر. إن تصوير لورانس للتصنيع كقوة تجرد الأفراد من إنسانيتهم وتنفرهم من الطبيعة ومن بعضهم البعض يدعو إلى التشكيك في قيم التقدم والكفاءة التي غالبا ما يعطيها المجتمع الحديث الأولوية. إن مكننة منجم الفحم في الرواية لا تمثل التدهور المادي للمناظر الطبيعية فحسب، بل ترمز أيضا إلى فقدان الاتصال البشري والحميمية في عالم سريع التغير. يحث لورانس القراء على التساؤل عما إذا كان السعي وراء الثروة المادية والتقدم التكنولوجي يأتي على حساب إنسانيتنا وعلاقاتنا. علاوة على ذلك، فإن استكشاف لورانس للاختلافات الطبقية يسلط الضوء على ديناميكيات السلطة المعقدة التي تلعبها في المجتمع ويجبر القراء على مواجهة تحيزاتهم وافتراضاتهم حول الوضع الاجتماعي. تتحدى علاقة الحب المحرمة بين الليدي تشاترلي وحارس صيدها ميلورز المفاهيم التقليدية للحدود الطبقية وتكشف الطبيعة التعسفية للتسلسلات الهرمية المجتمعية. يحث لورنس القراء على التفكير فيما إذا كانت الفروق الصارمة بين الطبقات الاجتماعية تعكس حقا قيمة الأفراد وكرامتهم أم أنها تعمل فقط على دعم الأنظمة القمعية للامتياز والقهر. أخيرًا، يتساءل نقد لورانس لأدوار الجنسين عن التوقعات المحدودة والمحدودة الموضوعة على الرجال والنساء في المجتمع. من خلال شخصية السيدة تشاترلي، التي تتحدى المعايير الجنسانية التقليدية من خلال البحث عن الإنجاز والعاطفة خارج زواجها، يدعو لورانس القراء إلى التشكيك في الأدوار التقييدية المفروضة على الأفراد على أساس جنسهم. من خلال تصوير ميلورز كرجل حساس ومعبر عاطفيا على عكس السير كليفورد البارد و المنفصل، يتحدى لورانس الصور النمطية حول الذكورة والأنوثة ويشجع القراء على تبني فهم أكثر دقة و شمولا للطبيعة البشرية.

إن استكشاف لورانس للتصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين في "عشيق السيدة تشاترلي" بمثابة حافز قوي للقراء لإعادة تقييم قيمهم ومعتقداتهم في مواجهة الضغوط والتوقعات المجتمعية. من خلال التشكيك في تأثير التأثيرات الخارجية على الخيارات ووجهات النظر الشخصية، يدعو لورانس القراء إلى التأمل والنظر في الطرق التي يمكن أن تشكل بها المعايير المجتمعية أو تقيد بوصلتهم الأخلاقية. ومن خلال عملية التفكير والفحص الذاتي هذه، يمكن للقراء أن يبدأوا في صياغة طريق أكثر أصالة وذات معنى نحو تحقيق الشخصية والعدالة الاجتماعية.

وفي الختام، فإن رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاترلي" هي بمثابة استكشاف مثير للتفكير لأهمية القيم في تشكيل السعادة الشخصية والوفاء. من خلال شخصيات كونستانس وميلورز، يتعمق لورانس في تعقيدات الأعراف المجتمعية والرغبات الشخصية، مما يتحدى القراء في نهاية المطاف للتفكير في معتقداتهم و أولوياتهم. و من خلال دراسة موضوعات الحب والعاطفة والأصالة، يسلط لورانس الضوء على القوة التحويلية للبقاء صادقا مع نفسه، حتى في مواجهة التوقعات المجتمعية. بينما نبحر في حياتنا، يذكرنا "عشيقة السيدة تشاترلي" بأن نأخذ في الاعتبار القيم التي توجه أفعالنا و قراراتنا، وأن نبقى واعين لكيفية تشكيل تصوراتنا الخاصة عن السعادة والنجاح.

***

محمد عبد الكريم يوسف

..........................

المراجع

Lady Chatterley's Lover , D H Lawrance

 

تنماز الحركة الشعرية النسوية المعاصرة بوفرة وغزارة في الإنتاج، وتنوع في الأغراض والموضوعات وتفاوت في الجزالة واللفظ، وقد خلقت هذه الكثرة نوعا من التنافس بين جماعات نون النسوة، تنافس نجح في بعض زواياه في تحريك راسب الطين في عموم حركة الشعر النسوية التاريخية، فنشطها وأعطاها زخما حركيا نافعا، وتسبب بعض منها في تأجيج خصومات وخلق عداوات بينهن، ولاسيما منهن اللواتي لم ينجحن في تخطي الخط الأخضر؛ الذي لا تصبح المرأة شاعرة إلا إذا اجتازته بلا عون من أحد، فتلك النسوة بقين محتفظات بمستوى واحد يقبل النزول ويأبى الصعود، ولكنهن لم يعترفن بالهزيمة، ولاسيما بعد أن فتحت شبكة الانترنيت لهن أبوابها، وفسحت المجال لهن كلهن لينطلقن في كل الاتجاهات دونما رقيب، وينشرن نتاجهن دونما تقييم أو تقويم. وإن كان لشبكة الانترنيت من حسنة تذكر فهي السماح لهن للاطلاع على نتاج بعضهن ولكنها لم تعلم الكثير منهن على فضيلة أن على المرء أن يعرف مقدار نفسه، مثلما سمحت لنا الشبكة الاطلاع على مجمل النتاج النسوي ومتابعته من واقع حيادي لا انحراف فيه.

الشيء الذي أعجبني في ساحة المنافسة التي يخضن نزالاتهن فيها أن بعضهن تصدرن السباق بشعر غاية في الروعة والجمال، واختيار المفردات، ونسق الصياغة، وجزالة الفكرة، ونمط التوصيف وتعدد الأغراض، والعمل المثقف، وبعضهن قصرن عن اللحاق بالركب، فبقين يراوحن في مكان قصي اخترنه ملاذا، وكأنهن يرفضن تطوير أنفسهم، أو لا يملكن عوامل قدرة التطوير التي تدفع بهن للأمام ولو بضع خطوات.

وكانت الشاعرة الدكتورة وجيهة السطل واحدة من اللواتي أجدن وابدعن، وحققن تقدما لا يجارى، ولهذا أسبابه، فهو ربما كان بسبب تخصصها العلمي، فهي تحمل درجة الدكتوراه في علوم اللغة العربية من جامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٦، وربما بسبب النشأة والمعاناة التي تعرضت لها، فهي فلسطينية الأصل من يافا، نشأت وترعرع، ودرست وتعلمت في سورية، وتحمل الجنسية المصرية. فتنوع جغرافية النشأة والمؤثر المجتمعي يزود المرء عادة بدفقات من مواريث مختلفة لكل منها خصوصيته ومواطن جذبه.

غير هذا أعلل تقدمها ربما لأنها باحثة علمية نجحت في إصدار مجموعة مؤلفات تخصصية مثل: كتاب جسم الإنسان في معاجم المعاني. وكتاب مدخل إلى اللغة العربية - منهج ميسر؛ دروس في النحو والصرف مع تدريباتها وحلولها. وربما بسبب كونها محققة سبق وأن حققت كتاب الملمَّع للحسين بن علي النمري، وغير هذا وذات إصدارها في وقت مبكر ديوان حديث العشق. وربما اجتمعت كل هذه الخصال لتعطي شعرها دفقات الروعة والعذوبة والفصاحة والجمال.

وآخر شعر اطلعت عليه من نتاجها المعرفي قصيدة "ما لا يُحتوى ببيان"، التي كتبتها في نهاية شهر آذار من عام 2023، ثم قامت بتعديلها في العشرين من شهر تموز من العام نفسه.

ما لا يُحتوى ببيان قصيدة اقتبست الشاعرة فكرتها من كتاب السيرة النبوية لابن هشام، وهي تحكي مواقف ومقاطع من سيرة سيدنا النبي الأكرم ﷺ شعرا؛ ابتداء من اللحظة التي كفله فيها عمه أبو طالب:

الله كرّمه وفي القرآن

خصَّ اليتيمَ، بعطفه الربّاني

*

آوى اليتيمَ إلى حماهُ فأثمرت

سنواتُ عمرٍ فاحَ كالريحان

وبعيدا عن التسلسل الروائي يمكن للحصيف أن يشخص فرادة منهجها البنائي منذ صدر البيت الأول من القصيدة، فهي تتأرجح على الفكرة وتراهن على بساطة الكلمات لتوصل معنى متفردا في عليائه، نافرا مرة وطيعا مرة أخرى، وكأنها تريد الإشارة إلى أسس البساطة المدعومة بالقوة المؤمنة المثقفة التي سينشرها الوليد المقدس الجديد في الكون، لتحل بدلا عن التعقيد الذي أنهك إنسانية الإنسان في مجتمعات طبقية يتحكم فيها الاستبداد والأسياد برقاب الأغلبية المسحوقة.

لم تكن الدكتورة الشاعرة موفقة في اختيار بداية القصيدة فحسب، إذ سارت بعد تلك البداية الموفقة الواعدة مع نمو وتجلي هذا النور السامق والوعد الشارق خطوة خطوة، فوصفت طفولته واشتغاله في رعي الغنم في بادية بني سعد، وعرجت على فتوته واشتغاله مرة أخرى في رعي الغنم بأجياد في مكة:

كبُر اليتيمُ، وصارَ أجملَ يافعٍ

ولَذكرهُ نغمٌ معَ الخلّان

*

راعٍ يقدِّمُ للرعاةِ دروسَه

ولكلّ نبعٍ في الفصاحةِ داني

*

وقريشُ كانت بالقلوبِ تحوطُه

والأهلُ منه على المدى بأمان

فالرعي لا يتيح مددا للتأمل فحسب نتيجة الخلوة، بل ويتيح تعلم وممارسة القيادة، والقيادة فن وممارسة وتطبيق وتطوير، ومن ينجح في تدجين حيوان أبكم لابد وأن ينجح أكثر في محاولته بناء إنسان جديد من عدم الإنسانية البالية التي أنهكها الجور.

وفق المنهج التسلسلي ذاته انتقلت بعد تلك الشروح لتتحدث عن تجربة اشتغاله ﷺ بالتجارة، في إشارة إلى ذهابه مع عمه أبي طالب إلى الشام ولقائه بالراهب بحيرا الذي توسم فيه دلائل النبوة:

ثم ارتقى   لتجارةٍ معَ قومِه

وإلى الشآم مضى مع الرُّكبان

والتجارة هي الأخرى تجربة حياتية تنماز بكونها فن وخبرة وأسلوب تعامل ومقدرة على التمييز وانتقاء الأكثر نفعا وعدم الاستهانة حتى ببسيطات الأمور، وهي كلها عوامل تربوية ونشأوية كانت ممهدات تطورية أسهمت في بناء شخصية القائد المؤمل الموعود الذي تنتظره البشرية ليعيد لها ثقتها بإنسانيتها.

بعدها اقتبست قصة زواجه من الوجيهة القرشية أمنا الطيبة السيدة خديجة بنت خويلد، وهو زواج خارج سياقات المنطق مثلما وصفته الروايات التاريخية التي تحدثت عن فارق كبير في السن بينهما، مما دفع آخرين لنقي تلك الأخبار وإبطال تلك الروايات، وكلاهما لم ينتبه إلى أن هذا الزواج أصلا كان بأمر إلهي ولم يخضع لأي مقاييس، وفيه إشارة إلى رؤية الإسلام الذي ينتظر الولادة على يديه المباركتين، بالمرأة كعنصر بناء لا يقل دورها وتأثيرها عن الرجل وهي تزاحمه منزلة، فقالت:

سمعَتْ به ورأتهْ بنتُ خويلدٍ

عشقتْ أمانته، وحُسنَ تفاني

*

ولطيبِ سيرتِهِ أصاخت وارتوتْ

ممّا   رَوَوْا عنه من استحسان

بعد هذا الوصف التفصيلي، انتقلت الدكتورة وجيهة إلى مرحلة النأي عن الناس والخلوة بالروح والقلب لاستحضار حقيقة الوجود البهي الذي يشرق في أرجائه نور الله الباهر، انتقلت لتتحدث عن مرحلة الاعتكاف في غار حراء، فأبدعت في وصف دقائقها وأجزلت البوح:

هذا حِراءٌ سوف يسمعُ وحيَه

ليتيهَ   غارٌ   فوق   كلِّ مكان

*

ويظلّ   مُعتكِفًا    سنينَ   مفكّرًا

وعطورُ   ذاك الفكرِ في الوُجدان

ولأن النور أشرق في الغار، ومن الغار كانت البداية، انتقلت الشاعرة لتتحدث عن نزول الوحي الأول بكل ما تمثله تلك اللحظة التاريخية من وجل يخلع الألباب:

ناداه    جبريلٌ   وردّدَ آمرًا

(اِقرأ) محمّدُ!  يا لَرعبِ جَنانِ

*

لا!  لست ممن يقرؤونَ ولم تكن

خطَّتْ يمينيَ أحرفًا بمعاني

*

(اِقرأ) وباسم الله سوف تقولُها

ربِّ الجميعِ معلِّمِ   الإنسان

ولأن كتب السيرة كانت قد أشارت إلى أن النبي بعد أن حُمِّل الرسالة أصابه الرعب فنزل من حراء ولجأ إلى زوجته الأمينة يقص عليها ما حصل، وهو ما وصفته الشاعرة بقولها:

فمضى وخبَّأ خوفَه في حجرِها

فجَرَتْ إليه    ودثّرَتْ    بحنان

مع أن هناك من يرى أن التصديق بتلك الروايات يُعدُ من الأمور التي تخالف المنطق والعقل، إذ يستحيل أن يصاب من كان ينتظر الوحي بلهفة وشوق بكل ذلك الهلع، وهو الذي اعتزل الناس كلهم ولجأ إلى "حِراء" يتأمل ويتعبد وينتظر اللقاء.!

إجادتها وجميل نظمها واستيعابها للروايات التاريخية خلق عندها نوعا من السمو العرفاني شعرت معه بنوع من التقصير، يشعر به كل من يتطوع لمدح رسول الله، فالنبي كيان إلهي يختلف عن كل الكيانات، نعم هو القائل: " إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" ولكن ولادات نساء كل الدنيا لا ترقى لأن تكون في مصاف تلك الولادة العظمى التي أنار لها الكون، ولذا قالت وكأنها تطلب السماح، فهي لم تطلب أكثر من رشفة كوثرٍ من كفه الكريم، وطمأنينة عظمى بأن الشفاعة تشمل الطيبين:

مهما تبارَى المادحون بمدحِه

فهو المُفدَّى والعظيمُ الشان

*

وبذكره تصفو النفوسُ وترتقي

فالنورُ في الأرواحِ والأبدان

*

يا مؤمنًا صلّى عليه   مُسلِّمًا

وتلا الشهادةَ عند كلّ أذانِ

*

ستنالُ رشفة كوثرٍ من كفّهِ

وتفوزُ بعد شفاعةٍ بجِنان

ولتعليل هذا القصور المتخيل، قالت وكأنها تعتذر عن قصورها في بلوغ المعنى:

يا سيِّدي يامَنْ بذكرِك أحتمي

وألوذُ مرتجيًا رضا الرحمن

*

يا أيها المبعوث فينا رحمةً

ألهمتني فعزفْتُ ما أشجاني

*

فالحرفُ في قلبي يضيء جوارحي

وهواك في روحي يصونُ كياني

وإيغالا في الاعتذار سعت الشاعرة وراء تبيان سبب كتابتها لهذه القصيدة، فقالت:

قد قلتُ ما أمْلتْ عليّ مشاعري

وسكبتُه فيضًا بلا كتمان

*

ورسمتُه مثلَ الضياء قصيدةً

في مدح أحمدَ سيد الأكوان

وفي التفاتة نادرا ما تحدث الفقهاء عنها، ولاسيما بعد أن شذت بعض الفرق واعتبرت مرتكبها مشركا، وأقصد بها موضوعة "التوسل بالنبي"، إذا اختلف الفقهاء بين من قال: إن التوسل جائز إجماعا، ولم ينكره أحد لا من السلف ولا من الخلف، ومن ذهب إلى أن التوسل لا يجوز إطلاقا، ونهوا عنه، وقالوا: لا يسأل بمخلوق، رغم هذا النشاط التضادي بدا وكأن الشاعرة أرادت التمرد على الثقافة الاقصائية الخالية من الروح وجهرت بعالي الصوت متوسلة برسول الله، فقالت:

ربّاه قد أكرمتَنا بمحمّدٍ

برسالة الإسلامِ والإيمان

*

أسبِغْ إلهي مِنْ نعيمِك راحة

وامنح عبادك نعمة الغفران

*

واقبل عبادًا تائبين لربهم

وأعتق رقابهم من النيران

*

وارحمْ إلهي في الثرى شهداءَنا

وانصرْ بحقِّ نبيٍنا العدنان

وفق هذه الصياغة بدت القصيدة في بعض جوانبها تقريرية تعليمية أكثر منها وجدانية، وفي جوانب أخرى مغرقة بالوجدانية والروحانية، فجمعت بين نقيضين بشكل محبب مع اعتناء في البناء والإخراج، أما موضوعها المحبب فقد جعلها مقربة للنفوس وأعطاها مقبولية أدبية واجتماعية، فبدت وكأنها أنشودة ينشدها أطفال في غسق ربيعي.

***

الدكتور صالح الطائي

أعتقد أنّ الكتابة ليست سهلة في بعض نصوصها، إنّها نصوص اجتهدت لتكون قطعة مميّزة في قصة مميّزة ناضجة من حيث البناء السردي الفني المتناغم عن شخصيات عاش معها الكاتب ومؤثرة فيه عن أفراد مجتمع في ذهن الكاتب التي كوّنها واختلقها إبداعيًا واقعيًا بامتياز. تنحني بها أمام ذاكرة الراوي عندما تقرأ النصوص كأنّها صف مرصوص لا يختلف بنيانه في الكثافة المخصصة للسرد.

خارج الصالة تبدأ الحكاية، يصف الراوي القرية التي جمعتهم بين الأزقة الضيقة التي يسكنان بها مع وهب حيث، دخول الكاتب في دهاليز الاسترجاع " الفلاش باك" بين وصف الحياة الطبيعية التي يعيشها المجتمع في ذلك الزمان، قبل الدخول في هندسة السرد والمجاديف التي استخدمها الكاتب في الإبحار تحمل معها بوصلة شمالية محددة بين البداية والنهاية، لكن قبل الوصول، دوّن بخياله الواسع النصوص الأدبية المتعاركة بين وقوف واستشهاد لهذه العبقرية التي نسجت هذه الخيوط الذهبية في البيئة التي كانت مسرحًا لأحداث القصة.3693 رواية مائل بخط الرقعة

وهب حمل هذه القصة بأكملها مع صديق عمره، وهو الراوي، جمعت تارة بضمير الغائب وتارة بضمير المتكلم بين وصف مبدئي، يقصد عبد الوهاب الذي طالما ينادى باسم "عبد" بين الساباط والشوارع الضيقة وبين الاسم الأصلي "عبدالوهاب" الذي يتوجس منه إحسانًا عندما يراد منه خدمة مجانية. في بداية حياته كان يعمل حارس مقبرة، وبين قراءتي للأدب منذ عقود إلّا أنّي لم أجد وصفًا جميلًا يحمل نصه الموجة العالية حين يصف الكاتب وهب "فعين مفتوحة على اتساعها دائمًا ولا شيء يجعلها ترفّ، والعين اليسرى تهجع تحت لحاف جفنه المتغضّن فهو لا يحتاجها عادة" يجعلك الكاتب تفيض بأنه أعور "أي ذهب بصره، هكذا يأسرك النص بقوة عباراته وجمال المعنى وحسن الصياغة في فنّ البلاغة.

لقد استخدم الكاتب العدسة من الزاوية الواسعة التي تضبط المشاهد ذات الطول البؤري الذي تستطيع أن تحصل على المشهد كما في الخيال المرسوم خارج نطاق المونتاج الذي نعرفه عندما أنتج هذا المشهد الذي يقول: "وقبلها قبل أن تنحني السكة ثم تستقيم ملتويةً بجدران قرض في طينها الزمن وبانت نتوءات أحجارها الكلسية البيضاء يكاد يمسكها الطين وترفد نهرها جداول السمك الفرعية، وفتات الكلس يصبغ التراب أسفل الجدران بالأبيض ليخفف من اللون الرمادي لتراب السكة".

أناقة الكاتب كانت في النسيج المخيط بإحكام بعيدًا عن الإسهاب الممل في سرد الأحداث، مما جعله في انتقاء الألفاظ المعبّرة عن معانيها في الذاتية الواضحة عن فكر صاحبه وهب وخواطره النفسية.

يذهب الكاتب أكثر في المتعة الأدبية المتجسّدة بنقل الأحاسيس والمشاعر في زمن الطفولة التي عاشها بين الأزقة للأطفال الذين يلاحقون قطةً شقية والغبار المنبعث من تلك المناورة التي تنظر صاحبها وهب وبين التداخل الوقتي المختلط بين الصالة التي يعمل بها وهب بعد حارس المقبرة بوصفهم الغربان السود الذين يمتصون أعوادًا من القصب في الديوانية "القدو"، وتلك كانت إحدى مهامه في صغره.

لقد استرجع المؤلف الذكريات مع الملاية وصرامة عصاها التي وفرت مخرجات معرفية كما يقول الكاتب، وهنا يسترسل الكاتب في الأثر النفسي الذي وقع عليهم في وفاة الصديق العزيز أحمد وهو في التاسعة من عمره بسبب أمراض تلك الحقبة. واصل وهب حرفته مع (أم رزاق) في الطب الشعبي الذي ينسب إلى ابن سينا، لكنه يكتشف الجانب السري لـ (أم وهب) وهو عالم الجنّ والأرواح الشريرة الجالبة للمشكلات والأمراض، لكنه تأثر بهذه الأرواح والأسطرة التي خدعت بها الناس في الحي، مما جعله لا ينظر إلى المرآة لفترة من الزمن اعتقادًا بأنّ روحها تحوم حول البيت وتجول في غرفته محاولة التلبس في صورته.

لقد نسج الكاتب كاظم خليفة المجموعة القصصية معتمدًا فيها على ذكاء القارئ حتى يدفعه إلى النتيجة التي يهدف إليها من وجهة نظر أدبية التي مثلت الكاتب، ليدوّن كلمات وتأملات عن الحياة وشعورها، لكنّها تمثل شعور كاتبها استوحاها من الثقافة الشعبية التي أحاطته يوم كان طفلًا وشابًا، مكونًا مشهدًا آخر من جمال القصة التي تستحقّ أن تكون في الصفوف الأولى للقصص العالمية التي تستدعي الانتباه لهذا الكاتب مع السرد النصي الأخير واصفًا جدته واحتفائها بأوراق السدر بعد تجفيفها وسحقها وخلطها بالماء، إذ تعتقد الجدة أنّ شجرة السدر مباركة وأمان من الشياطين معتقدة بأنّ الأرواح الطيبة تغفو فوق أغصانها، تمتمات قليلة تنجده من المراد.

مع الوداع شعر الراوي أنّ وهب قيمة إنسانية ما زالت راسخة في الحالة الروحية. اقترنت هذه القصة مع ست وعشرين قصة ذهبية في العنوان السريالي الذي أضاء للمؤلف "مائل بخط الرقعة". إنّها حزمة الكاتب التي تجلّت بعناوين مختلفة، سهلة القراءة، ممتعة، لا تستلزم الكثير من الجهد والتركيز وإنّما يكفي تتبع الأحداث لمعرفة نهاية كلّ قصة، وسوف يكتشف القارئ أجمل النصوص المبتكرة في عالم الأدب.

***

فؤاد الجشي

 

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

أنتج ثلاثة شعراء رواد من سلوفينيا في النصف الثاني من القرن الماضي البواكير الأولى للهايكو باللغة السلوفينية، وهم (فلاديمير جاجيك ومارت أوجين وإيزتوك جيستر). أما أول ترجمة للهايكو الكلاسيكي الياباني إلى السلوفينية فكان على يد الشاعر (مارت أوجين) الذي ترجم عدة إضمامات من هذا الشعر وفقا ل (ألنكا زورمان) التي نشرت مقالها القيم بعنوان (مشهد الهايكو السلوفيني) في العدد (12) من مجلة (شمروك) المعنية بالهايكو في ايرلندا وبقية بلدان العالم، وكان العدد المذكور مخصصا للهايكو السلوفيني. وهي شاعرة هايكو معروفة عالميا. ولدت عام 1947. كتبت الهايكو منذ عام 1999. صدرت لها مجموعة شعرية بعنوان (فراشة على الكتف). نشرت قصائدها في مختلف الصحف والمجلات والدوريات المحلية والأجنبية. منحت عدة جوائز. رئيسة نادي الهايكو في سلوفينيا. وقد شهد عام 1996 ولادة أول مجلة مختصة بالهايكو السلوفيني تحت اسم (بريجاتيلج – الصديق – تومو باللغة اليابانية) على شاكلة مجلة (أزامي) الصادرة في (أوساكا)، وقد صدرت منها حتى عام 1998 سبعة أعداد، وتضمنت (747) قصيدة هايكو و(29) مقالة وغيرها. وفي عام 1997 أسس أول نادي للهايكو في سلوفينيا، وقد إنتسب اليه بالتدريج بين (30 – 40) شاعر هايكو سلوفيني. ومن كتب الهايكو القيمة الصادرة بالسلوفينية كتاب (بركة الصمت: مختارات من الهايكو السلوفيني) الذي حرره الشاعر والكاتب وصانع الأفلام المعروف (ديميتار أناكييف) المولود في عام 1960 وصاحب (11) مجموعة هايكو. وهو مؤسس مشارك لجمعية الهايكو العالمية وحائز على ميدالية (فرانز كافكا) التي تمنح للأفراد والمؤسسات لإبداعهم الفني أو لمساهمتهم في الفن على نطاق العالم، وجائزة متحف هايكو للأدب في اليابان وجائزة الاستحقاق السنوية لجمعية الهايكو الامريكية والجائزة الوطنية السلوفينية لأفضل فيلم وثائقي وغيرها. وهكذا ازداد انتشار الهايكو في سلوفينيا قراءة وكتابة، وبدأت قصائد الهايكو السلوفينية تظهر في الصحف والمجلات والمواقع الأوروبية والعالمية مع اشتراك الشعراء في المسابقات الشعرية داخل وخارج البلاد. والان يدرس الهايكو في المدارس والجامعات وتقام له دورات وورش عمل في مختلف المدن السلوفينية للترويج له وللوقوف على قواعده وأسسه.علما انعقد في (تولمين – سلوفينيا) المؤتمر العالمي الأول لجمعية الهايكو العالمية في 8 أيلول 2000 بمشاركة (60) شخصا، للوقوف على شعر الهايكو وتبادل التجارب الشعرية في هذا المجال.

1 – آدم سوليجوج

خراب بلون أبيض

في جناح المستشفى –

برد الشتاء

*

دار مهجورة

تسكنها شجرة تين

أخيرا

*

بريق الثلج –

ثعلب يبتسم متربصا

في نهاية مسارات الأرانب

2 – تاتيانا جامليك

بعيد تساقط الثلوج

تسود السكينة في الصباح

و ظلال أجنحة الغربان

3 – سبيلا لوفيتشيك

على الطرف الآخر أيضا...

تجفف الاطيار أجنحتها

فوق قوس قزح

4 – بولونا أوبلاك

الغربان

طالما كان العالم

صورة ظلية

*

غير مرئي

و لاذع أيضا

نبات القراص

*

تنساب من خلال

ضوء الشمس الخافت،

تغريدة الشحرور

*

رذاذ مطر بارد

الكلب الذي أراد الخروج

يعود أدراجه

5 – أنيكا بيديتش

قوس قزح يتشكل –

تزحف البزاقة على إمتداد القناة

بإزاء الأوراق الرطبة

6 – يانيز مردافشتيش

همود النهر

تغفو البجعة

على ذروة الغمامة البيضاء

7 – سيلفا ميزريت

وعاء متروك

معبأ بماء المطر –

صورة قوس قزح

*

فتاة كسيحة

في المرجوحة

صرختها الطويلة الحادة

*

أوراق شجر متساقطة...

تزداد السماء إتساعا يوما بعد يوم

من تحت هذه الأشجار

*

لم يزل

الطائر العابر

يرى نفسه في البركة

8 – ألنكا زورمان

بحثا عن الديدان المتوهجة -

الصبي المتطفل

يستخدم شعلة

*

في الصباح البارد

ثمة حافلة تغطيها

ملصقات مارلين مونرو*

*

العناز في الزريبة

الغيوم تسيرها الرياح

بإزاء خط الأفق**

*

لحس البوظة

تضيف اليها الريح

الطعم المالح

*

صباح ضبابي

تشرق الشمس

عندما أشتري أزهار دوار الشمس

*

الغسيل الجاف -

المنشفة التي على شكل سمكة

ما برحت رطبة

*

مساء قائظ

أنفاسه

النسمة الوحيدة

*

دعسوقة***

على بلوزتي الحمراء

لا تكاد ترى

*

فرملة الحافلة

اقترب أكثر

من شخص غريب

*

شارع مبلل

خطوات محترسة

فوق النوافذ المضاءة

*

بعيد الاختصام

يملأ صوت المطر

الفراغ الذي يفصلنا

*

قبيل العاصفة

طفل وشبكة صيد الفراش

إصطياد الرياح

*

مياه مد ضحلة

بحيرة

فقط في روايتي

*

تساقط أوراق الشجر

أعد الطيور التي لم تهاجر

بعد

*

ورقة شجر في المقبرة

همسات الريح، لا غير

أغنية حزينة

*

ورقة شجر في المقبرة

همسات الريح، لا غير

أغنية حزينة

9 – رودي روبيتش

على سطح مهترىء

تغطيه الطحالب الندية،

ثمة غراب صامت

*

أنظر مليا إلى هذا العصفور الخائف

و هو يخرج طائرا

من بئر لم يعد فيها ماء

*

يبني الطائر المغرد

عشه الدافىء

في خوذة عتيقة

10 – ماريجان ماكو

أزهار شجرة المشمش

و ندف الثلج...

توقف النحل عن الزيارة

11 – جوز فولريتش

جز العشب –

أبو الحناء فوق غصن الشجرة

ينتظر أن أنهي عملي

12 – ايفانكا كونستانتينو

الحجر الصحي

رنين الهاتف

عوضا عن جرس الباب

13 - ديميتار أناكييف

مراسيم تأبين –

ريح الربيع

مغطاة بعلم

14 – بويان فورشيك

شجرة صنوبر وحيدة

تلامس تخوم المدينة

فعلا

15 – زفونكا بيزجاك

شمس لاهبة

مظلة مهملة

وحيدا جدا على السلالم

16 - سامو كروتز

محطة القطار –

يشاهد ضوء الفجر

بين كومة الامتعة

*

يحدق

و لم يحدق إلى السماء

لاجئ حرب

*

أبواب منزل أمي

مفتوحة على مصراعيها –

أريج الورد

*

ربع قمر

أول وآخر كلمة

نطقت بها

*

سماء خالية من القمر

النجوم الساطعة

في تهليل أمي

*

تعمل أمي بدوام كامل

راعية صغار

البط

17 – ديميتري سكرك

يتوهج كل القرع الموجود في الحقل

تحت ضوء القمر

ثمة قرع واحد في الماء

***

....................................

مارلين مونرو: ممثلة ومغنية أمريكية (1926 – 1962). *

** خط الأفق: أو الأفق الهندسي، خط وهمي يفصل السماء عن الارض، أي تلتقي فيه السماء مع السطح الظاهر للأرض.

* الدعسوقة: حشرة صغيرة، لها لون أحمر مرجاني أو برتقالي مع وجود نقاط سوداء.

- مترجمة عن الإنكليزية: -

1 – Haiku from Ireland and the rest of the world. Shamrock Haiku Journal. Issue No. 12. https: // shamrockhaiku. webs. com

2 – Haiku – Alenka Zorman – Slovenian haijin – tempslibres. https: // www. tempslibres. org

3 – Haiku Competitions 2022. www. gimvic. org

4 – World Haiku Series 2022 (3) Haiku by Alenka Zorma. https: // akitahaiku. com

5 – Meeting Report on the World Haiku Conference in Tolmin. https: // www. worldhaiku. net

6 – The Essence of Haiku. https: // poetrysociety. org. nz

7 – dimitar anakiev I Balkan haiku – Basho’s Road – Outlaw Poetry. https: // bashosroad. outlawpoetry. com

8 – Haiku Dialogue – Literary Devices – repetition / parallelism. https: // thehaikufoundation. org

9 – Haiku Dialogue – Simply a Place to Dwell (1). https: // thehaikufoundation. org

10 – Haiku Dialogue – Simply Precipitation (1). https: // thehaikufoundation. org

11 – Haiku Dialogue – Under The March Moon – Half Moon (1). httos: // thehaikufoundation. org

12 – Haiku Dialogue – Under The March Moon – New Moon (1). https: // thehaikufoundation. org

13 – Haiku Dialogue – Avian Adventures – Favorite Moments in Birding. https: // thehaikufoundation. org

14 – the results pf the 3rd haiku contest on theme Gourds – Tri rijeke. https: // tri – rijeke. hr

15 – European Kukai. Rssing. com. https: // kukai2. rssing. com

[email protected]

أثارت رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاتيرلي" الجدل والنقاش منذ نشرها في عام 1928. وفي قلب هذه الرواية استكشاف الأخلاق والأعراف المجتمعية، لا سيما في سياق الحب والرغبة والعلاقات. إن تصوير لورانس للعلاقة بين السيدة كونستانس تشاترلي وحارس الطرائد في المزرعة، أوليفر ميلورز، يتحدى الأفكار التقليدية للأخلاق ويتحدى القراء للتشكيك في معتقداتهم حول ما هو صواب وما هو خطأ. طوال الرواية، يثير لورانس أسئلة مثيرة للتفكير حول طبيعة الأخلاق والقيود التي يفرضها المجتمع على الأفراد. إن صراع الليدي تشاتيرلي مع التوقعات المجتمعية وحبها المتزايد لميلورز يدفع القراء إلى التفكير في الجوهر الحقيقي للأخلاق وما إذا كان ينبغي أن تمليها قوى خارجية أو ضمير الفرد. إن استكشاف لورانس لهذه المواضيع في "عشيق السيدة تشاتيرلي" يدعو القراء إلى التفكير في تعقيدات العلاقات الإنسانية والطرق التي يؤثر بها المجتمع على فهمنا للصواب والخطأ.

الأفكار الرئيسية

1. إن استكشاف التوقعات المجتمعية والقيم الأخلاقية في رواية عاشق السيدة تشاتيرلي يدفع القراء إلى التشكيك في جمود المعايير التقليدية.

وصحة قمع رغبات الفرد من أجل الامتثال. 2. يتحدى دي إتش لورانس الأخلاق التقليدية في عصره من خلال تصوير بطل الرواية، كونستانس تشاتيرلي، كامرأة تجرأت على تحدي الأعراف المجتمعية واتباع قلبها في السعي لتحقيق الإنجاز

الشخصي والسعادة.

3. من خلال شخصيات كونستانس وميلورز وكليفورد، يتعمق لورانس في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية.

4. تثير الرواية أسئلة مثيرة للتفكير حول طبيعة الأخلاق، وأهمية النزاهة الشخصية، وأهمية تنمية الروابط الإنسانية الحقيقية المبنية على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم.

5. من خلال تصوير الصراعات الداخلية للشخصيات والمعضلات الأخلاقية، يشجع لورانس القراء على التفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم، مما يدفع إلى فحص أعمق للبوصلة الأخلاقية التي توجه أفعالهم وقراراتهم في الحياة.

التفاصيل

1. إن استكشاف التوقعات المجتمعية والقيم الأخلاقية في رواية عشيق السيدة تشاتيرلي يدفع القراء إلى التشكيك في جمود المعايير التقليدية وصحة قمع رغبات الفرد من أجل الامتثال.

في رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاتيرلي"، يلعب استكشاف التوقعات المجتمعية والقيم الأخلاقية دورًا مركزيًا في تشكيل قرارات وأفعال الشخصيات. من خلال العلاقات المعقدة والصراعات الداخلية للأبطال، يتحدى لورانس جمود المعايير التقليدية ويدعو القراء إلى التشكيك في صحة قمع رغبات الفرد من أجل الامتثال. تتصارع شخصية كونستانس تشاترلي، على وجه الخصوص، مع التوقعات المجتمعية المفروضة عليها كامرأة في عصرها. وباعتبارها عضوًا في الطبقة العليا، يُتوقع منها الالتزام بقواعد سلوك معينة والوفاء بواجباتها كزوجة وأم. ومع ذلك، تجد كونستانس نفسها غير محققة ومختنقة بسبب قيود حياتها المميزة ولكن المقيدة. إن انجذابها المتزايد إلى حارس الطرائد، أوليفر ميلورز، يجبرها على مواجهة المحرمات الثقافية المحيطة بالطبقة والجنس، مما يؤدي بها في النهاية إلى تحدي الأعراف التي تملي سلوكها. وبالمثل، فإن ميلورز نفسه هو شخصية تتحدى التوقعات المجتمعية وتشكك في القيم الأخلاقية المفروضة عليه. باعتباره رجلًا من الطبقة العاملة، تنظر إليه الطبقة الأرستقراطية على أنه أقل شأنًا وفظًا، ومع ذلك فهو يجسد إحساسًا بالأصالة والحيوية يتناقض بشكل حاد مع سطحية أقران كونستانس من الطبقة العليا. من خلال علاقته مع كونستانس، يتحدى ميلورز هي والقارئ لإعادة تقييم مفاهيمهم المسبقة عن الطبقة والأخلاق والأعراف المجتمعية. في عشيق السيدة تشاتيرلي، يستكشف دي إتش لورانس ببراعة التوتر بين الرغبات الفردية والتوقعات المجتمعية، مما يدفع القراء إلى النظر في عواقب قمع الذات الحقيقية من أجل التوافق مع الضغوط الخارجية. من خلال تسليط الضوء على تعقيدات العلاقات الإنسانية والفروق الدقيقة في الأخلاق، يدعونا لورانس إلى التشكيك في صحة المعايير التقليدية واحتضان الحرية التي تأتي من اتباع حقائقنا الداخلية.

تجرأت بطلة الرواية، كونستانس تشاترلي، كامرأة تجرأت على تحدي الأعراف المجتمعية واتبعت قلبها في السعي لتحقيق الإنجاز الشخصي والسعادة.

في رواية "عشيق السيدة تشاتيرلي"، يقدم دي إتش لورانس لقرائه بطلة الرواية، كونستانس تشاتيرلي، التي تجرؤ على تحدي الأخلاق التقليدية في عصرها. في ظل مجتمع جامد وحكمي، تبرز كونستانس كامرأة ترفض التوافق مع التوقعات المجتمعية وتختار بدلاً من ذلك أن تتبع قلبها سعياً لتحقيق الإنجاز الشخصي والسعادة. يصور لورانس كونستانس على أنها امرأة تجد نفسها في زواج بلا حب مع زوج مشلول من الخصر إلى الأسفل. تشعر كونستانس بالعزلة والحصار في بيئة خانقة، وتبدأ بالتوق إلى شيء أكثر في حياتها. عندما تلتقي بحارس الطرائد، أوليفر ميلورز، تنجذب إلى رجولته الخام وطبيعته غير الاعتذارية. على الرغم من الاختلافات في أوضاعهما الاجتماعية، تبدأ كونستانس في علاقة عاطفية مع ميلورز، متحدية معايير مجتمعها والمخاطرة بكل شيء من أجل فرصة الحب الحقيقي والوفاء. من خلال شخصية كونستانس، يتحدى لورانس الأخلاق في عصره من خلال التشكيك في صحة المعايير المجتمعية التي تمنع الأفراد من تحقيق رغباتهم الخاصة وإيجاد السعادة بشروطهم الخاصة. إن رحلة كونستانس نحو اكتشاف الذات وتحقيق الذات هي بمثابة بيان قوي ضد قيود المجتمع، مما يشجع القراء على التشكيك في المعايير الأخلاقية الراسخة التي قد تمنعهم من العيش بشكل أصيل وإيجاد السعادة. من خلال تصوير كونستانس كامرأة تجرؤ على تحدي التوقعات المجتمعية وتتبع قلبها، يدعو لورانس قراءه إلى النظر في أهمية الاستقلال الفردي والسعي لتحقيق الإنجاز الشخصي في مواجهة الضغوط المجتمعية. إن شجاعة كونستانس التي لا تتزعزع وتصميمها على أن تعيش حياتها وفقًا لشروطها الخاصة هي بمثابة شهادة على فكرة أن السعادة الحقيقية لا يمكن تحقيقها إلا عندما يكون المرء صادقًا مع نفسه ويتبع قلبه، بغض النظر عن أحكام الآخرين وتحيزاتهم. في الختام، يتحدى دي إتش لورانس الأخلاق التقليدية في عصره من خلال شخصية كونستانس تشاتيرلي، وهي امرأة تجرأت على تحدي الأعراف المجتمعية واتبعت قلبها في السعي لتحقيق الإنجاز الشخصي والسعادة. من خلال رحلة كونستانس نحو اكتشاف الذات وتحقيق الذات، يشجع لورانس قرائه على التشكيك في قيود المجتمع واحتضان حرية العيش بشكل أصيل والسعي وراء سعادتهم.

3. من خلال شخصيات كونستانس وميلورز وكليفورد، يتعمق لورانس في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية.

في رواية دي إتش لورانس، عشيق الليدي تشاتيرلي، تجسد شخصيات كونستانس وميلورز وكليفورد نسيجًا غنيًا من المعضلات الأخلاقية، والصراعات الشخصية، والتوقعات المجتمعية. من خلال تفاعلاتهم ورحلاتهم الفردية، يتعمق لورانس في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية. تجد كونستانس، السيدة الفخرية، نفسها ممزقة بين مسؤولياتها كزوجة لكليفورد المعاق وتوقها إلى الإشباع العاطفي والجسدي. بينما تشرع في علاقة عاطفية مع ميلورز، حارس الطرائد في المزرعة، تتصارع كونستانس مع الأعراف المجتمعية التي تملي دورها كامرأة والتوقعات التي يضعها عليها زوجها والمجتمع ككل. يرسم لورانس صورة دقيقة لكونستانس، ويسلط الضوء على اضطرابها الداخلي وهي تتنقل بين المتطلبات المتضاربة للواجب والرغبة. من ناحية أخرى، يمثل ميلورز تناقضًا صارخًا مع كونستانس وكليفورد. كرجل من الطبقة العاملة منفصل عن زوجته، يجسد ميلورز إحساسا بالحرية والأصالة التي يجدها كونستانس مغرية. إن رفضه للأعراف المجتمعية والتزامه بالعيش وفقا لشروطه الخاصة هو بمثابة إحباط لوجود كونستانس المقيد. من خلال ميلورز، يستكشف لورانس فكرة الفاعلية الشخصية والسعي للتعبير عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية. يقف كليفورد، زوج كونستانس، في تناقض صارخ مع كل من كونستانس وميلورز. بعد إصابته بالشلل من الخصر إلى الأسفل بعد الحرب العالمية الأولى، يكافح كليفورد لتأكيد رجولته والحفاظ على سلطته على زوجته. تكشف مرارته وشعوره بالاستحقاق عن حدود التوقعات المجتمعية والطرق التي يمكن من خلالها خنق النمو الشخصي والتواصل الحقيقي. من خلال كليفورد، يؤكد لورانس على أهمية الأصالة والقوة الشخصية في مواجهة الشدائد. في عاشق السيدة تشاتيرلي، يتنقل لورانس ببراعة في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات من خلال الرحلات المتشابكة لكونستانس وميلورز وكليفورد. من خلال استكشاف تعقيدات العلاقات الإنسانية، والتوقعات المجتمعية، والنضال من أجل تحقيق الذات، يدعو لورانس القراء إلى التفكير في طبيعة الأخلاق والطرق التي يتنقل بها الأفراد في تحديات العيش بشكل أصيل في عالم مليء بالقيود.

4. تثير الرواية أسئلة مثيرة للتفكير حول طبيعة الأخلاق، وأهمية النزاهة الشخصية، وأهمية تنمية الروابط الإنسانية الحقيقية المبنية على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم.

في رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاتيرلي"، يعد استكشاف الأخلاق موضوعا رئيسيا يثير أسئلة مثيرة للتفكير حول جوهر القيم الإنسانية، والنزاهة الشخصية، وجودة العلاقات الإنسانية. من خلال الشخصيات وعلاقاتها المعقدة، يتعمق لورانس في تعقيدات المعضلات الأخلاقية، والتوقعات المجتمعية، والسعي وراء السعادة الحقيقية. في قلب الرواية تكمن العلاقة بين السيدة كونستانس تشاترلي وحارس الطرائد زوجها أوليفر ميلورز. تتحدى هذه العلاقة غير المشروعة المفاهيم التقليدية للأخلاق وتثير تساؤلات حول طبيعة الحب والرغبة والسلامة الشخصية. بينما تعبر الليدي تشاتيرلي عن مشاعرها تجاه ميلورز، فإنها تواجه القيود المجتمعية التي تملي عليها أفعالها وقراراتها، مما يجبرها على إعادة تقييم إحساسها بالأخلاق والأصالة. من خلال شخصيات السيدة تشاتيرلي وميلورز، يؤكد لورانس على أهمية تنمية الروابط الإنسانية الحقيقية القائمة على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم. وتتجاوز علاقتهما الأعراف والتقاليد المجتمعية، وتسلط الضوء على القوة التحويلية للحب والتواصل في تشكيل البوصلة الأخلاقية للفرد. من خلال احتضان رغباتهم وعواطفهم الحقيقية، تسعى الليدي تشاتيرلي وميلورز إلى العيش بشكل أصيل ومتوافق مع قيمهم الأعمق، بغض النظر عن أحكام وانتقادات الآخرين. في الرواية، يتحدى لورانس القراء للتفكير في طبيعة الأخلاق وأهمية النزاهة الشخصية في التعامل مع تعقيدات العلاقات الإنسانية. وهو يدعونا إلى التشكيك في التوقعات والأعراف المجتمعية، ويحثنا على إعطاء الأولوية للصلات الإنسانية الحقيقية القائمة على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم. في نهاية المطاف، تعد رواية "عشيق السيدة تشاتيرلي" بمثابة تذكير مؤثر بأهمية احتضان ذواتنا الحقيقية، وتنمية العلاقات الهادفة، والعيش بشكل أصيل في عالم يتطلب غالبا الامتثال والتضحية.

5. من خلال تصوير الصراعات الداخلية للشخصيات والمعضلات الأخلاقية، يشجع لورانس القراء على التفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم، مما يدفع إلى فحص أعمق للبوصلة الأخلاقية التي توجه أفعالهم وقراراتهم في الحياة.

في عشيق السيدة تشاتيرلي، يتعمق دي إتش لورانس بمهارة في الصراعات الداخلية والمعضلات الأخلاقية التي تواجهها الشخصيات، مما يمهد الطريق للقراء للتفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم. من خلال التصوير المعقد للديناميكيات المعقدة بين كونستانس وكليفورد وميلورز، يدفعنا لورانس إلى التشكيك في بوصلتنا الأخلاقية والتفكير في المبادئ التي توجه أفعالنا وقراراتنا في الحياة. رحلة كونستانس، على وجه الخصوص، تجبر القراء على مواجهة التوقعات المجتمعية الصارمة والقواعد الأخلاقية التي غالبا ما تملي حياتنا. بينما تتنقل خلال زواجها من كليفورد المشلول وعلاقتها المزدهرة مع حارس الطرائد ميلورز، تتصارع كونستانس مع مشاعر الواجب والرغبة والتحرر في النهاية. يرسم لورانس صورة مؤثرة لصراع كونستانس الداخلي، ويدعو القراء إلى النظر في الطرق التي يمكن أن تتصادم بها الأعراف المجتمعية والتطلعات الشخصية، ويتحدىنا للتفكير في الخيارات التي نتخذها سعياً لتحقيق السعادة الشخصية والإشباع الشخصي. وبالمثل، فإن شخصية كليفورد بمثابة تناقض صارخ مع ميلورز، حيث تجسد قيود الأخلاق التقليدية والضغوط المجتمعية. إن إحباطاته ومرارته تجاه قيوده الجسدية واستقلال كونستانس المتزايد تجبر القراء على دراسة عواقب إعطاء الأولوية للتوقعات المجتمعية على القيم والرغبات الشخصية. من خلال قوس شخصية كليفورد، يحثنا لورانس على تقييم الطرق التي نتنقل بها في التوازن الدقيق بين التوقعات الخارجية والقناعات الداخلية، مما يدفعنا إلى التشكيك في التضحيات التي نقوم بها من أجل التوافق مع الأعراف المجتمعية. يعتبر ميلورز، بأصالته التي لا تخجل وازدراءه للاتفاقيات المجتمعية، بمثابة منارة للوضوح الأخلاقي في عالم يخيم عليه النفاق والقمع. إن التزامه الذي لا يتزعزع بالحياة بشكل أصيل يتحدى القراء لمواجهة معضلاتهم الأخلاقية الخاصة والنظر في الجوهر الحقيقي للأخلاق - ليس كمجموعة من القواعد الصارمة، ولكن كانعكاس لرغباتنا وقيمنا العميقة. بينما يشهد القراء كفاح ميلورز للتوفيق بين حبه لكونستانس وإحساسه بالواجب والأخلاق، فإننا نشجعنا على فحص الطرق التي نتنقل بها عبر تعقيدات العلاقات والنزاهة الشخصية. في جوهر الأمر، فإن استكشاف لورانس للأخلاق في رواية عاشق الليدي تشاتيرلي يتجاوز مجرد تصوير صراعات الشخصيات ومعضلاتها - فهو بمثابة مرآة يمكن للقراء من خلالها التفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم. من خلال إثارة فحص أعمق للبوصلة الأخلاقية التي توجه أفعالنا وقراراتنا في الحياة، يتحدانا لورانس لتنمية فهم أعمق لأنفسنا والخيارات التي نتخذها في السعي لتحقيق السعادة والوفاء.

في الختام، تستكشف رواية دي إتش لورانس "عاشقة السيدة تشاترلي" الطبيعة المعقدة والمتغيرة باستمرار للأخلاق في المجتمع. من خلال تطوير شخصية كونستانس وميلورز، يتحدى لورانس المفاهيم التقليدية للصواب والخطأ، ويقدم بدلاً من ذلك صورة دقيقة للعلاقات الإنسانية والرغبات. في النهاية، تشير الرواية إلى أن الأخلاق الحقيقية لا تكمن في التوافق مع التوقعات المجتمعية، بل في اتباع إحساس الفرد بما هو صواب وعادل. كقراء، نحن مجبرون على مواجهة معتقداتنا وقيمنا، والنظر في الطرق التي نتعامل بها مع المعضلات الأخلاقية التي تنشأ في حياتنا. تُعد عشيق الليدي تشاتيرلي بمثابة تذكير قوي بأن الأخلاق ليست دائما أبيض وأسود، بل هي تجربة شخصية وذاتية عميقة تتطلب الاستبطان واكتشاف الذات.

***

محمد عبد الكريم يوسف

.............................

المراجع

Lady Chatterley's Lover, DHLawrance

 

في المثقف اليوم