أقلام ثقافية

طُحلب

ahmad alhiliفي بعض الأحيان ينضم إلى هذه الثُلة من المدمنين التي تجلس قبالة الشط شخص نحيف البدن تبدو على سيماه علائم الشقاء والعناء، يُدعى طحلب، وهم يلقبونه بهذا اللقب الغريب لأن أبواب الرزق كانت مغلقه على الدوام في وجهه، فكان يعتاش على ما يجود به الآخرون على شحته، يكون قد أوقف عربته التي يبيع عليها العصائر على الرصيف المحاذي للمقهى، وحين يكون الرزق شحيحاً لذلك اليوم فإنه كثيراً ما ينتابه السخط فيعمد إلى قلب عربته في الشارع ويأخذ يسب ويلعن ويندب حظه العاثر، عاش طحلب تقلبات كثيرة، وهو عُرف بنظم الشعر على الطريقة التقليدية، إلا أنه كرس معظمه للهجاء، وعلى غرار الشاعر الحطيئة لم يتورع حتى عن هجاء نفسه في إحدى المرات حين ضاقت به السُبل . كان الجميع يستظرفونه ولكنهم يخشون لسانه .

أخبرني صديقي الأستاذ طالب گمر أنه في إحدى المرات هجا  أمه، حيث أن عبد الكريم قاسم كان أصدر قراراً بصرف مستحقات نواب الضباط المحالين على التقاعد، والتي كانت متوفقة لعدد من السنوات، فحصل طحلب على مبلغ لا بأس به من المال، وللحال قرر أن يقيم احتفالاً بهذه المناسبة، اشترى سمكة كبيرة واصطحب صديقه ورفيقه الشاعر عباس الوحشي إلى بيته وأعطى السمكة لأمه على أمل أن تطبخها لهما ريثما ينتهيان من احتساء الخمر التي جلسا يكرعانها في غرفة مجاورة، وبعد أن أتما شربهما، نادى طحلب على أمه أن تجلب لهما السمكة، فجاءت بها ووضعتها أمامهما، مد عباس يده إليها فوجدها أشبه بعجينة، ليخبر الطحلبي أن السمكة لم تكن مشوية بصورة جيدة، وحاول طحلب أن يأكل ولكنه لم يستطع للسبب ذاته، فاستشاط غضباً، وقال على الفور،

كلُّ النساء تفننت في طبخهنَّ

إلا القُحيبةَ طبخُها لا يؤكلُ

وكثيرا ما كانت تحدث مشادات كلامية بينه وبين الآخرين، وربما تعرّض للضرب المبرّح، في إحدى المرّات أقام أحد رجال الدين الموسرين وليمة باذخة وحين ذهب الشاعر إلى مكانها أخبره القائمون عليها أنها مقصورة فقط على بعض الوجهاء وذوي الرتب العالية، فنظم قصيدة طويلة يهجو فيها هذا المعمم، ومما جاء فيها،

تأتي الولائمَ لا يدعوكَ صاحبُها

مثلَ البعوضِ على المستنقعِ الرطِبِ

 في إحدى المرات حدثت مشادة كلامية بينه وبين أحد المحامين المرموقين، فهجاه بقصيدة طويلة، ومما قاله،

قد عادَ من درسَ القانونَ قد عادا

لأرضِ بابلَ سمسيراً وقوّادا 

وهناك حكايات كثيرة تدور حوله، منها أنه كان يجلس في إحدى المقاهي ببغداد حين أُعلن عن قيام الإنقلاب البعثي في 8 شباط عام 1963، فاستشاط غضباً وأحس بالخيبة والمرارة، فوقف  على مرأى ومسمع من الجميع وأخرج ورقة من جيبه وقرأ قصيدة يهجو فيها الانقلابيين ومطلعها،

جلَّ المصابُ ورزؤه أبكاني

والخطبُ أخرسَ فكرتي ولساني

وبعد أن أنهى قصيدته وجلس، حضر على الفور عددٌ من المسلحين بلباس مدني وألقوا القبض عليه واقتادوه إلى إحدى دوائر الأمن، ولما مثل بين يدي مدير الدائرة سأله عن الهجاء الذي قاله بحق القائمين الثورة، أنكر بشدة أنه قال شيئاً ضد أحد، وأصر أنه امتدحهم، فقال المدير كيف امتدحتهم، هات ما عندك، فقال الطحلبي أنا قلت هذه الأبيات، وقرأ عدداً من الأبيات، ومنها هذا البيت،

حُماةٌ أنقذوا بلدي وشعبي

بحزمٍ من دعاةِ الانقسامِ

فأُعجب المدير بسرعة بشاعريته وسرعة بديهية وأمر بالإفراج عنه وأعطاه بعض المال .

رحّب به هادي وأفرد له مكاناً بينهم، وعمّر له كأساً، شكره طحلب على هذه الحفاوة، وصبّ له كأساً آخر، بعد أن طابت النفوس طلب هادي منه أن يغنيهم أحد المقامات، فغنى بصوته  الشجي ابياتاً للشاعر المُلة منفي من أهل الكفل  الذي عاش هو الآخر حياة ملؤها العناء والشقاء، تشاء المقادير أن يقع المله منفي في غرام امرأة يهودية  وأراد الاقتران بها فرفضته عشيرته وأهله فاضطرته ظروف الحياة القاسية وتشرّده لأن يعمل حفّاراً للقبور بالنجف، ثم ليموت وهو في ريعان الشباب بمرض انتقلت إليه عدواه من إحدى الجثث، لبى طحلب طلب هادي وغنى قصيدةً غزلية طويلة للشاعر الفقيد ومما جاء فيها،

طاب الشراب الليله

صُبْ يا نديم اسگيني

هزني الهوه بكل حيله

لن شاعر مسوّيني

 

أحمد الحلي

.....................

* بعد بحث مضني من أجل الوصول إلى المعلومات حول الشاعر الملقّب بـ طحلب

وجدت ضالتي بالكتيب  المعنون (شاعران منسيان/ الطحلبي والوحشي) من تأليف صديقي الشاعر والباحث صلاح اللبان فشكراً له .

 

في المثقف اليوم