أقلام ثقافية

حَياة وَردية.. اَلْمُلْهِمَة

سعاد دريركأنها قطعة المورفين التي تُخْمِدُ ثورةَ الألم..

في غياب الشعور باللذة هل تتصور أن أي ممارسة حياتية قد تطيب لك؟!

هل من الضروري ألا تقترن اللذةُ بالألم؟!

أليس ضربا من المازوشية أن تتلذذ بآلامك كما يَحْدثُ أن تتلذذ بآلام الآخرين، أو لِنَقُلْ (على وجه التدقيق) كما يحدث أن تتلذذ بتعذيب الآخرين لك؟!

نتحدث عن اللذة الموسيقية التي لم نَعُدْ نَصِل إليها في جُلّ ممارساتنا الإنصاتية التي أَضْحَتْ تُتْعِبُنا أكثر مما يفترض فيها أن تُريحَنا.

نتحدث عن مُحَرِّك الإنصات الذي (إن أنتَ أحسنتَ انتقاء ما تُنصِت إليه) يَقودك إلى ذروة الاستمتاع..

فهل من فَرْطِ الحنين إلى كأس اللذة تُغازلها: «هاتها من يد الرضى»؟!

أم أنك هروبا من ذيل الزمن القاسي تعاقر ما يُخْمِدُ جرعات المرارة في فنجان حياتك تَوَّاقا إلى رَفيف الأمس البعيد: «أَلاَ فَارْوِني»؟!

عُشَّاق الزمن الجميل لا يخونهم ذوقُهم الرفيع في انتقاء ما يَطربون له ويترنمون به. لذلك لا غرابة أن ينجذبوا انجذابا إلى سِحر النغم الحالِم الذي ترقص له الأذن الموسيقية، فما بالك إن كان هذا النغم في مستوى إبداع «LA VIE EN ROSE (حياة وردية)»!

«حياة وردية» (لإيديث بياف ÉDITH PIAF) قطعة فنية فرنسية راقية تُلْهِبُ سمعَك حلاوةً كما تُلْهِبُ حاسَّتَك الذوقية قطعةُ حلوى ملفوفة في حرير من الشوكولا والكاراميل.. فكلاهما (النغمُ وحريرُ الشوكولا والكاراميل) يُذيبُك ذوبانا من فرط اللذة..

عندما تَحزن أشدّ ما يكون الحُزْن، وتكتبُ تلقائيا على صفحاتِ محياكَ قصيدةَ دموع، ستجد لسانَك يُرَدِّدُ في صمتٍ نغما حزينا.. هكذا تجد نفسك ترتمي في أحضان رائعة أخرى من روائع الأغنيات الخالدة في ذاكرتك الهادرة بمواويل رحلة شتاء العمر..

أمّا النَّغَم الْمُهَيِّج للدموع، فإنه يتسلل إليك في لحظات الذروة من الانكسار التي تختلي فيها إلى نفسك على امتداد شارع الليل الطويل، شارع تفتقد فيه الضوء كليا لولا ما يُمْلِيه عليك شمعُ الذاكرة الذي يُحرِق أكثر مما يُضيء..

كلمات أغنية بعينها تُباغتك بإيقاعها الذي ينكأ الجرح، فيدندنُ قلبُك مستعرضا أقوى لحظات ضعفه انتصاره عبر شريط الذاكرة:

«DES YEUX QUI FONT BAISSER LES MIENS

عينان تخجل منهما عيناي

UN RIRE QUI SE PERD SUR SA BOUCHE

ضحكة تَضيع على شفتيه

VOILÀ LE PORTRAIT SANS RETOUCHE

هذه هي الصورة الخالصة

DE L›HOMME AUQUEL J›APPARTIENS

للرجل الذي أنتمي إليه..

QUAND IL ME PREND DANS SES BRAS

عندما يأخذني بين ذراعيه

IL ME PARLE TOUT BAS

يُحَدِّثُني هَمْسا

JE VOIS LA VIE EN ROSE

أرى الحياةَ وردية..

IL ME DIT DES MOTS D›AMOUR

يقول لي من كلمات الحُبّ

DES MOTS DE TOUS LES JOURS

كلمات كل يوم

ET ÇA ME FAIT QUELQUE CHOSE

وهذا يجعلني أشعر بشيء ما يتركه بداخلي..

IL EST ENTRÉ DANS MON CŒUR

لقد تسلل إلى قلبي

UNE PART DE BONHEUR

كجزء من السعادة

DONT JE CONNAIS LA CAUSE

التي أعرف أن له الفضل فيها..

C›EST LUI POUR MOI MOI POUR LUI DANS LA VIE

هو لي وأنا له في هذه الحياة

IL ME L›A DIT، L›A JURÉ POUR LA VIE

لقد قال لي هذا ووعدني به مدى الحياة..

ET DÈS QUE JE L›APERÇOIS

وأنا ما أن أراه

ALORS JE SENS EN MOI

حتى أشعر داخلي

MON CŒUR QUI BAT

بقلبي ينبض..

DES NUITS D›AMOUR À NE PLUS EN FINIR

ليالي الحُبّ التي لا تنتهي

UN GRAND BONHEUR QUI PREND SA PLACE

تملأ القلب سعادة

DES ENNUIS، DES CHAGRINS، S›EFFACENT

تَمْسَح الصعاب والأحزان

HEUREUX، HEUREUX À EN MOURIR

لنكون سعيدين إلى آخر العمر..».

بنبرات صوتها الشجي تَكتب إيديث بياف مَرْثيةَ الوقتِ، حِبْرُها ماءُ الورد والريحان باحثة عن إعادة الاعتبار لمعنى الإنسان المغترب في ظل استنزاف ثرواتِه الباطنية/ آبار الحُبّ التي تَرْقد في قعر القلب..

بصوتها المذبوح الذي يَهْتَاجُ كبحر العاطفة، ولا يُخْطئه الألمُ، تُحَلِّقُ إيديث في سماء الروح كملاك يَلُوذُ إلى عُشّ الحُبّ الدافئ الذي يُلَوِّن زمنَك بالوردي ويَفْرشُ لقدميك الوردَ..

لكن مهلا، فلن تبلغ من رِقَّةِ الورد وَرَقَةً دون أن تسبقها لَدْغَةُ شوكةٍ..

هل كانت إيديث تُصَدِّقُ حقيقةً الجانبَ الوردي الخفي من الحياة؟

هل كذبَتْ إيديث لما آمنتْ بتورُّد خدود الحياة وصَدَّقَتْ كذبتَها الكبيرة وجعلتنا نُصَدِّقها؟

مسارُها كان حافلا بالسقوط والبؤس والخذلان والحرمان.. ومع ذلك تسللت إلى قلوبنا، فكانت بمثابة قطعة السُّكَّر في الفَمِ الْمُرّ..

ليس مِنا مَن يُنْكر أنه وهو يُنصت إلى حياتها الوردية (إيديث) يَهيم هياما في كوكب الحُبّ الذي تدفعنا إلى التعلق بحباله عَلَّهُ ينتشلنا من جحيم الأرض..

الأرض دالية يمتد عذابها عناقيد مُرٌّ عِنَبُها.. لكن إيديث تَنْفخ فيه سِحرا لِتُحْلِيَ لنا عنبَ الأيام.. وأنتَ تُوغل في التجاوب مع الحُبّ الكبير الذي تعتصره لك إيديث حرفا حرفا لا شك في أنك سَتَرْكَعُ للحُبّ مهما جَلَدَكَ..

الحُبّ زيتونة مُرَّة، طيبةٌ نواتُها..

حُقَّ لصُنَّاع السينما أن يلتفتوا إلى حكاية إيديث ليُصَوِّرُوا أيقونةَ الحزنِ أو ثمرةَ الليلِ أو وجهَ الحُبّ المغلَّف بالدموع..

إيديث البرتقالة الْمُرَّة التي زَهد فيها فَمُ الحياة..

إيديث قطعة البلور التي أنهكَتْها النكباتُ كَسرا..

إيديث الحسناء التي أقعَدَتْها الحياةُ.. لم تتقاعدْ عن الحُبّ وتقاعدت عن الحياة..

إيديث الطفلة الكبيرة النائمة عارية في شارع الحُبّ المهجور..

نعم، إنها إيديث بياف.. قطار الحزن الذي يُغَيِّبُكَ قسرا في غير اتجاه خَطّ الرجعة!

إيديث بياف تتراءى لك في صورة قارورةِ حُزْن.. قارورة الحزن هذه نَفِدَ محتواها برحيل إيديث، لكن رائحةَ الحزن مازالت نَفَّاذَةً تفعل بك ما يفعل الزيتُ الطيار مُلامِسا قطعة من جسدك..

إيديث تصور لك في «حياة وردية» وجهَ الحُلم الذي سُرِقَ منها كعنقود حُبٍّ اختطفَتْه يدُ القَدَر قبل أن تَصِلَه أناملها (إيديث).

سيدةُ «LA VIE EN ROSE» كابَدَتْ في دنياها ما جعل منها وريقةَ إحساسٍ تتلاعب بها ريحُ القَدَر في حياةٍ عبثَتْ بها كما تَعبثُ أمواجُ تسونامي بمدينةٍ نائمة على كَفِّ البحر..

أرهقَتْها حروبُ الحياة، وأرهقَها الحُبُّ الذي اشتعل في قلبها كالبركان وتَمَدَّدَ على بساط «حياة وردية» (التعليق الموازي لِنَصّ العشق)..

لم يكن يكفي أن يكون الرجلُ الذي أَحَّبَتْه بجنون متزوجا وأباً لِتَنْعَرِجَ لَذَّتُها ويَتَقَطَّر الفرحُ من قِرْبَةِ حُبِّها، وإنما كانت صفارةُ القَدَر وهي تُشْهِرُ الورقةَ الحمراء في وجه حبيبها الملاكِم كافيةً لإعفائه من دوره في ملعب الحياة بعد أن تحطمَتْ به الطائرة..

ضربة في الصميم لقلبِ طفلة تَكونُها إيديث، ويستمر مسلسل السقوط..

إيديث بياف تُضْرِبُ عن حُبّ الحياة رغم الحُبّ الكبير الذي تَسقينا منه كأسَ «حياة وردية» العَبِقَة بتفاصيل حكاية الحنين..

ايديث بياف الأسطورةُ التي تجاوَزَتْ عَصْرَها..

إيديث بياف كأنها قطعة المورفين التي تُخْمِدُ ثورةَ أَلَمِ نسبةٍ من الفرنسيين وغير الفرنسيين..

ايديث بياف.. المرأة المعذَّبة بإحساسها!

إيديث بياف.. مُلْهِمَةُ الإحساس!

ما أرقّها إيديث!

ما أَرَقَّ العالَم الحالِم الذي تَنقلنا إليه على أجنحة الحُبّ!

حين يكون الفَقْدُ عنوانا والحُزْن فستانا والسقوط مظلَّة والشارع ملاذا والصرخة بَوْصَلَة مشروخة، فَكِّرْ في إيديث بياف وغَنِّ للحُبِّ "الجَنِين النائمِ".

 

د. سعاد درير

 

 

في المثقف اليوم