أقلام ثقافية

محسن الأكرمين: من مُتمثلات لعنة الكتابة الشيطانية

غير ما مرة تصيبني أزمة لعنة الكتابة التي تماثل لعنة الشيطان الكبرى، فأبيت ليلي محاطا بكوابيس من جهنم. مرات عديدة لا يُسعفني التفكير على إنتاج جملة مبعثرة، فبالأحرى الأفكار المتناسقة. مرات متكررة من ليلي، أبِيتُ ألعن كل الكتابات التي لا تقتحم مناطق الظل المتكهربة، والتي لا تبحث عن معنى جديد للحرية. ألعن كل الكتابات التي لا تحمل أسلحة مقاومة أشكال الفساد والتفاهة والتغرير بلا نهاية. ألعن كل الكتابات التي لا تُفزع عش الدبابير بنار التنوير والتجديد والحكامة.

لن تغنينا كل الكتابات نفعا إن لم تسعنا بوابة العيش المشترك، والسعيد في حضن تأمين السلام وجودة الحياة. وقد لا نصل إلى التحديث المتكامل بتلك العقلانية العمودية المنتصبة بالنقد وتفتيت صفحة البدائل، ولكنا في نفس الصفحة البيضاء يجب الإبقاء على السيرة التاريخية للوطن والمجتمع التضامني حاضرة، وتأصيلها بالتداول الرمزي والتكافلي.

حقيقة متزاحمة بالتراكم، فكم استهلك المجتمع توابل التنوير والحداثة (البعدية)، لكنا بالمقابل بقينا أوفياء لقيم ثقافة الأجداد، والإرث الشعبي المتواتر بالنقل. بقينا نلاعب التصورات الفلسفية والفكرية، من منظور وضعياتنا الاجتماعية والسياسية، ونحن نبحث عن حلول لاصقة لتحديد أجوبة عن (من نحن؟ ومن الآخر؟). ومن بين المستملحات، وكانت ضمن خيبة رسوبنا، فقد أصبحنا (نحن) لا نُحسن مشية الطاووس (الآخر)، ولا نتقن حتى ما علم الغراب (قابيل) من عمليات دفن أخيه القتيل.

لم يَعدْ أحادي المعرفة متمكنا ولا أقصد مسلك اللغة، بل بات البحث عن التنويع الثقافي مشروعا لتشكيل الهويات المشتركة، وسد فجوات الهوية الفردية المجحفة. فمن الأكيد أن البحث عن الملاءمة الكونية (أنا والآخر) أصبح بحث مُضنيٌ، وغير ميسر في ظل صراع الحضارات المتنافرة. ومن نوافل القول: حين يبقى التفكير متحركا على بِرْكة من الخوف، ويحتفي بالرمزية التقليدية في القادم من الحياة، دون التفكير في نواعم السعادة والتجديد، تنتهي سلطة الترقي العقلي.

من الأكيد أننا نفكر في السعادة وجودة الحياة، مثل رؤية قبلة البطل للبطلة الجميلة في نهاية فيلم الحياة، ونحن لا نفكر غير في النهاية السعيدة من همِّ الحياة. لنُقَعد قولا: فحين تُفسد السياسة العامة للدولة ومكوناتها الحزبية، قد تفسد المؤشرات الكبرى البنائية لزوما، ويصبح المستقبل متقلبا بالتوتر. من هنا فاعلم أن عيش الهوية لن يكون سويا في الغايات والموجهات المشتركة، بل يتحدد في إنشاء مخفضات للصدامات غير المحسوبة ولا المقدور على ضبط أثرها.

فكم كان فصاحة الحمار تصريحية حين قال: بصيغة المطالبة بمقاربة الإنصاف في الأكل والمشرب والنوم مع نوع جنس الجمل، فحين بقيت تلك الحصيرة الخفيفة لانطلاقة رحلة التغيير، صاح الحمار حكمة (زيدها ما نايضش ... ما نايضش...). هو التمثل الكافي بين رؤية الحمار و صمت الجمل حين حملنا الديمقراطية ما لا تطيق من كمّ تعليق الحرية على مشجبها. حينها أغفلنا سلطة الحكامة الحاسمة في التخطيط والمتابعة والضبط، حينها بتنا نصنف القوم بالتمايز والتفاضل فمنهم (الذهب الخالص) لمن يوافقنا الرأي ويقول: دوما (نعم) وبلا نقاش ولا جدال ولا مطالب، لأنه أصلا مستفيد من الريع (حلال) .

حينها صنفنا المعارضين والناقمين على الوضعيات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية باسم (الحديد المصدي). حينها بات أصحاب الأعراف والوسط، من الذين يجمعون حسنة (الذهب المشحر) من التحكم، و منقلب رمز (الحديد المصدي) عند من نصبوهم من الشعب للترافع عنهم. هم إذا، فصائل من قومنا من متغير (النحاس المصقول)، والشبيه بالذئب الذي يبكي مع الراعي حين ضاعت أغنامه ، ويلهو مع الغنم المغرر بهم خفية، وهو الذي يأكل من أغنام (الراعي)، ويستغل سياسة (الريع حلال) عند غفوة الجميع.

تسقط مِنَّا الحكمة لزوما، حين بات القوم خليطا غير متجانس من المعادن والكائنات المتحركة. تسقط الحكمة، ومن بابها تسقط لعبة الديمقراطية التي لم يقدر تعبير الحمار الاستدلال عن مفهوم (الإنصاف والمناصفة). اليوم بات الفعل السياسي والثقافي من الخطابات التي لا تصنع نمارق السعادة. بات فرح السعادة من الصعب أن تجسدها أية كوميديا (ملهاة) مسرحية. بات الفرد يمشي وهو يفكر بجسده كأنه جثة متحركة بلا عقل، وهو لا يعلم أفق الانفراج وجودة الحياة.

***

محسن الأكرمين

في المثقف اليوم