أقلام فكرية

مقدمات لـ "فهم الفلسفة السياسية" (6): النظم: الأفكار والإيديولوجيات

علي رسول الربيعيسنعرض تحت هذا العنوان:

- الفرق بين الفلسفة السياسية والإيديولوجيا السياسية

- المبادئ التي تستند إليها الأيديولوجيات السياسية

- ماهي أدعاءات الأيديولوجيات السياسية الرئيسية.

بحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطورت الأفكار السياسية معبره نظرة شاملة للحياة الخيرة أو الصالحة وكيف يمكن تحقيقها، بالإضافة الى نهج التعاقد الاجتماعي جنبا إلى جنب مع صعود الديمقراطية وزيادة الوعي بقيمة وحقوق الفرد. انضمت هاتان الفكرتان السياسيتان إلى فكر سياسي آخر، ممثلا في عمل مفكرين مثل كانط وهيجيل وماركس. وأصبح الناس يعون مجريات التطور والتغيير في العالم من حولهم، وأحدى سمات ذلك هو التغيير الاجتماعي والسياسي.

يعتبر الفيلسوف الألماني هيجل (1770-1831) مفتاح هذا النهج. فقد رأى أن الواقع يتجسد دائما في العملية التاريخية، وأن أمة ما، في الواقع، هي التعبير المادي عن القانون الأخلاقي، أي أن لها حياة فوق الأفراد الذين يشكلونها. فقد اعتبر أنه من الممكن إجراء تغييرات اجتماعية وسياسية كجزء من نظام عقلاني شامل. يتكشف التاريخ عن هذا النظام بعملية تغيير جدلي: تتطور حالة ("أطروحة") من داخل نفسها معارضتها (أي "نقيض")، ثم يتم حل الاثنين (في "التوليف")، وهي عملية مستمرة التكرار، وتعبر عن روح العصر الذي يعطي معنى لحياة الناس.

مزجت الفلسفة السياسية وجهات نظر عديدة حول الحياة الخيرة والصالحة وقضايا العقد وأنظمة فكرية واسعة، فتشكلت هذه القاعدة العريضة للأفكار والمفاهيم وأنظمة الفكر التي كانت موضوع الفلسفة السياسية. ولكن عندما يتعلق الأمر بالنقاش السياسي الشعبي العام، نادراً ما يكون لدى الناس الوقت لشرح أفكارهم بالعودة إلى المبادئ الأولى، أو المشاركة في أفكار تقدم نظام تفسير شامل مثل هيجل وماركس. وبدلا من ذلك، يميلون إلى اختيار أيديولوجية سياسية جاهزة أو موضبة سلفا.

ما هي الأيديولوجية السياسية؟

انها مجموعة من الأفكار والقيم والحجج التي تترابط معا لإعطاء نظرة شاملة متسقة على ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع. كانت هناك طائفة واسعة من الأيديولوجيات السياسية المتنافسة في القرن العشرين مثل: الاشتراكية، والشيوعية، والمحافظة، والليبرالية، والقومية، والفاشية، والفوضوية، والبيئية في الآونة الأخيرة.

أحد الأخطار المرافقة للإيديولوجيات هو أنها مريحة للنفس وتقدم طريقة لجميع الأفكار في حزمة مبسطة يمكن استعمالها بسهولة كعلامة أو أشارة، يميل الناس إلى التشبث بها بشغف ولكن ليس دائمًا بطريقة عقلانية. يحتوي كل واحد منها، في الواقع، على مجموعة واسعة من وجهات النظر والأفكار.

تتعلق الخطوط العريضة لهذه الأيديولوجيات المختلفة بالسياسة، وليس الفلسفة السياسية، لكننا نحتاج إلى أن نكون مدركين لها لأنها تستخدم الفلسفة السياسية في النقاش السياسي، وتميل إلى الاعتماد على واحد أو أكثر من الأفكار الأساسية والقيم: الحرية والديمقراطية، التقاليد والقيم المعمول بها، العدالة والمساواة، تطور ونمو الشخصية والوطنية، احترام البيئة وهكذا...

قد تتعارض هذه الأفكار الأساسية مع بعضها البعض: فقد تؤدي الحرية لشخص إلى ظلم الآخر. وقد تخنق المساواة المطلقة نمو وتنميةأستقلالية الشخصية. لذا تميل الأيديولوجيات إلى أن تأخذ واحدة من هذه الأفكار بوصفها القواعد الأساس وتتنازل عن الأخريات إذا لزم الأمر. عن سبيل المثال، إذا أخذت الحرية كقيمة أساسية، فقد تتقبل حالة عدم المساواة في المجتمع، اذ يكون كل شخص حراً في العمل لتحسين أوضاع الحياتية، أو وربما تحديد ما يمكن أن تقوم به الحكومة للحد من الحرية، حتى لوتم ذلك باسم العدالة أو المساواة. أما إذا اعتبرت المساواة هي القاعدة الأساس، فقد تكون هناك حاجة الى تقييد الحريات والطموحات الشخصية إذا ما تعارضت مع احتياجات المجتمع كك . ولابد أن نشير هنا الى ان السياسية في الديمقراطية أو السياسة الديمقراطية هي دائما مسألة تسوية، لأن احتياجات الناس وقدراتهم مختلفة جداً ولا يمكن أن يكونوا راضين تماماً. الشيء المهم هو فسح مجال للتفاوض بين القيم الأساسية.

لذلك سنلقي نظرة سريعة على الإيديولوجيات السياسية الرئيسة، ولكن في البداية ملاحظة حول الطريقة المقبولة عموما لوضع العلامات على الأفكار والإيديولوجيات. تستعمل المصطلحات " يمين" و " يسار" و " وسط" " "right" و "left" و "centre" بانتظام في المناقشات السياسية. هي ليست جديدة وربما تعود إلى القرن الثامن عشر. ومعاني المصطلحات كما يلي:

- يشير "اليسار" بشكل عام إلى الإيديولوجيات التي تحبذ المساواة الاجتماعية وما تعتبره أجندة تقدمية للمجتمع. إن الإيديولوجيات الاشتراكية والماركسية المختلفة تقع تحت هذه الفئة، وايضا الفوضوية.

- مقابل ذلك، يحتضن "اليمين" تلك الأيديولوجيات الأكثر تحفظًا بطبيعتها، والتي تفضل التغيير التدريجي فقط وتضع في اعتبارها التقاليد الراسخة. كما أنه يستخدم لوصف لتلك أيديولوجيات، مثل الفاشية، التي غالبا ما تتبنى نهجا استبداديا قوميا.

- ويستخدم "الوسط" عمومًا لوصف الأيديولوجية الليبرالية، ولكنه قد يشير أيضًا إلى تلك التي من اليمين أو اليسار ذات التوجه المعتدل وتفضل إجماعًا واسعًا. ومن هنا يمكن استخدام مصطلح "يمين الوسط" للمحافظين المعتدلين، وقد يصف الديموقراطيون الاجتماعيون أنفسهم بأنهم يشغلون "يسار الوسط" في الطيف السياسي.

مع الحرية والديمقراطية

إذا تم أخذ الحرية كقيمة أساسية، فسوف يسعى مجتمع ما للسماح للأفراد بتعظيم فرص حياتهم الخاصة دون عائق من الحكومة. وسيتم الحد من التشريعات إلى الحد الأدنى الذي يكفي لحماية الأفراد من إيذاء بعضهم بعضاً، وعلى المجتمع أن يتحمل أو يتسامح ، سواء كان فرداً أو جماعةَ، مع ما لا يتعارض مع حرية الآخرين.

 يثير موقف الحرية الكاملة للفرد والوضع الذي تمارس به الدولة الحد الأدنى من السيطرة بعض الأسئلة:

- ما هي عواقب السماح للجميع بالقيام بما يريدونه ؟

- الناس بحاجة إلى العمل معًا في أطار المجتمع - هل يتوافق هذا مع الحرية الكاملة؟

- هل يمكن أن يكون الفرد حراً في تناول المخدرات، أو أرفض القيام بواجباته والتزاماته كدفع الضرائب( في معظم الدول غير الريعية)، دون أن تؤثر هذه الأشياء على الحياة؟

- ھل تعتبر وجهة اﻟﻧظر التي تطالب بعدم التدخل من قبل الحكومة ذات فائدة؟

 - هل للحكومة أي دور (كما قال أفلاطون وأرسطو) في تشكيل وتوجيه حياة الأفراد، بدلا من مجرد الاستجابة لرغباتهم؟

إن الميل العام في هذا العصر للأجابة عن مثل هذه الأسئلة التي تتعلق بالحرية إلى اقتراح الذي يقول أننا يجب أن نتخذ موقفاً أكثر اعتدالاً، وهو الموقف الذي تعبر عن الليبرالية.

تطورت الليبرالية، كما نعرفها اليوم، في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوربا. إنها إيديولوجية تقوم على احترام الفرد، وتسعى إلى تمكينه من تقرير مصير حياته إلى أقصى حد ممكن، بحيث يقتصر تدخل الدولة على ضمان أن تكون هذه الحرية نفسها متاحة للجميع فقط. وقد عرض جون ستيوارت ميل ذلك بوضوح في القرن التاسع عشر.

غالباً ما ترتبط الليبرالية بالفردية - وهو الادعاء الذي يقول بأن الأفراد يجب أن يكونوا أحراراً في اتخاذ خياراتهم الخاصة وعلى الدولة أن توفر بيئة يمكن أن يتحقق فيها تطبيق مثل هذه الخيارات الفردية. ومع ذلك، يتخذ هذا السعي الليبرالي للحرية عدة اتجاهات مختلفة ( ومتضاربة إلى حد ما). إذا كنت أرغب في أن أكون حراً ، فمن المعقول أن أكون راغباً في أن أكون حراً اقتصادياً وسياسياً. وقد أرغب في بدء عمل تجاري وسأرغب في القيام بذلك مع الحد الأدنى من تدخل الدولة أو تنظيمها. أدى ذلك إلى التحول الذي غالبا ما يشار إليه باسم الليبرالية الجديدة، وهي التي تقول ينبغي أن يكون هناك اقتصاد غير مخطط إلى حد كبير.

قد ينظر إلى الليبرالية الجديدة على أنها جزء من "اليمين الجديد" الذي تمتد جذوره الى التيار المحافظ في الليبرالية التقليدية. لاتقف حرية التجارة عند حرية الفرد، بل يرافقها الحرص على تطوير وزيادة قيمة الأعمال التجارية، وهذا لايحصل إلا في بيئة تنافسية. قد يؤدي رفع القيود و تحرير التجارة إلى إنتاج سلع وخدمات أفضل، حيث أن كل مزود يتطلب المنافسة ضد جميع الآخرين للحصول على حصة من السوق: إن حرية الربح تعني ضمناً حرية الخسارة، لذا قد يكون الاقتصاد المنظم بدون قيود هنا هو الآخر تهديدًا وتحديًا.

يرى الخبير الاقتصادي التحرري العظيم آدم سميث (1723-90) يجب ألا تتدخل الدولة في المصالح الخاصة للأفراد أو في عمل السوق الحرة. ويرى الاقتصادي المعاصر ميلتون فريدمان تظهر الأسواق الحرة الرأسمالية بشكل طبيعي بمجرد تحريرها من السيطرة السياسية. وبالتالي، تشجع التقاليد الليبرالية على إزالة السيطرة السياسية التي تحد من الحرية الاقتصادية للأفراد، ويشجع الاقتصاد على أن تأخذ الحياة الخاصة دورها بها في تشكيل المجتمع. لم ينكر آدم سميث أن النظام الرأسمالي أدى إلى عدم المساواة في الثروة. غير أن وجهة نظره كانت أن الثروة الشاملة للأمة ستزداد. وبعبارة أخرى، حتى إذا أصبح الأغنياء أكثر ثراءً، فإن ما يولّدونه من شأنه أن يحسّن وضع أفقر الناس.

التطور الآخر للفكر الليبرالي الذي نشأ مباشرة من أصل الاحترام لاستقلالية الفرد، هو الحقوق المدنية وحقوق الإنسان. إذا كان يجب احترام الشخص، فيجب الدفاع عن حقوقه. ومع ذلك، قد يتطلب الدفاع عن حقوق الإنسان تشريعات وفرض قيود على أولئك الذين يستغلون الآخرين. ومن ثم قد تجد نفس القيمة الليبرالية لاحترام الفرد نفسها في جوانب مختلفة جداً فيما يتعلق في النقاش حول الحرية الاقتصادية. إن منح الحرية الاقتصادية الكاملة للناس قد يترك الباب مفتوحًا أمام إمكانية عدم المساواة والاستغلال. ويمكن اعتبار تنظيمها لصالح الحقوق الأساسية للفرد بمثابة الإحباط لشكل طبيعي للتعبير عن الذات والتنمية. تتمثل المعضلة الليبرالية في كيفية حماية الأفراد وتشجيعهم في وقت واحد، وهو كيفية منعهم من إيذاء أنفسهم مع منحهم حرية القيام بذلك إذا رغبوا في ذلك.

 مع المشاركة

يرى بعض المفكرين أمثال حنة أرندت (1906-1975) أن هناك مجالاً ضئيلاً في الديمقراطية الليبرالية الحديثة لعملية المشاركة في العملية السياسية. وهي تتطلع إلى مستوى مشاركة جمهور أكثر مثل ماحصل في المدن الأغريقية القديمة والنهضة الإيطالية حيث يشارك فيها عدد كبير من الناس بشكل مباشر في صنع القرار السياسي نيابة عن الشعب ككل. ويرتبط هذا بفكرة "المجال العام" (وهو مصطلح أدخله المفكر الاجتماعي والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس،- 1929) الذي يكون لدى كل فرد فيه مجالان في حياته، واحدة عامة والأخرى خاصة. يجب إعطاء المجال العام أهمية أكبر طبقا لأرندت و هابرماس. إن خطر المجتمع الليبرالي الحديث هو أقتصار أهتمام الفرد في "مجاله الخاص" فقط كمستهلك للسلع والخدمات ، في حين أن المشاركة السياسية هي مسألة مشاركة في الساحة السياسية العامة بالكامل على مستوى النقاش والفعل.

إن تصور هابرماس في مايتعلق بالمجال العام يتناقض بشكل صارخ غالباً مع ما يجري في الديمقراطيات اليوم، أي أن عملية اتخاذ القرار تقتصر على أقلية من المتحمسين أو المهنيين، يعملون داخل الأحزاب السياسية. قد يختار معظم المواطنين أو لا يختارون التصويت في انتخابات عامة، ولكنهم يرون أنفسهم على أنهم ليسوا أكثر من متلقين سلبيين لنظام سياسي لا دخل لهم فيه. إن المثل الأعلى للجمهورية، و "الفضاء العام" وهو التعبير الحديث عن المشاركة أن يكون كل شخص قادر على الانخراط في العملية السياسية على المستوى الذي يناسبه.

مع الفوضوية

يدفع السعي إلى الحرية في حدها المنطقي الأقصى إلى الفوضوية التي تنطلق من أن الحكومة في أفضل الأحوال غير ضرورية وفي أسوأ الأحوال ضارة. تعود الفوضوية الى تاريخ طويل وترتبط بمفكرين مختلفين للغاية. فقد أستاء ديوجينيس الكلبي من أي نوع من القواعد أو الشرط التي تُفرض على المرء ليتوافق مع توقعات المجتمع، ورأى روسو أن الحالة الطبيعية للبشرية قد أفسدها المجتمع.

لقد تطورت الفوضوية كأيديولوجية في القرن التاسع عشر وترتبط بشكل خاص بعمل وليام غودوين (1756-1836) ، وبيير جوزيف برودون (1809-65) وبيتر كروبوتكين (1842: 1921). لم يكن الفوضويين (الأناركيين) منظمين بشكل جيد في جدول أعمال سياسي واحد متفق عليه مركزيًا! هناك العديد من الأشكال المختلفة للفوضوية، يؤكد بعضها على حرية الفرد، والبعض الآخر على قيمة العمل الجماعي، ولكن يبدو لديهم جميعا وجهة نظر أساس تقول يمكن للبشرية أن تزدهر بشكل طبيعي وعفوي بمجرد إزالة القيود السياسية. لذلك فإن الأناركية تمتلك نظرة إيجابية للطبيعة البشرية ولإمكاناتها ولكنها نظرة ساخرة بشكل عام لقيمة البنى السياسية. وعليه يمكن القول "الفوضوية" هي المصطلح المستعمل عادة من قبل شخص يرفض كل القواعد حتى لو كانت النتيجة سلبية. إن الفوضويين الحقيقيين لديهم نهج أكثر إيجابية، أنهم يبحثون عن وضع يسمح بالازدهار الحر لكل فرد.

مع القيم والتقاليد المعمول بها

يرى المحافظون لا يجب وضع القيم والتقاليد جانباً بكل سهولة، خاصة إذا اعتبرت فعالة في تنظيم المجتمع. تعبر المحافظة عن موقف أقل إيديولوجية وأكثر عموميةً تجاه المجتمع والسياسة. إنها ترى هناك قيمة في تقاليد المجتمع الراسخة تعزز القانون والنظام، وتسعى إلى الاعتزاز بما تم تحقيقه في الماضي، وتشجع على احترام السلطة. وإذا كان هناك تغيير، فينبغ يأن يكون بناءً على التجربة لا على التفكير المجرد.

إن النص الكلاسيكي الذي يعتبر قلب التيار المحافظ هو تأملات إدموند بيرك عن الثورة في فرنسا، التي نُشرت في 1792 تحت عنوان نداءات بيرك (1729-1797) وهي تؤيد عملية بطيئة للتغيير في المجتمع، تعترف بالحكمة التراكمية للماضي. كان ذلك، بالطبع، في صالح الملكية الدستورية، وإلى جانب المؤسسات الديمقراطية للحكومة، كما تم تأسيسها في إنجلترا. من أجل فهم قوة حجة بيرك، على المرء أن يقرأ خصمه العنيد، توماس باين الذي كتب عن "حقوق الإنسان" بقصد الرد على حجة بيرك نقطة نقطة. يبرز الأنقسام الأساسي التفكير المحافظ والفكر الاشتراكي من خلال النظر إلى المعركة الفكرية بين مواقفهم - دفع باين بأتجاه الإطاحة بكل سلطة مُقيدة، ووضع وثقة عميقة على قدرة الناس الاتفاق معا، بينما يركز وبورك باستمرار على الحذر من التغيير الراديكالي وعلى الثقة في المؤسسات القائمة.

تم تعديل المحافظة المعاصرة لتتناسب وروح العصر وتلونت بالملامح الرئيسية لليبرالية. ينطلق جدول الأعمال المحافظة الجديدة من الناحية الاقتصادية من سياسة عدم التدخل الليبرالية إلى حد بعيد. يختلف المحافظون الجدد اختلافاً ما عن المحافظة التقليدية، ويعتمدون بشكل كبير على الأجندة الاقتصادية الليبرالية، وهي سمة من سمات التفكير السياسي التي كان لها الحضور والبروز الأكبر في الولايات المتحدة، كما أوضحها فوكوياما (في 2006، America at the Crossroads) يحتوي على أربعة ميزات مميزة:

- أهمية الطابع الداخلي والقيم المتجسدة في النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، ويجب التعبير عنها في السياسات الخارجية؛ وبالتالي ينبغي على السياسة الخارجية الأمريكية أن تعيد إطلاق قيمها الديمقراطية الليبرالية.

- الاعتقاد بأن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تظل ملتزمة في الشؤون الخارجية ويجب أن تستخدم قوتها للأغراض الأخلاقية.

- نظرة متشائمة لقيمة التخطيط الاجتماعي.

- نظرة متشائمة حول قدرة القانون الدولي أو المؤسسات الدولية على أن تكون فعالة في ضمان الأمن والعدالة.

يصف فوكوياما المحافظين الجدد بأنهم يرون الصواب هو أن تستخدم الولايات المتحدة قوتها العسكرية لتحقيق "الهيمنة الخيرية" على تلك الأجزاء من العالم التي تعتبرها ذات أهمية استراتيجية. ومن المهم ملاحظة أن مواقف المحافظة الجديدة تميل إلى التأكيد على ما يرونه مسؤولية أخلاقية للحفاظ على القيم التقليدية. وبالطبع فإن الطريقة التقليدية للحفاظ على هذه القيم، أو كيف يمكن تبريرها بعقلانية، مسألة أخرى بالطبع وتفصيل آخر.

مع المساواة

إذا كانت العدالة والمساواة هي القيمة الأساس لديك، فسوف تشعر بالأهتمام بأن يتلقى كل فرد في المجتمع ما يحتاج إليه، وأن لا تتحكم أقلية بالقاعدة الاقتصادية للأمة لكي تستفيد منها على حساب الآخرين. لقد تناول أفلاطون وأرسطو هذا الأمر، إلى حد ما (رغم أن هناك تحفظات كبيرة في تناولها، حيث تم تجاهل النساء والعبيد إلى حد كبير). وأنعكس ذلك أيضًا في "العقد الاجتماعي"، الذي يؤكد على مدى أهمية وقابلية الناس للالتزام بمصيرهم، بدلا من أن يكونوا تحت سيطرة حاكم مستبد لا يخضع للمساءلة.

ولكن مع القرن التاسع عشر - بدأت تغيرات هائلة في المجتمع نتيجة للثورة الصناعية في أوربا، وتطور الرأسمالية وتكوين طبقة عاملة حضرية وصناعية - تطور هذا التفكير إلى الإيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية.

انبثقت الاشتراكية تعبيرا عن وعي الطبقة العاملة وتمردها على التأثير الاجتماعي للرأسمالية غير المقيدة. أذ رأت إن الرأسمالية بحاجة إلى تعديل وتخفيف أهدافها السياسية والاجتماعية. لقد وقف الفلاسفة مثل برتراند رسل (في محاضرته "قضية الاشتراكية") ضد النزعة المتأصلة في الرأسمالية التي تشجيع عدم المساواة، وتجاهل محنة أولئك العاطلين عن العمل، وكذلك طالب بالعمل على بالسماح تحسين أوضاع الطبقة الدنيا. قدمت الاشتراكية نفسها على أنها حملة أخلاقية ضد أسس الرأسمالية التي أدت إلى الاغتراب والاستغلال ومعاملة الناس كسلع وكتروس في عجلة اقتصادية. قاال روبرت أوين (1771-1858) ، وهو اشتراكي، (في رؤية جديدة للمجتمع، 1814) أن مجموعات صغيرة من الناس، مسؤولة عن عملها الخاص، يمكن أن تتوحد معاً وتحكم نفسها بطريقة تعاونية.

لم تكن هذه الاشتراكية، في بعض النواحي، بعيدة عن آراء الفوضويين الأوائل، الذين قالوا يمكن أن يعمل الناس معا بشكل جيد من دون فرض السيطرة السياسية نيابة عن الدولة – لكن قولهم هذا كان في ظروف مختلفة جدا عن ظروف الطبقة العاملة الصناعية الحديثة. كان موضوع الأستقلالية وحكم الذات لذاتها من خلال العقل، وتجاوز الانقسامات القديمة (بما في ذلك الانقسامات التي أحدثها الدين) هو المعبر عن الوعي السائد أنذاك.

تسعى الإيديولوجية الاشتراكية إلى إعادة توزيع الثروة لصالح الأقل رفاهية، وتقييد تلك الجوانب من الرأسمالية التي قد تنتج عواقب غير مقبولة اجتماعيا. أراد الاشتراكيون أن يتم إنتاج السلع لصالح المجتمع، وليس مجرد ترك الاقتصاد الرأسمالي للسوق الحرة. ومن هنا تطورت الحركة النقابية كحركة تمثل مصالح الشعب العامل بهدف تحسين الشروط والظروف التي يمنحها عملهم. لذلك ، فإن التمييز الأساسي بين المجتمع الرأسمالي والاشتراكي يدور حول ما إذا كانت احتياجات رأس المال تهيمن على احتياجات المجتمع، أو العكس. من الناحية العملية، بطبيعة الحال، تقع جميع المواقف بين هذين الضدين تقريبا. فمكان الهدف الرئيسي الوصول نقطة التوازن.

مع ماركس والشيوعية

قال كارل ماركس (1818-83) أن الفلاسفة قاموا بتفسير العالم بطرق مختلفة بينما المهمة الأساس هي تغييره، وبدون شك، كانت فلسفته السياسية مؤثرة بشكل كبير، وشكلت الكثير من تاريخ القرن العشرين. وكان عمله الرئيس هو Das Kapital " راس المال: نقد الاقتصاد السياسي"، الذي نشر في عام 1867. إن الكتابات حول ماركس كثيرة، ومن غير الواقعي تفصيل فلسفته في هذه المقالة القصيرة نسبيا ، ولكن من المهم وضعه في إطار التطور العام للفلسفة السياسية.

قال ماركس ان البنى السياسية والاجتماعية متجذرة أساسا في الاقتصاد، وعلى وجه التحديد في إنتاج السلع وتوزيعها. ولذلك فسر التاريخ من الناحية الاقتصادية حيث يشكله الصراع بين الطبقات الاجتماعية وأرباب العمل الراسماليين الذين يعاملون موظفيهم كما يعامل ملاك الأراضي فلاحيهم. وينظر إلى كل شيء من حيث النضال الطبقي، وفي سياق المجتمع ككل.

تاثر ماركس بجدليه هيغل ولكنه كان مدفوعا بالأساس المادي والاقتصادي للمجتمع. وبالتالي، تسمى نظريته المادية جدليه.

 إن إنتاج شيء يحقق من خلاله شخص آخر ربحًا، يصبح منفصلاً عن عماله، ويتم التعامل معه على أنه أشياء غير شخصية، مجموعة آلات الغرض الوحيد منها في الحياة هو الإنتاج. لقد شاهد ماركس العملية الرأسمالية التي أدت إلى تركيز المزيد من الثروة في أيدي عدد قليل من "البرجوازية" ، بينما تتحول "البروليتاريا" العاملة إلى الفقر. وأعتقد أن هذا سيؤدي في نهاية المطاف بهؤلاء العمال إلى الانتفاض ضد أصحاب الملكية البورجوازية، والحصول على ملكية مشتركة لوسائل الإنتاج، وإنشاء مجتمع لا طبقي- ديكتاتورية البروليتاريا: الشيوعية.

تتضمن الأيديولوجية الشيوعية عمومًا درجة عالية من سيطرة الدولة التي يستلزم عليها توفير أساسيات الحياة في دولة الرفاهية.

كانت هناك اختلافات كبيرة في تطبيق هذه الأيديولوجية. فبينما أمسكت السلطة بالدولة وهيمنت عليها في عهد لينين، أراد تروتسكي سلطة أقل رسمية لتكون في يد الحزب الشيوعي، ويكون هناك المزيد من المشاركة المباشرة للناس في صنع القرار السياسي. واجه ماو، في الصين، وضعا مختلفا عن الوضع الذي كان ينطلق منه ماركس، ورأى أن الناس العاديين في البيئة الزراعية على استعداد لقيادة الثورة، على عكس افتراض ماركس بأن العالم الزراعي سيحتاج إلى ان يصل الى التصنيع والأنتاج الصناعي قبل أن تحدث هذه الثورة.

العامل الرئيسي الآخر في تقييم الأيديولوجية الماركسية هو أنها تنبأت بالتدمير الذاتي للرأسمالية في نهاية المطاف، وازدهار المجتمع الشيوعي الذي لا طبقية فيه. من الناحية العملية، طبعا، ازدهرت الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين، وفشلت الدول الماركسية في تحقيق المساواة والحرية الموعودة، وبالتالي أطيح بها.

واجهت اللشيوعية السوفياتية معضلة رهيبة في I956، عندما تم الاعتراف بالحكم المرعب في عهد ستالين الذي ندد به خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي. وأخذ يشار إليه أحيانا باسم "التناقض الكبير" الذي يمكن التعبير عنه بمايلي:

- هل كان حكم ستالين هو نتاج حتمي للبنى الاقتصادية التي خلقته؟

- أم أن عبادة الشخصية هي التي سمحت لستالين بالحكم بهذه الطريقة، لتشكيل المجتمع والوقوف فوق القانون؟

إذا أخذت أول هذه الخيارات، فإن مسيرة المادية الجدلية أدت إلى كارثة، وليس الى المجتمع المثالي وحكم البروليتاريا. قال ماركس بأن المجتمع سينتج القادة الذين يحتاجونه. ومن هنا يمكن أن يلام النظام السوفياتي نفسه لإنتاج ستالين. لكن إذا أخذت الثانية من هذه الخيارات، فهذا يعني أن المادية الجدلية نفسها خاطئة جوهريًا، وأن التغيير يحدث من خلال تأثير الحكام الأفراد، وليس عملية جدلية الديكتاتيك.

في مواجهة حقيقة ما حدث في الاتحاد السوفياتي تحت حكم ستالين، بدا فجأة أن نظرة ماركس الأساسية لطبيعة التغيير السياسي كانت معيبة بشكل أساسي أو كانت نتائجها غير مقبولة على الإطلاق. كان ذلك اعترافًا صادمًا لم تتعافى منه الشيوعية أبدًا.

انتقد فريدريش فون هايك (1899-1992)، في كتابه "الطريق إلى العبودية" (1944)، كل الأيديولوجيات القائمة على الجماعية - فكرة أن النشاط الاقتصادي يجب أن يتم تنظيمه مركزيًا من قبل الدولة - على أساس أن الجماعية تقود بشكل طبيعي إلى الشمولية. وأعرب عن اعتقاده بأن التخطيط المركزي لن يحقق الإنصاف في توزيع الموارد، ومن الأفضل تركه لقوى السوق، وقدرة الناس على التجمع من تلقاء أنفسهم والتعاون من أجل المنفعة المتبادلة. من الناحية العملية، كان الاقتصاد المركزي الهائل للاتحاد السوفييتي تحت حكم ستالين ، يُنظر إليه، عن سبيل المثال، أنه غير كفؤ بشكل يائس، ومتعثر في البيروقراطية، ويصونه القسوة الشمولية.

جاء نقد آخر رئيسي للشيوعية الماركسية من قبل كارل بوبر (1902 - 94). كان ماركس قد رأى أن تقدمً المجتمع يتحدد علميًا من خلال المادية الجدلية، لكن بوبر رأى في هذا علمًا زائفًا، لأن الماركسيين لن يسمحوا بأي دحض نظريتهم مما يؤدي إلى رؤية ثابتة وشمولية للمستقبل. ويتماشى هذا مع مساهمته الرئيسية في فلسفة العلم - التكذيب - أي أنه من أجل اختبار النظرية، يحتاج المرء أن يعرف ما الذي سيظهر أنها خاطئة، حيث لا تتوافق أي نظرية حقيقية مع أدلة متناقضة. وقال إن الماركسيين لن يسمحوا بأي نقد ضد المادية الجدلية، وبالتالي، فإن النظرية لا يمكن أن تكون علمية حقيقية. وهذا يقوض أسس النظرية الاجتماعية الشيوعية.

لقد جمع ماركس أدلته - مثله مثل أي عالم - فابتكر نظرية تفسيرية. لكن أظهر التاريخ اللاحق أن تنبؤاته خاطئة، وبالتالي - مهما كانت المزايا الاجتماعية التي قد يقدمها النظام الشيوعي - لم يعد من المنطقي الاعتقاد بأن ديكتاتورية البروليتاريا أمر لا مفر منه.

تعتبر الاشتراكية الطريقة الجماعية لوسائل الإنتاج خطوه ضرورية على طريق تحقيق هدفها السياسي. وبمجرد ان تتحكم الدولة مباشره في وسائل الإنتاج، يمكن ان يدار الاقتصاد من أجل تلبيه الاحتياجات الحقيقية للشعب، في حين انه في ظل الراسماليه، يتم تحفيز الاحتياجات المتزايدة باستمرار للناس من أجل أدامة النظام الراسمالي.

ان النجاح العام للراسماليه وفشل الاقتصاد المخطط يعني ان الموقف الاشتراكي اليوم، وبصفه عامه، لم يعد يحاول القضاء على النظام الراسمالي، أو المبادئ العامة للعرض والطلب المضمنة فيه. وبدلا من ذلك، فانه يرى ينبغي تنظيم الراسماليه برفق، مع الاعتراف بان المنافسة العارية (كما قدمها أفلاطون في Thrasymachus ، حيث العدالة هي كل ما هو في مصلحه الأقوى) لا تعطي دائما نتيجة اجتماعيه مقبوله.

وفي هذا السياق لابد من الأشارة الى أندريه غورز الذي كان مساهمًا أوروبيًا كبيرًا في التفكير حول الاشتراكية والرأسمالية، فقد أنتقد في كتابه "الرأسمالية والاشتراكية والإيكولوجيا (1991)" "هيمنة العقلانية الاقتصادية المتجسدة في الرأسمالية". بعبارة أخرى، من وجهة نظر اشتراكية، لا تهتم بالأثر الاجتماعي للاقتصاد فقط، بل على ما اعتبره هيمنة الفكر السياسي على الاقتصاد.

 إن الديمقراطية الاجتماعية الحديثة هي نتاج هذا الاندماج للاشتراكية مع الديمقراطية و الاعتراف بالفوائد التي تعود على العاملين والتي يمكن تحقيقها من خلال اقتصاد يوفر مستويات معيشية متزايدة باستمرار. وقد أدى هذا الاعتراف إلى انتقال الأحزاب الاشتراكية الحديثة بمسافة كبيرة نحو الأجندة الليبرالية.

مع التنمية الشخصية أو الوطنية

إن العالم الذي يتغير ويتطور، من المهم ان يحدد الأفراد والأمم فيه الأهداف التي يطمحون إلى تحقيقها، ويمكن أن تصبح هذه سمة أساسية لإيديولوجية اجتماعية وسياسية أو شخصية.

فريدريك نيتشه (1844-1900) هو الفيلسوف الذي اشتهر بادعاءه بان الله قد مات وبالتالي يجب على البشرية ان تتحمل مسؤولية مستقبلها. في الوقت الذي كانت نظرية داروين للانتخاب الطبيعي، وفكره التطور عموما، أنتجت وجات نظر جديده لفهم الأنواع البشرية، رأى نيتشه رجلًا جرأياً على حبل مشدود يتحرك من بين الوحش نحو شكل أعلى مستقبليًا: 'سوبرمان'. معبرا عن تأكيده للحياة على أنها "إرادة للقوة" - ليس القوة الخارقة كما في محاورة أفلاطون Thrasymachus، بل إرادة لتأكيد الحياة والتطور والمضي قدما. ينتقد نيتشه المسيحية والديمقراطية على حد سواء، لأنه يعتقد أنها تمنع فعل الأقوياء لأجل تأييد الضعفاء. وتبدو له المسيحية تحتفل بالضعف وتقبل "أخلاق العبيد" بحماسة، بدلاً من "الأخلاق الأساسية" للتنمية الذاتية وزراعة الفضائل النبيلة. بالتأكيد نيتشه فيلسوف مهم يستحق القراءة. لكن لأغراضنا هنا، لا نحتاج إلا أن نتطرق إلى بعض الآثار السياسية لعمله - وبالتحديد، اعتباره تطور الشخصية، سواء بالنسبة للفرد أو للمجتمع، قيمة أساسية. بعبارة أخرى، إن إنتاج السوبرمان هو نقطة البداية – وهو الوظيفة الضرورية التي يجب على المجتمع أن يقوم بها حتى يبني نظامًا سياسيًا. وللأسف، قرأ كل من هتلر وموسوليني نيتشه واعتُبر عمله كرسم كاريكاتيري لتبرير قوميتهم المتشددة وأكثر أشكال العنصرية تطرفاً في نتائجها الوحشية.

ليست القومية أيديولوجية سياسية، ولكنها تعبير عن قوة سياسية مرتبطة بالدولة القومية. إنها متوافقة مع الإيديولوجيات الأخرى، لكنها تعطي الأولوية لتطور الدولة/ الأمة أو الدولة القومية، مما يعطي وزنا إضافيا للأمة، وتؤكد في كثير من الأحيان على أهمية الأمة بدلا من المنظمات الدولية أو الدينية.

يتجه التعاطف القومي في أقصى اليمين نحو الفاشية. وهنا يتم استخدام الهوية الوطنية كداعم لإدخال نظام استبدادي، مع معارضة للأفكار الليبرالية، ومطالبة الأفراد بالأندماج في الصورة الوطنية أو الثقافية النمطية. يعتبر موسوليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا وفرانكو في إسبانيا أمثلة على هذا النهج - في كل حالة يبدو أن هناك عبادة كبيرة للقائد، حيث ينظر إلى الحاكم على أنه تجسيد للمثل الوطنية العليا.

لا تخلو الفاشية من خلفية فلسفية. فقد رأى هيجل بأن الأفراد يجدون في الدولة تعبيرًا عن إرادتهم الجماعية ووعيهم. لذا فهم يبحثون عن دولة مثالية وزعيم مثالي، تجمع وتضع تركيزها على تطلعاتهم الجماعية. كان الممثل المبكر للأيديولوجية الفاشية هو الفيلسوف المتبنى للهيجلية الجديدة جيوفاني جنتيل (I875-I944) والذي كان الكاتب الخفي لـ"عقيدة الفاشية" لموسوليني. كانت نظريته عن المثالية الفعلية تهدف إلى التغلب على الفجوة بين الأفكار والعمل، حتى يعبر الناس عن فلسفتهم من خلال الالتزام السياسي. كما توجد مشاعر مماثلة عند هيدجر، الذي أيد آراء الحزب النازي في عام 1933 على أساس أن الناس يحتاجون إلى الإحساس بالمعنى والتوجه والحسم في حياتهم بالأضافة تأكيد الذات التي لا يمكن أن يقدمها إلا زعيم قوي في سياق قومى، معتقدا أن للشعب الألماني رسالة خاصة. وأريد أن اشير هنا الى أن أفكار جنتل تقف في تناقض مثير مع أفكار ماركس. فبينما تبنى ماركس جدلية هيغل واستند إليها في تفسيره المادي والاقتصادي للعالم، رجع جنتل الى جدلية الأفكار. اعتقد كلاهما أن فلسفتهما ستغير المجتمع، وكان كلاهما مثاليان في تصورهما لمجتمع المستقبل. أما ما أذا كانت قيمتهم كفلاسفة شوهة بالكامل من قبل البنى السياسية التي نشأت من أفكارهم فهذه مسألة أخرى.

عندما نظر مكيافيلي إلى ما هو مطلوب من أجل الاحتفاظ بالسلطة في دولة المدينة في عصر النهضة في إيطاليا، رأى أن القسوة أكثر فعالية أحيانًا من اللطف غير الحاسم للأمور. وأن القيمة الأساس والتي لها الأولوية بالنسبة للحاكم هي أمن وسلامة وقوة الدولة، ويعتبر كل ما يتعلق بالحرية أو المساواة ثانويا.

لذا فإن السؤال الرئيسي هنا هو: إلى أي مدى يجب أن يكون لتطور الدولة، من حيث قوتها وأمنها واستقرارها وقابليتها الاقتصادية، الأولوية على قيم الحرية والمساواة لشعبها؟

مع الطغاة

السمة الأساسية للديكتاتوريين أنهم يقفون فوق سيادة القانون والسياسية. قد تظهر الديكتاتورية في العديد من الإيديولوجيات المختلفة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. لكنها تشترك في سمة القسوة وعدم الرحمة في تنظيم الأمم التي تقودها وتسيطر عليها. وتاريخيا سببت موت الملايين. قد يصبح رئيس الانقلاب العسكري دكتاتوراً، بسبب التسلسل القيادي والطبيعة المطلقة للانضباط العسكري، مما يحول دون تحدي السلطة القائمة، ومع ذلك، يمكن تبرير الدكتاتورية من قبل الكثيرين في بعض الأحيان لقدرتها على السيطرة على أوضاع أنقسامات طوائفية يؤدي انفلاتها الى حروب اهلية وتفكك الدولة. من المهم أن نسأل ما إذا كان أي نظام أقل من الديكتاتورية قادر على إقامة دولة مستقرة فيها فصائل داخلية متصارعة. لن يخبرنا على هذا السؤال سوى الزمن.

لقد وصل الديكتاتوريون، عموما وتاريخيا إلى السلطة في مواقف تتطلب عملاً سياسيًا حاسمًا، وكان يرحّب بهم الناس في بعض الأحيان للفوائد التي يمكن أن يقدمها الحسم من حيث كفاءة الخدمات التي تقدمها الحكومة. تكمن المشكلة في صعوبة أزالة الدكتاتورين من السلطة لسيطرتهم على الوسائل العسكرية وغيرها من وسائل التغيير.

 مع البيئة

بوجود 6.5 مليار شخص على هذا الكوكب، وموارد طبيعية محدودة، واقتصاد عالمي يشجع على زيادة استهلاك السلع والخدمات، ليس من المستغرب أن يتزايد تأثير الإنسان على البيئة، وقد أدى ادراك هذا الأمر إلى تطوير مجموعة من المبادئ التوجيهية الأخلاقية والسياسية التي تتحدى الإيديولوجيات القائمة. تشير مسألة البيئة إلى أن تشغيل الصناعة والنقل أن يُأخذ في الاعتبار أثرها البيئي. قد يكون هذا جيداً في حد ذاته، لكنه لا يعالج الافتراض الأساسي للرأسمالية بأنه سيكون هناك عدد متزايد باستمرار من السلع والخدمات التي يتم إنتاجها لتلبية الاحتياجات المحفزة دائما. يبدو هذا لبعض المفكرين ( أندريه غورزعن عن سبيل المثال) ليس أكثر من استجابة جزئية للأزمة البيئية العالمية، لأنها تترك بنية الإنتاج التي تسبب الضرر البيئي ولا تقدم لها علاجا جذريا. البديل هو نهج إيكولوجي أكثر جذرية يرجع عن الافتراضات الاقتصادية للرأسمالية ويسأل لماذا نحتاج إلى زيادة مستوى معيشتنا (الذي عادة ما يكون متطابقًا مع مستويات استهلاكنا). من شأن هذا النهج أن يوحي بأن نوعية الحياة يمكن تحسينها من خلال استهلاك حياة أقل- مقاربة الحياة وقيمها من المنظور الإيكولوجي، ومن ثم تنقيح احتياجاتنا ورغباتنا المتصورة في ضوء ذلك المنظور بدلاً من مجرد الضغط والتأكيد على افتراض زيادة الإنتاج.

الإيكولوجيا السياسية هي المصطلح المستخدم بشكل عام لإعادة تشكيل الفكر السياسي لمراعاة حقيقة أن الناس يعتمدون على بيئة تتعرض بشكل متزايد للتهديد بسبب نشاطاتهم. ولكن هناك سؤال جوهري يُطرحه: هل يجب حماية البيئة من أجل مصلحتها الذاتية، أم بسبب قيمتها للبشرية؟

إن أولئك الذين يأخذون بوجهة النظر الأخيرة يقولون بالحاجة إلى التنوع البيولوجي، عن سبيل المثال، غالباً ما تكون الأنواع النباتية النادرة مفيدة لأننا نستمد منها أدوية جديدة. وسيكون للضرر الذي يلحق بالبيئة تأثيرا مباشرا على نوعية الحياة، أو حتى بقاء الأنواع البشرية. أما ألئك الذين يأخذون بوجهة النظر الأولى (التي يطلق عليها عمومًا علم البيئة العميقة) فيقولون علينا أن نتجاوز النظرة البشرية للطبيعة - أي يجب حماية البيئة، بغض النظر عما إذا كان بإمكاننا رؤية أي منفعة مباشرة للبشرية في القيام بذلك. ويرتبط ذلك بالحجة الأخلاقية لحقوق الحيوان - وهي أن الأنواع الأخرى ليست موجودة للترفيه أو الغذاء للإنسان، بل ينبغي أن تُقيَّم في حد ذاتها وتُعامل باحترام.

من الواضح أن الإيكولوجيا السياسية تنطوي على مجموعة كبيرة من القضايا، من تغير المناخ والتلوث إلى مخاطر استغلال موارد الأرض المحدودة وانقراض أنواع أخرى. ربما أعتبرت مثل هذه القضايا في المقام الأول وفي وقت ما ذات أهمية أخلاقية للأفراد ولكن اصبح من الواضح في العقود الأخيرة أنه لا يوجد فرد، بل ولا دولة بمفردها، قادر على معالجة هذه القضايا وحدها. سيتطلب أي تغيير جوهري اتخاذ قرارات سياسية على المستوى العالمي وكذلك على المستوى الوطني، وسيحتاج نشاط الأفراد (عن سبيل المثال، إعادة التدوير أو الاستخدام الاقتصادي للموارد) إلى قدر من الدعم السياسي لكي يكون فعالا.

 تتبنى مختلف أحزاب الخضر هذه الإيديولوجية البيئية، وكذلك منظمات مثل أصدقاء الأرض والسلام الأخضر. يتم تناول هذه القضايا أيضًا مع زيادة الوعي بأهميتها، من قبل الأحزاب السياسية الأخرى. ومن ثم، لدينا أيديولوجية لا ترتبط بحزب سياسي بعينه، ولكنها قادرة على إشراك الناس من جميع الأطياف السياسية، مع الاعتراف بأن القيم الأخرى لا يمكن الحفاظ عليها إذا تم تدمير البيئة نفسها. ستشكل العلاقة بين الأفكار والقيم التي تمثلها البيئة تحديا كبيرا للنظم والقيم السياسية والاقتصادية القائمة على أي مستوى يعمل به.

مع مستقبل الأيديولوجيات

 كان الأجماع، مع اقتراب القرن العشرين من نهايته، أن الاشتراكية كنظرية ونظام سياسي قد ماتت. وإن محاولة إدارة الاقتصادات الوطنية على خطوط إيديولوجية لا يمكن أن تتطابق مع ما يمكن أن تقدمه الأسواق الحرة عن طريق الابتكار والتحسينات في أسلوب الحياة. حتى البنى الطبقية التقليدية في الاقتصادات الرأسمالية بدت ميته، حيث أن الوعي الطبقي القديم أفسح المجال لتداخل دوائر الولاء في بيئة متعددة الثقافات، ذات دوافع مالية موجهة نحو المستهلك.

قال فرانسيس فوكوياما (في "نهاية التاريخ" ، 1992) أن الطموحات العالمية للناس في المشاركة في منافع الحياة الحديثة ستقودهم في نهاية المطاف إلى اختيار شكل ديمقراطي ليبرالي للحكومة ونظام اقتصادي رأسمالي. كتب هذا، بالطبع ، في ضوء انهيار الاتحاد السوفييتي والتراجع العالمي للاشتراكية والشيوعية. وهكذا، لم يرى فوكوياما "بدائل نظرية متماسكة للديمقراطية الليبرالية"، فافترض أنها - مثل العربات التي تتحرك نحو مدينة - سينتهي كل شخص في نهاية المطاف الى المكان نفسه، فحتى لو كان البعض قد خرج عن الطريق أو اتخذ مسارًا مختلفًا، أو كانوا يحققون تقدمًا أبطأ من غيرهم. وبعبارة أخرى، نحن جميعاً نتجه في الاتجاه السياسيا نفسه.

ثمانية عشر عاما هي فترة طويلة في السياسة، ومنذ ذلك الحين تبرأ فوكوياما عن تأييده لأجندة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما سياستها الخارجية وردها على هجمات 11 سبتمبر، وليس واضحا اليوم ما إذا كان من هو حر في اختياره أن يختار للديمقراطية الليبرالية ونهج السوق الحرة تلقائيا. هناك عناصر أخرى تلعب دورا كبيرا اليوم، لا سيما مع صعود الأيديولوجيات الدينية الأصولية التي تتقاطع مع أي افتراضات اقتصادية بسيطة. لا يفجر الانتحاري نفسه لزيادة حصته من الفوائد المادية!

أصبحت الأيديولوجيات المتناقضة بشكل صارخ والتي ثبتت أنها مميتة في القرن العشرين متواضعة. لقد تغير جدول الأعمال اليوم وطرحت قضايا عالمية جديدة وأسئلة لا تقدم عنها الإيديولوجية القديمة إجابة مرضية. قد تكون الديمقراطية الليبرالية قد فازت اليوم من حيث النفوذ العالمي، لكن مع مرور الوقت، هناك عدد متزايد من الأسئلة التي يجب طرحها حول منهجها. كما أنها تواجه تحديات متزايدة من منظور ديني، ولا سيما الأصولية، وكذلك من منظور الإيكولوجيا السياسية - وينظر إليها بشكل خاص في قضية الاحتباس الحراري للكرة الأرضية.

لم تعد المجموعات القديمة من الأفكار التي شكلت أيديولوجيات القرن العشرين مرنه بما فيه الكفاية لانصاف المجموعة المعقدة من القضايا التي تواجه المجتمعات العالمية والوطنية والمحلية اليوم. ومن ثم، فبدلاً من التمسك بالشعارات الأيديولوجية، من المهم أن تتصدى الفلسفة السياسية لأفكارها الأساسية مباشرة ، وهذا هو مايجب عليها، والتي سأنتقل لنقاشها لاحقا.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

في المثقف اليوم