أقلام فكرية

ما بعد الحداثة والعلم أيهما يستطيع إنقاذ الآخر؟

أطلق السوسيولوجي زيجمونت بومان على ما بعد الحداثة "الحداثة السائلة". ورغم انها متعددة الأوجه ومعقدة، لكن ظروف ما بعد الحداثة يمكن وصفها بخيبة الأمل من التوضيحات الشاملة للعالم، بما في ذلك تلك التي يعرضها الدين والعلم. ما بعد الحداثة ايضا يمكن فهمها من خلال اعراضها الرئيسية مثل مضاعفة الثانوي، الروايات المؤقتة، النسبية (عدم المقدرة على قول أي من الروايات هي أصح او أحسن من غيرها)، والواقع المفرط (المزج بين الواقع والخيال).

في عام 2018، اقتحمت ما بعد الحداثة البرازيليين بقوة بكل ألوانها كأكبر محطم للحقائق التجريبية والأفكار. انها تجسدت في حريق 2 سبتمبر من تلك السنة، الذي دمر أكبر متحف تاريخ طبيعي في البلاد، حيث ملايين الحقائق كانت محفوظة فيه سلفا. لا شيء اكثر رمزية من تلك النيران. هذا التدمير لمتحف الحقائق ايضا قابله قبل سنتين افتتاح متحف بلا أشياء في البرازيل، متحف الغد الذي ركز على استكشاف قصص بُنيت بمساعدة الصور الرقمية.

في الحقيقة، كان المتحف التقليدي بما فيه من مجموعة القطع الأثرية، هو حقا متحف الأمس. يُشار هنا الى ان تحطيم قطع المتحف بدلا من ان تكون حدثا تاريخيا، كانت نتيجة حتمية لظرف ما بعد الحداثة، وان إيقاف هذه النزعة هو ذو أهمية جوهرية للحفاظ على هوية النوع البشري.

انحدار الحقيقة المطلقة

ان الخط الفكري الذي قاد بالنهاية الى ما بعد الحداثة بدأ اثناء التنوير، وتحت تأثير اكتشافات كوبرنيكوس وجيوردانو بونو وكبلر وغاليلو، وفيزياء نيوتن، انتشرت عقيدة واسعة بان العلم يكشف تدريجيا عن الواقع وبالنهاية يكشف حقيقة الأشياء. الفلاسفة الوضعيون في القرن التاسع عشر – خاصة اوكست كومت – اخذوا هذا التفاؤل حول العلوم الى مستوى كلي جديد. هم اعتقدوا مثلا، بانه من خلال المعرفة التامة بالأجزاء نحن سنسيطر على الكل. عندما تعرف خلاياك جيدا، انت تستطيع السيطرة على جسمك. إعرف الانسان جيدا، ستعرف الانسانية. استعمل العلم جيدا، سوف تكون قادرا على بناء نظام أخلاقي سليم. أفكار كومت الأخلاقية – و"دين الانسانية" العلماني الذي أسسه – اصبح ذائع الصيت في البرازيل. "معابد الانسانية" الكومتية تأسست في مختلف أجزاء البلاد، والشعار الذي يظهر في علم البرازيل (النظام والتقدم) مشتق من كتابات كومت. لكن، الفلسفة وبعد وقت قصير فرضت أسئلة مقنعة: هل نحن نستطيع حقا معرفة العالم؟ هل أحاسيسنا تسمح لنا لنتأكد من الواقع؟ او هل سنكون ملعونين الى الأبد بأوهام كهف افلاطون؟

في معالجته لهذه الأسئلة، بيّن لنا عمانوئيل كانط ان الحقائق تصبح فقط حقائق لدينا، كجزء من تمثيل العالم المركب بواسطة أذهاننا. لاحقا سنكتشف انه بالاضافة لفلاتر حواسنا، اصطبغت الحقائق ايضا بالمعرفة وأنظمة القيم لأولئك الذين تصوروها. من هنا اصبحت الحقائق وبشكل متزايد يُنظر اليها كبناء انساني، ذاتي بعيدة عن الانطباع الأصلي في كونها كينونات مطلقة وثابتة.

العبارة القديمة "لا جدال ضد الحقائق " فقدت الكثير والكثير من معانيها. والطريقة التي نتصور بها العالم ستكون دائما متفردة. فريدة من نوعها كالوجه.

حالما جرى تفكيك الحقائق التجريبية والعقائدية، بقي الفلاسفة الوضعيون يأملون بامكانية بناء نظام أخلاقي مرتكز على المعرفة العلمية. ولكن بعدما حدث لاحقا من حربين عالميتين وقنبلتين نوويتين، أثبت العلم انه غير قادر وحده على بناء مثل هكذا صرح أخلاقي.

كان الفيلسوف كارل بوبر قد أغلق الطريق امام الوضعية حين قال ان  الفرضيات تكون علمية فقط عندما يكون بالإمكان تكذيبها. هذا يعني اننا لا يمكننا اعتبار أي فرضية علمية كحقيقة مطلقة. لم تعد هناك أي فرضيات علمية مثبتة. هناك فقط فرضيات مختبرة ومؤيدة. كل الفرضيات قابلة للتفنيد وهي مؤقتة وأكثر تمثيلا للواقع منه الى الواقع نفسه. حكمة سقراط "انا أعرف فقط اني لا أعرف" كانت وعلى نحو حاسم قد اندمجت في العلم.

من المثير، ان العلم الذي نُظر اليه مرة كمتجهم ومتغطرس، أصبح أكثر انظمة المعرفة انفتاحا . راح ينظر لنفسه كترجمة للعالم اكثر مما هو وصف له، كان من الطبيعي ان يسمح بوجود متزامن للنماذج التفسيرية المتنافسة. احيانا، نحتاج الى اكثر من اداة في علاقتنا مع الواقع. وباستعمال القول الكلاسيكي الفرويدي، نماذجنا ونظرياتنا تشبه منارة في الليل تضيء البحر لكي تبحر السفن بأمان. انها تضيء فقط لما يهم، بينما بقية السفن تبقى عائمة في عتمة جزئية .

هناك مثال مفيد نادرا ما يُناقش خارج البايولوجي وهو الأنواع. الانواع هي كائنات يتم تجميعها بالارتكاز على معايير مفاهيمية معينة. ولكن توجد هناك مفاهيم لأنواع مختلفة عديدة، كل واحد يؤدي الى تجمع مختلف. هناك علماء يعتبرون التكاثر باعتباره ذو أهمية اساسية لتعريف الانواع، هناك آخرون يعتبرون علاقات القرابة اكثر أهمية. كذلك، هناك من يعتبر التشابهات والاختلافات الفيزيقية هي الاساسية. هناك من يعتقد ان المسافات الوراثية بين المجموعات السكانية هامة. وبالنتيجة، عالِم ما بعد الحداثة يمكن ان يعيش مع مختلف التصنيفات من الجماعات الحيوانية او النباتية دون اعتبار أي من الافتراضات خاطئة بالضرورة. وبالعكس، هذا التعدد للروايات الصغيرة هو ذو أهمية كبيرة، كونه يوفر للعلماء ذخيرة واسعة من الأدوات لفهم العالم. امام كل سؤال، يمكن للعالِم ان يستعمل النموذج الذي يناسبه بشكل أفضل.

يمكن القول ان البحث عن الحقيقة في ما بعد الحداثة سيكون شيئا يشبه تسلق قمة جبل لكي يمكن النظر الى المشهد. نظريا، كل متسلق يستطيع تسلق الجبل عبر وضع يده وقدمه بالتناوب في شقوق او فجوات متميزة وبعدد لا متناهي من الاختيارات. ولكن طالما هناك احد يتسلق الجدار اولاً، سيكون هو من يضع القاعدة (ربط البراغي) التي تُستعمل من قبل متسلقين آخرين. هذا لا يمنع المتسلقين الآخرين من خلق مسارات اخرى وربط براغي جديدة.

لكن تلك الحرية تفرز معها بعض الفخاخ والمصائد. العلماء الذين لايقولون ابدا ان لديهم الحقيقة هم ليسوا أي شخص. العلماء الممارسون الحقيقيون الذين يجدون من الصعب العيش بتاريخ و روايات متعددة، ينتهون بعرض مشاكل خطيرة مرتبطة بعدم الارتياح النسبي هذا.

الكثير من العدمية والإنكار

من بين أكثر التأثيرات الشائعة غير المرغوب فيها المتصلة بانتشار روايات ما بعد الحداثة هي العدمية والنفي . في العدمية، يفقد الفرد تدريجيا الاتصال بالواقع ولا يعرف كيف يختار بين الروايات المتوفرة، حيث يصل للإعتقاد ان لا شيء له معنى. هذه العملية هي تجسيد قوي لما يسمى "الواقع المفرط" – نوع من فنتازيا تغذيها وسائل الاعلام وتقود لحياة من الأوهام، والوثنية الجنسية والاستهلاكية.

ان مفهوم الواقع المفرط  hyperreality طوره الفيلسوف جينس بودربلارد (1923-2007). هو الفكرة باننا نتوقع استنساخ الواقع من خلال تجسيداتنا الاعلامية له. النسخة تصبح اكثر كمالا في عيوننا من "الواقعي"، حتى بدون امتلاك الصفة الاساسية للواقعي. هذا الموقف جرى تجسيده في الفيلم (Her) (2013)، الذي يصف شغف الممثل في نظام تشغيل يحاكي امرأة متيقظة ومتفانية.

المنطقة الرخوة من الروايات تفضل ايضا ظهور ما سمي "الانكار"، الذي يمكن تعريفه كانكار للروايات العلمية بسبب الجهل او لمجرد الراحة. هناك اولئك الذين ببساطة يتجاهلون المعرفة العلمية، واولئك الذين يستخدمونها لغايات سياسية. هذه العملية تؤدي الى انحرافات مثل الايمان بان الارض مسطحة او انكار الاحتباس الحراري او نظرية التطور، وأخيرا الرؤية السيئة الفهم للعلم التي ادت الى حركة مضادة للتطعيم وانكار الوباء الأخير. لكن الجدال المستخدم من قبل السياسيين المنكرين الذين يدّعون ان العلماء يتصرفون لغايات سياسية هو مدعاة للاثارة. وهنا تأسس ارتداد سريالي ، فيه نرى العلماء غير النزيهين يمارسون السياسة، والشرفاء السياسييبن يمارسون العلم – وهي العقيدة الممكنة فقط في مجتمع سيء ونمطي.

غير ان وجود روايات متعددة لا يعني بالضرورة الفوضى الفكرية. حيث المواطن لديه ادوات فكرية مناسبة، ان امتلاك نطاق من الإمكانات لفهم العالم يمكن ان يكون جيدا، كما لاحظنا بمثال تسلّق الجبل. الجماعة العلمية قادرة تماما للاشارة الى تلك الروايات التي هي صالحة او غير صالحة. ايضا بالامكان التمييز بين النظريات العلمية التي تشكل فرضيات اكثر قوة، ويمكن اثباتها او تكذيبها. التحدي الرئيسي أمامنا هو استعادة ثقة المواطن بالعلماء بدلا من السياسيين.

ان ميدان الروايات العلمية هو الواقع، مصدر دليل يقودنا لتعريف ما هو أقرب للحقيقة. هذا الدليل – مثل ملايين القطع من الدليل التي احترقت في المتحف الوطني – هي قطع اساسية لعلاقاتنا مع الكون. باختصار، قطع المتحف تجعل فرضياتنا عن العالم قابلة للتصديق. بدون هذه الوثائق من التاريخ وبيئاتنا، لايكون هناك ضمان بان أجيال المستقبل ستكون قادرة على التمييز بين الخيال والواقع، او انهم سيكون لديهم أي تقدير أكثر  للديناصورات او النمور او الدب الاسترالي منه الى التنين والجن والبيكومون.

بعد حريق المتحف الوطني، سأل أحد الأصدقاء ما اذا كانت جمجمة "لوزيا" اسم أول انسان وُجد في جنوب امريكا قد استُنسخت قبل ان يحترق المتحف. رغم ان الجواب كان نعم، بالإمكان ايجاد نسخة ثلاثية الأبعاد له، لكن المرء يشعر بعدم الإرتياح الفكري. في زمن الحداثة السائلة، والذكاء الاصطناعي وعرض الروايات، تعمل هذه المتاحف والعلم ذاته كركائز تسمح لنا للإبقاء على اتصال مع العالم الواقعي. غير ان العالم المفرط في الواقعية – العالم الذي خُلق عبر استغلال الانسان وفُرض بواسطة المجتمع الاستهلاكي – لايريدنا بالضرورة ان نمتلك هذا الخيار. الأمر متروك لنا لنفكر في أهمية الواقع ونكافح للابقاء على حقائقنا التاريخية.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم