أقلام فكرية

مدخل الى فلسـفة الأخلاق (3): حرية اختيار (1)

علي رسول الربيعيسنتناول تحت هذا العنوان:

 ـ استكشاف مقدار الحرية التي نحتاجها لفهم الأخلاق

 ـ كيف تتحدى الاختزالية الحجج الأخلاقية

 ـ كيف تعامل الفلاسفة مع قضية الحرية والحتمية.

ـ أي نوع من الحرية؟

لا أحد حر تمامًا في فعل أي شيء يرغب فيه. الحرية محدودة بطرق مختلفة:

- كثير منا لاسيما ايام الصبا نود الانطلاق في الهواء، ننشر أذرعنا ونطير، وربما كنا نحلم بذلك، قد يكون لدي بعضنا شغف بأفلام سوبرمان، ونشعر أنه لابد أن يكون ذلك ممكناً بطريقة ما. لكن جسدنا غير قادر على الطيران بدون مساعدة. للتغلب على القيد، لا بد لي من اللجوء إلى التكنولوجيا.

- قد أرغب في أن أكون فنانًا أو موسيقيًا أو هي ترغب أن تكون لاعبة جمباز شهيرة وذات موهبة عالية، لكن حريتي محدودة. قد لا يكون من المستحيل فعليًا تحقيق هذه الأشياء، لكنه يتطلب مستوى من الخبرة والتدريب والقدرة الطبيعية، مما يجعل فرصي في تحقيق ما أريد مقيدة بشدة.

هناك أمثلة على تقييد الحرية الفعلية. سواء أكان ذلك بقوانين مادية أو قدرات طبيعية أو قيود قانونية أو اجتماعية، فنحن جميعًا مقيدون بما يمكننا القيام به. إذا كنت سأقوم باختيار أخلاقي، يجب أن أكون حراً في القيام، أو عدم القيام، بالشيء المعني. لا يمكن أن يكون من الخطأ أخلاقيا عدم الطيران لأنني غير قادر على القيام بذلك. من ناحية أخرى، يمكن أن يصبح المشي عارياً في العلن قضية أخلاقية - إذا قيل إن ذلك سيؤدي إلى ارتكاب جريمة - لأنه سيكون شيئًا اخترت أن أفعله وقد كان من الممكن أن أرفضه لو أنني اعتبرته خطأ .

الحتمية

سنعرض هنا وجهة نظر الحتمية. يعتمد العلم على مراقبة الأحداث الطبيعية وأسبابها، ومن المعلومات الناتجة نكون قادرون على تطوير النظريات التي يمكن التنبؤ بها الأحداث. اذا قلت "أعتقد سيهطل المطر". لا تعني بذلك أن الطقس لديه شخصية، وأنك تخمن أنه قد قرر هطول الأمطار. بل بالأحرى أنك قلت بناءً على السحب والرياح والرطوبة في الهواء، أيً أنك كنت لاحظت أشياء مماثلة التي أدت إلى المطر في أوقات سابقة.

- يُتوقع هطول المطر طبقاً لبعض الظروف الجوية .

- قد تكون غير دقيق في التنبؤ بهذه الظروف، وبالتالي بقدوم المطر، لكن هذا لا ينتقص من الطبيعة المحددة بشكل أساسي لهذا الحدث.

- ستمطر في ظل ظروف معينة وبدونها لا، لأن: الجو يتحرك بشكل حتمي. ممكن التبوء به من الناحية النظرية، حتى لو كان صعباً عملياً.

ممكن التنبؤ بالمطر لأنه من المسلم به أن جميع الظواهر الفيزيائية مترابطة بشكل سببي، ويمكن شرح كل شيء من الطقس إلى النبضات الكهربائية من خلال القوانين الفيزيائية. هذه هي الحتمية.

يمكن القول أنه منذ صعود العلم الحديث في القرن السابع عشر إلى أوائل القرن العشرين، كان العلم ميكانيكيا. كان ينظر إلى العالم أجمع كآلة، من شأنها أن تمكًن البشرية من التنبؤ به والتحكم في عمل الأشياء الفردية. حتى عملية التطور، كما حددها داروين، كان لها أساس ميكانيكي وحتمي. لدينا مثال واضح مع نظرية الانتقاء الطبيعي على الطريقة التي يتم بها دفع التغيير إلى الأمام من خلال تطبيق قانون موضوعي؛ أن أولئك الذين يبقون على قيد الحياة إلى مرحلة البلوغ هم وحدهم القادرون على التكاثر، وهم هم الذين ينقلون خصائصهم إلى الأجيال القادمة، وليس الآخرين.

لا يزال العلم يبدو حتمياً إلى حد كبير في الأطار العام للأشياء، ولذلك ركب بعض الفلاسفة كثير من الحقائق على اساس أنه في ميكانيكا الكم، على سبيل المثال، تحدث الأشياء في المستوى دون الذري بطريقة عشوائية. نعم يمكن رؤية الاتجاهات العامة، لكن لا يمكن التنبؤ بعمل الجزيئات الفردية. لكن هذا لا يعني أنه، على المستوى الذي يعمل ويشارك فيه البشر إن العالم بأسره غير محدد - فهذا يقتصر على عالم فيزياء الجسيمات.

احتفظ العلم بوجهة نظر حتمية إلى حد كبير إجمالاً، بما في ذلك مجالات علم الاجتماع وعلم النفس التي تستكشف القضايا المهمة أخلاقياً. هناك فكرة عامة مفادها أن جميع الأحداث (بما في ذلك الفعل البشري) يمكن شرحها بناءً على الأحداث السابقة، التي تعتبر المسبب لها. ويمكن تفسير ذلك في ما يخص الفعل البشري (إلى حد ما) من حيث تأثير البيئة أو التنشئة على الفرد، إلى جانب جميع القيود المادية الأخرى التي تحد من عملنا.

قد نكون مؤهلين اجتماعيًا أو نفسيًا للتصرف بطريقة معينة، نتيجة للتربية أو البيئة. أو تعطي الجينات الوراثية استعدادًا للعنف أو الاكتئاب أو الفصام . هل هذا يعني أننا لا نتحمل أي مسؤولية عن هذه الأشياء؟ إذا كان من الممكن كشف صلة سببية مباشرة، فسيتم تعزيز حالة الحتمية في هذه المجالات من الحياة. من ناحية أخرى، كشفت الدراسات أنه بينما تكون الصفات الجسدية (مثل لون العينين) 100 في المائة بسبب الوراثة، لكنها كشفت أن العوامل السلوكية للتوائم، مثل الميول النفسية - الجسدية، يمكن أن يكون لها عامل وراثي منخفض يصل إلى نسبة 31 في المائة. يوضح هذا ما يمكن أن يوحي به المنطق السليم، وهو أن هناك عوامل أخرى بالإضافة جيناتنا التي تؤثر على سلوكنا. لكن هذا لا يدحض الادعاء بأن كل شيء محدد. إنه يدل على أنه لا يوجد عامل وحيد فقط يمكن أن يحدد النتيجة النهائية، ولكن مجموع العوامل تقوم معًا بذلك، يساهم بشيء كل منهما في المعادلة الحتمية.

قد تؤثر هذه الأشياء على حريتنا، وليس بالضرورة على حرية إرادتنا (التي سنتناولها لاحقاً). ربما نعتقد أننا أحرار في الاختيار، حتى إذا كان عالم النفس أو عالم الاجتماع أو عالم الوراثة السلوكي يدعي معرفته بشكل أفضل.

الاختزالية

 هي مشكلة فلسفية وليست مشكلة أخلاقية، لكنها مهمة لأنها تدعي أنها تجعل اللغة الأخلاقية، وفكرة الحرية الشخصية بأكملها بلا معنى.

 عندما ترفع ذراعك لالتقاط القلم مثلاً. ما يحدث في الواقع؟ لقد تعلمنا في المدرسة منذ كنا طلبة في المرحلة الثانوية وما نجده في كثير الكتب التعليمية المبسطة، أن ما يحدث هو:

- تقلص العضلات بسبب تغير كيميائي.

- يحدث هذا التغيير الكيميائي من خلال المنبهات التي تمر عبر الخلايا العصبية.

- النبضات الكهربائية الصغيرة في الأعصاب تنشأ في الدماغ.

 - يحتوي المخ على ملايين كثيرة من الدوائر الصغيرة لكل حركة للجسم والفكر الذي يمر عبر العقل، هناك الدافع الكهربائي المقابل في الدماغ.

إذا مررت شحنة كهربائية عبر عقلي، فسوف أرخ عضلاتي بشكل لا إرادي. إذا تم قطع إمدادات الدم إلى جزء من الدماغ، فإن خلايا الدماغ هذه ستموت، ونتيجة لذلك ستتوقف أجزاء من جسدي عن العمل بشكل تلقائي (كما يحدث عندما يصاب شخص ما بتخثر دماغي). قد لا أدرك أن الضرر في ذهني؛ كل ما أعرفه هو أن ساقي لن تعمل.

الآن هذا يقود المُختزل أو الذي يتبنى نظرية الاختزال إلى الادعاء بأن الأفكار التي لدينا ليست سوى نبضات كهربائية. الحرية إذن هي وهم بطريقتين: أولاً، من الممكن نظريًا التنبؤ بأي خيار؛ ثانياً، الاختيار ليس في الواقع سوى مجموعة من النبضات الكهربائية التي تتبع قوانين الفيزياء. في مقابل هذا، يمكن الرد على الاختزالية مثلا بأنها تختزل الكتاب ما هو إلا مجموعة من الحروف المطبوعة على الورق، أو أن اللوحة ليست سوى بقع من صبغات على قماش. أيا كان التحليل المادي الذي قد يقدمه المختزل، فإن تجربتي للكتاب أو اللوحة هي شيء أكثر من قواعدها المادية.

بالطبع لكي يكون للاختيار الأخلاقي (وبالتالي الأخلاق) أي معنى، يجب أن أؤيد أن الشخص أكثر من مجرد نبضات كهربائية محددة. لكن مع ذلك، لا يوجد شيء يمكنني القيام به ولا يشمل أيضًا تشغيل عقلي، فبمجرد موت عقلي لم أعد أشعر بالمعنى المادي للشعور على الأقل.

إن وجهة نظر الاختزالية تستنزف وتفرغ اللغة الأخلاقية من أي معنى صحيح. لقد كانت هناك حركة فلسفية لها تأثير كبير تدعى "الوضعية المنطقية " في الجزء الأول من القرن العشرين، تبنت وجهة نظر مفادها أن الاقوال ذات معنى فقط إذا كانت صحيحة بالتعريف، أو إذا كان يمكن إثبات أنها صحيحة بالملاحظة. "اثنين زائد اثنين يساوي أربعة" صحيح لأنه مسألة تعريف رياضي، ايً أن محمولها لا يزيد عن موضوعها فهي قضية تحليليلة. والعبارة "هناك شجرة في الحديقة" اعتبروها تعني "إذا كنت تريد أن تنظر إلى الحديقة، فسترى هناك شجرة"- لذلك فهي ذات معنى لأن هناك دليل فعلي أو مؤكد) لإثبات صحتها أو خطئها. لكن عبارة "من الخطأ أن تقتل" ليست تعريفية (تحليليلة)، وكذلك لا يمكنك أن تجد أي شيء " هناك" في العالم يقابل كلمة "خطأ". وعليه إن الأخلاق لا معنى لها، طبقاً لهذا الأختبار، لأنها لا تعتمد على المنطق ولا على الأدلة التجريبية.

لاحظ لماذا من المهم التفكير بوضوح في المطالبات الاختزالية والحتمية:

- تقول الحتمية أن جميع القرارات هي نتيجة لعوامل سابقة. إذا كانت الحتمية صحيحة، فلسنا أحرار في اختيار ما يجب القيام به. لذلك نحن لا نستحق الثناء ولا اللوم على أفعالنا. لا يتعين علينا أن نعرف كل الأسباب وراء وجهة نظر أديتميترية - يجب علينا أن نعتقد أن هناك أسبابًا كافية.. ليس علينا أن نعرف كل الأسباب لنتبنى وجهة نظر حتمية - علينا فقط أن نعتقد أن هناك أسباب كافية.

- يدعي الاختزال أن جميع العمليات العقلية هي في الواقع نبضات كهربائية في الدماغ. على هذا الأساس، فهي جزء من العالم المادي وتخضع للحتمية.

- لا يمكن أن يُقال أنه يتعين علينا القيام بشيء ما، بدون أن نتمكن من فعل ذلك. لأنه بدون قدر كافٍ من الحرية الأخلاق لا معنى لها.

الحرية والدولة

في المناقشة التي تمت حتى الآن، نظرنا بطريقة مجردة إلى حد ما في ما إذا كان الشخص حرًا في تقرير كيفية التصرف أم لا. لكن من الناحية العملية، حتى لو شعرنا بأننا أحرار، فنحن مقيدون بالفعل بالقواعد القانونية والاجتماعية للمجتمع الذي نعيش فيه.

إذا خرقنا القانون، فإننا نعاقب. إذا لم يتم ضبطنا ونحن نقوم بأنتهاك القانون، فقد لا نزال نشعر بالذنب. الحرية ليست مجرد مسألة بيولوجية، ولكنها مسألة حياة اجتماعية وسياسية. إذا شارك شخص ما في مظاهرة مؤيدة لمزيد من الحرية، فمن غير المرجح أن يكون قلقًا بشأن ما إذا كان يمكن أن يكون هناك تفسير علمي لكل نشاط عضلي أثناء سيره إلى الأمام؛ ولكن من المرجح أن مايهمك أن تقوم بحملات من أجل الحرية الاجتماعية أو السياسية واستعادة الفرد للخيارات التي تحظرها بعض السلطات.

ولكن هل يجب أن يكون لكل فرد الحرية في اختيار الطريقة التي سيعيش بها؟ في أي بلد معين، يحتاج الناس إلى اتخاذ قرار بشأن ما إذا كانوا سوف يقودون سياراتهم جميعًا على اليمين أو اليسار، وإلا ستكون هناك فوضى على الطرق. تملي الفطرة السليمة أنه يجب ألا يحق للفرد حرية القيادة على الجانب الآخر. ولكن هل يجب أن يتمتع الجميع تلقائيًا بالحق في المشاركة في العملية الديمقراطية لاختيار الحكومة؟ الإجابة على هذا السؤال ليست واضحة، لأن النتائج أقل وضوحًا.

جادل أفلاطون، على سبيل المثال، (في كتاب الجمهورية افصل التاسع) بأن معظم الناس العاديين لم يكن لديهم طبيعة عقلانية قوية،، وبالتالي يحتاجون إلى التقييد فيما فعلوه بحكمهم من قبل أولئك الذين كانوا أكثر عقلانية بشكل طبيعي. اعتقد أن الفلاسفة وحدهم سيكون لديهم القوة الكافية ليتمكنوا من التشريع من أجل مصلحة المجتمع ككل. في هذا الكتاب، يقدم أفلاطون الحجج المختلفة في شكل نقاش بين الأفراد. واحد من هؤلاء هو ثريماخوس، Thrasymachus، الذي يعتقد أن القوانين دائما ما تصب في مصلحة الطبقة الحاكمة، وتعليقات غلوكون Glaucon الذي يعتقد بالمقابل أن الجميع يودون أساسا التصرف بدوافع أنانية بحتة، على الرغم من أن جميعهم سيعانون نتيجة للفوضى التي تلت ذلك. كل من هذه الآراء حول الدوافع الإنسانية والاجتماعية تجد أصداءها تتردد على مدار تاريخ الأخلاق.

 

الدكتور علي رسول الربيعي

 

في المثقف اليوم