أقلام فكرية

عدنان عويّد: أدباء ووفنانو بعد.. ما بعد الحداثة

إذا كان مفهوم الحداثة في محتواه الأدبي والفني والفلسفي هو إشارة مرسلة إلى ذاك النوع من الأدب والفن والفكر، الذي تمثل في بعده النظري أفكار عصر التنوير التي أفرزتها التحولات الرأسماليّة المناهضة لسلطات الملك والإقطاع والكنيسة، وهي أفكار من حيث الجوهر، تدعوا إلى العقل، والضمير، والواجب والأخلاق، والمحبة، والإنسانية، والبطولة، والرجولة، والجمال، والخير، والحرية، والعدالة، والمساواة والإبداع، ومن حيث الأسلوب تدعوا إلى الربط العميق، والانسجام، والتكامل، مابين شكل الظاهرة ومضمونها، وذلك أملا في تحقيق الفكرة الفنية أو الأدبيّة أو الفلسفيّة التي تختزل بين طياتها جوهر وروح الإنسان وإبداعاته وتطلعاته وتعميق تجربته الحياتية، الباحثة والمغامرة دوما باتجاه كل ما هو مجهول في عوالم الطبيعة والإنسان معا، رغبة في إعادة صياغة وجوهرة حياة هذا الإنسان من جديدا على أنه سيد لهذا العالم وخليفة الله عليه.

أما مفهوم ما بعد الحداثة بكل توجهاته وأنساقه الأدبيّة والفنيّة والفلسفيّة أيضا، فهو مفهوم فرضته أيضا طبيعة الأحداث الجسام، ممثلة بتلك التحولات التاريخيّة القاسية التي أصابت العالم أثناء الحربين العالميتين وما بعدهما، وخاصة مع سيادة رأسمالية الدولة الاحتكاريّة والنظام العالمي الجديد، فما تركته طبيعة هذه الأحداث من قتل وضياع واستلاب وتدمير لمعظم ما بناه الإنسان من قيم إنسانيّة عبر تاريخه الطويل، انعكس بالضرورة في عالم الأدب والفن والفلسفة، بحيث فقد الإنسان الأوربي بشكل عام، والفنان والأديب والفيلسوف على وجه الخصوص، حالة توازنه وقدرته على توجيه حياته وحياة مجتمعه بالاتجاه الصحيح، الأمر الذي دفع باتجاه ضياعه عبر كل مستويات حياته الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.

إن كل ما أشرنا إليه هنا، راح في الحقيقة يعمل على تقويض معظم الانجازات العمليّة السابقة التي حققتها الحداثة في نطاق القيم الإنسانية المؤمنة بالإنسان قيمة عليا، وليفسح في المجال واسعا أمام سيادة وانتشار روح الانجاز الفردي، الذي ساعد بدوره على تحقيق عالم الانعزال الموجه من خارجه، والمشكّل لمجموعة لا عضويّة من الأفراد فاقدي الهويّة والقيمّة معا، أي مشكلا لأفراد مستلبين ومشيئين، وخير من عبر عن هذا الأنموذج تحت ظل النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي الجديد، وبكل دقة (بييرباسكالون) الذي قال عنه بأنه أنموذج تجد الفرد فيه، (... فرد نقي كيميائيا، ذرة موحدة النوعية، منمذجه بلا لون، أو نتوء، فارغة، مغلقة على ذاتها، منفصلة عن الآخرين، فاقدة لروحها وماهيتها، توجهها شعارات رخيصة، لأنها لا تفكر قط من نفسها تقريبا، فالجهاز الإذاعي، والصحافة الرخيصة والدعاية، هي التي تشكل إدراكها، والتلفاز يشكل تاريخاها.).

هذا الفرد المنمذج إذن، هو الذي أنتجه اقتصاد السوق المتوحش، هو من يمثل تيار ما بعد الحداثة بكل معطياته الأدبيّة والفنيّة والفلسفيّة، فجاءت معطياته في هذه الاتجاهات مطابقة تماما لروحه، لجوهره، لذلك علينا أن لا نستغرب، عندما نجد تيار ما بعد الحداثة يعمل داخل شبكة مفاهيميّة تقوم على النفي، والتدمير، والتجاوز لكل ما هو إنساني، أو يدعوا إلى الرقي بالإنسان، كما ويدعوا إلى التمسك بأخلاقيات الموت، كموت الفن، والنزعة الإنسانيّة... الخ، مثلما يدعوا أيضا إلى الدمار، والعبثيّة، وعدم التواصل، و العدميّة، وعودة الميتافيزيقيا، وإلى التفكيكيّة، والتشتت، وللااستمراريّة واللامعقول، والتذرير الاجتماعي والقومي. الخ.

إن تيار ما بعد الحداثة في الحقيقة هو دعوة إلى التمسك بالشكل على حساب المضمون، حيث أصبح الشكل هو الأساس في معطيات هذا التيار الما بعد حداثي، ومع ذلك نقول رغم كل ما جئنا عليه هنا من عرض أو كشف لحقيقة تيار ما بعد الحداثة، يظل هناك جوانب إبداعيّة شكلانيّة في هذا التيار الذي غالبا ما حقق الكثير من حالات الإدهاش والمتعة للإنسان، فما نشاهده في اللوحات السرياليّة، ومسرح وسينما اللامعقول أو العبث، وفي الأدب الحديث،- وبخاصة في الشعر الحديث- ما يدل على ذلك، وهذا يؤكد لنا مسألة أساسيّة هي أن معطيات ما بعد الحداثة لم تكن في معظمها موجهه ومدروسة لتحقيق ضياع الإنسان واغترابه، بل أن قسما كبيرا منها جاء تعبيرا هادئا وحقيقيا عن معاناة الإنسان الأديب أو الفنان أو المبدع بشكل عام، فضياعه في واقعه الذي فرضته عليه الظروف التي أشرنا إليها أعلاه هو الذي أفرز هذه التجليات الفنيّة والأدبيّة والفلسفيّة التي تجسدت في تيار ما بعد الحداثة.

أما بالنسبة لتيارنا الجديد، تيار (بعد ما بعد الحداثة)، فهو على ما يبدو تيار لم تكوّنه ظروف موضوعيّة تتعلق بحروب أو تحولات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة ذات طابع تاريخ، كتلك التي أدت مثلا إلى وجود تياري الحداثة وما بعدها، وإنما هناك عوامل ذاتية لها الدور الكبير في الوقوف وراء ظهور وانتشار هذا التيار في الساحة الأدبيّة والفنيّة والثقافيّة بشكل عام، وهي حالات لم تزل محدودة. لذلك، ما يلفت النظر فعلا في ممثلي هذا التيار، هو ما يبديه هؤلاء من سلوكيات شخصيّة ذات طبيعة انتهازيّة وعدوانيّة تجاه المحيط الذي ينشطون فيه، وبخاصة تجاه الآخرين ممن يشاطرونهم النشاط الأدبيّ أو الفنيّ ذاته، وإن اختلفوا معهم في نمط الشخصيّة التي سأقوم بتوصيفها هنا.

إن أبرز ما يمثله نمط هذه الشخصيات الأدبيّة أو الفنيّة الممثلة لتيار(بعد ما بعد الحداثة)، هو عدم القدرة على الاستقرار والانسجام مع المحيط الاجتماعيّ الذي يعيش فيه هذا الأديب أو الفنان، وهذا يعني أن هناك حالة ضياع وعدم استقرار نفسي وأخلاقي سيؤدي بالضرورة إلى خلق الكثير من حالات الصدام والصراع مع الآخرين دون مبرر قانونيّ أو أخلاقيّ، بحيث يصل هذا الأديب إلى مرحلة يشعر فيها وكأن كل من يحيط به هو عدو له، وهذا مؤشر على أن ما يعيشه هذا لأديب، أو ما يعانيه يدخل في نطاق المرض النفسي.

على العموم، إن ما يتعرض له هذا الأنموذج من مرض نفسي وعدم استقرار اجتماعيّ، غالبا ما يتمظهر في مواقفه الأدبيّة أيضا، حيث نجد أن الكثير من أعماله هي انعكاس لما يعيشه داخليّا من ضياع وقهر واستلاب، لذلك هو يحاول أن يغطي على كل هذه الدواخل عن طريق كتاباته التي غالبا ما تأتي فاقدة للشكل والمضمون معا، حيث يتخذ من قلمه وسيلة للارتزاق، فتراه يكتب عن كل المناسبات السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية.

إن شخصية أديب (بعد ما بعد الحداثة) تمتاز بسمات وخصائص أخرى إضافة إلى ما ذكرناه أعلاه، فهي شخصية ينطبق عليها أيضا توصيف " بيير باسكولون "  على أنها (ذرة موحدة النوعية، منمذجة بلالون، أو نتوء، فارغة، ومنغلقة على ذاتها، منفصلة عن الآخرين، وفاقدة لروحها وماهيتها)، انتهازية، ونرجسية، وذات طبيعة عدوانية، متناقضة مع ذاتها ومع الآخرين.

على العموم، إذا كان الأديب الحداثيّ يتمسك في أعماله بالشكل والمضمون معا. وأديب ما بعد الحاثة يتمسك بالشكل على حساب المضمون عموما، إن أديب بعد ما بعد الحداثة لا يهمه لا الشكل ولا المضمون، بقدر ما يهمه كيف يستطيع أن يربح من قلمه على حساب أي شيء حتى ولو كان كرامته.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

في المثقف اليوم