أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: نقاشات حول الصحيح والخطأ في المعايير الأخلاقية

"الانسان هو مقياس كل شيء" -  بروتاغوراس

واحدة من بين أكثر المعتقدات شيوعا بين الناس حول الأخلاق هي الفكرة بأن مختلف الأوقات والثقافات لها معايير أخلاقية مختلفة جذريا. هذا الافتراض يعطي دفعا قويا للنسبية الأخلاقية. النسبيون الاخلاقيون يعتقدون ان الثقافات والافراد والاوقات كلها تختلف في قيمها الأخلاقية الاساسية، وان النسبية هي أفضل توضيح لتلك الاختلافات. النسبيون الأخلاقيون ايضا يؤمنون بان كل الرؤى الأخلاقية هي متساوية في الصلاحية لأن كل ثقافة او فرد يخترع أخلاقه الخاصة به.

الافتراض بان مختلف الأزمان لها معايير أخلاقية مختلفة يمكن رؤيته ايضا في موقف يسمى الحاضرية الاخلاقية moral presentism(1)، والذي يؤكد اننا يجب ان لا نحكم على الماضي باستعمال معاييرنا الاخلاقية الحالية. فمثلا، الكوميدي الامريكي بل ماهر Bill Maher ذكر مؤخرا ان كولومبس ارتكب الفظائع، "لكن الناس في ذلك الوقت كانوا أغلبهم فظيعين". هو جادل بان حكمنا على كولمبس او واشنطن هو مثل "لوم نفسك لأنك لاتعرف ما تعرفه الآن عندما كنت في سن العاشرة". رؤيته هي انه من غير الإنصاف الحكم على الماضي من منظور حالي أكثر نضجا. وبينما هناك اختلاف بين النسبية والحاضرية، لكنهما كلاهما يطرحان هذا الافتراض الشائع والعرضة للتساؤل بان مختلف الثقافات لها مختلف المعايير الأخلاقية. هذا المقال يرفض هذا الافتراض عبر الجدال بان القيم الاخلاقية الاساسية لا تتغير مع الزمن والثقافة، ونحن الناس الحديثون لم نعد اكثر أخلاقا من أسلافنا. الطريقة الصحيحة للنظر الى التاريخ هي ليست برفض أخطاء الماضي من خلال القول انها امتلكت معايير مختلفة، ولا الحكم عليها باستعمال معايير أخلاقية جديدة. لدعم هذه الرؤية، سوف نطرح ثلاث مغالطات يستعملها النسبيون والحاضريون عند الجدال بان مختلف الثقافات لها مختلف المعايير الاخلاقية.

1- النسبيون والحاضريون يضخمون الاختلافات الاخلاقية ويقللون من قيمة التشابهات الاساسية بين مختلف الازمان والثقافات.

المشكلة الاولى بالادّعاء ان الاخلاق تتغير مع الزمن والثقافة هي انها ليست كذلك، طالما ان اسس الاخلاق لا تتغير. الناس الاخلاقيون في كل الازمان يسعون لتقليل المعاناة غير الضرورية، وخلق نظام، واشاعة الانصاف، والتعامل مع الناس باحترام. يسوع وبوذا،مثلا، يستحقون التقدير ليس لأنهما حديثون وانما لأنهما عاشا بانسجام مع معايير أخلاقية لازمنية.

الادّعاء الرئيسي الذي يمكن الدفاع عنه هنا هو انه من الخطأ الاعتقاد بان هناك اختلافات اخلاقية اساسية بين مختلف الاوقات والثقافات. في (أخلاق للمبتدئين،2022)، يتفق بيتر كريفت Peter Kreeft ويجادل بان المحتوى الضروري للاخلاق عبر الثقافات والازمان لم يتغير كثيرا.

"لا أحد نجح في خلق نظام للقيم كانت فيه العشوائية، الانغماس بالذات، الانانية، القسوة، عدم الانصاف، القوة، الكذب المتعمد، الغطرسة والسخرية والتعالي هي الفضائل، بينما الحكمة والتحكم بالذات، والتضحية والشفقة والعدالة والتعقل والصدق والتواضع كانت شرورا. من المستحيل سايكولوجيا ممارسة الالتزامات الاخلاقية لتجسيد مجموعة الشرور في القائمة الاولى او الشعور بالذنب عند العيش في مجموعة الفضائل في القائمة الثانية"(ص21). حتى نيتشة و اين راند لم ينجحا في تحويل القسوة والكذب الى فضائل او تحويل العقل والتحكم بالذات الى شرور. الشيء الاكثر أهمية هو اننا لا نستطيع الهروب من حقيقة ان تلك هي فضائل اساسية وشرور واسعة الانتشار، وان اولئك الذين يضخمون الاختلافات الثقافية بين الثقافات او الافراد يفشلون في الاقرار بذلك.

وهناك دليل آخر يدعم الادّعاء بان الاسس الاخلاقية لاتتغير مع الزمن. انه من المعروف جيدا ليس كل شخص في القرن الثامن عشر والتاسع عشر اعتقد ان العبودية شيء جيد، ولكن في الحقيقة هناك كان دائما مصلحون اخلاقيون يرفضون العبودية في وقتهم. ليس صحيحا القول ان كل شخص قبل القرن التاسع عشر اعتقد ان العبودية جيدة، بل انه ايضا من عدم الاحترام لدعاة إلغاء العبودية الذين جادلوا ضد العبودية في زمانهم. بعض الناس احتجوا دائما على العبودية واستمروا على ذلك اليوم(هناك الكثير من العبيد في العالم حاليا مقارنة بالماضي).

باختصار، معايير الاخلاق الاساسية لم تتغير. واذا كان صحيحا ان العبودية كانت عقيدة للغالبية في التاريخ، فان الالتزامات الاخلاقية الاساسية لتقليل المعاناة والتعامل مع الناس باحترام هي ليست جديدة. لكن فقط عدد قليل من الأبطال في كل فترة زمنية يتّبعون هذا القانون الاخلاقي الذي كُتب في قلب كل كائن بشري.

2- النسبيون والحاضريون يفشلون في التمييز بين القيم الاخلاقية الرئيسية والثانوية.

الخطأ الثاني الذي يرتكبه النسبيون والحاضريون عند الجدال بان مختلف الازمان والثقافات لها مختلف المعايير الاخلاقية، هو انهم يفشلون في التمييز بين القيم الرئيسية والثانوية. وبينما هم على صواب بان بعض القيم الاخلاقية تتغير، لكنهم يفشلون في ملاحظة ان القيم الثانوية فقط هي التي تتغير وليس الرئيسية. القيم الاخلاقية الرئيسية هي القيم الاساسية (والعالمية) التي توجد قبل ان ننطلق للتفكير منها، بينما القيم الثانوية هي نتاج القيم الرئيسية بالاضافة للتفكير . فمثلا، الناس الاخلاقيون يتفقون على قيمة الاخلاق الرئيسية في تقليل المعاناة الغير ضرورية، واذا ادركوا لاحقا ان لقاح بوليو polio يقلل من المعاناة، عندئذ هم يجادلون انه من واجب الاخلاق الثانوية الحصول على لقاح. يجب ملاحظة انهم لم يخترعوا الالتزامات الاخلاقية الثانوية بل هم اكتشفوها: هم اكتشفوا ان لقاح بولو يقلل من المعاناة غير الضرورية، وهكذا لديهم الان طريقة جديدة لإنجاز القيم الاخلاقية الرئيسية (اللازمنية) في تقليل المعاناة. القيم الاخلاقية الرئيسية لا تتغير مع الزمن او عبر الثقافات بينما القيم الاخلاقية الثانوية تتغير.

انظر ايضا في تضحية الانسان. العديد من الناس المنخرطين في التضحية الانسانية لديهم معتقدات مختلفة، وليست قيم اخلاقية رئيسية مختلفة. هل انت تعارض التضحية الانسانية لو انت اعتقدت في إله أمر بالتضحية،وان هناك العديد من المنافع الناتجة عن التضحية مثل المطر للغلات الضرورية لحياة بقية الناس؟ مرة اخرى، عدم اتفاقك مع اولئك الذين مارسوا التضحية الانسانية هو على الاغلب عدم اتفاق حول الحقائق الواقعية والقيم الاخلاقية الثانوية المرتبطة بها، وليس عدم اتفاق حول القيم الاخلاقية الرئيسية.

في (عناصر الفلسفة الاخلاقية،1986)، يستعمل جيمس راشيلز مثال الاسكيمو الذين احيانا يقتلون الاطفال الرضع.  يبدو كما لو ان الاسكيمو كانت لديهم اخلاق مختلفة، قبل ان نفهم بانهم في بيئة قاسية  ليس لديهم الموارد الكافية لإطعام كل شخص. المرأة في الاسكيمو تسمح بموت طفلها لأن البديل وهو – موت الاطفال الكبار – كان أسوأ. مرة اخرى، اختلافنا الاخلاقي الظاهر مع الاسكيمو هو ليس اختلاف في القيم الرئيسية، لأننا كلانا نشعر بالالتزام في رعاية الاطفال. الاختلاف يبرز بسبب مختلف البيئات والادّعاءات الواقعية الناتجة اثناء العمل. في هذه البيئة القاسية، انت يُحتمل ان تختار التضحية بطفل لتنقذ طفلين آخرين أكبر سنا.

ولو أخذنا مثالا حديثا، عندما لا يتفق شخصان حول التزام اخلاقي للحصول على لقاح، هما عادة يتفقان بانه من الجيد تقليل المعاناة غير الضرورية، لكنهما يختلفان حول الادّعاءات العلمية. فمثلا، جون يريد الأحسن لابنه، لكنه لايؤمن بالالتزام الاخلاقي في ان يحصل ابنه على لقاح لأنه يعتقد ان اللقاح سيؤذي ابنه. في هذه الحالة، مرة اخرى، الاختلاف الاخلاقي الظاهر بين المؤيدين والمعارضين للتطعيم هو حول الادّعاءات الواقعية، وليس حول ادّعاءات القيمة الرئيسية.

باختصار، معظم الاختلافات الاخلاقية بين الأزمان والثقافات هي ليست حول القيم الاخلاقية الرئيسية وانما هي حول الادعاءات الواقعية والقيم الثانوية. الحقيقة هي اننا نشترك بقيم اخلاقية اساسية مع أسلافنا. وهذا لايجب ان يكون مدهشا طالما نحن نفس المخلوقات على نفس الكوكب. ولايجب ان يكون مدهشا لو وجدنا انفسنا نشترك بجذور اخلاقية مشابهة مع انواع حيوانية اخرى.

3- النسبيون والحاضريون يعتقدون خطئا ان مختلف الازمان لها معايير اخلاقية مختلفة جذريا  لأنهم يعتقدون خطئا ان الحاضر اكثر تقدما اخلاقيا من الماضي. معظم الناس الحديثين يعتقدون ان العالم الحديث هو افضل اخلاقيا من الماضي لأن عدة دول ألغت رسميا العبودية وعمالة الاطفال والشرور الاخرى. لكن دعونا نعالج مشكلتين بالادّعاء ان الحاضر افضل اخلاقيا من الماضي.

اولا، في (الارثودكسية،1908)، يجادل شيسترون G.K.chesterton ان اولئك الذين يعتقدون بان الحاضر اكثر تقدما عادة يقولون ان الناس يجب ان "يفهموا ويتكيفوا مع الأزمان"، لكن هذا ليس اكثر فائدة من القول "انسجم مع الساعة الثالثة مساء الخميس بدلا من الساعة الواحدة مساء الجمعة". الزمن هو فقط رقم، ولا فائدة من الطلب للناس ان "ينسجموا مع الزمن". هل يجب ان تنسجم مع الالغائيين او مالكي العبيد في زمانهم؟ او في الزمن الحديث، هل تنسجم مع الاخلاقية النباتية او مع اخلاق آكلي اللحوم؟  كيف يمكن للمرء "الانسجام مع الزمن"، عندما يحتوي الزمن دائما على رؤى متناقضة؟

لذا بدلا من الدعوة لـ "الانسجام مع الزمن" التي تعني احيانا "الانسجام مع الأغلبية"، يجب على المرء ان يدعو الناس للانسجام مع الضمير، الذي يحاول تقليل المعاناة غير الضرورية والتعامل مع الناس باحترام . وعموما، يجب على المرء التحلي بتفكير جيد ومظاهر أعمق للاخلاق لا تعتمد على ثقافة المرء او أغلبية الرأي او الزمن الذي يعيش به الفرد. علينا الانسجام مع الاخلاق بدلا من الازمان.

ثانيا، يمكننا هنا الجدال  باننا عموما أقل أخلاقا من أسلافنا (حتى اولئك المالكين للعبيد). التكنلوجيا مثل وسائل التواصل الاجتماعي وأسلحة الدمار الشامل جعلت من السهل الشيطنة والتجرد من الانسانية وقتل الآخرين. الاقتصاد المعولم يساعدنا للانتفاع من عبودية العمل بحكم الواقع بدون الحاجة لرؤية وجوه العبيد. بدلا من ذلك، هناك عدة قوى حديثة تجعل من السهل لنا خلق معاناة غير ضرورية وشيطنة الاخرين وعموما نكون غير اخلاقيين قياسا بالعديد من الناس السيئين في العصور الماضية.

باختصار، انه انحياز ضيق القول ان الناس الحديثين هم اكثر أخلاقا من أسلافهم. اذا انت تتبع ضميرك في أي وقت، فانت سوف تتصارع مع زمنك حول بعض القضايا، و سوف يكون لديك الكثير من المشتركات مع المصلحين الأخلاقيين في الماضي (او في المستقبل) قياسا بما لديك مع أي اناس آخرين في زمانك. الناس الاخلاقيون في كل الازمنة يمارسون القانون الاخلاقي، ويواجهون الفشل لإنجاز ما متوقع. وهنا تبرز نقطتان:

1- لا احد يدّعي هنا اننا نتصرف بشكل مختلف عن الناس في الماضي الذين امتلكوا عبيدا او ساهموا بالتطهير العرقي لو كنا في نفس ثقافتهم. بالعكس، كلا التجربتين السايكولوجيتين (على سبيل المثال،تجربة ملغرام)(2) والدليل من التاريخ يشيران الى ان اكثر من 90% منا يذهب بانسجام مع ضغوط السلطات والزملاء(أي مع المعتقدات الاجتماعية) حتى لو استلزم ذلك التصرف ضد الضمير. لكن هناك ضمير انساني، وجذوره أقدم منا ومن أي ثقافة. انت ليس لديك ضمير افضل فقط لأنك تعيش في زمن حديث .

2- البعض سيجادل انه طالما هناك افراد وثقافات لايشتركون بأي قيم اخلاقية رئيسية، فان القول بان بعض القيم هي عالمية يجب ان تكون خاطئة. فمثلا، هناك من هم غير اجتماعيين تكون قيمهم الرئيسية هي ان يتسببوا بمعاناة غير ضرورية بدلا من تقليلها.

المشكلة في هذه المعارضة هي انها ترتكز على سوء فهم للاطروحة. الزعم هنا هو ان هناك قيم اخلاقية عالمية – قيم اخلاقية صادقة لكل الازمنة والأمكنة في تاريخ الانسان – لا يعترف بها او يتبعها كل شخص. مقارنة رياضية يمكن ان تساعد لرؤية الالتباس. الفرد الذي يعتقد ان 2+2=5 لايمتلك رياضيات مختلفة، ولا يثبت ان الرياضيات ليست عالمية، بدلا من ذلك هو عاجز رياضيا. وبطريقة مشابهة، الفرد الذي يشعر بعدم وجود التزامات لتقليل المعاناة غير الضرورية لايمتلك اخلاقا مختلفة وانما هو خارج ميدان الاخلاق. هذا الفرد لايرفض اطروحة الاخلاق الاساسية العالمية وانما هو عاجز اخلاقيا.

استنتاج

 مختلف الثقافات والأزمان لاتمتلك قيما اخلاقية مختلفة راديكاليا، ومن الخطأ الإعتقاد اننا متقدمون اخلاقيا لأننا حديثون. ومع اننا حقا نمتلك معرفة واقعية حول كيفية تقليل المعاناة (مثل نظرية الجراثيم او لقاح بولو)، لكن الالتزام الاخلاقي لتقليل المعاناة غير الضرورية هو قيم رئيسية لا زمنية نشترك بها مع أسلافنا والى حد ما مع الاجناس القريبة من الانسان.

من الصعب ان نكون أرقى اخلاقيا في أي وقت لأنه في كل الأزمان الناس يميلون لوصف الآخرين بالشر والتسبب في معاناة غير ضرورية عندما تكون لمصلحتهم. هذا يفسر لماذا الابطال الاخلاقيون في مختلف الأزمان لديهم الكثير من المشتركات مع بعضهم البعض قياسا بما مع الاكثرية في زمانهم. عندما يفهم شخص ما هذه المسائل سيكون من غير المحتمل ان يرفض الاخلاق ذاتها كنتاج لزمانه وثقافته.

***

حاتم حميد محسن

....................................

Right and wrong about Right and wrong: philosophy Now, June/July2023

الهوامش

(1) الحاضريون presentists في الأصل يعتقدون ان الحاضر وحده هو الواقعي وهو دائما صحيح بالضرورة. هم ينظرون الى الماضي بمنظور عقائد ومواقف الايام الحالية، اي، يستخدمون افكار الزمن الحالي في وصف و تفسير الماضي. بعض المؤرخين الحديثين اعتبروا هذا الاتجاه مغالطة، وهم سعوا في عملهم لتجنب الحاضرية لأنهم يعتبرونها شكلا من الانحياز الثقافي وانها تخلق فهما مشوها للموضوع قيد الدراسة.

(2) تجربة ملغرام هي دراسة سايكولوجية شهيرة قام بها Stanley Milgram من جامعة يال لاستكشاف رغبة الافراد في تنفيذ اوامر السلطات عندما تتعارض تلك الاوامر مع الأحكام الاخلاقية الخاصة بالافراد.

في المثقف اليوم