بأقلامهم (حول منجزه)

قراءة في كتاب مضمرات العقل الفقهي لماجد الغرباوي

لا شك أن المفكر العراقي الأستاذ ماجد الغرباوي، شكل ظاهرة مثيرة للجدل على مر السنوات الماضية، فلطالما فاجأ الجمهور (عامته وخاصته) بتأويلاته للعقل الفقهي الإسلامي تختلف بشكل كبير، وربما تناقض تلك السائدة، والمتعارف عليها، (كتأويله الحاجة إلى الفقيه، تداعيات تفاقم الفتوى، قداسة الفقيه، فهم النص الديني، نقد العقل الفقهي، مقدمات الاجتهاد، الفقيه ومضمرات الوعي، المسكوت عنه، الإمامة الدينية، التعارض بين العقل والنقل، العقل وملاكات الأحكام، شمول الشريعة، الفقيه واحتكار التفسير، وغير ذلك)، ورغم ما عُرف عن ماجد الغرباوي (مع حفظ الألقاب) من مواقف رآها البعض ثورية كموقفه من حرية المرأة، والحجاب، إلا أنه غالبا ما يُصنف كمفكر مجدد من خارج المؤسسة الفقهية (أي حداثياً من خارجها)، وكذلك هناك من يراه أيضاً (مثل كاتب هذا المقال) بأنه مجدد في الفكر الديني، يسعي من خلال مشروعه التجديدي إلي ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك من خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، وفي إطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب.

والسؤال الآن الذي أود أن أطرحه: تُرى كيف تنبأ ماجد الغرباوي لتأويلات لم تخطر على بال أحد غيره تقريبا للعقل الفقهي ؟.. هل نحن أمام مفكر حداثي؟ .. أم مجدد؟ .. وكيف يمكن فهم موقفه من تأويل مضمرات العقل الفقهي في تراثنا العربي- الإسلامي في ظل مواقفه المتقدمة في كثير من القضايا الفقهية؟ .. وكيف يمكن قراءة كتابه الأخير "مضمرات العقل الفقهي"، من خلال توجهات الغرباوي نفسه التي نقرأها له صباحاً ومساءً من خلال صحيفة المثقف الزاهرة؟

وسأرجئ الإجابة على تلك الأسئلة لنهاية المقال، وأكتفي هنا في هذا المقال بالإجابة على السؤال الأخير؛ فأقول : لقد كتب كثير من المفكرين العرب عن أزمة العقل العربي، معتبرين أنه عقل قديم، وغير متفاعل مع العصر، ولا ينتج المعرفة، رغم استهلاكه وتعاطيه لمنتجاتها وإنجازاتها، وقد ظل العقل العربي منذ أفول الحضارة العربية الإسلامية، خاضعاً لسلطة التراث، وربما الأصح أن نقول لسلطة تراث بدون ألف ولام التعريف، فتراثنا الفكري والديني فيه المستنير، كما فيه الظلامي، المارد المتحرك وكذلك الجامد الثابت .. أخذنا من التراث كل ما يصلح لتثبيت وتمكين حالة التخلف، واستبعدنا كل ما من شأنه التأسيس لحالة نهضة .. ما الذي جعل العقل العربي سجين الماضي؟ .. غير تواق للحرية والانعتاق؟ .. بل قانم بقيوده؟ .. ومدافع شرس عن تلك القيود؟ .. ما الذي يمنع العقل العربي من التفكير والتفكر ويكتفي بالنقل والحفظ؟ .. هل الأموات يحكمون الأحياء في مجتمعاتنا؟.. لماذا ما زلنا ننتمي عقليا وفكريا ونحكم من المقابر؟.. ما السبيل لعقل عربي مفكر؟.

هذه الأسئلة وغيرها نناقشها من خلال هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو كتاب "مضمرات العقل الفقهي" لماجد الغرباوي، حيث يعد هذا الكتاب امتداداً للحركة العلمية المعاصرة التي يشهدها علم مقاصد الشريعة، والمقاصد هي مجموعة من الغايات الإلهية والمفاهيم الخلقية التي يقوم عليها التشريع الإسلامي، مثل مبادئ العدل، وكرامة الإنسان، والإرادة الحرة والمروءة، والعفاف، والتيسير على الناس، والتعاون الاجتماعي . فمثل هذه المفاهيم والغايات تشكل جسراً بين التشريع الإسلامي والمفاهيم السائدة اليوم عن حقوق الإنسان، والتنمية، والعدالة الاجتماعية.

وقد كانت مقاصد الشريعة تمثل الحركة التي قادها ورفع لواءها من قبل عدد من رواد الإصلاح والنهضة في عصرنا الحاضر، مثل الإمام محمد عبده،، ثم محمد الطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي، وغيرهم من قادة الإصلاح في مشرق العالم الإسلامي ومغربه؛ إذ كانت العناية بمقاصد الشريعة من أبرز مقومات ومرتكزات دعوتهم الإصلاحية . وقد كان الأثر الأكبر في تتابع الكثير من الدراسات والأبحاث العلمية المعاصرة في علم مقاصد الشريعة، وهي التي آذنت بدخول هذا العلم حقبة جديدة، يمكن أن نطلق عليها حقبة "الإحياء والتميز" .

أما الإحياء؛ فلأنه قد مضى على علم المقاصد حين من الدهر توقفت فيه حركة العطاء والبحث؛ فبعد كتاب أبي إسحاق الشاطبي الموافقات، مرت على علم المقاصد حقبة طويلة من الزمان ساد فيها الركود والتراجع، وتعطلت عملية الاجتهاد والبحث، وقد امتدت هذه الحقبة ما يقارب ستة قرون!.. وأما التميز؛ فلأن مقاصد الشريعة قد أصبحت اليوم علماً قائماً بذاته، له مقو ماته وخصائصه الذاتية التي يستقل بها عن بقية علوم الشريعة الأخرى، كأصول الفقه، والفقه، والتفسير، والعقيدة، بعد أن كان هذا العلم منثورا في مضامين، ومفردات غيره من علوم الشريعة الأخرى.

ولعل غياب الفكر المقاصدي عن مجالات: التعليم، والتصنيف، والبحث، والتوعية، والدعوة، والاجتهاد، كان من أبرز أسباب تردي أحوال الأمة وتراجعها، ووصولها إلى ما صارت إليه اليوم، من عجز عن أن تنهض بمسؤوليتها الحضارية التي أناطها الله بها في الشهود على الناس وقيادة الأمم نحو الخير والعدل والحرية . واليوم تتابع الدراسات العلمية المقاصدية مبشرة بنهضة مقاصدية معاصرة، تشكل بمجموعها ركيزة أساسية من ركائز مشروع نهضة الأمة، واستئناف دورها، وإصلاح أحوالها، عن طريق إبراز القيم العليا التي يجدر بجميع المخلصين من أبناء الأمة العمل على تفعيلها، والجهاد في سبيل تحقيقها وإقامتها.

وتأتي هذه الدراسة التي قدمها الأستاذ ماجد الغرباوي عن " مضمرات العقل الفقهي"، حلقة في سلسلة هذه الحركة المباركة، ومواصلة للجهود الفكرية الأصيلة التي يقدمها المخلصون من أبناء الأمة؛ لإظهار ريادة الإسلام في تحقيق مصالح الإنسان، وسبقه في إرساء القيم الإنسانية التي تمثل أعظم مقاصد الشارع وأهم أهداف التشريع، حيث جاء الكتاب مكملا للكتاب السابق (الفقيه والعقل التراثي)؛ حيث يحفر داخل البنية المعرفية للفقيه وما تشتمل على مضمرات عقدية تساق كمسلمات ينحاز لها الفقيه لا شعوريا في فتواه ومواقفه.

90 majedalgharbawi 600

يقع الكتاب في 236 صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير ا. د. مصدق الحبيب الجميلة غلاف الكتاب.

وقد جاء الكتاب كما يقول الغرباوي في سياق الكتاب السابق: الفقيه والعقل التراثي، لمواصلة نقد بنية العقل الفقهي ودور النسق العقدي والاتجاه الأيديولوجي للفقيه في انحياز الفتوى، والموقف السياسي، وتكريس قيم العبودية والانقياد. فثمة مضمرات خطيرة تتوارى في ظل مفهوم الاجتهاد الذي يعني منهجا علميا في استنباط الأحكام الشرعية، غير أن الكلام حول يقينياته التي يستند لها في استنباط الأحكام، فثمة نهائيات هي ليست كذلك، وهناك بداهات لا يصدق عليها عنوانها.

لذا تناول الكتاب مجموعة قضايا أخرى قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: الحاجة إلى الفقيه، تداعيات تفاقم الفتوى، قداسة الفقيه، فهم النص الديني، نقد العقل الفقهي، مقدمات الاجتهاد، الفقيه ومضمرات الوعي، المسكوت عنه، الإمامة الدينية، التعارض بين العقل والنقل، العقل وملاكات الأحكام، شمول الشريعة، الفقيه واحتكار التفسير، وغير ذلك.

من هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية - سياسية.

ويستهل المؤلف الكتاب بالحديث عن الفقيه والفتوي، حيث رأى أنه بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى عصر التشريع واكتمل الدين، ثم غدا كتاب الله وسيرة نبيه مرجعية لمعرفة الأحكام الشرعية، تخللتها بشكل تدريجي بعض الآراء الاجتهادية، ثم يؤكد المؤلف بعد ذلك إلى أنه مع تجدد الحاجة للفتوي بناء على مرونة الشريعة وقدرتها على تلبية الحاجات الفعلية للفرد والمجتمع، بدأت مرحلة الاجتهاد، واستنباط الأحكام الشرعية؛ ففتاوى الفقهاء وجهات نظر اجتهادية، ليست ملزمة باستثناء من ألزم نفسه بها (المقلد)، وبالتالي الفقيه في نظر المؤلف لن يكون له دور واحد، ألا وهو تبليغ رسالات السماء، وبيان الأحكام للناس، وتعليمهم من الحكمة ما لا يعلمون؛ وأما في مجال التشريع في نظر المؤلف، فالواقع متجدد، ومتغير، وملاكات الأحكام واضحة بينة ومقاصد الشريعة يمكن إدراكها .

ومن هذا المنطلق وجدنا المؤلف يتوجه لاستخدام منهج الحفر الأركيولوجي عند ميشيل فوكو داخل الينية المعرفية للفقيه وما تشتمل على مضمرات عقدية تساق كمسلمات ينحاز لها الفقيه لا شعوريا في فتواه ومواقفه؛ فوجدنا المؤلف يحفر في هذا الكتاب لمناقشة قضايا كثيرة مثل : تداعيات تفاقم الفتوي (12-14)، وقداسة الفقيه (15-18)، وفهم النص الديني (19-20)، ونقد العقل الفقهي (21- 22)، ومقدمات الاجتهاد ( 23-25)، والفقيه ومضمرات الوعي (26-33)، وإفرازات البعثة (34-35)، وحديث الغدير وملابسات الصدور ( 36- 39)، وحديث الغدير (40-58)، وآية التبليغ ( 59- 68)، ومعنى المولى ( 69- 74)، ودلالات الإمامة ( 75- 94)، والدولة بين ضرورتين ( 95- 123)، والصحابة والبيعة ( 140- 157)، والمنطق القبلي للحاكم (158-167)، والإمامة ولاية الفقيه (168-179)، والعترة والرسالة ( 180-193)، ومرجعية الإمام (194-197)، والتعارض بين العقل والنقل (198-200)، والعقل وملاكات الأحكام (201-204)، وشمول الشريعة (205-209)، والخلافة والاستخلاف (210-214)، والفقيه واحتكار التفسير ( 215-219)، والمنجز البشري (220-223)، والرق ومبررات التشريع ( 224-230)، وخطابات التبرير (231-232).

ومن خلال تلك القضايا المتشبعة التي ناقشها الأستاذ الغرباوي، يمكن أن نستنبط بعض النتائج التالية :

1- إن الدين نفسه في نظر الغرباوي لا يتجمّد، لكن الذى يتجمد هو عقول فسرت النصوص القرآنية والنبوية الواضحة والمباشرة، بأيديولوجيات عقيمة تجمدت معها المنظومة العقائدية والتشريعية فى كهنوت بشرى يتخفى فى ثوب إلهى.

2-لقد كان التأويل – والتأويل النقدي تحديداً – هو منهج الأستاذ الغرباوي في هذا الكتاب، ولكنه لم يكن تأويلا خالصاً، ولكنه كان تأويلاً خاصاً اصطنعه الغرباوي لنفسه وسار به – فيما بعد- في معظم كتاباته، إنه التأويل المفتوح على المناهج الأخري، الذي يستطيع أن يستخدم أي منهج في أي موضع من أجل خدمة أغراض الغرباوي البحثية؛ وبهذا المعنى يمكننا أن نقول أن التأويل عند الغرباوي هو منهجه الأوحد، إذا فهمناه على أنه القدرة على التلاعب الحر بالمناهج.

3- لقد كشف لنا الغرباوي على أننا لا نستطيع أن نبنى بناء جديداً على بناء قديم، وبالتالي فلا بد قبل الشروع فى تكوين وبناء خطاب دينى جديد، أن نقوم أولاً بعملية تفكيك علمى للخطاب الدينى القديم الذى أوصل أمتنا إلى ما وصلت إليه من خلل فى التصورات والرؤى الحاكمة، ليس للوجود والعالم فقط، وإنما للواقع المعيش وحركة التاريخ ومنطق التقدم.

4- إن التفكيك الذى يحتاجه الخطاب الدينى في نظر الغرباوي كما ظهر لنا في هذا الكتاب، ليس تفكيكاً يتنكّر لكل «مركز» مثل التفكيك الجذرى فى مرحلة «ما بعد الحداثة»، وإنما هو تفكيك يريد العودة للمراكز الأولى للعلم والفكر والدين، وبهذه العودة سوف يتم الالتقاء مباشرة مع الدين الأول الخالص فى نقائه وخصوبته الأولى.

5- إن الغرباوي في هذا الكتاب لم يدخر وسعاً في الإسراف في القول بأن الفقيه إذا أراد أن يساير مستجدات واقعنا المعاصر، فعليه التخلص من كل التأويلات المغرضة والجهولة بطبيعة النص، والتى حوّلت القرآن عن معناه الأصلى إلى أداة سياسية أحياناً وإلى غطاء للأساطير أحياناً أخرى، وهذه التأويلات -سواء كانت مغرضة أو جهولة- فى «بعض» كتب التفسير الذائعة تجدها مستندة إلى إسرائيليات ومرويات موضوعة أو ضعيفة.

6- إن مضمرات العقل الفقهي عند الغرباوي كشف لنا بما لا يدع مجالا للشك أن أغلب الفقهاء في تعاملهم مع النص يعطون له معانى لا تعكس مقاصده، ولا تبالى بسياق آياته، ولا تفسر الكتاب بالكتاب، ولا تراعى قواعد اللغة والأساليب العلمية لفهمها واستنباط الأحكام منها. إنهم يختزلون النص فى مجموعة من آياته معزولة عن مجموع النص، ويأخذون حرفياً بالحدود والغنائم، عازلين السياق التاريخى والثقافى، ضاربين بالمقاصد العامة للنص عرض الحائط.

7- لقد كشف لنا كتاب مضمرات العقل الفقهي عند الغرباوي أنه ينطلق من مشكاة واحدة من نفس المشكاة التي انطلق من خلالها الدكتور محمد عثمان الخشت في كتابه "نحو تأسيس خطاب ديني جديد"، فكلاهما يسعيان إلى تجاوز “عصر الجمود الديني” الذي طال أكثر من اللازم في تاريخ أمتنا العربية، من أجل تأسيس عصر ديني جديد، وتكوين خطاب ديني من نوع مختلف.

8- أجمل ما في كتاب مضمرات العقل الفقهي عند الغرباوي هو الدعوة إلي العودة إلى “الإسلام النقي المنسي”، لا الإسلام الذي نعيشه اليوم بسبب الجماعات الارهابية ومجتمعات التخلف الحضاري، وبالتالي فإن المشكلة في نظر الغرباوي ليست في الإسلام، بل في عقول المسلمين وحالة الجمود الفقهي والفكري التي يعيشون فيها منذ أكثر من سبعة قرون.

9- إن أهمية محاولة الغرباوي في كتابه مضمرات العقل الفقهي؛ هو كونه يمثل نقلة نوعية في الدراسات العربية حول الدين ومقاصده، ولا تنبع أهمية هذا الكتاب من كونه يمثل فتحاً جديداً للدراسات في هذا المجال المعرفي المهم الذي تندر فيه الكتابات العربية؛ بقدر ما تتمثل في الأساس العقلاني المتين الذي اعتبره الغرباوي أساساً يمكن إقامة هذا الصرح، أعني الدين عليه.

10-إن كتاب مضمرات العقل الفقهي كشف لنا على أن الأستاذ الغرباوي هو واحد من مفكري العربية القلائل الذين تعاملوا مع التراث الفقهي بروح تجديدية متفتحة، وهو من الفلاسفة الذين لا يثيرون الجدل بكتاباتهم بقدر ما يثيرون الإعجاب ويدفعون إلى التأمل . للغرباوي شخصية أريحية متصالحة مع نفسها ومع الآخرين ومع العالم.

وحتى لا يطول بنا السرد في إبراز النتائج، إلا أنني في نهاية هذا المقال لا أملك إلا أن أعود لأجيب بنفسي وباختصار عن تلك الأسئلة التي أرجأتها في بداية هذا المقال؛ فأعود هنا فأقول : لقد كان للغرباوي مواقفه الفكرية والعقدية الواضحة التي تمثل سنداً قوياً استند إليه في تحليل مختلف الآراء والأفكار الدينية والفلسفية والسياسية التي انتهجها .. لقد أراد الأستاذ الغرباوي فلسفة بنكهة تنويرية تقوم على القضاء على الاستبداد في الحكم، والقضاء على الاستبداد في الرأي، مع الاستناد إلى مراعاة الظروف والمتغيرات التي طرأت على عصرنا والقضايا وثيقة الصلة بالعصر، والتي تعد من المستحدثات التي طرأت على الساحة الفقهية، وفي حاجة إلى ردود شافية تمنع الناس من التخبط، كل ذلك في إطار التمسك بأصول الإيمان، وهي تلك الدعوة الفقهية التي اصطدمت بما هو عليه واقع المسلمين من : ضعف الأخلاق وانتشار الرذيلة، والاختلاف، والشقاق بينهم، والتخلي عن مبادئ الإسلام الخالصة بالنظر الفكري والأخذ بأسباب العلم أياً كان مصدره النافع، كذلك اصطدمت بما عليه المسلمين من أمراض نفسية تتمثل في اليأس والجبن والتواكل وغيرها من الصفات الذميمة والمنهي عنها في الإسلام.

لقد كان الأستاذ الغرباوي في كل دراساته يحاول – موفقاً-نقدها على أسس عقلية امتدحها القرآن والسنة النبوية؛ إذ ما تزال مسألة العقل والتنظير العقلي من أهم المبادئ التي يستند إليها الإسلام في حواره مع الأديان الأخري، ونحن نستطيع بسهولة اكتشاف علاقة واضحة بين النقل والفلسفة على كافة مستوياتها العقدية منها الميتافيزيقية والسياسية.

وفي نهاية هذا المقال أقول مع الدكتور صالح الرزوق بأن الأستاذ الغرباوي هو بحق يمثل : نموذج للمفكر الموضوعي الذي لا يخرج على دائرة وعيه بأهمية الروح. فهو يحاول بكل ما أوتي من عزم أن يتحرى حقائق الذهن البشري وطرق الاستجابة للواقع، وبشرط لا يحيد عنه وهو أن يكون داخل شبكة العلاقات الإسلامية. ويمكن أن تقول إنه ليس باحثا في المعرفة وفي أصول التشريعات التي تتحكم بسلوك الإنسان، وبالمسموح له أو بنطاق الحريات الوجودية المتاحة كالحال عند عابد الجابري. ولا هو أيضا باحث لا ديني يتابع مشكلة المعرفة بالانطلاق من وظائفها أو أساليب عملها كشأن طيب تيزيني. وإنما يحمل هم العقيدة نفسها.

فتحية طيبة للأستاذ ماجد الغرباوي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

..........

1- ماجد الغرباوي: مضمرات العقل الفقهي، مؤسسة المثقف ودار أمل الجديدة، 2020.

2-الكيلاني، عبدالرحمن إبراهيم زيد: قراءة في كتاب مصالح الإنسان : مقاربة مقاصدية، تأليف عبدالنور بر، إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي - مكتب الأردن، المجلد 14، العدد 55، 2009.

3- د. صالح الرزوق: موت الحقيقة.. الإسلام والتأسلم في فكر ماجد الغرباوي.. مقال منشور بصحيفة المثقف، على الرابط أدناه .

https://www.almothaqaf.com/a/tanweer/952065