بأقلامهم (حول منجزه)

قصي الشيخ عسكر: المفاهيم الأساسية في فلسفة ماجد الغرباوي

كنت قد كتبت بضع مقالات عن أعمال الأستاذ ماجد الغرباوي وتحدثت عنها، حينها رحت أبين المشاهد الجمالية في تلك النصوص، وأعنى بالدرجة الأولى كوني ناقدا، أو أضع نفسي موضع الناقد، أقول أعنى بالجماليات الأدبيّة وسبك العبارة وترابط الصورة وتأثير ذلك في المتلقي.

ولم أغفل أيضا البعد الفلسفي لتلك النصوص، فالعمل الأدبي يعني الشكل والمضمون والبعد الجمالي، وهناك البعد الرابع وهو العمق الفلسفي للعمل، لأنّ أيّ عمل أدبي لا يحمل في طياته خطرات فلسفية لا يعيش ويستمر.

وقد اطلعت على بعض أعمال الأستاذ ماجد الفكريّة التي يمكن أن أطلق عليها الفلسفية وهي تلك الكتب التي أصدرها ونشرها عبر مؤسسة المثقف، وتابعت في الوقت نفسه الدراسات التي كُتِبت عنها من قبل المختصين في الحقل الفكري والفلسفي وهم أفضل منّي في هذا المجال، وهذا ما يشير الى أن الأستاذ الغرباوي يحتل مكانة مرموقة في عالم المعرفة بشهادة كبار المفكّرين.

المواضيع التي لفتت نظري في كتب الأستاذ ماجد هي:

1- تناوله السلبيات بتتبعها من المنبع . إنّه لا يغطي القبيح أو يجمله بل يتتبع جذوره لكي يستأصله.

2- لا يجامل في المواضيع الجدية، فهناك المنهج المقارن عنده بين (أ) و(ب) بتبيان نقاط التشابه والاختلاف ثمّ يختار الأصوب أو يختار الاثنين إذا كانا متساويين.

3- معالجة العادات والتقاليد لا عن طريق التغيير بالعنف بل بمبدأ التسامح عن طريق خلق التكافؤ، وإيجاد البديل.

4- اهتمّ اهتماما كبيرا بالخرافة والأسطورة لكنّه لم يعالجها مثلما فعل السلفيون بالتكفير أو بالعنف ثمّ إحلال نمط أسطوريّ خرافي بديل ومثلما فعل ويفعل الثوريون واليساريون عن طريق العنف والإلغاء بل بالحوار الهادئ وتطوير المجتمع نفسه واللجوء إلى وسائل العلم الحديثة. لأنّ الأسطورة تشكل تراكمات مقدّسة وتتعلّق بعض مساربها بالدين والفكر القومي فمن الصعب أن تجتثها من دون أن تجد البديل لقد وجد الاستاذ الغرباوي أن مجتمعاتنا بقى تمتمسك بالماضي في حين هناك حركة عالمية شاملة وأحد وسائل التغيير هو الالتفات إلى الحاضر.

5- إنّ من الأمور المهمة التي لفت الانتباه إليها السيد الغرباوي هي قضيّة تفكيك العقدة الاجتماعية، تتبعها وتحليلها وإيجاد البديل لها فنحن نقف أمام عقد كثيرة متشابكة تخص المجتمع وتتعلق بسلوكه وهويته ووجوده، فتعدد العقد يجعلنا نضيع في متاهتها وتشابكها مالم ندرسها واحدة واحدة ونحللها، إلى مفرداتها من دون أن نغفل عن علاقتها بالعقد الأخرى.

وفي الختام أودّ الاشارة إلى أنني فخور حين أقرأ نتاج المفكر الفيلسوف الغرباوي الذي كتب عنه كثير من المفكرين، وأجدني أيضا في غاية السعادة والحبور حين أطالع أعماله الأدبيّة فأكتب عنها، فهو الفيلسوف الأديب الذي تستحقّ أعماله كل تقدير واحترام.

أما المفاهيم الأساسية في فلسفة ماجد الغرباوي، فهي:

المفهوم الأول: التسامح

 يحتل التسامح في فكر الباحث ماجد الغرباوي موضعا مهما لكننا نستشف من بحوثه في الموضوع ذاته أن التسامح لا ينطلق من نقطة ضعف ولا ينتهي إلى قسوة. وهو هنا يمثل قيمة التسامح النوعيّة فلو عدنا إلى التجارب الناجحة في فكرنا العربي والإسلامي لوجدنا أن السنة المحمدية تحتوي تسامحا كبيرا وواسعا في فتح مكة مع من سببوا قتل عمه، وحين قدم زعماء القبائل يسلمون أبقاهم النبي في مناصبهم تلك ليستفيد من خبرتهم في الدولة الجديدة، وهذا يعني أن الباحث الغرباوي لا يعنى بما يسمى مبدأ الاجتثاث، ولا يفكر فيه، ففي فلسفة غيره من المفكرين يتأسس الاجتثاث على رفض كل من شارك في العمليّة السياسية السابقة، نعم إننا لا ندعو إلى مسامحة من اقترفوا جرائم بحقّ المجتمع غير أننا لا يمكن أن نعاقب الجميع، ولنا مثال واضح في العمليّة السياسة التي جرت في العراق بعد الاحتلال حين دفعتنا آلامنا ومآسينا التي تسبب بها النظام السابق إلى الإلغاء والاجتثاث والثأر غير المنضلط انهارت الدولة بكاملهاوجرت عمليات انتقام وانهارت البنى التحمية إلى درجة أن بعض الباحثين رآى  أن نظام الدولة المنضبط لن يعود إلى البلد في فترة قصيرة.

هذ فيما يخصّ الفرد، أما فيما يخصّ المجتمع نفسه فهناك الخصوصيّة العرية التي تستند إلى الموروث القديم ويلتزم بها المجتمع العراقي منها على سبيل المثال الثأر وغسل العار، بعض هذه العادات أصبحت تفرض نفسها على القوانين الحمومية فيكون لدى الدولة قانونان واحد رسمي تلتزم به الدولة هو الذي يتضمنه الدستور  للمساواة بين المجتمع وقانون العشائر المتعارف عليه منذ عصر ماقبل الإسلام. وأقرب مثال على ذلك حين تعفو الدولة عمّا تسميه مثلا خائنا لكن العشيرة ات تقنع بالعفو لأن عمله جلب عليها العار،فتخضع الدولة لقانون العشيرة المتعارف عليه وتضطر الدولة إلى أن ترضخ للأمر الواقع.

إن مفهوم التسامح حسب رأي المفكّر الغرباوي  يميل إلى الاستفادة من عامل الزمن واستغلال تثقيف المجتمع وجعله حضاريّا أكثر من كونه عشائريّا، ومجتمعاتنا العربيّة ومنها العراق تحتاج إلى وقت تتمّ فيه إعادة بناء المواطن حضاريا فما وجدناه من سلوك حسن مواكب للعصر ساعدت الدولة على بقائه وما وجدناه سيئا أوقفناه ثمّ محونته بسلوك حضاري مواز وإن تطلّب ذلك وقتا.

تبقى النقطة الثالثة في مفهوم التسامح وهي حلّ الخلافات  بين الشعوب للعيش بسلام، في هذا الموضوع يركز الباحث على أن تسعى الشعوب بخاصة المتجاورة إلى حل كل خلافاتها بالحوار، يجب أن يكون هناك لقاء حضارات، وتلاقح حضارات وليس صدام حضارات .إن الحضارات لاتتصادم بل تتلاقى، فما زلنا حين نتمعن في فكر الغرباوي التسامحي نجد أن المنطق الأرسطي وهو نتاج وثني  أبدعته الحضارة اليونانية يدرّس ويطبق في كل جامعات العالم ومنها جامعاتنا الإسلامية كالأزهر والنجف وقم والقيروان، فهذا النتاج الحضاري الوثني يلتقي مع الفكر الإسلامي،ويتفاعل معه فهو نقطة التقاء لا افتراق وعداء والأمثلة كثيرة  لا تعدّ ولا تحصى.

المفهوم الثاني: العقلانية

الذي يطّلع على فكر الغرباوي من خلال مؤلفاته يجد أنه فكر عقلاني، يدعو إلى المزاوجة بين ثلاثة حقول: الدين والديمقراطية والسياسة، فهو لا يدعو إلى فصل ذلك المثلث، ليسلب المجتمع من تراثه وفكره، فلاخوف على ضياع الدين لأنّ الأمة نفسها هي حاملة الفكر الديني، ويمكن أن يكون الدين عامل حسم في المجتمع يمكن أن يفرقه أو أن يجمعه، وقراءة ماجد الغرباوي تتمثل في قراءة النصوص الدينية البعيدة عن العنف وفهم مشاهد العنف في القران الكريم على أنها جاءت في وقتها ولأسباب لذلك نحن نفهم الدين على أساس أنه كائن حي، يمكن إحياؤه بالتركيز على منابع التسامح فيه ونشرها والتأكيد عليها بداعي الدعوة إلى الأخوة مساواة بين أخ الدين وأخ الإنسانية والمواطنة،والسياسة نفسها يمكن أن تستفيد من الدين من خلال مبدأ المساواة بين المواطنين واختيار الأكفأ لوظيفته، على وفق رأي ماجد الغرباوي أن اليهودي يمكن أن يصبح وزيرا إذا كان كفؤا والمسيحي ورئيس الدولة المنتخب المسلم هو ممثل لكل الأديان والطوائف، فهو  يتعامل مع الأزيدي بصفته أزيديا لا مسلما وكذلك مع المسيحي والمندائي واليهودي ليشعر الناس بالأمان وليشعر المجتمع أن أساس الحكم فيه هو العدالة لأن العدالة هي السمة المشتركة في كل الأديان ومنها الدين الإسلامي .

إن كثيرا من الباحثين رؤوا صعوبة بين توحيد أضلاع المثلث (السياسة والدين والديمقراطية) لكن لوتعمقنا في فكر ماجد الغرباوي لوجدنا أنه يمكن الجمع بين تلك الأضلاع المتنافرة من خلال التركيز على ما يبدو لنا أنه إيجابي وتاويل مشاهد العنف في الدين على أساس أنها وقتية أو لها مدلولات رمزية بخاصة إذا جاءت تلك المشاهد في الكتب المقدسة (التوراة العهد الجديد القرآن). أما في سير الأنبياء والتاريخ فالمجال واسع للرفض والشك في كل ماهو يثير الشحناء والبغضاء والعداوة بين االمجتمع، فالقراءة الخاطئة للدين أدت بنا إلى دمار هائل وقد تحقق ذلك حين قرأ الماضون ومن عاشروا النبي فكثرت الحروب بينهم وقتل بعضهم بعضا فكانت الضحايا بالآلاف قياسا إلى نفوس ذلك الوقت.

المفهوم الثالث: التجديد

يفهم المفكر الغرباوي التجديد على أنّه فهم للواقع المعاصر وموازاته بما يناسبه، وهذا مانجده في القرآن الكريم في باب الناسخ والمنسوخ. إن الغرباوي يؤمن بالثوابت الأساسية كأصول الدين وهي التوحيد والنبوة والعدل الإلهي، وغيرها وكذلك بالأفرع مثل الصلاة والصيام والحج أمّا التجديد الذي يؤمن به فهو في الحقول التالية:

1 – الاقتصاد.

 2 – الاجتماع. خاصة نمط تفكير المجتمع والعادات والتقاليد.

3 – السياسة.

من هذه الفروع الثلاثة يمكن أن نجد علاقة بين الدين والديمقراطية والعلم فما هو خارج عن العلم في موضوع العادات فعلينا إلغاؤه، وماهو غير مناسب من موضوع اقتصادي قديم وجدناه في عصر البعثة وما بعدها فيمكن تغييره، على سبيل المثال قضية الزكاة والخمس لتحقيق العدالة ومجتمع الرفاهية يمكن زيادة نسبة الضرائب، وإيجاد ضرائب أخرى مساعدة، إن المجتمع يتطور ولا يمكن أن نبقى على الموروث الاقتصادي الوارد إلينا من عصر صدر الإسلام من دون أن نغيّر فيه لأنه موضوع لا يخص الأصول بل المعاملات والاقتصاد.

***

د. قصي الشيخ عسكر – روائي وناقد

 ..............................

* مشاركة (8) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10