أقلام حرة

رقائق الذكريات وعالم الشعري..

رحيم الغرباويقراءة في خلجات سناء العزاوي الشعرية

الشعر هو وسيلة اختيارية؛ لبث الحقائق التي تحيا داخل نفس صاحبها، وهي تُتَرجَم على شكل كلمات تفصَّل الحدث، وتجعل منه عالماً محسوساً بعدما كان في الداخل كتلة من هيولى الإحساس والشعور. ولعل التجارب الوجدانية لدى الشاعر قائمة في عالمها البرزخي الأثير، لكن بعدما تصدَّر إلى خارج الذات تصبح جزءً من الحياة، تتحرك بين الناس؛ فترتبط بالوجود والزمان، إذ أنَّ المصير الإنساني يتحقق في الزمان وتحت رايته بعدما كان الشعور في عالم خارج نطاق الأزمنة، ولاينضوي تحت ردائه في أيِّ شكلٍ من الأشكال , لكن ما يتدخل في حياة النص بعد وجوده هو الخيال الذي يعد" قدرة اكتشاف العلائق الكامنة بين الظاهرة والتصورات التي تتحرك وتنمو في الأعماق اللاواعية للشاعر" (1)، لكنه لايتعامل مع النص كوثيقة، بيد أنْه يفكك الإحساس وبنائه "على وفق تشعب مسارات الدوال في الصورة التي تستمد عناصرها من هذا التجاوز الفذ بين الظاهرة والشعور الإنساني الذي ينطوي على الإدراك الماورائي الموغل بالمفارقة " (2).

ولعل النصوص حين تترجم هيولى الداخل إلى ظاهرة واقعة لاتقدمها إلا بتقنيات فنية على الرغم من بعض بساطة النص في مضمونه وسبكه،وهذا ما نراه في تجربة الشاعرة سناء العزاوي الشعورية من لاسمات واضحة في ذلك على الرغم من البساطة في كتاباتها إلا أننا نجد عذوبة في الأداء والأسلوب في نقل المشاعر  لكن تشعرنا بنكهة عالية وهي تنقل لنا إحساسسها الشفيف بأندى العلاقات وأغناها تجربةً، تقول:

سنواتٌ مرَّت

ونحن بلا لقاء

أتراه الموت فرَّق بيننا

أم أنَّه قدرٌ

أم صمت لذيَّاك الوفاء ؟

فهي لاتعلم أيّ الهمَّوم ضيَّع منها رابطة الوصال،هل هو همُّ الموت الذي يمثل التلاشي الأبدي، أم أنَّ سببه المتمثل بالقدر، أم الصمت حين يكون في ذروة الوفاء، ويبدو أنَّ الحب يأتي بشفافيته المُعلَنة في النص ليجسد دلالات لواعجه عبر  فونيمات صوتية، إذ نجد تكررها في النص، فقد ورد صوت النون تسع مرات وهو صوت تنغيمي يمنح النص موسيقاه الهادئة، بينما التاء، ورد أربع مرات وهو صوت هامس، واللام خمس مرات، وهو صوت فموي أيضاً من الأصوات الهامسة، التي تمثل الرقة والشفافية، بينما صوت القاف فقد ورد ثلاث مرات، وهو يمنح دلالة القلق، والراء ثلاث مرات وهو صوت مكرور يقوِّي من تلك الدلالة، أما صوت الفاء الذي أيد دلالته في النص صوت الهاء الهوائي فبواسطتهما تخرج زفرات الألم والحسرة من جرَّاء ذلك الفراق .

ثم تقول:

سنين مرَّت

ونحن نعيد غسل الذكريات

نرتدي البسمة من جديد .

ويبدو أنها تكابر حين تسرح في خيالها، وهي تعيد الذكريات التي غادرت حاضرها، فأصبحت ماضياً مأسوفاً عليه، لكنها تحاول أنْ ترمم وجعها بالبسمة؛ لتعيش تلك الذكريات التي توسلت صاحبها بالمقطع الأول أنْ يعود إليها ؛ فنراها تعلل النفس بها عسى أن تنسى ما يجعلها تتألم منه .

ويبدو أنها تعيش حالة من النرجسية، إذ تجد من الفن التمسك بذاتيتها ما جعلها تنحت "تمثالاً داخليا، فالذي يدفع الشاعر إلى الخلق إنما هو رغبته في معرفة نفسه معرفة أفضل " (3) . ومن ثم تحقق ما يمتاح دواخلها من شعور إزاء الموضوع الذي تبثه لمتلقيها .

إذ تقول:

في تلك الوحدة

أجدكَ تزاحم دواخلي

بطيفكَ

بعطرك

وبالذكريات

فإلى أين الهروب

قلْ لي ؟

فالوحدة لاتمنحها سوى هموم الاغتراب والبعد , لذا نراها تخالج الألم والحسرة، لكنها تفرض هدوءها عليهما بما نجده في دلالات الحروف، فقد ورد صوت اللام سبع مرات والتاء أربع مرات،وكلاهما صوتان هامسان يبثان دلالة الصمت والسكون إزاء ما يعتملها، فهي تهمس في خطابها لمن تتوسله، فخرج المعنى مجازاً إلى التحسر والتوجع، يؤيد ذلك صوت (الكاف) الذي ورد خمس مرات، وصوت (الدال) ثلاث مرات وكلاهما من أصوات الإطباق اللذان يمنحان تلك الدلالة قوة، كما أنهما يحثان على التساؤل لما فدح بها من فراق الحبيب لها، ثم تطلق دلالاته بالحيرة التي تعيشها، وهي تتساءل، فتقول: (فإلى أين الهروب قلْ لي؟ ) .

إنَّ سمة العصر اليوم، وهو يحفل بقتل الروح التواقة إلى الاطمئنان والاستقرار بينما وسائل التواصل التي باتت تدفع للتعبير عن دواخل النفس البشريه، جعل الإنسان يكتب همومه وتطلعاته بأنقى العبارات وأجملها ؛ ليحقق شيئاً من راحته من طريق التنفيس والتعويض عما يفقده من طموحات، وإن كانت تلك الطموحات بسيطة، بيد أنه يجد سلوته في الكتابة، وهو يلمس روح التأسي له من متلقيه، فضلاً عن النجاح الذي يستشعره وهو يعبر عما في داخله من فيوضات شعورية تُتَرجم بأجمل حُلَّة وأنداها مشاعراً .

وفي نص آخر نراها تتوهج عاطفةً إلا أنها لاتعلن صراحة عمَّا يعتملها تجاه الآخر فهي تقول:

لم أسألكَ

لم أمسك يدك

لم أشعر فيك

لكن أقسم لك

احتاجكَ في كلِّ ثانية

أريدكَ بلهفة .

إذ نجد ازدواج المشاعر لديها وهو إحساس نبيل يمثل روح الاستئثار بالآخر على الرغم مما هو بعيد لم تستشعر وجوده بالحواس، بل بروحها الأثيرة التي تمثلت بنرجسيتها وهي تخاطب من تبتغيه إنساناً يعيش بعيداً عن عالمها، يدلل ذلك المعنى العام للنص، فضلاً عن تمثل ذلك الشعور في أصوات الهمس والصفير فالسين أوردته ثلاث مرات، واللام ست مرات والميم أربع مرات بينما الكاف والهمزة فوردا ست مرات، وكلاهما من أصوات الإطباق الشديدة . فهي تعبِّر عمَّا يخالها من إحساس، لتنقله لنا بصدق مشاعرها ممزوجاً بنرجسيتها تجاه ما تريد مما يشعرنا من أنها تفقد الكثير وتتأمل الأغنى والأكثر لتعيش عالم الخيال الشعوري مكونة لها عالماً أثيرياً ليس فيه سوى الذكريات الهامسة الجميلة .

نتمنى لشاعرتنا سناء العزاوي النجاح في تجربتها الشعورية الصادقة وهي تكتب للحياة، فتبوح بمشاعرها الإنسانية ؛ معبِّرةً عن وجدانها بإحساس رهيف، ولغة رشيقة لايعتملها ضباب أو غموض، فهي تجسد روح الواقع بمشاعر هادئة رزينة .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

.........................

(1) تجليات النص:27

(2) المصدر نفسه والصفحة نفسها .

(3) النرجسية في شعر نزار قباني: 88 .

 

 

في المثقف اليوم