أقلام حرة

أمِّي.. لَحْظَةُ إِغْواءٍ لا تَنْقَضِي لَذَّتُهَا!

بليغ حمدي اسماعيلذكرني صديق لي بصورتي وحالي أيام الدراسة الجامعية، أي منذ خمسة وعشرين عاما تقريباً، وأخذ يسرد تصرفاتي وسلوكياتي وقتها، وكان وزملائي يتعجبون من كوني أسير بسرعة أو أكاد أقفز من على الأرض، أقصد أرضي، ودغدغ صديقي بذكريات حلوة قديمة كجلوسنا بمكتبة كلية التربية، ونسخنا للكتب بدلاً من تصويرها إليكترونياً وأشياء أخرى لا تنسى بالذاكرة.

وفي أثناء اجتراره لذكرياتنا معاً فاجأني بسؤال لا أظنه باغت عقلي: هل كنت تمثل وقتها أنك طالب متميز ومتفوق وملتزم أخلاقياً ؟ أم أن هذه حقيقة شخصيتك التي نراها عليك الآن؟.

ووجدتني لم أفكر في السؤال، بل لست أدعي بأنني لم أفكر في صاحبه من الأساس، أخذت نفساً ليس عميقاً بل أعمق، ورأيتني أنظر إلى الداخل أكثر مما أرى، ثم أخبرته بأني ممن كتب لهم حظ التربية على يد المرأة، أعني أمي، فلقد توفى والدي وأن بالسنة الجامعية الأولى، وكان من المتاح لنا وقتها لمن مات أبوه أن يفسد ويهرول نحو مناشط الحياة التي هي لهو ولعب وتفاخر وزينة.

لكنني كلما فكرت في محاولة إيقاف ذاكرتي النشطة ليل نهار في اقتناص لحظات عبث ولهو مع الأصدقاء تذكرت تلك السيدة التي اعتادت أن تتشح بالسواد ثياباً حداداً على زوجها الذي هو أبي، ورأيتها تغادر كل مظاهر الدعة والراحة والرفاهية من أجل أولادها الذين أنا واحد منهم.

فما قوة هذه السيدة التي تدفعني دفعاً للراحة والرفاهية وأنا لا أطلبها ـ أقصد الرفاهية ـ وما بال هذه المرأة التي توفر لصغارها ينابيع حنان ونحن ندفع أنفسنا إلى الشقاء، وكيف لامرأة تحرم نفسها من ابتسامة لتنبت ورقاً أخضر بشفاهنا، وأنا أصر على اقتضابة وعبوس.

ودون تفكير في الأمر أدركت بأن حق هذه المرأة علي أن أوفيه نجاحاً وتفوقاً والتزاماً، فلم أفكر مطلقاً أن أصير الأول على كليتي وقد صرت، ولم يخطر لي ببال أن أتقدم لمسابقة الطالب المثالي حينما كنت طالباً بالفرقة الرابعة، وحينما تقدمت فزت باللقب، ولم أظن يوماً أن أخربش الكتب بأناملي لأحصل على درجة الماجستير إلا هدية لها في مرضها الأخير .

تلك أمي، التي كان الله سبحانه وتعالى يكرمني من أجلها، وهذا ربي جل جلاله الذي كان يقف بجانبي سراً وعلانية ليجعل الابتسامة تعلو وترفرف على شفاه أمي، فكان السعي للنجاح ليس طموحاً شخصياً، أو مطمحاً خاصاً، بل كان ديناً لابد من سداده لأصحابه، وأمانة لابد من حملها بدقة ووعي وحرص. 

ومن مفارقات القدر أن تتوفى أمي في شهر عيد الأم، أي في شهرها، فلك يا أمي مذ كنت نطفة برحمك، وحينما صرت شاباً يافعاً بفضلك، وما حييت أبد الدهر حتى أبعث حياً سلاماً وتحية وشوقاً ومحبة، كم كانت أيامي تحلو بك، وكم كانت ساعاتي تتزين بلقائي معك.

وكأن أمهاتنا جميعاً يمثلن في حياتنا لحظة إغواء، يفقد العقل سمته بالتفكير حينما ينكمش الواحد فينا بحضن أمه، ويصير الرجل الراشد مراهقاً حينما يستمع إلى نصائحها، ويتجاوز العاقل فينا ضعفه الغريزي بالأنانية وحب النفس، وربما الأمومة أعظم اختراع في تاريخ البشرية، فبها يمتحن الإنسان إنسانيته.

أمي، تغيبين فتزدادين حضوراً، أما حضورك فكان عفةً والتزاماً أعجز عن محاكاتها مع ولدي الصغير. كل عام وأنت عند ربك راضية مرضية هانئة .

 

دكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

في المثقف اليوم