أقلام حرة

الرَّادِيكَالِيَّةُ العَرَبِيَّةُ.. الحِصَانُ المَيِّتُ

بليغ حمدي اسماعيلللهنود الحمر عبر التاريخ القصصي القابع في أذهاننا منذ قرون سيرة ذاتية استثنائية من أبرز ملامحها الوحشية والقتل والطباع الفطرية غير المهذبة اجتماعياً، ورغم ذلك امتلك هؤلاء قدراً من الحكمة التي جعلتهم لفترة في مواجهة المستكشفين لعوالمهم المجهولة، ومن هذه الحكمة، حكمة قديمة تقول إنك لو اكتشفت فجأة أنك تركب فرساً ميتاً أو بالأحرى على وشك الموت فإن أفضل طريقة هي أن تنزل عنه بسرعة .

وهذه الفكرة تروق لكثيرين من مدربي التنمية البشرية الذين ملأوا الأرض صخباً وجدالاً ولغطاً نفسياً حتى أصبح بعضهم وليس الكل عبئاً على مجتمع ينهض لأنهم لا يزالوا يفكرون بمنطق القرون الوسطى ويظنون أن التنمية البشرية أشبه بالعلاج النفسي للمريض المزمن وهي ليست كذلك بالطبع، وهذا منطق معظم المصريين اليوم الذين يفكرون في القفز من على الحصان الذي لم يمت بالفعل بل إنه بحاجة ماسة إلى استخدام استراتيجيات وطرائق متعددة لبث الحيوية فيه وفي الفارس أيضاً الذي يمتطيه.

والبعض يرى أنه من الأفضل استخدام سوط (كرباج) سوداني أو صومالي أو قطري أو من أي بلد من أجل إيقاظ هذا الحصان فتكون النتيجة القطعية هلاكه لا نشاطه . والبعض الآخر يظن أن مقارنة هذا الحصان بأحصنة أخرى تبدو ميتة أو ميتة بالفعل هي أفضل وسيلة لقبول الأمر الواقع المرير .

هذه التقدمة كانت كفيلة لرصد بعض التحولات التي حفظها المشهد السياسي في مصر منذ قيام انتفاضة يناير 2011  من مخاضها الثوري بعض صور للتحول الديموقراطي، كان أبرزها الظهور الاستثنائي المفاجئ وغير المحظور وغير المقنن أيضاً لجماعة الإخوان التي صارت بعد ذلك عبئا على كاهل مصر والمصريين حتى وقتنا الراهن،  فعقب نجاح هذه الانتفاضة العشوائية بحكم قوانين الثورات والاحتجاجات بصورة مؤقتة شاهدنا انتفاء قرار الحظر والمنع والرفض السياسي والمجتمعي لجماعة الإخوان التي كانت محظورة دون أحكام قضائية أو حزبية تبيح الحظر أو فك الحظر .. ومع ذلك قبلنا لأننا نعيش عهد الربيع الثوري، وهذا الظهور لحقه وأتبعه ظهور خاص لكافة التيارات والتنظيمات والتجمعات الراديكالية الأكثر تطرفا والتي كانت أكثر قمعا لجميع طوائف المجتمع منذ سبعينيات القرن الماضي.

وبعدها بقليل أصبح للجماعة ذراع سياسي هو حزب الحرية والعدالة الذي استطاع رغم ولادته المبكرة أن يحصد المقاعد التاريخية للحزب الوطني المنحل سواء في مجلس الشعب أو مجلس الشورى وهو يتعهد بتحقيق مطالب الثورة من العيش والحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، وبالضرورة لم يحقق ما كان يدغدغ به مشاعر البسطاء الحالمين بجنة الأرض لأنهم لم يفطنوا إلى الغياب الحقيقي لما عرف آنذاك بمشروع النهضة.

وبالفعل نجح الحزب برعاية الجماعة التاريخية الضاربة في النضال السري غير المعلن والمعروف دوما بممارسة الاغتيالات السياسية للخصوم لأكثر من ثمانين عاماً في تحقيق الحرية والعدالة فقط من حيث تحقيق الديموقراطية لمن والاهم في الملامح الفكرية والأطر المرجعية العامة لاسيما منطق السمع والطاعة في المنشط والمكره حيث سمحوا للتيارات السلفية والجماعات الإسلامية وحفنة قليلة من السوريين أن يتواجدوا في مشهد الصدارة في إحداثيات المجتمع المصري.

وفي كل يوم وليلة كنت وغيري نفاجأ بقيادات الحزب الذين هم بالضرورة المنطقية يمثلون قيادات الجماعة يؤكدون بأنهم اختيار الشارع وأن وجودهم السياسي جاء بطريقة شرعية وليست عرفية أو مزورة من خلال ثقة المواطن في الجماعة ككيان سياسي ديني وكذلك ثقتهم في رموز الجماعة والحزب .. ولا أعرف على حد اليقين لماذا كان يريد الحزب ويصر دائما الوقوف في موضع المدافع عن نفسه وتبرئة أعضائه من اتهامات مستدامة، في الوقت الذي كان ينبغي عليهم العمل بالمشاركة للارتقاء بهذا الوطن الذي كان يحلم ببداية قوية واستثنائية عقب الاحتفال بنجاح مزيف لانتفاضة قام بها بعض الشباب غير المؤهل للثورة، بل أكاد أزعم قولا بأنهم غير مؤهلين لمصر الضاربة في التنوير والتطوير والحضارة.

ولكن كم كنت أتمنى أن يراجع هذا التنظيم الذي احترف السرية بقدر احترافه للاغتيالات الدموية وترويع المواطنين حتى لحظة الكتابة  نفسه بعد هذا الصعود السياسي والمد الاجتماعي الرهيب الذي تحقق له وقت الصعود في ظل أحداث تشير بالفوضى والانفلات وهذه ظروف مواتية وسانحة لتصاعد أي تنظيم راديكالي متطرف لا يرى سواه ولا يسمع سوى صوته وصداه فقط، بدلاً من أن هذا التنظيم وغيره من التيارات المتطرفة فكريا رغم مراجعاتها المتعددة  أصبحت مهمومة بالرد على الاتهامات والانتقادات التي توجه إليها، وجملة الافتراءات التي تلتصق بها ليل نهار، وحقاً إن المشكلة الرئيسة في أن هذه التيارات التي باتت تحترف الإرهاب والتطرف  لم تستوعب الدرس جيداً من مشاهد أخرى مماثلة حدثت في كثير من البلدان عبر التاريخ، لكن هي مشكلة الطوائف المتطرفة دوما أنها لا ولم ولن تقرأ سوى ما يقذفه أمراؤها في عقول الأتباع والمريدين وذوي الانصياع المطلق للأوامر بغير تدبر أو تحليل لها  .

وتوقع هجمة شعبوية ضد جماعة الإخوان وكافة التيارات الراديكالية كالسلفية الجهادية وأنصار بيت المقدس، وجماعة التكفير والهجرة التي كفرت منذ ثمانينيات القرن الماضي نصف المجتمع المصري عن طريق حفنة من الرجال غير المؤهلين علميا أو فقهيا حسب رأي علماء الأزهر الشريف،   كان أمراً منتظراً أو بصورة أخرى رهن الانتظار، فمصر بطبيعتها المتجددة كنيلها تحيا ثقافة رفض القمعية والتطرف والغلو وتأبى أن يمارس بحقها صور التهميش والإقصاء والتمييز .

ولقد ظل الخطاب السياسي لهذه التيارات والجماعات المتطرفة على الهامش لفترة طويلة باعتباره على الدوام خطاباً خارجاً عن سياق المؤسسة الرسمية، وبحد وصف كبار المحللين السياسيين الذين أصيبوا كرهاً بالغياب السياسي عن المشهد ؛ بفضل تنظيراتهم الغارقة في اجترار ذكريات الماضي، بأن هذا الخطاب ينفلت بحكم كونه منتجاً خارجاً عن المعايير الشرعية السياسية إضافة إلى أنه نص سياسي يفتقد الكثير والكثير من شروط إنتاجه، ورغم هذا التهميش القصدي ظل هذا الخطاب الشعبي يمارس كافة حقوقه الشرعية بل شكل صداعاً مزمناً ومستداماً برؤوس الأنظمة.

ومشكلة هذا الخطاب السياسي الراديكالي والذي ظهر بقوة أخرى جديدة متمثلة في العمليات الإرهابية بحق جنود مصر البواسل  ليس في لغته أو في نصه وإحداثياته، بل تكمن المشكلة الحقيقية له في عملية تأويله وتحليله، واختلاف آليات فهمه وإدراكه، وبالأحرى تباين التوجهات الأيديولوجية حينما تتلقى هذا النوع من الخطاب السياسي . لكن الأدهش في هذا الموضوع أن خطاب الشعب السياسي يستحيل بمرور الأيام لاسيما عقب الفعاليات السياسية الكبرى كالثورات أو الانتفاضات الشعبية إلى معيار أو محك أو أحكام استشرافية يمكن من خلالها التنبؤ بمشاهد سياسية واجتماعية في المستقبل، وهذا ما رأيناه جميعاً منذ اشتعال الانتفاضة الشعبية البيضاء في الخامس والعشرين من يناير، وتجسد الأمر بضراوة أيام حكم المعزول بإرادة الشعب محمد مرسي .

وقديماً كان الخطاب الشعبي لهذه التيارات والطوائف الدموية يطلق عليه اسم منشور سري، وسرعان ما تحول المسمى القديم بفضل عقاقير الديموقراطية وأمصال الليبرالية إلى مسميات معاصرة مثل بيان رسمي، أو إعلان، أو نداءات أو ثمة استغاثات تتحول إلى تحذير موجه إلى أي نظام حاكم، وكل هذه الأسماء التي التصقت بالخطاب السياسي الراديكالي  دليل قاطع على تباين تلقي الخطاب نفسه، وربما معاناة خطاب الشعب السياسي من الإقصاء والتمييز هو الذي دفع إلى تعدد مسمياته، وحينما حاولت الأنظمة السياسية الرسمية في تهميش حركة الخطاب السياسي الشعبي وعزله عن الفكر السائد للمؤسسة الرسمية استطاع هذا الخطاب في حجز مقعد دائم له ولمدشنيه في الشهود المجتمعي والبقاء لفترات طويلة على الألسنة وفي الأذان أيضاً بل وجد لنفسه مكانا رحبا هادئا على بعض القنوات المشبوهة التي تحمل الكراهية لمصر وللمصريين على السواء وتبث سمومها الإعلامية من الخارج بالتعاون مع أعداء الوطن من الخونة والمرتزقة بالداخل.

وقد هيأ أصحاب الخطاب السياسي الشعبي أنفسهم على أن يكونوا على الدوام هامشيين يرتدون قناعات مستترة تقيهم ـ حسب ظنهم المريض وقناعاتهم الكاذبة ـ  وطأة بطش الأنظمة السياسية والدول البوليسية التي اعتادت ملاحقة النشطاء السياسيين وهذا هو ما يدعونه على الدوام بل ويدربون أذهان أتباعهم على اعتناق هذه العقيدة، واكتفى هؤلاء بجعل نصهم السياسي هو المركز والمحور الرئيس غير مبالين بالتهميش الذي ينال أسماءهم وكنههم الشخصي، وربما هذا الاكتفاء بدور المهمش هو الذي مكن الخطاب السياسي الشعبي من الاستمرارية والبقاء ومن ثم التوالد والتكاثر من أجل وقوف رمزي أمام أي حاكم أو نظام سياسي رسمي .

والمستقرئ للفترة الزمنية التي وصلت فيها الجماعة بحلفائها إلى سدة الحكم في مصر، يدرك أن الرئيس المعزول محمد مرسي رئيس الجماعة  استخدم كثيرا لغة رمزية ربما لم يفهمها سوى أهله وعشيرته وقيادات مكتب إرشاد الجماعة وحدهم، فضلاً عن استخدامه لمؤشرات رمزية استثنائية حفل بها خطابه السياسي الذي من المفترض أنه رسمي يصدر من مؤسسة الرئاسة لكنه فضل استخدام لغة خاصة تشير إلى فكر ظل سنوات بعيدة يعمل في الظل وبغير وجهة شرعية، لذلك لم يستطع الرئيس المعزول وقتها التخلي عن الشفرة الكودية الخاصة بلغة تنظيمه السري . في حين أنه كان عليه استخدام لغة مباشرة لاسيما حينما نال بالتلميح بعض الشخصيات المجتمعية والقضائية والإعلامية في مصر. ولا ينبغي التغافل عن أن حديث الرئيس المعزول محمد مرسي السياسي كان من أبرز العوامل التي دفعت الملايين من المصريين للخروج عليه والمطالبة بعزله وعزل تنظيمه عن سياق النسيج المصري .

وتبدو مشكلة أخرى عند تناول النص السياسي الشعبي، وهي ما يسعى إليه غالباً المحسوبون على النخبة التنظيرية التي أصابت الكثير من المصريين باللغط والجدال، هذه المشكلة هي قراءة المتحول بالثابت، والمتحول هو الخطاب الشعبي، الذي لا يستقر ولا يهدأ ولا يميل إلى استعمال مفردات سياسية ثابتة بل طالما أدهشنا هذا الخطاب بتنويعات لغوية مثيرة، فالذين يستخدمون آليات الثابت في التحليل يدعون أنهم يمتلكون وحدهم حق المعرفة السياسية وربما الحقيقة أيضاً، في حين أن المهمشين قصداً يعمدون في خطابهم السياسي الشعبي إلى امتلاك حق الإحساس بنبض الشارع بغير مشاركة .

وأصحاب الخطاب السياسي الشعبي لم يكونوا يوماً مجافين للواقع المشهود، لكنهم يعتبرون أنفسهم دوماً رجع الصدى وصورة حية لاستكناه مشاعر المواطنين البسطاء الذين لا تصل أصواتهم الباهتة إلى أصحاب القرار السياسي الرسمي، وربما غفل علماء الاجتماع رغم دراساتهم وأبحاثهم الكثيرة والمترامية على أرفف المكتبات الجامعية والتجارية أيضاً عن البحث الدقيق لتحليل دوافع هؤلاء الذي أخذوا على عاتقهم كتابة خطاب سياسي شعبي بغير تذييل لأسمائهم أو إعلان لهويتهم .

ورغم أن كافة دول العالم تدغدغ مشاعر وعواطف مواطنيها بدعاوى الديموقراطية والإيمان بالتعددية السياسية والنفور من الإقصاء والتمييز، إلا أن ثمة فوارق بينية تكشف عن التمايز بين الخطابين السياسيين الرسمي والشعبي ليس في مصر وحدها، بل هي فوارق نجدها ثابتة وراسخة في جميع الثقافات أيضاً، فبينما يبدو الخطاب الرسمي خطاباً فوقياً، فإن تحتية الخطاب السياسي الشعبي أشبه برياضة تسلق الجبال، بل هو خطاب يشبه مقولة الروائي العالمي جابرييل جارثيا ماركيز إن المتعة تكمن في تسلق وصعود الجبال وليس البقاء والاستقرار على قمة الجبل، وهذا ما يدفعنا لتفسير سر ابتعاد أصحاب الخطاب الشعبي عن المشاركة في الفعاليات السياسية الرسمية كلانتخابات والذهاب إلى صناديق الاقتراع أو المشاركة في أي برنامج سياسي رسمي بعد استقرار أي استحقاق ديموقراطي، وهو أيضاً ما يجعلنا نقبل طوعاً  سر بقاء تفاصيل الخطاب الشعبي السياسي على ألسنة المواطنين لفترة أطول من الخطاب الرسمي لأنه يسير ببطئ ويشحذ الذهن بخطى ثابتة، في حين أن الخطاب الرسمي عادة ما يقترن بمناسبة رسمية أو بأمر طارئ فسرعان ما تنتهي آثاره.

الملمح الآخر الذي يفرق بين الخطابين هو مدى الشهود للآخر داخل الخطاب نفسه، فالخطاب الشعبي طالماً أكد على أنه صوت ممايز لصوت النظام السياسي الحاكم، لذا فهو يحرص على وجود الآخر في سياقات الخطاب وإن اختلف كنه التواجد بين الإيجابية والسلبية، وعادة ما يكون الخطاب عبارة عن ثمة مطالب موجهة من الشعب إلى النظام الحاكم، بخلاف الخطاب السياسي الرسمي التقليدي الذي لا يرى ضرورة لوجود الآخر لأنه خطاب فوقي، وتختلف نبرة الاتصال بين الأنا والآخر تبعاً لطبيعة الخطاب نفسه، فبين التوجيه والتهديد وتقديم النصيحة والرغبة في المشاركة السياسية دون تقديم إجراءات يمكن للشباب الاسترشاد بها .

ودلالة المعنى في الخطابين تبدو أيضاً متمايزة، فالمعنى في كليهما يعاني من الاستهلاك والانتهاء إذا ارتبط بحادثة سياسية أو اجتماعية معينة، وهناك دوما حركة بين الدال والمدلول سواء كان الخطاب رسميا أو شعبياً، وإذا كان النظام السياسي الرسمي يتمتع بالقبول الشعبي ويتسم بالقوة والسيادة فإنه يستخدم خطاباً سياسياً مباشراً بغير تورية أو مواربة للمعنى، أما الخطاب الشعبي فكثير ما يلجأ إلى تورية المعاني واستعمال رموز بهدف الحفاظ على سرية أصحابه 

إذن، فالقراءة هي التي تمنح النص السياسي شرعيته وخلوده ومن ثم بقاءه لفترة طويلة والقدرة على الحراك السياسي، إضافة إلى قوة صاحب الخطاب نفسه ومدى تمتعه بالقبول السياسي العام، وأيضاً مدى قدرة الخطاب السياسي على قبول الآخر والانفتاح عليه بغير قيود والسرعة في المباشرة عند تناول الأحداث الجارية، لكن الأمر الذي ربما نؤكد عليه أخيراً أن كلا الخطابين مسكون بالآخر في مفرداته وحركة معانيه  .

 

د. بليغ حمدي إسماعيل

 

 

 

في المثقف اليوم