أقلام حرة

طالب الأحمد: الصندوق الأسود للفاجعة

التهمت النيران كل شيء.. الآمال والأحلام والمشاعر.. التهمت الأمومة والطفولة وخنق دخانها كل صيحات الرجاء.

كانت الأم المذعورة قد هرعت بغريزة البقاء وبلا شعور إلى باب الخروج الوحيد في القاعة.. وقبل أن تتنفس هواء النجاة تذكرت ولدها الصغير الذي فقدته وسط الظلام في ذروة التدافع للخلاص من نيران مستعرة لا ترحم.

عادت على الفور لتبحث عن إبنها داخل القاعة الملتهبة وقلبها يصيح بإسمه قبل لسانها.. كأنها لم تكن تبصر ألسنة اللهب في المشهد المهول.. كانت تريد إنقاذ فلذة كبدها بكل ما في قلبها من رجاء وحنان ولوعة.. شعرت في لحظة خاطفة اختصرت زمانها كله أن ضميرها يؤنبها لأنها نجت وتركت فلذة كبدها وسط النيران.. بقيت تبحث عنه مشدوهة البال.. تناديه ملتاعة والنيران تلتهم أذيالها في مشهد خالد للأمومة على مرّ العصور.

لم تكن تهتم لإبعاد السنة اللهب عن جسدها لأن كل همها في تلك اللحظة المشحونة بالأسى إطفاء نيران قلبها وإنقاذ ولدها بأي ثمن.

لم يسعفها الوقت ولا شراهة النار المستعرة، فسرعان ما تحولت مع آمالها إلى رماد.. أما ابنها الصغير فقد تبيّن أن أحد الرجال الغيارى التقفه بسرعة وأخرجه من وسط الجحيم في اللحظات الأولى لوقوع الواقعة.

قصص تدمي القلب قبل العين.. وما أريد أن أقوله هو ان لمشهد فاجعة (الحمدانية) رمزية تختزل معان كثيرة وعميقة سيتمعن فيها أصحاب الضمائر الحية طويلاً وربما لن تغادر ذاكرتهم إلى الأبد، أما الذين أعمى الجشع وغرام السلطة أعينهم فسوف يمرون عليها مرور الكرام على الأرجح.

لا تجدي كلمات المواساة المنمقة في هكذا فواجع.. الأمر الأهم الآن هو أن نبحث عن (الصندوق الأسود) للفاجعة لكي نفكك شفرة حدث العرس-المأتم ونفهم ما وراء الحدث.

من وجهة نظري لا جدوى من البحث عن (الصندوق الأسود) داخل قاعة الأعراس، بل يجب البحث عنه خارج القاعة وتحديدا في دهاليز الفساد السياسي والإداري الذي يشعل حرائق تلد أخرى، ويُنتج فجائع تلد أخرى.

من المسؤول عما جرى؟

المسؤولون الذين يجيدون لغة التبرير والتملص من المسؤولية بدهاء سيقولون أن القاعة تفتقر إلى بنية متينة لأن سقفها من مواد سريعة الإشتعال، وعليه يجب إعادة النظر في مواد البناء المستعملة، وطبعاً سيبحثون عن كبش فداء لهذه المحرقة أملاً بدفعها إلى هوة النسيان.

لكن الحقيقة هي أن منظومتنا السياسية والإدارية هي التي تشكّلت من بنية سريعة الإشتعال بنيران الكيد والصراعات والتكالب المرعب على مغانم السلطة. وهذه البنية الهشة هي التي تمهد الأرضية للفساد وتجعل الحياة السياسية في البلد مصنعاً للكوارث وليس مصنعاً للبناء والتقدم.

اتفق مع الذين يقولون لابد أن نعيد النظر في المواد المستخدمة في بناء قاعات الأعراس ونحوها من منتديات عامة، هذا أمر مهم بلا شك، لكن الأهم من ذلك هو أن نعيد النظر في أعراف المحاصصة السياسية والطائفية والعرقية وثقافة التغالب واعتبار السياسة أداة للتسلط بدلا عن جعلها أداة لخدمة الناس والإرتقاء بواقع البلد.

لقد انتجت أعراف هذه الثقافة السياسية البائسة ديمقراطية شكلية هشّة لم يعد يثق بها الناس ولا يعوّلون عليها لإصلاح أحوال البلد. بإختصار اقول أن مشهدنا السياسي بعد 2003 أنتج ديموقراطية مخادعة حالها حال قاعة (الهيثم) في الحمدانية، ظاهرها عرس وباطنها مأتم.

والآن بعد أن نثرت النيران أشلاء الفاجعة في كل أرجاء العراق، أما آن الآوان لكي تصحو الضمائر وتفتح (الصندوق الأسود) لمآسينا وفواجعنا، ومن ثم تشرع بمراجعة جادة وشجاعة لأخطاء الماضي الكارثية؟

هل سيتحلى الساسة في بلدنا بروحية الأم التي القت بنفسها وسط النيران وضحّت بروحها من أجل إنقاذ إبنها الصغير؟.

لا أعرف الجواب، وليس بوسعي قراءة المستقبل، ولكني على يقين بأن تلك الأم الخالدة ستبقى رمزاً للإيثار يُلهم الأحرار، وفي ذات الوقت يُعذّب ضمائر المفسدين والعابثين لو كان لديهم بقية ضمير.

***

اكتب إلى الكاتب طالب الأحمد

في المثقف اليوم