أقلام حرة

فاضل الجاروش: السببية لا تُثبت وجود خالق

السببية لا تُثبت وجود خالق وانما فقط تحقق احتمالا لذلك الوجود

كان الاستدلال بالسببية لإثبات وجود الخالق من الاستدلالات المنطقية لقرون طويلة، الا أنها في الحقيقة وبحسب فهمي لا يمكن أن تقدم دليلا تاما على وجود الخالق فهي بذاتها قاصرة عن ذلك إلا بالارتكاز على دالة أخرى لأن النظرية تعتمد الشرطية بين المقدمات والنتائج دون النظر إلى الفارق في الماهية بين هذه المقدمات والنتائج، فعندما تقول إن « الأثر يدل على المسير » فأنك هنا فقط تثبت أن هناك سببا لهذا الأثر ولكنك لا تثبت ماهية المسبب ولا تستطيع أن تسمي هذا المسبب حرفيا الا اذا كنت تعرف مُسبقا على وجه الدقة ماهية ذلك المسبب كالقول المأثور بأن «البعرة تدل على البعير » لأن هذه المقولة كانت تصدر عن من كان يعيش في بيئة الصحراء حيث كان سكان الصحراء يعرفون البعير بعينه

ويعرفون أن هذه البعرة لهذا البعير قطعا لذلك فإن هناك هذه الشرطية الموضوعية التي تكون فيها النتيجة مُعَّرفة والمُقَدِمة مُعَرفة أيضا، من هنا نفهم أن حدود ما يمكن إثباته من قانون السببية هو إثبات السبب وليس إثبات المُسبب، ولأن السبب يعتبر فعل فلابد أن يكون له فاعل ولأننا نتحدث عن قانون يُفترَض أن نستخدمه لإثبات الخالق فأن الأصل في ذلك إثبات الفاعل وهو المسبب لهذا السبب وهذه مرتبة من البحث تعتبر الدالة الأساسية لجعل قانون السببية مناسبا لإثبات وجود الخالق، حيث أن هذا القانون دون الارتكاز على هذه الدالة يُصبح دون قيمة تذكر

 ماهي هذه الدالة التي تجعل قانون السببية مناسبا لإثبات وجود الخالق؟

اذن نحن هنا أمام حقيقة أن هناك نتيجة لمقدمة وهي شرطية حتمية ولكننا أيضا أمام انسداد موضوعي لا يتعلق بالنتيجة وانما يتعلق بالمقدمة ؛ وهو أن هذه المقدمة تحتاج إلى تعريف والتعريف يحتاج إلى أدوات لرسم صورة مطابقة لهذا المُعَرف، فمثلا عندما تريد ان تُعرف حيوانا يعيش في البحر فانك هنا تمتلك في مفكرتك عددا من الصور الواقعية لعدد من المحتملات مما يعيش في البحر ؛ لذلك ستظهر في مخيلتك هذه الصور من اسماك مختلفة أو أي حيوانات بحرية سبق لك مشاهدتها، وكذلك مثال «البعرة والبعير» فأنك تعرف البعير واقعيا لذلك فأنك حتماً ستربط بينه وبين مخلفات البعير وهو ربط موضوعي

وفي حالة الأثر والمسير كذلك فإن الربط هنا موضوعي لأنك تعرف مثلا أن اطار السيارة على الأرض يدل أن هناك سيارة قد مرت من هنا وذلك لأنك تعرف السيارة وقد شاهدتها مسبقا وتعرف أن لها اطارات، أما نسبة المخلوق إلى خالق من خلال نفس الاستدلال فأنه سيكون قاصرا من ناحية ان المقدمة غير مُعَرفة مُسبقاً بمعنى أنكلا تملك في مفكرتك صورا لكي تستخدمها أو تطابق بها هذا المُسبب في الخلق، فقد يكون المسبب هو الله الذي نؤمن به وقد يكون بالنسبة لغيرنا مُتحكم آخر مختلف أو أن تكون الطاقة هي المسبب أو أن الصُدفة قد أوجدت سببا لنشوء الكون كما يدعي البعض من المشتغلين بالعلوم التطبيقية أو أنه التطور في كون أزلي موجود بذاته وغير مخلوق وعليه فإننا هنا نحتاج إلى إسقاط الاحتمالات الأخرى لكي تكون مقدمتنا والمتعلقة بالنتيجة مقدمة عقلانية : من هنا فإن أي مقاربة مادية تتعلق بمقدمة الخلق ستجعل احتمال وجود خالق منتفية موضوعيا لأنها ستكون مضطرة لاستخدام أدوات الواقع المادي الذي يتناسب مع أقصى التصورات البشرية المُتاحة، وهي الاشكال التي مرت عبر التاريخ البشري في البحث عن الٰه والذي لم يتمكن فيه هذا الإنسان من أن يتصور خالقا خارج قدرة الاستيعاب المتعلقة بالمادة ولذلك فإن تصوره كان يراوح بين المراتب المادية الأربعة والتي لن تفرز أكثر مما أفرزت في الماضي من أشكال محتملة للآلهة من واقع هذه المراتب، حجراً أو نهراً أو شجراً أو ريحاً صرصراً أو ناراً وجمراً أو شمساً أو قمراً لذلك فأن خالقا خارج هذا التصور المادي لا بد له أن يكون مفهوما على مستوى آخر أعلى من أدوات المادة وذلك هو الحكم العقلي الذي يحدد ما يعقل ومالا يعقل دون الحاجة إلى تصور أو تحديد وعليه يُصبح قانون السببية معلقاً على إثبات عقلانية المسبب وهي بتقديري الدالة الوحيدة القادرة على أن تجعل السببية قاعدة ارتكاز في إثبات حتمية وجود الخالق؛ ولمعرفة أن المسبب لهذا الخلق عاقلا مدركا لما يفعل فإننا بحاجة إلى إثبات وجود الفعل العاقل وذلك ستجده في مقاصد الخلق، حيث أن كل الوجودات لها مقاصد ولن تستطيع أن تستثني اي تفصيلة في الوجود من هذه القاعدة ؛ ولأن القصد فعلٌ عاقلٌ فلابد له من فاعل عاقل ومن هنا فإن كل الاحتمالات الاخرى المطروحة من قبيل أن المسبب صدفةً أو طاقة أو وجودا ذاتيا ازليا أو غير ذلك من الطروحات ستسقط حتما لأنها لن تستطيع نفي وجود المقاصد في الخلق

***

فاضل الجاروش

في المثقف اليوم