أقلام حرة

بكر السباتين: غزة غيرت العالم وصفقة الأسرى انتصار للمقاومة

كيف استلهم بوتين تجربة غزة في تحصين القرم.. واسئلة أخرى

يعتبر قطاع غزة المحاصر من قبل الاحتلال الإسرائيلي، أكبر سجن يشهده العالم، حيث يعيش ما يزيد عن المليونين من الفلسطينيين - وغالبيتهم من اللاجئين الذين سلبت أراضيهم عام 48- في مساحة شريطية ضيقة تقع جنوب الساحل الفلسطيني عند ملتقاه مع سيناء.

وهو أحد منطقتين معزولتين (الأخرى هي الضفة الغربية) داخل حدود فلسطين الإنتدابية لم تسيطر عليها القوات الصهيونية في حرب 1948، ولم تصبح ضمن حدود دولة "إسرائيل" الوليدة من رحم النكبة آنذاك، إلى أن تم احتلالها عام ١٩٦٧.

نحن نتحدث عن مدينة غزة الظاهرة بمبانيها الشاهقة فوق الأرض حيث يقيم الأهالي ويمارسون نشاطاتهم الحياتية، فيما توجد تحت الأرض مدينة أنفاق رديفة بكل مرافقها الإدارية، ومصانع السلاح المجهزة باحتراف، ومراكز البحث العلمي التي تساهم في تطوير المنتجات العسكرية المصنعة محلياً وخاصة ما زودت به إيران المقاومة عبر المسالك السريّة، بالإضافة إلى مولدات الكهرباء التي تعوض نقص الطاقة إذا ما ضربت مصادرها فوق الأرض.

وهي أنفاق متشعبة منها الهجومية التي تنتهي بمداخل ضيقة كيلا تسمح للجندي الإسرائيلي المدجج بالعتاد من اقتحامها، كما شاهدنا في فيديوهات نشرت عبر الفضاء الرقمي،

وتوجد ايضاً أنفاق فرعية لربط المرافق ببعضها، وتستخدم لنقل البريد الداخلي بواسطة الدراجات الآلية لتحييد الاتصالات عبر الهواتف النقالة كونها مكشوفة لأجهزة الرصد الإلكتروني التابعة لجيش الاحتلال، أو التنقل وفق أوامر تنسيقية بين مركز القيادة والأقسام ذات العلاقة.

وهناك طرق رئيسة لعبور الشاحنات متعددة الأحجام والتي تؤدي إلى مستودعات التخزين المتعددة الأغراض، إلى جانب عربات سكة الحديد من النوع المستخدم في المناجم .

وتتراوح مستويات طوابق مدينة غزة السفلية ما بين 30-60 متراً تحت الأرض.

ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال بعض البرامج الثقافية التي بثتها قناة الجزيرة وتحليلات الخبراء العسكريين على مجريات الحرب ووقائعها عبر الفضائيات وعلى رأسهم اللواء الدويري.

هذه الأنفاق كان من شأنها أن تحيّد سلاح الجو الإسرائيلي الذي استفرد بالفلسطينيين منذ 56 يوماً وتحويل غزة إلى أرض محروقة، توطئة للاجتياح الفاشل الذي انتهى بقبول نتنياهو لهدنة مؤقتة.

ولكن كيف أرغم نتنياهو على القبول بالهدنة وإبداء تراجعه عن أهدافه التي أهمها اجتثاث حماس وتهجير أهل غزة إلى سيناء ثم استعادة الأسرى؟

حدث هذا التحول لعدة أسباب أهمها:

- تنفيذ المقاومة في غزة هجوم مضاد ضد جيش الاحتلال المتمركز حول مستشفى الرنتيسي وقصف تل أبيب بصواريخ المقاومة وما نجم عن ذلك من خسائر طائلة في المعدات والأرواح رغم طول امد الحرب المستعرة دون توقف.

- أيضاً تدحرج طوفان الأقصى إقليمياً بمشاركة حزب الله المستمرة في مواجهة جيش الاحتلال عبر الجبهة الشمالية، وخشية واشنطن من تحولها إلى حرب إقليمة قد تتدخل فيها إيران مباشرة. مع أن الأذرع الإيرانية ما فتئت تستهدف القواعد الأمريكية في العراق.

أضف إلى ذلك قيام جماعة أنصار الله الحوثي بالإعلان، يوم الأحد الماضي، عن احتجاز "سفينة الشحن الإسرائيلية "غالاكسي ليدر" جنوبي البحر الأحمر واقتيادها إلى ميناء على الساحل الغربي لليمن حيث تم أسر من فيها.

وعليه فقد وجه الحوثيون تهديداتهم نحو السفن ذات العلاقة بالاحتلال، بمنعها من عبور باب المندب، حيث أرغمت بعض السفن على الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح نحو وجهتها، فيما ضاعفت شركات التامين البحري قيمة التامين على تلك السفن ما رفع من اسعار السلع.

وأدى ذلك بالمتضررين لممارسة الضغوطات على واشنطن كي توقف الحرب على غزة وفق شروط الحوثيين المساندة للمقاومة.

- ثم تأتي الخسائر المادية والبشرية والمعنوية التي يتكبدها الاحتلال (٢٥٠ مليون يومياً) من جراء شنّه حربٍ مجنونةٍ على القطاع، وبالتالي تراجع كافة القطاعات الاقتصادية الإسرائيلية، ما استرعى من الحكومة مراجعة حساباتها بالتفكير الجاد نحو إعادة جزء من الاحتياطي، عساها بذلك تعوّض نقص الموارد البشرية لصالح تلك القطاعات المتضررة.

- عدم قدرة نتنياهو على استعادة "الرهائن" من أيدي حماس، ورضوخ القيادة الإسرائيلية لمطالب المتظاهرين الإسرائيليين بضرورة إبرام صفقة تبادل الأسرى مع فصائل المقاومة في غزة، التي بدا وكأنها تتحكم بالموقف داخل"إسرائيل" من خلال السنوار .

وبعد جهود مضنية بذلها الوسطاء القطريون والمصريون تمت عملية تبادل الأسرى بين حماس و"إسرائيل" على مرحلتين من خلال الهدنة التي نُفِّذَتْ ابتداءً من الساعة السابعة صباح الجمعة الماضية والتي اخترقها جيش الاحتلال في عدة حالات فردية، تسببت إحداها بارتقاء شهيدين.

- ثم تأتي هزيمة السردية الإسرائيلية على صعيد عالمي إزاء السردية الفلسطينية وافتضاح جرائم الاحتلال التي أدّت إلى سقوط أكثر من 15 ألف شهيد كان جلهم من الأطفال والنساء وكبار السن.

وهذا الأمر لم يمنع اهل غزة من رفض التهجير القسري إلى سيناء وقد ساعد في ذلك، الرفضُ المصري الرسمي المتصلب، فيما واجه الغزِّيّون الاحتلال بالصمود الأسطوري، وازداد تمسكهم بمقاومتهم؛ حتى كسبوا احترام العالم وتحول الدم الفلسطيني المراق إلى أيقونة عالمية شديدة التأثير، لدرجة أن غزة امتلكت القدرة على تغيير العالم، واستعادة اسم فلسطين لتتبوأ مكانتها بعد أن طمستها المنصات المجيرة للاحتلال مثل فيسبوك ويوتيوب وغيرها، لولا تحرر المواقع الأكثر استقلالية من نير الضغوطات الصهيونية على نحو موقعي: إكس وتكتوك.

- إن انتصار المقاومة في حرب الإرادات والعقول وما بذله الشعب من ضحايا لم تذهب سداً؛، لأنها حولت الشعب الفلسطيني إلى ظاهرة مؤثرة عالمياً، وقد وصل تأثيرها إلى الشعوب الحرة التي انتفضت مع غزة من خلال دعمها بالمظاهرات العارمة الكبرى التي طافت العواصم العالمية، ناهيك عن دعم حركة مقاطعة المستوطنات الإسرائيلية BDS التي كبدت الاحتلال خسائر بالمليارات اعتماداً على قرار المقاطعة الأوروبية للمستوطنات، نتيجة حكم المحكمة الدولية في لاهاي في العام 2004، والقاضي بأن المستوطنات الإسرائيلية غير شرعية، وتخرق البند 49 من ميثاق جنيف، الذي يحظر على دولة محتلة أن توطن سكانها في المناطق التي احتلتها.

فما بالك الآن والشعب الفلسطيني في غزة يتعرض لحرب إبادة معلنة، ربطها نتنياهو بنبوءة أشعيا التوراتية التي تدعو لإبادة الخصوم.

- لقد وحد الصمود الغزيّ بين شرفاء العالم والمسلمين بشتى مذاهبهم، حتى أن بعض الدول والأقاليم قررت قطع علاقتها مع الاحتلال مثل: بوليفيا ولشبونة في شبه الجزيرة اللإيبيرية.

وفي 18 نوفمبر الجاري أعلنت المحكمة الجنائية الدولية تقدم كل من جنوب أفريقيا، وبنغلادش، وبوليفيا، وجزر القمر، وجيبوتي" بطلب للتحقيق في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وفق ما قاله المدعي العام للمحكمة كريم خان.

ويجمع الخبراء الذين تحدثوا عن معجزة غزة عبر القنوات الفضائية بأنها استثنائية حتى وصلت ذروتها في السابع من اكتوبر الماضي إذْ نفذت المقاومة عملية "طوفان الأقصى" فكسرت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ارتكازاً على صراع العقول والإرادات.

ومن هنا يأتي تخوف أصحاب خيار "نشر القوات الدولية" من أن يُفْهَمَ على أنه جاء لحفظ ماء وجه الاحتلال، ما قد يدفع بالمقاومة لإجهاضه بالحديد والنار.

إذْ يصر قادة حماس على أن غزة شأن فلسطيني صرف.

ولعل تجربة غزة ألهمت بوتين في التخطيط لبناء نفق استراتيجي تحت البحر يربط بن البر الروسي وشبه جزيرة القرم من خلال الشركات الصينية؛ لمنع الطيران الأوكراني المدعوم غربياً من استهداف جسر القرم الاستراتيجي، الذي ما يزال هدفاً حربياً مع أنه تعرض للتفجير مرتين.. وخاصة أن الفكرة حققت نجاحاً مبهراً في غزة.

هذه غزة التي بصمودها الأسطوري غيرت وجه العالم.. لا بل اثبتت بأن طائر الفينيق الكنعاني الذي يخرج من بين الرماد أشد عنفواناً هو كائن فلسطينيّ وجد ملاذه المعنوي في غزة التي أعادت كتابة السردية الفلسطينية باقتدار.. واثبتت بأن الرواية الصهيونية قائمة على التضليل.

***

بقلم: بكر السباتين

26 نوفمبر 2023

في المثقف اليوم