مدارات حوارية

مدارات: حوار مع ألاديب الباحث كريم مرزة الأسدي (2-2)

hamodi alkenanikarem merzaالحلقة الثانية من مدارات حوارية مع الاديب والباحث الاستاذ كريم مرزة الاسدي، فأهلا وسهلا به في صحيفة المثقف.

 

س9: حمودي الكناني: استاذي العزيز الشاعر والباحث كريم مرزة الاسدي أعرف ان موضوعة البحث تستهويك جدا وتأخذ من وقتك الكثير وكتبت الكثير من البحوث والكتب في مجالات الادب واللغة والتاريخ .. ولقد خرجت علينا ظاهرة الكتابة الايروسية او (الايروطيقيا) ولربما يظن البعض ان هذا ما جاءت به الحداثة .. ولما نقرأ معلقة الامير الضليل امرؤ القيس وما نسب الى ابي نؤاس نجد ان العرب هم اول من اوجد هذا الضرب من الادب .. فهل بحثت في ذلك وماذا تقول عنه؟

ج9: كريم مزرة الاسدي: لماذا؟: خرجت علينا ظاهرة الكتابة الايروسية او (الايروطيقيا)؟ لا من حيث التسمية !!، إذ تعني (الايروتيكية)، لأنّ حرفي الطاء والقاف غير موجودين باللغة اللاتينية، والتاء للنسبة تعود للكتابة، وإلا فهي كما كتبت بالألف الممدودة - هذا توضيح للقارئ الكريم-، وإنّما من حيث خرجت علينا ! ربما تقصد جدّدت مرّة ثانية، وكثرت في النصوص النثرية، واخترقت بعض بنات حواء حاجز خدش الحياء الأنثوي، بل الذكوري كجمانة حداد ومجلتها الايروتيكية (جسد) التي أثارت ضجة كبيرة، وأحلام مستغانمي وكتاباتها، ومن قبل كتب الروائي المغربي محمد شكري روايته الشهيرة (الخبز الحافي)، وقصّ فيها تجاربه الشنيعة مع العاهرات و... ولكن هذا التوجه في الكتابة موجود منذ القدم سيان في الأدب الهيليني اليوناني أم في الأدب العربي، ومنهم من يرجع جذوره إلى الكتاب المقدس (الأنجيل - سفر حزقيال) . وأدبنا العربي القديم مليء بهذا النمط من الكتابة شعراً ونثراً، فابن حزم في (طوق حمامته) تحدث فيه عن الحب وشجونه، ومسالكه وفنونه، ووالإمام عبد الرحمن السيوطي، أعلنها صراحة في (نواضر الأيك في معرفة النيك)، وكذلك تجد الراغب الأصفهاني في (محاضرات أدبائه)، وابن عبد ربه في (عقد فريده)، أوغلوا قي هذا الأسلوب الإيروتيكي، في إبراز جمالية الأعضاء التناسلية، والصفات الثانوية، والحركات الجنسية المغرية، ولعل قصيدة يتيمة الدهر لدوقلة المنبجي (نسبة لمدينة منبج السورية)، وقيل لأبي نؤاس، وقيل لغيرهما، هي قصيدة صارخة على نهج الإيروتيكية):

و لها هَنٌ رابٍ مجسته ***وعر المسالك حشوه وقدُ

فإذا طعنتَ طعنتَ في لَبَدٍ *** وإذا نزعــــت يكاد ينسد

وأصل الكلمة أساساً جاءت من كلمة (إيرو) اللاتينية، وتعني (طفل)، و(إيروس) طفولي - الكتابة اللاتينية بالهامش - وأحياناً تنسب النسبة لأحد آلهة الحب والشهوة عند الإغريق إيروس فتتشكل كلمة (إيروسية)، أ وهي تقابل مصطلح الايروتيكيا يعني الحب الطفولي الأناني، أو الحب الشهواني، ودافعه غريزة التملك، التي تبدأ مع ولادة الإنسان - أو من المرحلة الجنينية - كإصرارعلى التعلق بالحياة، قبل تواصله الاجتماعي مع الآخرين، وتعلمه اللغة التي هي أحد الوسائل المهمة لهذا التواصل، وعادة كلّما اندمج الإنسان مع المجتمع خلال فترات الطفولة بمراحلها الثلاث، ومن بعدها فترات المراهقة أيضاً بمراحلها حسب التقسيم، تضعف هذه الظاهرة عند الفرد الطبيعي الناضج، وهذه الظاهرة ليست مكتسبة، وإنما غريزة إنسانية موروثة - كما أسلفنا - ويسمى الهرمون المحفز لإظهارها (الأكسوتوسين)، ولا تتخيل هذا الهرمون على سوية واحدة، وضرب واحد، وأفرازاته واحدة في كل البشر، وبالتالي لا يمكن أن تطلب من كل الناس أن يكونوا متشابهين في السلوك اتجاه الغريزة الجنسية !! هذا محال، ومن هنا يستفحل الصراع بين غريزتي التملك الشهواني،

 والترابط الاجتماعي، وما حدده الشرع والعرف والخلق، هذا الهرمون يتشكل حسب الشفرة الجنينية المرتسمة على الحامض النووي (.دي . أنْ . آ) والتي بموجبها يلملم الحامض النووي الآخر (آر . أنْ . آ) الحوامض الأمينينية، وهي وحدات تكوين البروتين، وما الهرمونات إلا بروتينات، ويأتي هذا الرسول ويقف على الريبوسيمات، الملتصقة بالحامض النووي الأول، حامل الشفرات، لصنع الهرمون، ماذا أريد أن أقول،؟ أقول أن الحب الشهواني التملكي غريزة موروثة، كالأمومة والعطش والجوع، وليس بتعود مكتسب، وإذا كان هذا الهرمون يضعف مفعوله تدريجيا حتى النضوج، وما بعد النضوج، ليسعى الإنسان إلى الحب الإنساني الطبيعي ومساعدة الآخرين والتفاهم معهم عقلياً، نرى أنه يستمر مفعوله بقوة عند الفنانين، ومن الفنانين الشعراء، وتستمر طفوليتهم، وأنانيتهم التملكية، وتسامحهم بتناسي الإساءة لهم وتخيلهم الواسع، والذي هو أساس الإبداع الشعري والفني - سنأتي عليه في السؤال القادم -، وعلى أغلب ظني أن الفارق بين المدرستين الرواقية والإبيقورية بنيت على هذا الأساس دون معرفتهم بهذه الأمور المستجدة من هرمونات، وشفرات، وجينات ! وهاتان المدرستان، هما نهج حياة، فمؤسس الرواقية هو زينون الرواقي، الذي يرى أن سعادة الإنسان تكمن في سعيه للفضيلة والحكمة، وأن لا يرضى بما لا يمكن تغييره، حبّه لل يجب أن يسعى للتحلي بالفضيلة التي هي أعظم الخصال الحميدةبمن يتحلى بالحكمة والفضيلة أن يرضى بما لا سبيل إلى تغييره، أما الأبيقورية فقد أسسها أبيقور الذي اعتمد في فلسفته على مبدأ اللـّذة والمتعة، واستغلالهما قبل فوات الآوان، ولكن جملها بالاعتدال والهدوء.

 

س10: حمودي الكناني: الشعر ديوان العرب به تطيب مجالسهم ويتغنون ويتفاخرون بشعرائهم وكان الشاعر لسان حال القبيلة او الجماعة ووزير اعلامها، يشحذ الهمم ويقوي العزائم وسؤالي ما سر سيطرة الشعر على نفوس السامعين ومن اين اتت هذه السيطرة؟

ج10: كريم مرزة الاسدي: الإنسان وجهة الإنسان، وما عدا ذلك من طبيعة خلابة، وكون رهيب، وكائنات حية غير ناطفة بما يفهم الإنسان، تبقى بالنسبة إليه كائنات صماء بكماء لا بالعير ولا بالنفير، لذلك لولا الإنسان ما عاش الإنسان، وهذا اللغز الخافي هو الذي يجعله يستقصي أخبارهم، ويدرس تاريخهم، ويتطلع إلى مستقبلهم، ويجوب العالم راكضاً لاهثاً وراء أثارهم، يتخيل حياتهم الغابرة الدارسة من أطلال ومتحجرات، يقول البحتري في وصف إيوان كسرى، وهي من أروع قصائده على الإطلاق، وأنت أعلم من هو البحتري؟!

صنت نفسي عما يدنس نفسي *** وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُــــــلِّ جِبسِ

وَتَماسَكتُ حينَ زَعزَعَني الدَهـ *** ـرُ التِماسًا مِنهُ لِتَعسي وَنَكسي

وَاشتِرائي العِراقَ خُطَّةُ غَبنٍ *** بَعدَ بَيعي الشَـــــــــآمَ بَيعَةَ وَكسِ

حَضَرَت رَحلِيَ الهُمومُ فَوَجَّهـ *** ـتُ إِلى أَبيَضِ المَـــدائِنِ عَنسي

أَتَسَلّى عَنِ الحُظوظِ وَآسى **** لِمَحَلٍّ مِن آلِ ســـــــــاسانَ دَرسِ

أَذكَرتِنيهُمُ الخُطوبُ التَوالي *** *وَلَقَد تُذكِرُ الخُطــــــــوبُ وَتُنسي

وَهُمُ خافِضونَ في ظِلِّ عالٍ *** مُشرِفٍ يَحسِــــــرُ العُيونَ وَيُخسي

وَإِذا مارَأَيتَ صورَةَ أَنطا *** كِيَّةَ اِرتَعتَ بَيـــــــنَ رومٍ وَفُـــــــرسِ

مُزعَجًا بِالفِراقِ عَن أُنسِ إِلفٍ ***عَزَّ أَو مُرهَقًا بِتَطليقِ عِـــــــرسِ

هذه القصيدة نظمها البحتري، بعد أن قتل المنتصرومعه قائدان تركيان ووزيره الفتح بن خاقان (247هـ) أباه المتوكل، ووزيره الفتح بن خاقان، وكان معهما في مجلس الشرب هذا البحتري في أروع القصور وأجملها وأبهاها في الدنيا، وأعني (قصر الجعفري) في سامراء، فردوس الخليفة وجلسائه، ومن أقرب حلسائه المخصوصين البحتري، وعندما نُكب الشاعر، وهجا المنتصر، انحدر إلى بغداد، ومرّ على المدائن، وناجى نفسه، وخفف عن آلامه النفسية، وتأمل الإنسان بالإنسان، وتلمس الآثار،والمعارك بين الروم والفرس، ويقيني لو ذهب للجبال الصماء لمات كمذا، إن في المحادثة مع الإنسان، أو في التأمل في ما يخلفه من أثار، تلقيحاً للعقول، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم، وتنقيحاً للأدب

يقول أبو سعيد السيرافي: سمعت ابن السراج يقول: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه، فأنشدنا قوله:

ولقد سئمت مآربـي *** فكأن أطيبها خبـيث

إلا الحـديث فـإنـه *** مثل اسمـه أبداً حديث

فالإنسان يهمه حديث الإنسان عن نفسه وغيره، ومجتمعه ودولته وعالمه حتى في نكباته، بل وحتى على فراش موته، وهذا ما يحققه له الشعر بأمتياز لبواعثه النفسية، وتجاربه الإنسانية، ومعانيه السامية، وبلاغته الراقية، وحكمه الرائعة، ومن هنا خُلـّد المتنبي العظيم

 وماالدهر الا من رواة قصائدي *** اذا قلت شعرا اصبح الدهر منشدا

 يرويه الدهر إضافة لحكمه وخوالجه الإنسانية النافذة لسهولة حفظه وترديده، وقابليته للحدو والغناء

تغن بالشعر إما كنت قائله*** إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ

الحقيقة من نقطة صدق المشاعر الإنسانية، ولو كانت أنانية بحتة، لأنها صادرة من إنسان شاعر نرهف الحس - لا للناظم الشعر الميت - هو أحد أحد أسباب خلوده المهمة، لذلك يذهب الدكتور زكي مبارك إلى أن قول أبي فراس الحمداني:

معللتي بالوصل والموت دونه *** إذا مت ظمآناً فلا نزل القطرُ

أصدق شعورا، وأحق بالبقاء والخلود من قول المعري المنافق لإبراز وجوده، وإظهار نفسه بالغاضل المتفاني في قوله:

فلا هطلت عليّ ولا بأرضي *** سحائب ليس تنتظم البلادا

ولهذا ساند العبقري بقوة السيد أحمد الصافي النجغي، وعدّه أروع شاعر ولدته الأمة العربية، في حين - ومعه صديقه المازني - جردا شوقي من الشاعرية حتى الممات، لأنه لم يتمتع بالأحاسيس الشعرية الصادقة، ورؤيتي رؤية العقاد ومدرسته.

وإضافة أخرى وأخرى، إن جمال لغتنا ونفوذها في الوجدان العربي، وتغلغلها في أعماق أعماق العرب، وخصوصاً بعد نزول القرآن القرآن الكريم،أعطى الشعر مكانة مرموقة وممزوجة في الوجدان العربي لا يمكن نزعه من النفوس - أطلت معكم عذرا-، وأضيف الأخرى، الشعر تخييلي، كما ذكرنا في النقطة السابقة، والشاعر بعيد بعيد في مدى خياله، والخيال ليس له مكان محدد، ولا زمان معين، لا يعتمد على التراكم المعرفي كالعلم، وإنما تخيّل هومبروس وامرئ القيس والمعري ودانتي، وجابوا الفضاءات والكون، وهم في عصورهم، كما يتخيّل شعراء اليوم، بمعنى الشعر ليس فيه قديم وحديث إلا من باب معرفة زمان الشاعر وبيئته، لامن حيث مقياس جمال الشعر وتذوقه، فلا المتبي استطاع أن يختزل امرئ القيس، ولا الجواهري تمكن من تغطية المتنبي، ولا ...ولا، وهكذا في الآداب الأجنبية، فالشعراء ليس كالعلماء، وكما يقول المازني، فلا:

ويدفن بعضهم بعضاً وتمشي *** أواخرهم على هام الأوالي

 

س11: حمودي الكناني: جميل جدا وهل في تصورك ان لقصيدة النثر نفس الاثر على المتلقي وهل بامكانها ان تحل محل القريض ... لماذا لا ولماذا نعم؟

ج 11: كريم مرزة الاسدي: تسألني، وأجيب بكل صراحة، ليس لقصيدة النثر تأثير على وجدان السامع العربي إلا كنص نثري يعتمد على المُلقي في كيفية إداء حروفه وكلماته وجمله، وتجسيد صوره، ليستقطب ذهن المستمع ووجدانه دون أن يشاركه هذا المستمع ترديداً وانفعالا وتصفيقا وإنشاداً وحماساً، كما هو حال الشاعر الشاعر العمودي أو التفعيلي الموزون، أما القارئ فيستقبله كمضمون وتشكيل بلا حياة أوغناء وحدو، وإنما مضمون وتشكيل لنص نثري يبوح به كلّ من هبّ ودبّ لاستقراغ الكبت النفسي، والبوح الإنساني لما في الوجدان والضمير، كلّ بمقدار ثقافته وقدرته اللغوية بلا حدود ولا قيود، ويابسه يأكل أخضره، ومن المضحك المبككي أن أحد رواده الكبار الذي يقف مع أدونيس ويوسف الخال، وهو ثالث الأثافي، وأعني الدكتور عبد العزيز المقالح، الناقد والأديب المعروف، رئيس جامعة صنعاء سابقا، يستند على رمز شامخ من رموز أدبنا العربي، ألا وهو أبو العلاء المعري ليدعم تجربته الفتية، وقد عبته ورددت عليه لا لهذا الدعم، وإنما لاعتباره كتابة القصيدة العمودية إثماً، وعلى أغلب الظن كان يعني الشاعر اليماني محمد أنعم غالب في عدم خوضه مجال الشعر العمودي، وإلا فالدكتور يثمن وكتب ياعتزاز شديد عن البصير عبدالله البردوني، وأنا أطالب باصرار شديد، لا يجوز لكاتب قصيدة النثر أن نطلق عليه صفة شاعر إلا بعد خوضه تجربتي العمودي والتفعيلة بنجاح باهر، مهما يكن يقول الدكتور في كتابه (من البيت إلى القصيدة) " ويكاد القارئ العادي ينسى نفسه وسط الزحام، لكنه لابدّ أن أن يألف الجديد، ويأنس إليه، وأن يردد مع حكيم المعرة:

ستألف فقدان الذي قد فقدته *** كإلفك وجدان الذي أنت واجدُ "

وليسمح لي الدكتور المقالح أن أستعير كلمته بحق الدكتور طه حسين حين كتب عن الشاعر العربي الأموي العصر (وضاح اليمن) قائلاً " غريب أمر الدكتور طه، كيف يصف شاعرا هذا مستواه الفني بالإسفاف والابتذال والسقوط واللين " (الشعر بين الرؤيا والتشكيل ص 79)، وغريب أمر الدكتور المقالح كيف وصف كتابة الشعر العمودي بالأثم، ويعتبر عدم كتابته مأثرة تستحق التمجيد؟ وهل يتخيل أن الشعر العمودي الأصيل أصبح يتيماً، لا يوجد مَن يدافع عنه؟ وكيف سمح أن يطلق نعت شاعر على كاتب لم يكتب بيتاً من الشعر؟!! هذا خلط، وفرض الرأي بالجور، وبنظرة غير عميقة، أين الكان كان، والمواليا، والقوما البغدادي؟ بل أين الموشحات التي أخذت مدى بعيدا، وأشواطاً طويلاً، وأين البند الرائع؟ وهذا مثاله لابن الحلفة الحلي، وهو أرقى بكثير، مما يسمى بقصيدة النثر:، اقرأ من البند، وقارن وتأمل:

" أهل تعلم أم لا أن للحب لذاذات؟

وقد يعذر لا يعذل من فيه غراماًوحوى مات

فذا مذهب أرباب الكمالات

فدع عنك من اللوم زخاريف المقالات

فكم قد هذبّ الحب بليدا

فغدا في مسلك الأداب والفضل رشيدا"

الكرة الآن في ملعبهم، يتقاذفها الداني والعالي، القوي والضعيف، الصغير والكبير، ومن حق الناس أن تعبر عن مكنوناتها وبوحها وآلامها وأمالها وأتراحها وأفراحها كيفما تشاء، ولكن على أغلب الظن لا يبقى منه إلا الدر الثمين لشعراء مرّوا بالتجربتين العمودية والتفعيلية، وترجم للغات الأجنبية، واستطاع أن ينفذ بقدرة هائلة ككتاب اليسوع (النبي) لجبران خليل مثلاً .

 

س12: حمودي الكناني: انت لم تكتب الا قصائد العمود والتفعيلة ولم تكتب قصائد النثر .. هل هو بسبب عزوفك عن هذا الجنس الادبي الطاغي على الساحة الان ام ان الشعر لديك هو ما كان ذا قافية وايقاع وله القدرة على ان يغنّى وتطرب له النفوس؟

ج12: كريم مرزة الاسدي: الشعر ليس بمفرداته ومضمونه ومعناه وصوره فقط، بل بموسيقاه وانسيابه وأشجانه وألحانه، تقرأه بنغماته الشجيه الصادرة من أعماق قلوبٍ متأججة شاعرة لتطرب إليه، وتتغنى به، فهو ليس مجموعة لحبات ٍمن العنب متكتلة متراكمة بترتيبٍ معين، وتنظيم دقيق لتمنحك صوراً جميلة، وتشكيلاتٍ بديعة لمعان ٍعميقة على أحسن الأحوال ..وإنما هو تحول نوعي تام من حالٍ الى حال، ليصبح في صيرورة جديدة ..كأس مُدامةٍ وكرعة راح ٍ " وإنَ في الخمر معنى ليس في العنب ِ" .

يقول أبو العباس الناشىء الأكبر عن شعره:

يتحيرُ الشعراءُ إنْ سمعوا بهِ ***في حُسن ِ صنعتهِ وفي تأليفــهِ

شجرٌ بدا للعين ِحُســـنُ نباتهِ ***ونأى عن الأيدي جنى مقطوفهِ

وللشعر ركنان أساسيان لابدَّ منهما في كلّ شعر ٍ،،وهما النظم الجيد ونعني به الشكل والوزن أولاً (ويخضع كما هو معلوم لعلوم النحو والصرف والبلاغة والعروض)، ثم المحتوى الجميل أو المضمون الذي ينفذ إلى أعماق وجدانك، وتنتشي به نفسك دون أن تعرف سره، وتفقه كنهه، فهو الشعاع الغامض المنبعث من النفس الشاعرة .

وتسأل عن الناس، فالناس أجناس، فمنهم - كما تصنف نازك الملائكة بما معناه، وكما هو معروف - مَنْ يتذوق الشعر ولا يستطيع أنْ يدرك الموزون من المختل، وينطبق هذا على أكثر الناس، ومن الأقلية مَنْ تجده يستطيع أن ينظم الشعر بشكل ٍمتقن ٍ، ولكن لا تحسُّ بشعره نبض الحياة ونشوة الإبداع، وهذا هو الناظم، أمّا الشاعر فهو الذي يجيد النظم إجادة تامة، وتتأجج جذوته ليحترق، ويمنحك سرّ الإبداع، ولذاذة الشعر، تتحسّس بجماله، ولا تدرك أسراره - كما أسلفنا - والشاعر الحساس يرتكز لحظة إبداعه الإلهامية على مظاهر التأثيرات الوراثية التي تسمى بعلم النفس (الهو)، وما يختزنه في وعيه واللاوعي من معلومات وتجارب وعقد، ولك أن تقول ما في عقليه الباطن والظاهر (الأنا العليا)، ومن البديهي أن ثقافة المبدع بكل أبعادها الإيحائية واللغوية والمعرفية والسلوكية والفلسفية والتجريبية - والعلمية الى حد ما - تؤثر على القصيدة أو النص الأدبي.

ومِنْ الشعراء المتميزين مَنْ يتمرد على التراث الشعري القديم،وهؤلاءمن عباقرته الذين يمتلكون حقّ التجديد والتحديث، ومن الناس من يرفض القديم بحجة المعاصرة والتقليد، وهؤلاء يلجون عالم الشعر، وهم ليسوا بأهل ٍله، لأن ّ ما لا يكون لا يمكن أن يكون ! فالقدرة على الصياغة النغمية تكمن مع صيرورتها - وبدرجات مختلفة - الإنفعال الشديد، والإحساس المرهف، والخيال الخصب، والإلهام الفطري، وهذه بذور الإبداع متكاملة مندمجة بماهية واحدة، وبدونها لا تنبت النبتة الصالحة لتعطي ثمارها وأُكلها .

 ولفذلكة الأقوال نقول: نعم للتشكيل اللغوي المحكم، والتصوير الفني البديع، والتنظيم الواعي الدقيق دور كبير في بناء القصيدة، ولكنه دور مكمل يحتاج الى قدرات عقلية كبيرة، وثقافة موسوعية عالية ورفيعة (على قدر أهل العزم تأتي العزائم ُ)، ولكن - مرّة أخرى - الأعتماد على العقل وحده دون الغريزة الفنية والقدرة الموروثة إصالة أو طفرة، لتتفاعل هذه كلـّها حيوياً لحظة الإبداع وصناعة القصيدة، وبكلمة أدق ولادتها (وخلها حرّة تأتي بما تلدُ)، كما يقول الجواهري .لهذا يبدو لي ان (نور ثروب فراي) لا يميل الى قول العرب قديما (جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت بالصخر)، ويذهب الى ما ذهب اليه الجواهري، فكلّ عباقرة الشعر يغرفون من بحر وتولد القصائد عندهم ولادة، ثم يجرون بعض التعديلات اللازمة عليها، فمن المفيد أن أنقل إليك - أيّها القارىء الكريم - هذه الفقرة من كتابه (الماهية والخرافة) " القصائد كالشعراء، تولد ولا تصنع، ومهمة الشاعر هي أن يجعلها تولد وهي أقرب ما يكون إلى السلامة، وإّذا كانت القصيدة حية فأنها تكون تواقة مثله الى التخلص منه وتصرخ ملء صوتها بغية التحرر من ذكرياته الخاصة وتداعياته، رغبته في التعبير عن الذات وكلك تتخلص من حبال سرته وأنابيب التغذية المتعلقة بذاته جميع "، القصيدة ولادة عقبى التغذية الكاملة من نفس خلقت لكي تكون شاعرة، وليست صناعة لتصفيف حروف مهما بلغت ثقافتها.

 

س13: حمودي الكناني: الشاعر النجفي محمد صالح بحر العلوم اشتهر بقصيدة " أين حقي " والتي جاء فيها:

 (ليتني أسطيعُ بعثّ الوعي في بعض الجماجم

 لأُريح البشرَ المخدوع من شر البهائم

 وأصون الدين عما ينطوي تحت العمائم

 من مآسٍ تقتل الحقَّ وتبكي: أين حقي)

السؤال هو لماذا منعت هذه القصيدة في حينها وهل تظن ان فيها ما يسئ أم الرجل رصد الحقيقة وصورها كما هي نتيجة ما تعاني منه الناس من فقر وجهل ومرض وفاقة؟؟

ج13: كريم مرزة الاسدي: من غريب الصدف أن الشاعر محمد صالح بن السيد محمد صالح بن السيد مهدي بن السيد محسن بحر العلوم ولد في أول أيام عيد الأضحى المبارك، وأنا ولدت في المناسبة السعيدة نفسها، ولكن تولد هو في سنة (1326هـ / 1909 م)، أما أنا فولادتي سنة (1365 هـ / 1946م)، وكلانا من مدينة النجف الشرف، فهو من عمر أبي تماماً، الرجل من عائلة دينية معروفه عريقة، يرجع نسبها إلى المرجع الديني الكبير السيد محمد مهدي بحرالعلوم، المتوفي في النجف سنة (1212 هـ)وما بحر العلوم إلا لقب أطلقه عليه أستاذه محمد مهدي الأصفهاني لحدة ذكائه، وتبحرعلمه، شاعرنا كان جريء جدا، يتعاطف مع الفقراء والطبقة المسحوقة، سجن وعانى، واشتهر بشعره النضالي،ويطلق عليه (شاعر الشعب)، ولكن لا يبلغ مستوى شعره الفني، ولامتانة سباكته، ولا قوة بلاغته كشعر الجواهري العظيم، أو الرصافي بأي شكل من الأشكال، ولا حتى زجالة شعر الشبيبي والشرقي، وشهرته جاءت من معانيه، وجرأة مراميه وكان يكنى أبا ناظم، لذلك يخاطبه الجواهري، وهما جاران، ويكبره الجواهري بعشر سنوات:

أبا ناظم وسجنك سجني *** وأنا منك مثلما أنت مني

 وتعد قصيدته (أين حقي) من أشهر قصائده، ولاقت أستحسان الجماهير الواسعة، نظمها في بيروت عام 1955 م، انتشرت كثيرا، وأعيد نشرها في السبعينات، ولكن ربما منعت لدوافع سياسية، فحُرض عليه بعض رجال الدين، إذ اتهمَّ بالزندقة والشيوعية، وعلى أغلب الظن لم ينتمِ للحزب الشيوعي، والمقطع الذي ذكرته ليس به أي مساس بالدين، بل أراد صيانة الدين من شرّ العمائم، وهنا تكلم عن الكل وأراد بعض العائم، وهذا وارد باللغة العربية،بل جاءت الصيغة في القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة .

 ومن جدير ذكره، لما قاوم الزعيم الهندي الخالد (مهاتما غاندي) الاستعمار الأنكليزي، وألتف حوله الشعب الهندي بكل طوائفه وأديانه وأعراقه، وحجوا إليه، ونظم الشعراء العرب في حقه أروع القصائد، ومنهم أحمد شوقي:

بني مصر ارفعواالغار*** وحيّوا بطل الهندِ

أخوكم في المقاساة ***وعرك الموقف النكد

سلام حالب الشـــاة *** ســـــلام غزل البرد

ومن صد عن الملح *** ولم يقبل على الشهد

ومن تركب ســــاقيه *** من الهند إلى السند

هذه الأبيات من قصيدة مطولة لأمير الشعراء في حقّ غاندي، وفي الوقت نفسه أواخر ثلاثينات من القرن الماضى، يأبى الشاعر العراقي النجفي، وأقول النجفي ليس من باب المناقية والتعصب الأعمى، هذا ما لا يدور بخلدي مطلقاً، ولكن من باب المقارنة مع قرينه بحر العلوم، فهما ليس من المدينة نفسها، بل من نفس المحلة والعكد (الزقاق)، ومثلهما الجواهري، أقول يأبى إلا التمرد على الأوضاع والقيم والشرائع كبقية شعراء العراق، بل وعموم شعبه، فينظم هذه النتفة الكافرة بالقيم، ولا أقول الدين، لأنني لست يصاحب فتاوي شرعية، اقرأ:

 قف في منى واهتف بمزدحم القبائل والوفودِ

 حجّوا فلســــــتم بالغين بحجكم شّـرف الهنودِ

حُجّوا إلى اسـتقلالهم وحججتم خوف الوعـيد

وعبادة الأحــرار خــير من عـبادات العـــبيد !؟

وهذه الأبيات أشنع، وأكثر كفراً ظاهرياً من أبيات بحر العلوم التي أوردتها - عزيزي الأستاذ الكناني -، وبدليل وقف معظم الجمهور النجفي ضدّه، وأرادوا قتله لخروجه الواضح عن ركن أساسي من أركان، واستفتوا السيد أبا الحسن الأصفهاني، المرجع الديني الشهير (تزفي تشرين الثاني 1946م / 1365 هـ)، فأفتى لصالح الجعفري، وقال هذا شعر شاعر لا يجوز شرعاً مؤاخذته عليه، وقول السيد أبي الحسن، لا يقبل النقض، ولا الاستئناف، قرار نافذ ناجز، لذلك لا أرى الأمر مع بحر العلوم إلا سياسيا، لا دينياً، والله أعلم، وأواخر حياته باع بحر العلوم كل نضاله ومواقفه وجرأته وتاريخه براتب تقاعدي مقداره مائة وخمسون ديناراً، وكذلك منحت الحكومة في سبعينات القن الماضي رواتب تقاعدية بنفس المبلغ للشاعرين الشهيرين الجواهري والصافي النجفي، الجواهري غادر العراق مهاجراً، والصافي لم يتمتع براتبه إلا سنتين، إذ توفي 1978م،وبحر العلوم بعد مدحه لرأس النظام البائد بشعر ركيك ضعيف توفي، توفي1984م.

 

س14: حمودي الكناني: عذراً أيها الشاعر ماذا تركت من وجدانيات وهل ران قلبك يوما نحوهن فذكرتنهن بأعذب الكلام وارقه وهل ما زلت فتى إبن عشرين؟؟؟

ج14: كريم مرزة الاسدي: لم أترك وجدانيات عاطفية إلا النزر القليل، بينما احتلت الوجدانيات الاجتماعية مساحة جيدة من شعري، والسبب معروف، قضينا جل العمر في النضال السياسي مجبرين عليه منذ بدايات السبعينات حتى اليوم، فكانت معظم همومي تصب في القضايا الوطنية والقومية والإنسانية، إضافة للهموم الذاتية، ولا أنسى تأثير بيئتي النجفية، ورموزها الدينية المقدسة في شعري، ماذا تتوقع من شاعر ملاحق من بلد إلى بلد، ومن مهجر إلى مهجر، تلاحقه العيون، وتتربص له الثعالب والذؤبان غير أن يرى امرأة فاتنة، تسوق سيارة مرسيدس في شوارع الدار البيضاء (سنة 1980 م)، وبجنبها كلب تلاطفه، على حين سحب من الشاعرجواز سفره، وتدخلت السفارة العراقية من وراء الستار كي تلغي عقده، ليرجع مرغما إلى وطن السجون والاعدمات، فيقول:

 يهُنُ الموت، فإن لم يهنِ *** اجرع الذّلَّ وطعمَ المحنِ

أنا جوالٌ فلا من مسكنٍ ٍ *** يحتويني رغم ضيق الزمنِ

وأرى كلباً لهُ من حظوةٍ *** بين قبــــلاتٍ وبيـن الحضنِ

في إحدى المرات، وقبل نظم الأبيات السابقة بعدة أشهر، وأنا أتجول مع صاحب لي على سواحل الأطلسي في مدينة الجديدة المغربية، تقدمت لي فتاة جميلة ومعها صاحبتها، وطلبت مني شعراً فيها، وزعمت تعرفني من خلال الصحف، وكنت أنشر في الميثاق الوطني، الصحيفة الناطقة بلسان حزب رئيس وزراء تلك الحقبة، والأنباء الصحيفة الرسمية الناطقة بلسان الحكومة، وصحيفة العلم الناطقة بلسان حزب الاستقلال، أرتجلت هذين البيتين:

ما بين عينيكِ وبين الفمِ *** قد حرـ يا جوهرة الموسمِ

نفسي وأنفاسكِ يا حلوة ٌ *** واحدةٌ تجري بمجرى الدم

وقبل سنة من نظم هذه الأبيات، أي في سنة (1979م)، تعارفت علي فتاة مغربية اسمها زينب، زعمت أنها تحبني، وكنت في صراع مرير مع أركان السفارة، وأتوجس من أي علاقة عاطفية، وتأخذني الشكوك، وأنا كثير الحذر من أن أقع في أي مصيدة، فتجدني في صراع مرير بين الغريزتين، ونجحت كثيراً الإفلات من أنياب الوحوش، بل بعضها أسود كاسرة، فنظمت قصيدة تحت عنوان (وكيف أفسرّرُ ما كنهكِ)، ونشرت في صحيفة الميثاق الوطني، وعلى الصفحة الأخيرة، وهي الصفحة الرئيسية الثانية، ونشرتها في ديواني الأول، منها:

أصادقةٌ أنت في قولك *** أم الحقدُ ينبعُ من صدركِ؟

أرى بعيونك شتى الأمورْ ***فيصعبُ أنّي أرى سرّك

أرى لهيامكِ سرّاً كبيرْ ***فكيــــــــف أفسّرُ ما كنهكِ

فلا تخدعيني بربِّ السماءْ ** بجهلكِ سيّانَ أم علمكِ

أتيتِ إليَّ كمـا تشتهينْ **لحبٍّ سرى في هوى عقلك

أم أنّك جئت بكلّ الشرورْ ***لكي تقتليني على دربك

********************************

وقلبي أوسعُ في النائباتْ *** بـأنْ تأسريهِ لدى قلبك

طبعاً لم تكن الشكوك مجانية، بل من معطيات، واستطعت بذكاء حاد أن أحسم الأمور لصالحي، وكانت البنت صادقة في حبًها، ولكن ظروفي في تلك الأيام جعلتني لا أقترن بها، ومن القصيدة:

وإنـّي أرتقبتُ لقـــائي بكِ ***وعيني تلاقي سنا عينكِ

فإنّي إليكِ إذا ترتضين *** وأنــــــــــتِ إليَّ على مهلكِ

ووزعتُ حبّي على الكائناتْ **ولم يبقَ حبٌّ إلى غيركِ

أزينبُ أني زرعتُ الحنانْ *** بنفسكِ كي أرتوي حبّكِ

فلا تستكيني لنزغ الوشاةْ ***فعــــــزّكِ لا يرتضي ذلكِ

فلا تفقديني بيومٍ كئيبْ *** فروحي ستنبض في عرقكِ

ففقدك لي سيهزُّ الوجودْ *** ويجــعلُ حزناً مدى دهركِ

ستبكين يومَ يعزّ البكاءْ ***ولا نفع يجدي عــلى حزنكِ

لتعلمي أنّ نفوس الرجالْ ْ****تظلُّ تحنُّ إلى عهـــــدكِ

وتعلمي أنَّ ضعاف النفوسْ *** ستبقى تتاجرُ في ذاتك

كما ترى القصيدة تعكس الكثير من الهواجس والشكوك، والحب والحب المقابل، والتضحية والفداء من الطرفين، حسب ظروف تلك الأيام، وبعد التهديدات المباشرة من قبل أركان النظام للتوقف عن نشر القصائد، والرجوع إلى العراق، وإرسال شخصيات مهمة لمفاوضتي وترغيبي وترهيبي، حسم الأمر بمنحي جواز سفر سوري، والذهاب إلى سوريا لاجئاً في ليلية ليلاء، ومنحت اللجوء أيضاً بسبب قصيدة رائعة رفعتها إلى سوريا كبلد، حيث لم أكن أعرف بها أي شخصية، والذي أسرني بفاعلية القصيدة وتأثيرها على الأمين العام المساعد، ونائب رئيس الجمهورية، والأعضاء القياديين في اللجنة، عضو قيادة قومية،وهو الآن حيّ يرزق في العراق على حجّ علمي، أتحفظ عن ذكر اسمه .

 جواب الشطر الثاني من السؤال، كل شاعر خلق شاعراً أو فناناً، تبقى الطفولة تلازمه حتى الموت، وغريزة التملك تصاحبه للأنانية العنيدة لأثبات الذات، ولكن ليس على حساب المصلحة العليا للأمة والأوطان، بل على مستوى الفرد الآخر، كما وضحنا سالفا، ويبقى قلبه يميل لكل جميل، يشيخ وحمل روح ابن العشرين، وعبر عن ذلك الصافي النجفي أروع تعبير، وأصدقه:

سنّي بروحـــــــي لا بعدّ سنينِ *** فسأهزنَّ غداً مــــــن التسعينِ

عمري إلى السبعين يمشي راكضاً **والروح ثابتةٌ على العشرين

والحقيقة أنا من مطلع شبابي ميّال لكل جميل، ففي قصيدتي عن المغرب نظمتها 1980م، واستلهمتها وأنا على ساحل الأطلسي في الرباط، نشرتها صحيفة الأنباء المغربية، وعلى إثرها أجرى معي الصحفي السوداني الكبير الأستاذ طلحة جبريل،وكان مسؤول الشؤون الثقافية في الصحيفة حوارا مطولاً تحت عنوان (من وادي عبقر)، وشغل معظم الصفحة الأخيرة، أقول في بعض أبيات القصيدة:

في صحوة الدهر والأيام ضاحكةٌ ****إنّا وجدناك ريحاناً ونسرينا

وفي زمانً نرى الأيامَ باكيةً ***** تصيّر الحــزنَ أنغاماً فتشجينا

الأرضُ خضراءُ،والأشجارُ باسقةٌ **والماءُ ينسابُ والأجواءُ تغرينا

وتسبحُ الحورُ كالأســــماكِ لاهيةً ***تصارعُ الماء يصرعها فتلهينا

حمراءُ زرقاءُ، والأثوابُ زاهيةُ ***تكسو المفاتن ألونـــــاً فتزهينا

وشاعرٌ يلهم الأفكارَ مسرعةً *** ويجعل الحرف من وجـدٍ دواوينا

وفي قصيدتي المطولة الأولى عن الجزائر، نشرتها صحيفة الشعب 1985م، وموجودة في الديوان الأول، وعلى إثرها دعتني السفارة العراقية للمشاركة في مهرجان المربد الخامس الذي انعقد في البصرة في كانون الأول 1985م - على الأغلب -، فرفضت، وكنت حينها، أنا وعائلتي نحمل الجواز السوري، من أبياتها:

فلقدْ نفحت أريجيكِ الفوّاحَ كالوطــنِ المثيـبِ

قدْ عشتكِ الريّان بينَ جوانحي نبـض الحبيبِ

فوق الجبال الشامخات،وبين همهمة الدروبِ

القصيدة طويلة، والزمان ضيق، نختتم هذه الحلقة بهذه الأبيات، والدنيا خذ وهات !!

 

            حمودي الكناني

مدارات حوارية – صحيفة المثقف

 

للاطلاع

مدارات: حوار مع ألاديب الباحث كريم مرزة الأسدي (1-2)

 

في المثقف اليوم