شهادات ومذكرات

مرافئ الذكريات: سيرة حياة حافلة بفصول (1)

lutfi shafiksaedقد تكون بدايات سيرة حياتي هي في سن الخامسة من العمر وإن تداعياتها لم تترسخ في أعماق ذاكرتي بشكل واضح وإن ما صاحبتها من احداث في تلك السن بدت لي أشبه ما تكون بانعكاسات وردود أفعال غريزية تتخللها مشاهد وصور مشوشة وسريعة، اكتشفت بعدها وبمرور الزمن أنها أكبر وأوسع وأعم مما كنت اتصورها وهي السنوات المتمثلة من الولادة بمدينة بغداد وما بعدها في مدينة الخالص التي كانت تسمى في ذلك الوقت (دلتاوه).

في عام 1939 كان عمري لا يتجاوز ست سنوات والمكان هو قضاء القرنة وهي مدينة من مدن البصرة أتذكر منها دارنا وشجرة السدرة الكبيرة التي تختبئ فيه العصافير مساء كل يوم بعد رحلة نهارية في بساتين المدينة الوارفة كانت تلك السدرة طالما اطعمتني من نبقها اللذيذ في وهج الصيف الحار إضافة لأشباح (الطنطل والسعلوة) التي اتصور أنها تخرج منها ليلا والتي كانت جدتي أم أمي تخيفني بهما لكي انام. كانت جدتي حمدية تحبني من دون أخوتي الآخرين وكانت تأويني في فراشها في بداية المساء وتقص لي بعض القصص بلغتها التركية والتي لم أفهم منها شيئا إلا أنني بمرور الزمن بدأت أفهم الكثير منها ولكنني لا اتقن التحدث فيها. وفي أحد المرات أن سافرت إلى بغداد لزيارة بيت أختها أي خالتي وكنت صحبة أبي في توديعها إلا أنني تشبث بعباءتها محاولا أمنعها من السفر وصرت أجهش بالبكاء  ومما ذكرته جدتي عند عودتها بأن صوت صراخي وبكائي بقي يرن في أذنيها حتى عودتها وقد جلبت لي من بغداد لعبة تعتبر عجيبة وغريبة في ذلك العهد وهي زورق بخاري يسير في الماء لوحده بقوة البخار الناتج من حرارة شمعة صغيرة تثبت تحت صفيحة معدنية تقوم الشمعة بتسخينها مما ينتج عنه تسخين الهواء فيدخل الماء من أحد الأنابيب الخلفية ثم يخرج من الأنبوب الثاني ساخنا محدث صوتا نتيجة دفعه للماء ومن ثم يندفع الزور ق إلى أمام في الطشت المملوء بالماء نتيجة رد الفعل وما يشبه المحرك التربوني في الطائرة إلا أنني لم اتمتع بهذه اللعبة العجيبة فقد كان أبي يأخذها إلى المقهى ليثير أعجاب وتعجب الذين يتحلقون حول الطشت المهيأ لهذا الغرض والدهشة تعقد لسانهم ويعتقدوا أن ذلك الذي يشاهدونه هو نوع من السحر إن تصرف أبي هذا لم يعجب جدتي سيما وهي تجدني ابكي بسبب عدم تمتعي بالزورق فأخفته في مكان لا يمكن العثور عليه وعلمت منها أنها تخفيه داخل كيس الرز وبالمناسبة فقد كانت جدتي هي المشرفة عن غرفة المؤنة وخزنها.

 وفي أحد المرات حضر أبي من دوامه مبكرا وجلس القرفصاء على أرضية الغرفة التي تفترشها حصيرة من القصب الأصفر اللامع والذي يبدو بريقه واضحا عندما تسقط عليه اشعة شمس النهار أو ضوء المصباح النفطي في الليل، أخذ أبي مكانا قصيا في زاوية بعيدة عني إلا أنني دهشت عندما شاهدته يجهش بالبكاء ولم يجرأ أحد أن يسأله عن سبب بكائه إلا أننا شاركناه بالبكاء وكانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها أبي يبكي وهو المعروف عنه صلابة وقوة شخصيته ولا يبادلنا الكلام كثيرا وقلما نجده يضحك أو يتبسم وقد يكون سبب ذلك انتمائه لسلك الشرطة العراقية التي تأسست في ظل الاحتلال البريطاني للعراق عام 1918 ومنحه رتبة (قومسير) أي مأمور مركز شرطة القرنة، وبعد مضي فترة من بكاء أبي الغريب انطلق صوته حزينا ومنكسرا ليعلن: (لقد قتل الملك غازي) .

كانت صورة الملك غازي معلقة على حائط الغرفة بإطار جميل ويبدو بمقتبل العمر يرتدي بزة عسكرية ويضع احدى يديه فوق قبعة كبيرة والأخرى على مقبض سيف تتدلى منه أشرطة عديدة ويبدو شكله جميلا ووسيما يستهوي من يتطلع اليه وكنت ممن يميل إلى ذلك ولذلك فقد شاركت الباكين بكاءهم.

مضت فترة على إعلان أبي نبأ مقتل أو موت الملك غازي لا أتذكر مدتها حينها جلبت انتباهنا أصوات وصرخات أطلقها من هم في الشارع المقابل لدارنا اختلطت تلك الأصوات بوقع أقدام المارة اهتزت لها جنبات الدار ربما كانت دارنا مبنية من الطين وجذع النخيل وهي شكل غالبية البيوت في ذلك الزمن ،أطل من في الدار من شباك الغرفة إلى الخارج ليعرفوا سبب تلك الضجة وتبين من خلال أهازيج تلك المجاميع وهتافاتهم أنهم يرددون عبارات تعكس أسفهم على موت الملك وبقيت تلك البكائية والأهازيج عالقة في ذاكرتي وتبينت بعد حين من الزمن مقاطع منها هي (الله واكبر يا عرب غازي انفقد من داره وارتجت اركان السما من صدمته السياره).

أمضينا فترة قصيرة في مدينة القرنة وعلى ما اعتقد لم تتجاوز السنة وبعدها انتقلنا صحبة الوالد إلى مدينة العشار وفي دار واسعة وكبيرة وسطها باحة واسعة تسمح باللعب فيها ومن عادتنا وبتأثير من توجيهات الوالد والوالدة أننا لا نلعب خارج الدار ولم نختلط بأبناء المحلة.

كانت حياتنا في تلك الحقبة من الزمن رغيدة وكانت دارنا عامرة بالفواكه من كل لون لما تتميز به مدينة العشار من بساتين النخيل والاعناب وأهلها الكرماء وإن ما يصلنا من تلك الفواكه كانت من خيراتها وبدون ثمن، وكل ما كان يعكر صفو راحتنا هو كثرة البعوض الذي ينتشر مساء مما حدى بأهلنا أن يؤمنوا ناموسية لكل فرد منا تغطي اسرتنا المصنوعة من جريد سعف النخيل ولأجل تجنب ازعاج البعوض واقلاق راحتنا تم معالجته والقضاء عليه بطريقة فذه وذكية وذلك بإدخال يعسوب إلى الناموسية قبل النوم حيث يقوم ذلك اليعسوب بالتهام البعوض الموجود داخل الناموسية وعندها ننام ملأ جفوننا نهنأ بأحلامنا الطفولية.

كان أبي في تلك الفترة في عز شبابه ولم يتجاوز العقد الرابع من العمر وكان بهي الطلعة أنيق الملبس ويعتني كثيرا بهندامه المدني والعسكري وكانت صوره التي أتذكر منها تعكس تلك الاهتمامات وهو الذي ينحدر من أب وجد عاشا في الموصل وذكر لنا مرة بأنه ينتسب لقبيلة طي العربية ولو أنه لم يهتم كثيرا لهذا الأمر لأنه كان مدينيا أكثر مما هو عشائريا وقضى كل حياته في الوظائف الحكومية كنا نحتفظ بعض الصور له وهو يرتدي في ذلك الزمن قبعة واسعة اشبه بقبعة رعاة البقر الأمريكان وينتعل خذاء مغطى بقطعة من قماش (الشاموا) وكان يألف حياة مدينة أبي الخصيب ويقضي أوقاتا ممتعة بالسهر في بساتينها ونهرها الذي تحيط جانبيه أشجار النخيل وكان من عادته أن يعود متأخرا بعد منتصف الليل وخلالها كنا نسمع صوت المشاجرة التي تطلقها الوالدة محتجة على تصرفه وهي التي لم تغادر دارها مطلقا وكانت تدخل الدار الجديدة ولا تخرج منها إل بعد الانتقال إلى مدينة أخرى كانت الوالدة لا تحسن القراءة والكتابة ولكنها ربة بيت مثالية تحفظ الكثير من القصص والأحاديث والأمثال العربية والتركية التي ورثتها عن أم تركية من مدينة كركوك وأب شيخ (هماوندي) من سكنة جبال حلبجة كان يشغل في أواخر حياته وظيفة مدير كرنتينة كركوك وخلال أحدى مرات نقله رواتب المنتسبين تصدى له لصوص وتم قتله وسلب المبالغ التي في حوزته هذا ما تحدث به الوالدة الينا وحيث كان عمرها آنذاك عندما توفي والدها لا يتجاوز السادسة. ومما أحفظ للوالد أيضا كيف غادر سلك الشرطة ففي أحد أمسيات مدينة العشار وخلال تجواله بهندامه المدني الأنيق وقع بصره على مفتش الشرطة الإنكليزي الذي حظر لتفتيش شرطة القضاء وكان يستقل عربة يجرها حصانان فأثار شكله المتغطرس حفيظة الوالد مما دفعه أن يصعد إلى العربة التي يستقلها المفتش ويتبول عليه فثارت ثائرته وأمر بتوقيفه وارساله مخفورا إلى بغداد ومن حسن الصدف وحظه أن مدير الداخلية العام في تلك الفترة هو ابن خاله وزوج عمته المدعو الحاج سليم علي والد الفنان جواد سليم فأطلق سراحه وأمر بتعينه في وظيفة مدنية في دوائر النفوس بعنوان مأمور نفوس.   

عاد أبي من رحلته إلى بغداد وشددنا الرحال اليها بالقطار الصاعد من البصرة إلى بغداد وخلالها لا أنسى ذلك المشهد الذي ظل راسخا في ذاكرتي وجعل الحزن يلازم حياتي بسببه وهو فقدان عزيزة علي لم تكن تلك العزيزة إنسانة بل كانت غزالة جميلة ورقيقة تلتهم الطعام والحلوى من كفي واداعب جلدها الناعم واتلمس وبرها الذهبي الأخاذ ونعومة بطنها الأبيض وعينيها الحور ورائحتها الزكية التي تنطلق منها رائحة المسك. لقد فقدت تلك الأليفة بسبب تعليمات التنقل في القطارات حيث نصت على تأمين شهادة من الطب البيطري عند استصحاب الحيوانات الأليفة ولم يسنح وقتنا لتأمينها وعندها اكتملت مأساة فقدان تلك العزيزة فقد صادف وجود جزار في محطة القطار وينم مظهره وعدته المتمثلة بالسكين على ذلك وأظن أنه اشتراها بمبلغ زهيد وعندها تراءت لي صورتها وهي تأن وتتوسل بعينيها الواسعتين لئلا يذبحها ذلك القصاب.

 

لطفي شفيق سعيد

.........................

ملاحظة: أرجو أن يعذرني من يجد في كتابتي بعض الأخطاء الاملائية واللغوية والتنسيق لأن امكانيتي لا تتعدى ما أتمكن عليه بسبب كبر السن وطريقة تعاملي مع اللابتوب والمهم أن أنقل الحدث خلال ثمانين عاما مضت.

 وإلى الفصل الثاني من هذه المرافئ.

 

 

في المثقف اليوم