شهادات ومذكرات

إسماعيل نوري الربيعي: علي المرهج.. في استنهاض الأجمل من الإنسان

اسماعيل نوري الربيعيفيلسوف ومحبوب، كيف يستقيم ذلك؟ إنها المعادلة الصعبة، الشديدة التعقيد. تلك التي ينطوي عليها علي المرهج. حيث الفلسفة بتجلياتها العميقة ووعورة مسالكها وتعقيد مقولاتها ودقة علاقاتهاو تشابك مساراتها. الفلسفة وإن قامت على حب الحكمة. فإن هذا الحب في معناه الأصيل، إنما ينطوي على الصبر والجلد وتحمل المضان والمشاق. إنه حب العارفين المدلهين، بقوام التضحية والعطاء من دون منّة، أو انتظار مكافئة.

 الأمثال عادة تضرب ولاتقاس، ولكن في حالة علي المرهج، يكون المثل في أشد حالات القياس والتطابق. حين تقول العرب ؛ لكل أمريء من اسمه نصيب، وهاهو ذا المرهج الذي تفسره قواميس اللغة العربية بـــالفارس المحارب، ليمثل لك ممتطيا صهوة جواد الفلسفة، بروح المتقحم الباسل. لا يهاب وطيس المعارك الفكرية، متصدّيا لها بحنكة المعرفي الأصيل، لما علق بواقعنا الثقافي من أدران. يأتيك متسلحا بعدته كاملة غير منقوصة ؛ سيفه المنهج ودرعه الإبستمولوجيا، ورمحه الحفر المعرفي للظواهر. مستبسل هذا المرهج في سوح وغى المعارك الفكرية. دون رياء أو مجاملة يمكن أن تخلّ بالمعنى.

علي المرهج يعيدني إلى براءة النص الأول، حتى أني لا اتمالك أن اردد (المرهج الفتّان غنّى على الأغصان). فيلسوف أو مشتغل في الفلسفة، لا يملك إلا أن يبثّ في القاريْ مشاعر الفرح والحبور والصفاء والطمأنينة الطفولية. يغريك بالعودة إلى براءة النصوص الأولى التي تلقيتها. يقنعك بطريقة ماكرة للعودة إلى القراءة الخلدونية، يأخذ بيديك لتتعرف على قراءة (دار، دور). ولا يلبث أن يورطك على حين غرّة بمطالعة شوبنهاور، هيغل، فيورباخ، ماركس. ولا ضير من الأقل أو الأكثر من مدني صالح وحسام الآلوسي وعبد الأمير الأعسم. يناديك بلطف سابغ ؛ (خوية، حبيّب)، تعال (خلّي نتفلسف شويّه). لتجد نفسك خلف هذا التبسيط والميانة الأخوية، وقد وقعت فريسة لتجليات الفلسفة العميقة وأغوارها الملهمة وعتباتها المركبة، وتصانيفها المقلقة. علي المرهج قيافة معرفية مهيبة. شهادة الكتوراه ورتبة الأستاذية تتشرفان وتتباهيان به. وهو المتفضل الكريم، بعد أن أسبغ عليهما من فيض جهده تواصلا مجيدا وجهدا باذخا وعطاء نديّا سخيا.

هاهو ذا يخوض في (التغاضي)، مستميحا العذر من القاريْ، في الضرب صفحا عن استخدام مصطلحات مثل ؛ التسامح أو التعايش أو حتى الاستنارة. قاموسه يحيله بداهة نحو اليومي والمتداول والمفهوم. لا يسقط البتة في التبسيط المخل، بقدر ما يسعى نحو تقريب المفهوم للجميع. هو ينشد الجميع من أجل الجميع، رسالته في الحياة أن تكون الفلسفة متاحة للجميع، وشعاره (الفلسفة بوصفها رئة الحياة)، باعتبار أنه يعيش بالفسلفة ويتنفس بها، ويرى العالم من خلالها. لا تُردد أمام المرهج جملة من نوع؛ (ما أصعب الفلسفة) ! لا شك أنه سيجعل منها مسألة شخصية، ونقدا صريحا لما يؤمن به. أنت بهذا تضربه في صميم ما يؤمن به، وتعمل على هدر العوالم التي يعيشها، والفضاءات التي يستشف فيها إنسانيته وشغفه بالحياة. لا تفاوض بمسألة الفلسفة لدى المرهج، وأهمية حضورها في الواقعي واليومي والمبتذل والنفيس. إنها مسألة ممارسة الوجود في صلب الحياة. الفلسفة لديه رسالة يجب أن تصل لبائعة اللبن، والخباز والحوذي والغفير وعامل البناء وبائع الحمص، وأستاذ الجامعة والنخب المعرفية والفكرية.

من دون الفلسفة لا يتوان العالم عن اجتراح الحروب والانغماس المرير في التقتيل والتخريب والتبشيع والصلب والكراهية. فيما الأنساق المعرفية التي تقوم عليها الفلسفة، إنما تنطوي على الإعلاء من شأن الإنسان والسموّ به، بوصفه مخلوقا مفكرا عاقلا. ومن هذا يعقد المرهج درسه في (التغاضي). حيث؛ (كلنا بشر طبيعي ولدنا للبحث عن حضور يجعلنا محبوبين ونتباهى بمحبة الآخرين، ولكن الشرف في التغاضي). معينه المعرفي يقوده نحو تجاهل الحماقات، والتساهل مع الإساءات، والتغابي عن الحمقى والمغفلين. والتغافل عن الأخطاء، والتسرّي بمباهج الحياة والتلّهي بالجمال الذي ينعقد به الكون، والعمل الجاد نحو تناسي مواقع القبح، والتهاون مع الأحقاد وغض الطرف عن الكراهية. إنه الحضور الإنساني في أتمه؛ (توازن الذات ما يُنجيني من الوقوع في الكراهية). إنه التماهي في أقصاه مع البحتري حين يقول؛ (صنت نفسي عما يدّنس نفسي). هذا التماهي مع صون النفس، والترفع والكبرياء والحضور الإنساني العميق. لم يكن له أن يظهر على حين غرة، بقدر ما يروم المرهج هنا أن يؤكد على أهمية تحويل الأسماء إلى أفعال قابلة للتطبيق في صلب الحياة، فما هي قيمة العقل دون تعّقل، وماذا يعني الفكر دون تفّكر. رسالة المرهج إنما تنطوي على أهمية الممارسة في صلب الحياة.

 

د. إسماعيل نوري الربيعي

 

في المثقف اليوم