شهادات ومذكرات

علي حسين: نوبل تمنح جائزتها لسيدة ساهمت في إنقاذ العالم من كورونا

كانت تبلغ من العمر " 30 " عاما عندما قررت عام 1985 مغادرة بلادها المجر لتحط الرحال في الولايات المتحدة الامريكية من اجل ان تتابع بحوثها الطبية. بعد ٣٥ عاما وفي صبيحة اليوم الثالث من شهر ايلول عام 2022 تلقت كاتالين كاريكو جرعتها الأولى من لقاح كورونا من شركة فايزر في جامعة بنسلفانيا، ولم تكن تدري ان هذه الجرعة ستمهد لها الطريق لتحصل على جائزة نوبل للطب لعام 2023 بالاشتراك مع زميلها الدكتور درو وايزمان، حيث كان عملها رائدا في الكثير من العلوم الكامنة وراء اللقاحات التي يتم إعطاؤها لعشرات الملايين من الأشخاص في جميع أنحاء العالم .

كاتالين كاريكو المولودة في احدى احياء مديسنة زولنوك بالمجر في السابع عشر من كانون الثاني عام 1955، ابنة المهندس الذي يحمل افكارا ليبرالية وكان منتشيا بانتفاضة المجر عام 1956، والتي لم تستمر سوى اشهر قليلة بعد ان اعلنت القوات السوفيتية انهاء ما سمته بالتمرد الرجعي . واصلت الفتاة دراستها اضافة الى ولعها بقراءة الكتب الفلسفية التي كان والدها يحصل عليها من بعض المكتبات، قرأت ديكارت وهيغل، لكنها تعلقت بافكار بجان جاك روسو، كانت تأمل دراسة الفلسفة، إلا ان رغبة العائلة بان تصبح ابنتها طبيبة تغلبت على هوايتها لتحصل على الشهادة الجامعية في علم الاحياء من جامعة زيجيد، بعدها تحصل على الماجستير في علوم الكيمياء،، عام 1982 تحصل على الدكتوراه، بعدها ستنضم الى الأكاديمية المجرية للعلوم حتى عام 1985 حيث قررت السفر الى الولايات المتحدة الامريكية، لم تكن تملك المال فاضطر زوجها الى بيع سيارته ليوفر ثمن تذاكر السفر ومعها ما يقارب الالف دولار خبئتها في دمية طفلتها .

ذهبت كاتالين إلى الولايات المتحدة مُحملة بطموح كبير، تبحث عن فرصة ترضي شغفها تجاه البحث العلمي حول الحمض النووي الريبي وإمكانيات الاستفادة منه في الوقاية من الأمراض وعلاجها، وهناك انضمت إلى جامعة تمبل البحثية في ولاية بنسلفانيا في العام 1985، وتابعت بحثها الذي بدأته في المجر، ثم توّسعت فيه بعد انتقالها إلى كلية الطب في جامعة بنسلفانيا، حيث أظهرت التجارب التي كانت تجريها على الحيوانات احتمالية نجاح فرضية استخدام هذه المادة الوراثية في علاج الأمراض، مما حفزها على مواصلة البحث لإثبات إمكانية استعمال الحمض النووي الريبي، في معالجة السكتات الدماغية والتليف الكيسي. وفي عام 1989، تم تعيينها أستاذ مساعد في جامعة بنسلفانيا، حيث ظلت حتى عام 2013.

كانت كاتالين تؤمن بقدرتها على انجاز حدث علمي كبير قضت خمس سنوات تبحث عن منح لتمويل بحثها العلمي، سواء كانت منحا حكومية أو دعما ماليا من شركات، إلا أنها لم تتمكن من الحصول على أي منحة لمتابعة عملية البحث، وقوبلت كل طلباتها بالرفض. في العام 1995 توجه لها جامعة بنسلفانيا إنذارا رسميًا يضعها أمام خيارين، أولهما هو التخلي عن عملها البحثي المتعلق بالحمض النووي الريبي، بعد أن صار واضحًا استحالة استكماله في ظل انعدام فرص التمويل، وثانيهما هو القبول بتخفيض رتبتها الأكاديمية وتقليل راتبها الشهري، إذا أرادت المضي في بحثها الذي تراه الجامعة مضيعةً للوقت:" فكرت في الذهاب إلى مكان آخر أو القيام بشيء آخر تمامًا، وشعرت بأنني ربما لست جيدة بما يكفي، ولست ذكيةً بالقدر الكافي."

لم يكن ذلك هو الاختبار المؤلم الوحيد الذي وجدت كاتالين نفسها مضطرة إلى التعامل معه في ذلك الوقت، فقد علمت بإصابتها بالسرطان خلال الانذار الذي وجهتته الجامعة. وبينما كانت تستعد للعملية الجراحية، كان ذهنها منشغلا بمسألة الجامعة وتقييم الخيارين من زاوية شخصية وأخرى مهنية، حتى اهتدت إلى الاستمرار في عملها البحثي والقبول بتخفيض درجتها الوظيفية وراتبها قالت في رسالتها الى الجامعة انها ترى ان :" مقعد المختبر هو الافضل لها وعليها فقط ان تقوم بتحارب أفضل " .

العام 1997 كان نقطة تحول في حياتها ومسيرتها العلمية حيث التقت بعالم المناعة الشهير درو وايزمان، الذي انضم إلى جامعة بنسلفانيا، وكان يعمل آنذاك على تطوير لقاح مضاد لفيروس نقص المناعة، وبعد حديث بينهما ادرك وايزمان ان تعاونه مع هذه الباحثة المجرية سيؤدي في المستقبل الى انجاز علمي كبير، قدم لها وايزمان مقترح العمل معه خصوصا انه يحصل على تمويل حكومي، عاد الامل الى كاتلين التي بدأت في تحديد الأحرف الموجودة في الشفرة الوراثية الخاصة بمرسال الحمض النووي الريبي المُصنع التي تستثير جهاز المناعة، وتمكنا بعد سنوات من تطوير نسخة حديدة قادرة على إنتاج بروتينات تتصدى للفيروسات وتقي من الأمراض.

في العام 2005، نشر العالمان دراسة تثبت وتوثق إنجازهما العلمي، حملت عنوان " دراسة جديدة لجامعة بنسلفانيا تكتشف دورًا جديدًا للحمض النووي الريبي في الاستجابة المناعية البشرية" كما تقدم كلاهما بطلب لتسجيل براءة اختراع.

تصف كاتالين مشاعرها إزاء هذا الإنجاز قائلة :" لقد أدركنا في تلك اللحظة أن الباب فتح للحصول على علاجات للكثير من الامراض " . لكن الامور سارت عكس ما تمنت السيدة المجرية، فقد رفضت معظم شركات الادوية الاستفادة من ابحاثها، وحتى جامعة بنسلفانيا لم تعترف بإنجازها ورفضت إعادتها إلى منصبها الذي سبق أن أبعدتها عنه في عام 1995

عام 2013 تتلقى كاتالين عرضا من شركة شركة بيونتك الالمانية للصناعات الدوائية للعمل في مختبراتها، تعود الى المجر حيث تقوم بالتدريس في جامعة جامعة زيجيد التي شهدت انطلاقتها الاولى، اضافة الى عملها في جامعة بنسلفانيا.

كان ظهور فيروس كورونا وتفشيه قد أرغم شركات الأدوية على العمل والمنافسة في تطوير لقاح لمواجهة جائحة لم يشهد لها العالم مثيلًا خلال مئة عام، وكان من بينها شركة بيوأنتك التي كانت كاتالين تشغل فيها منصب نائبة الرئيس. وخلال أقل من عام، استطاعت الشركة بالتعاون مع شركة فايزر الأمريكية، تطوير لقاح بتقنية الحمض النووي الريبي للوقاية من فيروس كورونا.

في الحادي عشر من كانون الثاني عام 2020، اعتمدت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، اللقاح الذي طوره العالمان كاتالين كاريكو، ودرو وايزمان للاستخدام الطارئ بعد تثبتها من مأمونتيه، ليصبح أول لقاح مُصنّع بتقنية الـحمض النووي الريبي، يحصل على تصريح بالاستخدام ويتلقاه البشر على نطاق واسع.

بعد ان سمعت بفوزها بجائزة نوبل للطب تلقت اول اتصال من شقيقتها التي تعيش في المجر قالت للصحفيين ان فوزها بجائزة نوبل حقق امنية ظلت تراود والدتها لسنوات حيث كانت تتابع بحرص إعلان الفائزات والفائزين بهذه الجائزة على أمل أن تجد اسم ابنتها بينهم. كان استخدام هذه التقنية العلمية ونجاحها، قبل ثلاثين عامًا مجرد فكرة تجول في خاطر كاتالين ثم صارت حلمها الكبير، بعدها تجولت الفكرة الى انجاز كان بمثابة طوق النجاة لمئات الملايين من البشر .

اثناء حصولها على جرعة من لقاح كورونا قالت كاتالين في حوار مع موقع CNN، أنها ستحتفل بهذا الإنجاز عندما تنتهي المعاناة الإنسانية الناجمة عن فيروس كورونا، وينقضي هذا الوقت العصيب، معربةً عن أملها أن يتحقق ذلك في الصيف القادم، وقالت «عندما ننسى الفيروس واللقاح، سأحتفل حقًا.

قالت لجنة جائزة نوبل في بيانها ان أن الباحثَين أُعطيا الجائزة، "لاكتشافاتهما المتعلقة بتعديلات القواعد النووية التي أتاحت التوصل إلى لقاحات فاعلة ضد كوفيد-19 قائمة على الحمض النووي الريبوزي المرسال". واضافت اللجنة أن "الفائزَين ساهما بوتيرة لم يسبق لها مثيل في التوصل إلى لقاحات في خضمّ أحد أكبر التهديدات لصحة الإنسان، وكانت اكتشافات الفائزين بجائزة نوبل حاسمة لتطوير لقاحات mRNA فعالة ضد كوفيد-19 خلال الوباء الذي بدأ في أوائل عام 2020، ومن خلال النتائج الرائدة التي توصلا إليها، والتي غيرت فهمنا بشكل أساسي لكيفية تفاعل mRNA مع جهاز المناعة لدينا، حيث ساهم الفائزان في المعدل غير المسبوق لتطوير اللقاحات" .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم