نصوص أدبية

نصوص أدبية

ولــي قــلبٌ تعاندُهُ الصّروفُ

ونــهرُ الــحادثاتِ بــه يحوفُ

*

إذا تــركَ الــرَّبيعُ بــهِ زهوراً

عــلى عجلٍ يُسَاقِطُها الخريفُ

*

إذا يــنجو مــن الأقــدارِ يوماً

مــن الأشرارِ تطعنُهُ السّيوفُ

*

كأنِّي والسرورَ على اختلافٍ

وإنّ الــهمَّ وحــدَهُ لــي حليفُ

*

ســيرتاحُ الــحسودُ إذا رآنــي

وصــحنُ الخدِّ تَلْطُمُهُ الكفوفُ

*

ولــكنْ خاب ظنّاً حيثُ يدري

فــمثلي لا تُــنهنههُ الــظروفُ

*

فــما زالــتْ تُصبِّرُني الأماني

وطيفُ الوهنِ يَزجرُهُ الوقوفُ

*

على نكْءِ الجراحِ أرشُّ مِلحاً

مــع الأيــامِ يــنقطعُ الــنَّزيفُ

*

إلى ربِّ العبادِ شكوتُ ضعفي

وأَعــلمُ أنَّــهُ الصَّمَدُ الرؤوفُ

*

إذا يــرضى عــليَّ أنــا سعيدٌ

ولــنْ أَهْــتَمَّ إنْ سَخِطَ الألوفُ

*

فــلي ثــقةٌ بربِّ العرشِ دوماً

وإنّ اللهَ عــــدلٌ لا يَــحِــيفٌ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

صرير ضيفها الصرصار، وراء الغسّالة، في غرفة الغسيل الصغيرة، جعلها ترى الحقيقة في واقعها المؤلم. جسد زوجها الملقى على السرير إلى جانبها، جعل الليل عبئًا ثقيلًا، أثقل منه في أي ليل سابق، وجعل من الخروج إلى غرفة الاستقبال، للاقتراب من ذلك الضيف، للاستماع إلى صريره وإلى مواساته لها من الوحدة، مهمة لا بدَّ من القيام بها وتنفيذها للتو.~

بعد ثوان، حملت جسدها، كأنما هو جثمان ميت يسبح في سديم الكون، وانطلقت باتجاه، غرفة الاستقبال، في طريقها القصير الطويل إلى هناك، وقع نظرها على ابنتها الصبية، ابنة العشرين، كانت ابنتها نائمة، لولا وجود ابنتها في البيت، ولولا حاجتها لأب يحدب عليها ويرعاها، لما سمحت لذاك الثقيل، زوجها، أن يأتي إلى البيت مرة في الأسبوع، ولاكتفت بالصرصار، بصريره وبمواساته لها.

ذاك الضيف، وراء الغسالة في الغرفة الصغيرة، اختفى في البداية مثل زائر ثقيل، لا ليس ثقيلا، ابتدأ عهدها به، ليلة صحت على صريره، إثر مغادرة زوجها للبيت قبل أشهر.

حين شعرت بوجوده بحثت عن قبقاب خبأته في الجوارير القديمة، حتى وجدته. هرعت بعد ذلك إلى الغسالة فأزاحتها، لسحق ذاك الضيف غير المرغوب به، إلا أنه كان أكثر ذكاء وحنكة، فقد زاغ منها، وانسرب...

في الليلة التالية، شرعت في إغلاق أذنيها بما توفَّرَ من قطن في البيت، غير أن الصرصار أبى إلا أن يرسل صريره مخترقا الليل.

فكَّرت في أن تشرب حبة منّوم، كما كانت تفعل حين كان زوجها حاضرا غائبا. بيد أنها ما لبثت أن طردَت هذه الفكرة، وتبنَّت فكرة أخرى، متمردة على المجهول، كما فعلت دائما. الفكرة الأخرى، تمثلت في الاستماع إلى صرير الصرصار. لماذا هي لا تستمع إليه؟ لماذا لا تستمع إلى ما يبثه في الليالي الطويلة الموحشة؟ ألم تدرك منذ فتحت عينيها حتى بلوغها ما بلغته من عمر، أنه يوجد لكل شيء سبب، وبالإمكان التوصُّل إلى أسراره بشيء من الأناة؟ فلماذا لا تستمع إلى الصرصار؟ لماذا لا تحاول أن تفتح أذنها، ولماذا تغلقها أصلا، ألم تغضب يوم فضل زوجها النوم على الحديث معها، فأشعلت الدنيا نارًا لم يخبُ لها أوار، إلا بدفعِهِ إلى خارج البيت، على أن يعود مرة واحدة في الأسبوع؟ لماذا هي تغلق أذنها أمام الصرصار؟ وكأنها ملأى بالطين؟ أو ليس من الأفضل لها أن تستمع إليه، فإما يعجبها صريره، وإما تمجُّه أذنها، فتجد له علاجا يشبه ذاك الذي عالجت به زوجها؟

في الليلة الطويلة التالية، شرعت بالاستماع إلى الصرصار. أعطت نفسها كلَّ ما ملكته من إمكانية على الإصغاء. استسلمت لسماع صوته، مثلما يفعل العاشق المتيَّم حينما يستمع إلى صوت محبوبته. استمعت إلى الصرصار، استمعت إليه بكل ما لديها من قوة متبقية. مهلا.. مهلا ابتدأت تألف صريره، بات صريره في فترة قصيرة، أو طويلة، لا تدري، جزءا من ذاكرتها، بل أكثر من هذا باتت تنتظر الليل كي يأتي، كي تستمع إلى ضيفها المرحَّب به، وإلى صريره الشبيه بالغناء. هي لا تبالغ إذا قالت إنها وجدت أخيرا معزوفتها بعد طول انتظار.

الليالي بعد وفود الصرصار، بعد إقامته وراء الغسالة، باتت ذات رائحة، نكهة ولون، هكذا راحت لياليها بالتغيّر.

وطرق الأمل بابها مجددا، فراحت تهتم بنفسها، ترتدي أحلى ملابس النوم، بانتظار صوت صديقها وراء الغسالة، ولم يكن هذا يخلف ميعاده معها. كان ما إن يرين الصمت النائم على أرجاء البيت، حتى يرسل صريره موقظا أجمل ما في المرأة وأحلى ما في الليل. وكانت المرأة تحاول المحافظة على الصمت، محافظتها على روحها، وزاد في محافظتها هذه، أنها أحست أنه يوجد بالصَّرصار مثل ما بها، وأنه يطلب طوال الوقت ويسأل من يحلّ وثاقه، كأنما هو يحكي بلسانها، ويطالب بحقه في الحياة والصرير، وكأنما هو يطالب بهذا الحق لكلِّ من ينشده، ويهفو قلبه إليه!!

هكذا بات صديقها، سلوتها الأساسية، بل إنها مع مضي الأيام، باتت تعرف كيف تدفعه إلى الصَّمت، كي يستمع هو إليها، فما أن تنهض من مجلسها، في غرفة الاستقبال، حتى يتوقف، عن الصرير، وتشرع هي في التحدث إليه: اسمع جيدا، أنت الوحيد الذي يستمع إليَّ بكل مشاعره وأحاسيسه، ويعرف كم أنا بحاجة إلى زوج، حظ اليقظة لديه، أكثر من حظ النوم. أنت الوحيد الذي يُحيي حياة توشك أن تموت في داخلي. أنت من يستمع إلى شكواي. أنت مَن أناجيه ومن يناجيني، من يسمعني حين أكون وحيدة ومن يستمع إلي حينما أريد. كان صديقها يستمع إليها، وكذلك هي، لا يقاطع أحدهما الآخر وينتظره حتى ينهي كل ما لديه. لم يكن يقاطعها، فيضع الكلمات على لسانها كأنما هو لا يريد أن يستمع إلى غير ما يريد أن يستمع إليه، ولم يكن ينظر إليها شزرا حينما تتحدث عن شؤونها الصغيرة، لم يكن يلغي مسافة الصمت المطلوبة بين أي متحدثين، بل كان يصمت، وكأنما هو لا يريد أن يستمع إلى أي إنسان آخر سواها في الكون.

حينما كان هذا كله يحل بينهما، كانت تبدو وكأنما هي المرأة السعيدة الوحيدة على الأرض، فكانت عيناها تفيضان بمحبة لكل شيء، مكتسبتين لمعة كادت أن تخبو وتتلاشى.

مع الوقت ابتدأت تعتاد على تهيئة الجو وإعداده، ليكون ملائما للقاء الفريد بينها وبين صديقها، فكانت تشعل شمعة ينبعث منها نور خفيف، وتطفئ الضوء، فينتشر جوّ شعريّ ساحر، يدفعها للاسترخاء على أريكة وضعتها خصيصا في غرفة الاستقبال. وما إن كانت تضع رأسها على وسادة وثيرة وضعتها في أقصى الأريكة، على يدها تحديدا، ما إن كانت تمضي لحظات من الصمت، حتى يبادرها صديق الليل بصريره المألوف، الأثير على روحها القريب من قلبها. فكانت تغمض عينيها وتستمع إليه بجوارحها كلّها، وكان صريره ينهال عليها وكأنما هو نهر من زبرجد، فتمدّ يدها مرحّبة به ومهلّلة.

أمّا حينما كانت تريد أن تتحدث، أن تعبّر عمّا بها، فما كان عليها إلا أن تتحرك على أريكتها، فيصمت الصرصار، منتظرا أن تفيض نفسها بما اضطرتها حياتها إلى جانب زوج غير متفهّم، من مشاعر وأحاسيس، هي لم تكن تبخل على صديقها، ولم تكن لتخفي عنه أية صغيرة أو كبيرة، وإنما كانت تصارحه بكلِّ ما في دخيلتها، بل إنها كثيرا ما كانت تنسى نفسها، فتصارحه بما خجلت أن تقوله أمام أي من الناس، وربما أمام ذاتها. هي نفسها، لم تكن باختصار تتردَّد في أن تفكَّر أمامه بصوتٍ عالٍ، وكان أشدّ ما يسعدها هو أنه كان يستمع إليها بخشوع أشبه ما يكون بخشوع راهب تمنَّت أن تلتقيه وهي ماضية في صحراء حياتها.

ونشأت مع مضي الوقت، لغة مشتركة بين الاثنين، لا يفهمها سواهما، كانت أشبه ما تكون بلغة عاشقين عرفا طريقهما.

*

استلقت المرأة، صاحبة البيت، على أريكتها في غرفة الاستقبال. وضعت رأسها على وسادتها الخاصة، هيأت الأجواء كلَّها، بما فيها إشعال شمعة خفيفة النور، واستلقت تفكر في زوجها الغائب هناك في غرفة النوم، حتى في يوم مجيئه الوحيد في الأسبوع، ها هو يناغي الكرى، ويتركها وحيدة مثل كتلة تائهة تسبح في سديم الكون، ها هو يوغل في سباته، وها هي توغل في يقظتها، ها هما يفترقان مجددا، وها هو كل لقاء يتحوّل إلى ظل للقاء، لا معنى له.

تحركت على أريكتها. رفعت صوتها هامسة بما بها. اقتربت من غرفة الغسيل. أدنت رأسها حيث تعرف أن صديق ليلها يقبع بانتظارها، وراحت تحكي عمّا بها من ألم.

في تلك اللحظة شعرت بزوجها يسير باتجاه الحمّام. كان واضحًا أن حاجته أيقظته، وأنه سيعود بعد قليل إلى نومه. توقَّف عند باب الحمّام، سألها عمَّا إذا كانت تريد أن تنام، ولم ينتظر إجابتها. دخل إلى الحمّام وأحكم إغلاق بابه وراءه. بقيت هي وحيدة بانتظار صديقها المنتظر، ليبعث صريره شاقا صمت البيت، ومواسيًا إياها في وحدتها الرهيبة.

***

قصة: ناجي ظاهر

تـبّـتْ يــدا الـجــاني وتـبْ

طـوفـانُ غــزّةَ مِـنْ لـهَـبْ

*

نـــارٌ عـلى بـــاغٍ عــتـا

ولـعــنــةٌ فــيـهـا تُــصَــبْ

*

قـد حـانَ يــومَ هــلاكـهِ

ولـحـتــفـهِ الـباغي اقـتـربْ

*

نــامَ الـزنـيــمُ بـحِـــلــمـهِ

وصحا بـطوفانِ الـغـضـب

*

يـجــتـاحُ كُــلَّ كـيــانـهِ

لـيـقـولَ هـا نحـنُ الـشعـبْ

*

وتـكـونُ غـــزّةُ غــــزّةً

في جـنـبهِ وبـهـا الـعَـطـب

*

ظــنَّ الــزنــيــمُ بـأنّـها

هـي نِـزهـةٌ ولـهـا طـربْ

*

حــتّـى تَـبــيّــنَ أنّــهـا

مـوتٌ زؤامٌ قــد حَــطَـبْ

*

والـحـقـدُ صار مَـجـازرًا

في كُــلِّ يــومٍ تُــرْتَـكـبْ

*

وأمــامَ أنـظـارِ الـورى**

قـتـلٌ وســبـيٌ وسـغَـبْ

*

أيـنَ الـمـبـادِئُ يـا تُـرى

أيـنَ الضميرُ قـد احـتَجَبْ

*

أطـفـالُ غَــزةَ شــاهـدٌ

لـلّـــهِ حُـكّــامَ الـعــرَبْ

*

ألِـفُـوا الـهَوانَ فـساوموا

وتـوسـلـوا غـربًـا غــربْ

*

ســبـعـون عـامًا أفـرزتْ

والجَرحُ يـنـزِفُ كالـقِـرَبْ

*

زيـفَ الـحـكوماتِ الـتي

كانـتْ تُـطـبّـلُ في صَخَبْ

*

ســبـعـونَ عـامًـا ثُـمّ زِدْ

تُـطوى على نـفـسِ الـمِكَبْ**

*

آمـــالَ شـــعـبٍ مُـبـتـلى

بـالـداعِـرٍبن ذوي الـرُتَـبْ

*

وقضـيّـةُ الـقُـدسِ انـتَـهَتْ

هِـبـةً وأرضٌ تُـسـتَـلَـبْ

*

وعلى طـبـولِ الـغـابـرينَ

يـسـيـرُ مَــنْ هــبّ ودبْ

*

جـيـلي وأجـيالٌ مَـضتْ

كانتْ تُـشَـنِّـفُـهُ الـخُـطـبْ**

*

حُـكّـامُـنـا الـمـتـأسـلـمون

هُــــمُ هُـــمُ صـاروا اللُـعَـبْ

*

سـبـعـونَ عـامًـا طـبّـلـوا

حـتّى تَـبَـيـنَ لي عَـجـبْ

*

فـيـهـا تُـخــــدَّرُ أمّـــةً

لـيُـواطِـئوا وصـلَ الـنَـسـبْ**

*

وعِــتـابُ حُـكّــامٍ هُـــمُ

بـالأصــل خُـــدّامٌ تَـعَــبْ

*

لا نـخــوة تُــرجى لـهـمْ

والـخِزيُ قـد بَــلغَ الـرُكَـبْ

*

مـــاذا أقــــولُ لأُمَّــــةٍ

أوغـادُها صاروا الـنُـخـبْ

*

ســبـعونَ عـامًا افـرزتْ

والـكلُ فـيـهـا قـد رسَــبْ

*

والـقـولُ فـي حُـكّامِـهـا

كالـماء في رمـــلٍ يُــكَـبْ

*

تَـبّـتْ يــدا الــبـاغي وتَـبْ

ظـنَّ الـجـرائـمَ مُـكْـتَـسـبْ

*

فــإذا الــدمـــاءُ تـحَــدّيًـا

أورى  سُــــعـارًا وكَــلَـبْ

*

مـوتًـا بـطـيـئًا أصـبـحـتْ

لـكـيـانـهِ في مــــا ارتَـكَـبْ

*

فـكـيـانُـهُ الـخــاوي غــدا

يـشـكـو الـتـصـدّعَ والـكُـرَبْ

*

إذْ صــار كــــلُّ مُــراده

ولِـجـيـشـهِ مـنـهـا الـهـــرَبْ

*

شــــيــطــانُـهُ قـــــد أزّهُ

والآنَ قـد أمـــسى أجَــــبْ**

*

جَـلـبَ الـهـوانَ لـنـفــسـهِ

والــويـلُ في مـا قــد جَـلَـبْ

*

تـبًّـا لــصـهـيـونٍ وتَــبْ

بـؤسًـا غــدا مـا قـد حَـلَـبْ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

الاثنين في 19 آذار 2024

..........................

** الورى: الـبشر الناس  

** الـمِـكَب: الـمغـزل الذي يُطوى عليه الغَـزِل

** تُـشـنّـفه الخُطب: أي تُـمـتِعُهُ الخُطب   

** الأجب: المقطوع

 

عُدْ أبي..

نَعُدُّ الحمام

وهو يحطُّ على السدرةِ

ليطعمها الهديل

أيام بيتنا ..

كان كلما شهقَ

ابتكر لنا صباحا نغرقُ فيه ملء الأغاني

فما التعب

لو عدتَ كقطرةِ ندى من خريفكَ الخافت

وشفتيكَ الذاويتين !

**

عُد أبي بنا

لنلحق ولو بأمنية

تسربلتْ من أصابع الغروب

حتى شَهِدَ العمر

بأنكَ الوان رحلته الطويلة

فبأي نحيبٍ ترقدُ الآن أنفاسكَ

وبأي شمعة تفضُّ هذا الليل ليكون سبيلي

وحدكَ.. غائرا في فراغ الانتظار

أعبر به اليكَ

حيث يستسلمُ الموت لهذا الصمت

وكعادتهِا..

تقوم القيامة.

***

زياد السامرائي - ألمانيا

 

أمش الهوينا

وأجلس برفقة مقعدي

إن لي مع المجانين وعدا

وجدالا

وكلاما

قد يبدو لكم محالا

*

دعوني لشأني

أمش الأرض عمري

إنني لا أبتغي حسابا

ولا عتابا

إن بي من العاقلين حزنا

واكتآبا

إن لي مع المجانين شجوا

وصبابة

وراحة في النفس

قد تبدو لكم غرابة

*

دعوني لشأني

واقفا وقفتي المجروحة

أمام القبور المفتوحة

إن لي مع الأموات وعدا

وجدالا

وكلاما

قد يبدو لكم محالا

صالح الڨرمادي

من كتاب اللحمة الحيّة

***

زهرة الحواشي - تونس

 

سيرحلُ الغَسَقْ

وكل أشرار الدُّنا

من هاهناك...

أو هنا

ومن أَبَقْ!

*

وما بجُعْبَة ِ الطغاة ِ

والبُغاةِ:

من فتاوى حارقاتٍ...

عائقاتٍ

أو حُروب ٍ قائماتٍ...

قادماتٍ

أو فِـــــــــــــرَقْ

سَيرْحَلُ (الفَسَقْ)!

***

محمدثابت السميعي - اليمن

٢٠١٧م

اندس الى جانبي مفترشا سجادة صلاته، دفع برامل الماء قليلا حتى يسعه المكان، ثم شرع في أداء ركعتي تحية المسجد؛ ذاك كان دأبه كل ليلة من شهر رمضان على سطح الحرم المكي، حيث كان يأتي بعد الآذان، وقبل صلاة العشاء بقليل، شاقا طريقه في الزحام، ومندسا بين المصلين الى ان يصل بجواري الى مكانه المعهود، وقد تعودت ان أترك له فسحة يستغلها لصلاة العشاء، ورغائب القيام ..

هو رجل ربعة، اميل الى الطول، في سمنة لا تخفى، وان لم تكن مفرطة، قمحي اللون، باسم الوجه تجحظ عيناه الواسعتان قليلا اذا ضحك .. في صوته بحة، قلما نجدها في صوت خليجي..

على سجادته يضع عقاله، ووسط دائرة العقال يحط هاتفه ذا اللون الأبيض، وقارورة عطره التي هي ما يعلن عن وجوده اليومي بين المصلين، حيث لا يشرع في صلاة الا بعد ان يبخ عطر قارورته على سجادته، وسجادات المصلين من حوله فكأن عطره احتجاج على روائح زرابي ما وجدت من يغيرها او ينظفها، وهي ظاهرة لاحظها معتمرو هذه السنة في عامة جهات الحرم المكي، فالى جانب قلة ماء الشرب توجد ظاهرة الاوساخ، وقلة النظافة، وتراخي العملة الذين كانوا يتوسلون ايادي المعتمرين وجيوبهم، اكثر مما كانوا يتوسلون تنظيف ما انيط بهم تنظيفه .

حين غادر المكان بعد ركعات قيام الليلة، نسي هاتفه الذي غطاه جانب من سجادتي فلم يره ...

اخذت الهاتف، وفي يقيني انه سيعود، او سيتصل للسؤال عن هاتفه .

مابين السلم الكهربائي الذي يربط السطح بالمخرج، وبين مكان اقامتي اصدر الهاتف ثلاث اشارات ضوئية اعلانا بمكالمة..

كانت الاولى من صهر صاحب الهاتف الذي ينبهه الى ان زوجته في الانتظار بالمطعم.. وقد رجوتُه طمأنة صاحب الهاتف، ثم قدمت له بيانات الاتصال ومكان اقامتي ...

وكانت الثانية زوجته التي ابلغتني ان زوجها في مهمة وسيتصل بي بمجرد عودته، ثم نبهتني في صيغة أمرية ألا اقدم الهاتف لاي كان، فزوجها ضابط استعلامات، وربما تكون له معلومات سرية في الهاتف...وقد ختمت حديثها بلهجة تحذير آمرة عنيفة:

"انت مسؤول عن الهاتف وقد تعرض نفسك لعقوبات اذا لم تصنه في أمان، فانتبه واحذر !!.."

لم أستغرب طريقة حديثها فهي انثى بين مطرقة الأوامر والنواهي وبين سندان العادات وتقاليد التحكمات، نصف كائن في مجتمع ذكوري بامتياز، ومن تحاصرها ولاية رجل متحكم فلن تفرز غير عنف اللسان وحقد الباطن..

ما ان قطعت عنها الخط وانا احتقر سلوكها حتى أتتني المكالمة الثالثة كانت من صاحب الهاتف نفسه الذي شكرني بحرارة، ودعاني الى لقائه ..

هدوء حديثه قد جعل نفسي تستكين قليلا من السخط الذي اثارته زوجته والذي لم يكن غير قلة ذوق وجفاف طبع وتعال مذموم ..

من حسن الصدف انا معا كنا نقيم في نفس الدائرة في فندقين متقاربين لهذا لم يكن اللقاء شاقا بيننا ..

احسست غبطة في عينيه، وحرارة شكر، وهو يعانقني بعد ان تسلم هاتفه ..ثم اصر على ان نتعشى معا، ورغم اني حاولت التملص لعلمي ان زوجته قليلة الذوق في الانتظار، وأن ليس من اللياقة أن احرم زوجة رغم عجرفتها من خلوة عشاء مع زوجها الوديع فقد ألح وشدد في الالحاح، وبصراحة فرغبتي في رؤية شكل الزوجة قليلة الذوق كانت تحريضا قويا على قبول الدعوة، حتى أتعرف على سلوكها وهي مطوقة بحضور زوجها ..

حين ولجنا باب المطعم، أقبلت نحونا صبية في الثالثة من عمرها تعلقت بالرجل فحملها وقال:

ـ ابنتي عايدة !! ..

اهتز قلبي و قد تهادى في خيالي طيف بنتي حبيبتي عايدة،  تطلعت الى الصغيرة في لهفة ثم أمسكت بيدها البضة أقبلها ..

كانت الطفلة بعينين حجليتين، تركزان النظر من وجه دائري ابيض، يفيض حيوية وحياة ؛وكان شعرها الأسود المجموع الى الوراء، يضيف لجبهتها رونقا وقد ايقظت صورتها الطفولية صورة انثى سبق وأن تعرفت عليها ...

ـ جميلة.. حفظها الله و رعاها..

كانت امرأة هناك في الانتظار هي زوجته .. لم استطع ان ارى منها شيئا، فقد كانت مكفنة في سواد .. كل عضو فيها له غطاء يناسبه ويحكم حجبها..وحبذا لو استطاعت كبح لسانها قبل وجهها لكانت الى الدين اقرب ولصانت نفسها عن الظهور بمظهر الكبر والتحكم بلسان أعور بعيد عن لياقة خطاب يمكن ان تصدره انثى تدرك قيمة ما وهبها الله من أنوثة وطيب لسان..

اهتزت المرأة لما رأتني، احسستُ اضطرابها حين قدمني اليها:

ـ صديقنا المغربي من كان الهاتف عنده.

لم اسمع لها الا همهمة تمتمتها شفتاها، ثم التفتت حول نفسها وكأنها تبحث عن شيء سقط منها ...

ادركت ان المرأة في غير طبيعتها ..ربما ملت انتظار زوجها وهي تمني النفس بعشاء منفرد معه... فتضايقت من غريب يشاركها المائدة، خاصة وانها لن تستطيع ان تضع لقمة في فمها، الا بعد رفع النقاب المسدول على وجهها، ربما كانت تعبة او تشكو مغصا ما..أو ربما هو جفاف الطبع الذي يتضايق من كل ماعداه !!!..او ربما لها حساسية تجاه المغاربة وما يقال عنهم كذبا وزورا، فأن يتعرف الزوج على مغربي فمعناه ضرة ثانية آتية في الطريق .... ربما لفها ندم على ما بدر منها لما راتني انسانا وديعا متحضرا عاملها بتقدير  ..

انا نفسي تضايقت.. كيف احرم انثى من متعة الجلوس والتصرف بحرية مع زوجها، رغم انها لا تستحق تلك المتعة فأنثى بلا ذوق مثلها البقاء في البيت او الفندق أولى لها، فأنثى الصناديق قد تعميها الأضواء متى واجهتها الأنوار ...

استشعرت ان الرجل نفسه قد لاحظ اضطرابها وقلقي مما جعله يميل عليها ويسالها بوجه عبوس و كلمات تكاد تكون همسا: بك شي ؟إِيش فيك؟!!..

ردت ويداها تضطربان: لا، ما في شي ..تعبانة !!.أروح للمغاسل واعود..

قامت وقد كادت أن تتعثر في الكرسي ...

قلت ملتفتا اليه:سا ستسمحك وانصرف ..الحق بزوجتك ربما تحس شيئا..

زفر زفرة عميقة وقال: لا عليك هي تصاب بحالات عصبية..مذ تزوجنا ...أبشر ستعود بخير ..

"لا غرابة فلسانها الأعور كان بريدا وصلني قبل حقيقة ما أرى " ..

صمت قليلا ثم قال: احيانا نغامر بزواج بلا تفكير .. اني اعاني ياصديقي في زواجي...

معذور !!..وانا على ذلك شاهد، وكانه اراد ان يضفي نوعا من المرح حتى يقلل من وقع الحدث على نفسي :

ليتك تزوجني مغربية ...

عادت السيدة وقد كانت أقل اضطرابا، وقبل ان تجلس قالت:

ـ اعتذر، صداع حاد..

ثم بدأت تتجشأ وكأنها قد ألقت ما في جوفها قبل ان تعود من المغاسل.

ركزت بصري على المائدة دون اهتمام بوجودها ..

بصراحة ما تذوقت للاكل طعما ولا لذة ..المهم ان جسدي موجود، فقد كنت نادما على قبول دعوة مثل هذه..ربما صداع السيدة هو ما افسد لسانها بمنطق مقبول دفاعا عن مصالح زوجها ..

حين كنا نتناول الفاكهة رن جرس هاتف الرجل .. لما عرف المتكلم قام من مكانه وابتعد قليلا عن المائدة ؛عندها رفعت السيدة راسها وقالت:

كيفك ياسعد ؟!!!..

بلغ قلبي حلقي ..تصاعدت انفاسي واحسست بضيق في صدري.. بصعوبة بدأت احاول بلع ريقي، الى وجهها رفعت بصري بحذر وانا استشعر برودة أطرافي!!.. كيف عرفت اسمي ؟ هل لأجل ذلك ارادت ان توهمني بمكانة لدى زوجها وهو من لحظات من كان يذمها ؟

قالت:انا ريم ياسعد!!..اعتذر عما بذر مني ..

ازداد وجيبي، وبين التفاتة الى الرجل وتطلع اليها ادركت مامعنى اضطرابها، عصبيتها ..وقع المفاجأة عليها .. تسمية الصغيرة بعايدة ..

التفتت للصغيرة وقالت: روحي استعجلي بياك..

حين انطلقت الصغيرة رمت امامي ورقة صغيرة وقالت:

ـ خبيها بسرعة أرجوك

وضعت الورقة في جيب قميصي وأدرت الكرسي الى حيث كان الزوج يكلم مخاطبه احتراسا وخوفا ..

اقبل الرجل ..جلس بعد ان اعتذر عن الغياب معللا: شغل..

تلفت لزوجته وقال: انت أحسن الآن ؟ارتحت ِ ؟!!..

سؤال كم يحتمل من معني .. قد يكون مقصودا ..قد يكون عفويا ..قد يكون للإثارة فالرجل رجل استعلامات، ولا ادرى هل دار بذهنه شيء اثاره ...

صدري يعلو ويهبط كمنفاخ، والف وسواس خناس يتراكض في رأسي .. أصابع قدمي العشرة قد تجمدت حتى ما عدت أحسها مني، حاولت أن أتمالك نفسي، ان أحسس جليسي اني اتصرف بعفوية، جاهل بما يدور حوله ...

اقبل النادل ينظف المائدة .. كانت ريم تدقق في وجهي وهي غير آبهة بأن التفاتة من زوجها قد تجعلنا معا في قبضة من نار...

انشغلت بالحديث مع الزوج حتى امنعه من الالتفات اليها، فيضبط نظراتها، فهو ادرى بعيونها من تحت نقابها، وادرى بتعابير وجهها من وراء غلالة سوداء ما تعود عليها رجل مثلي ...

اقتربت الطفلة مني وكأنها قد استانستني .. اجلستها على ركبتي وقبلت يدها... نوع من الهدوء زرعته الطفلة في نفسي حين سألتني: انت شي اسمك ؟ لثمت يدها مرة أخرى ثم قلت: اسمي سعد، هل تذهبين معي الى المغرب؟

احنت راسها و حركته في رفض ..ثم استدركت: اذا تروح معي ماما

قلت:وبابا معها

قالت:لا بابا يسافر كثير كثير، ومشغول ..

كادت ان تقول شيئاآ خر حين قاطعها أبوها وسألني:

عندك أطفال الاخ سعد ؟

بسرعة تكاد تشبه اليقين:

في الطريق لاعانق أمهم اولا ..ضحك للتعبير ..

قمت استئذن للذهاب وقد قفزت الصغيرة من فوق ركبتي الى الارض، شكرت الرجل على دعوته وقلت للسيدة وعنها قد حولت البصر:

تشرفت بمعرفة زوجك سيدتي، انا مدين لكما بهذا الفضل .. حفظ الله عايدة.. تتربى في عزكما.

عانقت مضيفي وانصرفت ..

بسرعة داهمتني ذكرياتي .. شريط الصور يترى على فكري، يهز كياني، يعيد الحياة لعاطفة قدماتت في صدري ...

صرت اسير في الطريق على غير هدى .. اي صدفة هذه التي تعيدني الى خمس سنوات مضت ..يوم وقفت مع والدي في باب بيت ريم تصاحبني شخصية مرموقة من وطنها كواسطة لطلب يدها.. استقبلنا والدها ببرودة كنت اعرف نتيجتها مقدما ؛كان من بين الموجودين في بيتهم شيخ تجاوز الثمانين وشاب في عقده الثاني، لم يراع والدها حرمة الشخصية التي كانت معنا، ولا كرم الضيافة الذي يتوجب ان يبديه حتى ولوكانت بيننا عداوة مكينة، بالرغم من انه لم يتعرف احدنا على الآخر من قبل .. لا ادري ان كان السلوك الذي قد تصرف به وقاحة، او نظرة فوقية وتعالي، او انانية و ثقة زائدة بالنفس، او هو غرور الناقص عندما يستشعر في نفسه كمالا لا وجود له الا في تلافيف عناكب فكره ...

ما ان اقتعدنا بساطا ارضيا حتى بادرنا بالقول: ليست لي بنت حتى ازوجها لأجنبي ..بناتنا لابناء وطنهم، وبنتي الوحيدة مخطوبة لابن عمها هو ذا .

واشارالى الشاب الجالس ...

بسرعة تلفظ والدي قائلا وقد هم بالوقوف:

ونحن لم نأت لنخطب بنتا اجنبية بل فقط صاحبنا معالي الحاكم حين دعانا معه لتناول كاس شاي في بيتكم ككرماء من ارض كريمة ..اما وقد جف زمزم في بيتكم فما بقي لنا غيرالرحيل لاننا عطشى الى ماء مغربنا الرقراق..

قصدناالباب دون ان نرمي كلمة سلام وكنت احس بحنق الشخصية التي تصاحبنا وادري ان بعد حنقها سيكون ما بعده.

من يومها بكيت حبي.. بكيت عروبتي .. بكيت ديني الذي هدمته تقاليد عروبة زائفة، غارقة في البداوة والجهل بعيدة عن الايباء والنخوة والاحساس بالآخر، بكيت اساطير ما محتها مدنية ولا حضارة ولا تقدم الانسان بما وهبه الله من خيرات تؤهله ليكون من خير أمة اخرجت للناس ..

تذكرت الورقة التي دفعتها ريم الي خلسة .. وقارنت بين سلوكها وسلوك ابيها، غصن من تلك الشجرة ومعاودة انتاج، اخرجت الورقة من جيب قميصي؛ لم أفتحها ولم اعرف ما فيها ..مزقتها ثم طوحت بها بعيدا وانا اردد في سري: "وربك يفعل مايشاء ويختار ماكانت لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون"

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

وَجْـهُ المَودَّةِ في الصراحـة ناصعُ

والنـفـسُ يؤنِــسُها شــروقٌ ساطعُ

*

يَـتَـرنّـمُ الحـرفُ البليغُ  بِـذِكْرِ مَنْ

حَـفَـظَ الأصولَ وبالتجارِب ضالِعُ

*

نَـبَـضُ التآلفِ فـي السّـرِيـرَةِ  قائمٌ

فـإذا العَـزِيـمَةُ عَـضّـدَتْـهُ ، يـُواقِـِعُ

*

للـذكريات صَـدىً ، يُـجَـدِدُ طـيْفَها

فــتـعــود يــرفـدهـا خـيـالٌ واسِــعُ

*

صـبْـراً على بـُعْـد المَزار، فإن لي

قـلـباً يـراكـم فـي المـنام فَـيَـهْـجَــعُ

*

سِــفْـرُ الـنـقـاءِ ، لــه خــلـودٌ دائــمٌ

وَسَــنا الأصالةِ  في رُبوعِه يـَمْرعُ

*

ان التـفـنـنَ فــي الـكــلام ، بـعِـفّــةٍ

يسْــمو بـه مَـنْ في الصياغة بارِعُ

*

فــاذا البــيانُ مـع الـبـديـع تَـعـانَـقـا

فـلِـنَـغْـمة العــزْفِ الـبلـيغِ مَـسامِـعُ

*

ورَفـيفُ اجنحـةِ القَرِيضِ له صَدىً

في الليل يسْرقُ غَـفْوَتي ويـُضاجِـعُ

*

يـَصْـبو الى وصفٍ يـليقُ وصورةٍ

فـيهـا الجَـمالُ ، كما يـشـاءُ مُـوزَّعُ

*

يتسامرُ الأحبابُ في قصص الهوى

وهَوانا يَـخْـتَـبِـرُ الوِصالَ ، فَيَشْرَعُ

*

شــتّان مـا بين ابـتســامةِ مُـرْهَـفٍ

مِـن قــلـبه وُلِــدتْ ، ومَنْ يَـتَـصنّعُ

***

(من الكامل)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

لا تلوموني إذا هاجت جنـوني

بعد هذا الظفـرِ

كنتُ محرومـاً ولم تغمُضْ عيوني

يا لَطـولِ السَّـهـرِ

قد نصبتُ الدين شَـركاً بفنـونِ

مـنْ دهـاء الفِكَـرِ

فلقد أبدلـتُ دنيــاي بديــنـي

بعد جَنْـيِ الثّمــرِ

إنَّ هذا الغفـلَ شعبي تبِعــوني

في دجى معتكر

وهُــمُ مـنْ جهلـهمْ قد حَسِبـوني

منْ دعاةٍ غُـرَرِ

وأنا الغارق دومـاً في شؤوني

في التقاط الدررِ

فغليلي ليس يَروى مِـنْ عيونِ

ماؤهـا في نـزرِ

فدعوني أشفط السّحتَ دعـوني

ولأكُـنْ في سقـرِ

وإذا ما شئتمُ أن تشتمـوني

فافعلوا في حذرِ

أنتمُ إنْ تفهمـوني، تجدونـي

دمـيـةً من حجـرِ

2

إنّ روحي هي خضراءُ كخضراءِ الدِّمَنْ

إنّ قلبي جَذلٌ كالطير غرّيدٌ على كلّ فَننْ

وطموحي! آهِ ما أدراكَ في هذا الزمنْ!

عندما يُذبح طفلٌ ذاك تضميد جروحي

عندما يُنحـَرُ شيخٌ فهو تعزيزُ طموحي

عندما يُهدم بيت ذاك تشييد صروحي

وإذا ما دنِّسوا الأرض، فلنْ تدمى قروحي

أمنياتي، آهِ ، أن أبقــى رئيساً للوطنْ

لا أبالي:

وقِحٌ إنْ قيل عنّي أمْ حرامي ذو فِطنْ

3

صلّى وصام ولفلفـا ** قرأ الكتاب وحرّفا

وسعى بشوق عارم**ما بين مروة والصفا

سكب الدموع على الـ خدود تملّـقـاً وتزلّفا

متـرنِّحاً مُترنِّما**والمال في الغيب اختفى

يا ويله لمّا غـفـا** نكث العهود وما وفى

هذا الغلام المجتبى**باع الضَّميرَ وزيّفـا

***

د. بهجت عباس

إنها تمطر الان،

أيها العشاقُ...

تذكروا حبيباتَكم برسالةٍ

إبعثوا لهنَّ رابطاً لأغنيةٍ ساحرةً

مع عبارةٍ جميلةٍ

مع أمنيةِ أن (تظلّا معاً)

أو عبارة اعتذارٍ عن كلمةٍ جارحةٍ

سقطت سهوا ذاتَ يومٍ

أيها العشاقُ...

إنكم تخطؤون في حقِّنا دائِماً

ونسامحكم

يا صديقي المطرَ

أطِل هطولَكَ

كي تمنحَهُم فرصةً أخرى

للمرةِ الألفِ.

***

سمرقند الجابري - بغداد

 

المطر ضرير يخبط في صحن البيت المتداعي. البيت الأشيب  إلتهم طفولة (م) بفكي حيوان ضار. العتمة تفتح النار عشوائيا على الجيران. رائحة مقززة متعطنة تتطوح في أصقاع الحجرة المليئة بثعالب الهواجس.

هنا كل شيء يرغب في الموت.

في الهجرة الأبدية  إلى أقاليم الغياب الوسيعة. مومياء مسنة تحمل ذؤابة شمعة بين أصابعها المكسوة بتجاعيد كثيفة. تحدق في تفاصيل وجه الأب المتكوم مثل حشرة عملاقة نافقة.تبدو جثته مقطوعة إلى نصفين متوازيين كما لو أن شظية طائشة كانت وراء ذلك.

تزرب من حدبته ديدان مقرفة.

عيناه الضيقتان تبدوان نصف مغمضتين

أمضى نهارا يتخبط في خرم اللامعنى تلاحقه الأعين المتجسسة المرفودة بالكراهية والسخيمة.

تعض شحمة أذنيه أشباح نزقة.

عربة الجار ذات الحنجرة  المبحوحة المزدحمة بالغيوم تنادي باسمه كل صباح ليقترف العبث والجنون واللاجدوى بغية الحصول على رغيف أسود سام فظيع.

(ن) تخطفها حوذي الموت في الرابع عشر من آذار الفائت.

ماتت مثل سحلية قميئة في مكب نفايات. مخلفة فراغا يزعق مثل بومة عمياء كل مساء.

طردتها الحياة بمكنسة على مؤخرتها باتجاه الهاوية.

رغم ذلك لم تيأس من كسر قوقعة الفقد والتحليق بأجنحة متوهجة

في أصقاع البيت كلما تختفي الشمس وراء أكمة الأفق البعيد.

تزور بعلها المتشقق المنبوذ وابنيها اللذين ما عتما يحلمان بدفء عائلي أثير.

كان إبنها (س) يحس بوجودها وبخاصة حين تصهل فرس الظلمة

ويطلق الرعد أول قذيفة مروعة باتجاه الأرض وتتعالى أوركسترا القطط المتوثبة إيذانا بحفلة تنكرية ساخطة.

كان يناجيها بكلمات رقيقة ناعمة

بينما حزمة من الدموع تتساقط مثل شآبيب المطر على وجنتيه.

الأب حشرة منبوذة.

أخوه الصغير (ر) يثغو مثل شاة يهددها قطيع الذؤبان.

منذ يومين لم يذق شيئا على الإطلاق.

الله لم يعد مهموما بمشاغل هذا الكوكب الملعون المنذور لموسيقى  الموت البطيء. لا ينظر إلى الفقراء بعينين صافيتين.

نام الإبن الصغير بجوار جثة أبيه المنتفخة.حالما بنصف رغيف طازج وحذاء جديد لقدميه المتفحمتين.

تأبط (س) سكينا حادة واختفى في بطن العتمة. لم يحظ بأي عمل بسبب العاهة التي التي تكسو وجهه الكابوسي.

الناس موتى والبيوت مقابر.

لا نجوم على سطوح السماء.

الأشباح تتقاطر مثل مسافرين جاءوا من مدن نائية.

لا بد من ملاحقة جنود الجوع الذين يحلقون حذو جسد أخيه الصغير الذى طفق يتلاشى ببطء مثل غيمة في سماء محدبة.

وبينما كان يحرث الحواري بساقي كنغر أبله إذ لاح له بيت وسيع يشي بضرب من النعمة وبلهنية عيش قطانه.

وفجأة  تقحم بيتا فخما.

دقات قلبه تتسارع مثل عجلات قطار يحمل جثثا ورهائن.

ينز عرق بارد من جبينه الناتىء.

تفر من زجاج عينيه المكهربتين شياطين مجنحة مخيفة.

خطا خطوات مثيرة للأعصاب.

إنطلق خفاش من شجرة مجاورة

مثل سهم مصطدما بعامود كهرباء خشبي. صمته المتهدل يدق الطبول كما لو أنه في ساحة ملآى بالزنوج.

تسلق الجدار مثل فهد.قفز من البلكونة إلى غرفة الإستقبال المؤثثة التي تشي بالنبالة والبذخ.

ملأ جيوبه بمجوهرات نفيسة للغاية. ثم عاج على المطبخ بخفة.

إلتهم  ما لذ له من أطايب المأكولات. ثم إرتد على عقبيه سعيدا بهذا الكنز الذي يتلألأ في جيبه. ثم قفز من سور البيت الفخم متجها إلى بيته المتواضع كما لو أنه فاتح كبير لمملكة السعادة الأبدية.

وبينما كان يمني نفسه بقضاء آخر أسبوع مريح لعائلته البائسة جدا.

إذ قبضت عليه دورية أمن على حين غرة وتم اقتياده إلى السجن لما إقترف من جرم مشهود.

وأعيدت المجوهرات إلى أصحابها.

***

فتحي مهذب - تونس

 

غمزت لي عنقاء السؤال بقريحة الدهشة واستبطان الحواس، تُلمح عن جذوة حروفي الضالة بقناديل الإنطفاء؟، لِمَ انحرفت مسارات نبضي عن نور الإصطلاء..؟، وغارت أرجوزة الشغف عن غمد القوافي..؟، رَبَتتْ اشواقي على شطر القصيد، تتصفح إيماء عيوني بدوامة التعبير، أراني أتوجس الشعور بذهن الممكن لتشكيل سرد، وأنصت لدلالة الاحتمال بتدوين إضاءة ..؟، ربما أصحو على هفوة شروق بمطبات حلم بصيرة، أو تمر بي أنفاس غواية بتنهيدة تأويل، فأتحرى بلواحظ الألهام عن عشقِ عروش الشعر، أتماهى السدول بين نسغ الفكرة والترنح باشرعة المعنى، أهمهم أحيانا: يجدي الغوص في كثبان المشاعر باجواء ريح عاتبة المزاج بإيقاع استعارة، أو مشاكسة تسكع الأحاسيس باطلال الحنين للملك الضليل*، لذا تهرول أنامل الخيال لقرى فلسفتي المتمردة الرؤى، توقد عكاظ روحي على سطور ياقوتي الأزرق، مصطحبة زيزفون محبرتي بزيت توق متيم الإيحاء، تتخطفني لهفة التحليق على حين غرة التجمل بأوصال ابجديتي، فأنا ما زلت ادندن بغبطة جنون نرجسية الغزل بمناجاة حداثة وعي صامت.

***

إنعام كمونة نسغ التأمل

.............................

* الملك الضليل: الشاعر الجاهلي امرؤ القيس

 

وجهٌ يحاورنِي

يحدثُني عن حلمٍ فائتٍ

" طير يطيرُ ويحطُّ

يتلفت يمينًا

وشمالًا

ينفلتُ من حضنِي

يرددُ

" أغلقتُ باب القلبِ بالآهاتِ"

*

وجه محلق في الفلوات

أعياه التحليق

ولم يتعطل جناحاه

*

منذ شهور

وانت تطرق بابي

ولا تدخل

*

ما زالت  أقدامك

توشم عتبة الدار

*

كلما صعدت

السلم

وجدتك أمامي

كلما فتحت بابك

وجدت الغرفة

عائمة على سيل من الذكريات

*

لا تحزن

ما زال خطك ساري المفعول

هاتفك حار

برودة جسدك لم تصل إليه

*

آخر الاخبار

آثرت البقاء

بعيدا عني

كي لا تكرر

أخطائي

***

د. جاسم الخالدي

دخان يتصاعد

تشهق النار ماءً

معركة بحرية

2

كتاب أحمر

مفتوح الملاحة أبداً

عبوره مشروط

3

عَدُوَّةٌ جديدة

تحاول العبور مجدداً

سهمٌ مُباغِتْ

4

المضيق الجدير بالملاحة

بابهُ مغلق

أمام الأعداءُ

5

يُلَوُّحُ القَلْزَمُ

بِحُمْرَتِهِ

سلام ياغزة

6

لن يَمُرُّوا

تهتف سمكة القلزم

بعفوية

7

بحران

وخليج واحد

لن نتوانى

8

موجة هادرة

قف..

قالت النوارس

9

أسرار...

غموض...

ماهو البحر ؟!

10

عَدُوَّاتٌ بَحْرِيِّة

تختفي فيه

مضيق قَلْزُومَا*

11

إشارة حمرأء

في أزرق الدم

أعذر من أنذر

12

قصيدة بحرية زرقاء

ينظمها رُبّان

أحمر العين

13

ريحٌ صرصرٍ على الباب

مبتورة الوصول

أقدام كاذبة

14

من البحر... إلى البَرِّ

بيانٌ

عاجل

15

مضيق مرتاح الباب

وعينٌ ساهرة

تلك حكايتي

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

.......................

* مضيق قلزوما:على نسق مثلث برمودا

 

أحب ركاد عمته نعيمة، إلا أنها لم تبادله الحب، وكان كثيرًا ما يشعر أنها تبتعد عنه كلّما اقترب منها، الامر الذي اثار حب استطلاعه، ودفعه كلما دخل الى البيت، للنظر الى باب غرفتها، فاذا ما رآه مُقفلا عرف انها هناك، اما اذا كان مفتوحا فإنها تكون خارج البيت،.. إما تُقدّم الحقن الطبية لهذا المريض المحتاج المقعد، وإما في عملها الجزئي في مستشفى "ملائكة الرحمة"، في المدينة.

منذ فتح ركاد عينيه على الحياة، في بيت أهله الضخم الغائر في اعماق البلدة القديمة، استحوذ على اهتمامه حبّ معرفة عدم زواج عمّته، ابنة الخمسين، وانتقالها للعيش مع اخيها وزوجته في بيتهما، وكان كلما مضت الايام الح عليه السؤال ذاته، فعمته اجمل من امه، ومع هذا امه تزوجت وهي لا.. لم تتزوج، وهي امرأة عاملة تعمل في مجال التمريض.. وامه لا تعمل، لهذا كان يغتنم كل فرصة ليعرف سرَّ عمته المُعتم المُضبّب الخفي، فكان يحاول استراق السمع الى كل كلمة يستمع اليها عنها.. منها او من أحد والديه، دون ان يحظى بأية اجابة شافية.

كبر ركاد، واصبح في الثامنة عشرة من عمره، دون ان يعرف سر عمته، وكله رغبة في ان يعرفه، وكثيرا ما كان يدخل الى غرفتها عندما تكون أبوابها مشرعة على مصراعيها، فيتأمل كل ما تقع عينه عليه، لعله يجد الإجابة الشافية لسؤال بات يقلقه ويقضّ مضجعه، غير انه كان يخرج من الغرفة بالضبط كما يدخل اليها.. أقل معرفة وأكثر جهلا.. "آه لو اعرف سر بابك المغلق يا عمتي الجميلة"، كان يقول في نفسه، وهو يرسل نظرة آملة مستطلعة، الى الصورة الوحيدة التي علقتها في غرفته: صورة السيدة العذراء. في احد الايام تمعّن ركاد في ماسك مفاتيح عمّته، فلفتت نظره ايقونة ليسوع الناصرى، كان يبدو فيها.. في أطيب.. وأرق منظر. حاول ركاد ان يربط فيما بين ما رآه في غرفتها وبين مفاتيحها، إلا أنه لم يخرج بأية نتيجة، فهو يعرف ان عمته امرأة متدينة وانها تتردّد كل يوم احد على كنيسة المدينة، لتؤدي واجباتها الدينية كاملة وغير منقوصة.

مضت الايام.. وكان ركاد كلّما نسي سر عمته، او انسته اياه الليالي والمشاغل، عاد يلح عليه، الى ان تعرّف على ابنة الجيران، وراح يواعدها سرًا.. بعيدا عن عيون الناس، وكان كثيرا ما يلتقي بها بسرعة ويفترق عنها بسرعة أكبر. في لحظة الصفر من أحد لقاءاته بمن اختارها قلبه، ما ان رفع راسه في محاولة لاستطلاع الاجواء، حتى رأى عمته نعيمة فوق راسه بالضبط. احمرّ وجهه واحتار فيما عساه يقول لها، الا أنها اراحته من الإحراج والعناء، ومضت في طريقها باتجاه البيت في اعماق البلدة القديمة.

تعمّد ركاد ان يتأخر في العودة الى بيته، ودخله مُتسلّلًا على رؤوس اصابعه تجنبا لعمته، غير انه رآها على غير عادتها وقد اتخذت مقعدها في غرفة الاستقبال، حاول ان يتجاهل الموقف، مثلما فعل في مواقف محرجة نوعا ما وقعت له في السابق، وفوجئ بها أكثر تجاهلا منه، لماذا هي جلست هناك على غير عادتها"، سأل نفسه وهو يغرق في بحر حيرته.

مضت الايام تغذ انطلاقتها الى المجهول، الى ان المّت وعكة صحية خفيفة بالعمة نعيمة، ما لبثت أن اشتدت عليها الامر الذي دفع والديه، لنقلها الى مستشفى" ملائكة الرحمة" في المدينة، وكان ركاد يزور عمته نعيمة يوميا وعلى مدار الساعة تقريبا، فقد وجد نفسه يتعلّق بها كما لم يتعلق بإنسان آخر، وبدا خوفه عليها واضحا، فبذل كلّ ما في جهده لأن يخفّف عنها، وفي ان يساعدها في الابلال من مرضها، وجاءت النتيجة الطيبة، شفيت العمة نعيمة وعادت الى غرفتها، غير انها لم تعد قوية كما كانت، وبدا الهزال عليها واضحا جليا، فبدت اكبر من عمرها بعشرة اعوام، كأنما هي في الثمانين. بعد عودتها هذه شعر ركاد بتغير طفيف في توجهها نحوه، بل انه أحس في احدى جلساته اليها، انها ستكشف له سرها وستفتح امامه باب غرفتها المُقفل، غير ان ظنه خاب.

في إحدى الليالي الطويلة شعر ركاد بحركة غريبة وغير مألوفة في غرفة عمّته نعيمة، فاقترب من باب الغرفة متسلّلا على رؤوس اصابعه، ليرى عمته وقد جثت امام صورة العذراء النصراوية.. وراحت تناجيها بكلمات هيمن عليها الغموض، بالكاد فهم منها انها تطلب المغفرة لكل الخُطاة في العالم. اثار هذا المشهد مشاعر ركاد الخفية نحو عمّته، فدخل غرفتها وجثا الى جانبها على ركبتيه، ضاما ضراعته الى ضراعتها، ومبتهلا الى العذراء طالبا منها انقاذ خُطاة العالم.

ارسل ركاد نظرة مستطلعة الى وجه عمّته، فشعر بشبح اشبه ما يكون بشبح الموت يتلبّس وجهها، شعر بنوع من الرهبة، غير أنه لم يستسلم لمشاعره، بل ان دمعة لمعت في عينيه. بادلته عمّته النظر:

-هل تذكر يوم رأيتك فجأة مع تلك الفتاة؟

- أذكر يا عمّتي.. اذكر.

-أما زلت على علاقة بها؟

-طبعا يا عمتي.. ما زلت على علاقة بها. لكن لماذا تسألينني؟

طفرت دمعة من عيني العمة: "اعتقدت أنك قطعت علاقتك بها". وربّتت على كتفه مضيفة: "لا اريدك ان تعبث بمشاعر بنات الحارة، فلهن قلوب تشعر وتحسّ".

اقترب ركاد من عمّته أكثر فأكثر. انتابه شعور شديد بأنه على حافة سرّها العظيم يقف، احتضنها بقوة سبعين عامًا من الاهتمام والمحبّة المُضمرة. شعور طاغ انتابه انه انما يحتضن من اختارها قلبه، ابنة الجيران بالتحديد. واندمج الاثنان ركاد وعمته أول مرّة.. اندماج من عرف سرًا أقلقه طوال ايام حياته.

..................

قصة: ناجي ظاهر

أتــى رمــضانُ يحملً كـلَّ خـيرٍ

وخــيرُ الخيرِ في تقوى القلوبِ

*

فــلجمُ النَّفْسِ عن كلِّ المعاصي

أســاسٌ  لا يــغيبُ عــن اللبيبِ

*

ولــلأخلاقِ في التَّقوى نَصيبٌ

خــلالَ الــيومِ او بــعدَ الغروبِ

*

فــلا  جــوعٌ يــفيدُ بــغيرِ تقوى

ولا الإفطار في أشهى الطيوب

*

ولا جــلــساتُ ودٍّ ضــاعَ فــيها

ســديدُ الــقولِ عن فكرِ الأديبِ

*

وأفـــلامٌ بــهــا ســمٌ زعــافٌ

بقصدٍ كان  من عــينِ الرقيبِ

*

ولــكنْ لــقمةٌ فــي بــطنِ طفلٍ

يــعاني  مــا يعاني من خطوبِ

*

وأرمــلةٌ تــخلّى الــكلُّ عــنها

فتاهتْ في دجى الكونِ الرّحيبِ

*

عــظيمٌ عــندَ ربِّــكَ فــيه أجــرٌ

وقــد يُــنجيكَ مــن حرِّ اللَهيبِ

*

تــزكــى بــالعطاءِ فــفيه خــيرٌ

ســـواءٌ  لــلــبعيدِ او الــقــريبِ

*

وفــيــه لــيلةٌ فــي ألــفِ شــهرٍ

بــها  خــيرٌ فــهلْ من مُستجيبِ

*

وفــيــها أُنــزلَ الــقرآنُ يَــهدي

لــكلِّ الــتائهينَ عــن الــدروبِ

*

ونــنصحُ غــيرنا و العيبُ فينا

لــعمريَ ذاكَ مــن شرِّ العيوبِ

*

فــتــوبوا لــلإلــه بــكلِّ صــدْقٍ

هــو الــرحمنُ يــغفرُ لــلذّنوبِ

*

فــأرجو يــا إلــهي مــنكَ عوناً

عــلى كــلِّ الــرزايا و الكروبِ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

منذ نعومة أظفاري وأنا أعيش في محيط من النار، لا سلطة لي في اختياري، ولدت قضاء وقدر هكذا اتخيلني كلما واجهت العوم في ذلك المحيط الناعم الملتهب من حرارة الشمس، لم احظى بطفولة مثل ما سمعت ورأيت بعد ذلك بزمن تسارع وجعلني افترش واحات مياه باردة ملاذ أمن، شغفت صعوبة الحياة التي فرضت عليّ الى أن كابدت لهيبها، خاصة بعد أن ورثت مهنة والدي العراب كمهرب بين حدود دول متجاورة، ذاع صيتي بين حكومات تلك الدول، لم يتبينوا أو يتعرفوا عليّ غير انهم أطلقوا عليّ اسم سندباد محيط النار.. ذلك المحيط الرملي المليء بخبايا السراب وافواه الموت الجائعة التي تتلقف كل من يسترخي او يستريح لبضع سويعات، الرمال التي امتصت سياط الشمس الملتهبة ثم احتفظت بها لتردها الى كل من يسير متبخترا مدعيا انه دليل صحراء محيط النار، كنت قد توصلت الى قرار التخلي عن ركوبه، غير أنه في مرة جائني شخص أراد مني ان انقل له علبة لا يتجاوز حملها اكثر من يد واحدة، مصمما ان لا أحد يقوم بذلك غير وألزمني أن اسلمها الى رجل اودعني اسمه وعنوانه وصورته، إلا بيده ولا لأحد غيره، كنت قبلها بأيام أداول نفسي كما ذكرت الخروج بسفينتي التي طالما سارت في محيط من الرمال السائبة والمتحركة، كان يرافقي اغلب الاحيان ملك الموت الذي لا ينفك ينتظر كسر صواري عزيمتي، غير ان صوت ما جعلني استفيق من ضربة الشمس التي كانت تهدنني، فتحديتها فعزمت الخروج حيث العالم الآخر، بعيدا عن عالم محيط النار هذا، طلبت ثمنا كونها آخر مهمة لي تعجيزي لكن ذلك الرجل وافق على عجالة ودون تردد، لذا كنت امام الامر الواقع كما اني حسبتها جيدا بأن المبلغ سيعينني على ما نويت في حياتي القادمة.. يعلم اغلب اهل الكار اني لا اسير سوى في الليل درءا لدوريات الشرطة الحدودية وكذلك درءا عن حرارة الشمس ولهيب محيط نار، رمال الصحراء الملتهبة، كالعادة المكان الذي اقصدة لا ينال الوقت فيه سوى أربعة ليال وصباح يوم خامس اكون قد انهيت مهمتي، كما العادة ايضا لا يرافقني في رحلتي سوى بندقيتي وزوادة صغيرة وقربة ماء، توكلت على الله في نفس ليلة الاتفاق لكن بحذر فالكار الذي اعمل فيه لا يخلوا من رفاق سوء او خيانة، عالمنا لا صاحب فيه ولا صديق، مجرد مصالح عنوانها الرئيس الموت او القتل، لم اسأل عن ماهية ماكنت انقله تلك عادة ورثتها عن والدي كي احظى بالامان بالاضافة الى ابقاء جرعة الشجاعة التي اتمتع فيها، لأن معرفتي بما انقله تضعف من عزيمتي وشجاعتي كون الحرص يزداد في حمايتها الى جانب فقدي التركيز على المحيط الذي ابحر فيه، مرت الليلة الأولى بسلام ودون منغصات، والليلة الثانية ايضا، توجست خيفة، غير ان اليوم الثالث ما أن لبس آخر النهار عبائته حتى تواردت الضباع من عدة اتجاهات كأن هناك من سخرها للنيل مني، عوائها سقيم طبعها لئيم، الضبع حيوان انتهازي مستغل اي لحظة هجوع او سكون، اوقدت النار كي احمي نفسي ثم جلست ممسكا ببندقيتي متجولا بعيون خبرت انفاس تحرك الرمال، في تلك الاثناء حفرت لي في الرمال حفرة ثم حشوت نفسي بداخلها بعد ان غطيت جسمي بالرمال حتى رأسي، بعدها ان وضعت عليه ما يقيني من الرمال غير أني عملت مخرجا صغيرا للتنفس، بداية كنت متفقا مع رمال المحيط التي بدت باردة لكن بعد ان مر اكثر من ساعة وافتني حرارة الرمال حتى ابتلت ثيابي وشعرت بفوران دمي في شرايينها... لم اطقها رغم عشرتها لي، دفعت بنفسي الى الخارج، كمن يلقى طود نجاة من الغرق، كانت الضباع تتجول حولي ولا تقترب خوفا من النار، غير ان احدهم بدا انه زعيمهم هجم علي منتهزا ارتباكي فنال من ساقي بعد ان اجرى فيه انيابه، اطلقت رصاصة لا على التعيين، هرب يجر خيبته وهو يلعنني لكنه نظر إلي بنظرة تشفي وفوز، ثم عوى بقوة كأنه يبلغ جماعته بنصره ويقول لي انه قد نال مني.. سارعت بأخذ قدر كف يدي من الرمال التي تحت النار فوضعتها على الجرح، أحسبها كفيلة على ايقاف النزف، ربطتها وركنت الى نفسي ممسكا ببندقيتي تحسبا لهجوم غادر سافر جماعي، بينما أنا كذلك سمعت صوت حركة كنت متأكدا انه ليس صوت حيوان، توجست الخيانة لربما هناك من تبعني ليسلبني الحياة وينال مما بين يدي، اخرجت العلبة راودتني نفسي ان اكشف سرها لكن عتاب ضمير منعني فالخيانة رداء لم يرتديه والدي ولا اسلافي، زممت النار بالرمال فانطفأت ثم سارعت في طريقي، الضباع تقارعني بين كر وفر كنت خفيفا وأنا اجري رغم جرحي، أما ذلك الصوت فقد بات بعيدا... ساعات لا اعلم وقتها كنت قد وهنت اوصالي بسبب جرح ساقي، شارف الفجر أن يزيح غطاء الظلمة، طرحت بنفسي بين طل صغير وهضبة شبه بعيدة، بدا الهواء بارد، قبل ان ارى الجرح اوقدت النار ومن خلال ضيائها كان ذلك الضبع ومعه اثنان يتطلعان إلي، اخرجت جعبة الماء وبللت قطعة قماش ثم عمدت الى مسح جرح ساقى، يبدو ان رائحة الدم اثارت الضباع فاخذ تعوي وهي منطلقة تدور حولي، فعمدي الى بندقيتي فصوبتها الى ذلك الضبع الذي وقف منتصبا متحديا لي، اطلقت الرصاصة الاولى فأنفلت منها اما الثانية المباغتة في السرعة اظنها صرعت رفيقا له، في اثناء ذلك كادت رصاصة تصيبني وقد أزت مسرعة بالقرب مني، التفت وإذا برجل يحاول قتلي، رميت بنفسي حيث الطلة الصغيرة ورحت اتدحرج كأنه اصابني، كنت انظر في اتجاة مكان اطلاق الرصاصة.. وهلة رأيت فيها شخص يبادر للنهوض بحذر كنت قد رصدته والضباع تعوي لموت رفيقها، ما ان قام حتى اطلقت عليه النار فارديته صريعا كما ذلك الضبع.. صراخه جعل الضباع تسارع اليه لإفتراسه، اما انا فانتهزتها فرصة كي احظى بركوب رمال المحيط الباردة قبل بزوغ الشمس، في المكان المحدد سلمت الرجل العلبة، بعدها قمت بالتداوي مؤملا نفسي بعمر جديد احياه في بيئة يابسة ليس فيها محيط من الرمال المتحركة، هذا ما قصصته على زملاء لحفيدي كانوا يرتادون زيارته، بعد عودتهم من المدرسة، كان متفاخرا وهو يستمع الى قصة الضباع كبطولة لجده.

***

القاص والكاتب: عبد الجبار الحمدي 

 

يطل من شباك الحديقة

ذاك العجوز

صاحب النظارات السميكة

والعينين الغائمتين

والفم المليء بالضباب والشتيمة.

صاحب الوجه المسرحي الساخر

القامة الأبدية التي لا تنحني

يحمل سيجارا فخما بين أصابعه

ويفكر في قتل المزيد من الرهائن

يفكر في سرقة أجنحة النور

في طرد الشمس من غابة الشعراء

إخفاء الرب في معطفه الخريفي

توزيع حبال المشانق على العميان

جلب المزيد من السحب والكوابيس

إلى بيت الأرملة.

فتح النار بكثافة في الهواء

أنا معزته الصغيرة

التي ترعى عشب الهواجس في حديقته

معزته الشقراء الأثيرة

كلما تثغو أو تنادي سكان العالم الميتين.

يسمعها فاصلا موسيقيا من صرير عظامه.

ليطرد الأشباح من عمودها الفقري

يضع تاج النعاس على رأسها

يطارد زيزان ذكرياتها بلسانه العنكبوتي.

لتنام على أثافي أعصابها

أيها العجوز

أيها الحزن الجالس على أريكة

مثل أمير من القرون الوسطى.

أطلق سراحي

في انتظاري حروب فظيعة

هل أخوضها بظهر مقوس

وقلب مليء بالثقوب والخسائر

في انتظاري قطار مليء بالأسرى

والنساء والجنود.

في انتظاري ستون مترا من الفراشات العذبة.

أيها الحزن العجوز

لماذا بيتك مليء بالصخور والمسدسات والجثث

برائحة الوطن المتعفن

وأزهار الجنائز؟.

***

فتحي مهذب - تونس

 

مِن خَلفِ التَّنورِ أَطَلَّتْ أُمِّي

تَحمِلُ بين يدَيها

رَغيفاً وسُنبُلَةً

تبتسمُ مِثلَ وَردةٍ قبَّلَهَا النَّدى

في سَاعاتِ الصُّبحِ الوليدِ

فتَضَوَّع المُستَقَرُّ

بِعَبَقِ المَرجِ وأَريجِ الخُبزِ

**

أُمِّي نُضُوحُ النَّبعِ

في وادي الذِّكرى

هُناك تَجلِسُ في صَبرٍ وأَناةٍ

تُحيكُ لي سُترَةً صوفيةً

كي أُحاربَ بِها

طَواغيتَ البَردِ وشياطينَ الجِّنِّ

وأفاعي الغُربَةِ

**

كُلَّما فَرَغَت جُعبَتي من فَرحٍ

أفتحُ خِزانَتَها العَتيقةَ

وأملاَ جيبي بحَفنَاتٍ

من قَمحِ عينَيها

ومِن تَجاعيدِ يَدَيها

**

أُمِّي من طَيفِ بَسمَتِها

أقتطِفُ رَيحانةً تكفي

لإضاءةِ عَتمةِ أيَّامي المُقبلةِ

وسَدِّ رَمَقِ رُوحي المُرهَقةِ

**

أُمي أشتاقُ إلى كَلمةِ عِتابٍ

أو لَمسةٍ وإلى مجرَّدِ هَمسَةٍ

وإلى عِناقٍ لا يُقِرُّ بأوقاتٍ

ولا يعترفُ بتعاقُبِ الأزمنةِ

**

في صَمتِ غيابِكِ أُمِّي

رُبَّما لا يَكفي

ما في العُمرِ مِن بَقيةٍ

كي أروي لكِ حِكاياتٍ

في جَحيمِ البُعادِ

كم صارت الشَّمسُ باهِتَةً

وكيف صارت شُؤماً

ضِحكَةُ القَمرِ

وكيف تَبكي في كُلِّ مَساءٍ

تِلك الزُّهورُ الَّتي زَرَعَتْهَا

يَداكِ في جَنباتِ حَديقتِنا

**

يموتُ الضَّوءُ في عَينَيّ

ويعتري فؤادي

زَمهَريرٌ وخَوَاءٌ

أعيشُ ولا أعيشُ

كأنَّكِ يا أُمِّي

في يومِ ميلادي

رَبَطِّتِ حَبلَ السُرَّةِ

بلَمسةٍ من كفَّيكِ

وضِحكةٍ من شَفتَيكِ

ومن زَغاريدِ وتَرانيمِ كُلِّ الأعيادِ

فكيفَ في عَتمةِ الرَّحيلِ لا أرتجِفُ؟

وكيفَ في مَحطَّاتِ الوَداعِ لا أنتَحِبُ؟

**

أُمِّي هل تَرَكْتِ مِعطَفَكِ الأَسوَدَ

مُعلَّقاً على مِشجَبِ ذَاكِرَتي؟

أُمِّي أخبريني

هل نسَيتِ صُرَّةَ الحَلوَى

يَتيمةً على رُكْنِ طَاولَتي

ومُسرعةً مَضيتِ؟

**

حين تَجئُ أُمِّي من فَضاءاتِ المَدى

تَحمِلُ في حقيبتِها مَطراً وحُبَّاً

ومِنديلاً أبيضَ مُعطَّراً بدُموعِها

تَمسحُ عَن وَجهي غُبارَ الوَهَنِ

وتَطبعُ قُبلةً وبُرعُمَ وَردةٍ

فوقَ وَجنتي

وتُغادِرُ قبل أن يُشْرِعَ الفَجرُ أبوابَهُ

فوق حِيطانِ حَيِّينا العَتيقِ

وقبل أن تستفيقَ الياسَمينةُ الغافيةُ

على جِدارِ نافِذتي

**

أُمِّي كم أشتاقُ إلى لَونِ الرَّغيفِ

الَّذي كان بفرحٍ يرقصُ بين أصابِعِكِ

وأشتاقُ إلى بَوحِ التَّراتيلِ

الَّتي كانت في كُلِّ الدُّروبِ تنبعِثُ

وأنا مُمسِكٌ بِذيلِ فُستانِكِ

كأنَّهُ مَلاكي الحارِسُ

حين يخفُتُ نورُ السَّماءِ

ويتلاشى وَجهُ البَدرِ

**

أُمِّي يا زّهرةَ أُقحوانٍ بَريَّةٍ

يا صَوتَ النَّاي الصَّادحِ في المَدى

أُمّي يا عِشقي الأبدي يا بَلسَمَ جِراحاتي

أُمّي يا مِلحَ الأَرضِ الَّذي أبداً لا يَفسَدُ

أُمِّي رُغمَ غَصَّةِ الرَّحيلِ

الَّتي سَكنَتْ رُوحي

عَزائيَ الأكبرُ

أنَّكِ كُنتِ

كُنتِ أُميِّ

***

جورج عازار

ستوكهولم السويد

شَعْبنا شَعْبٌ عَزومٌ واثبٌ

يَتحَدّى والصَريعُ الغاصِبُ

*

ألمٌ يُسْقى بجُرْحٍ نازفٍ

ووريدٌ مِنْ نَجيعٍ ناضِبُ

*

كيفَ صارَ النزفُ طبّاً صالحاً

لجراحٍ إعتراها الواصِبُ

*

إنّهم غابوا بأذوادِ العِدى

لا عدوٌ بل صديقٌ صاحِبُ

*

أذعَنوا فيها وعنها اغْتربوا

فِعْلهمْ صدقٌ وقولٌ كاذِبُ

*

مَلأوا الدنيا ضَجيجاً زائفاً

وسُعاهمْ برباها خائِبُ

*

دَجَلٌ يَطغى وبُهتانٌ نَمى

وعلى الأشهادِ كلٌ راغِبُ

*

قد تَعبنا من صراعٍ بائسٍ

فانْزوينا وأتانا الناكِبُ

**

حينَ ماتوا قالتِ الأعداءُ جادوا

حبّذا موتّ فعندَ الموتِ سادوا

*

أمّة تُطوى وشعْبٌ حائرٌ

ورموزٌ للخطايا عاهَدوا

*

رَهَنوا كلّ عَظيمٍ رائدٍ

والرَزايا إجْتَباها القائدُ

*

قد تَشظى مَجْدُ أمٍّ ساطِعٍ

وإذا الخصمُ لشعْبٍ عائِدُ

*

هكذا الدُنيا اسْتحالتْ بُرْكةً

جفِّفِ الماءَ فأنتَ الصائدُ

*

يا بلاداً قد أضاعَتْ عِزّها

فأتاها بَعْضُ جَمْعٍ حاقِدُ

*

برثاءٍ وعَويلٍ قولها

فاسْتكانتْ وتمادى الجاحِدُ

***

زعزعَ الأوطانَ دوماً حاكمٌ

بانفرادٍ فتَخابى الثائرُ

*

هذه الدنيا كتابٌ واضحٌ

لعقولٍ إصْطفاها القادرُ

*

يا عَضيداً أيْنَ غابَ المُرْتَجى

وتوارى حاذقٌ أو فاكرُ

*

قوّة الإخْلاصِ في فعلِ الرؤى

فتسامى أنتَ حَقٌ طاهِرُ

*

وبأرضٍ ذاتِ رَحْمٍ فارغٍ

يَتبارى في رُباها العاثِرُ

*

جَعَلوا الدنيا ضجيجاً واهيا

لبَعيدٍ ورَميمٍ عاصَروا

*

فأبانَ الصدقُ ما قد أحْضَروا

وإذا الحكمُ بدينٍ جائرُ

****

زحفوا دون سلاح نحوكمْ

قائلٌ قالَ وفعلٌ واجمُ

*

أيّها الأعْرابُ أنتمْ سِلعةً

بمَزادٍ والكفيلُ الحاكمُ

*

مَزّقوكمْ رغمَ أنفِ كلكمْ

نفطُكمْ ضدَ وجودٍ ناقمُ

*

حَطَموا روح جَميلٍ عِندكمْ

وببُهْتٍ إسْتعانَ الراجمُ

*

مَحقوا كلّ صَحيحٍ واضحٍ

نَهبوها والدليلُ الغانمُ

*

أمّة الإلغاء تَرْعى ضدّها

أبلسَ الرأسَ بليدٌ سائمُ

***

د-صادق السامرائي

طالِعٌ منْ دمي،‏

كالسنا والحنينْ...‏

جسدي في الفلاةِ قَطاةٌ‏

وروحي تحومُ،‏

على وردةٍ‏

منْ أنينْ....‏

فأنا صوتكمْ‏

وأنا جرحكمْ‏

وأنا ما تبقّى لكمْ‏

منْ زهور السنينْ!...‏

** ‏

لماذا أموتُ،‏

بلا أُمْنيةْ؟‍!...‏

لماذا قُتلْتُ،‏

بلا بسْملهْ؟‍!...‏

لماذا جروحي،‏

تظلُّ جروحي؟‍!...‏

وكيف الطريقُ،‏

إلى الزلْزلهْ؟‍!...‏

** ‏

طالعٌ منْ دمي‏

أرسمُ الضوءَ‏

واللغةَ الرّائعهْ...‏

طالعٌ من دمِ الشهداءِ‏

ومنْ أرْضنا،‏

سنْبله....‏

فاحملوا جسدي عَلَمَاً‏

وكتاباً‏

وغنّوا لأحْلامنا المُقْبِلهْ!!...‏

** ‏

يجيءُ الصباحُ‏

ليحملَ روحي كصفصافةٍ‏

منْ ضياءْ...‏

يجيءُ الصباحُ‏

تراني أأذرفُ دمْعاً‏

على قمرٍ ينْطفي‏

أمْ سأرْفعُ في الرّيحِ‏

ورْدَ الإباءْ؟‍!...‏

يجيءُ الصباحُ‏

وقلْبي رفيفٌ،‏

يحنُّ إلى وطنِ الحُبِّ‏

والكبرياءْ!...‏

***

شِعر: إباء اسماعيل

سننتقم من الديك

وصياحه

وازعاجه نوم الزعيم

وأقلق راحة باله

وهو المهتم بشؤون الرعية واحوالها

*

سننتقم من الكلب

الذي نام بلا استئذان

وتخلى عن حراس الزعيم

وعرض امن قصر الرئاسة الى الخطر

*

سننتقم من النمل

الذي لم يدخر محصول السنة

وسبب في انهيار اقتصاد البلد

*

سننتقم من الظل

الذي دوما يختبئ وراء خيوط الشمس

ويحرم الزعيم من قيلولته اليومية

*

سننتقم من الرياح

التي تهب عكس التيار

وتترك تخت الزعيم يصارع الامواج

*

سننتقم من المواطن

الذي لم يعلق صورة الزعيم

على جدران كوخه البئيس

*

سننتقم من كل الشعراء الغاوون

الذين رفضوا اتباع الزعيم

في نزواته المجونية

*

سننتقم من ‘’اسرائيل’’

بالدعوات والسب والشتم

ونتفرج على الابادة الجماعية في فلسطين

*

واخيرا وليس آخرا

سننتقم من اي امرأة

لم تلد زعيما  يشبه الطاغية الوديع الوسيم

***

بن يونس ماجن

ليتنَا

نُصبحُ من فصيلةِ الأقزام

*

الزّهرةُ

في قامةِ النّخلة نَتسلّقُها

نجري معَ النّمل

يَسْبِقُنَا

السّلحفاةُ تمرّ مُسرعةً

نَمتطي صَهوتَها

*

أمّا عِمامةُ الحَلزون

ففي تلافيفِها ننامْ

خدًّا على خَدٍّ

ويا دُنيا

عليكِ السّلامْ…

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

ما إن غربت شمس عام 1948، ورحل من رحل من الاهالي الفلسطينيين وبقي من بقي، حتى استجد وضع حافل بالحكايات والاقاصيص،.. وبات مساحة خصبة للأقوال والاقاويل. وقد انتشرت في تلك الفترة قصة الرجل الغول المرعب قاطع الاذن اليمنى، وكان هذا، كما تناقل الناس في تلك الفترة، قد تقدم الى سلطات الاحتلال المعنية، بطلب رخصة " جفت" انجليزي، لصيد الخنازير البرية، في الظاهر وللمواجهة اعداء له، طالما هددوه وتوعدوه بالقتل في ليلة معتمة لا قمر فيها، فما كان ممن  تقدم لهم الا ان احالوه.. من مسؤول حكومي الى اخر، الى ان توقف في غرفة ضيقة قبالة محقق ذي ملامح قاسية، واستمع اليه بنوع من الرهبة يقول له: سنعطيك رخصة جفت انجليزي وسوف نفتح امامك المجال واسعا لصيد ما تود اصطياده من الخنازير البرية، شريطة ان تتعاون معنا، في انهاء ظاهرة المهربين والقضاء عليها. عندها تصور الغول نفسه يتقلد الجفت ذا الخرطوش الرش، على كتفه ويعتلي جيبا المانيا مصلوبا على بوزه خنوص صغير، فاعجب بنفسه، وتوجه من فوره للمحقق قبالته بنوع من تصعير الخد والصلف.. سائلا اياه عما إذا كان بإمكانه ان يتمادى في طلب كرمه فيزوده بجيب يرتاد به الجبال وينزل الوديان بحثا عن المهربين. أيقن المحقق المنكح انه امام متعاون حقيقي، وانه بإمكانه ان يعتمد عليه، فأرسل نحوه نظرة غامضة، وهو يقول: وهو كذلك، فما كان من الغول الا ان سأله ليتأكد مما سمعته اذناه، هل انت محق بوعدك هذا؟ فرد المحقق بصلف أكبر: تعال غدا لتأخذ الجيب. احنا بنلعبش.

في صبيحة اليوم التالي المبكرة، وفد الغول الى مركز الشرطة في القشلة، وحاول ان يدخل ليأخذ الجيب الالماني الموعود، فما كان من حارس المركز الا ان رده مهددا اياه بإطلاق النار عليه، إذا ما تمادى وحاول الدخول بالقوة. ارتد الغول الى الوراء. وسوى منطقة استخرجت منها المناجذ عدة اكوام من التراب ونام عليها وهو يرسل انظاره المترقبة الى فروع شجرة الزنزلخت فوقه. استسلم الغول الى النوم، وحلم انه دخل الى مركز الشرطة ورأى الجيب ينتظره هناك، لكن ما إن اقترب منه ليضع يده عليه، حتى شعر بمحركه يدور بقوة، وبه ينطلق بعيدا.. كان ذاك كابوس، دفعه للنظر في ساعته ليلاحظ ان الوقت قد مضى وان الشمس قد تعالت.

حمل الغول نفسه ودخل الى مركز الشرطة، وتوجه هذه المرة الى غرفة المحقق ذاته، ليفاجئه هذا مرحبا ومهللا ومخبرا اياه ان رخصة الجفت الانجليزي والجيب الالماني حاضران. افترشت الابتسامة وجه الغول، وقال للمحقق قبالته، ما المطلوب مني؟ كيف على ان اتصرف؟ فنفر به المحقق قائلا: عليك ان تلاحق المهربين في كل مكان وموقع، وان تقتلهم بلا رحمة. وطلب منه ان يأتي اليه بالأذن اليمنى لمن يقتله منهم ليتأكد من انه قتله. وزيادة في الاقناع اردف المحقق يقول: انني اطلب منك هذا الطلب الصعب لسبب بسيط هو انه يوجد هناك من هو اعلى مني.. ومن حقه ان يتأكد أنك اديت واجبك على النحو المرجو والمنشود.

بعد وقت قصير تمنطق الغول بالجفت الانجليزي، وركب الجيب الالماني، وانطلق باتجاه بيته. هناك استقبله اهل بيته بالبِشر والسرور، وتوافدوا واحدا وراء الآخر لتهنئته بما صارت اليه احواله من راحة ونعيم. ومع هذا لم ينم جيدا، وتصور نفسه يطلق النار على مهرب هرب منه، فيسقط هذا ارضا ليقترب منه ويطلق مرة اخرى وسط استغاثته ودموعه، الا انه يبادر لتنفيذ المهمة المنوطة به.. يستل السكين المشحوذة جيدا ويقتطع اذنه اليمنى. عندما هاله ما تصوره خاطب نفسه قائلا" كل شيء في البداية يبدو صعبا".

وهكذا كان.. انطلق في اليوم التالي باتجاه الخط الحدودي، ولبد وراء صخرة كبيرة بانتظار صيده الاول.. ومضى الوقت دون ان يفد احد، وعندما اقترب المساء، اقنع نفسه انه لن يعثر على ما انتظره وترقب حضوره، وما إن تحرك في موقعه محاولا الانصراف، حتى احس بشبح يقترب من مكمنه مخترقا العتمة والاشجار.. فعاد وانكمش على نفسه. ما إن اقترب الشبح من مخبئه حتى صوّب جفته الى صدره واطلق، لينطلق الرصاص فيخترق صدر الجسم المقترب. تهاوى الشبح امامه صارخا" يمّا"، فاقترب منه، واطلق عليه مرة اخرى، بعدها استل سكينه الماضية، واقتطع اذنه اليمنى. ومضى في طريقه عائدا من حيث اتى ومتصورا ما سيناله من جوائز وهدايا سنية لقاء عمله البطولي.

تكرر في اليوم التالي ما وقع في اليوم الاول، اما في اليوم الثالث فقد اختلف الامر، فقد انتشر خبر قاطع الاذن اليمنى. الامر الذي جعل المهربين الفقراء يأخذون المزيد من الحيطة والحذر. عندها وجد الغول نفسه في مازق حقيقي، فمن اين يأتي بالأذان ليقدمها الى محقّقه؟.. وكان ان تفتق عقله المبدع الخلاق، عن فكرة ما لبث ان بادر الى تنفيذها. ارتدى ملابس مهرب فقير، وتوجه، بعد بحث وتنقيب، الى مهرب معروف، ليترافق هذا معه، في عملياته الخطرة، واتفق معه على ان يعطيه الربح الاكبر. المهرب فرح بعرض الغول، ومضى الاثنان باتجاه حي العرب. اشتريا ما ارادا تهريبه من سجائر وايشاربات، ومضيا عائدين عبر السهول الجبال والتلال. عندما تعب الاثنان استلقيا تحت شجرة قريبة من الحدود، ليرتاحا من وعثاء السفر، وعندما سمع الغول شخير المهرب. اقترب منه وغرس سكينه في قلبه، وعندما أحس ان روحه قد غادرت جسمه، أدني سكينه من اذنه اليمنى واقتطعها.

انتشر خبر مقتل هذا المهرب، فراح المهربون يحققون وينقبون الى ان توصلوا الى الحقيقة، الغول هو القاتل. والهدف هي اذن المهرب، وإلا اين ذهبت اذنه ومَن المستفيد منها؟ وكان ان اتخذ شيخ المهربين قرارا وقال بتصميم:" علينا ان نضع حدا لهذه المهزلة.. والا اكلنا الغول واحدا تلو الاخر".

قرار شيخ المهربين، سرى سريان النار في الهشيم اليابس، الحاضر للاشتعال، وكان ان اخذوا ينتظرون ان يفد الغول الى أحدهم لمرافقته الى حي العرب. وما إن خرج الغول من بيته متخفيا بزي مهرب، ودلّته حاسته الرهيبة المدربة على احد المهربين، حتى اقترب منه، وعقد معه صفقة، تقضي بان يترافق الاثنان في عملية تهريب كبيرة، يكون فيها نصيب المهرب اكبر. ابتسم المهرب وهو يستمع الى كلام الغول المتخفي، وقال له "تمام افندم".

عملية التهريب جرت بدقة واحكام، بالضبط كما خطط لها الاثنان، وعندما تعبا في طريق عودتهما، اخذ الغول في التثاؤب، في محاولة منه لان يدفع مرافقه الى النوم، فاخذ هذا في التثاؤب، وافتعل النوم، بل انه راح يرسل شخيرا شديدا.. عندها فتح الغول عينيه، استل سكينه بسرعة وما ان رفعها ليغرسها في صدر مرافقه المهرب، حتى شعر بشيء يخترق اضلاعه.. وضع يده متحسسا هذا الشيء.. واندفع الدم متدفقا غزيرا من صدره.. غامت الدنيا في عيني الغول.. فبادره المهرب بطعنة اخرى.. واعتلاه.. موجها سكينه الى اذنه اليمنى بالضبط.. ومجتثا اياها من مكانها. وضع المهرب اذن الغول في فمه.. وفي منتصف الليل قذف بها قبالة مركز الشرطة.. ومضى مختفيا في ظلام الشارع.. والاشجار.

***

قصة: ناجي ظاهر

عجبٌ عجبْ ..

تتهاوى كلماتُ من فسيح العبثِ

وتهفو بينَ عينيها

كرفيفِ الهدبْ..

ثم تمضي على خافقٍ من جليدٍ

يثيرُ الغضبْ..

**

فماذا تقولُ ، إذا ما الفؤادُ تلظى

وبانت شراينه كاللهبْ..؟

أتغرس رأسك

في رمالِ الزمانِ الكسيح

يدوس على ظهرك

كلُ من هبَ ودبْ..؟

**

تخاتلُ في وضوحِ النهار

وتشكو هموم الليالي القفار..

وتغمض جفنيك عندَ بلوغِ التعبْ..

ثم ، تصغي، كما لو تناءى إليك

نداءُ البقاءِ

وهمس الدعاءِ

وصخب العتب..؟

**

أراك تصرخ في العراءِ،

ولا من سببْ..

يعيد لك الصحو والعنفوان

وكأس النخبْ..

**

عجبٌ عجبْ

تحاول أن تطاول هذا الزمان الكئيب

بأنشودة قد طواها الخببْ..َ

**

دعوني أحاور هذا الكسيح

ومن دون أن أستبيح

هموم العذارى..

في زمان يشتكيه السكارى..

" سكارى وما هم بسكارى "

كلام يشاغله واقعاً

بينَ بينْ

بين القذى والشذى

واقعٌ مستباح بدون عمد..

يهز البيان

فكيفَ نُصلِحُ المِلحَ إذا الملح فسد؟

**

وإذا الكيلُ طفح

وإذا الويل جنح

وإذا السلم ذبح

كل نور في دياجير

السموات العجب..؟

* * *

د. جودت العاني

02/12/2023

صرخت وسقطت أرضا. غابت عن الوعي، اقتربت منها ابنتها نوال، حاولت اسعافها. ارتبكت، بحثت عن هاتفها، اتصلت بوالدها. هاتفه مقفول كالعادة. عندما يغادر البيت الى العمل أو المقهى، يقفل هاتفه ولا يهتم باحتجاج ابنته أو زوجته التي قالت له يوما في عز غضبها "أكيد سأموت بسببك. كيف سنتصل بك إذا كنا بحاجة اليك؟".

اتصلت نوال، بالإسعاف وهي ترتجف وتنام بين الغضب والخوف والحزن. كان لصراخها وخوفها على والدتها "نادين" الأثر القوي على ذلك الصمت الليلي الذي كان يخيم على المكان. سألتها جارتها: "أين والدك؟" احتارت في الإجابة، ونامت دمعة ثائرة بين مآقيها، وقالت محاولة تلميع صورته:" انه مسافر، لقد اتصلت به وسيحضر بعد قليل."

مكثت طوال الليل الى جانب والدتها نادين، تمسك يدها وتحضنها. وفي نفس الآن، تلقي نظرة على هاتفها ربما يحن والدها لصراخها الذي مزق هدوء ذلك الليل الصيفي. ظلت نادين، غائبة عن الوعي، لكن رفضت ابتسامتها التي لازمتها في أحلك أزماتها معه أن ترحل، كأنها حارسها الأبدي من كل مكروه. فتحت عينيها ببطء شديد، نوال ابنتها على جانب السرير وهاتفها بين يديها. مسحت بيدها على رأسها كأنها تقول لها، "أنا ما زلت معك، لا تخافي انني اقوى من غياب والدك."

كان يوما خاصا، لا يشبه باقي الأيام العادية بالنسبة لنادين. يوم التقت بزوجها أحمد. كانت تركض في الشارع وتصرخ بكل قوتها الى جانب باقي المتظاهرين رافضين التضييق على حرية التعبير. نادين، كانت تخطو ببطء في عالم الصحافة، تهتم كثيرا بكل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بالبلاد، وتحلل وتطرح الأسئلة كمن يبحث عن ابرة في قش. كانت ترفض أن يزج بها في الجريدة بخانة الطبخ وتموت كل طموحاتها السياسية والفكرية. الكتابة بالنسبة اليها كالهواء والماء، لا تستطيع أن تتنفس من دونهما. كانت تجري وترفع صوتها، يعلو في الفضاء كسهم محارب يدافع عن أرضه. أثناء المسيرة الاحتجاجية، اقترب منها شاب وسيم ويظهر على ملامحه الجدية والمسئولية. سلم عليها وقال لها" ان حرية التعبير هي عنوان تقدم الشعوب." ابتسمت وتابعت سيرها العنيف الذي يحمل رغبة شديدة في تغيير الوضع المأزوم. كانت تدك الأرض برجليها دكا، كأنها ترغب في اختراقها واخراج ما بباطنها حتى تختلط الأشياء وتولد البلد من جديد. لم تجبه، ظل ماشيا الى جوارها. وقال لها " أنا أيضا كنت من المؤيدين لهذه المسيرة الاحتجاجية."

طل يوم جديد على نادين وهي بالمصحة، نوال ابنتها نائمة الى جانبها على سرير آخر. فتحت عينيها وهي تتأمل أن تجده الى جوارها وتفرح بتلك الابتسامة التي أسرتها يوما. جالت بنظراتها داخل الغرفة، كأنها تبحث عن شيء مفقود منها. رمقت ابنتها، نائمة بشكل غير مريح، من شدة التعب والخوف. فهي لم تفارقها وكانت كالمجنونة تريد أن تفهم ماذا أصابها بتلك السرعة. مسحت الغرفة من جديد بنظراتها المتعبة ثم توقفت عند الباب، ربما سيطل بعد قليل، ويرتمي بين يديها ويقبلها ويطلب منها العفو لأنه كان مشغولا وكان هاتفه مقفلا.

بعد انتهاء المسيرة، كانا قد تبادلا رقمي هاتفيهما، وتواعدا على اللقاء. كثرت لقاءتهما وتعودا على بعض. و لا يمكن أن يمر يوم دون أن يلتقيا. استيقظت نوال مفزوعة على صوت الممرضة التي أتت تبلغ والدتها بأن حالتها قد تحسنت ومرحلة الخطر قد عدت. بكت كثيرا من فرحتها وقبلت أمها التي كانت بالأمس بين الحياة والموت. استسلمت نادين، من جديد الى حنين الأمس وتركت الحرية لنظراتها ترحل وتنتظر قرب باب الغرفة على أمل أن يظهر أحمد. ستغفر له كما عودته على كل هفواته وغياباته. ستغفر له صمته الطويل بالبيت وانزواءه بغرفة الجلوس مع هاتفه. ستغفر له اقفال هاتفه كلما غادر البيت كأنه يرغب في الانسحاب من حياتها والذوبان في عالم آخر. ستغفر له لأنه الحب كله بالنسبة اليها. وكان دائما يقترب منها ويحضنها ويهمس لها بين أنفاسها على انها هي الحب كله. وتبتسم وتبدأ صفحة جديدة كمن يولد لأول مرة ويرى الدنيا بعينين حالمتين باحثتين على الأمل والحياة. سألت نوال بصوت يحمل أثار الألم والحزن: "ألم يتصل والدك؟"

نظرات نوال قلقة لأنها كانت تتمنى أن تسمعها الجواب الذي ترغب فيه. لكنها حاولت ان تختار أحسن الكلام، حتى لا يكون صدمة قوية على روحها كمن سقطت عليه صخرة من أعلى قمة جبلية، وقالت لها "أكيد سيتصل يا ماما، أنت تعلمين أنه يقفل هاتفه كلما خرج من البيت. أكيد أن هاتفه مازال مقفلا."

لكن نادين كانت تدرك في قرارة نفسها بانه بالبيت. وبأنه سعيد هناك لوحده، وبأنه يعد طعامه لوحده، وبأنه يتنقل بين التلفاز وشاشة هاتفه. أو ربما فرح فرحة العمر لما ولج البيت ولم يجد من ستمطره بالأسئلة التي يكرهها ويعتبرها كاستنطاق بوليسي. أو أنه نائم كما تعود دائما، لما يعود في آخر الليل ويدلف داخل غرفته وينام. ظلت حبيسة أسئلتها وتكهناتها طوال اليوم. تحسنت حالتها وأمر لها الطبيب بمغادرة المصحة على أن تهتم بصحتها كثيرا وتبتعد عن كل الضغوطات.

كانت مستلقية على السرير في انتظار ابنتها، سافرت بذاكرتها خارج الغرفة، توالت المسيرات الاحتجاجية السلمية والرغبة في تغيير الحصار المفروض على حرية التعبير التي أصبح كالكمامة على الأفواه. كان هناك الى جانبها، هتافات ولافتات وحماس شعبي ترتعش له الأبدان والعقول. في لحظة جد مفاجئة، حوصروا برجال الأمن وتم القبض عليهما على أساس أنهما يساهمان في الفوضى والشغب. تم الافراج على نادين فيما بعد وظل أحمد محبوسا أسبوعا كاملا. تذكرت كيف كانت تقضي يومها وليلها في انتظار الافراج عنه. شاخت قدميها ودمت أصابعها من كثرة الوقوف والذهاب والإياب. لم تمل ولم تيأس لأنها كانت مؤمنة بقضيتهما وكانت مؤمنة أيضا أنهما يمارسان حقوقهما الدستورية ولم يساهما في أي شغب. بعد أسبوع، كانت هناك، تنتظره، وجدت عددا كبيرا من الناس فيهم الأب والأم والأخت والصديق، كل واحد جاء يحمل بين يديه قلبه في انتظار سماع خبر الافراج الجماعي. تجمهر كبير، حجب عليها الرؤيا، رؤوس تتمايل يمنة ويسرا، تتعالى في الفضاء، أيادي تنادي وأصوات تصرخ. اشتبكت الحناجر والأحاسيس واهتز المكان. كل واحد ينادي على قريب له. حالة من الذعر والفرح والدموع. كانت نادين في آخر الصف، تنتظر وتترقب كمن ينتظر نتيجة الامتحان. طل بقامته الطويلة وشعره المشعث، كانت تحب فيه هذه الفوضى المستوطنة لجسده، كان لا يهتم بتناسق الألوان في لباسه، ولا بتسريحة شعره، كان يعتبر كل هذا ترفا لا فائدة منه. كان يبحث بين الجموع عليها. سرت قشعريرة بين ضلوعها وارتفعت نبضات قلبها وانطلقت كالسهم تخترق الصفوف وتبحث عن منفذ يوصلها اليه. سمع صوتها، التفت، ارتمت بين أحضانه وتمنت ساعتها لو أن الزمن توقف حتى تعيش تلك اللحظة القوية وتختبئ بين ضلوعه. قبلها وقال لها" لم أكن أدرك أنني أحبك كل هذا الحب؟".

دلفت نوال داخل الغرفة، تساعد والدتها على جمع حاجياتها ومغادرة المصحة. سألتها من جديد، وصوتها يحمل كل الأمل " هل اتصل والدك؟" ترددت نوال في الإجابة، حاولت أن تغير دفة النقاش مستغلة وضعها الصحي وما قاله لها الطبيب. لكن صمتها أشعل النار بداخل قلبها المرهف، وأعادت السؤال على نوال. توقفا قليلا خارج باب المصحة، في انتظار سيارة أجرة. حضنت نوال والدتها وقبلتها وقالت لها" أعلم أنك تتألمين لغيابه الدائم وعدم اهتمامه بك أو بنا، لكن يا أمي، والدي حنون جدا وطيب جدا غير أنه له طبائع لا تحتمل. أرجوك، لا تهتمي. أنا معك"

كانت نوال تعلم أن الأمر ليس بهذه السهولة، فقد جعلت منها الأيام الماضية، شاهدة على صراع مستمر بين والديها وخصوصا غياب والدها المتكرر واقفاله لهاتفه كأنه يتحلل من كل مسئولية. لم تفهم سبب سلوكه حتى نبتت برأسها فكرة التجسس عليه. فهي تخاف من الغد الذي لا لون له، فأصعب شيء على النفس هو عدم معرفة المجهول الآتي. فهي تحب والديها وتخاف على أمها من الانهيار. وتكره كما يكره كل مظلوم أن يعاقب ظلما، أن يفترقا يوما وتعيش بين بيتين وعطلتين وحياتين، فبيت الأسرة هو وطنها الذي تعلمت فيه أولى خطوات الحياة، ونطق فمها أولى الحروف ولعبت فيه أولى لعبها. فهي ترفض بتاتا أن يهدم أو يبنى في مكانه بيتا آخر. "الوطن لا يموت "كانت تهمس دائما لروحها لما تكون تقتنص بعض لحظات الراحة والمتعة النفسية بعيدا عن كل ضجيج وصداع الرأس. لكن هذه الفكرة لم ترق لها، هل تحادثه في الموضوع حتى تفهم ما يجول بخاطره. ظلت حبيسة حيرة استوطنت عقلها وسلوكها، حتى وهي في المصحة مع والدتها، كانت الأفكار تطاردها كما يطارد المجرم من العدالة.

وصلتا الى البيت، والأسف يسكن ملامح نادين كأنها تتساءل كيف استطاعت ان تتعايش مع كل هذا الإهمال العاطفي كل هذه المدة دون أن تدري. كيف انساب الزمن من بين يديها حتى استحالت الى جسد يرتعش وتعلو حرارته وتنخفض، دلفتا الى الداخل، كان هناك، يتأهب للخروج. كأن شيئا لم يحدث. أو كأنه يعيش وحيدا. زارها هذا الإحساس لما كانت بالمصحة، فقط حاولت أن تغالط نفسها وتتمنى أن تعيش لحظة من لحظات الأمس. لم تفهم نادين كيف تحول الى شخص آخر يحمل كما كبيرا من العنف النفسي، فهاجمها بسيل من الأسئلة، ما استطاعت أن تتذكره من كثرة أسئلته التي تساقطت عليها كما تتساقط الأحجار من الجبال أثناء فصل شتاء قاسي. قال لهما "أين كنتما؟ تركتما البيت دون أي اخبار أو حتى ترك رسالة صوتية؟ ما هذا الاستهتار؟ أنا أرفض هذا السلوك ...؟" وخرج كالعادة، وأغلق هاتفه كالعادة .

***

أمينة شرادي

أحيــــــاناً

تغسلني الحُمَّى

بِذَنُوبٍ

من لغة عُظمى !

*

أحيــــــاناً

يَغمُرني ضبابُ:

أنت حُضورٌ

وهُمُ غيابُ

وحدكَ شَرَفٌ

وهُمُ قِحَابُ

تَزْني بالوجِهِ وقَاحَتُها

وبِعَوْرتِها

يزني غِــــرَابُ!

*

أحيــــــاناً

من دونِ شِبَاكْ

أسماكي

تَصْطادُ غَبَاكْ !

*

أحيــــــاناً

يَدُها تَطلُبني

مايعني :

سِرَّاً في العَلَنِ

على سُنَّةِ فَنِّي اليَمَنِي !

*

أحيــــــاناً

تَنْزِفهُ البَسْمَةْ

مُتَّشِحَاً

بِحَصِيرِ اللُقْمَةْ !

*

أحيــــــاناً

أَرَقي.. لا العِلَّةْ

يُسْهِرُني

وينامُ كـ(دولةْ)!

*

أحيــــــاناً

في الوقت الضائعْ

ينقلِبُ الوضع فظائعْ!

*

أحيــــــاناً

يكتُمُني غَيْظي!

*

أحيــــــاناً

يتآمر ضِدِّي

ظِلِّي...

وبقية جُنْدي!

*

أحيــــــاناً

صَمْتي مَدَاري

فيهِ أُديرُ...

فيهِ تُـــدَارُ

مهما لفُّوا

عَلَيَّ وداروا!

*

أحيــــــاناً

يُنْجِبُني يأسي :

(أَمَلاً)

لِخلاصِ المَنْسي!

*

أحيــــــاناً

تَنْبَسِطُ أمامي

أدواتي

من غير لِجَامِ

فأفِرُّ منها..وإليها

ويطولُ مُقامي

وكلامي!

*

أحيــــــاناً

باسْمي يَتَسَوَّلْ

مسؤولونَ

بِرُتْـــــــــبَةِ (أوَّلْ)!

*

أحيــــــاناً

تختبئُ الغُرْبَةْ

في جيبي

خوفاً من غُرْبةْ!

*

أحيــــــاناً

يَشْرَحُ لي الأبْــكَمْ

جملة إعرابٍ مُبْهمْ:

(زُعَمَاءٌ:

عَرْشٌ مرفوعٌ...

مُغٰتَصَبٌ...

مَبْنِي على الدَّمْ)!

*

أحيــــــاناً

تتلو

أحيــــــاناْ:

أثوابٌ:

تكسو عُريــــاناْ

مائدةٌ:

تُشْبِعُ جوعــــاناْ

ساقيةٌ :

تروي ظَمْــــــآناْ

سُنْبُلةٌ:

تَحْمِلُ (ذُخْرَاً)

يُكْمِلُ...

ماقد كانَ...وكانَ!

قافيةٌ:

تحمي أوطانا

إنســـاناً

من حيثُ تَرَانا

تهدينا سُبُلاً وأمانا

وتَدُوسُ عُروشَ زَنابيرْ

وأنوفَ مُـــــلوك زَنانِيرْ

ولِحى عُبَّـــــــاد دنانيرْ

وتُوَفِّرُ طَيْرَ أبابيلٍ

تَرميهم...

وتبيدُ كيانا!

*

أحيــــــاناً

تتلو

أحيــــــانا

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

كثيرة هي شظايا النفس خاصة عندما أتذكر صورتك التي كدت أحطمها في لحظة شك بأنك رجل تبحث عن الدفئ النفسي في غير صورة من العالم الذي بَنَيته من أجلك، لا ادري كيف تحولت من أنثى عاشقة الى إمراة نالت منها الغيرة والشك كداء الحصبة!؟ لا يفتئان يثيران الحساسية في نفسي فأعمد الى مراقبة تحركاتك، الهاتف الذي تحمله ، الملابس التي ترتديها، العطر الذي تضعه، حتى حلاقة ذقنك في غير مواعيدها كانت موضع شك، غدوت ما لم قد بدوت لك كالكابوس الذي يجثم على صدرك ليل نهار، لكنك كنت عكس كل ما توقعته منك هادئا، باردا، لا يثيرك كل ما أفعله حولك، لم تحاول ان تسألني عما افعله، حاولت مرارا أن أثير حنقك فقط كي استشف من عتابك او ردك علي بأن لا يوجد في حياتك أنثى غيري لكنك قلبت موازين غيرتي حولتي الى عبارات رثاء كنت اراها في عينيك وانت تتأسف الى تحولي المجنون.. حتى تلك الليلة التي وجدتك عازما على الرحيل وانت تمسك بحقيبة ثيابك وقد بلورت وأطرت مللك وجزعك بالقول بأنك ستسافر في رحلة عمل، كنت وقتها قد أدركت تماما أني جرحتك بعمق وغرت في لكز الجرح الذي تقرح ولم يعد تقيه او تشفيه كل أدوية العالم... جن جنوني فصرخت بعد امسكت بيدك كوة الباب لتخرج... ارجوك حبيبي اسمعني للمرة الأخيرة، عاملني مثل أحد المجانين في المركز النفسي الذي تعمل فيه فإن لم تقتنع بقصتي إرحل بسلام حتى لا اطلب منك ان تتراجع في قرارك بل لا تلتفت إلي، اعلم جيدا اني هتكت ستر ميثاق الثقة التي بيني وبينك، وأدرك أني قد زدت في الكيل بصواع الغيرة والشك حتى فاقت العير التي تحمل صبرك الى ان فاضت فصرخت دون صوت أنني نلت من كل موازين الثقة ومعايير التعامل الانساني، الكيل زاد وأثقلت كاهلك بترهات الشك، قبل ان تخرج أترك فسحة لي، تذكر من خلالها أنثاك التي أحببت ولا زلت تحب كما أحسب، ساعات كثيرة كنت دميتك وطفلتك المدللة، يا ليتني ما تبعت شيطان الشك في نفسي، اقسم لك لقد أغواني بوسوسته جعل صور الخيانة لوحات فان كوخ او رواية ألف ليلة وليلة حين يعمد شهريار الى نساء قصره، او كما الرشيد الذي ماجن عالم الحريم... رغم أني اعلم جيدا ان عالمك لا يشغله سوى المجانين او ذوي الحالات النفسية... لعلي تأثرت بهم كوني ظننت أنك تعاملني كاي احد المرضى الذين يرتادون المركز النفسي، جنون ما أقول أليس كذلك؟؟ لكن صدقني وانا اقف الان موقفي هذا اشعر بالخجل من نفسي، حتى اني حطمت مرآة زينتي لانها تعكس صورتي البشعة التي بت عليها لا لن أكون كذلك، سأغيرها سأعيد صورة أنثاك الأولى التي احببت حتى انا ونفسي اشتاق إليها، أمنحني الفرصة الأخيرة، ساير غيرتي لأنها من اجلك وأجلي فلا تنسى في بعض الاحيان الغيرة ملح العلاقة الزوجية غير ان اعلم قبل ان تلتفت او تجيب أني جعلت من حياتك مالحة الى حد انك لم تعد تطيقها، ارجوك اترك لي مساحة من العذر، والقي بضفاف مشاعرك على أنسانة هي انثاك، تقبلها على عيبها، عالجها بحنانك وعطفك، ضمها الى صدرك كي تشعرها بالامان والطمأنينة، من الاخير خذني على قدر عقلي فما تصرفت بغير عادتي فأنا إمرأة غيور على من تحب وتعشق، ها انا بحت مافي نفسي إليك وانت الان صاحب القرار إما ان تصعقني بردة فعلك وتكتب لي وصفة الحياة او أتركني فريسة ظنوني والشك ليأكلني حتى أتخلص نفسي الى الابد.

***

القاص والكاتب: عبد الجبار الحمدي

 

الرماديونْ ...

صفرُ الوجوهِ

سودُ القلوبِ

وعيونُهم آهِ العيونْ

مثقوبةٌ بمخالبٍ ومخارزٍ

ومثاقبٍ مسعورةٍ

ولذا فهُمْ لا يُبصرونْ

في مرايا الحقِّ

والأَقدارِ والأَسرارِ

ولا يَرونْ

في كتابِ الغيبِ

لا وجوهَهمْ

ولا قلوبَهم

ولا عقولَهم

الطاعنةِ في الشكوكِ

والصكوكِ والمآربِ والظنونْ

*

الرماديونْ...

دائماً غامضونْ

وحاقدونَ وكاذبونْ

وسارقونْ وخائنونْ

وليسَ لهُمْ علاقةٌ صِلَةٌ

بوطنٍ مُحْتَضِرٍ

وشعبٍ مُنكسِرٍ

ولا بأُمهاتٍ ولا أَخواتٍ

ولا بأَطفالٍ مرضى

ولا بآباءٍ فقراءٍ لايجدونْ

مايُطعمونَ بهِ بطونَ العائلةْ

في هذهِ الحياةِ العاطلةْ

وفي هذا العالمِ المجنونْ

*

والرماديونْ ...

هُمْ جاحدونَ وناكرونْ

ومُلحدونَ وكافرونْ

ولا يعرفونَ اللهَ والحقيقةَ

والملائكَ والرسالاتِ

ولا هُمْ يحزنونْ

لأَنَّهُم رماديونْ

***

سعد جاسم

 

نظرتُ إليكَ

بِعينٍ تُطالِعُ وجهَ القمَر

وفي هالَتيكَ تجلّى السَحَر

وأنتَ البعيدُ

وبينَنا شوقٌ طويلٌ

حملتُ على راحتيه

متاعَ السفَر

رسائلُ دمعي

تغنِّي إليكَ نشيدَ المطر

وفي كلّ سطرٍ حروفُ الفِراقِ

قوافٍ تناغي خميلَ الزَهر

فأنتَ الربيعُ البهيُّ الجميل

وأنتَ النسيمُ المهيبُ العليل

متى جنّ وجدي بلَيلِ

الشجون

ودونكَ ماذا تُراني

أكونْ؟

وبينَ ضلوعي صمتٌ حزين

تعالَ إليّ قُبيلَ الصباحِ

وقبلَ المساءِ

لأمسحَ بالحبِّ كلَّ الظنون

لترخي الليالي عليّ النجوم

ونعزفَ لحنَ هوانا القديم

بِناي الجنوبِ، بظلِّ النخيل

***

منتهى صالح السيفي...

أمير الخَلْقِ في خُلقٍ ودينِ

أتى بالوحي والخبرِ اليقينِ

*

بأنَّ الّلهَ ليسَ له شريكٌ

ولا زوجٌ تتوقُ إلى البنينِ

*

إذا ماشاءَ يخلقُ أيَّ شيءٍ

يكونُ الأمر ُفي كافٍ ونونِ

*

لقد خلق السماءَ وما تلاها

وأحْكَمَها بإتقانٍ رصينِ

*

وقد خلق الخلائقَ من فراغٍ

وآدمُ  صارَ من ماءٍ وطينِ

*

رسول رحمة للناس طرّاً

ويرشدُهم إلى الحقِّ المبينِ

*

بإنَّ عبادةَ الأصنامِ كفرٌ

وجهلٌ قد دَهَاهُمْ من سنينِ

*

ولم يطلبْ جزاءً أو شكوراً

ولا مُلْكاً يُسَوَّرُ بالحصونِ

*

فقالوا ما عهدنا منك زوْراً

تُكَنَّى بالصّدوقِ وبالأمينِ

*

ولدنا  هكذا الآباء كانوا

وأجدادٌ لنا عبرَ القرونِ

*

فكيف  نحيدُ عن عرفٍ تتالى

ونتبع ماأتيت من الظنون

*

فخُذْ  ماشئتَ من خيلٍ ومالِ

وكُنْ ملِكاً إلى وقتٍ وحينِ

*

فدعْ عنك الظنون وعُدْ إلينا

وعشْ ماشئت مرفوعَ الجبينِ

*

فقالَ لهم بإيمانٍ وعزمٍ

خذوا  أموالَكم هيّا اتركوني

*

فلو تضعونَ نجماً في شِمَالي

وشمساً لاتغيبُ على يمني

*

محالٌ أن أخالفَ أمرَ ربّي

وأتبع همْزشيطان لعينِ

*

سأمضي  في الهداية لا أبالي

ولو كان البديلُ لها وَتِينيى

***

عبد الناصر عليوي

 

أصافحُ ليلكَ نجمةً نَجمةً

وقَمري لا ينطفِئُ

إلاَّ بينَ وطني

أتماهَى مع روحِكَ..

عطراً.. عطراً

ينسابُ  شَلَّالُ  وَردٍ

مِنْ وجنَتيكَ..

أُغازلُ الأملَ فجراً.. فجراً

يبزغُ  يَمامَة  ضوء..

مِن عينيكَ

تَستَديرُ أيقونةُ القِيامَة

تشهدُ انبعاثَ العِشق

وعودةَ قَيس إلى لَيْلَاه

سأُجَنُّ بِكِ: قال

قُلتُ:

ما أحوجَ الأرضَ لِشَمس ِالمَجانين

***

سلوى فرح - كندا

 

(تطويع شعري لقصيدة لوركا)

لا أنسى خِصْرُكِ حينَ أطوقه

لا أنسى صَوْتُكِ عبرَ مسافاتِ

الزمنِ المسحوقْ..

لا أنسى أبداً حُلُمي المشنوقْ..

في زحمةِ ساعاتِ الليلِ

حينَ تخونُ عيوني النومَ

أحاولُ أنْ أجمِعَ ذاكرتي

فوقَ العشبِ

وفوقَ رصيفِ الشارعِ

في المقهى

ما بينَ الرملِ وأمواجَ البحرِ

لا أشعرُ أني في هذي الدنيا معتوقْ..

**

شيءٌ يرميني في غيهبِ أفكاري

يسترجعُ أطياف نهاري

لكني، أكتمُ صوتي

حينَ أحدقُ في هذا الوهمْ

لا  أنتِ

ولا خِصْرُكِ

لا صَوْتُكِ

يشفي جموحي ،

ويضيء متاهات حبوري..

ليتسعُ الصمتَ بأرجائي

**

بينَ يدي وحناياك

يتسعُ الكون

كما لو كانَ وداعا

بينَ القمةِ والسفحْ ..

كما هي حفنة ملحْ

في عيني تحرمني النومْ

**

ثلاثةُ أشياءٌ تشقيني

صمتٌ يجتاحُ جموحي

وفراغُ القمة من حولي وسفوحي

ووداعٌ قد يفضي صوبَ المجهول

لكن ، هل يشفي قلباً قد ماتْ..؟

وهل يمكنُ وقفَ الغيمةُ

حينَ تعاجل،

أنْ تذرفَ فوقي زخاتْ..؟

***

د. جودت العاني

04/11/2023

كنّا ننتظر بفارغ الصبر ارتفاع صوت شخير جدتي، وانشغال والدتي بأعمال المنزل كي نتسلل خلسة إلى صالة الضيوف، وهي أكبر غرف المنزل مساحة، متشوقين إلى الدخول إليها، للّعب والاختباء خلف طقم كراسيها الفارهة والمزيّنة بتيجان طليت باللون الذهبي، ونقوش حفرت بدقة عالية. حذرين من الاقتراب منها والجلوس عليها، تجنباً لغضب والدتي وتحذيراتها المستمرة وتوبيخها لنا، وهي تردد قائلة: إنه طقمٌ (أسيوطي) نادر. لم يكن وحده نادراً فحسب، بل كانت هناك تحف ثمينة من الكريستال حُفظت داخل (فاترينة)، وهي خزانة من الزجاج لها أربعة أرجل من خشب الصاج، يمنحك شكلها وأنت تقف أمامها شعوراً بأنك داخل أحد المتاحف، لا ينقصها لتبدو كذلك سوى لوحة تحذير تُوضع بجانبها ويُكتب عليها ممنوع اللمس. كما تحتوي الصالة أيضاً على صورة كبيرة لجدّي تتوسّط إحدى جدرانها، وهو يعتلي صهوة جواد أبيض بزيه العربي وكأنه أحد رجال ثورة العشرين. وأكثر ما كان يجذبنا في هذه الصالة هو تمثال مصنوع من الجبس يقف منتصباً في إحدى زوايا الصالة لامرأة تحمل فوق رأسها جرّة من الخزف، نُحت جسدها بشكل أبرز جمال صدرها النافر وخصرها النحيل وانسيابيتة،  تقف ممسكة بيدها أحد طرفي ثوبها الطويل ليكشف عن جمال ساقين ممتلئتين مبرومتين بعناية، وحين تنظر إلى وجهها ترى عينين رُسمتا بدقة عالية تحدّقان في كلّ من ينظر إليها طويلاً. ربطت والدتي تمثال المرأة بشريط ٍ لفّته حول خصرها بجانبِ أحد الكراسي، خوفاً عليها من الكسرِ! أو ربما خوفاً من أن تتسلل إلى غرفة والدي وتضاجعه ليلاً!! كنت أنا وأخي طوال الوقت نرقب باب الصالة، كي نقوم بالاقتراب منها ولمس ثدييها وساقها المكشوف المثير، والنشوة تغمرنا. (ما هو غير ذي حاجة عند غيرك قد يكون ذا حاجة مهمة عندك)، كانت نظرتها الصامتة تجذبنا، بل تغوينا وكأنها تدعونا إلى الرقص معها، كان ذلك حلمَ كلّ واحد فينا، فكرتُ في ذلك كثيراً، وقررتُ حلّ الوثاق المربوط حول خصرها، فربما يتحقق حلمي وتقوم بالرقص معي أنا فحسب. كانت تلك الرغبة ملحة لدي، ربما لأنني أكبر من أخي سناً، لكن فجأة تلاشى ذلك الحلم وتبخّر سريعاً، حين قدِمت عمّتي وحلّت ضيفة عندنا، وشغلت صالة الضيوف طوال الوقت تقريباً، إذ كانت تقضي نهارها في الصلاة والتسبيح محوّلة تلك الصالة إلى صومعةٍ للعبادة، وفي الليل تنام في الصالة فوق فراش وضعته لها والدتي وتريح جسدها النحيل.

تبادلنا أنا وأخي نظراتٍ حيرى بعد أن طال مكوث عمّتي، وارتفعت مناسيب الكآبة عندنا، متمنّين مغادرتها في أقرب وقت ممكن، كي نتسلل كالسابق إلى الصالة ونكون بالقرب من ذلك التمثال. وفي أحد الأيام وقد أثقل الأرقّ نومي وبقيتُ مستيقظاً حتى وقت متأخر، تناهى إلى سمعي صوت صرخة آتية من صالة الضيوف!! وكأنه صوت عمّتي، نهضتُ وهرعتُ مذعوراً نحو غرفة والدتي بالكاد تحملني قدماي، طرقت الباب طرقاً خفيفاً، فتحت والدتي الباب ورأت الخوف في عيني، تقدّمت نحوي كي تضمّني إليها محاولة تهدئتي!! قبل أن تسألني، سبقتها بالقول: اطمئني أنا بخير، حينها سمعنا صوت صرخةٍ آتية من غرفة الضيوف، أظنّ أن الصوت صوت عمّتي. أسرعت ووالدتي إلى الغرفة لنجد عمّتي فاغرة فاها مشدوهة لا تقوى على الحراك والكلام ولا حتّى الصراخ، صدمني ما رأيت! تراجعت عدّة خطوات إلى الخلف حتّى التصق جسدي بالجدار وأنا مصدوم ممّا رأيت، وقع نظري فوق التمثال، كانت نظرات عمّتي صامتة لكنها تحمل صخب الدنيا وما فيها، أسرت خوفاً في جسدي على إثره، وأسرعت إلى غرفتي، وأنا أرتعد فوق سريري من الخوف متكوراً كجنين تحت غطائي، ولم أعلم ما حصل لعمّتي فأنا لم أغادر غرفتي حتى الصباح. نهضتُ متجهاً إلى غرفة عمّتي للاطمئنان عليها بعد أن سمعت صوت أمّي وهي تتحدّث إليها. كنت واقفاً أنظر فحسب، منتظراً ما سترويه عمّتي بعد أن تحسّن حالها بعض الشيء. بدأت بالتحدّث بنبرة غير مستقرة، قائلة: بدأ قدم التمثال يتحرّك ويتقدّم نحوي، فركت عينيّ لاستيعاب أنّي لم أكن أحلم، لكن ما أكّد ذلك بأن تمثال المرأة اقترب أكثر مني، ومالت بجرّتها نحوي وسكبت الماء على وجهي، صرختُ، وشعرتُ بأني أغرق، على إثرها غبتُ عن الوعي ولم أشعر بشيء. صمتت والدتي بعض الوقت ثم أسرعت إلى غرفة الضيوف وكأنها تتفقد شيئاً قد نسيته، ثم عادت وأمارات الغضب تعلو وجهها قائلة بصوت مرتفع وهي تكرر: مَن حلّ الرباط الموضوع حول خصر ذلك التمثال؟ مَن؟

مِن يومها وذلك الحدث يتردّد في مخيلتي باستمرار، ويعود بي إلى وعي طفوليٍّ غابرٍ يتساءل ولا يجد جواباً عن سؤاله.

***

نضال البدري / العراق

دخل جنود محتلون على قرية آمنة، فعاثوا فيها فساداً وفجورا.. واغتصبوا كلَّ نسائها الاّ واحدة منهنّ تمكنت من مقاومة الجندي الذي جاهد لهتك عرضها، فباغتته بخنجرها، حتى أردته قتيلاً، ثم قطعت رأسه بهستيريا حتى تتغلب على خوفها من العواقب، فاحتفظت به كدليل على أنها صانت عرضها ، وقد أكسبتها كرامتها طاقة هائلة سرعان ما خارت بفعل التعب الذي داهمها بعد أن دفعت الشر عن نفسها؛ لكنها تنفست الصعداء وهي مرتاحة الضمير.

وبعد ان أنهى الجنود مهمتهم ورجعوا لثكناتهم ومعسكراتهم، وألسنتهم تلعق بقايا عسل دفعت النسوة ثمنه من قديد شرفهن المنتهك، خرجت كل النساء من بيوتهن يلملمن ملابسهن الممزقه ويبكينَ بحرقةٍ شرفَهنّ المهدور؛ الا الحرّة التي دافعت عن عرضها بإباء!

فقد خرجت من بيتها مشرئبة الرأس بملابسها الممزقة وشعرها المنتفش المغبر ووجها المليء بالكدمات والسججات، وأنفاسها المتعبة كأنها تكابد مشقة الصعود لقمة الشرف، لا تنحني للرياح الهوجاء وهي تعوي في الأزقة ناثرة عجيج البيوت المنتهكة في الوجوه المكفهرة المهزومة التي تبحث عن ملاذ، مغطية على الأسئلة المحرمة التي داستها أقدامُ نسوةٍ قصدن بيتَ المختار للاسترشاد بحكمة زوجته المشهورة بالدهاء، فتفاجأن وهن في الطريق بالحرة الأبية حاملةً رٲسَ الجنديِّ المعتدي بين يديهاُ وكلّ نظراتها عزة نفس واحتقار للواتي استسلمن للمعتدي أو شجعن على ذلك.

وصدمهنّ ما تفوهت به الحرّة معاتبة:

هل كنتنّ تظنّنّ بأنني ساترك المعتدي يغتصبني ثم أعد له فنجان قهوة دون أن أقتله، وقد نمى إليّ ما فعلت زوجة المختار حينما هيأت لقائدهم الملتقى حتى نال منها وطره من باب الرضوخ للأمر الواقع! وأعطت خادمتها الأمان كي تشهد على عفتها! خيبكن الله من صاغرات!.

تبادلت نساء القرية نظرات الخوف والاستنكار، بينما كنّ في بيت زوجة المختار التي استشاطت غضباً إزاء ما نقل عن الحرة التي أبت على نفسها الرضوخ للمعتدي.. وقررت أنه يجب قتلها حتى لا تتعالى عليهن بشرفها؛ وتفشي أخبارهن المشينة لأزواجهنّ المغبونين عند الإياب، وآخر كلمات ضمائرهن تتردد في عقولهن المسلوبة كطرق الشواكيش:

"لماذا لم تقاومن المعتدي مثل هذه الحرّة العفيفة!"

أثار الأمر قلوبهن الواجفة، وتمردن على ضمائرهن المنهارة، فَهَجَمْنَ على الحرّة بتحريض من الشيطان الذي أخذ يعربد في عقولهن وأردينها قتيلة على حين غرّة.

وبعد عودة الرجال أكلوا الطعم، فقد قُلِبَتِ الحقائق، وقلنَ بأنَّ من تدّعي بأنها حرة هي الوحيدة التي استسلمت للمعتدي، خلاف ما فعلن.

فاحتفى الرجال بالشرف المصان وساهموا في نشر حكاية من قتلها العار؛ لتدفن خارج القرية.

ليس هذا فحسب، بل نُكّلَ بزوجها المغدور، حينما تصدى للمضللين، واتهم زوجة المختار بالتحريض على قتلها، واصفاً زوجته بالشهيدة.

ولكن هل يقاوم الكف المخرز؟

إذ هوجم بقسوة، فيما أخذ يجر أذيال الخيبة والذهول يأكل رأسه، وقد داهمه الشك في رواية النسوة اللواتي حوّلن زوجته إلى مضرب للمثل في الخيانة.

وقرر أنه سينتقم من عدوه ذات يوم وفي نظره أن دائرة الجناة تتسع كل يوم.

***

قصة قصيرة: بكر السباتين

14 مارس 2024.

 

تبتلعني آخر التهويمات فأركن رغباتي في الأصيل المنثور في البعيد خلف الفاو. يتلاشى الهواء الفسيح فتختفي أبعاد الكون. يخرج نصل الخوف حاداً لماعاً يحز الصدر فينفر الدم، يختلط بالماء ثم يغطي وجه الشط. يلتصق عند جرف مدينتي فتذلني الساعة وأنا أنتظر موعداً طال أجله، غبش حلمت بـه. اهتياجات مؤجلة وأطياف ليلية حلوة.. أشحذ البصر في الظلمة باحثاً عن مدينتي وحبيبتي، والساعة هي الساعة كل يوم دون حراك.. ولكن أية التماعات مرجانية في أصيلك اليوم !؟ أيّ همس ينسل من جدرانك؟! أسراب الطيور ترحل اليوم من أقاصي الشطآن لتدخل ضياع سمائك الهلامية. عصافير فاضت دهشتها وهي تنفض زغبها فوق حواف شطك. تجدله وتتزين به.. أعرف نداءك ولم يخنّي قلبي قط، فتحت رماده نبض دفاق يسحبني نحوك فينتشي الجسد، فلا أسمع سوى هسيس سعفك المتكسر وارتطام الماء بشطآنك.

ـ ما الذي تفعله الساعة يا رجل..؟

ـ أناجيها.. أريد أن تحتمل أشواقي وفورة دمي.

ـ من هذه؟ ما الذي تخرف بـه !! اذهب وخذ قسطاً من النوم فلم يتبقَّ سوى ساعات.

ـ إذهب ونم أنت فلا علاقة لنجواي بحربكم هذه.

ساعات.. ساعات. دهور مسفوحة مثل زئبق ثقيل. ساعات يا إلهي، من أين يبدأ العائد إلى بيته، يبكي، يصمت، يمرغ وجهه بتراب البيت، يصرخ في الأزقة مع لحظة الوهج وسطوعها. ولكن ما الذي يكون بعدها؟. انفجار لقهر ركد طويلاً.. انبثاق لطيف ألوان فاقعة في الروح توالدت من صرخة مدوية كتمت في صدر هابيل وهو يستكين لحز سكين أخيه؟. أم هو صوت الفجيعة يتكسر في صدر قابيل؟

أحقاً إنها ساعات، فكيف ينام من يعد الدقائق الملتاثة دهوراً؟ يحسبها مثل أحجار ملساء صقيلة تنفلت من بين الأصابع. إذن فلأنتظر النوم كي ينام، لأسهد متوجعاً في التياعاتي، استمع لأصوات الهوام،الضفادع، دبيب الحشرات بين جذوع النخل وطيات الحشائش. طيور مذعورة. أسراب السمك وطرطشة الماء في الجداول. انفلات الجرذان من جحورها.

السماء مطرزة تتوهج نجومها في البعيد. تومض بين الحين والآخر انفلاقات القنابل ليختفي التماع الأنجم الأليف. مثل أسراب الجراد تحز الشظايا صدر الهواء، ثم توغل حديدها الساخن بين السبخ والماء والحشائش. تنغرز بارتجاف بين جذوع النخل والغرين باحثة عن شواء مستطاب. لحم يتوسلها بألم مدرار وذعر وخوف. انطفاء ضوء ثم صمت يرتحل نحو الانكفاء.

الساعة الآن هي فيض الله.. مثلما أولج الفاو الطرية بالخضرة بين السبخ والماء، تولد الآن ساعة مسفوحة فوق الدهور ترتج من هولها آكام النخل، وتتوقف رعباً المناجاة بين هوام الأرض. آلاف الأصوات المزمجرة توقظ هابيل من رقدته الأبدية لينزع عنه صوتاً كتمه طويلاً.

ـ آدم.. آدم إني ابنك المذبوح باسم الحقد والخوف والحسد والأنانية والصلف. باسم الخيبات والخديعة. باسم اللاشيء.. آدم.. إن بديع صنعك يحز رقبة ابنك الجميل.

صرخات تدوي وأقدام تضغط فوق انتفاخات السبخ الإسفنجية. ساعة الصفر تنفلت من زمنها المكبل المخبول. يتوفز فيها كل يباس الأرض ليعب الغمر المترامي، يشفط السبخ شبراً شبراً، ينتزعه عنوة ثم يمتد منتشياً مثل أخطبوط. لا يوقف زحفه ساتر ملغوم أو امتدادات الأسلاك الشائكة أو أرض مغمورة. الساعة، تأتي الريح محملة بماء الملح ليرش فوق الجباه، فيتقدم صراخ الخوف. يتناطح الشواء برهبة الموت. تتدافع الصدور جارفة أمامها كل شيء.

في فضاء شفيف من يوم قائظ من أيام الفاو خلت سماؤها من النوارس التي وقفت بعيداً في الأفق ترفّ بأجنحتها مثل رايات سود، تنظر كيف تتناطح الأجساد. كيف يطأ الجنود بأحذيتهم الثقيلة أكتاف السواتر لتتشظى أسرار الربّ وينتهك جبروت صنعته. أبناؤه، زهراته التي صنعها من تراب يدسّها إخوتهم في السبخ المرّ. أيّ ذئب استساغ طعم لحمك يا يوسف؟

أتقدم نحو مدينة فتحت ذراعيها خفية لطفلها الذي كبر في حضنها وغاب عنها زمناً. ينهمر الدمع ويدر ثدياها حليبا دافئا.

ثم..ثم يا إلهي، اقتربنا. تتلألأ ماسة حبي من بعيد فتتصاعد في الروح نشوة.. تراتيل تخرج من نور مبهر. روائح عبقة تغمر الأفق فتتهادى الروح بين نسائمها. آلهة موشحة بالورد الأبيض مكللة بالزمرد تتراقص في الأفق تناديني.

ـ ألا أيها العاشق اقترب فموعدك الساعة.

حزمة من حناء تنثر أوراقها فوق السبخ فيصطبغ بلون أحمر مشع. مباركة حناء الفاو تتعبد بها الطرق، فتنموا حشائش يدثرها الندى.

ـ ليس وقت المناجاة و الدموع يا رجل.. عليك تحاشي مصادر النيران فإنها الحرب وليس تهويمات أحلام.

ـ إخلع نعليك فأنت في الوادي المقدس.

ـ دع تخريفاتك الآن فلا وقت للهلوسة.. آه.. ألم أقل لك تحاشى مصادر النيران. انتظر مكانك..انتظر فصيل الإخلاء..أنت تنزف..

ـ مقدسة دروبك يا مدينتي..

ـ ابق مكانك.

ـ لا.. إنها تنتظرني، تملأ طبقها بخبز حار. سوف نعدّ القارب وشباك الصيد سوية. إنها تنتظر فكيف لي أن أتوقف.

ـ ولكن.. إنك تنزف بشدة.

دروب الضوء تستفز، وتلملم شتات بيوت الفاو المهدمة. الدم الحار الوقاد يبلل صدري ويختلط بتراب دروبك. أحس طعم ثمر البمبر الصمغي يغلي في جوفي. أدلك شعر صدري لتثب في جسدي روائح العشب وطراوة الماء عند السواقي في بساتينك. في أزقتك التي كبرت مع الفراق وتيبس فيها صوتي وهمسك. كريات لدم مشع تصعد في تجاويف نافذتك. سرب طيور حلـّق فوق رأسي، فأضاء الفضاء والشط. دفعت جسدي بقوة وركضت، وكانت تتملكني اشراقات صوتك وارتعاشات الهواء الخفيفة، والنوارس ترفع بأجنحتها جسدي الواهن.. لم يبق في مدينتي سوى أقدام صبية مرسومة فوق أديم الأرض. أجري بين الخرائب وأقترب من همسك، من مناجاتك.

ـ تعال يا حبيبي.. تعال.. إنك في الوادي المقدس.

ـ قادم أنا يا زينب.. مدي كفيك واحتضني وجهي. مسّدي شعري. شدّيه، فساعة الفرح مثل أجنحة العصافير المبللة برذاذ الماء. كل شيء الآن قابل للمزاح. فرح ينثال من السماء ملوّن بأشعة مبهرة تلتمع بين آكام الشجر وفوق حافة الشط. أنصتي.. اسمعي آلاف السفن تمخر عباب النهر. أصواتها تصم الآذان، وأسراب النوارس تغشى السماء مثل سحابات بيضاء. تتقاسم فتات الخبز، لا تدعه يسقط نحو الأرض. أصائل تختلط تتجمع، تنبسط. وتبر الأرض يلتمع عند حافة النافذة. اسمعي..اسمعي أصوات المجاذيف. رنينها الدافئ يملأ المدينة بأنغامه. سطع زعانف السمك يرف فوق حافات شباك الصيد، والكرب الراقص فوق سطح الماء. مدّي ذراعيك وتلمسي جرحي. رشيه وعفريه بعرق يديك. أشبكي أناملك بين أصابعي، فطرطشة الماء تغمر صدري الآن. يسحبني السمك الملون نحو العمق وسرب عصافير يلهو فوق كتفي… إنه فرح صباحات الفاو يرش صوته في ثغر الكون. إني أذوي سعادة فتعالي جواري. يشبكني (السعد) نحو برودة الطين فتلسعني طيبته. أتفتت، أنزلق عند (السرسيحة) فتضمني ذراعاك. أتأرجح مثل كتلة رخوة. أتلمس رقبتك، أشم ضوع أنفاسك، فأدس أنفي بين طيات (شيلتك) وأرغو فتتهدل السعفات تحت وطأة أقدام البلابل وهي تفرش أعشاشها بالريش الأصفر. التماع الصدف يغطي ظلام المدينة. إني أرغو بين أناملك، أبكي فضميني لصدرك. مدي دثاري في واديك المقدس.

***

فرات المحسن

 

نَكْهةُ الصِدقِ فــي القَوافي دليـلُ

انَ قــلباً صــوْبَ النـقـاءِ يـمـيـلُ

*

واذا العينُ أفْصَحتْ عن رِضاها

فـكـــلامٌ فــي المُـقـلَـتيــن يَجُـولُ

*

كُــلُ لـفْـظٍ  إنْ زوَّقـتْـهُ النـَـوايــا

دون إذنٍ مِــن الأصولِ ، ثـقـيـلُ

*

غـيـرُ مُجْــدٍ، تـصنُّعٌ فيــه وَهْــمٌ

عمْرُه الزيف فــي الحـياةِ ذلـيــلُ

*

بعدَ حينٍ، ضوْءُ الحقيقـةِ يـَروي

ما نَوى السوءُ والوِصالُ العـليلُ

*

لا تنامُ العيونُ فـي رأسِ شَهْــم

إنْ رأَتْ صارِما، بظُلمٍ يصـولُ

*

حِكمـةُ القولِ (في التأني سـلامٌ)

وخُطـى العِــزِّ، أفْـقُها التـفـعـيـلُ

*

إنْ خَطا ذو الحِجـا بعِـفـّةِ نَـفْـسٍ

يـشرقُ الأمْـنُ ، والظلامُ يـزولُ

*

سُـؤدَدُ الجهْـدِ ، في صفاءِ النوايا

وسُـموُ الـنُـفـوسِ ، إرثٌ أصيــلُ

*

رُبَّ بـيـنَ السطور، لَـمْحُ قضايـا

في نصوصٍ قــد ابدعَتْها العقـولُ

*

فيـها بُـعْـدٌ ، مـن البلاغـةِ يـروي

ما انطوى فــيـه والـبـديـعُ جميـلٌ

*

صـورٌ لـلـبــيـانِ ، فـيـهـا بــريــقٌ

يُــرْسِلُ الضوءَ ، والـنسيـمُ كـفيـلُ

*

واذا طافَ في المضامـينِ عِـطْـرٌ

مِـنْ سَـنا عِـفَـةٍ ، يَـدومُ الوِصـالُ

*

وبه الحُــبُّ يَسْـتَـقي خيرَ غَـرْسٍ

لِـنـماءٍ ، فـيـــه الـتـعـفـفُ جِـيـلُ

***

(من الخفيف)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

ليتها يوماً..دونَ عذابْ

تَجْمَعُني بحبيبٍ غابْ

*

بِزعيــــمٍ لا يَعملُ أبداً

(سوَّا قاً) عند الأغرابْ

*

بمَلاكٍ يُنحِلُني وطناً

خالٍ من بُؤَرِ الإرهابْ

*

مِنْ فِرَق ٍ شتّى..أو أحزابٍ

تسعى لخرابٍ ..وخرابْ

*

ليتها يوماً ..دون سِواها

تَرسِلُني عَبْرَ الأهدابْ

*

لقلوبٍ  تدعو  بسلامٍ

لسلامٍ..والحُب جوابْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

24/2/2017 م

 

كانت نوال تجهل زوجها، وتجهل نفسها أيضاً، فزوجها الذي لا تكاد تعرفه، لا يأنس إليها، ويتحدث معها ويطيل الحديث، إلا حينما يود أن يضللها، ويصرفها عن علاقته الآثمة بجاراتها الثلاث، فما يروعه ويشفق منه، أن تحس هي شيئاً تجاه علاقته المشبوهة بجاراتها، فقد دأب يزعم في غلو وشطط، أنه لا يعرف من أمرهن شيئاً، كلما حدثته هي عنهن، و نوال لا تدري أن "الأشجار الضخام الطوال" جاراتها، هن سبب دعة منير ورضاه، فهو لا يأتي إلى بيتها إلا بعد أن يكون قد طاف بهن جميعاً، وتهالك عليهن جميعا،  وأشفى حاجته من جمالهن جميعاً.

كانت نوال تحتار في أمر جارتها"نجوى" التي استحال بيتها فجأة من الطين إلى الرخام، رغم أن زوج نجوى ما زال يعمل في نفس الوظيفة التي يعمل فيها، ويتقاضي نفس الراتب الذي لا يكاد يسد رمقهم إلا في جهاد وعنف، نوال تجهل أن"نجوى" هذه يحبها زوجها إلى أبعد آماد الحب، وأنه ينتظر في شوق، وترقب، ولهفة، خروج زوج نجوي إلى النادي الذي لا يعود منه إلا عندما ينتصف الليل، واعتاد منير أن ينتهز هذه الفرص، ويستغل هذا الوقت الذي يمضيه زوج نجوى في النادي رفقة أصحابه،  فما أن يبسط الليل أستاره الكثيفة على الكون، حتى يتسلل منير في خفة ورشاقة إلى بيتها، ويمضي إلى غرفتها في "إخلاص وتفان"، فنجوى خليقة فعلاً أن يمنحها من الوقت أكثر من رفيقاتها، لأنها بخلاف اللذة تمنحة ألواناً من الغناء، وضروباً من الموسيقى، وتبعث في نفسه اللاغبة المنهكة فنوناً من الجمال، لأجل ذلك يحبها ويكلف بها، ويود أن ينتزعها من زوجها منصور انتزاعا.

إذاً نوال تنكر هذا التغيير الذي طرأ على حياة جارتها " نجوى" الفاتنة الحسناء، فهي تجد شيئاً من السعادة عندما تتحدث عن ثراها الفاحش، وعن سبائك الذهب التي لا سابق عهد لها بمعصمها الريان، تتحدث نوال في هذا الحديث وتطنب فيه، ويسرف منير بالمقابل في عدم الاكتراث به، و الزهد فيه، ظل منير لا يظهر شيئاً، ولا يقول شيئاً، وهو يرمق وجه زوجته الدقيق الملامح، وفمها الذي يهضب بالحديث في سرعة وانفعال، كان كل شيء فيها يوحي بأنها مضطربة مذعورة، وكأن هذا  التحول الذي طاف بحياة نجوى قد أضناها، وفي الحق أن نوال تجهل فعلاً زوجها منير، فهو كغيره من الذئاب التي تثير في نفسك الهلع، وتبعث في قلبك الخوف، إذا عرفتها على حقيقتها،   فمنير الذي ينكر معرفته ودرايته بجارات زوجته المسكينة، هو في الحق ملم بأدق تفاصيل حياتهن، وهو السبب في هذا الغنى والثراء الذي لحق بهن مؤخرا، لقد أيقن منير أنه قد أحاط بخصائص الراحة والانسجام، وأن "نجوى"، و"منى"، و"سلوى" جديرات بهذا الترف الذي أضافه إليهن، فقد ذاق منهن ألوانا من نعيم الدنيا لم يذقها قط مع زوجته نوال.

 سعت نوال أن تستثمر هذه العودة  المبكرة لزوجها، ففي العادة  يبطئ منير في عودته للمنزل، فالرجل يدير عدداً من الشركات دون أن يظفر بمدير لها، فهو سيء الظن  بالناس، ولا يثق في أحد، ولا يطمئن إلى أحد، و قد قاده حظه العاثر اليوم، أن يعود مبكراً إلى منزله، فما عالج باب الدار حتى فتحه، وتقدم حتى انتهى إلى صالة فسيحة الأركان، أبصر فيها نوال التي يزدريها،  ويمقتها رغم جمالها الخلاب، لأنها ساذجة موغلة في السذاجة، ولأنها نحيفة، ممعنة في النحف، ومنير لا يشتد سخطه إلا على المرأة النحيفة، ولا يعتد بأن النحافة مقياساً لسحر المرأة وجاذبيتها، وعبثاً سعى أن يطلق زوجته نوال ليستأنف حياته مع  أخرى "خدبجة رقراقة"، ولكن والده كان يمنعه في حسم، لأنها بنت أخيه، ولأنها قد أنجنبت له أحفاداً لا يجد والده متعته وراحته إلا في مشاهدتهم، وفي الحديث معهم، كان "الزين" والد منير، لا يرى نحافة نوال وضعفها، وهزالها، عقبة في سبيل السعادة الزوجية لابنه، فبنت أخيه جميلة ممشوقة القوام، قد ضمر بطنها، ودق خصرها، وطال جيدها ودعجت عيناها.

وجد منير زوجته نوال منهمكة كعادتها في حديث عذب ماتع مع  "ماجد ومجدي وأمجد" أبنائها الذين يدرسون في جامعات عدة من جامعات الولايات المتحدة، وقد لاح خاطر في ذهن منير، ومضى فيه عازماً حازماً، لقد اقترح الشقي على زوجته أن تسافر هي إلى الولايات المتحدة، وتقضي عطلة الجامعة بمعية أولادها، بدل أن يأتوا هم إليها، أراد منير أن يغتنم خلو منزله من زوجته الثرثارة، وخادمتها الجميلة" سكينة" تلك المرأة التي تدس أنفها في كل شيء، والتي سعى كثيراً أن يقيلها ويمنعها عن بيته، ولكن والده كان يمنعه و يصده عن هذه الرغبة أيضاً، كانت سكينة تستمع لهذا الحوار الهادئ الرزين الذي يدور بين منير ونوال، وهي تبتسم في فتور، وتبدو على قسمات وجهها الجميل، أنها غير غير حافلة لما تسمع، ولا مكترثة لما ترى، وعندما طلبت منها نوال أن تستعد للسفر معها اعتذرت بحجة أنها تود أن تزور أمها المريضة، وأن تقضي هذه المدة معها، وخضعت نوال لرغبتها، وتركتها وشأنها، وما هي أيام حتى بدأت رغائب منير تمضي، تمضي، في اتساعها، وظلت حاجته إلى نجوى لا تتعدى نطاقها، بعد أن سافرت مع زوجها إلى القاهرة، ظل منير لأكثر من شهر يمضي وقته في غبطة، وبهجة، ونعيم، وظلت "منى" شبه مقيمة معه في منزله، لأن زوجها يعمل في أحد حقول البترول التي يعمل فيها شهر ويغيب عنها شهر آخر، و"منى" هذه كما يقول أحد أدباء العربية، كل شيء فيها خامد هامد، وكل شيء جامد راكد، عدا فمها، الذي لا يسئم من غث الحديث وسقيمه، ومنير يعشقها ويكلف بها، لأنها لا تتضجر من أن تمكث معه ساعة أو ساعات، و"شيمة صبرها" هذه خليقة عند منير بالشكر والثناء، ومنى في هذه الخصلة على النقيض من سلوى التي تكثر من  البكاء والشكاة، من الحاح منير الذي ينثر عليها أحاديثه العذبة، وسلوى غير شغوفة بالعبث، فما أن تصيب حاجتها منه، حتى تنتزع نفسها من أكتاف منير، وتمضي مغادرة غير مبالية بتوسلاته، واستعطافه لها بأن يستأنف أحاديثه معها، حديثه اللذيذ الماجن، كانت سلوى تأنف منه، وسلوى الغضة البضة، كانت كثيراً ما تعصم نفسها عن منير، وتزوّر عنه، واعتاد منير أن تطاوله سلوى وتماطله، فلا تأتي إليه إلا بعد أن يسرف في استعطافها، ويجزل من نواله، إذن مسار منير مع سلوى يحتاج إلى تصحيح، ولكن منير غير قادر على اقامة هذا التصحيح، لأن سحر سلوى أقوى منه، ولأن شخصيتة الضعيفة الفاترة، تتخاذل أمام شخصية سلوى الطاغية، و"نجوى" التي مضت متثاقلة مع زوجها إلى مصر من أجل الترويح، هي وحدها التي تؤثر منير بالعاطفة والحب، وهي وحدها التي أنفقت كل ما يعطيه منير لها من مال إلى زوجها منصور، حتى تصرفه شؤون التجارة عنها، فتقضي ساعات في مضجعه مع منير وهي وادعة مطمئنة، ولكن حظها العاثر هو ما جعل منصور يطلب، ويلح في الطلب، بأن تذهب معه حتى ترضي حبه، وترضي شوقه، ويظهر لها امتنانه وتقديره، فلولا "تحويشة العمر" التي منحته اياها، لكانت حياته معها عادية تقليدية مسرفة في التقليد.

و"منى" التي نعيبها، ونغض منها، هي التي بقيت مع منير، وهي التي صار أحبّ شيئاً إليه أن يعود إلى مضجعه فيجدها قد سبقته إليه، لقد امتزجت حياة منير بهذه الغثاء التي خضع له وأفنى نفسه فيه، ومثل هذه الحياة الناضبة التي نزدريها فيما بيننا وبين أنفسنا أشد الازدراء، لا يطفئ جذوتها إلا استقامة تخرجها عن الزيغ والضلال، أو عاقبة وخيمة يتردى فيها صاحب هذه العواطف الحادة الثائرة، والشهوات المضطربة الهادرة، ومنير مضى في رحلته الماجنة الداعرة حتى انتهى بها إلى محطتها الأخيرة، مضت حياة منير على ذلك المنوال، الأيام تتلوها الأيام، والليالي تتبعها الليالي، إلى أن عاد "عادل" زوج منى من موقع عمله، ولم يمضي شهره كاملاً كما جرت العادة، عاد هو وطائفة من الناس بسبب الحروب والنزاعات التي اندلعت في تلك المنطقة، وما أن وصل وبحث عن زوجته داخل منزله، فلم يجدها، دار في خلده أنها مع أحد جاراتها، فطرق أبوابهن كلها سائلاً مستفسراً، إلى أن انتهى إلى بيت فتحت بابه امرأة "طاعنة في السن"، والنساء "الهرمات" لا تعوزهن الصراحة والوضوح كما نعلم، لقد أخبرته الحاجة "ست الجيل" في سفور وجلاء إنها منعت بنتها من مصاحبة تلك المرأة لأنها زانية متهتكة، لا ترعى لزوجها إلاً ولا ذمة، فغر عادل فمه من الدهشة، وبحث عن صوته فلم يجده إلا بعد مشقة وعسر، فسألها في ضراعة مع من تخونه؟ فقالت له وما يعنيك أنت، كان الله في عون زوجها الذي يكدح من أجلها ويرمي بنفسه في غياهب الفناء، حتى يوجد لها الحياة التي تتمناها كل امرأة، أيقن عادل أن الحاجة "ست الجيل" لم تتعرف عليه بسبب نظرها الكليل، أخذ عادل يغالب دموعه، ويلوح بيديه في الهواء، ولا يكف عن ترديد "يا بنت الكلب" هكذا تجلب البنات الساقطات الاهانة لأبائهن، جلس عادل في قارعة الطريق بعد أن عجزت قدميه على حمل جسده الضئيل، وأخذ يحاور نفسه ويداورها، مع من تخونه منى؟، ولم يدعه المارة الذين يكثرون من تأدية السلام لأن يخلو إلى نفسه، ويفرغ لخواطره، التي أخبرته في جموح وإيغال، أن يغسل عاره الذي ورطته فيه "منى" بقتلها، واستراح عادل لهذه الخواطر التي منحته قوةً وأيداً، وبعد أن ارتقى مع تلك الخواطر إلى أبعد ما يمكن أن يرتقي، ذهب إلى منزله في سرعة وعجل، وقصد خزانة ملابسه، فطافت بها يديه في عصبية واضطراب، ولم تهدأ حركتهما إلا بعد أن وجد ضالته الصغيرة، فدساها في جيب بنطاله، بعد أن وضع فيها كمية من البارود يكفي لحصد أرواح عائلة بأكملها،  كانت أول وجهة لعادل هو" شوقي" صاحب المتجر الحافل بكل شيء في حارتهم، والذي لا تخفى عليه خافية في منطقتهم، سأل عادل شوقي بصوته الهادئ العذب، بعد أن ألقى عليه تحية مخدجة غير كاملة، مع من تخونني زوجتي؟، لم يأبه عادل للرجال ولا للنساء الذين جاءوا لشراء ما يحتاجونه، ولما طال صمت شوقي وانخزل عن الجواب، أخرج عادل مسدسه الصغير من جيبه في خفة، وألصقه بجبين شوقي وأعاد عليه سؤاله السابق بصوته الهادئ الرزين، وهدده أن سيضغط على الزناد إذا لم يتلقى اجابة شافية تشفي غليله، وهنا تكفل صبي أوشك أن يناهز الحلم بالجواب،  وأخبر عادل بصوت حافل ندي، أن منى تخونه مع الملياردير منير، وأنها تمضي سائر يومها معه في بيته، ولا تأتي إلا على فترات متفاوته، وما أن سمع عادل شهادة الصبي حتى أطلق ساقيه إلى الريح، وبلغ منزل منير في ثوان، وتسلق شجرة سامقة وارفة الظلال، دلف منها إلى بيت عشيق زوجته، وفي خطوات خافتة سريعة عبر حديقة المنزل، ثم وجد باب الصالة مفتوحا على مصرعيه، فسار بجسده النحيل السلم الرخامي المرصع بالنجوم والتواشيح، فأقله هذا السلم إلى غرف واسعة فسيحة، بحث فيها كلها فلم يجد غريمه اللدود، وهنا تناهى إلى سمعه صوت ضحكات مجلجلة في الطابق العلوي، ضحكات يعرفها جيداً، لطالما كان يأنس لسماع هذه الضحكات، ويهيم بمن كانت تطلقها في غنج ودلال، ضحكات زوجته منى، هي في الحق آخر ضحكات تطلقها في فضاء هذا الكون، فلن يسعفها القدر أن تضحك أو تسرف في هذا الضحك مرة أخرى، صعد عادل إلى الطابق العلوي، ووجد زوجته ترتدي ملابس رقيقة شفافة تظهر جميع مفاتنها، وهي تشرب من أقداح كأس مصطخب تكاد أمواجه العاتية تصل إلى سقف البيت، فعلاجها بطلقة استقرت في قلبها، وأخرى أصاب بها رأس منير، لقد أنهى عادل بهذه الطلقة الرشيقة، شهوة جامحة كانت تدفع صاحبها دوماً إلى النزق والطيش، وبعد أن تأكد عادل من رحيلهم عن هذه الدنيا وأن أرواحهم النتنة تصعد الآن إلى عنان السماء، فتح ثلاجة منير التي كان معبأة بكل أنواع الخمور الغالية الثمن، وأخذ عادل الذي لا يعاقر إلا الخمور البلدية الرديئة، يشرب في نهم وهدوء وصمت، لقد فعل عادل ما أراد، أو ما استطاع أن يفعل، هو كان يريد أن يدفع بهم إلى أهوال لا يحبونها، أهوال يفضلون الموت على أن يظلوا يعانون من مضها وايلامها، وطفق عادل يشرب ويشرب حتى سمع أصوات هذه الكائنات التي تستقصى كل شيء، وتريد أن تلم بخبيئة كل شيء، "أهل الفضول" تعالت أصواتهم تحذر عادل أن الشرطة في طريقها إليه، فعليه أن يسرع في الخروج من منزل هذا الرجل الثري، بعد أن أرداه قتيلا، ويتجنب أن يقضي ما تبقى من عمره في أنين وشكاة، ولكن تغافل عادل عن هذه الأصوات، وألقاها دبر أذنه، ومضى يتهالك على أفاويق "الخندريس والسلاف"، حتى حضرت الشرطة ووضعت الأغلال في يديه.

  وبعد أيام خفت الصوت، وتتضاءل ذكر هذه القصة، وحضر الزين والد منير، مع سكينة الباذخة الجميلة، وهي تضع يدها المكتنزة فوق معصم الزين، وتطلب منه في خفوت أن يبيع هذا القصر الرائع الذي حتماً سيصيبهم منه مكروه إن هم بقوا فيه، ورضخ الزين لرغبتها، فباع القصر وطلب من نوال زوجة ولده الراحل أن تبقى مع أولادها في الولايات المتحدة، وتزوج من سكينة تلك المرأة اليقظة الحافلة بالجمال، عجز الزمان أن يخضع ملامحها للابتذال، ولقد التفت الزين إليها وهي خليقة بالالتفات، منذ أن حضرت إلى منزل زوجته "ماجدة" قبل عشرات السنين، وبدأت في خدمتها، سكينة هي المرأة التي أضعفت فؤاد الزين وشبابه عن الوفاء لزوجته "ماجدة" والدة ابنه الوحيد منير، الذي التأمت عليه الأرض وطوته الغبراء قبل أيام قلائل، وظل طوال هذه السنين يتهالك عليها، ويعشقها عشقاً لا حد له، وكان أكثر ما يأسره فيها طيبتها، وبساطتها، وجمالها الطبيعي، واخلاصها له، فهي لم تتزوج مطلقاً،أو تتخذ غيره خدنا لها، وأبقت على علاقتها الآثمة به، واحتملت أعبائها الثقال، علاقة فيها أعظم نصيب من الحرام والباطل، وأدنى مرتبة من الحق والحلال، ولكنها اعتزمت  رغم كرور الأيام، أن تقوم من اعوجاج هذه العلاقة، خاصة بعد أن انتفت كل الأسباب، فرضخ الزين المتدله الولهان في حبها، وآلت إليها كل الأصول والأملاك، وعادت يوماً، فإذا الأسرة كلها مجتمعة، فقد أرسلت إلى نوال تدعوها أن تحضر هي وأبنائها، فهم لم يلتقوا منذ سنوات، واحتفت هي وزوجها الزين بمقدمهم، وبعد أيام أخذت تُبْصّر كل فرد منهم بحقه في الميراث، وتبث في دواخله الثقة والطمأنينة، وتعده بأنها لن تكون السبب في شقائه، وقد صدقت سكينة في وعدها، لصدق مشاعرها تجاه أبناء منير، فقد كبروا تحت كنفها ورعايتها، لأجل ذلك هي تحمل لهم هذا الفيض من المشاعر الذي يشابه لحد كبير مشاعر الأم تجاه أولادها، لقد أحبّ أبناء منير سكينة ولم يكرهوها، لأنها كانت تخلي بينهم وبين ما يحبون، ولأنها تغدق عليهم من المال ما جعل تصرفاتهم تخرج عن الرصانة والرزانة، لقد انتهج الأبناء نهج منير أباهم، وصاروا رهباناً في معابد اللذة والمجون، لقد أظهرت جينات والدهم طبيعتهم ومزاجهم كأوضح ما تكون الطبيعة والمزاج.

***

د. الطيب النقر

 

تَـعَــرّبَ مَـنْ تَـغــرّبَ بـالـعـقـالِ

وغـالــوا وهــو زيــفٌ بـالـمـقـالِ

فـهُمْ اهـلُ الـكرامـةِ حين تـدعو

ذويـهـا للـمــواقــفِ والـصــيـالِ

*

وهُـمْ شـرف الـعـروبةِ لو تـبارى

ذوو الـشرفِ الـعـريقِ من الرجالِ

*

وها هُـمْ حـين جَـدّ الـجَـدُّ بـانـوا

كـحُـــكّــامٍ أذلَّ مـن الــنِـــــعــالِ

*

تـشابهـتِ الـقـلوبُ فـهُمْ سـواءٌ

وهُـمْ وجـهـانِ إلّا في الـخـصـالِ

*

صهـايـنـةٌ هُـمُ غـطّى عـلـيهمْ

ريـــاءٌ في الـتـأسْـلُـمِ  وانـتِـحــالِ

*

وصارَ الـديـنُ مـدخـلَـمْ فـفـيهِ

حِـمـايَـتُـهُمْ وهُـمْ صُـهُـبُ الـسِـبالِ*

*

وفـيهِ حـرّفـوا وعـلـيهِ شـادوا

حُـكـومَـتَـهمْ وسـاسـوا بـاحـتـيـالِ

*

فـتـخريبُ الـمـبادئ كان نـهجًا

بـأفـكــارٍ تَـجَـــلّـتْ عـن ضـلالِ

*

فـها هُـمْ اذرُعَ الطاغوتِ صاروا

وآلَ الآلُ صـهـيــــونـي الـمـآلِ

*

فـهـذي غــزّةُ الابطـالِ عَـرّتْ

حـقـيـقـتَهمْ  وبــانــوا بـالـفِــعـالِ

*

فـغـزّةُ أفـرزتْ مـا كانَ يـخـفى

لأعــرابٍ هُــمُ ثُــفْــلُ الــثِــفــالِ**

*

وغــزةُ أفـرزتْ وجَـلَـتْ غُـثـاءً

وبــاتَ الـعــارُ في لِـبـسِ الـعــقـالِ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الـدنمارك / كوبنهاجن

الثلاثاء في 12 آذار 2024

..........................

* هم صُهُبً السبال: أي هم الأعداء  

 ** ثُــفُـلُ الثُفال: الساقط من الرَحى من الحَبِّ

 

في نصوص اليوم