نصوص أدبية

نصوص أدبية

جلست يوما

أتفيأ بظل نصب الحرية

وأقرأ في كتاب "العبودية"

عن كيفية صياغة أحلامي المتأجلة

منذ أعوام

وأنا أصر على المشي

على حافة المنفى

أتوكأ على عصا مرخية

كلما جرفتني رياح الغربة

أحمل خطواتي فوق بساط التيه

*

فر العمر

وتركني أغازل فقاعات

على وجه ساعة متوقفة

داخل جيب سترتي

*

ها أنا الآن أهاجر

مع أوراق الخريف

وتحت ابطي مفاتيح المدينة العتيقة

وباقة من زهور ذابلة

*

مالذي سأفعل

بمخالب قطة وديعة

تجلس معي

في قاع المنفى

وما معنى أن تحرضني

سيدة مسنة

على مداعبة الأرانب السوداء

*

وعندما تراخت

الظلمة البهيمة

على مناكب الأرض

وتدلى الصدى

من أجراس خرساء

كانت أحداقي

تتشظى

وتعتلي فراغ الأمسيات

*

لعل في نباح الكلاب

ما يشفي الخيول الجامحة

في قافلة تخلت عن ركبها

*

هكذا تبقى الحياة

مجرد كلبة ذات جراء

متعددة الأعراق

*

وأنا لم أزل أحفر في تضاريس عائمة

على أعتاب العمر

أمرغ سحناتي الشاحبة

في تجاعيد الزمن

وأعاقر ما تبقى من نخب الشيخوخة

*

كنت أظن أن الحرية

نعمة من نوع آخر

فوجدتها سوى ورقة يانصيب خاسرة

تحتضر في سلة المهملات

*

كأني شبح ثمل

في حانة مهجورة

روادها كالزنابير

يتدربون على التحليق

خارج السرب

ويرقصون على نقرات

الطبول الأفريقي

أشجار الخروب

تطل من شرفات

مغروسة في الخواء

والظهيرة

مكتظة بناس

يتنكرون بمنامات بهلوانية

*

أنا الآن في سن

أصبحت فيه كعصفورمنبوذ

يتسكع خارج القفص

***

بن يونس ماجن

غدا؟

غدا !

وبتُّ أُخاتل ليْلي

أُقشِّر وجْهَ الشَّمسِ

من الغسقِ

يُقلِّبني طيفُه

على فراش الأرقِ

يُذكي ضِرامَ الصَّبِّ

يٌمزِّقُني

ثمَّ على مهلٍ

يَرتقُ مِزقي

حتَّى رقَّ لحالي اللَّيلُ

وَنهَرتْه عينُ الشَّفقِ

طرتُ له

كما النُّور من الحِدقِ

مَلأْتُه منْ حُميَّاي

وامتلأْتُ به

وَ في لجَّة عينيْه

سَكبتُ وهْج الشَّبقِ

***

زهرة الحوّاشي. تونس.

من مجموعة وميض الماء.

يقولون ،

أن الصقيع

تلاشى

وعلى أعتابه جاءَ الربيعُ

يحمل بصماته

ويسمع وقع اقدام هؤلاء الرقيع ..

مملؤة بالوحل، أشكالهم

نراها ملطخة بالنجيع ..!

**

وحين السؤال..

لِمَ كلَ هذا الهراء الشنيع..؟

لماذا المواسم ظلت جحيماً

تعاني نزيفاً ونسفاً وعصفا..؟

يجيبون ماذا ترانا نراها

فكل الذي جاء بعد هذا الهجيع

نذير تعالى

أن يديم الزمان رهانه

على مذبح الحقد والكره

حتى غدونا نسيرُ سيرَ القطيع..!

وتهنا

وتاهت بنا اقدامنا في متاهاتها

وظلت تواري سوءات

هذا المسار الوضيع..

**

يقولون هب ، ان الصواري

غدت في مهب الرياح طلاسماً للنزوح..

وماجت بها كل تلك الدروب

وتلك السفوح..

ثم انتهت مهجعاً للخلاص ..

وحارت بلاغات هذا الزمان الكسيح

ألا ترون النهار الذبيح..؟

وكيف نداوي الجروح..

بتوصيفة

النسف والعصف ورشق الرصاص

كأن العوالم باتت خواء وجدبا..

واحكامها في الحق

ماتت من القهر حد القصاص..؟

**

يقولون،

ماذا ترانا نقول ؟

نقارب الهوس المشبع بالنزيز وبالغبار..

من يبرح الفجر المدمى كلما طلع النهار..؟

ونقول ماذا ترون؟

هم يحرقون طقوسهم

ويصبون زيت النار في جوف الغيارى..

ويزهقون العابرين على الطريق

ويفر الناسُ جمعٌ في العراء حيارى..

ماذا يحل بنا لو ان بارقة

تداعت خلف هذا الهول من وهج الحريق..؟

ماذا تراه على الوجوه وجومها

تلك النقوش تحولت

نغماً يضاجعه النعيق..؟

نشروا المهازل والرذائل

والمزابل والرقيق..

وكأنهمُ يمشون كالموتى ولا أحد يفيق..!

(2)

واقول للجمع المدمى

لا ترتجون النصح من فقد المحبة والحنين

زفوا لهذا العمر صرخات السنين

شدوا سواعدكم ، فوق الركام وعند قارعة الطريق

فأن ملحمة الخلاص تصاعدت نغماً عريق..(*)

***

د.جودت صالح

22/كانون أول 2023

..........................

 (*) من وحي مقولة لفيلسوف اليونان الحكيم "بطليموس" حين سأل زوجته (ألا ترين ، أن العالم فاسد الذي نعيش فيه، لا كما نريده أن يكون)؟

التاريخ يسخر منا

والجغرافيا تنحسر

تتحول إلى مجرد كأس قهوة باردة

على طاولة مهترئة

في مقهى طاعن في السّن

ونصف سيجارة في منفضة

قديمة

الأمر يشبه اليوم حربا على طواحين الهواء

دعوني أعلن تدمري بل تمردي

على شرائع الغاب ولغة الخساسة

دعوني أجهر بعقوقي لسادة الظلام

لمن يحكمون بناموس المواربة

وفرائض الاجْتراح و الخطيئة

دعوني أعلن عصياني على ضرائب

الشيخوخة وقانون نزع الكرامة

دعوني أصرخ في وجه جُبَاةِ المكوس

وحجز لزوم الدواء والغذاء

2

أعلم أن صوتي لن يخترق الأذان الصماء

وأن تسويق كلومي مجرد هراء

وتحصيل حاصل خارج السياق

لن تتحقق نبوءة عرّافة القرية

لن تغرد عصافير المساء

لن يَلجَ الجمل في سَمِّ الخِياط

وسأقف وحيدا في وجه العاصفة

أتلو مزاميري

أرقص كديك مذبوح

أشعل شمعة سوداء

أحرق عود الصندل

وأستحم برحيق الصهيل

3

أقيم صلاة الجائع

عند الربية الخضراء

تلبسني فقاعات الاهتراء

تلسعني صفاقات التلاشي

أخرج من حلقة التكرار

أكتشف أن الحزن قدري

وأن لون قمري معتكر

رِفقا بي يا غيم المساء

دع ضراعتي تصل السماء

فأنا مالي صبوة ولا جهالة

والفجر يشهد لي أني ما كنت يوما

من الأشقياء

***

محمد محضار

كانت تحاول أن تحرك لسانه فيتكلم، يحكي، أن يستفرغ ولو قليلا مما يكتم ..

تسأله وكأنها تستشيره في بعض أمورها أو أمور تمس مستقبلها معه حتى لا تحسسه بحرج مما عنه يتكتم .يحاول ثم يتراجع، يطبق شفتيه، يتنهد بغصة حارقة..صمته لا يزيدها منه الا خوفا ..

تعلقت به لأناقته ولباقته، مظهره الذي يعكس أكثر من ميزة كأنه يتعمد إخفاءها رغم أن كلماته القليلات منه كثيرا ما كانت تفضح جذورا أصيلة، ثقافة ووعيا ..

تتعمد أن تشجعه على أن يلمس يدها، أن يبقي على احتضان كفها بين يديه، دون أن تسحبها أو تبدي اقل معارضة، كانت تلاحظ نوعا من غيبوبة تسرقه عنها كلما لمسها، تستغرقه دقائق وكأنها ترحل به بعيدا عنها، عن كل ما يحيطه ويجمعها به، يضغط على يدها كأنه يتأكد من وجودها المتفاعل معه، إذ يخشى أن يفتح عينيه فلا يجدها أوعنه تتحول الى غير ما يعرفه عنها ومنه قد تأكد ..

مرة وقد التصقت عيونه بوجهها تفجرت مقلتاه دمعات ساحت على خديه، غمرتها فرحة داخلية تكتمت عنها حتى لا تشعره بحرج قد يثنيه عن الكلام ..

سألها : "ألا تجدينني ثقيل الظل ؟.."

بسرعة ردت : ابدا، أحترم صمتك وأعلم أن في أعماقك تجيش مشاعر حب نحوي تكفيني لأحضنك ومنها أستمد سعادتي .. منذ نظرتي الأولى اليك أحسست رغبة قوية لان أرتبط بك صديق عمل ثم مع الأيام صرت محور تفكيري، حبيبا بلا اعتراض اوتوجس من غد ..إنسان صادق في إنسانيته لاتنقصه الا بسمات تمحوهذا الحزن الدفين ألذي يطل خوفا مؤثرا من هذا الوجه الذي أحب ..

ـ أخشى ألا أستطيع ترتيب أفكاري، بالدقة التي تمنح حبيبتي الصبر على متابعتي، لذا فالصمت كان افضلية مني تبقى على اسراري، أما وقد أدركت رغبتك فقد عولت على الكلام ..

ـ يكفيني هذا الإحساس الذي يغمرني كلما وجدت نفسي معك، أنا لك بحقيقة أناي بكل قيمها ومبادئها الإنسانية ..

تقولها وأعماقها تتحرق لهفة لأن تسمعه، ماذا عنها يخفي و أعماقه بسرعة تتحول الى بركان حارق هادر يقاوم شرارات غضبه حتى لا تتأثر بها وعنه قد تبتعد ..

مرة أخرى تكويه دموعه على خده، يستل منديلا من جيبه وينشف به خده ..

تتابعه بقلق تتعمد أن تخفيه، حتى لا يتبدى الحاحا ورغبة فضول على وجهها ..

ـ "كان عمري عشر سنوات حين ماتت أمي وتركتني وحيدا مع أبي تخدمنا امرأة شابة كنت أناديها خالتي متوهما أنها كانت أخت أمي..

خالتي أبعدت عني كل ما يمكن أن يخلفه موت أم في طفل صغير، تغلبت على أحداث جسيمة، عميقة بقدرة صلبة تفل الحديد.. فالبيت هو البيت كما كان في وجود أمي التي لم تكن تتحرك فيه الا وهي تستعد للاستحمام أو في مناسبات تقام في بيتنا، فكسل أمي الذي فاجأ الجميع كان قد اورتها سمنة فاقت الحد، يعشقها أبي أو هكذا كان يتخيل لي أو يمثله في حضوري؛ كانت خالتي هي ربة البيت الحقيقية، أصغر من أمي وان لم تكن اقل منها جمالا ، أملود لينة تستطيع أن تخضع لرغباتها جميع من تتعامل معهم، بدلع طفولي أحيانا كأنها أحد أترابي أو اقل، أوعبر عيون واسعة ناعسة تنومها في اثارة لا ادري ان كانت بها واعية أوغير واعية، تمارسها مع أبي كما معي ومع أي ممن يأتي لبيتنا، كانت تلبي رغباتنا في البيت بسرعة وبسمات حب وإرادة لم نتعودها من أمي حتى قبل أن تسمن وتلازم سريرها ، كل ذلك في حرص على ألا يطلع على حقيقتها أي كان من افراد عائلتنا، قليلة الكلام لا ترد الا بمقدار السؤال، ولعل ذلك ما جعلها حاضرة البديهة بصفاء لايمكن أن يكشف دواخلها الحقيقية كما أن السحر الذي في عيونها هو ما تعوض به لسانها، فهي لا تنم أحدا أو تسمح أن يذكر أحد في حضورها بنميمة أو تتدخل فيما ليس مخططا في عقلها او تبدي تهافتا لكل ما قد يحقق لها منفعة وفائدة .. هكذا كانت تظهر لي أو تجاهد النفس لتبدو كذلك، سياسة لمواقفها الشخصية لتحقيق أغراض بكفاءة جبارة ..

أحيانا كانت الغيرة من سلوكها كاستحواذية على أبي تثير حولها اقاويل عائلية لكنها كانت لا تبالي ولا تشغل نفسها برد أو عداوة :

ـ "تظل الأقوال في فم القوالين كلمات واهية هم أول من يتلطخ بها "

كانت لأمي غرفة نوم تستغلها بمفردها ولأبي أخرى قريبة منها ليس بينهما غير جدارفاصل، غرفة نومي تقابل الغرفتين وجميع الغرف في الطابق الفوقي، كل غرفة لها حمامها الخاص بها، لكن كثيرا ما كنت أنهض صباحا فاجد أبي يستحم في أحد حمامات الطابق السفلي حيث غرفة نوم خالتي .. لم أكن يومها أدرك أن غيثة خالتي هي عشيقة لأبي، أشياء لم أكن أدركها بل لم تكن تخطر على بالي خصوصا وأن معاملة غيثة لامي هي معاملة حب وأخوة وحرص من خالتي أن تكون أمي سعيدة لا تقنط من حالتها ولا تسأم، وحرص من أمي أن تكون خالتي راضية بوجودها بيننا تتصرف وكأنها ربة بيت تنازلت لها أمي عن كل ما قد يغير نظام البيت، طقوسه وعاداته اليومية خصوصا أمام كل زائر من أفراد عائلتنا.."

يصمت ثم يتنفس بقوة كأنه يزفر ما يريد أن يتابع قوله، أو أنه يرتب أفكارا تتزاحم على عقله، أو ربما يختارمن بين ما يتداحس عليه من أفكار ما لا قد يثيرني أو يوقظ تساؤلات هو في غنى عن الرد عليها ..

ـ"كلما ازدادت أمي سمنة توثقت علاقة أبي بغيثة حتى أنهما ماعادا يشعران بحرج أن أضبطهما في أوضاع كثيرا ما ابكتني، لكن غيثة بقوة شخصيتها وديبلوماسيتها كانت تمحو كل أثر قد يجعلني افضح أمرهما لأمي ..

ـ حبيبي صالح، ربما لا تعرف اني وابوك متزوجان بعقد ورغبة من أمك التي كانت تصر على ألا يصلك خبر خشية على مشاعرك الطفولية، لذا ارجو حبيبي لاداعي لاخبار أمك بما رأيت..

" كنت أثق بأقوالها، أصدق كل ما تصبه في أسماعي وياتيني هدايا من أبي يغدقها علي من أموال لم تكن له وانما هي مما استحوذ عليه من أمي بمساعدة خالتي غيثة وإمضاءات مزورة لا ادري كيف كانت خالتي تغري أمي بتوقيعها ...

تموت أمي بعد عملية جراحية لشفط الشحوم أصرعليها أبي بإيعاز من خالتي، رغم شكوك الطبيب الذي كان يخشى على قلبها ...

وثائق كثيرة وقعتها أمي ليلة العملية بإغراء من خالتي والتي على إثرها وجدت نفسي بلا أم ولا عائلة، غصن مقطوع من شجرة، طفل لقيط ولد تني رذيلة من مجهولين، لا اصل ولا فصل، جنين في سلة قمامة أتى بي أبي الى البيت بعد يأس من قدرته على الخلفة، ورغم وجودي في دفتر الحالة المدنية أحمل نسب أبي فما تركته أمي موقعا بيدها كان الحجة القاطعة أني منذ اليوم الأول لوفاة أمي صرت نغلا بلا اصل ، وحدها خالتي غيثة تحمل عبء أمي حملها لكل ثروتها ..

ضمني أبي الى صدره وقال : لا شيء سيتغير أنت ابني وذي خالتك هي أمك، في خيرها كنا نعيش وسنعيش ..

حين خلت بي خالتي توهمت ضغطات عناقها ودمعاتها التمساحية حبا يحتويني ويعوضني أمومة عشتها سرابا وهميا من وضعي الذي فاجأني باكتشاف..

بعد خمس سنوات من موت أمي صار بيتنا يغلي بخصومات بين أبي وخالتي، كراهية تسير بينهما كدلال حقد وتنابز يجهدان النفس على ألا يصلني ..

سألت خالتي عن السبب ولماذا تغير حالهما من حب وتوادد الى كراهية حيث استقل ابي بغرفة أمي وعادت خالتي الى غرفتها في الطابق السفلي ؟

لأول مرة أرى خالتي في صورة لم أكن لأتخيلها ابدا أو تخطر ولو في حلم على بالي : عيون قدت من جمرولسان يرمي بشرر بدئء :

ـ اهتم بنفسك ولا تتدخل في ما لا يعنيك أو ألحقك بها ..

انكتمت بل أخرسني وجهها الذي بدا شيطانا وعيناها سماء رمادية تحلق داخلهما النسور .. رعب مفزع يساورني في يقظة ومنام ..

حتى أبي صار لا يحرك ساكنا في حضورها، وما كنت أستغرب له أنه صار يسمن كما سمنت أمي يتركن زاوية في البيت لا يتحرك منها الا بمساعدة خادمة أتت بها غيثة لتلبي مطالبه الضرورية لان منظره صار مقرفا وكما سمعتها تقول لخادمتها يوما :

ـ افعلي به ما تشائين ماعاد يصلح لعادة ولا لعبادة وعيناي لا تحتملان الوقوع عليه .، وليس لي وقت لذلك .

صارت تقضي يومها بين فنادق حمامات التجميل والسباحة وزيارات الصويحبات ..ومولات التقليعات الحديثة ..

حين أرادت يوما أن تصالحني أتى سلوكها مخجلا لا يليق بها كأنثى ربتني وعاملتها معاملة أمي ..انسحبت فارا الى غرفتي ابكي طفولتي التي انكسرت في لحظة وعي بوجود ما كنت أدري حقيقته من زيفه، وشبابي الذي تعاظمت فيه غربتي وقد صممت أن أعالج قهري بالصمت لان لا احد صار يستحق أن يعرف حقيقتي الى أن تعرفت عليك كأنثى تشاركني مكتب عملي، وفي نفسي تقذف صورا رائعة عن أنثى لم أعرفها في بيتي ولا في معاهدي الدراسية

يموت أبي بما ماتت به أمي سمنة مفرطة والمتهم بقتله أنا ..

ادعت غيثة أني مذ عرفت حقيقتي وأنا أحمل له حقدا، من أجل ذلك تم حبسي على ذمة التحقيق الى أن كشفت الأبحاَث الحقنة التي سببت سمنة أمي ثم أبي من بعدها وموتهما ..

صمت وكأن منه الصوت قد غار و ضاع، شرعت أصابعه تتحرك بعصبية وأنفاسه كأنها كير حداد تنفخ صدره فطواه ألم جعلني ابادر باستدعاء سيارة إسعاف ..

يومان قضاهما في عيادة لم افارقه فيهما وهو ما كشف علاقتي به بين أمي وأبي، كانت تمهيدا لأن يتقدم الى خطبتي وأن يعرف أبي حقيقته فيتبناها كمحامي استطاع أن يكشف سر خالته كخادمة لا تربطها بأبيه أية رابطة موثقة، تمكنت بذكاء أن تلعب دورا في حياته وأن تقتل أمه بتأييد من أبيه ثم تستولي على أبيه لتنفرد بثروة خططت لها وكان زوجي نفسه في الطريق ..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

في خضم ما يحدث في العالم لا بأس من الرجوع إلى رواية "زغب الخوخ" ولو عبر هذه الفقرات.

***

حتى أن لسانا يشبهه همس في أذنه:

- إنك تريد أن تثير هيجان هذه الألسن لتسحب بطونها ناحيتك فتلتوي على خوختك الآمنة.

عندما أصر ولم يسحب لسانه دفعته تلك البطون بالقوة، ولم تتوقف عند هذا الحد، بل راحت تتحدث فيما بينها، فاتفقت على أن هذا اللّسان العربي الخبيث الذي تمكن فأسرى ليلا، قد يكون يخبئ شيئا خطيرا يمكن أن يلوث كل الخوخ في هذا الشرق الذي توسط واستعصى علينا، اتفقت أن تلاحقه في كل مكان.. أتعبها بعض الشيء، فقد قيل بأنه يختبئ وراء ألف وجه، ويتحدث بألف لسان، وقد شاع أيضا أن هذا من يخلص العالم من المكائد والشرور، حتى شاع بين البؤساء أن هناك نشدا من الصالحين يؤكد صحة هذه الإشاعة، إشاعة أحبّها الضعفاء والمهزومون والمقهورون في العالم العربي.

لكن تلك البطون التي تحالفت وشكلت أمما متحدة خافت أن يفتك منها زغب الخوخ الفائض بالماء والسكر، الطيع منه والمكره، والساذج الذي طفح بخيراته دون إرادة، وذاك العاجز عن استخراج خيراته من تحت وسادة رأسه، وكذلك أولئك الأغبياء المنتبهون جدّا إلى وعود القرية الصغيرة، خصوصا حرية الخوخ المسلوخ وحبوب منع التفكير، قرية أبو جهل التي يعرفها العرب، المنصة التي كان يعرض عليها أجدادهم جواريهم..

فعلا فقد تأكد أن من يشبه أبا جهل يسكن في بيت أبيض جميل، وتأكد أنه ينزح لإعادة بيت كان قد فقده منذ الأزل، وقد سحر الناس بلغته المشرشرة المنحدرة من حجرة غاشمة، حتى عرب قريش كفروا بلغة الله حين التوت هذه الحيّة حول جسد الجزيرة العربية.

ذهب بخياله إلى هذا المعنى، ثم جاء رويدا إلى واقعه المفروض وأخذ ينسحب تدريجيا من المكان، وهو يسير بطريقة خلفية إلى الوراء رأى العرب صرعى، وكالبركان يخرج من أفواههم سائل غازي سحري بلون اليابسة العربية ووجوهم فاحمة بالرذيلة.

رفع رأسه فرأى سماء غاضبة ملبدة بسحاب محنط لا يبشر بالمطر، وحشودا عربية تهرول بين أودية الدماء لا تدري أين تتجه، وأكثرهم يجرون لإدراك حفل دموي تحييه كوكبة من النجوم الزرقاء والخطوط الحمراء في تحالف جاهر بالمكيدة.

في فيحاء تكاد تشتعل من وهج النار صلى استسقاء للمطر كلما شعر بالعطش، لكن السماء لا تستجيب له، ربما كان عليه أن يغوص فيها غوصا تاريخيا قبل الصلاة، وكم هو مثير للأعصاب إذا جمع بين الشهوة والخشوع، ولأن له جهازا جنسيا يطغى على جميع الأجهزة، بدا كأي راغب يريد أن يصير آدم ليبني كيانه من جديد، فضل أن يُبقي عقله في جمجمة رأسه، وأن يرش روحه كل مرة بماء بارد فلا يترك من كيانه إلاّ نفسا منتصبة، تتأمل شواطئ الماء وشواطئ الشهوة كشكل من أشكال التمويه، ليرى أغصانا متدلية بخوخ مسلوخ يقطر من زغبه ماء حلو بنكهة العسل، تظاهر بأنه من جموع العرب المتلذّذين، وأنه يغض بصره عن شلّالات النفط المنهوبة، وإلّا كيف يرضي دول التحالف يا عين قلبي؟

السماء أمطرت غبارا أسود حزنا على الأبرياء الذين ماتوا وهم لا يفهمون ما يحدث، وقد كانوا من قبل يستطعمون الْحُب كما ينبغي، يعرفون الفجر كما يعرفون أبواب بيوتهم، وكم كانوا يحرصون أن يشهدوا أول قرن لشمس الحياة الجميلة كلما غمزت لتوقظ الكادحين والعصافير.. هكذا تفرح بهم قطرات الندى كلما استيقظوا باكرا، وهكذا كلما تستثيرهم إلى الحياة إذا تدحرجت على أكمام الورد الذي أباح رحيقه للنحل المخلص بالشفاء.

المتصارعون على الآدمية الغاشمة شرّدوا العصافير والفراشات، وأضافوا نصف ليلهم إلى نهارهم.. حجزوا المساء لأطفالهم، والياسمين وكل العشب الأخضر.. أرادوا الصباح لهم وحدهم.

يفعلون ذلك ولا يأبهون بمن انتخبوهم ومنحوهم السلطة ساخنة، أولئك الذين كانت تتقاذفهم الحملات السياسة هنا وهناك، يركلهم الجوع والعراء في صباح ومساء المدينة الطيبة، المساكن التي اتخذت من الإسمنت والقش والقصب قواقع لتحميهم من الأفاعي والزواحف الهائمة، ينامون في العراء ورغم ذلك لا يخافون من الموت كما يخافه هؤلاء المتصارعون، يتحسسون الموت حتى من الخربشة البسيطة فوق السطوح وتحت أسرّتهم وموائد أكلهم وشرابهم، هكذا لا ينامون نوما هانئا كلما تقوقعوا داخل قصورهم العالية، واستلقوا على أفرشتهم الحريرية، لأن قلوبهم تقطر بالسواد وتنبض بالفزع، يتنفسون الأكسجين الأحمر لأن عيونهم تتهيأ الذين ماتوا تحت جرّافاتهم المتوحشة، وهياكل الأبرياء كالأشباح تحوم في غرفهم لا تفارق أخيلتهم، عيونهم لا تهدأ من الترقب، وكلابهم في الحديقة الواسعة لا تسكت عن نباحها ولا تهدأ من حراكها.

ومع كل صباح يتفنّنون في قتلهم، لأنهم رغم النار والرصاص والسياط والماء الساخن خلدوا في نومهم، ولم يروا في أحلامهم سوى الورد والفراش، ناموا بلا حرص ولا كلاب ولا سهام تحصن محيطهم، هكذا ناموا على فراش رقيق وكثير من الرمل، لا يغطي أجسادهم إلا لحاف يتخلله كثير من الهواء البارد.. مطمئنون وراء باب مشقق يشدّه سلك واه.

يتوسدون أرغفة يابسة للصباح القادم، والصباح حلو مع قهوة سوداء، وأمام مدخنة تأكل آخر قطعة خشب تراهم يتزاحمون لاقتناص دفء البصيص الأخير، ثم يسارعون إلى أغطيتهم قبل أن تبرد أجسادهم النحيلة، هكذا يتسابقون وهم يلعبون ويمرحون، رغم أن الموت ينتظرهم على عتبة الباب المشقق.

وككل اجتياح المؤمنون متفرقون فرادى، يصلون صلاة الإستشهاء، يتمنون أن تتلبد الأرض بلحم رقيق يكسوه زغب كزغب الخوخ الطازج اللذيذ، متأهبة ألسنتهم دائما للعزف والمتعة، ويُحذرون الذين يقولون "لا" ألّا يرموا بأنفسهم إلى التهلكة.

***

عبد الباقي قربوعه

الطير غنت للسلام

وبالرثاء قصيدتي

ماذا تقول القوافي

حين تغرز الريح مخالبها بأعشاش الطيور

فتروح تندب

تستوقف الأشجار كما  كان أسلافي القدامى يفعلون مع الطلول

قد تبدو البوم سعيدة حقا

كونها في مقبرة تبدو مثل مدينة  تحيطها الأسوار

لا أحد يجرؤ على اقتحامها

وكل من فيها يبدون سعداء

إلا الزّوار يجشهون بالبكاء

وقد نسوا أنهم مثل  الطيور التي تغني للسلام تارة وتندب أعشاشها تارة أخرى

ما أضيق السراب اذن

وما أوسع الأرض اذا التوت بنظرة الوعيد

مادامت الديار لا تستغني عن الأبواب والنوافذ مثل القبور

ستظلّ تنسجها الرياح وتطمسها الرمال

حتى تظل الطيور تبحث عن اوطانها

وتظل القصيدة تبحث عن رجاء او رثاء

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

مِنْ حِنْطَةِ الْأَشْيَاءِ يجْمَعُ بِيْدَرا

وَعَلَى وَصَايَا الْمَاءِ

يَنْقُشُ مَعْبرا

*

وَيَرُشُّ دَرْبَ الْعَائِدينَ بِدَمْعَةٍ

عَشِقَتْ صَلَاةَ اللَّيْلِ

كَيْ تَتَحَدَّرا

*

وَرَعاً يُسَبِّحُ بِانْتِظَارِ فَسيلَةٍ

بِعَفَافِهَا تَصْحو الضِّفَافُ لِتَسْكَرا

*

وَعَلَى الْقِبَابِ الصُّفْرِ

كَانَ شِعارُهُ:

مَنْ مَسَّ أَضْرِحَةَ الْعِرَاقِ تَطَهَّرا

*

قَصَدَ الْبِحَارَ

وَحينَ غَادَرَ عِيدَهَا

تَبِعَتْهُ أَحْلَامُ الْغُيُومِ لِتَمْطُرا

*

كَفَّاهُ كُوخٌ، يَسْتَجيرُ بِوَحْيِهِ

قَلَقُ النُّجُومِ إِذَا الضِّيَاءُ تَبَعْثَرا

*

شَفَتَاهُ آيَاتٌ،

تَوَطَّنَ فِيهمَا

أَجْرُ الْحُروفِ لِكَيْ تَحُومَ وَتُبْحِرَا

*

زنداهُ أَجْنِحَةٌ،

تَلوذُ بِصَبْرِهَا

سُفُنُ الرَّحيلِ إِذَا الشَّرَاعُ تَقَهْقَرا

*

هذي بِلَادُ الرَّافِدَيْنِ،

تُرَابُهَا يَفْتَرُّ نُوَّاراً، وَيَضْحَكُ عَنْبَرا

*

تَشْتَقُّ مِنْ غَبَشِ الْهُمومِ يَرَاعَهَا

وَتصوغُ مِنْ قَصَبِ الْمَوَاجِعِ دَفْتَرا

*

تهْفو مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ لِأَرْضِهَا

عِشْقاً مُذْ اصْطَفَتِ الحُسَيْنَ وحيدرا

*

مَنْ أَنْتَ حَتَّى تَسْتَخِفَّ بِقِبْلَةٍ؟

تَشْتَاقُهَا الْعُقْبَى،

وَتَعْشَقُهَا الذُّرَى

*

يَا طَارِئَ الصَّوْتِ اسْتَفِقْ...

فَلَأَنْتَ يَا...

صِفْرٌ عَلَى جِهَةِ الشَّمَاتَةِ، لَا يُرَى

*

للهِ يَا هذَا تحجُّ قَوَاِفلي

وَنَصَبْتَ لِلَّاتِ الْمُدَنَّسِ مِنْبَرَا

*

أَنَا لَا أَكيدُ، وَلَا أُلَوِّثُ غَايَتي

بِالْكُفْرِ، وَاللَّا كُفْرِ ضِدَّ مَنْ افْتَرَى

*

لَمْ أَهْجرِ الْإِنْسَانَ، تِلْكَ وَسيلَتي

مَا أَعْذَبَ الْإِنْسَانَ يَسْكُنُهُ الْوَرَى

*

مُذْ كَانَتِ الْأَكْوَانُ كُنْتُ حَديثَهَا

وَاسْمي عِرَاقُ الْخَيْرِ،

مَا اسْمُكَ يَا تُرَى؟

***

عبد الكريم الياسري

......................

* قصيدتي المنشورة في مجموعتي "حين يحتفل القصب"

الحليب ينز من آلة الساكسفون

ريش الموسيقى يتساقط من البلكونة

شكرا أيها البهلوان

حاملا إجاصة القلق واليوطوبيا

شكرا أيتها الراقصة

ستعبر باخرة المحبة بين نهديك

سيولد ناس جدد على الخشبة

تمطر المصابيح بالحنطة والذهب

أرقصي بجناحين من العسل

لتسعد الأشباح وتهتك جوهر الأشياء

ليقوم الأموات من المقابر

النساء يتسلقن  أحاسيسهن الوعرة

بجرار مليئة بأرز الشهوة

أخطف قبعة الضوء

يطاردني عميان كثر

خيول برية من  المتناقضات

قبل أن يطل وجه الحقيقة من البلكونة

قبل أن تسقط صخرة الرب

قبل أن تستيقظ الجثة في المبغى

قبل أن تمطر السهرة بالثعالب

سأفتح النار على الوراء

أرفو قميص الوجيعة

السهرة مترعة بالذئاب والمسدسات

بعيون أفاعي المامبا

بالقوارض والعظايا

أنا المهرج العبثي

صاحب الأقنعة الكثيفة

والسيف المصنوع من القش والغبار

السهرة مليئة بالمومسات والفيلة

الغراب يلعق دم الرهبان

لا تسدلوا الستار قبل دخول المطرب في سم الخياط

قبل سطوع القباطنة في الشرفة

قبل سقوط البرج  على كتف البهلول.

قبل أن يقفز  المايسترو من شجرة الجنون

حاملا إيقاعه الحار بين أسنانه

وبراهينه تثغو مثل شياه المجرة.

***

فتحي مهذب - تونس

 

خسران

تطحَنُ السنينُ نَضيرَ العُمر، وما تبقّى، يتلفّتُ ملتبساً، يَبحَثُ عن تَعويض.

**

ارتباك

كانَ يرىٰ أنّ للّيلِ فَماً، يَشتُمُ ما فَعلَ النَهار، ولا يدري، لأيّهِما يَنحاز.

**

تضادّ

إعذروا نَزَقي، فالأشياءُ التي لا أفهَمُها، هيَ أجمَلُ الأشياء.

**

جهل

السٰاعونَ الى الجَنّة، سيَخسَرونَ صِراطَهم، إذا ظنّوها في مَوضِعٍ آخَر.

**

مَسألة

الماءُ بلا لَون، بلا طَعْم، بلا رائِحَة، جُعِلنا منَ الماء، ما الذي تَغَيّر؟.

**

غش

لم أكُن مُبالياً، لماذا يَنوحونَ قُربي، جَميعُهم، كغِربانٍ حَولَ جثّة.

**

مُحترف

قفزَ يقبّلُ ظهرَ الراقِصَة، تُغَيّرُ الأعضاءُ مَوضِعَها، بعد عَمليّات التَجميل.

**

غرابة

أفكّرُ بالحُلولِ، الناجعةِ أحياناً، وأنا أنحَني علىٰ الحِذاء، أشدُّ الرِباط.

**

عذر

أمسَكتُ الفراشةَ، أبهَرَتني، لم تُغادِر، أحبّتْ دِفءَ يَدي، واستَشهدَتْ.

**

تطوّر

حتّى دموعُ الشُموعِ اختفَتْ، لم تَعُد تَحرقُ ذاتَها، لغَيرِها.

**

لاجئ

أحلامُهُ الوَرديّة، أركَبَتْهُ البَحرَ على قِطعةِ مَطّاط، أوصلَتْهُ الى فمِ قِرش، الحُدودُ في الأفق.

**

حماسة

حَمَلَ العالمَ على ظَهرهِ، وهو يَقرأُ في كتاب، خارجَ النافِذَة، لا أحدَ يعرفُه.

**

استبداد

حُكِمَ بالمَوت، فقد قرَأَ بصَوتٍ مُرتفع، شِعراً سياسيّاً، لشاعرٍ ميّت.

**

بلاغة

مددتُ يدي بالطَعام، لذلكَ الجائِعِ على بابِ المَسجِد، أمطَرَ الشُكرَ من عَينيه، بفَمٍ مُغلَق.

**

حرمان

في سِجنهِ الإنفرادي، المُعتم، كانَ نِباحُ الكلاب ، أعذَبَ موسيقىٰ.

**

عادل الحنظل

يومُ زَفافِ القَمر..

سَأولَدُ من رَحمِ الحُلم

أستَعيدُ نُجومِيَ المُحْتَّلة

هذهِ الأرضُ ليسَتْ طمُوحِي

لا أقبَل بِنصفِ السَّماء...

في مَهدِ الخَيال زَرعتُ وَطنَا

و هناكَ في البُحيرةِ المُقدَّسَة

سَألدُ عاشِقاً

يَرقُصُ على أهدابِ النَّخيل

يَرتشِفُ الضَّوء مِنْ شَفتَيَّ

نتَحوُّلُ إلى ذرَّاتٍ معاً

في غَفلةِ الهَواء

نَقبضُ على حُلمِ جلجامش

نصنعُ كَوكباً أخْضَرَ ..

شُهباً زاهِرة

وزَخارِفَ طائِرة

لَستُ أُنثَى..

أنا طيفٌ بلونِ المَلائِكةِ  يُناغِي ..

يشربُ الرِّيح

شُعاع  ماءٍ  يُعانقُ نَهدُ السَّماء

***

سلوى فرح - كندا

 

ليس للعتمةِ ظلٌّ وليس من ظلٍّ للنّور..

هو الحزنُ أشجارٌ تتفرع أغصانها بسراب الفرحِ.

ومثل سرّ أزلي يخترقُ الجدار ليذيبَ ثمارَ المحّارة، ويصوغَها حنينًا إلى البعيد، هذا الحنينُ يشدّني لظلّ روحٍ مازجت دمي تتفرّع منه ظلالنا ونعود بروح الكبرياء..

***

للنّفسِ من الكبرياءِ غابةٌ

تحرسُ أسرارَها العتيقةَ

فتستولي على كلّ لحظةٍ فيها

وتدّعي استقلالَها

الكبرياءُ قصيدةٌ

تنبتُ في صحراءِ اليأسِ

بعزمِ وجبروتِ الموجِ

لتطهّر أديمَ النّفوسِ من دمعةِ استسلامٍ

ومن بقايا صرخةٍ مهزومةٍ

كأنّها أضواءٌ تحتضنُ عِهْنَ الغرامِ

في ساحةٍ تمتدّ حتى أطرافِ السّماءِ

تعانقُ أفكارًا وثنيةً

تملؤها العتمةُ أحلامًا بيضاءَ

تغزوها الأوهامُ المخفيّةُ

تركضُ في السّاحات نحو الغرباءِ

ما أفظعَ الكبرياءَ خارج عقولِ الفلاسفةِ

أو قلوبِ الشّعراء

والكبرياءُ حبيبةٌ

كالنّجم في سماءٍ

وهي مرصودةٌ لآلهةِ الشّرقِ

ونفوسٍ تهوى المُلكَ

مستذكرةً إرثَ الفردوسِ المفقودِ

وللكبرياءِ نُدبةٌ

تختمُ في الأعماقِ جُرحًا عميقًا

كأسطورةٍ لديها كلُّ شيء

وأُخِذَ منها كلُّ شيء

في الكبرياء

تقولُ أمّةٌ أنّها ستعودُ في نسيجِ

التّاريخِ

تستعيدُ ماءَ وجهِها

وتُصلحُ الأزمنةَ الرّاحلةَ في معركتها

بين العزةِ والانكسارِ

والكبرياءُ حكايتي

حين التقيتُ بظلّي

تجاوزتُ فيهِ حدودَ النّورِ والعتمات

مثل قيثارة

تقطّعت أوتارُها

ما عادت تذكرُ من بقايا نغمةٍ

إلا ترنيمةَ الروحِ

فتعيد تشكيليَ من جديد.

***

ريما آل كلزلي

 

لم يظهر

في السماء

لمدة طويلة

القمر

*

قالوا مات

القمر

*

من قال ذلك؟

الذئاب

الضباع

العناكب

بنات اوى

والثعالب

وحتى كلاب

الحراسة

صدقت

ما قيل عن موت

القمر

*

وقالوا رايناه

يحترق

وراينا

عينيه

وذراعيه

يحترقان

ولا يقوى على

الحركة

ولكن انا

والعصافير

واطيار

الحمام

لم نصدق

ما قيل عن

موت القمر

*

وذلك لشدة

محبتنا له

وذات ليلة

جميلة بهية

ظهر القمر

*

بهالته السمحاء

الجميلة

قالت يراعة

انا احب القمر

*

وقال عندليب

القمر نور عيني

فيما هربت

الذئاب

الضباع

العناكب

والثعالب

مخذولة

مخذولة

حزينة

حزينة

صوب

جحورها

لظهور

القمر

***

سالم الياس مدالو

 

لَمْلِمِي خَطْواتِكِ المُضْطَرِبَةْ

مِنْ دُرُوبِ الأمنياتِ الخائِبَةْ

لَمْلِمِيها

واَبْعِدِيها

عن مطبّاتِ يَدِبُّ الحزنُ فيها

مَرِّرِيها

فَوْقَ أَرْضِي

فأنا أَرْضِي لها مُبْتَسِمَة

وبإيقاعِ خُطاها حالِمَةْ

وَهْيَ تَدْرِي

إنّها أنهكها الوقتُ

وأَضْنَتْها رؤىً مُرتَبِكَةْ

كُنْتُ أَدْعُو

و بِرِفْقٍ كُنْتُ أَرْجُو

لَمْلِمِي خَطْواتِكِ المُشْتَبِكَةْ

مَعَ أوقاتٍ يَشِيعُ اليأسُ فيها

لَمْلِمِيها

واُشْطُبِيها

مِنْ تقاويمِ سنينٍ حالِكَة

لَمْ تَكُنْ تَسْمَعُ ما أرجو

وإنِّي

دائمُ الخوفِ وأخْشى

أنْ تَهِبَّ الرِّيحُ يوماً

ومهبُّ الرِّيحِ يبقى

غامضَ التأثيرِ دوماً

فمتى تَسْمَعُني،

مِنْ دونِ ضِيقْ؟

ومتى تُخْبِرُ  روحي:

إنّها تُدْرِكُ مِثلِي

ليسَ للرِّيحِ صديقْ؟

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن – أستراليا

مــا  لــلأشاوسِ فــي اللذَّاتِ قد مَكثوا

وفــي  حِــمَانا يَــعيثُ الــقملُ والعُثَثُ

*

إلـــى مــتى وضِــباعُ الــليلِ تــنهشُنا

ونــحنُ نَــنْظُرُ حــتى يَــنضَجَ الحدَثُ

*

مــالي  أراكــمْ وجــساسٌ غــدا أمــلاً

بــهِ جــميعُ كــبارِ الــقومِ قــد شَــبِثُوا

*

نَــمْ يــا كــليبُ فــما فــي تغلبٍ رجلٌ

عــنْ أخــذِ ثــأرِكَ كلّ القومِ قدْ رَبَثُوا

*

فــفي الــمنامةِ رهــطٌ قــيلَ منْ عَرَبٍ

لــم  يبقَ في ضَرْعِنا مِنْ حَلْبِهمْ رَمَثُ

*

بِــضعٌ وعــشرونَ والأهــواءُ ظاهرةٌ

فــي كــلِّ أمــرٍ تــفانى القومُ وارْتَبَثُوا

*

عــنــهمْ نــأى ثُــلثٌ يــهوى صــهاينةً

ولــلأعــاجمِ يــســعى دائــمــاً ثُــلُــثُ

*

بــاقــي الــجماعةِ لا قَــولٌ ولا عــملٌ

الــنــومُ يــغــلبُهُمْ قــد مــازَهُمْ خَــوَثُ

*

ألــقابُهم لــمْ نَــعدْ نَــحصِي لــها عدداً

أقَــلُّــها  رُســـلاً لــلــناسِ قــد بُــعِثُوا

*

أو  نِــصْفُ آلهةٍ في الأرضِ موطنُهمْ

مــن  قــبلِ آدمَ تِلكَ الأرضَ قد ورثوا

*

هَــمُّ الــرَّعَايا بَــعِيدٌ عــن تَــصوُّرِهمْ

الــحُــكمُ يَــشْــغَلُهُمْ والــمَالُ والــرَّفَثُ

*

نــدينُ نــشجبُ أقــوى مــا ســنسمعُهُ

إلــى مــتى يَــستَمِرُّ الــهَرْجُ والــعَبَثُ

*

لــقــد قُــتِلنَا ومــا اهــتزَّتْ شــواربُهُمْ

بــلً خَــلْفَ قــاتِلِنَا منْ رَكضِهمْ لهَثُوا

*

فــكــمْ سَــلَكْنَا بِــحَاراً سَــهلُهَا خَــطِرٌ

وخــانَــنَا الــرِّيحُ والــملاحُ والــرَّمَثُ

*

فــي غــزَّةِ الــعزِّ إخــوانٌ لهمْ ظُلِموا

الــموتُ  يــحصدُهمْ والــفقرُ والغَرَثُ

*

أطــفالُ غــزَّةِ مِــثلُ الــغَرْسِ قد ذَبُلُوا

هــلْ  مــرَّ بــالجوعِ فــردٌ مُتْخَمٌ فَرِثُ

*

ونــســوةٌ  فـــي  خــيامِ الــذُّلِّ لاجِــئَةٌ

قــدْ  بــاتَ يــطعنُ فــيها التافهُ الخَنِثُ

*

يــاغــزةَ الــعزِّ لا تَــشْكي لَــهُمْ ألــماً

لنْ يسمعَ الصوتَ جِسمٌ ماتَ أو جَدَثُ

*

كمْ  حُرَّةٍ صَرَخَتْ في سجنِ مُغْتَصبٍ

لــمْ يــسألوا أبــداً عــنها ولا اكــترثوا

*

لــو أنَّ عــاهرةً فــي الليلِ قد سَقَطَتْ

هَــبُّوا لــنجدتِها فــي الــحالِ مــالَبِثُوا

*

هــلِ الــعُرُوبَةُ أمستْ مَحضَ عاجزةٍ

قــد بــاتَ يــكْلؤُها الأخــيَافُ والرِثَثُ

*

كـــمْ  أقــســموا أنَّــهم يــحمونَهَا بِــدَمٍ

لــكــنّــهمْ  بــيــمينِ اللهِ قـــد حَــنِــثوا

*

كــأنَّــهمْ خُــشُــبٌ مــاتتْ ضــمائرُهمْ

لــمْ  يَــستجبْ ســمجٌ مِــنهُمْ ولا دَمِثُ

*

مَــنْ يَــأْمَلِ السِّلمَ من صهيونَ معتقداً

بــأنَّهمْ عــنْ حــلولِ الــسلمِ قــدْ بَحثوا

*

فــعــقــلُهُ  دونَ شـــكٍ فــيــهِ عَــائــقةٌ

فــمــا يــصــدِّقُ إلاّ الــهُــبْلُ والــلُّوَثُ

*

الــســعيُ  لــلــفتنةِ الــبــلهاءِ غــايتُهُمْ

فــكــلَّمَا أُطْــفِــئَتْ نــارٌ لــها حَــرَثُوا

*

الــلٌّــؤْمُ  شــيــمتهمْ والــغدرُ دَيــدَنُهُمْ

و كــلَّــمَا عــاهدُوا عــهداً بــهِ نَــكثُوا

*

إنْ  قــالَ مــنهمْ كَــذوبٌ قــدْ نُــصَدِّقُهُ

إنْ لــلعجائزِ عــادَ الــحيضُ والطمثُ

*

إن  تَــذْكُرِ الــفُرْسَ تُصْبِحْ خائناً دَنِساً

عِندَ  الذِّيُولِ التي مِنْ ضَرْعِهِمْ رَغَثُوا

*

لاتــأمنوا  الــفرسَ فالأطماعُ حاضرةٌ

تَــغَلْغَلُوا فــي بــلادِ الــعُرْبِ وانْفَرَثُوا

*

لاتــأمنوا  الــفرسَ فــالأحوازُ تُخْبِرُنَا

عــلى  جــرائمِهِمْ قــد تَــشْهَدُ الــجُثَثُ

*

مِــنْ  ألــفِ عــامٍ نُــعاني مِنْ سَفَالَتِهِمْ

الــحــقدُ  يــسكنُهُمْ والــغلُّ والــدَّعَثُ

*

لا تــأمنوا الــغربَ فــالتارحُ يُــخبِرُنا

هُـــمُ الــذيــنَ لــهذا الــسُّمَ قــد نَــفَثُوا

*

يــا  قــومُ نــطلبُ أحــلاماً مُــزَرْكَشَةً

أمَّـــا  الــحــياةُ فــفيها الــبُرُّ والــغَلَثُ

*

مَــنْ  ظَــنَّ إنِّــي بــقولي كنتُ أقصدُهُ

كــانَ اعــترافاً صــريحاً أنَّــهُ الخَبَثُ

***

بــقلم: عــبد الناصر العبيدي

..............................

المفردات

رَبَثَهُ عَنْ حَاجَتِهِ: حَبَسَهُ، مَنَعَهُ، صَرَفَهُ عَنْهَا

الرَّمَثُ (1): بقيَّةُ اللَّبَن في الضِّرع بعد الحَلْب

ارْتَبَثَ القومُ: تَقَرّقوا

الرَّمَثُ (2): الطَّوْفُ، وهو خَشبٌ يُشَدُّ بَعضُه إلى بعض ويُرْكَبُ في البحر

الغَرَثُ: أَيْسَرُ الجوع؛ وقيل: شِدَّتُه

الفَرِثُ: الشَّبْعان

رِثَث: جمع رِثّة  الرِّثَّةُ:سَفِلة الناس وضعفاؤهم

اللُّوثُ جمع الأَلْوث، وهو الأَحمق الجبان

الدَّعَثُ: الدَّعْثُ: الحِقْدُ. والمطلبُ.والثأرُ.

الغَلَثُ: الترابُ المتلبدُ والحَبُّ الأَسودُ يخالطُ البُرَّ ونحوَه.

 

توقظ حواس الفجر ليتوضأ بشروق لهفتها، فتزيح بصيص العتمة من أجفان الحلم، كي تدثر قرفصة الجوع بحذافير همتها، وحتى تتطاير شراهة الجوع من أحشاء الحرمان، تشعل خدود التنور بكل ما أوتي كبريت اصابعها من أنين جمر، فتغازل شهية الطين دردشة الشجر بحفيف مشاعر: حطب ..حطب، لتستعير تمتمة الاشتعال من سومرية التنهد قبل ان تستأذنها الشمس لتنسج حياء ظلها بشغف الصباح، تُريق دموعها خُمرة تلذذ على شحوب سلالات القمح وتدوف قلبها خبزا بطعم الإنتظار، فتنسكب طفولة الروح بسملة لقمة، تفوح نبضات حنين من عباءة التعفف، كي تضئ مقل الجوع برائحة الشبع. فيا جدة النخيل وأم سعفات برحية الطلع، كلما أصغي لشجن أناملك وهي تردد عبق رغيف شبع خير من عشرة بغصات القحط؟؟، تدندن خفقات أمومتي :آآآهٍ ..آآآه من صبر عشق عشتاري السحنات، لا يبلى بتنور الوجع!!.

***

إنعام كمونة -  أديبة وناقدة عراقية

عند المنحدر في متنزه تحيطه الأشجار الممتدة حيث الفناء الخلفي لبركة تتدفق منها المياه وتسبح فيها الطيور، كانا يسيران على مهل ويتحدثان، وبين آونة وأخرى، تتشابك ايديهما ويتابعان سيرهما، وورائهما صغيرهما يداعب كلبه فوق العشب الأخضر الذي تزينه أزهار شقائق النعمان البرية، التي ظلت على حالها دون ان ينال منها احد.

كان يسأل نفسه بعض الأسئلة البليدة، كما اعتقد أول الأمر.. كيف اجتمع هذان المخلوقان الجميلان، وأي صدفة جمعتهما معاً ؟، وتوقف عند كلمة الصدفة؟ وكيف تحدث، ولماذا تحدث.. وهل تحدث تلقائياً ؟ وهل تأتي في شكل إقرار لكي تتشكل الأشياء عند حركتها، بغض النظر عن ملابسات الصدفة، وهي ملابسات ذات طابع عرضي واحتمالي.

فكر، ووجد نفسه لا يدري كيف له ان يصف ذلك، وربما لا يحتاج كل ذلك الى كبيرعناء.. فالصدفة يمكن ان لا تتحقق اذا لم تتوافق عناصرها.. وان وجود احدهما صدفة قد يلغى بمجرد وجود صدفة لا تتقاطع معها.. فهل ان وجود هذا الكائن في توافق او عدمه عن طريق الصدفة؟، أي ان وجوده كان طارئاً وزائداً واضافياً وغير ضروري في العالم.. فماذا بشأن الأنسان هذا، فهو يشعر ويتحسس بأنه كائن قد قذفته الصدفة الى الوجود دونما وجهة محددة عدا تلك التي يختارها لنفسه بمحض ارادته.. أجل ان ذلك الشيء يجعله في مواجهة الحرية ويمنحه رؤية خاصة للأختيار.

مشى خطوتان واخرى ثم توقف عند حاجز من الآس، وكان الطفل ما يزال يداعب كلبه وصوت والدته يتنائى من بعيد.. انه الآخر جاء نتيجة الصدفة التي قذفت به الى الخارج وليس لديه اي خيار في ذلك.. ولو لم يكن لقاؤهما صدفة او ان صدفة عارضة قد تدخلت وألغت تلك الصدفة من ان تتشكل لما كان هذا الوجود الفعلي للطفل، ولما كانت تلك الصدفة الرائعة التي تجمع الطفل مع كلبه في مداعبات لآحدود لها.!!

الانسان كائن محكوم عليه بالقلق لمجرد شروعه في تأمل حقيقة وجوده أو إشكالية هذا الوجود كحقيقة انتولوجية (Ontology)، وهذا الشيء يمنعه من ان يعيش وجوده بهدوء، ويخلق بينه وبين نفسه مسافة تجسد ما يمكن ان نسميه حرية الضمير، غير ان الحقيقة لا تتوقف هنا، فالمشكلة هي ان هذه الحرية صعبة، لأنها تلقي على كاهل الانسان من دون غيره من المخلوقات مسؤولية ضخمة يستحيل عليه الفرار منها، إلا إذا حاول ان يكذب على ذاته وعلى الآخرين.. بيد أن هذه الحرية تسمح كذلك باتاحة الفرصة امام إبراز مظاهر عظمة الانسان حين يتحمل مسؤولية الحرية في مواجهة كل الحتميات التي تحيطه، والتي ينبع بعضها من داخله، مثلما هو الأمر مع اللآشعور.

غابا عن الأنظار مع طفلهما والكلب ولم يتركا سوى تأملات وخيالات عابثة مع تجربة الاحساس بهشاشة وجود الانسان والاشياء، حيث يكون الوجود كله غير ضروري.. وهنا يمكن التوقف قليلاً عند خلق صدفة تتقاطع بين وجوده كصدفة وبضعة طيور هبطت لتأكل شيئاً كان قد أعد لها، وسرعان ما ادرك ان فرقاً كبيراً بين وجوده والموجودات التي تحيطه من الخارج، يراها ويتحسسها، اما الوجود الكلي فهو شيء يختفي عن مجال رؤيته عادة حيث يظل فعله غامضاً ومستعصياً عن التفكير.

يسير انسان في الشارع او على ساحل البحر او في متنزه عام ولا يعرف شيئاً عن ما سيجري منذ خروجه وحتى عودنه الى منزله.. ولكن الآف الصدف تمر به وتقترب منه او تتجاوزه.. ان وجوده هناك واحدة من تلك الصدف، قد تكون من صنعه وقد تتقاطع مع صدفة اخرى وربما تلغيها من اساسها، اي تلغي وجودها بعدم التقاطع معها، وربما تتشكل معها بمحض الصدفة انه التأمل في صدفة الوجود التي تضفي معنى لهذا الوجود حين يبدأ الانسان يفكر بحرية.. وطالما يشعر بأنه يفكر بحرية، يشعر بثقل المسؤولية وهي تجثم على ظهره ولا تترك له مجالاً لذاته المسؤولة.!

تابع سيره الى حيث يتدفق الماء بغزارة، وبالقرب من اشجار الدردار الباسقة ذات الأخضرار الزاه، جلس على حافة مقعد خشبي تتسلل اليه اشعة الشمس الدافئة من بين الاغصان لتضفي على جسده النحيل دفئاً من نوع يبعث على الأرتياح.. اخرج لفافة تبغ واشعل عود ثقاب وسحب نفساً عميقاً وهو يحدق في الغيوم البيضاء المتقطعة التي تتراكض باتجاه المحيط، فيما كانت طيور الماء تسبح في تلك البركة وتتمتع بدفئ الشمس.

اقترب منه شخص كان يسير على مهل محدودب الظهر يحمل كيساً صغيراً من الورق.. جلس على حافة المقعد الخشبي من الطرف الآخر وألقى عليه التحية، ورد عليه بهمهمة وحركة من رأسه، لأنه لم يكن يعرف ما قاله الرجل، إنما فَهَمَ انه حياه تحية المساء، ثم اطلق بضعة كلمات واستمر بعد ذلك يتحدث، وكأن كلامه قد فهمه الآخر وانه سيرد عليه.. ولكن صمتاً قد ساد بينهما وهمهمات ممزوجة بحركة الرأس كانت هي الأجابة.!

ساد الصمت، وكل منهما دخل عالمه، بعد ان ادرك كلاً منهما انه لا يفهم الآخر، وربما كان احدهما يفكر بأن الآخر أخرساً أو معاقاً أو لا يريد ان يتكلم الى أحد.

تابع تفكيره بجدية لأنه كان على يقين من أن هذا الرجل لا يعكر عليه تفكيره وانه في عالمه الآن، ربما يفكر كيف يعيش يومه الآخر، وكيف يحسب مصروف البيت وحاجيات الزوجة التي تملأ رأسه يومياً بمتاعب لا أول لها ولا آخر، أنها ثرثرة نابعة من رأس قد يكون محشو بالقش... قال له، هل تتكلم الأنكليزية؟ فأجاب بسرعة وبلغته.!!

لو لم يكن هذا الرجل موجوداً في هذه اللحظة لكان تفكيره قد انصرف بعض الوقت أو كله الى امور اخرى، ولكن الصدفة، هي التي جمعتهما معاً في لحظة من الزمان وفي بقعة من المكان.. بيد انه لم يحصل توافق الصدفتين أو أن احداهما كانت غائبة عن الأخرى.

اخرج قطعة الخبز من كيسه الورقي الصغير ورمى بها على العشب، وسرعان ما تهالكت الطيور على قطعة الخبز فالتهمتها بشراهة، ثم بدأت تقترب حتى لآمست اقدامه وحطت بعضها على يديه المعروقتين، وهي تأمل في قطعة اخرى.. رمى لها بأخرى فتراكضت الأقدام وتزاحمت الأجنحة فمزقتها بمناقيرها الصغيرة الحادة، فيما كانت تطير وتحط على كتفه بدون خوف.!!

كان يعتقد انها صدفتان غير متوافقتين ولدت ثالثة في تشكيل ناقص ولكنه يبعث على التأمل.. اطلق صاحب الكيس الورقي ضحكة قوية في شكل قهقهة متتابعة والتفت.. وعلم منه انه لم يعد يستطيع الاستمرار في هذه اللعبة طالما لا يملك الخبز الكافي لأطعام الجياع من الطيور المتهافتة.. ذلك الخبز الذي خلق اجواء الصدفة الثالثة او ما يسمونه بالبعد الثالث لوحدة الكينونة حين تتشكل مع الخارج.. انه مشهد مذهل في اركانه الثلاثة، ولكنه بدون جدوى لأنها الصورة العابثة التي لن تتكرر على الأطلاق.

تحرك باتجاه دير (Jeronimos Monastery)، الذي يضم كنوز العالم القديم حتى ان بعض الناس يتسائلون باندهاش، كيف تمكن الاقدمون من هذا البناء المدهش، وكيف نصبوا اعمدة الرخام العملاقة؟ وكيف صمموا وزخرفوا واجهات هذا الصرح، وكيف استقام، وكيف خلدت لوحاته الجدارية الرائعة كهنتهم ومفكريهم وقادتهم؟، والآن يمر الاخرون يلقون نظراتهم على تلك الوجوه المصنوعة من زيوت نباتية ملونة وكأنها مجرد الوان وضعت بعبقرية فائقة، إلا انها لم تضف شيئاً اكثر مما ترسمه الطبيعة من الوان وتشكيل رائعين.

كان الآخر قد انحدر باتجاه الساحل حيث اصوات النوارس التي تمتزج مع ارتطام امواج البحر بصخور الشاطئ، ذلك الصوت الذي يبعث على الحزن والتأمل، أما الطيور الجائعة فقد انفرط عقدها، ولكنها في كل الأحوال تتجمع على اسطح البيوت القديمة ذات السقوف القرميدية المخضرة أو حافات النوافذ الرخامية لدير (جيرونيموش)، الذي بني في القرن السادس عشر في مدينة (Belem) الساحلية الرائعة.

هو والآخر والطيور الجائعة، كل ذهب باتجاه صدفة أخرى قد تتشكل او تنفرط او تلغي احداهما الأخرى من الوجود.. انه الشرط الغامض الذي يصنع للصدفة خوفها وقلقها.. انه قلق الوجود الانساني القابع في اعماقه يظهر في صورة من الصور، وكأنه شبح هذه الكاتدرائية الذي يحوك عنه القرويون قصصاً، وبملامح في كل حركة يقدم عليها حتى الجدية منها تبدو احياناً مضحكة أو عفوية تقريباً.. وظلت قدماه تسيران على الطريق وهو يصغي لوقع اقدامه نحو المجهول.!!

***

قصة قصيرة:

جودت العاني - Lisbon

51/ 21 / 2005

حـيـنَ مَـرَّ الـربـيـعُ الـذي

تـرتـديـنْ

*

بـكـهـفِ خـريـفـي

الـحـزيـنْ:

*

بـايَـعَـتـنـي الـبـسـاتـيـنُ نَـهـرًا لـهـا

واصـطـفـانـي الـسَّــفَــرجَـلُ والـيـاسـمـيـنْ:

*

إمـامـًا

يَـؤمُّ الـفـراشـاتِ حـيـنَ تـحـيـنُ صَـلاةُ الـرحـيـقِ

ويُـفـتـي إذا قـام شَــكٌّ

وسـاطَ ضَـبـابُ الـظـنـونِ مـرايـا الـيـقـيـنْ (2)

*

يُـقـاضـي إذا اخـتـصَـمَ الـعـاشـقـونَ ..

فـيَـحـكـمُ بـالـ" جَـمْـعِ " فـي الـمـزهـريَّـةِ

بـيـنَ الـتُـوَيْـجَـةِ والـمَــيـسَــمِ الـمُـسـتـكـيـنْ

*

وحـيـن الـتَـحَـمْـنـا شِـراعـًـا وريـحـًا  ..

وجـفــنـًا وهـدبـًا

وجـذرًا وطـيـنْ:

*

غـدا الـرمـلُ كُـحـلاً تـحـجُّ الـجـفـونُ إلـيـهِ

وصـار الـحـصـى فـي مـفـازاتِـنـا

بُـرتـقـالاً وتِـيـنْ

*

أصـيـخـي ..

ألا  تـسـمـعـيـنَ هـديـلَ الـفـواخِـتِ؟

إنّ الـهـديـلَ رسـائـلُ عـشـقٍ

وهـدهـدُ بـشـرى بـفـيـضِ الـنـمـيـرِ الـسـخـيـنْ

*

وإنَّ الـسـريـرَ الأصـمَّ  يـمـوتُ

إذا كُـفَّ عـنـهُ هَـسـيـسُ الـوسـادةِ

أو حـشـرجـاتُ الأنـيـنْ

*

أعـوذُ بـمـائِـكِ مـن شـرِّ جَـمـري  ..

ومِـنْ شَـرِّ جـوعـي بـمـا تُـطـعِـمـيـنْ:

*

رَحـايَ بـقـمـحِـكْ  ..

وبـردَ شِـتـائـي بِـدِفـئِـكْ  ..

وجـمـرةَ قـيـظـي بـبـردِكْ ..

وشَـوكـي بـوردِكْ ..

وعـلـقـمَ أمـسـي بـحـاضِـرِ شـهـدِكْ

وعُـريـيْ بـمـا تـنـسـجـيـنْ:

*

لـ " يـحـيـاكِ " مـا يـسـتـرُ الـعـاشِـقَ الـسـومـريَّ

ويُـلـبِـسُـهُ بُـردةً مـن حـريـرِ الـعـنـاقِ ..

فـكـيـفَ إذنْ

لا يـكـونُ الـتـبـتُّـلُ مـعـراجَ قـلـبـي

الـى جَـنَّـةِ الـمُـرتَـجـى؟

كـيـفَ لا تُـصـبـحـيـنْ

*

" بُـراقـي " الـقـويَّ  الأمـيـنْ

*

الـى "سِـدرةِ الـمـنـتـهـى" (3)

أسـتـقـي لـلـصـحـارى نـمـيـرًا عـذوبـًا وعـشـبـًـا

وأمْـنـًا لـ " أوروكَ " ..

يُـسـرًا وخـيـرًا عـمـيـمـًا ..

ووردَ الـمـسَـرَّةِ لـلـعـاشـقـيـنْ

*

أريـنـي جـنـونًـأ حـكـيـمـًا كـمـثـلِ جـنـونـي ..

وطـيـشًـا يُـثـابُ كـطـيـشـي ..

ومـثـلـي عـجـوزًا يـعـودُ فـتـىً سـومـريًّـا

يـقـودُ الـى مُـقـلـتـيـكِ الـنـعـاسَ إذا مَـسَّـكِ الـسُّـهـدُ

واشـتـقـتِ  أنْ تُـطـبِـقـي مـنـكِ جـفـنًـا

عـلـى جَـنَّـةٍ عـرضُـهـا قـادمـاتُ الـسـنـيـنْ

*

أكـونُ غـلامَـكِ فـيـهـا (4)

ووحـدكِ  .. وحـدكِ .. وحــدكِ لـيْ

" حُـورُ عِـيـنْ "

*

أطـوفُ عـلـيـكِ صـبـاحَ مـسـاءَ (5)

بـكـأسِ لُـجـيـنٍ

سُـلافـتُـهـا  مـن نـبـيـذِ الـهـيـامِ

وخـمـرِ الـحـنـيـنْ

*

أريـدُ الـذي لا يُـرادُ

كـأنْ:

لـم يـكـن قـبـلـنـا عـاشـقـانِ  ..

ومـاءٌ إذا صُـبَّ فـوق الـحـريـقِ

يُـزيـدُ اشـتـعـالَ الـحـريـقْ

*

وبـحـرٌ إذا  فـاضَ عِـشـقـًا

فـلـيـسَ بـنـاجٍ مـن الـمـوتِ إلآ الـغـريـقْ

*

فـلا تـخـلـعـي مـن إسـارِ أسـيـرِ هـواكِ (6)

فــشُــدِّي  وثـاقـي الـى خِـدرِكِ الـسـومـريِّ

كـمـا بـالـمَـشـيـمـةِ شُــدَّ الـجَـنـيـنْ

*

تـنـامـيـنَ فـي مُـقـلـتـيَّ مَـلاكـًا بـريءَ الـخـطـايـا

وتـسـتـيـقـظـيـنْ

*

عـلـى وقـعِ شـيـطـانِ ثـغـري يـجـوبُ جـنـانَ الأنـوثـةِ

يـقـطـفُ مـا لـمْ تـذُقْـهُ الـطـيـورُ

ولـم يـأتِ فـي صُـحُـفِ الأولـيـنْ

*

ويـتـلـو عـلـى مـسـمـعِ الـوردِ

مـمّـا تَـيَـسَّـرَ مـن  " سـورةِ الــنـمـلِ ":

مـا كـان حُـلـمـاً ..

ولـيـسَ بـ " سـحرٍ مُـبـيـنْ " (7)

***

يحيى السماوي

السماوة 13/5/2024

..................................

(1) من مجموعة جديدة قيد الإنجاز ..

(2) ساط: ضرب بالسوط .. ومن معانيها  خلط الشيء بشيء آخر كخلط الماء بالحليب أو اختلاط ماء النهر بماء البحر وغير ذلك ،  وهو المعنى المقصود في القصيدة .

(3) سدرة المنتهى شجرة سدر عظيمة ثمارها في السماء السابعة وجذورها في السماء السادسة بها من الحسن ما لا يوصف ورد ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة النجم (عندها جنة المأوى) .

(4) حور عين ـ  كما وردت في القرآن الكريم في سُوَر الدخان والطور والرحمان والواقعة: نساء مطهرات في منتهى الجمال .

(5) إشارة الى قوله تعالى في سورة الواقعة: (يطوف عليهم ولدان مخلدون)

(6) الإسار: الحبال التي تُشدُّ بها أيدي أو أرجل الأسير .

(7) إشارة الى قوله تعالى في سورة النمل: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين) .

 

ليلٌ يشاكسني ..

نجومه خلف سحائب الارق نائمات ..

يهذي كثيراً، وينمّ

بمكر ٍعن الشمس ..

يعلم أني أخافه، وأعشقها

يحاصرني بأفواجٍ من الذكريات

هناك .. مابين النهر و تنّور امي ..

غرست اشجاراً للحب باسقات

كل يوم أعمّد صبري عند شروقها

وحين أجرّب أن أغمض عينيّ

يلكزني .. لأصحو

فيسقيني كأساً مذاقها

شبابٌ تشظّى بين المنافي

وزيف المرايا، وسخف الامنيات

ومازال الليل يهذي

كعجوز تشكو وحدتها بصخب ..

الكلمات:

قبل مغيبها راودتني عن نفسها

توسلت بي، وتعلقت بأذيالي ..

كي اوقف اجتياح الغسق الجارف

حتى تلوّن أجنحة الفراشات ..

و قبل ان تغادر مياسم الازهار

وتعانق سنابل القمح

وأعذاق النخل

و اسماك النهر ..

فتفرّ مثل عاشقة

تخاف ان يفضحها ألق الفجر ..

وانا كعصفور أرهقه الندى

اداري هذيان الليل كي يعتقني

اشاغله، لأهرب على صهوة احلامي

أوقد شموعاً خبأتها بين ضلوع لهفتي..

تركتها على وجه "الشطّ" ..

لتبحر وحيدة صوب فنار

ها أنذا أدق مسامير الشوق على باب مدينتي

يا "حُلّةَ" الكون، ياباذخة الطيب ..

يا فاتنة الامصار ..

يا تعويذة بابلية ..

ويا صحائف اذكار

أعيذك بطلاسم "شطّك"..

اسطورة الانهار..

مازالت بقايا طينه عالقة في الاهداب

أعيذك بالقديسين، و كل الاولياء ..

وبالنبي أيوب* وبئره سيّدالآبار ..

ليتني اغتسل من مائك

كي أبرأ من سحر أوتو، وأنليل، ومردوك"

**

تمسّك بي كباقة ورد في يد عروس أرهقها

طول إنتظار ..

خذ أحلامي قرابين اقدمها لنخيلك الباسقات ..

خذني شراعاً لسفينةٍ مات ربانها ..

فتحطمت على بقايا جسد، وقلب مكبل.. بالحسرات ..

مازلت اتنفسك، وأحلّق صوب الشمس اجوب بحار الدنيا، افتش بين موانئها ..

عن مرفإٍ يعلمني كيف أخيط شِباك الصبر

أحسست بدفء الشمس يعانقني ..

يهمس بأذني قد رحل الليل، ولحنٍ

كنت اردده حين أغوص في النهر

وتتقاذفني سورات الماء

***

جواد المدني

..................

* مرقد النبي ايوب عليه السلام، حيث يقع عند ضفاف "شط الحلة" وبجنب هذا المرقد هناك بئر يعتقد انه البئر الذي اغتسل منه فبرئ من مرضه..

** اسماء بعض الالهة التي كان يعتقد بها البابليون ..

 

وقعت أحداث هذه القصة بعد موجة الهجرة الروسية المتجدّدة إلى البلاد، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، في تلك الفترة تعاقب على الشقة المحاذية لشقتنا في الحيّ اليهودي بنتسيرت عيليت، عدد من العائلات.. كانت آخرها عائلة روسية مكوّنة من والدين وابنة، في السابعة أو الثامنة من عمرها، في جيل ابنتي الصغيرة، وكثيرًا ما كنت أرسل نظرة من نافذة شقتنا المطلّة على الخلاء الرحب، فأرى ابنتي تلعب معها، وكأنما هما اختان، لم تلدهما زوجتي، او زوجة جارنا الروسي. وقد رأيت الاثنتين، ابنة جارنا الروسي وابنتي، اكثر من مرة تلعبان هناك في الخلاء، وكان ذلك في بداية الشتاء، وعندما امطرت الدنيا فاجأتني صغيرتي باصطحابها صديقتها الروسية إلى بيتنا، فسُررت وسرّت زوجتي، ونظر كلّ منا الى الآخر ناسيا العالم وهمومه والموقف العربي العام.. المعارض للهجرة الروسية، ومتذكرا امرا واحدا لا غير: ان صغيرتنا كبرت وباتت لديها صديقة روسية. رحبنا بتلك الفتاة ايما ترحيب، الامر الذي مكننا من ان نراها بصحبة صغيرتنا بصورة شبه دائمة. وان نتتبع امورها باهتمام.. الم تكن صديقة صغيرتنا؟!

لاحظنا ذات يوم ماطر مسحة من الحزن على وجه ضيفتنا الصغيرة العزيزة، فاعتقدنا انها مسحة عابرة، الا انها ما لبثت ان ازدادت في اليوم التالي، وقبل ان نسألها عن سبب تلك المسحة..، جاءت الينا بصحبة صغيرتنا لتفاجئنا بالسبب الفظيع، قالت بصوت متهدّج، إن الاطباء اخبروا اسرتها ان والدها لن يعيش فترة طويلة وان ايامه باتت في عالمنا محدودة، وعندما قلت لها ان ما تقوله لا يركب على العقل، انفجرت بالبكاء حتى ان زوجتي وصغيرتي بكتا معها، وما زلت اتذكر رغم مضي ردح من الزمن على هذه القصة، ان صغيرتي الغالية وزوجتي قامتا باحتضانها، وقد دفعتهما موجة لافحة من العطف عليها، لان تقترحا اصطحابها معنا في رحلة اخر الاسبوع الى بحيرة طبريا. تقبّلنا جميعنا الاقتراح بل رحبنا به فما زالت صغيرتنا... ستكون سعيدة باصطحابها صديقتها، وما دمنا نقوم بواجب انساني نرفّه به عن طفلة يرقد والدها على فراش الموت في المستشفى، فان مرافقة تلك الصغيرة لنا ستسعدنا نحن ايضا، وعندما جاءت جارتنا الروسية تسألنا عما اذا كنا حقا سنصطحب ابنتها معنا في اليوم التالي الى بحيرة طبريا، لم نتردد جميعنا كبيرا وصغيرا في ان ندعوها هي ايضا، فاعتذرت جارتنا الروسية، لأنه لا يمكنها مرافقتنا بسبب وضع زوجها الحرج في المستشفى، وسألتنا عن الوقت الذي ستستغرقه رحلتنا تلك، فأخبرناها اننا سننطلق كعادتنا في ساعات الصباح الباكرة وسوف نعود في ساعات المساء المتأخرة.

في صبيحة اليوم التالي استقللنا سيارتنا الفيات اونو، بعد ان حملناها بكل متطلبات الرحلة من متاع وغذاء، وانطلقنا باتجاه طبريا. خلال انطلاقنا في سيارتنا، كان كل منا ينظر إلى الآخر بنوع من الرضا، فقد ادينا واجبنا نحو صغيرتنا ونحو صغيرة اخرى بحاجة لان نمد لها يد العون، عندما وصلنا شاطئ البحيرة، ترجّل كلّ منا من السيارة وتراكضنا باتجاه الماء، ولا انسى ما حييت تلك الفرحة التي ارتسمت على وجهيّ صغيرتينا، الروسية وابنتنا، بعد ان هيئنا قعدتنا قريبا جدا من حافة الماء، وابتدأنا بإعداد الطعام، ارسلت نظري الى تلك الفتاة، لأرها تلهو وكأنما تمكننا باصطحابنا لها ولو للحظات من جعلها تنسى ما هي اسرتها فيه من وضع صعب، وحمدت الله على انه الهمنا ان نصطحبها. وبالغنا في اعلان المحبة فاستجبنا لطلب صغيرتنا ان تذهب للتنزه بصحبة صديقتها تحت الاشجار القريبة، لتنطلق الصغيرتان مبتعدتين عنا دون ان نلتفت اليهما جيدا، فقد كنا مشغولين بإعداد الطعام للجميع.

فرغنا انا وزوجتي من اعاد الطعام، وتوقعنا عودة صغيرتينا خلال لحظات، غير ان اللحظات مضت سريعة ولم تحضرا، فحملت نفسي، وانطلقت ابحث عنهما تحت الاشجار المحاذية، وعندما طال بحثي، ابتدأت الهواجس السوداء بمطاردتي، فالي أين ذهبت صغيرتانا؟ وهل تعرضتا لأي مكروه.. لا سمح الله؟ ما كان عليك ان تسمح لهما بالابتعاد عن حيث نزلتم، لكنهما صغيرتان ومن حقهما ان تستمتعا معا... ما تقوله صحيح لكن كان عليك ان تجعلهما في مرمى النظر، فلا امان في هذه البلاد، وكنت كلما طال بحثي عنهما ازداد قلقا، وجاءت المرحلة التالي في البحث، فلماذا لا اسال من اصادفه من الناس الموجودين في الشاطئ، عما إذا كانوا قد رأوا صغيرتين احداهما روسية والاخرى عربية؟ وصادف ان سألت عائلة عربية من منطقة الجليل عن صغيرتينا؟ ففتحت ربة العائلة فمها مستغربة ومستفسرة، شو بتقول؟ عربية وروسية؟ فهززت راسي اشارة نعم. وبعد ان عرفت المرأة انني من عائلة فلسطينية مهجرة اعربت عن ذروة استغرابها، وشيعتني وانا اولي عنها باحثا، بنظرة مستفسرة متسائلة.. فما الذي يحدث؟ وبين الطرفين عالم من القسوة؟

تجولت خلال اكثر من نصف ساعة باحثا عن صغيرتينا، وسائلا كل من التقيت به عنهما، دون ان احظى بأية اجابة، ويبد ان ما خالجني من قلق، قد انتقل عبر النسمات الشتائية الباردة الى زوجتي، فلحقت بي لتنضم الي في عملية البحث، هدّأت زوجتي من روعي، طالبة مني ان اتفاءل بالخير لأجده، واقترحت بعد ان استغرقتنا مشاعر القلق.. من اقصانا الى اقصانا، ان يذهب كل منا في اتجاه لمواصلة البحث، تقبّلت اقتراح زوجتي.. وواصلت البحث في ذات الاتجاه، في حين توجهت هي إلى الاتجاه المعاكس، ومضى الوقت دون ان أحظى بأية اجابة عن سؤالي الحائر: إلى أين ذهبت صغيرتانا؟ فكان عليّ ان اعود إلى حيث اقتعدنا قريبا من الماء. ما إن وصلت الى هناك، حتى اطلّت زوجتي من الناحية المعاكسة، وعلى ثغرها ابتسامة... بشّريني.. بسرعة بشريني. طوّل روحك... شو اللي صار؟ لم تجب زوجتي وامسكتني من يدي وجرت على الشاطئ لأجري وراءها، وبقينا نجري إلى أن بلغنا اجمة من الاشجار، وهناك.. هناك.. في حضن شجرة معمرة.. قد تعود أيامها إلى أيام جدينا الاولين.. حواء وادم، رأينا صغيرتينا وقد ابتنتا بيتا وعمرتاه بالاصداف والرمال، وجلستا فيه تتبادلان الكلمات والضحكات.

***

عدنا في المساء باتجاه نتسيرت عيليت.. نطوي الارض طيًا، وكلُّنا رضا عما افضى اليه ضياع صغيرتينا.. من نتيجة طيبة، وعندما توقفت سيارتنا الفيات اونو، بالقرب من بيتنا في الحي اليهودي، فوجئنا بزوجة جارنا تداهمنا بموجة من الدموع والقُبل، فسألناها عمّا يبكيها، فاحتضنت ابنتها بمحبة ام خشيت على صغيرتها من الضياع والموت، واخبرتنا انهم اتصلوا بها من المستشفى ليخبروها ان حالة زوجها في تحسن وان جسده ابتدأ في تقبل الدواء بعد ان رفضه فترة طويلة.

هنأنا جارتنا الروسية بما صارت اليه امورها وامور اسرتها.. من امن وسلام، ودلفنا باب شقتنا واحدا وراء الآخر ونحن نتمنى ان ينالنا مثل ما نالها من هدوء وسكينة نفس. اما هي فقد ادخلت ابنتها شقتها واغلقت بابها وراءها دون ان تزيد أية كلمة.

***

قصة: ناجي ظاهر

في البيتِ الابيضِ يا سـادَهْ

عُــبّـــادُ الـشـيـطانِ الـقـــادَهْ

*

صُـهــيـونـيٌّ مـا ســـونـيٌّ

والـمِــثـــلـيُّ صـارَ عِـمــادَهْ

*

قـــامَ الـشـيـطانُ بـدولـتَـهُ

وتَــبَــنّـى مِـنـهُــــمْ أولادَهْ

*

وعـلـيـهمْ أســسَ قـاعِــدةً

مُـخــتـارًا مـنــهُـمْ رُوّادَهْ

*

لِـيَـقـودَ الـعـالـمَ في دِعَــةٍ

ويـكـونــوا فــيـهِ أســـيـادَهْ

*

ويـكـونُ الـبـيتُ ومَـنْ فـيهِ

مَـرســاةَ الــبـغـيِّ وأوتـــادَهْ

*

فـالـداخِــلُ فـيـهِ يُــداخِــلُـهُ

مـا لـــــم تـقــبــلْـهُ الــقَــوّادَهْ

*

وشـريـفُ الـقـومِ بـلا شـرفٍ

يُــقـريْ الاســفـلَ مِـنـهُمْ زادَهْ

*

والـراعـي يـبـقى حــاويَـةً

قَـمّـتْ مَـنْ قَـمّــتْ أجــنــادَهْ

*

كـغُـثـاءِ الـبَـحـرِ وهُــمْ كُـثـرٌ

أحـصِـنـةٌ جــابَـتْ طُــروادَهْ

*

طـوفـانُ الاقـصى عَــرّاهـا

وكـسـاهـا عـــــارًا وزيــادَهْ

*

هُـلُـوكـوسُ الـبـاغي فِـريَـتُـهُ

تَـلـفــيـقٌ فَـجَّـــرَ مِــنـطــادَهْ

*

فـشُـعـوبُ الـعـــالـمِ واعــيـةٌ

كَـيـدَ الـصهـيوني ومُـرادَهْ

*

رَوّعــهـا إجـــرام الـبـاغيْ

فـانـتَـفـضتْ تَـلـعَـنُ أجــدادَه

*

فـجـرائـمُهُ صـارت تَـعـني

فـي غَــزّةَ عُــنــوانَ إبــــادَهْ

*

طُـوفــانُ الاقـصى عَــرّاهُ

فـتَـداعى  مـا كـانَ أشـــادَهْ

*

شـيـطانُ الـبيتِ ومَـنْ فـيـهِ

لـنْ يَـجِـدوا فـرحًا وســعـادَهْ

*

والـنـومُ الـحـالِمُ لَـنْ يـأتـي

مُـذْ سَـلَـبَ الـغـزيُّ رُقـادَهْ

*

ودِمــاءُ الـشُـهـداءِ سـتـبقى

قـــارعـةً تَـصـدَعُ أعــيــادَهْ

*

فالـفِصحُ يـكونُ هـو الـذِكرى

للــيــومِ الاســودِ إنْ عـــــادَهْ

*

فهـو الـنّـاقـوسُ إنْ مَـرّتْ

ذِكــــراهُ تَـســفـعُ عِــــــوّادَهْ

*

ولـــهُ في أُكْـتُــوبـرَ مـاضٍ

فـيـه الـخُـسـرانُ كـالـعــــادَهْ

*

وعـلى أنـقـاضِ هـزيـمـتـهِ

سـيُـطـيـلُ الـشـيطانُ حِــدادَهْ

*

لـنْ يـرجو الـبـاغي أنْ يـهـنـا

في وطــنٍ غَـصـبًـا قـد ســادَهْ

*

وعـلـيـهِ يــبـقى مَـهـزومًـا

ويـكـــونُ الـحــــقُّ جـــــلّادَهْ

*

برجـالٍ قـد صدقـوا الـمولى

فإمّــا نَـصـرُ وإمّـا شــــهــادَهْ

فـإمّــا نَـصـرُ وإمّــا شـــهـادَهْ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

الثلاثاء في 7 مايس 2024

(1) دائماً

في رأسي دائِماً

معسكرُ تدريبٍ

وجنودُ ثائرون ..

*

نساءٌ كادِحاتٌ

وأطفالٌ يتشاجروَن بوقاحة ..

*

عجائزُ يعرفِن عن ظهرِ قلبٍ

كلَّ حكايا الحياة ..

أما وجهي

فليس سوى تخطيطٍ سريعٍ

لإمرأةٍ متمردة !

**

(2) عاشقان

نتشاجرُ كالساسةِ ..

نتصالحُ كالعصافيرِ ..

نفكرُ ببعضِنا كالأمهاتِ ..

نذهبُ للسيِنما كالأصدقاءِ ..

نلعبُ سويةً كالأرانبِ ..

ونرتبكُ من الحبِ كالأطفالِ!

*

وكي لا نفترقَ كالغرباءِ:

أتصلُ بكَ لتدعوني للفطور

ولنضحَك كالملائكةِ!

***

سمرقند الجابري

....................

(*) من مجموعتي (رابط لأغنية ساحرة) منشورات الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق

 

حين افترقنا

وباتتْ مسافاتنا تستجير الهوى

انشطرَ الحبُ نصفين في الوجودِ

نصفٌ هنا ، ونصفٌ هناكْ..!

*

تقولين ماذا دهاكْ..؟

لمْ أر في الكونِ نسراً سواكْ..!

فكيفَ أشغِلُ نفسي،

وكيفَ أبعدُ عني هواكْ..؟

*

وبعضي أراه يأكلُ بعضي

يصارعُ هذا الزمان الكسيحْ..

ويحملُ صلبانَ هذا الوجود الذبيحْ..

لعلَ خطاي تلاحق طيفاً

ينادي :

تعالَ فأني

ما أزالُ على مسار خطاكْ..!

*

انشطرَ الحبُ نصفين

نصفه يشتكي ويغني لألآمه

والعوالم من حوله فاغرات الفم..

وآخر يحتمي من جليد البعاد

والسحاباتُ فوقه

تزخ نزيف الدم..

*

فكيفَ أشعِلُ وهجي

في ركامِ الجليد

وكيفَ أأتي اليك

وكيفَ أشبع مقلتيكْ..؟

*

انشطر القلب في معبد الحب

عن هالتين:

بالشوق ملمومتين

تقتات من مهجتين

دماً ولحماً وعظما..

لتبقي عوالم هذا الزمان

تمتحن الصبر

سحقاً وقضما..!!

في نزيف الرعاف

عبر إثنتين :

أنين الجياع

يطاله صخب الضباع....

هوَ  ذا الوجع الدفينْ..!

***

د. جودت العاني

12 / 03 / 2024

.......................

*  قصيدة مستلة من الديوان الرابع (من أين يدخل الغرباء..؟)

 

أعيش في قبر

من فرط ضيقه

لا اجروء الخروج منه

*

في ليلة مظلمة

جئت الى غزة

لابحث عن جثتي

في مشرحة لبقايا أشلاء

طائر في الجنة

*

بين الانقاض

وتحت الركام

نعش ملفوف بوردة خضراء

مضمخة بالمسك والريحان

*

سمعت أطفال غزة

يتحدثون عن نعم الفردوس

وعن خريطة جديدة من النهر الى البحر

وعن وطن  ذا أقواس نصر كثيرة

*

وسمعتهم يتحدثون

عن تقويم سنوي جديد

يبدأ من السابع أكتوبر

*

وعن عجوز تنفش صوفا

لكوفية وعقال

تراقبها حمامة بيضاء

*

منذ عقود

ونحن ننتظر قمرا

مفعما بضوء قرمزي

لكي يتراقص مع قوس قزح

*

تحت الركام

رائحة الموت تزكم الانوف

ودموع حبيسة في الظلام

تلمع كسراب يترنح في الآفاق

***

بن يونس ماجن

ثعلبُ القضيّة

الثعلبُ الذي أكلَ دجاجاتِ

أمُّهاتِنا الطيّباتْ؟

قطعةً قطعةْ

وجلدةً جلدةْ

وعَظْمَةً عظمةْ

وريشةً ريشةْ

هَلْ يُمْكنُ أنْ يكونَ

حمامة َ سلام؟

لعلَّنا نستطيعُ نحنُ

أنْ نتخلّص َقبلَ قيامتِنا

من أسطورة الثعلبِ الطيّبِ

وقضيةِ الدجاجةِ الحمقاء؟

- 2

الحكايةُ كلُّها

تعالي كي أَدُلَّكِ

على شجرةِ الغواية

ولكنْ ارجوكِ

لاتقطفي منها

تفاحةَ اللذَّةِ والخطيئة

فأبتلي أنا هذه المرّة

كما ابتلى من قبل

أبي المُغَفّلُ المسكين

الذي اصبحَ ضحيةَ ابدية

تدعو للسخرية والمرارة

أَلَيْسَتْ هذهِ هيَ الحكاية

في حقيقتِها المغيَّبةِ

في أَساطيرِ الأوَّلينَ

والآخرينَ أَيضاً؟

-3

بــلاد قاتلة

كُلَّما يموتُ شاعر

تسّاقطُ نجومٌ

تذوبُ شموعٌ

وتَجفُّ زهورٌ

من هَولِ الأسى

والأسفِ والحنين

والبلادُ التي نُحبُّها

ونُحبُّ ترابَها وانهارَها

وبساتينَها وأُمهاتِها

وناسَها الطيّبينَ

أصبحتِ الآنَ

وبكلِّ قسوةٍ

وجلافةٍ وبلادةٍ

تُثقّبُنا بالرصاص

وتطعنُنا بالخناجرْ

ياااااااااااااااهْ ...

كمْ أَنتِ لئيمةٌ وقاسيةٌ

يابلاداً تَحتضنُ القَتَلَةُ

والظلاميين والمُتوحشين

ولا تَمشي في جنازةِ الشاعرْ

-4

عاشقة كندية

صديقتي العاشقة الكندية

كُلَّما اقولُ لَها:

- I love you baby

يتوهّجُ جسدُها الفارعُ

والساطعُ والشاســعُ

بالضوءِ والرغبةِ والشهواتْ

***

سعد جاسم - كندا

أفعى بأعماق الحذاء تخبّأتْ

وتناسلتْ أصلالها و تبوّأتْ..

*

هذا المكانَ لكي تميتَ براءةً

منها على طول الزَّمان تبرّأتْ

*

خطّتْ على درب الرِّمال مسارها

كيما تجيء .. وما تظنُّ بأخطأتْ

*

أفعى كما يدري الجميع نزوعها

مالم تسمَّ الأبرياء؛ تجشّأتْ..

*

سمّاً على الحَجَر الذي في ليلها

لاذتْ بهِ مِنْ بردِها وتدفّأتْ

*

حتى إذا حانَ الصَّباحُ تسلّلتْ

ومضتْ إلى صوتِ الهزار وأطفأتْ

*

لا تستحي ممَّنْ تراهُ مُغَرِّداً

حتى على قتلِ الطّيور تجرّأتْ

***

رعد الدخيلي

 

من اجل اكمال الصفقة

هكذا تتقدم بنا الايام ونحن نشيخ

وعصافير ذواتنا تمد اجنحتها البريئة

صوب مدارات قوس قزح ونحن

لم نتراجع عن حماية حقول ومروج

ذواتنا في ظل هذا اللهيب وهكذا سنتقدم

من اجل اكمال صفقة احتضان غزلان

وايايل السهل الحزين بعيدا بعيدا عن

مثالب للشوك العوسج والحنظل

وقريبا قريبا من من نخلات واحة

العشق المباركة.

2 -

نقش على جدار الصمت

النقش على جدار الصمت ما هو

مطلوب منا في هذه اللحظة الحاسمة

لحظة عناق قرص الشمس ومدارات

قوس قزح الصباح والشفق الازرق

ولحظة اتمام عملية عناق الوراوير الحزينة

في الكرمة المستباحة وعصافير شجيرات

اللحظة الحاسمة.

3 -

هكذا تفكر

هكذا تفكر الجرذان الدود والجراد

في احتلال السهل الفسيح ونبع

القلب المضيء وهكذا هكذا تفكر

بتهشيم كل مرايا الصمت الهداة والامان

وبتهديم كل جدران قلعة الحكمة

المضيئة والامل المضيء.

***

سالم الياس مدالو

رقصةٌ ليبراليّة

في خيمة الشيخِ الهُمام

***

في خيمةٍ عربيّةٍ أوتادُها

دُقّتْ عميقاً في تخاريفِ القبيلةِ والرمالْ

*

والرملُ  رَخْوٌ لا يقاومُ

عُنْفوانَ الريحِ والصحراءِ مُذْ بَدأ الزمانْ

*

فَكَثيبُهُ  هَشٌّ مَهيلٌ طَيِّعٌ

كَهَشاشَةِ الفَذِّ الدَعيِّ المُدّعي

مدنيّةً سالتْ لُعاباً حولَ مائدةِ الأميرْ

*

أمّا تقاليدُ القبيلةِ كُلُّها أو جُلُّها

فَروايةٌ مثقوبةٌ

مَتْناً وإسناداً تَشي بِرَذيلةِ التقليدِ

أو كَذِبِ الرُواةْ

*

جلسَ الأميرُ بِرُكْنِ خيْمتِهِ وفي

يُمناهُ فِنجانٌ لِقهْوتِهِ وقد

فاحت مُعتّقَةً بكافورِ الخديعةِ والضَلالْ

*

أسَفاهُ ياقلبي على

كَرَمِ الفوارسِ والمجالسِ والدِلالْ

*

بعدما تُهْنا وَضيّعنا المناقِبَ والرِجالْ

*

وَعَلى يَسارِ أميرِنا شيخْ

لَهُ قلبٌ (يمينيُّ) الهوى

كَجبينِهِ المِسْوَدِّ مُحْتَقِنٌ عَبوسْ

*

موفورُ حَضِّ إنّما وغدٌ

غليظُ الطبعِ  مُرتابٌ فخورْ

*

هُوَ نَجْلُهُ وَيَمينُهُ قد عادَ مُنتصراً على

مَنْ غرّدوا لسقوطِ مُنتجعِ الهزيمةِ

والطغاةْ

*

صاروا خوارجَ عصْرِهِ لمّا رأوا

في قسمةِ الأرزاقِ  ضيزي

مُعْلِناً حرباً ضروسْ

*

أفنى بها الفقراءَ طُرّاً خدمةً

للنجمةِ الزرقاءِ في ثوبِ العَروسْ

*

وَعَلى يَمينِ أميرِنا السادي

يَساريٌّ  قَديمٌ قد صَحا  من سَكْرةِ

الأفيونِ  تَوّاً  أو أقانيمِ الشغيلةِ

والجَدَلْ

*

فَدَراهمُ الأمراءِ حِكْرٌ للذي

غالى بِهَزِّ الخَصْرِ رقصاً وتفانى

في أحابيلِ الدَجَلْ

*

فَنَعى مناجِلَ حزبهِ مُتَخفِّفاً

وَرَمى على هاماتِ حَشْدِ الكادحينَ

المِطْرَقه

*

صلّى وراءَ مُضيفِهِ

وَشَدى  إلى الشيخِ  الوَقورِ مُعَلّقهْ

*

وَأكادُ ألمحُ من بعيدْ

في مُنتدى الساعينَ للشيخِ السعيدْ

*

أحرارَ مُجْتَمعِ النُهى

فكراً  كَبنّائينَ قد رَضعوا معاً

أسرارَ تَلْمودَ الخنا

مَدَنيّةً وَلَغتْ بأوردةِ  الشُعوبْ

*

وَثَنيّةً  تسعى خشوعاً في رِحابِ

البيتِ مِبْيضّاً فَتمْتلِئُ الجُيوبْ

*

وعلى صدى وَتَرِ الرَبابةِ أبدعوا

للمسلمينَ رسالةَ التنويرِ في

دُنيا العبيدْ

*

وَتَشاوروا بفضاءِ باديةِ الجزيرةِ

نُخْبَةً تهوى معاقرةَ الغُبارْ

*

وَتَذوبُ زُهداً وانتشاءً بالحداثةِ والرِيالْ

*

وَنِكايةً رفعوا صدى

نَغَمِ الربابةِ مُحْدِثاً

وَقْراً بِآذانِ القبيلةِ والأنامْ

*

فَتَراقَصوا  وتجاهلوا

حِمَمَ الرصاصِ مُدوّياً

برؤوسِ من طلبوا الكرامَةَ والحياةْ

*

لَعَنوا صلاحَ الدينِ كي يَئِدوا

خيولَ الفَتْحِ في حطّينَ

فالأقصى هُراءٌ في هُراءْ

*

وعقيدةُ الإسراءِ  يَغْمِزُها  دَعيٌّ عبقريٌّ

عابثٌ بتراثِنا  مُتَحاملٌ لا مُسْتنيرْ

*

والمسجدُ الأقصى غريبٌ عن ترابِ

القدسِ قد عثروا على أسوارِه

مدفونةً بجزيرةٍ منسيّةٍ في زُنْجبارْ

*

كفروا بغزّةَ شامتينَ  بِأهْلِها

وَبِمنْ (تَحَمّسَ) للفِداءْ

*

حجزوا بشابكةِ العناكبِ موقِعاً

لِضياءِهِ  تهفو الغرائزُ  والنفوسْ

*

وَمَعَ الأميرِ مقاعداً

خيطتْ نهاراً من خيوطِ العنكبوتْ

***

د. مصطفى علي 

 

على شَوكةِ الاِنتظار وَقفـتُ

مَـع الواقفينَ وبيـنَ الوُفــودِ

*

وفِي قَلق أشْرئِبُّ بعَـيــنـِي

تُرى هل سَألقاهُ حَقّا حفيدي

*

تُرى هل كمِثل التّصاوير حُسْنًا

أبِي قَدْ رأيتُ وفيهِ جُدودي

*

وفــيهِ بَهــاءُ زيـــادٍ صَبيّـــا

ببسمتِه تلكَ، تُحْـيِــي عهودي

*

فيا طائرًا في أعَالي الجِــواء

تَمهّلْ وحاذرْ ففِيكَ وليـــدي

3884 سوف عبيد

ورَفْرفْ بلطفٍ وحُثُّ الجناحَ

على عجَل رغمَ ريش الحَديد

*

وبعـــد اِنتظار أطلّ حفيـدي

فهَشَّ وبَـشَّ بوجه سَــعــيـدِ

*

إليَّ حبيبي! أشــرْتُ إليــــه

فَهَبّ لِحِضْني كطيْـــر غَريـــدِ

*

وحَطَّ على ساعدي مِثْلَ بَاز

على أيْكهِ قـــادمٍ مِن بعـــيـدِ

*

فكم مِنْ جبالٍ وبحرٍ تَخطّى

وكم مِن رياحٍ ،وكمْ مِن رُعــود

*

وعانقتُهُ، كدْتُ أقسُــو عليـهِ

بِضَمٍّ ولثْمٍ وطــوْقٍ شَـــديــد

*

بشوق أقبّلهُ من يَــــديْــــه

تجُولان في لحيتي كـــالــوُرودِ

*

يُعابثُ نظّارتي في سُــرور

فِداهُ بعيني، وهَــل مِنْ مَــزيـدِ

*

يُكفْكِفُ لي دَمعتي ما دَراهُ

بأشجانِها أبحَرتْ في القَـصيـد

*

فباركْ ليَ اللهُ فيه وأسْعِـدْ

وحَمدًا إلاهِي فَذا يَــومُ عِـيـدي

***

سُوف عبيد ـ تونس

كل الجهات ترفل

في ثوب عرس

ملطخ بالهوان

وحدك في حزن معتق

تمشين واثقة الخطى

في ثوب حداد

تشيعين الضنا

ومن وجع الدرب

تشعلين الشموس

لخيل الصباح

حين من بين الانقاض

ينتفض الشهداء

وكل القبائل شرقا وغربا مشغولة

بالولائم ...بالرقص

والنياشين المذمومة

كل المدائن مذهولة

كيف هذا الصغير

بمقلاعه ...يبدع العاصفة

كيف من ارحام النساء

تتجلى القدرة الخارقة

وكيف من الصدور

تتفجر البراكين

وتخر القلاع ساجدة

لاحتدام القائمة

*

يا غزة ....يا أمي

هبيني عناق اللهيب

واقذفيني في صدورهم

رعبا ...يشق جباه العماليق

هبيني ...اللظى منحة الاولين

ثورة العذاب الامين

كيما تكبلني صرخات القاعدين

كم قلت لي:

ان بقاعهم رقاع شك وارتياب

دينهم صبغة ياس واغتراب

وانهم يتقنون فن الهدم والخراب

ويقايضون الزيف

بالخضوع والانسحاب

*

ايتها النار الملتهبة

في صدور الثائرين

لا ترحمي المهادنين ...

احرقي كل المداهنين

اني وحدي اقاتل

وحولي مليون قاتل وقاتل

مليون تاجر ...وتاجر

لا يعلمون ان الزهور

تستطيع الصمود

في وجه القنابل

وان كل ما يقوله الشهيد حق

وكل ما يبتدعون من تواريخ

ترهات وباطل

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

أتَضوَّرُ شَوقاً إلى خُبزٍ

لا يُشبهُ الخُبزَ

ولا يحتاجُ خَميرةً

وإلى سُنبلةٍ لا تُصبحُ طَحيناً

ولا تَلِدُ رَغيفاً

ولكنَّها تُخبِئُ بين ثناياها

عَسلَ النَّحلِ

ووخْزَ الدَّبابيرِ

وتراتيلُ الَّلهفةِ

أشتاقُ إلى شُطآنٍ

على رمالِها تَغفو

عَروسُ بَحرٍ

ذَيلُها من مَرايا

أنا القادِمُ على عَجَلٍ

من عُهودٍ غابِرةٍ

جِئتُ أبتاعُ أعماراً

ومتاجِرُ الأزمانِ مُقفلةٌ

والسَّماءِ فاغِرةٌ

أفواهُها

أتوقُ إلى عُمرٍ

صعب المِراس

عنيد الشَّكيمة

من غيرِ بِداياتٍ

يَعبُر بي أنفاقاً

ويُحاربُ كُلَّ الزَّوابِع

في جلد وأناة

وبِلا هَوادةٍ

كُلَّما خَمدَت فيه نَجمةٌ

شموسٌ في فضاءاتِه

تَسطَعُ وتُنيرُ

إلى طائرِ الفينيقِ

تشتاقُ عُيوني

كي يَسبحَ في مَداراتي

وينثرَ في ذاكرتي

غُبارَ الرَّمادِ

يُجَلِّلُني الأَمسُ بِلَونِ اليُتمِ

يجمعُ أكداسَ الحِكاياتِ

في رُكنٍ مُعتَمٍ

من جسدي المُرهَق

ويجدِّدُ ثَورةَ غَضبي

ويُحلِّقُ عَبْرَ المَدى

مثلَ ناقوسٍ يُبدِّدُ

ساعاتِ الرُقادِ

أنا البعضُ غير المُكتَمِلِ

وأنا الشَّطرُ المفقودُ

في أُحجيةِ الغيابِ

أخشى إن حَضَرتُ

أن يتَمَلمَلَ الصَّمتُ

وأن يصيرَ الثَّلجُ حالِكاً

وإلى بيداءَ

يستحيلُ البَحرُ

***

جورج عازار

ستوكهولم السويد

 

احتضنت الطالبة الجامعية سهاد العبدالله الجزء الأول من رواية آنا كانينا، بحنوّ لا حدود له، وتوجّهت نحو مقعد بعيد.. عن العيون، هناك في أقصى الحرم الجامعي. لقد سبق لها وان قرأت هذه الرواية وأعجبت بها أيّما اعجاب، الامر الذي دفعها للتوجّه إلى المكتبة الجامعية مجددًا لاستعارتها.. كونها ضربت على وتر حسّاس في نفسها كامرأة مرتبطة برجل عارف متعلّم، لكنه لا يتفهمها ولا يعيرها ما تحتاج اليه من اهتمام.. بالضبط كما تقول الراوية.

تحرّكت عاشقة الرواية وما تمنته من المشاعر المثيرة لكلّ امرأة تريد أن تكون وأن يكون لها حضورها المنشود، متعمّدة أن تجعل شخصًا محدّدًا أن يراه، ذلك الشخص طالب جامعي يدعى جاسر المبدّع، وقد صادف أن التقت به في رحاب المكتبة الجامعية، ولاحظت أنه يوليها اهتمامًا خاصًا، الامر الذي قلّص المسافة فيما بينهما، هما الاثنين، وكان أنها حاولت خلال تقرّبه منها، فيما تلا من وقت.. زياراتها للمكتبة، ابتعدت عنه، وذلك ضمن امتحان عسير له، فهل هو معنيّ بها.. أم أنه مجرّد رجل لاهٍ. مثله في ذلك مثل العديد من الطلاب طارقي أبواب الطالبات الموصدة فهمًا والمفتوحة جهلًا.. صحيح انها سبق وأدخلته غرفة الامتحان العسير، وأنها عرفت بحنكتها النسوية المرهفة ما تود أن تعرفه، لا سيّما فيما يتعلّق بحالته الاجتماعية، فقد عرفت بطريقتها الخاصة، انه متزوّج ولديه أبن بالضبط مثلما لها، غير أنها تعمّدت في ذلك اليوم أن تجري له امتحانها الأخير.. فإما يكرم وإما يهان. فماذا ترى سيحدث؟.. وهل هو تتبعها عن بُعد كما شعرت أحيانا كثيرة خلال ترددها على المكتبة؟..

غرقت الطالبة الام، الشاكية الباكية، في تساؤلاتها المصيرية هذه، فبدت وحيدة مثل شجيرة قرب الطريق.. وحيدة الشكل والقلب.. وكانت كلّما مرّ بالقرب منها طالب مخلّص*، توقعت أن يكون هو جاسر المبدّع وليس سواه، بيد أن ما حدث هو أن العديد من الطلاب قد مروا من حيث جلست، ولم يمرّ هو. بل إنها ابتسمت عندما مرت بالقرب منها طالبة بدا لها أنها تماثلها في الحالة والواقع، واقتربت منها مسترقة النظر إلى آنا كارنينا بيدها، وافتعلت حركة مَن يودّ أن يجلس بالقرب منها إلا أنها افتعلت بالمقابل حركة مَن لا يريد أن يجلس بالقرب منه أحد، سوى مَن يروق له ويريده، أما الحركة، فقد تمثّلت بوضعها معطفها الشتوي الوبري الدافي لصقها. "ترى هل سيفعل جاسر.. مّن فكّرت فيه أكثر ممن فكرت به من زملائها الطلاب مثلما فعلت؟.. لتنتظر وتر.. أما إذا لم يفعل فإنها ستتدبّر الامر، اذ لا بدّ لها من أن تتوصل إلى نتيجة مع ذلك الجاسر المشرئب بعنقه إليها هي وليس إلى سواها من بقية الطلاب.

مضى الوقت في ذلك اليوم الشتويّ البارد، وهي تنظر إلى البعيد، مصمّمة على أن تضع حدًّا لما انتابها من مشاعر تجاه ذلك الشاب المعافى اللافت للنظر، لنظرها هي بالتحديد، بيد أن شيئًا لم يتحرّك بالقرب منها على الأقل، وبقيت منتظرة على ذلك النحو. حتى فوجئت بمشهد استولى على جُماع اهتمامها، ذلك المشهد تمثل بأن جاسر ذاته، نعم جاسرها ذاته قد اقترب من مقعد في ركن شبه خفيّ وبعيد عن العيون، وبرفقته طالب جامعي بدا لها أنه صديقه المقرب أو شيئًا من هذا القبيل، لهذا تعمّدت أن ترى الاثنين وتسمعهما دون أن تمكنهما قصدًا أو حتى صدفة من رؤيتها، اختبأت قريبًا منهما وراحت تستمع إلى ما يدور بينهما من حديث، فقد تعرف ما لم تمكّنها من معرفته اللحظات المكتبية والظروف الجامعية. مرسلة نظرات متسائلة فماذا سيقول كلّ منهما للآخر؟.. وكان أن وقع نظرها على جانب من الجزء الثاني من روايتها الاثيرة. فجنّ جنونها، ولم يمض وقت طويل حتى فوجئت بالاستماع إلى الحديث التالي بين الجالسَين هناك:

الصديق المجهول: ما هذا اراك تحمل رواية آنا كارنينا.

جاسر: نعم الآن للتوّ استعرته من المكتبة.. هذا هو الجزء الثاني من الرواية.

الصديق: الجزء الثاني.. هل قرأت الجزء الأول؟

جاسر هامسًا ومتعمّدًا أن يكون صوته منخفضًا جدًا يقرّب فمه من أذن صديقه.. ويهمس بها.. تفهم مما جرى من تضاحك بين الاثنين، أنها هي محور الحديث، فتفتح اذنيها وتغمض عينيها علّها تكتشف ما أرادت وودّت وأحبت أن تكتشفه منذ ابتدأت علاقتها الغامضة من ناحية الواضحة من أخرى. فهمت سُهاد شيئًا مما جرى بين الاثنين، ولم تفهم آخر، ما دفعها لأن تكتفي بما استمعت إليه، منتظرة أن يكشف لها مُضي الوقت ما غمض من أمر أحبّت أن تعرفه وأن تسبر غوره من أعماق قلبها المُضنى، خاصة فيما يتعلّق بمصير علاقتها به.. لتنتظر.. أجل لتنتظر وتر..

لم تنتظر طالبتنا المُجدّة المجتهدة طويلًا، حتى رأت كلًا من الجالسين يهمّان بالوقوف والانصراف، فأنزلت رأسها وراء شجرة الاختباء، مخفية نفسها هناك. وفوجئت بجاسر يقول لجليسه، وهو يرسل ابتسامة ماكرة: -اركن عليّ.. سأعلم الحمار اللغة الإنجليزية. *.

هكذا انفضّ المجلس بين الاثنين. سوّى جاسر ثيابه المرتّبة.. أحسن ترتيب بالأساس، وتوجّه لمفاجأة سُهاد، نحو مقعدها الأول ذاك.. ذاته، جلس هناك. عارضًا الجزء الثاني من آنا كارنينا. وواضعًا كبّوته الشبيه بكبوتها هناك.. إلى جانبه. اتخذ مجلسه المنتظر لما سيأتي*، والمتوقع له، وبالغ في حركاته تلك، ففتح الجزء الثاني من آنا كارنينا وراح يحدّق فيه، كأنما هو يريد لإنسان وحيد وواحد في العالم أن يراه.. كان هذا الانسان هو.. هي وليس سواها.. هي سهاد العبدالله ذاتها.. بواقعها وحلمها المجنون.

سوّت طالبتنا النجيبة ملابسها واضعة كبّوتها العزيز الغالي على كتفها هذه المرّة.. خرجت من وراء شجرتها، وراحت تتهادى.. تهادي عروس تعرف ما ينتظرها من الآلام المضاعفة.. سارت باتجاهه.. وراح هو بدوره يفتعل عدم الاهتمام، وكأنما هو لا يراها، أما هي فقد اسرعت الخطى عندما وصلت بمحاذاته.. غذت الخطى أكثر.. وعبرت عنه كمن يهرب مما توقعه من مخاطر.. ومجاهل لها بداية وليس لها نهاية.

***

قصة: ناجي ظاهر

........................

* "آنا كارنيا"، رواية مشهور جدًا للكاتب الروسي المعروف ليو تولستوي. وهي تحكي قصة حب كبيرة تنتهي بكارثة إنسانية.

* لقب السيد المسيح.

* إشارة إلى مسرحية "عودة جودو"، للكاتب الايرلندي ذائع الصيت صموئيل بيكيت.

* تحكي هذه القصة عن ملك بحث عمّن يعلّم حماره المحبوب الاثير لديه اللغة الإنجليزية.. وبقي يبحث إلى أن جاءه مَن يدّعي أنه بإمكانه أن يقوم بهذه المهمة، مشترطًا عليه أن فرصة فرصة عشر سنوات. وعندما سأله صديق له عما دفعه لتلك المغامرة الخطرة. قال له إن العالم في السنوات العشر المطلوبة سيتغير وسوف تتبدّل احواله، فإما يمرض او يموت الملك وإما ينتهي هو ذاته إلى الصير ذاته.

ديــكٌ يُــصلّي والإمــامُ الــثعلبُ

وعــلى المنابرِ بالفضيلةِ يَخطبُ

*

يَــتَصنَّعُ الــتقوى ويــبدو عــابداً

بــاللَّحمِ أمــسى زاهداً لا يرغبُ

*

وبــأنّهُ الــحامي الأمــينُ لخمِّهمْ

بــالليلِ يــبقى ســاهراً لا يــتعبُ

*

لا يَــلمِسُ الــديكَ الــغبيَّ لخَشْيَةٍ

أنَّ الــوضوءَ بــلمسِهِ قــد يذهبُ

*

ويُــغَمِّضُ  العينينِ حتى لا يرى

عــوْراتِ أهلِ الحيِّ حيثُ يُعذَّبُ

*

ظــنَّ  الديوكُ الخيرَ عندَ إمامِهمْ

و هو المُخادعُ في الحقيقةِ يكذبُ

*

مــازالَ يــخدعُهمْ ويكسبُ وِدَّهُمْ

فــي كــلِّ ســانحةٍ لــهمْ يــتقرَّبُ

*

حــتى اِطْمَأَنُّوا والشكوكُ تَبَدَّدَتْ

بـــدأَ  الــلُّعَابُ بــثغرِهِ يَــتَصَبَّبُ

*

فــدعا الــدِّيوكَ الــصالحينَ لبيتِهِ

لــينالَ أجــرَ المُحسنينَ ويكسبُ

*

فــأتى الديوكُ الطامعونَ إمامَهُمْ

وبــطونُهمْ  أشهى الموائدِ تطلبُ

*

حتى إذا اكتملَ النصابُ فأُغلِقَتْ

كــلُّ الــمنافذِ واستحالَ المَهْرَبُ

*

جــعلَ الــديوكَ الأغــبياءَ وليمةً

بــعضُ الــمطامعِ للمهالكِ تجلبُ

*

لا يــخدعنَّكَ فــي الأنــامِ عِمامةٌ

فــلطالما فــيها تَــخَفّى الــمأرَبُ

*

لا يــخــدَعنَّكَ لــو تــغيَّر لــونُها

فــالــطبعُ دومــاً لــلتَّطبُّعِ يــغلبُ

*

فــي الــحيَّةِ الــرقطاءِ ســمٌّ قاتلٌ

وبــلونِها  بعضُ الفرائِسِ تَجذِبُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

مِنْ لا شيء... سيُولدُ كُل شَيء

تحتَ بقايا ظلِّ ياسَمينَة مُسافِرَة

إلى زمن ِ عَشتروت

ويُبعثُ نبيُّ الحبِّ من السَّماء

لِيكونَ شاهداً على غَرقِنا..

في أَمواجِهِ

بَينِي وبَينَكَ ...

شَهقَةُ بَحرٍ ..

وبعضٌ من أنينِ الحَواري

فتعالَ أيُها المَوج صَلِّ عَلينا

قبلَ العَودةِ إلى كُنْهِكَ

هَديلُ قلبكَ يُؤجِجُ حَنينِي

إلى تفاح الفِردَوس

فأطير إليكَ على جناح ِ شِفَةٍ

أطبِقُ أجفانِيَ على الغدِ بِحفنَةِ آمال

ترسمُ على رُوحِكَ حَوَّاء الخُلود

هل أنا على شَفا عِشقِك؟

أؤمِنُ بِكَ....

كنّْ حبيبي لِيكونَ لِعِطري عَبق

اِرْتم ِ في أَحضَانِي

هيَّا نغيبُ في الحُلمِ ويغيبُ فينا

نَبحثُ عَنْ المَطر

نتَوضأ بالنَّدى

كلُ نبضٍ وأنت رُوحي

أخبرَتني يَمامةُ الوَرد وفراشة السَّماء

بأنكَ تغازلُ شَفتيَّ

كل صَباح في غفلة نَحْلَةٍ

يا أميرَ النَخيل..

متى نَستَحِمُ في بُحيرةِ الشَّهد؟

***

سلوى فرح - كندا

 

لا أستنطقُ أحجارَ الموتىٰ

أتضرّعُ مَخدوعاً بنَزيفِ الكلِمات

هلْ أأسِرُ ذاتي

وأقدسُّ حنّاءَ الحيطان

أمسحُ بالدمعِ الأخرسِ فاحشتي

وأخبّئَ بين بلادةِ أدعيتي

وِزراً يتستّرُ بالخوفِ

فألعنُ ميلادي آلافَ المرّات

في كَهَفي المُبْتَلِّ بضَوءِ الآتي

تُنبؤني أطراسُ الحيطانْ

ألّا أتَعمّدَ بالأسماءْ

لا...

لستُ كمن يرسمُ في الرملِ طهارتَهُ

يمحوها في غفلةِ مفتونٍ بهوىٰ اللذّاتْ

لا أهوىٰ ظلَّ الأشياء

أبحثُ عن طرُقٍ يتَلَمسُّها العميان

لا أنشرُ في الصَحراءِ شراعي

وأُحَدّثُ عن عمقِ الماء

*

فلتَذْوي كالجرحىٰ الأيّام

ولينضبَ عذبُ سِقائي

فأنا أعرفُ أوديةَ العُمر

أحفظُ آثاراً لحَفيفِ السنوات

كقصائدَ في عذرتِها نَفَسُ الشِعر

كدليلٍ يقرأُ في لغةِ الصخرْ

من بذَلَ الآهاتِ هنا في الأمس

من حفَرَ الذكرى في هَوَسِ الوقت

فأسيرُ كراعٍ فوقَ عَصاهْ

كُتبتْ أسرارُ الهَمَساتْ

لي في السحرْ

وثنايا الزمنِ العاري ..

أطوَلُ باعْ

لن أرضى بذئابِ اليأس

وعَزاءِ الآه

تُخمدُ أنفاسَ الفَجرْ

لأعودَ وأندبَ كالثكلانِ

طَويلَ بقائي

***

عادل الحنظل

 

لنتفق من جديد

إنّي شاعرةٌ باذخةُ الحرفِ

تولدُ من رمادِ الكلماتِ

رقيقةٌ تنزفُ لأتفه الأسباب

وأنّكَ رجلٌ شامخُ الجرحِ

مخبوصٌ برغبةٍ اسميتَها قدرٌ

تُسقِط َألحانَك على دفاتري الحزينة

فيغني الشّعرُ لحن الصّبا

وهذه الأبجديّة شرِهةٌ لعناقِ الأفكار

تحمّلها الأيامُ خيشةَ الإثم

فتمضي مُتعبة كأوطاننا

وكلّما استعرضَ آدمُ جاذبيّة التّفاحِ في دمهِ

تكسّرتْ غصونُ البرقِ

ليهيمَ بما تبقّى من روحِهِ

ويوقدَ لهيبَ المطرِ في آهاتهِ

جاءَ في جرحِنا:

حينما تستريحُ السّماءُ يا ربّ النّرجسِ الملوّن

تتنزّلُ نجومُكَ على كتفيّ

فأعّدُ تراتيلَ سجودي إلى عينيكَ

لتأكلَ من خبزي الأبدي

ليس في جبّة الفكرة إلاكَ

معارجُكَ دهشةٌ وأدمعٌ

ملتحفٌ باتّساعِ البراري

مازلتَ في ابتسامتي الخضراء

حينما يلوّحُ الحنينُ بأكفّ النّخيلِ الحالمةِ

وإنْ تمرّدنا على اللغة

وإنْ خانت قلبَينا الحروفُ

لن تسقطَ كلماتُنا في فخّ الفراغِ

يا لهذا القلمِ المتّعقلِ بجنون

مرّةً ينامُ في ظلالِ الياسمين

ومرّة يرتّبُ أفكار سيزيف

أنتَ الآن تقرأ

كان عليكَ أن تموتَ كالفينيق

ومن المحتمَل أنّه لن يعجبك ماكتبت

ومازلتُ أبني من الحُطامِ آمالًا بيضاء.

يا قلمي الحبيب

كلماتي صوتُ رمحٍ شقّ الهواء

وشفاهها مُحاقُ التّوت

تراتيلُ حبّ مكتوبةٌ بدمكَ

سنكتب معًا حتى تشرقَ أعراسُ الظّمأ

ويرتعِش ميلادكَ كلّما أنشد الحرفُ

سنبقى معًا يا ترجمانَ المعاني

لن نفترقَ

إلاّ حين يصبح الخبز للفقراء أقدس من نصوصِ الحرّية.

***

ريما آل كلزلي

 

قبل أن يذهب الى المطار بيوم، اشترى قميصين، فكر بظبية توقهِ ألف مرة قبل الشراء، وعاد بهما الى بغداد.

زارتهُ بلهفة، دحرجتْ روحها على ملامحه الجديدة، كلما عاد، تترك بلادٌ كان فيها لمساتٍ ما على وجنتيه، ولأنها تحب هذا الشعور، ظلت تجيش بتلك القسمات ما قدرتْ، فلقد علمها السندباد الكثير.

أخرجا القميصين من كيسيهما بفرح الاعياد معا، وأرسلاهما للمكوى، القميص الاول بخطوطه الزرق، ملَّ من طول الانتظار، منذ يوم خياطته للان ورحلته في السوق من تاجر الجملة الى حقيبة مسافرعجول الى محل الكوي، شعر بالعزة لأنه جديد ولم يترفع وهو يركن مع قمصان أخرى لم تغسل بعناية، وكان يسكت أزراره عن الرغي مع أزرار الاخرين، خصوصاً تلك العائدة لنساء لا يعرفهن!

أحبَّ حبيبة صاحبه، شبّه عيونها بأزرار المعاطف في زمن الحب، ورجع بذاكرته القطنية الى ثياب مرتْ به، فلم يبتسم!

القميص الآخر، خطوطه من الورد استعارت روعتها، كان أكثر زهوا من ثياب هذه المدينة المغبرة وظلّ يُسمعُ من في المحل:

-" لا تملكون فرحي، فأنتم ستذهبون الى بقعٍ تنتظركم، وزحام الباصات المكتظة، أما أنا فقميص شاعر، قميص شاعر".

في الصباح عادا الى صاحبهما، ظل كلُّ واحد منهما يتمنى بطريقة ما أن يكون هو الاول في استقبالها، الأزرق له قوة رشف عطرها رغم الطاولة النائمة بينهما، ومن فرط فرحه، أسقط أحد أزراره تحت قدميها صريعا، وهي من الوله احتفظت بالزر خلسة عن الحبيب لينام في حقيبة حوت من الذكريات ما يميز المجانين عن غيرهم.

الزر في حقيبتها يعجب من لفافة تبغ تلفها بأحكام محارم بيض، وسأل بقية المناديل عن فحواها، فأجاب القريب منها بأنه يضم شعرات استلت من مشط صاحبه، فصاحبة الحقيبة مستها التولهات فصارت لكل تفاصيل الآخر خارطة فرح لامرأة ظلت متخبطة المشاعر حتى عتقتها النهارات بشاعر أرسلته عناية الصدفة المبدعة، فيما يسميه الجميع بـ (الوقت الضائع)، عداها.

تكاثرت الاسئلة الموجهة من زر أسقطه التماهي لولاعة سجائر، ظل صاحبها يبحث عنها، ولم تدفع به رياح الشك الى أن يعصف بأحد.

قميصان ينامان في دولاب مرَّغته الهدايا المضمخة، لتطرز قصة لا يريد لأحد منهما انهاءها، ظلا يسبغان عليها الاسماء التفافاً على بيت القصيد، كل العيون تعرف حتى تلك التي لا تشبه أزرار المعاطف والكنزات، ابتداءً من أول زر بعد الميلاد الى يوم القيامة.

***

سمرقند الجابري - العراق

من مجموعتي القصصية (علب كبريت) 2017

 

للسنوات قاماتها ومقاماتها..

هذه احدى مقاماتها يا سُعدى

***

التقينا خفقة بعد سنين

وعلى شاطئ صمت الذكريات

قد سرينا بذهول حافيين

ورقا دحرجنا طيش الخريف

واحتفينا بالمغيب غرباء

كظلال طحلبيّةْ

ومضت فينا الحياة

ـ اَتُغنّي..؟

سألت!

ضحك الماضي..

وفاضت بالدموع

الينابيع التي كنا كفرناها زمانا

في عمى ضوء النهار

وحسرنا جرة البوح وبللنا يدينا

بلهاث مخملي

ورمينا صولجان الأقنعة

وتعانقنا نجففْ

حرقة الدمع بجمر القبلات

***

طارق الحلفي

 

في دَفْتَرِ الْعُمْرِ أَعْوَامٌ تـَجوبُ دَمي،

وَيَسْتَبيحُ صَدَى ضَوْضَائِهَا قَلَمي

*

أَشْكُو،

وَيَنْزفُ أَوْرَاقاً، تُـهَدْهِدُهَا

في كُلِّ حَرْفٍ "كَذَا" شَكْوَى مِنَ الْأَلَـمِ

*

أُوَرِّقُ الطِّفْلَ هَيْمَاناً،

فَتَخْطَفُهُ يَدُ الْفَتَى اللَّا فَتَى الْمَكْلومِ بِالْـهَرَمِ

*

حَتَّى إذَا عَسُرَتْ كَفُّ الرَّبيعِ

صَحَا

يُسْرُ الْـخَريفِ عَلَى أَشْوَاطِ مُنْتَقِمِ

*

في أَوَّلِ السَّطْرِ

أَحْلَامٌ مُبَعْثَرَةٌ

أَشْوَاقُهَا مُنْذُ فَجْرِ الْآهِ لَـمْ تَنَمِ

*

وَفي الزَّوَايَا انْتِظَارٌ،

بَوْحُهُ قَلَقٌ مِنَ النَّجَاوَى،

يَصُوغُ الْوَيْلَ مِنْ عَدَمِ

*

وَصَفْحَةٌ قِصَّةٌ

يَنْتَابُـهَا سَفَرٌ

إِلَى الَّتي بِـهَوَاها تُبْتُ مِنْ صَنَمي

*

وَفي الْـحَوَاشي يُريقُ الصَّمْتُ أَسْئِلَةً

عَلَـى فَتًى بِارْتِكَـابِ الْعِشْقِ مُتَّهَمِ

*

وَبَيْنَ سَطْرٍ وَذِكْرَى صُورَةُ امْرَأَةٍ

سَـمْرَاءَ،

ينْسَابُ رَهْواً بِاسْـمِهَا قَسَمي

*

مَنْ.

مَنْ يـُخَـبِّـىُ خَدَّ الْغَيْمِ عَنْ ضَمَئي؟

وَمَنْ يُبَدِّدُ أَشْيَاءً تَـمَسُّ فَمي؟

*

رِيَاحُ حَوَّاءَ

مَا زَالَتْ تـَهبُّ عَلَى اغْتِرَابِ آدَمَ

مِنْ فودَيْهِ لِلْقَدَمِ

*

وَقَمْحُ بَسْمَتِهَا مَا زَالَ سُنْبُلَةً

يُغْري الشِّفَاهَ بِتَقْبيلٍ بِلَا بَرَمِ

*

قَدْ يَعْبَثُ اللَّيْلُ في ميلَادِ مُعْجِزَةٍ

وَقَـدْ يُفَهْــرِسُ أَرْقَـــامــاً مِــنَ اللَّـمَـمِ

*

وَقَدْ يُسَاقِطُ أَقْوَاساً عَلَى وَرَقي

لكِنْ سَأَبْقَى أُنَادي:

يَا دُنى ابْتَسمي

*

أَنَا الْـجَنوبيُّ.. وَالأشواقُ تَسْكُنُني

مِــنْ بَسْمَــةِ الْــوَرْدِ حَتَّى دَمْعَـةِ النَّــدَمِ

*

أَنَـــا الْعِرَاقِـــيُّ أَحْبــو الْعُمْـرَ أَرْغِفَــةً

لِمَنْ يُفَتِّشُ عَنْ مَأْوًى، وَمُعْتَصَمِ

*

زَهْواً أُمَارِسُ طَقْسَ الْعِشْقِ مُذْ نَثَرَتْ

حَـــوَّاءُ قُبْلَاتـِهـــا حَلْـــوَى عَلَــى حُلُمي

*

أَهْوَى،

وَأَغْزلُ بَوْحَ النَّخْلِ أَجْنِحَةً

بِـهَا يـُحَلِّقُ طَيْرُ الْكَدِّ لِلْقِمَمِ

*

فَلْيَكْتُبِ الْوَهْمُ. وَلْيَقْرَأْ طَلَاسِـمَهُ

أَقولُ: كَلَّا، فَدُمْ في حَسْرَةٍ الـ "نَعَمِ"

*

غَيْظي عَلَى الْكَـوْكَبِ الرَّفَّافِ

صَوْتُ رِضًى،

وَأَنْتَ في دَرَكِ الْبَلْوَى أخُو الصَّمَمِ

*

غَداً تَغورُ بـِجَوْفِ الْأَرْضِ دونَ هُدَىً،

لكــنْ سيُبْصِرُ سُكَّــــانُ السَّمَـــا عَلَمـي

***

شعر عبد الكريم رجب الياسري

من مـجموعتي " حين يـحتفل القصب"

 

– إلى أين أنت ذاهب ؟ ألا تخشى شيئًا أيها الشاب .. إرجع إلى بيتك فورًا إرجع …

كان ذلك المساء قد تحدر من وراء الكثبان الرملية، التي بانت بلون العقيق اليماني القديم وهو يضفي مسحة من الجمال يصعب وصفها وخاصة حين يمتزج اللون البرتقالي المحْمَرْ للشمس وهي تختفي بين تلال الرمال المتموجة كالأفعى..

– ولكن، لماذا ياعم ؟

– إشششش، أسكت، لكي لا تسمعك أيها الأبله .. فهي في هذا الوقت تخرج .. لتجفف شعرها وتمشطه على حافة ذلك البئر.. ولكن ما ان تسمع دوي العجلات حتى تختفي في القعر .

– عن أية عجلات تتحدث، وعن أية فتاة تخرج لتجفف شعرها … قاطعه ..

– أسكت، ألا تسمع الدوي يقترب، إنها عجلات تدور وتلف ذهابًا وإيابًا نحو البئر، إنها لا تكف عن الدوران، ومن الصعب أن تعرف الأتجاهات من كثرة الخطوط والتقاطعات.. ولكن بحدسي أعرف من أين تبزغ الشمس وإلى أين تغرب .. أسمع جيدا أيها الشاب، في الليل تبدأ العربات تسير تحت جنح الظلام بسبب حرارة الرمل عند الظهيرة .. ولكنك لا تراها، رغم أنها تحمل فوانيس معلقة تتأرجح لتنير الطريق إلى البئر.. وفي الصباح لا ترى هناك سوى خطوط العجلات تتقاطع ورائحة نفاذة مقرفة سرعان ما تتناثر بفعل الرياح، ولكنك لا تعرف من أين جاءت وإلى أين ذهبت .. إنها محنة التيه في صحراء الذاكرة حين تغيب عنها الحقائق وتتجسدها الأشباح التي تحوم ليلاً حول البئر.

وقبل أن يفتح فمه ليسأل …

– إياك يابني أن تذهب إلى هناك، إياك ؟

وتابع يقول .. في الحقيقة أريد أن أهمس في اذنك .. عند الصباح لن ترى شيئا هناك سوى هالة تتحلق فوق الآبار لونها أبيض مغبر، وفي الليل لا ترى في السماء أثرًا للنجوم .. وإذا أردت أن تراها .. فهي تخرج عند الشفق وقبل الغسق تجفف شعرها وتمشطه لبضع دقائق ثم تختفي في القعر.!!

صعق الشاب وهو يستمع بدهشة عن عجلات ترسم خطوطا على الرمال وحورية تخرج من البئر لتمشط شعرها وهالة تحجب نجوم السماء في الليل.. وتساءل ..

– نعم فهمت ما تعنيه أيها العم … وقبل أن يكمل ..

– لا، إنك لم تفهم شيئًا أبدًا مما قلت .

– ولكن، كيف عرفت ذلك بحق السماء ؟

– لقد عرفت من شرودك ومن عينيك .. إنك أساسًا لم تكن معي لتفهم .. وعلى أي حال، هل تريد أن تفهم ؟

– نعم أريد أن أفهم، ولكن، قل لي ماذا تقصد بأن ألتزم الصمت وأن لا أجعلها تفزع وتختفي في جوف البئر.؟

– وهل تريد فعلاً أن تقترب منها؟

– نعم، أريد أن أراها وهي تجفف شعرها؟

– وهل أنت شغوف لرؤيتها ؟

– نعم ..!!

– ولكن، قد لا تكون جميلة .. قد تكون في هيئة لا تطاق؟

– ألم ترها أنت من قبل؟

– رأيت شبحها فقط ثم اختفى حين بدأ دوي العجلات يقترب.!!

– يقولون، وقبل أن يكمل …

– من هم ؟

– وجهاء القوم هناك .. أن هذا البئر قد ألقيت فيه الكثير من الجثث، حتى أن دماؤهم القانية طفحت وراحت تنساح بين الوديان والكثبان، وتلقفتها الرمال وابتلعتها في جوفها ولم يعد لها من أثر.. ولكن البئر ظل ساكنًا بالدماء القانية ثم تحول لونها إلى اللون الأسود، ومع ذلك قيل أنها تخرج لتجفف شعرها الفاحم كالليل البهيم .. هل فهمت ؟

أطرق رأسه إلى الأرض وأخذ يعبث بإصبعه في الرمال دون أن ينبس بكلمه …

– أاااه، ياإلهي، إنك لم تفهم شيئًا مما قلت .. لماذا يا بني، ماذا جرى لك؟

– فهمت ما ترمي إليه يا عم، ولكن أود أن أسألك هل العجلات التي تأتي مزدحمة صوب البئر تحمل براميل فارغة أم إنها عجلات فارغه لا تحمل غير الصرير؟

– الآن، أدخلت أصبعك في جحر الأفعى !!

– ولماذا تحتسب إن الأشارة هنا مخاطرة؟

– أسكت من فضلك أسكت .. لقد ظهرت الآن، دعها تكمل، ولم يتبق على هبوط الليل سوى دقائق معدودات قبل أن يقترب صرير العجلات لملء البراميل .. إن حارسة البئر لا تستطيع منعهم .. هل تعلم انهم لصوص محترفون.. يكتسحون الأسوار دون إعتراض .. قل لي، هل تعرف من دبر رمي جثث القتلى في قعر البئر طيلة هذه السنين الطوال حتى قبل أن تولد أنت وأنا ومن قبلنا، وهل تعلم متى تكف العجلات عن الصرير والدوران ليل نهار حول البئر؟!

– أعرف إنك بدأت تفهم، نعم، حين يختفي اللون الأسود من ذلك البئر؟

– ولكن كيف تعرف أن البئر لم يعد فيه شيئًا سوى الصدى وصفير الريح؟

– نعم، أعرف حين لمْ تعد جنية البئر تخرج لتجفف شعرها عند مغيب الشمس .

***

قصة قصيرة: د. جودت العاني

05/12/2023

 

في نصوص اليوم