نصوص أدبية

نصوص أدبية

كنت أسافر من وقت لآخر إلى البادية، هروبا من التّعب الذي ينالني من العمل الـمُضني بالمدينة؛ إلى أن يحين وقت للعودة أنا مُلزم به، وكانت تجمعني بابن عمتي هنالك جلسات عائلية حميمية، وكان ألذ لي هو ما يحكي علي؛ مما حدث في تلك البادية الواسعة، التي تمتد أراضيها؛ إلى سفوح، وأودية، وفجاج جبال عالية؛ تضرب بقِممها إلى الأعلى؛ إلى أن يتجمد فيها الماء؛ بانخفاض درجة حرارة الأجواء العليا، فتكسوها ثلوج في فصل الشتاء البارد...

فمِما رواه علي؛ هو ما وقع أيام الاستعمار الفرنسي للبلاد، واحتلال دولة لبلد آخر؛ فيه استضعاف وقهر، واستعراض لقُوة العَدد والعُدّة، التي لا تُقاوم ولا تُقهر، ونشرٌ لفُرق عسكرية مُدججة بالبنادق والقنابل والمدافع، والدبابات المدرّعة، وبناءُ الثكنات العسكرية، فيقوم أفراد من تلك الفُرق المنظمة باجتياح المدن والقرى والدواوير؛ المنتثرة في بِطاح البادية؛ لجهض أي محاولة دفاع عن النفس أو مقاومة، فقد يفعلون بأناس عُزّل أشياء كثيرة، ولا يعترض طريقهم إلى ذلك أي أحد، ولا يَثنيهم عنه أو يردعهم...

فماذا نطق به ابن عمتي على مسامعي؟ وكان قد شاهده بعينيه اللتين لا تُكذِّبانه، وفي لحظات من وقت حكيه كانتا تشعان بحماسة الأبطال، لأنه كان حاضرا، وإنه لَـحَظٌّ لم يُؤت لغيره، وفرصة تسنح له؛ ليُخبر أيَّ أحد بما رآه؛  يلتقي به أو يضُمّه وإياه مكان يحلو فيه سمر الحكي؛ على ضوء قمر الخلاء، وهدوء الليل المطبِق...

حكى فقال؛ وعيناه تدمعان حنينا، بأن الجو في ذلك اليوم كان صحوا، فقد خلت السماء من الغيوم، ومن ضباب قد يُغطي وجهها الصّبوح دائما، فبدت زرقتُها الغير المخفية الغامقة، فأضافت بها جمالا على الدنيا؛ جنبا إلى جنب مع خُضرة النباتات، وإزهار هذه في شهر (يونيو)، ولون بُني تصطبغ به تربة غير مزروعة، وألواح صخرية عرّتها المياه؛ فيما مر من أزمنة سحيقة في القِدم، فانشرحت الصدور بالألوان المختلفة والعديدة، وجرى ماء العيون رقراقا، ومُتلألأ بأشعة الشمس، وصهل حصان هنالك بعيدا، ونبح كلب حراسة، وسُمع ثغاءُ قطيع من الأغنام...

وفي غمرة هذه الطبيعة التي تملأها تغاريد العصافير، وتُصدر أجنحةُ الطيور المحلقة حفيفا، وبرغم كل هذا فهناك صمت البادية وسكونها الغالبان، كان يرعى ابن عمتي قطيعا من الشياه؛ غير بعيد عن جانب الطريق الـمُعبّد، الذي يربط بين المدينة وسوق أُسبوعي؛ نادرا ما تمر منه سيارة أو شاحنة أو دراجة نارية؛ في غير يوم السوق، وتسير فيه عربة واحدة أو عربتين؛ يجرها واحد، أو زوج من الخيل، أو الـحُمر، أو البغال؛ تُنقل بها أكوام تبن الحصاد، أو حُزم سنابل  محصودة إلى مكان الدّرس، أو صناديق خشبية أو سلال مجدولة بالدوم؛ تحتوي على ما تُثمره الحقول المسقية؛ من خضروات وبُقول، وغير بعيد عنه؛ في الجهة المقابلة له؛ ما بعد عرض الطريق؛ راع آخر لا يتوقف عن التلويح بعصاه؛ في اتجاه خرفان ابتعدت واقتربت من جانب طريق أَسْفلت خشن، وعن التصفير بلسانه؛ مُنبِّها إياها، وكابحا جماحها واندفاعها بشراهة؛ إلى سيقان السنابل الممتدة والحلوة المذاق.

ويمضي كل واحد منهما كأنهما يتنافسان في إطلاق العنان لـمُجترّاتهِما؛ كل في حِماه، ويصل ابن عمتي في روايته إلى ما تفاجأ به وقتها، وقد طرق سمعه أصوات مُقعّرة وحادة؛ تصدر من محرك مركبات ميكانيكية، فالتفت فرأى سيارة من نوع (جيب، JEEB)؛ يجلس بانتباه إلى مقود عجلاتها عَسْكري، وإلى جانبه عسكري آخر، وكلاهما يُثبّتان قُبعتيهما الخضراوان بعناية وبحزم، تتبعهما شاحنة غير مَغطاة، يركب في جزئها الخلفي جنود يجلسون إلى حد ما بانضباط؛ كانوا يمرحون، وترتفع حناجرهم بالصياح، وترديد نشيد وطني عسكري، ومرت بهما المركبتان بهؤلاء العسكريين؛ ذوات محركات الوقود، واستمرتا في الطريق، ولم يُمِل ابن عمتي - كما قال- بوجهه عنهم، فقد ظل يتتبّعهم مُتسائلا عن المدينة أو القرية التي تؤدي بهما الطريق، وفُوجئ مرة أخرى، ودب إلى نفسه بعض الخوف، وقد شاهد سيارة (الجيب) تقف، وتُفرْمَل خلفها الشاحنة، ويدور السائق بالسيارة، فتبدو مُقدمة هذه تدنو راجعة، ويقترب صوت محركها فيُثير التوجس والوحشة في باطني الراعيين، وينظران إلى بعضهما البعض بعجب، وإلى السيارة العسكرية المرهِبة، فكان سؤال واحد يسيطر عليهما وهو: ماذا يريد هؤلاء العسكر منهما؟ أسيُسألان عما لا يعرفونه، أهو المكان الذي ينتهي به الطريق؛ هل سيخطِفون أحدا منهما؛ ليتخذوه خادما مُستسلما لقدره في ثكنتهم العسكرية؟ وسمعت الأغنام دنو السيارة، فالتحمت واضطربت، وضلت عن الاتجاه الذي ستهرب إليه، وحاول الراعي تهدئتها، وإرجاع الطُّمأنينة إليها.

ترجّل القائد، والـمُميّز في قَوامه، وفي قُبعته وبنياشِينِه، وسار قاطعا أجمات لنباتات يابسة قصيرة؛ إلى أن اقترب من الراعي، وتحدث إليه، وابن عمتي كما أكد كان يتابع ما يجري بقلق، ولم يطُل كلام القائد مع الراعي، وخطا راجعا ونادى على أربعة من الجنود، فنزل هؤلاء من الشاحنة باستجابة خُضوع وسريعة، فتلقوا أمرا من قائدهم العريض الجسم والفارع الطول، والراعي يأتي بحركات من يديه مُتضرّعا ومُستعطفا، وجرى يحاول أن يحول بين الجنود وخرفان من قطيعه، فدفعه أحدهم حتى سقط على الأرض، ولم يستسلم هو، فقام وحاول أن يضرب المتعدّي عليه بعصاه الغير الـمُقلّمة اللّحاء والناتئة الفروع، فأخذها الجندي من يده بعَنوة وبقوة، وكسرها إلى نصفين؛ بالضغط عليها على ركبته الصلبة ورماها، وعاد مرة أخرى وأبعد الراعي؛ مُهدّدا إياه بتوجيه قبضة يده المعقودة الأصابع القوية؛ إلى وجهه الممتص الوجنتين، والمحترق بأشعة شمس البادية، فخلت الأرض، ومُهّدت للأربعة المندفعين بعمى مرضي، وقبض كل اثنان منهم على كبشين أقرنين سمينين، وجروهما، والتراب ينتثر ويرتفع بالأظلاف العصية والصعبة الانقياد، ثم حملوهما في الشاحنة، وكان القائد قد أخذ مكانه على كرسي السيارة المتأهبة، وأشار بيده القابضة بالعصا المصقولة، والملمعة والمطعمة بالمعدن، وبتيْه؛ بالتحرك؛ مرفوع الرأس، فما يُنجِزه من أعمال؛ هو مستمد من نظام عسكري متماسك وصارم، ولم تكد الكتيبة تترك المكان، وتبتعد سيارة القائد والشاحنة؛ حتى شوهد فتية ونسوة يعدون حُفاة؛ في اتجاه الراعي المسلوب الخروفين والضعيف، وقد حركتهم دماء الانتماء إلى القبيلة، واستعرت فيهم عاطفة القرابة، وتحمسوا للذود والمناصرة؛ حاملين الـمَدارَى، والـمُديات، والمناجل، والهراوات، والعصي، والحجارة، ووقفوا يتوعدون أولئك الجنود وقائدهم، وقد اختفوا في إحدى مُنعطفات الطريق.

تصوّر ابن عمتي آنذاك -كما نطق بذلك- كيف سينحرون أولئك الـمُرتدِين للزيّ العسكري، الـمُحاكة خيوطه بإحكام خاص الخروفين؛ طعنا في نحريهما بالسكّين، وكيف سيشوون لحمه على جمر ملتهب بالنار، وسترتفع رائحة الشواء في أرجاء الثكنة العسكرية، وسيمزِجون قِطع اللحم الناضجة باللهيب والساخنة؛ بجُرعات من مشروب النبيذ الأحمر، وجِعة مُسكرة مُقطّرة، من حبوب نباتية، وبقُبلات يطبعونها عل وجنات وأعناق وصدور نساء؛ يحترفن مصاحبة الحاملين للبنادق، والمحافظين على دم وجه بلادهم، التي لا ينبغي أن تتقهقر عن ساحة منافسة قريناتها من الدول الأخرى؛ والمستميتة في الاستيلاء على المزيد من مساحات الأرض الجغرافية.

وقد انتهى ابن عمتي من حكايته مُتأسّفا، وغُصّة الاحساس بالاستضعاف التي ظلت في حُلوق القرويين، ما تزال في حلقه هو أيضا، لأنه فرد من دمهم، واستغربوا بعض الشيء لفعل أولئك العسكر، لأنهم لم يعهدوه، لا هم الأحياء ولا أجدادهم الأموات.

***

احمد القاسمي

لمعانُ البحرِ

شدَّ عيونَ العاشقينَ

تكسرتْ أوتارُ العودِ

*

انتظرنا زوالَ مواسمِ الخيانةِ

تجمدَ العقلُ

غردَ عندليبٌ خوفاً

*

أبحرَ الناقدُ  بصمتٍ

قرأَ مجاميعَ شعرٍ

أنتبذَ الفارسُ خمراً

*

لي رحلةٌ لغاباتِ السحرِ

رافقتني ذكرياتٌ

تسمرتْ الموجةُ نورسةً

*

إليك تراتيلَ الغزلِ والفرحِ

تصفقُ لها الطيورُ

يعاندُ القلبَ الخفقانُ

*

الموتى يتغزلونَ بالارضِ

الترابُ يشدو

بُعثَ يتجددُ في الكونِ

*

شجارٌ منذُ الخليقةِ

خسارةٌ دائمةٌ

خلاصٌ ينتظرُ الغزلانَ

*

ترحمٌ على أفاقِ الزمنِ

خذْ أغنيةً

شمعةً تبكي دماً

*

تمهلْ عندَ الصعودِ

تمتعْ بالتسلقِ

الجموعُ طفلٌ أخرسُ

*

لا تحاكي الصمتَ

النطقُ عدوهُ

نورسةٌ خارجَ الديارِ

*

تعلمْ الموسيقى والتغريدَ

كلَّ السمفونياتِ

تأتِكَ ارضاً ساجدةً

***

عبدالامير العبادي

كل الاوراق التي

انتعشت من صمتي

كتبت عليها

الرياح أسماء

وهمية وطيرتها..

هل علي ان  ألهث

وراء قصيدة

ينفخ عليها

فتطير بخفة ريشة..

هل علي أن أستجدي الكلام

من عتمة ليل عقيم

ربما علي أن

سأسمي الاشياء بمسمياتها

القطيعة هي القطيعة

والخذلان هو الخذلان

والخيانة هي الخيانة

حتى لو جاءتك

بإبتسامة عريضة على وجهها

حاملة بين يديها

باقة من زهر التوليب الأحمر

ربما علي ان لا

ارسل  حاستي السادسة

وراء

هذيان لا لون و لا رائحة

ولا طعم له..

سأضرب على أذني

حتى تمر القوافل

المحملة  بطنين الذباب

ربما..

لم يعد الوقت يشبهني

الان ..

الوقت صار  يشبه القيامة

دعوني  أكلم حزني قليلا

قبل أن  أغمض  عيني

للأبد..

على من أغمضوا عيونهم عني..

وأغلق الذي مايزال مواربا

من أبوابي..

وأغلق قصيدتي

المفتوحة على المدى

والبحر..

وأقف بعيدا..

أمحو عن كفي خطوط الحب

الوهمية..

وأمحو عن أصابعي  بصمات

قصيدة عابرة

وأتركها فقط

لألوح بها تلويحة الوداع

للغرباء و العابرين..

وحين تناديني

من وهمها الأسماء

سأقول لا وجهة  محددة

للمشتاق..

ولن  أدخل جنة

يسألني حراسها

من أنت !؟..

سأعلم كلماتي

كيف تسير علي قدميها

بحذر شديد على

أطراف الأحجية..

وتمنحها نصف الجحيم

الموعودة به..

لن أوقع بإسم  مستعار

على أوراق الصمت

سأترك  الرياح  توقع

عليها كيفما تشاء

وأينما تشاء..

لن اكتب على الظل

حرفا واحدا من إسمي

انا التي

منحت ليلك

حلما جميلا  لتستر به

عورته

أمام

النجوم البعيدة..

سأكتب  اليوم

دون ان أفتح قواميس

اللغة القديمة

الآن .. الآن

لا وقت لشروقي

ولا وقت لغروبي

لا صلاة ترهق كاهل

الليل ..

ولا وهم يغني

علي وتر

نشاز..

***

بقلم: وفاء كريم

 

 

سَأَكْتُبُ عَنْكِ لِقَلْبِي الْمُتَيَّمْ

 سَأَكْتُبُ عَنْكِ لِكَيْ أَتَعَلَّمْ

*

سَأَكْتُبُ عَنْكِ بِأَنَّكِ حُبِّي

 وَأَنَّكِ قِبْلَةُ عِشْقٍ لِقَلْبِي

*

سَأَرْوِي أَقَاصِيصَ بَحْرِ الْغَرَامْ

 لِقَلْبِكِ بَعْدَ شَدِيدِ الزِّحَامْ

*

سَأَرْفَعُ فِي الْكَوْنِ رَايَةَ حُبِّكْ

 وَأَدْخُلُ بَعْدَ انْتِصَارِي لِقَلْبِكْ

*

سَأُخْبِرُ قَلْبَ الْخَلَائِقِ أَنِّي

 أُحِبُّكِ بِعْدَ بُحُورِ التَّمَنِّي

*

سَأُنْشِئُ فِي الْحُبِّ أَحْلَى قَصِيدَةْ

 أُهَنْدِسُهَا وَتَكُونُ فَرِيدَةْ

*

سَأُعْلِنُ أَنَّ الْحَيَاةَ سِجَالْ

 وَأَنِّي ظَفِرْتُ بِأَحْلَى وِصَالْ

***

شعر: د. محسن  عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

 

من رخام

الحكمة الخضراء

اشيد جدارا

بيني وبين

ثرثرة الثعالب

الشواهين

والبزاة

واعكس على

زجاجات مرايا قلبي

روعة النسيم

الشفق الازرق

والمطر

ومن ثم امضي

صوب كرمة

ذاكرتي الخصبة

لا زرع في تربتها

ازاهير اوركيد

بنفسج واقحوان

وهناك هناك

قرب دالية

الشوق المضيء

انتظر عندليب قلبي

لنغني معا

اغنيات

البرق والريح

واغنيات المطر

***

سالم الياس مدالو

كيف ينامُ من تجرُّه الأطيافُ الى عدن…؟

من يراني أمجِّدُ خجَلي،

و أسوِّي ظلِّي لحاشية تهوى جورَ الخريف ..

أتلذذُ حطَامَ الفراغاتِ على صدري..

ويغلب على خطوي تثاقل الرِّيحِ ..

فليعلم:

أنَّ أخطائي كانت بالقصد المستباح..

ومُوَّلدتي ضريرة

تحسستْ بعكس الطَّالع،

أنِّي قادمٌ

لاقتلعَ الغَضبَ من ظمأ القصيدة..

فاجأها صراخي

لم ينقطعْ..

تمتمتُ لها بآيةِ الصلاحِ ..

وعدتُ للصُّراخِ..

**

فليعلم:

أنَّ أوجاعي أمطَرت في الأرض سنابلَ

أينعَ حبُّها

وتلقفهُ غرابٌ

مسعورٌ

عائدٌ من فرشة السَّقمِ…

أتذكّرُ أنِّي طلبت ُ رغيفاً مقابلَ أعضائي

وفي عزِّ طيشي استهواني عنفواني

وبطولاتي ..

استهوتني الأرقام والأسماءُ …

اغتالتني آخر الصيحات .

.وأثملتني معزوفات الشرق والغرب…

وتملكتني الحيرة  حين  لطمني الخريف بعزفٍ حزينٍ…

لكنّي هيَّأتُ لنفسي رَشَداَ..

أكلتُ تراباً

شربتُ حنظلاً..

ونمتُ كما الجُردانِ…

**

فليعلم:

قأنَّ تشرُّدي ليس ابتلاءاً من أحدٍ..

بل تطاولتُ بالرَّقص مع الإمبراطور

وعيني زاغتْ في مقصورة الأميرة…

قالوا:

هذا مارق…

هذا سارق..

لتنصب  لهُ المشانق

وتطرق له الطرائق…

حرروا الجنود من الخنادق….

صففوا رجال البيارق..

امسحوا دموع الأسرى …

واتركوا أبواب القلعة بدون حرس اليوم في القصر حصل طارىء….

**

فليعلم:

لقد هاجمني صيَّادُ الذكرياتِ

وأخذ منِّي حُلمي

كسَّر قلمي

شتت حزمتي  …

وراحَ منشغلاً برثَاءِ الكرامةِ ..

لقد داهمني شيطان طفولتي بالليل وعزمني الى ماخور الكلاب ..

ترادف على حالي البلاء ..

فخطف منِّي ظلِّي ..

آخرَ سهدي..

أخذَ استعاراتي والصُّورِ…

وراح هو الآخر يلعق ماء الغديرِ..

فليعلم:

أنِّي لستُ قطاً بقرب مدفئة ولا أنتظر ظهور وردة من النافذة…

ولا بريديّاً مصحوباً بالهدايا..

قاموس ميلادي مثخمٌ بالأعطاب….

تكفيني عينُ الشَّمسِ…

ولم يشخ مزماري حتى الان…

في قُبِّ جلبابي  وأدتُ الوراء ..

قال  أبي:

اخلع جلبابك ونم طويلاً ياطويل الجّبهةِ…

قلت:

أنامُ ووسادتي أثقل من الحاضرِ..!

قال:

كسِّر المصابيح والمزهرياتِ

وكؤوس الطِّلا

ونمْ

قلت:

وكيف ينامُ من تجرُّه الأطيافُ الى عدن…؟

***

عبد اللطيف رعري

 02/03/2023

كل الأشهر تتشابه وكأنّ لعبة التعاقب لم تفض الى حال.. في مستودعٍ للأموات ضاعت منّي بوصلتي … الحيطان تتشابه ..الممرض الوحيد هنا بسحنةٍ داميةٍ…دائم العتمةِ….كل الناس

تعرفهُ بقسوته وتطيّره …وحدي بسوادٍ مطلق ..مهمتي ملأ الفراغات بامتياز. ..دخل من دخل وخرج من خرج…هذا يضمر وجهه ، والآخر أتلف القبلة..أنا أجهل كل الممرات…لا تأشير ولا تفسير ..ولا من يشُدُّ بيدي الى الخارج…تتعالى الصرخات… ويتعالى الألم .. تعصبَّ الجميعُ..قلت لنفسي هذا يوم حزين…! رنَّ هاتفي  فقفزت مذعوراً ،إنَّه مدير الوكالة ،يأمر بانسحابي فوراً من بوابة المستودع ..مخافة انهياري أمام الملأ…

 

فتنته الزهرةُ ذات الحمرة الفاقعة، هام بها كما هيام عشقه الذي أسرى بروحه المغرمة بتلك التي صار يلهج باسمها.

بات يحاكي نفسه بحثا عن أقرب فرصة للوصول إلى روحها التي لم تدنُ بعد إلى خياله العاشق.

أخذ يتحدث إلى الأغصان المتدلية، متأملًا الفراشات المنتشرة بين أريج الوريقات المتوجة بالألوان، ليته يجعل من ذلك الزهو جسرا إلى قلبها الذي لم يشدُ استجابته بعد.

جلس عند دفئها المستدير متناغما مع أحاسيسه المتيمة، دنا قريبا، همس ببطء شفيف في عروق اجزائها المتربعة، أحس بالتوهج، سرت رعشة خفيفة بين خباء تركبها الندي، أطلقت حسراتها انتابها الأسى، دب فيها شعور بالوجل، حاولت أن تحتج، لكنها سرعان ما وجدت نفسها مذعنة لأصابع باغتت تماسكها العالق، بينما تفقعت أطرافها المتدلية عبر دموعها التي جرت بحرارة شجية.

عادت تلومه بحزن مذكرة إياه بأطياف بريقها المشع

عند فضاء شرفته، بكت مواسية لحظة اقتطاعها، استأثر المكان بالفجيعة. استفز مسامعه نداؤها الشاجن، أدرك عبره أنه استأصل عطر رقتها الحنون.

فكر مع نفسه طويلا، انتابه الغم، استرسل مع أفكاره، أصبح يحاور أوجاعها بعد أن أضحت بين يديه،

أوعز إلى نفسه أن يفلح بإهدائها لتكون رابطة بينه وبين من أحبها.

اقتربت الفتاة، استأنفت مشيتها، تهيأ الجميع للمحاضرة المقبلة، باتت قريبة إليه، ارتجفت الوردة، حاول أن يمسك بها، لم تلتفت إلى ندائه الخفي، حاول أن يناديها باسمها، تثاقلت قدماه، أراد أن يمسك نفسه دون أن يفلح، سقطت الوردة بعدها مغشيا عليها تحت أقدام من لم تكترث له، أدرك أن الفتاة لم تبادله ما يشعر به، أحس بالاعياء، ارتدت الزهرة ثوب الحداد.

***

عقيل العبود

...................

- الخباء أوالكربلة: الجزء المؤنث من أجزاء الزهرة.

الى روح صديقي الشهيد الفنان التشكيلي

 أَمير الشيخ

***

الشهداءُ

نزيفُ الأَرضِ

الشهداءُ

قناديلُ السَماءْ

**

الشهداءُ

قلوبُ الآباءِ والأُمَّهاتْ

والشهداءُ

دموعُ اليتامى والأَرملاتْ

**

الشهداءُ

شهودُ الحروبِ والهزائمْ

الشهداءُ

رواةُ المسكوتِ عَنْهُ

والتاريخِ الدمويِّ الكاذبْ

**

الشهداءُ

ليسَ هُم القَتلى المَغدورينْ

الشهداءُ

هُم الذينَ يرثونَ الأَرضَ

وجنائنَ اللهِ الموعودة

**

الشهداءُ

ليسوا خونةً

الشهداءُ

ضمائرُ أَوطانٍ

وشعوبٍ مقهورة

**

الشهداءُ

نزيفُ الذاكرةِ

وقرابينُ البلادِ المهدورة

**

الشهداءُ

هُم الخالدونَ الابديونْ

ونحنُ ضحايا الطُغاةِ

والخوفِ والقهرِ والجنونْ

**

في الشرقِ النائمْ

والمظلومِ والظالمْ

الشُهداءُ مُجرَّدُ أَمواتْ

وفي فراديسِ السَمَواتْ

هُمْ ملائكةُ الحكمةِ والرحمةْ

وهُمْ جنودُ اللهِ والقياماتْ

**

الشهداءُ

ليسوا ضحايا التُرابِ والخَرابِ

وأَوهامِ وحماقاتِ الجنرالاتْ

الشهداءُ

حُرّاسُ خزائنِ السماءِ

وبُسْتانيو فراديسِ الأَبديَّة

**

الشهداءُ

ليسوا ملوكاً ولا سلاطينْ

الشهداءُ

فقراءٌ وطيّبونَ ومساكينْ

والشهداءُ

أَطفالٌ وملائكةٌ وأُمراءْ

وأَنتَ واحدٌ منهم:

صديقي " الأَمير" المُتوهّجُ

بالحبِّ وطقوسِ اللونِ

والكونِ والعطرِ والبهاءْ

***

سعد جاسم

ويدٌ تلوحُ من بعيد

أم انها يدُ الغريق

*

العمرُ يلهثُ في سباقٍ

وله عويلٌ وشهيق

ونثارُ أيامي شظايا

على طولِ الطريق

*

الذكرياتُ صدى تلاشت

صورٌ ملونةٌ

خبا فيها  البريق

للهِ دركَ كم وفيٌ أنت

يا حزني الصديق

*

نحنُ أرتفقنا الدربَ من أولهِ

ثم افترقنا عند مفترقِ الطريق

لا أنتَ بعد الآن تأنسُ رفقتي

ولا أنا يا صاحبي في جعبتي

شئٌ كثير فأطيق

*

يا صاحِبي

كم قد ضَحِكنا او بكينا

وفرحنا أو شَقينا

فأرقصْ لي اليومَ  واطربني

فأنا حرٌ طليق

*

هاكَ خذْ اغلالي وقيدي

وتعالَ نتبارى

فلنا الكأسُ المعلى

ولنا الخطو الوثيق

*

يا صاحبي

إياك أن تندم أو تأسى

فها نحن وإياهم سواء

يومان:

هما كل الحياة

يومٌ قريب ورحيب

وآخرٌ بعيد وعصيب

*

أقدامنا نحنُ

مدماةٌ حفاة

لكنها كالطودِ ثابتةٌ

وطيدةٌ لصقَ الطريق

على الصراط المستقيم

أما هم يا ويلهم

ستنزلقُ أقدامهم بدموعنا

يهونَ كالأحجارِ

في وادٍ سحيق.

***

صالح البياتي

انتشرت في نداء بعيد

لعل المدى يضج بأغنيات اللقاء

كان الصدى خريفا..تزوبع في ذاكرة الوجد

حتى الطريق الذي سلكت

حين غادرْتَ قلبي الموصد على المرارة

لم يفض إلى شجر أو مسافات

تعترش فيها الدجى

وتفرد فيها السنونوات رجفتها

*

وجدتني بين قصائد عارية كالليل

عند آخر السطر..تتهاوى انفاسي

تسقط أشكالي وما أوتيت من صدود

في دهشة مثلومة

على مرأى الكبرياء تتقافز ..زبدًا

يبدده الصمت.. واليقظة الحارقة:

هنا صورة للبحر

يحمل ما وهن من أمواج

ما أعياه الترقب من صدفات

يدخل قيود الرمل

على الملمح دمعة انكسار

*

هنا ظل غجرية

يتسلل نحو أحراش النشيد

يقنص المتاهات

وما سقط سهوا من الجمل الآبقة

*

كيف يصير السيسبانُ المرُّ

فاكهة العشاق؟

كيف يصير جسرُ الموت أرض لقاء؟

وكيف يُعد الانهيار

منازل لما تشرد من نبضات؟

*

سأستلُّ سيف الحنين من أضلعي

رغم ما في الروح من متاريس

وأرحل دون مراسيم

فقد كانت الرؤيا

أصغر من مرثية الحلم!

***

مالكة حبرشيد

 

 

لم ندرِ ماذا تضمرُ الأقدارُ

طلعَ النَّهارُ ولم يَعدْ يا دارُ

*

ما زلتَ تحلمُ بالرجوعِ وقد مضى

عامانِ، لا طيفٌ، ولا تذكارُ

*

أشكو إليكَ الحالَ،  وهو ممزقٌ

وأَنا على الحالينِ  قلبيَ نارُ

*

اطلقْ سراحي، تهتُ فيكَ مدائنا

وبقى يجاورني الهوى الدَّوارُ

*

أشكوك ماذا؟ كلُّ شيءٍ سائلٌ

وأنا جوابٌ صامتٌ محتارُ

*

يا ويحَ نفسي كيفَ  بتُّ مكتَّمًا

وأَنا الذي ضاقتْ بيَ الأسرارُ

*

أَنساك، لا أقوى، هواك ربيعُنا

فمتى يعودُ الماء والأطيارُ

*

ساءلتُ عنكَ الغيمَ، قال: غمامةٌ

ستزولُ مهما  طالتِ  الأَسفارُ

*

ويعودُ ذاك الوجهُ أسمرَ مشرقاً

وعليهِ ملحُ الأرضِ والأنوارُ

*

وتفيضُ من حولي جوابي ربعِنَا

وغناءُ راعيها عليكَ مدارُ

*

لكنَّهُ حلمٌ ولستُ مبالغًا

إنْ قلتُ ليلي ما إليهِ نهارُ

*

يا أيُّها الوجهُ الذي  لازالَ عنـ

دي ساكنًا، ما دارتِ الأقمارُ

*

اطلقْ سراحي، ليسَ مثلي صابرٌ

من أين تُقبلُ أيُّها المدرارُ

*

أرجوكَ عُد قلبي يفيض صبابةً

لا أهل  من حولي ولا أَنصارُ

*

يرضيك أنِّي  ألتظي بأوارها

والماءُ غادرني ولا أمطارُ

*

سُحقًا لعمرٍ ينقضي بمصيبةٍ

وتموتُ في قيثارتي الأوتارُ

***

د . جاسم الخالدي

لم أختر مكاني قرب النافذة، حيث كان ضوء الشمس في صباح ذلك اليوم الخريفي، يخترق الزجاج، ليملأ الصالة التي تضج بالمدعوين.

لكني وجدت نفسي مرغمة أجلس هناك، في تلك الزاوية حيث لم يكن ممكنا سوى مشاهدة جزء من وجه الشاعر ذا العمر المتوسط وهو يلقي قصائده ويتحدث عن تجربته في الشعر ويستمع لملاحظات الجالسين. في الحقيقة كانت القصائد مملة جدا. ربما أنا وحدي لم أفهمها! لقد أخفقت تماما في اكتشاف ماذا يريد أن يقول الشاعر.  ولوهلة شعرت بالغباء. أخرجت هاتفي لأدفع الملل. لاحظت أن ثمة دائرة بيضاء مشعة صغيرة تتحرك على الجدار مع حركة الهاتف، بدا ذلك الإنعكاس مبهرا حقا، وكانت اللعبة مسلية  وسط أجواء السأم تلك. كنت أحرك بقعة الضوء بالطريقة التي أحب، صعودا وهبوطا، يمينا وشمالا، حتى إني كتبتُ على الجدار بضعة  كلمات، ورسمت شجرةً وحمامة وفتاة تلعب بالحبل وعشبا ونجوما.. وكدت أرسمُ صمتا عميقا لولا أن آهةً ندّتْ من فم الشاعر.  وغمرت المكان لحظة صمت مفاجأة قاسية، أعقبتها همهمات رافضة غاضبة وعيون متسائلة منصبة على وجهي، شعرت أنني ارتكبتُ إثما مريعا، وسوف يتم إلقاء القبض عليّ بتهمة إرباك الشعر. لقد انزلقت بقعة الضوء إلى عينيّ الشاعر تماما. كان هناك جالسا على كرسيه، يضع يديه على عينيه ويتأوه، حوله الكثير من المتعاطفين، وقد سكت الشعرُ تماما في ذاك المكان، وحلتْ بعض الفوضى، حتى بقعة الضوء نزلت للأسفل بخجل. كان كل ما أفكر فيه هو الإختفاء، والهرب، هكذا أنتشل بقعة الضوء وأتلاشى بعيدا عن هؤلاء. لكني لم اتزحزح عن مكاني، أدركت خطورة الهرب آنذاك، وقررت تجرّع الشعور بالعار. كنت ساكنةً في مقعدي. أنتظر أن يتحسن الشاعر ليهدأ الجميع، ومع عودة كل شيء لسابق عهده، سأنسلّ للخارج بخفة.

عندما زادت حدة التأوهات، قلقت فعلا، حتى إني لم أستطع السيطرة أبدا على نبضات قلبي المتسارعة، فقد كانت النظرات الغاضبة تجلدني كلّما إرتفع صوت الشاعر. لقد عزموا على طلب سيارة الإسعاف. بدا الأمر خطيرا، قال أحدهم (قد يفقد نظره)!  يا للهول! سيحاكمونني ويزجون بي في السجن. كانوا لا يزالون حوله يتكلمون بصوت عال وقد تباينت الآراء. هاتفي كان لايزال في يدي، أما الشمس فهي أكثر سطوعا من قبل، تخرق زجاج النافذة بكلّ بهاء.

لملمت قوتي المتناثرة وكبريائي الذي جرحته النظرات الناقمة، ورحت أحرك الهاتف بجميع الإتجاهات. كانت نقطة الضوء المذهلة تتحرك على وجوههم بشراسة وبلا رحمة، وأصواتهم تتعالى، فيما كنت أنا أتراجع حتى غابوا عني وخَفتت أصواتهم وتشظت في الفراغ.

تنفست بعمق وكنت وحيدة إلّا من بقعة ضوء ترافقني.

***

تماضر كريم

 

 

لفظتها القرية كما لفظت مثيلاتها ممن صرن على هامش الحياة، وقد ضاق بها جفاف الدوار وقسوة الأهل وذئاب الليالي.. أو ربما هي من لفظت الدوار هروبا من ذئاب انقضت على أمها وقد تعوي خلفها ذات يوم، ثم دخلت المدينة طفلة في عمر الزهور، ابنة الرابعة عشرة ربيعا، بعد قتل الأب في معركة انتخابية مدروسة، وهو الذي كان من الممكن أن يحميها من ثعالب الردى لو ظل حيا، وما بقيت الا الام التي أرخت الحبل واستسلمت بعد مقاومات شديدة، وسلمت نفسها بدءا من قائد المنطقة بعد أن رآها تقطع الطريق الى الساقية لجلب الماء..

انبهرالقائد بجمال أمها.. وكأنه استكثر على قرية منسية، قست عليها الطبيعة و تحجرت عنها دموع السماء أن تنجب أنثى بجمال أمها..

أنثى لا تتعدى الثلاثين، وجه قمحي وحاجبان رفيعان اصبغا على العينين الواسعتين جمالا أخاذا فوق أنف خناسي وقد رياضي متناسق، ورغم ما ترتديه من ثياب فضفاضة فقد أعلن النهدان من داخلها تهاليل التسبيح في شموخ صارخ..

ثم ما لبث القائد أن بدأ يتسلل بليل بين حين وآخر الى كوخهم تحت جنح الظلام، يختلى بأمها، وقد عاينت من شقوق الباب كيف أخذ في اقناع أمها تارة بالتهديد وأخرى بالسجود تحت اقدامها ذليلا حقيرا عبدا لشيطان نزوته الى أن تعرت له وكان ماكان..

هكذا صار القائد كلما قضى الليل في بيته القروي أو تعمد أن يقضيه، وحمد سراة الليل، تسلل كلص الى الكوخ، فيبيت بين أحضان أمها، بعد أن يكون قد أرسل قفة فيها كل ما لذ وطاب مع قاضي حاجاته وكاتم أسراره، ثم لا يغادر قبل الفجر حتى يترك ورقة نقدية زرقاء..

كم احتقرته الطفلة وثيابه تنشر عطرا خلفه ثم يخلعها ويرميها على افرشة من تبن وسخة، فيتعرى حيوانا يقتات من أنثى قهرها الزمان وصيرها كجيفة صيد بلا كرامة، جمالها وحده يعلن عن وجودها ككائن يعيش على رقعة ارضية غير نافعة، لا تحظى بدعم، ثم يغادر وقد احتفظ فراش التبن ببقايا عطره..

كثيرون هم شباب القرية الذين حاموا حول أمها طلبا للزواج لكن ما ان رأوْا كلب القائد يحمل فتات القائد الى كوخها حتى تواروا، فأمها ليست هي الاولى التي طوتها يد رجل سلطة يتم تعيينه بالقرية، لكن الساقطات في براثن الاطماع كن أغنى وأيسر عيشا من أمها، بل منهن من كن أمهات متزوجات جنى عليهن جمالهن وهو ما تهبه طبيعة القرية لنسائها بسخاء..

ذات ليلة وقد خلا القائد بأمها جمعت الطفلة من البيت القليل مما خف، وتسللت خارج الكوخ، سارت بمحاذاة سكة القطارالى أن بلغت موقفا اختياريا ؛ركبت القطار، ثم نزلت عند أو ل محطة في المدينة..

كان الليل عند وصولها قريبا من ان ينزع عنه عباءته السوداء، احتمت تحت سقيفة أحد المتاجر، حذرة متيقظة، منتبهة، وما أن بزغ الفجر حتى يممت نحو سقاية ماء، غسلت وجهها ثم قصدت امرأة تبيع الحريرة، سمعت من أتوا بعدها ينادونها:أمي خدوج، قرفصت بجانبها وطلبت زليفة حساء، ظلت امي خدوج وهي احدى العيون الخفية للسلطة تراقبها.. اذ لأول مرة ترى الطفلة من بين زبنائها، فهي ليست من بنات الحي ولا يمكن أن تكون تلميذة ممن يقصدنها لتناول الحريرة صباحا قبل الذهاب الى المدرسة، كما لا يمكن أن تكون خادمة، فلاخادمة تستطيع الخروج في هذا الوقت.. ما أن انهت الطفلة حساءها حتى سألتها أمي خدوج من تكون؟ ومن أين أتت؟ وكأن امي خدوج قد فجرت سواقي من عيون الطفلة التي وجدت نفسها عزلاء من اي حب او حماية، شرعت تذرف دموعا حارة و من صدرها تتصاعدغصات ألم وكأنها قد فقدت شيئا أو سرق منها أحد شيئا ثمينا. قالت أمي خدوج:

مابك؟ قولي، لا تخشي شيئا.. هل لك أم؟ أين هي؟

هل سرقت شيئا فطردك اهل البيت في هذه الساعة؟

ضمت امي خدوج الطفلة الى صدرها بعد أن علا نحيبها عساها تهبها قليلا من الطمأنينة، ثم أدخلتها من باب خلفي الى بيت صغيروقالت لها:

الآن نامي، ونتحدث بعد انهاء عملي..

لم تستغرب أمي خدوج مما روته الطفلة عن قتل أبيها إثر معركة انتخابية، عن كلاب الردى كيف اسقطوا أمها وقد كان جمالها وباء عليها، وكيف كان الألم يعصرها وأمها قد استحلت ماصارت اليه، فجعلت منه حرفة تقتات منها، ورغم ما في حديثها من حرقة فهي لم تذكر الاسم الحقيقي لقريتها، ولا من اسقط أمها، او توحي اليه بلقب، فقد كانت حذرة لا تعرف ماقد يصادفها..

تمعنت أم خدوج في الطفلة، وقد أدركت بخبرتها أن ملامح من جمال طاغ قد يبرز بمجرد أن تستقيم حالاتها، فهي كما حكت عن أمها صورة منها وربما تكون أجمل وادق، لم تفكر أن تشغلها معها لانها تخشى المستقبل، ولم تستطع أن تتركها لمصيرها لان متشردي الليل قد يجدون فيها ضالتهم.. قالت لها:

ستبقين معي، الآن ساعديني الى أن أدبرلك مكانا تستقرين فيه..

كان تفكير أمي خدوج منصبا على رجل سلطة، يمتلك إضافة الى وظيفته معملا للتصبير سبق لها أن اشتغلت فيه قبل أن تصاب بالربو وتغادرالمعمل؛ ابلغته الخبر عن طريق احدى عيونه فما لبث ان أرسل سائقه وأخذ البنت تلبية لرغبة زوجة رجل السلطة بعد وضع عطية في يد أم خدوج من صاحب المعمل..

دخلت الطفلة بيتا جديدا ماتعودت ولا حلمت أن ترى مثله، بين عيونها تبدت حياة غير حياة القرية بكل أوساخها وحنظل ناسها الذين لا يقلون رتبة عن البغال والحمير، حتى من أتوا لحراستها والنهوض التنموي بها، حولوا سكانها عبيدا يستصغرون الرجال ويستحيون النساء لملذاتهم..

هي الان قلب منزل كبير هو واقع آخر لحياة أخرى، القائد الذي أسقط أمها في حبائله أحد امتداداتها، جعل أمها في القرية واحدة من آلات ترضي نزوات الكبار، تبني مستقبلهم وتشيد قلاع سعادتهم.. لكن لماذا تتصاغر نفوسهم أمام نساء وسخات لاتفوح منهن غيررائحة أدخنة الافران، وغوث الزرائب؟.. حارت أفهام الصغيرة وهي تقارن بين حياة كانتها وأخرى دخلتها..

تسلمتها زوجة صاحب البيت وهي امرأة وديعة مربوعة القد، تحسس المتحدث اليها اعتزازا بالنفس بلا كبر، ذات وجه بشوش يوحي بالاحترام، لا يخلو من مسحة جمال، سألتها عن اسمها، عن أهلها وذويها، ثم أنهت كلامها:

مرحبا بك على شرط ان تكوني بعقلك، عين مغمضة وفم مسدود..

كانت الصبية ترد بخجل، رأسها مركوز في الارض وعيونها تمسح أقدام سيدتها:

ـ اسمي نجلاء، ابي ميت وأمي بلا عمل في البادية..

حركت صاحبة البيت راسها اسفا في لطف يكشف أعماقها الطيبة وقالت:

اسم جميل لوجه أجمل، مرحبا بك..

نادت صاحبة البيت امرأة باسم زهور، نزلت من الطابق الثاني ونصحتها بنجلاء خيرا..

نزلت بها زهور الى قبو تحت أرضي به غرف صغيرة كل غرفة بسرير وخزانتين، واحدة صغيرة عليها مذياع، ثم قالت لها: هذا القبو هو بيتنا جميعا، ثلاث غرف صغيرة الطباخة وانا والثالثة صارت لك مسكنا..

كم كانت غبطة نجلاء كبيرة، سرير عصري نظيف وغرفة لوحدها، ومذياع.. حمدت الله في سرها، ستنام في بيت أكثر راحة وأوفى نظافة مما يبيت فيه القائد حين يزورأمها.. ركبتها غصة على قوم اعطاهم الله نعما فنفروا منها الى اعتناق الحرام ومذلة النفس..

أدخلتها زهور حماما بعيدا عن الغرف واهتمت بحك بدنها بليفة خشنة سوداء ثم بأخرى لينة مع صابون سائل.. لأول مرة تتنسم نجلاء رائحة زكية تفوح من جسدها بعد حمام ساخن، أحست بانتعاشة قوية تسري في بدنها..

سلمتها زهور وزرة صفراء جديدة ثم عقدت لها ظفيرتين طويلتين من شعرها الغزيرشدتهما وسط راسها ؛ عند الخروج وجدت نعالا رطبة جلدية فانتعلتها.. قالت لها المرأة بعد أن سلمتها منديلا مزركشا للرأس:

ـ الراس عار ممنوع، ظهور الشعر اثناء العمل ممنوع، المشي بلا نعال ممنوع، كل مانراه لايمكن أن نتكلم به مع أي كان، مهمتنا نحن جميعا هنا تنفيذ الأوامر والطاعة لاهل البيت ومن يحل بينهم من عائلة وضيوف..

كانت نجلاء تسمع، وتحرك رأسها بالإيجاب..

طيلة الأسبوع الأول ونجلاء مندهشة لماترى، كانت تنفذ ما يطلب منها بمهارة نابعة من ذكاء وفطنة، وقد ساعدتها ذاكرتها القوية على ان تختزن الكثير من التعليمات والوصايا بلا تكرار من زهور..

صارت كل غرفة تدخلها في البيت تتملى محتوياتها وتدقق النظر في أركانها، حتى اذا كلفت بعمل في إحداها أنجزته بلا تباطؤ أو خطأ، وما كانت تتكلف به ليس كبيرا، جمع منفضات السجائر ان وجدت، نفض الوسائد، ومسح الغبار عن الطاولات، وأحيانا مسح بلاط الأرض بمكنسة كهربائية ومادة معطرة كانها شحم ذائب، ولا تخرج من مكان حتى تأتي زهور لتراقب ثم تصدر أمرا آخر..

كانت الغرف بالنسبة لنجلاء كأنها بيوت الملوك كلها رخام وزليج مختلف الألوان والاشكال والأحجام، حتى سلالم الادراج الموصلة لكل غرفة مغطاة بزليج مربع صغير من الأرض الى السقف، أما الأرض فهي عبارة عن مربعات رخامية متقاطعة بزليج أسود، في حين أن السقف كله تخريقات خشبية أو جبسية الا بعض غرف النوم الصغيرة وحدها مدعمة بأعمدة خشبية مخروطة الحافتين، أغطية الافرشة كانت من أثواب لم يسبق أن رأت مثلها، حين سألت عنها زهور قالت: الغلاف الأول هو التلامط من الموبرا وما فوقه نسميه اللحوف، اما في الصالونات فالتلامط من الخريب، او البهجة، الوسائد الكبيرة منها المزركشة بطرز الغرزة والتكرير، ستائر الأبواب نسميها الخوامي وهي تشكيلات من جوهرة وموبرا و خريب و بهجة..

كانت زهور وحدها مكلفة بالبقاء اثناء أكل أصحاب البيت قريبة من غرفة الأكل اما نجلاء فتنتقل الى المطبخ لتساعد الطباخة في ترتيب الاواني الى حين انتهاء زهور فيجلس الثلاثة للغذاء ثم تنزل مع زهور الى القبو بلا حركة خصوصا اذا كان صاحب البيت موجود ويفضل أن يقيل بعد الغذاء لفترة طويلة لأنه قلما يعود في أول الليل وأحيانا لا يعود..

كم سالت نفسها من يكون صاحب البيت، فهي قلما تسمع بوجوده، كم مرة همت ان تسال زهور لكن امام الممنوعات التي نبهتها اليها منذ اليوم الأول كانت "تنكتم"، سوى ان الطباخة سالت زهور ذات يوم، هل وصل القايد؟

يتغير نظام البيت حين يحل به ضيوف، وكانوا لا يأتون الا بليل، فكل ما يقدم يتكلف به ممون خاص يرافقه خدم من نساء ورجال، تبدا السهرة بالمشروبات والفواكه الجافة، يتلوها العشاء ثم تصفف موائد الخمور والطرب، كانت نجلاء تراقب من بعيد..

وهي واقفة عند مدخل صالة الحفل بأمر من زهور وصل الى اسماع نجلاء همسات من غرفة صغيرة تقع على الأدراج المؤدية للطابق الثاني (قوس)، خشيت ان يكون أحد أعوان الممون قد تسلل اليها، اقتربت من الباب لتسترق السمع قبل أن تبلغ زهور، كان الصوت لرجل وامرأة ؛قالت المرأة وكأنها تتمم حديثا سابقا: وهل معنى هذا ستتركه ليدخل السجن، أنسيت خيره الماضي فيك؟

رد الرجل: لم أنس لكن كل بثمن.

قالت المرأة: أنا معك ماذا تريد أكثر؟

قال الرجل:أنت لي لا انكر ومتى شئت.. لكن العقدة ليست في يدي، يلزم تدويرة لمن يحلها ولن يقنع باقل من خمسين مليونا..

قالت المرأة جاتك.. متى ساراك؟

لم يكن صوت الرجل غريبا عن نجلاء وقد تيقنت بذكائها أن الحديث ليس بين أعوان الممون فالحديث فيه مساومات مادة وعرض.. تنحت الى مكان قريب وظلت تراقب من سيخرج من القوس ؛ولأول مرة ترى صاحب البيت، لم يكن غير القائد الذي لن يلتبس عليها صوته أو تغيب عنها صورته وهو متوسل راكع أمام أمها، نفس الصوت الذي كثيرا ما تناهى اليها وهي في القبو، فهو من كان يساوم المرأة التي لم تكن غير زوجة أحد الشباب الحاضرين في السهرة والذي كان مستغرقا في حديث مع صاحبة البيت داخل صالة الحفل، اهتز قلب نجلاء من ذهول، وأحست بغشاوة على عينيها..

"أي قدر ساقني لأجد نفسي في بيته ومع أهله؟"..

اخترقت خياشمها رائحة عطره والذي كثيرا ماخلف اثره على لحاف التبن في كوخ القرية، كيف لرجل يملك كل هذا الثراء، أن يطمع في امرأة قروية في دوار منسي لاحول لها ولاقوة، لباسها خرق، وفراشها من تبن ضمخته الرطوبة.. وها هو اللحظة يساوم غيرها وكأن يداه سطوة عليا تطويان الكل بإرادة من حديد. !!. جلست نجلاء على احدى الادراج وشرعت تبكي.. رأتها زهرة فأقبلت اليها:

ـ مابك نجلاء، هل تعبت؟ يلزم ان نصبر، هذه لحظات عمل لالحظة بكاء، انتبهي جيدا، افتحي سمعك وبصرك..

وقفت في مكانها وهي تردد مع نفسها:

فتحت.. لا ادري ماذا وجد القائد في أمي؟ ماذا اثاره في رائحتها؟ كيف يترك انثى بأناقة زوجته ونظافتها ومساحيقها، نسبها وغناها ثم يطمع في امرأة لا حول لها ولاقوة، يخرجها من طهرها الى نجاسته، أهو طغيان الغنى وسطوة جبروت الكبار أم شيء آخر لم أدركه؟

والوسخ، وروائح روت البقر، أهي كذلك تدخل ضمن شهوة التسلط؟ !!.. أن يساوم القائد زوجة صديقه أو قريبه فهي من "سهمه " ومستواه لكن أن يركع تحت اقدام أمها ويستمتع بها وهي عبقة بروائح روت البقر وأدخنة موقد الحطب وعرق القرية، فهذا مرض وأي مرض !!..

لم تنم نجلاء ليلتها، حاولت زهور أن تعرف السبب فلا تزيد نجلاء عن القول:

تعب اصابني و معه صداع قوي..

بعد أزيد من ثلاثة اشهرعلى رؤيتها للقائد، ، كانت نجلاء صاعدة من القبو حين واجهته مقبلا من الطابق الفوقي نازلا الى الطابق السفلي، انفزعت، واهتز قلبها حتى أوشك ان يغمى عليها، بسرعة تراجعت و استدارت الى الجدار حتى لا يرى لها وجها، ظل واقفا يتابع حركتها، وما لبث ان صاح بها وكأنه يصدر أمرا عسكريا:

التفتي بوجهك الي !!.. من انت؟

بسرعة استعادت نجلاء وضعه وهو ساجد تحت اقدام أمها يتوسلها ان تتعرى له.. حقير ضعيف لا يملك الا صوته وعينين ضيقتين كعيني ذئب تنفتحان بمكر عند الغضب، صورة لا يمكن ان تمحى من ذاكرة بنت مراهقة، قتلوا أباها لهدف انتخابي وقتلوا عفة أمها بان أرغموها على التنازل عن شرفها، كل الاحقاد تجمعت الان في عيون نجلاء التي رفعت رأسها وصارت تنظر الى القائد بنوع من التحدي حين أعاد سؤاله بصوت أقوى من المرة الاولى، حتى بلغ الى مسامع زهور وهي في الطابق الفوقي فاتت مهرولة تستخبر ما وقع، ظلت واقفة في اعلى السلم تتابع الوضع، احست نجلاء وهي ترى نصف جسد زهور في الأعلى بشجاعة وقوة دافقة في ذاتها فردت عليه وعيناها مغروستان في عينيه: خدامة لآلة..

نزل درجين حتى صار قريبا منها وقد اثاره قدها وجمالها ثم قال:

هنا كاين سيدك ماشي لالاك..

زاد منها اقترابا فمد يده وأمسك حلمة نهدها بأصبعيه كمن يريد سحقها وقال:ماذا عندك هنا؟

صاحت نجلاء من ألم، ولم تدر الا ويدها مرفوعة في الهواء ولطمة قوية تنزل على وجه القائد !!..

بسرعة ركلها برجله ثم نزع حزامه من وسطه، وظل ينزل على نجلاء بقفل الحزام بضربات قوية على الرأس والكتفين وقد تكومت في ملتقى الأدراج، نزلت زهور وهي تتوسله ان يرحم البنت من ضرباته فقد يقتلها بعد أن رأت دماء رأسها تفور؛وكلما توسلت زادعنف القائد أكثر؛أقبلت الطباخة تهرول وهي تستغيث بسيدتها التي لاحت من بهو الدار تستطلع ما يقع منبهة زوجها:

ـ كفى هل تحلم نفسك في "حبس قارا "؟ماذا فعلت البنت لتنال هذا العقاب منك؟

تراجع وحاول الانسحاب أمام صيحة زوجته وحضور خدم البيت خوفا من ان تتطور الأمور وهو يقول:

سأعود الليلة ولا اريد ان اجدها هنا وسيظل حسابي معها عسيرا..

بسرعة خرج وهو يلف حزامه على قبضة يده..

مدت صاحبة البيت يدها الى نجلاء، احتضنتها ثم قالت لها تعالي معي اريد ان اسمع ما وقع بالتفصيل بعد أن اضمد جروحك..

لم تبك نجلاء او تسمح لدموعها بجود، لكن مع الم السوط على وجهها وكتفيها ورأسها ودمها السائل، وبين انفاسها الصاعدة النازلة كانت حائرة هل تبوح بالحقيقة ام تطلب مغادرة البيت، في كل الحالات لابد ان يطولها القائد ولو عن طريق أحد كلابه، ولن يكون عمرها طويلا، خادمة تصفع القايد فهذا قمة التطاول على الأسياد، تستلزم القتل، اما و ان يخضع القائد أمها لنزواته وان يكسر شرف القرية بكاملها فذاك حق من حقوقه..

لا لن أصمت، كلنا أبناء تسعة أشهر، سأفجر الدلاحة وليكن ما يكون، لكن هل تصدقها صاحبة البيت؟وهل تشهد زهور بما رأت وتابعت من بداية الواقعة؟لا احد يرمي نفسه في جهنم، زهور قبلها هنا وتعرف كل شيء عن اصحاب البيت، وهم واثقون منها مؤتمنة على أسرارهم، فكيف تشهد لصالحها، تقطع رزقها وتعمي عينيها بأصابعها !!.. لم يعد لها شيء تندم عليه، منها ضاع الأب بقتل، وضاعت الام بفساد أخلاقي وسمعة سيئة، وضاعت القرية بإهمال حتى صار رجالها يتابعون نساءهم وهن يقتتن من أرحامهن ولا احد يحرك ساكنا جبنا وخوفا، ومن جبروت سلطوي، ما بقي لها شيء تندم عليه.

ظلت صاحبة البيت تنتظر ان تهدا نجلاء بعد أن توقف دم رأسها ثم عاودت سؤالها، ماذا وقع بالضبط؟

روت نجلاء الواقعة بصدق وقد تفاجأت من زهور بعد ان سألتها السيدة:

هل رأيت شيئا مما وقع؟

اتي رد زهور:من الاول الى الختام وما قالته نجلاء صحيح !!

قالت صاحبة البيت:

هذا حدث يجب ان يموت هنا وسأعرف كيف أعالجه مع زوجي..

انبرت نجلاء وفي محاجرها تجمدت دمعات:

الحديث لو انتهى هنا فسيظل يجر في قريتي ذيولا، جروح رأسى والم الضرب لاتساوي شيئا أمام جروح نفسي وكرامة أمي، وروح أبي في قبره..

جحظت عيون صاحبة البيت وقالت:

ماذا تقصدين؟

وشرعت نجلاء تحكي عن قتل أبيها، عن نظرة القايد لامها في الساقية، عن هجومه على كوخهم ليلا و ركوعه تحت أقدام أمها الى أن اسقطها في حبائله، ثم خروجها من القرية خوفا على مصيرها، والصدفة التي جعلت مي خدوج ترسلها الى هنا.. عن حديث "القوس" ليلة السهرة..

وتفاجأت نجلاء و صاحبة البيت تقول:

الان ادركت سر الرائحة، وأدركت سر حبسي بحديث تافه من قبل زوج من كانت مع القائد في القوس !!.. ديوث بلا كرامة ولا أخلاق !!..

نجلاء اجمعي ثيابك وكل أغراضك وسأرسلك مع سائق الى بيت والدي، ولن يستطيع مخلوق ان يمسك بأذى..

أخذت السيدة هاتفها، حدثت أمها قليلا، ثم طلبت أباها بالقدوم اليها..

وجدت نجلاء راحة عند والديّ سيدتها، كما وجدت نفسها في بيت أهله مسرورون بها، مما أصبغوه عليها من عناية لذكائها وخلقها، وقد أحست بعلو نفسها، فاختلاف الطقوس جعلها تتعلم الكثير مما لم تستطعه في البيت الأول، من تحضير تشكيلات متنوعة للحلويات وما تتطلبه من فن وإتقان، وطقوس الشاي وطريقة إعداده، وابداع في إتقان أنواع من الطبيخ الذي استلذه أهل البيت وشجعوها على مزيد من الابداع فيه، وكما قالت عنها أم سيدتها:

ـ نجلاء خلقت لتكون سيدة بيت لاخادمة..

بعد اقل من سنة عادت نجلاء الى مقرها الأول، لتحتفل بسيدتها التي تزوجت رجلا آخر بعد طلاقها من القائد، كان رجلا من اشرف أصول المدينة، ضاحكا بشوشا، وقد قدمت لها زهور العزاء في موت أمها، و أخبرتها ان القائد هو من تورط في قتلها بعد ان ذاع حملها في القرية وبعد شكه أن هي التي أرسلتك للانتقام منه، كما تم الحجز على المعمل الذي لم يكن يؤدي ضرائبه ولا يصرح بعماله وقد تدخل والد سيدة البيت وصاحبته بكل ثقله كقاض سابق مشهور الى ان أخذ القانون مجراه الطبيعي..

تألمت نجلاء لمصير أمها، فقد قضت بنفس مصير ابيها اتحدا في الموت قتلا، واختلفا في السبب، وقد أسعدها ان القرية قد رفعت عنها اللعنة بعد إضرابات شبابها وقومة رجالها، فشرعت تعرف نموا بعد بناء معامل للورق من الدوم كما تمت إعادة هيكلتها كمركز سياحي جبلي..

***

محمد الدرقاوي

 

 

برْحاءُ ضَمَّتْنا إلى برحاء ِ

ومعيشةٌ..

بنا تستبدُّ بأضنك ِالإشياء ِ !

*

وتُلينُ جانبها

لمن عاثوا بنا

واستغفلوا أيامنا

وتقاسموها شطارةً

واستفحلوا..بتجارة ٍسوداء ِ !

*

وتفارقوا بتوافق ٍ

ولكاعة ٍ..

ووضاعة ِ ٍالرخصَاء ِ

*

كلٌّ يزايد باسمنا

ويزيد في أوجاعنا

ويذر ملحاً

كي ينامُ

ولاتــنامُ من اللهيب ِبلادنا !؟

وتظل  دامية الرؤوس تَشُقُّنا

ونظل نخبطُ بعضنا

ليعضنا

ويقودنا

نحو المتاهة ِ

أتفه الأجراء ِ !

*

بَرْحَاءُ آلام ٍ

وإيلام ٍ

وأسقام ٍ

بما لا ينتهي ..!

هل تنتهي ؟

ونعيش يوماً

فسحة  الأمراء ِ!

***

محمد ثابت السميعي

 

 

على جَبلٍ من الأخطارِ كُنّا

تُحاوطُنا حَنافيشٌ ودُمْنا

*

بنا عَبثتْ حروبٌ دونَ جَدْوى

نقاتلُ بَعْضَنا والخُسْرُ إنّا

*

ثلوجٌ مِنْ تَحامُلِها عَليْنا

تُدَثّرُنا بأطنانٍ وعِشْنا

*

تمُرُّ بنا ليالينا برُعْبٍ

كأنّ النومَ قتّالٌ تَجَنّى

*

خَنادِقنا مَغاراتٌ بصَخْرٍ

بها عُمْراً على عُمْرِ حَجَرْنا

*

إلى قِمَمٍ بإجْهادٍ صَعَدْنا

ومِنْ قِمَمٍ على سُفُحٍ دَرَجْنا

*

تُراقبنا عيونُ الرصْدِ دَوْما

وتُرْدينا بما أهْدَتْ إليْنا

*

تَذكّرْتُ المَنايا حينَ طاشَت

تُخبِّطنا بعْشواءِ احْترَنّا

*

نَجيعُ شَبابنا رهنُ انْسِكابٍ

على رَمْضاءِ مَبْقولٍ تَشنّى

*

فكم طاقاتُنا ذهبَتْ لهَدْرٍ

وكمْ خَسِرَتْ بلادٌ أحْرَقتنا

*

نُكرّرُ فِعْلةً ذاتَ انْسِجارٍ

وما تُبْنا ولا مِنها اتْعَظنا

*

تَعيلُ شبابَها نيرانُ شرٍّ

تُحَنّذهم على حَجرٍ مُدَنّى

*

مَطالبهمْ بها أمِنَتْ حَياةٌ

فتحْبطُهمْ عَقابيلُ المُكنى

*

قسائمُ حَتفهمْ تُهْدى لأهْلٍ

وجُثمانٌ يُبعّثهمْ أنيْنا

*

يَديْ خَطّتْ شهادةَ مَنْ تهاوى

إلى حَتْفٍ يغيّبه ُحَزينا

*

يَطيشُ رَصاصُها والقتلُ نَصْرٌ

وما انْتصَرتْ وإنْ دارتْ سِنينا

*

صِراعاتٌ بلا جَدْوى ومَغزى

يُنازلُ غَرْبَها والشرْقُ يَضْنى

*

أحاطونا بليْلٍ مِنْ صَقيعٍ

تأسّرَ بعْضنا والبَعْضُ يَفنى

*

وجاءَ الصُبْحُ يُخبرُنا بصَوْلٍ

ومَعْركةٍ على جَبلٍ فغِرْنا

*

تَساقطَ بَعْضُنا طُعْماً لوادٍ

وسارَ البعضُ مَأموراً مُعنّى

*

تقدّمْ أنتَ مقتولٌ شهيدٌ

كذا صُنِعَتْ حُروبٌ تَشتهينا

*

وَثَبْنا نحوَ مَقتلِنا بجَهْلٍ

تؤازرنا العواذلُ فاحْترَقنا

*

وما بلغَتْ كما شئنا سلاماً

وقد ذبَحَتْ على نزقٍ فَطينا

*

ومنْ رُعُبٍ إلى رُعُبٍ خُطاها

تُمزّقنا وتجْعلنا طَحيْنا

*

جًحيمُ الليلِ في جَبلٍ أرانا

نجوماً ذاتَ نارٍ تزْدَرينا

*

هو الموتُ الذي فينا تَواصى

وحتفُ وجودِنا أضْحى القَرينا

***

فكانتْ جَبهةً فيها انْتِحارٌ

تُبادلهُ الأوامرُ إمْتِهانا

*

تبقّلَ رأسُها فحَمى وَطيْساً

وأشْعَلها وألقمَها ارْتِهانا

*

تَساقطَ جيلُها هَدراً وجُرْماً

فدربُ الموتِ قد أدْمى مُنانا

*

تسجّرَ عَقلها والقلبُ يَشقى

وقاضيةٌ كأرْقامٍ تَرانا

*

بَلغنا بَلغةَ الأرْدى كجَمْعٍ

لتأكُلنا جَوارحُ مُنتَهانا

*

أرى جُثثا مِنَ الآنامِ تَبقى

تُراقبُها لتقتلنا عِدانا

*

فلا أحدٌ يُحاول أنْ يَراها

عَدوٌّ قانِصٌ أشْقى خُطانا

*

خَسِرْنا من سَذاجَتنا رجالاً

وأشبالاً فطاشتْ مُبْتغانا

*

بخفَّيْها رجَعَنا مِثلَ بَدْءٍ

تُسائِلُنا عَواقِبُ مُنْطوانا

*

تذكرتُ المَواجعَ يومَ أجّتْ

على قِمَمٍ توطنَها أسانا

*

حُطِبْنا دونَ ذنبٍ أو لجُرْمٍ

وجَوْهرُنا تطامى مُسْتدانا

*

بها جارَتْ نوازعُ إسْتياءٍ

لسيِّئةٍ تؤمِّرُ مُحْتَوانا

*

لقد ماتوا وعِشنا باغْترابٍ

تُعذّبنا مَواجِعُ مُكْتوانا!!

*

فلا وطنٌ بنا يرقى عَظيماً

ولا شعبٌ تَسامى في رُبانا

*

تقيّحَتْ النفوسُ وما تشافَتْ

ومِنْ دُمَلٍ على بَعْضٍ حَنَقنا !!

***

د. صادق السامرائي

2\2\2016

.................

*من الجبال العاليات العاتيات في شمال العراق، أمضينا أشهرا على قمته النائية الزمهريرية القاسية البيضاء، وتفوح من حولنا رائحة الموت والدماء.

قفزَ اللاشيء في حضنِ الهاوية

على شفيرِ الفناءِ

سقطَ كلُ شيء..

الدُّموعُ تجلدُ ذاتها

بغصنِ رُمَّانة

أحلامٌ مؤجلةٌ تلحقُ

ريحِ الأملِ

*

أنا ابنةُ الوطن الذي لم يُولَد بعد

أحملُهُ جنيناً في أحشائي

*

شهقاتي صدى التُّراب

تتلولبُ أنفاسي ..

قلبي سقطَ  بين الحُفرات

*

أبحثُ عن كوخ ٍ سرمدي

كي ألِدَ فيه وطنَ البقاء

وأولدُ فيه عذراءُ  الخلود

*

أبحثُ عن فخَّارةٍ أُعتِّقُ فيها

دمي المُخَضّبْ

برقائقِ ياسمين الشَّام

من أثداءِ الضُّوءِ الأزلي

أقطرُ الصَّحوةَ بين شفتيه

*

إنه اليوم الثالث بعد الموت

إنها  الولادة الخضراء

لا للصَّلبِ .....ثانية

لا للموت .......ثانية

***

سلوى فرح - كندا

في مخيلتِي أنِّي سأقتَرِفُ مزيداً من الهَفَواتِ ….

سأحترفُ ساعات حزني

بدلَ انشغالي

بالثورة..

سأركضُ كغزالٍ هاربٍ من عين الشَّمسْ.. أتغنَّى بالمحرّمات كلها

وأنتهي في قمم الجنون..

أغالطُ حقائق الأشياء…

أمارسُ طقوسي السحرية

لتنهار تحت قدمي سلفيات الفكر العقيم…

وأراهم بعين الحق….

سكارى….

عراة….

أختلقُ لهم الهزائم ثمَّ ألوي الأكعابَ  بحبل كان في الماضي وصمة للعار…

سأحرق كلَّ القوارب البئيسة من شطِّ عزلتِي ..

وأصلب الأشجار  جدعاً جدعاً لأثقاب  الجدران..

أرخي على الجبلِ فورة غضب الأولياء..

نعم سينهار الدير والخلوة…

ويتدفق مداد الكهنة على الألواحِ…

نعم  سأحطم السَّرَايَا وصالات المتعة  وقاعات الخطيئة الكبرى…

سأعدم أدميَّاتي  بمسامري أنا

ليس بمعول جدنا المعظَّم ناهب سحنة الفرح عن السَّماء….

سأكنس الأرصفة من مصفاة السجائرِ..

من آثار الكسلِ..

من بقعِ الدمِ المغدور ..

وخزرة العملاء..

من اندسَّ منهم وماانجلى…

من بطش البذلة الموحدة وأصدافها وأصفادها…

سأنصب تمثالاً من الذهب لمن يزن ذهباً…

هذه الأرض تملكها الفراشات وتتَّسعُ للغائبين عن عرسنا…

لمن مشت أقدامهم حافية وسط الوحل…

لمن حوَّلوا الوادي أحمراً مقابل قطعة خبزٍ…

هي لسنبلة  احتمت بظهر النَّهرِ

حتَّى تنطَّرَ في اليد منجل…

نعم سأشحن بطارية مصابحي  بأعوادٍ هيَّأتها لموسم احتراقي…

وأعزمُ من  كلِّ فجٍ عميقٍ

جاراتي

وأطيافي…

بائعة الخبز بالحارة..

حفظة ألغاز الطير..

ونكسُّر السَّاعات..

ونقوِّمُ العاهات..

وأمسحُ تجاعيد الوقتِ عن الوجوه..

أمَّا عن وسادة السلام فلكلٍ منَّا شجرته الأصلُ…

يستظل بظلها…

يستأنسُ يهذبها

ويستبيحها للشهوة والتَّشهي….

***

عبد اللطيف رعري

01/03/2023

منزوياً في مارستان للأمراض النفسية أنتظر إخلاء الممرات من المرضى، لنرصعها بمزهريات مختلفة احتفالاً بعودة الروح للجسد لشاعرٍ أحسَّ أنّهُ لا يشبهُ باقي الشعراء…قد أكون أنا المعني بأنانيتي وقد يكون شاعر آخر في مكان ما…

 

في جلسةِ شواءٍ مع زُمرةٍ من الصَحبِ، حين هربنـا من وَخْمَةِ برلين إلى ضفة النهر..

كَرَعنـا ما تَيسَّرَ من "الزحلاوي" وآثرَ أَحدُنـا "إبنَةَ العِنَبِ.. ولَمّـا إنتصفَ الليلُ، وغدا الهواءُ عليلاً، طابت النفوسُ..

- زُرنـا بلقيسَ، كانت تُلمِّعُ خُلخالَها، قبلَ أَنْ تدخُلَ على سُليمانَ وتَكشِفَ عن ساقيها ...

- صعدنـا سفحاً، ودخلنا كهفاً، فوجدنا "أهله" نياماً .. لَمْ نُعكِّرْ رقدَتهم ..

- زُرنـا بِـلالاً، أَيقظناه .. كـي لا يفوتَه أذانُ الفجر، لأنَّ الخمـرةَ أَثقَلَتْ رأسه..

- مَرَرْنا سِراعاً بدارِ أبي سفيانَ، لكننا لَمْ ندخُـلْ..!

- ومن وراءِ، ما لا أدري كمْ من الحُجُبِ، زُرنـا أُمهات المؤمنين،

وجدناهن شَمطاواتٍ، إلاّ عائشة وزينب .. كانتا حلوتينِ تسلبان العقلَ،

بَضَّتَينِ، فيهما عَبَقُ أُنوثةٍ طاغية..

- رأينا أبا ذرٍّ يَتسوَّلُ تارةً عند بابِ بن عوف، وأخرى عند بابِ أبي سفيان !!

- زُرنـا الحلاّجَ .. لَمَمْنا ما قَطَّعه بنو العبّاس من جسده، نَفَخنا فيه.. ولمّا إعتَدَلَ، أَهديناه نظّـارةً من ماركـة " أبولو " وإشتراكاً كي يسوحَ مجاناً في "الشبكةِ العنكبوتية"..

- زُرنا سرفانتس، وجدناه مُنشغلاً، على ضوءِ سراجٍ كليلٍ، بمخطوطة لسيدي أحمد بِنغالي عن دون كي خوته، فلمْ نُزعجهُ،

- أبصرنا مولانا جلال الدين الرومي يَرقصُ الهب هوب، لكنه تَعثَّرَ بجُبَّته فسقطت عمامَتَه،

- رأينا بروميثيوس یرتعشٍ عارياً تحتَ الجسر في كرويتسبرغ، يتسوَّلُ وَلعَةً لسيكارة حشيش تُرتجفُ بين أصابعِه... فصَعَدنا الأولمب ورمينا بصندوقة پاندورا عند قَدَمَيْ زيوس !

- زُرنا فيدريكو لوركا، نَزَعنا الرصاصَ من قفاه، فأنْشَدَ لَنَا غجريته " أمبارو "(2)

- زُرنـا بول روبسن، طَمَعـاً بواحدة من إسطواناته، أحالنـا إلى لِيوِي أرمسترونغ، ونام..

- زُرنـا ماركس، فأَخبرَنـا أنـه ليس ماركسياً (3)

- رأينـا عصـا موسى، نَخَرَهـا السوسُ من الداخل ..

- أبصرنـا خبزَ المسيح في عيـونِ الجيـاع..

- ورأينا ما لا أجرؤُ على البوح به ....!

لكننـا لَمْ نَزُرْ حاتم الطائـي، كي لا يُفَتِّتَ لنا شحمَ فَرَسِه..

***

الحاناتُ نامت فَرْطَ السَهَر،

بائعاتُ الهـوى ذهبن يُجرجرنَ أَذيالَ النُعاسِ، بعدَ ليلةِ عملٍ شاقّة..

الدجّالونَ بائعو الأوهام حملوا حقائبهم بخفةِ لصوصٍ مَهَرَةٍ، ليدفنوا رؤوسهم في وسائد توفِّرُ لهم أحلاماً بصيدٍ سهلٍ في اليوم التالي .

وهكـذا عُدنا، قبلَ أَنْ يَقرِضَ الفجرُ الليلَ .. ويرحلَ آخرُ قَطـارِ مترو !

***

یحیى علوان

.....................

(1) (الوخمة: قيظٌ شديد مصحوبٌ برطوبةٍ عالية (عاميّة عراقيّة، بصرية تحديداً، لأنَّ البصرةَ تقعُ على فم الخليج العربي).

(2) آخر قصيدة له، كتَبها قبل يومٍ من إعدامه على يد الكتائب الفرانكوية الفاشية .

(3) قالها في معرض نقده للإشتراكيين الفرنسيين، لاسيما صهريه بول لافارغ و شارل لونك.

 

من مرآتي تخرج سمكة

تقفز في هلع

طوال الوقت

ولا تموت

تهزم الرتابة المرسومة

على وجهي

أرفع حاجباً

وتتسع عيناي

في دهشة ...

*

على حافة نافذتي

ليلة ترقص

من دون دف

ولا تتعب

همس القمر في أذنها

انك أجمل النساء  ...

*

في غرفتي مساحة

للجنون

ينثر كل محتويات حقائبه

ولا يسألني الإذن

ينام على وسادتي !!!

لذا يضج رأسي بهفوات صغيرة

أن أفتح حديثاً مع تلك السمكة

أو

أن أقف على الحافة

لأشارك الليلة المُغرمة

الرقص ...

*

في كلا الحالين قد أبدو مجنونة

ولكنني أحتاج هذا

الجنون

لأدرك مالا يدرك

لأستحم في ذلك البحر

وأخرج مبللة الشعر

لأؤكد لمن حولي أن داخل المرايا بحار

أحتاج أن أصدق

همسات الغرام

لأرقص حافية في قلب الليل

من دون خوف ...

***

أريج محمد أحمد - السودان

 

المساء يقترب وسطح البحر الصاخب يظهر للعين المجرّدة كأنما هو يُخبّئ عاصفة تنذر بخراب آت.. ولا بدّ منه. هناك على الشاطئ تبدو نقطتان بعيدتان مثل قفتين وضعهما مجهول مسرع على حافة الماء ومضى ناسيًا اياهما. إذا ما اقتربت أكثر سيسعفك ضوء القمر الشحيح لتراهما وكأنما هما صيادان ماهران يلقي كلٌّ منهما بصنارته إلى الماء بانتظار الرزقة المقبلة. أنفاس كل منهما تتلاحق ارتفاعًا وانخفاضًا، وكأنما هي ارتبطت بسمكة بوري او انتياسة أو.. قردة، تتلقفها صنارة عمياء في غفلة من عين الماء العلوية.

أحد هذين رجل وعد جارته الارملة بأن يأتي لها بفرش يلعب فيه السمك بذيله حُبًّا وفرحًا بالحياة، والآخر فضّل ألا يقول لزوجته إنه ذاهب إلى البحر للصيد وضمر بينه وبين نفسه، أن يفاجئها باسماك طالما حدّثها عنها دون أن يريها إياها. "هذه الليلة سأضع بين يديها مفاجأة من عيار ثقيل". قال في نفسه وهو يرسل نظرة آملة.. رانية إلى رفيقه الذي تعرّف إليه قبل فترة ورأى فيه الرُبّان المخلُص لسفينته من لجج حياته العاتية.

"شوف الصنارة بتهتز بايدي.. شكلها غمزت"، قال أحد الصديقين، فردّ الآخر وهو يرسل ابتسامة من طرف فمه:" وشو بتستنى.. قلتلك لما تغمز صنارتك.. اسحبها واش واش شوي شوي.. انتبه.. إذا تسرّعت بسحبها.. بتفلت حبّة السمك منها".

ما إن استمع الصياد إلى هذه النصيحة من رفيقه، حتى بادر إلى جذب صنارته باتجاه صدره بنوع حافل باللطف الحنون، غير أن عنادًا غريبًا ركب الصنارة فلم تستجب له. رغم أنه كان يتمنّى طوال الطريق من مشارف الناصرة حتى أطلالة البحيرة، يتمنّى أن يتمكّن من اصطياد ولو سمكة واحدة تُثبت لزوجته أنه رجل ومن أهلها من ناحية، وتؤكد لرفيقه أنه جدير وبإمكانه أن يفاجئ العالم بما اذخره من حظّ وحرفية من ناحية ثانية. رغم هذا كله فقد وجد نفسه يطلب المساعدة من رفيقه:" شكلها السمكة كبيرة.. تعال ساعدني في سحبها". خفّ الصديق لنجدة رفيقه المستغيث به، أمسك بقصبة الصنارة، شدّها الاثنان معًا. قال المُغيث لرفيقه إلى جانبه:" فعلًا شكلها انتياسة كبيرة.. الانتياس عنيد وكبير راس.. لازم نتحلّى بالصبر.. الصيّاد الماهر لازم يكون صبور..".

تقدّم الليل إكثر نحو عتمته، ومضى الاثنان يحاولان استخراج الانتياسة المجهولة من أمواهها الصاخبة، وفي خاطر كلٍّ منهما أنها ستصير بعد قليل معروفة. الصياد الهُمام الاول أضمر أن يقدّمها وجبة دسمة إلى جارته الارملة الحبّوبة لتحنَّ عليه، في حين برقت عينا الآخر وهو يفكر في زوجته وفي مفاجأتها المذهلة بانتياسة دسمة تأكل منها عدة أيام وتتذوّق طعم السمك الحقيقي. الاول فكّر في أن يستبق الامور فيشترط على رفيقه أن يتقاسماها، غير أنه عدل عن اقتراحه.. قبل أن يغادر فمه بشعرة. أما الآخر فقد خطر له أن يتقاسمها معه، سوى أنه ما إن تخيّلها وهي تلعب بذيلها حتى عدل عمّا خطر له.

في هذه الاثناء كان وجه كلّ من الصيادين صافيي النية كلٌّ تجاه الآخر، ينشدّ حينًا ويرتخي آخر، غير أنك لو تمعّنت في وجهيهما سترى التوتر الشديد وقد افترش مُحيّاهما.

"شد يا اخوي". قال الصيّاد الاول، فردّ الثاني:" مش قادر اشد أكثر.. بخاف إنها تفلت".

الوقت يمضي والاثنان يشُدّان حينًا ويرخيان آخر، على أمل أن يكون ليلهما طويلًا طويلًا، من منطلق أنّ كثيرَ اللقاء بأسماك البحيرة.. كان قليلًا. إنهما يحرصان على ألا تفلت تلك الانتياسة المباركة من بين فكّي صنارتهما السحرية، لهذا اتفقا على أن يتحلّيا بالصبر الجميل وطولة الروح، في هذه الاثناء خطر لأحدهما أن يتحدّث عن الشيخ سنتياغو، وكيف أن سمكته علّت قلبه قبل أن تغادر بحرها، وعندما تذكّر أن سانتياغو شيخ همنغواي العظيم، وصل بها في النهاية إلى برّ الامان هيكلًا عظميًا، ابتلع القصة ولم يفه بأية كلمة منها، فعل ذلك من قبيل الحيطة المطلوبة في حضرة البحر، والحذر المرغوب به في حضرة أسماكه. أما الصديق الآخر فقد فكّر في أن يروي قصة قديمة عن صيّاد منكود الحظ دارت عنه وحوله، إحدى قصص الف ليلة وليلة. مُفاد هذه القصة أن صيادًا رُزق ذات مشوار بحريّ بسمكة غريبة الشكل واللّون.. قلبت حياته رأسا على عقب. سوى أنه ما إن أحس بكلمة.. قبلت حياته.. هذه، حتى ابتلع ما تبقّى من كلمات القصة.. وعاد إلى صمته الليّلي.

نسي الاثنان أن هناك من ينتظرهما في ناصرتهما الغاطّة في نومها، الأول نسي تلك الأرملة الحبيبة المنتظرة تنفيذ وعده، في حين أن الآخر نسي زوجته وما أراد أن يُنعم به عليها من مُفاجأة سَمكية، تهتزّ لها جدران البيت وربّما سقوف الحارة.. ويتحدّث عنها الحُداة والرُكبان. الكثير من الكلام أراد أن يخرج من فم كلٍّ من الصيادين الحالمين، إلا أنه توقّف قبل أن يغادر بقليل، انتظارًا لانتياسة قلّما حلُم بها صيادو المنطقة. انتياسة قذفها البحر الابيض المتوسّط إلى فم البحيرة الطبَرانية الحالمة.. لتكون هِبة الامطار الغزيرة لصيادَين هاويين.. ومحبّين أيضًا.

"أرجو أن نتمكّن من احتضانها قبل انتهاء الليل". قال الاول، فردّ الثاني "على إيش مستعجل.. الانتياس بستحق.. أكثر من ليلة".

مع هذا.. واصلت الانتياسة الغالية مشاكستها الليلية لصياديها العنيدين، بل قُل المؤمنَين بحاجتهما للصبر من أجل أن يحقّقا حُلمَهما.. ويحظيا بإطلالتها البهيّة، وواصل الليل رحلته نحو نهايته غير عابئ بما يجري بين صيادين هاويين وانتياسة مجهولة تقبع في قلب الغيب، حتى وصل إلى هزيعَه الاخير، فاشتدت الظُلمة واشتد بالمقابل أمل كلٍّ منهما بالفوز.. ورويدًا رويدًا لاحت تباشير الفجر الاولى.. ليتبيّن الصيادان الآملان.. لمفاجأتهما غير المتوقّعة، أن ما علق بصنارة أحدهما ما هو الا شبكة قديمة ملأتها الطحالب البحرية.. وفغرا بالتالي فميهما.. كأنما هُما بُحيرةٌ وبحرٌ من عالم آخر.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

ما الذي يعرفه العصفور عن قلق النمور

قالها وانصرف محمد محسن

الذي ياسره  طفل اللحظة

موت الآن

ومازال يحاول حل طلاسم

فقدان الصدفة بوصلة الأحساس

قالها وهو يحزم أمتعة اللذة

ويخادع صمتا

يمارس عمله وسط ضجيج اللاهين

وهو يدخن رغبته

في افق الوطن

ذاك اليقلق من اختباء حقائق هذا الكون

في غصة طفل يستجدي بتقاطع سوق الگيارة

وينتقد اللامعنى حين تستاصله الرغبات

لم يقف الى جنب سدنة التاريخ الكاذب

الذين اورقوا كشجرة سامة

وتطحلبوا مثل الموت

ويدورون كدورة حياة الضفدع باستمرار

لم يخدعه الذين يتحدثون بوجهين

وينسون احدهما في لحظة نسيان طاهرة

ما الذي تعرفه العصافير عن قلق النمور

هو استبطان  للغتين، تنتصفان عند شروق المعنى

ومحاولة اقتحام خلوة وجودين

يستحمان برغوة ذاتهما

وما بين الرغوة  ورؤوس الدبابيس الشائكة

يقبع طفل الوجود الخائف

يمارس محمد محسن نقده

بين اغماضة طفل، وبين الغيض المتقد بداخلنا

بين حدة سكين شرهة

وبين استسلام البطيخ لمصير الخاصرة الرخو

يتوقف، كان كثيرا، كي يفكر بالركض

ويمهل ذاته ان تبطىء باستمرار

كي يقفز معنى الكهل

ويظل يفكر بذاك المعنى ببطىء

***

ا. د. رحيم الساعدي

لاشيء اكثر بؤساً مثل ما أجدُ

ليت التقاعد يا اختاه يبتعدُ

*

أحاور النفس ما ابقى لنا زمنٌ

مشى التبغددُ حتى سامه الكمدُ

*

في الليل آهٌ وفي الأصباح منغصةٌ

وفي صدى الطرق مايشقى به الوتدُ

*

دعِ التقاعد ليلٌ ماله أمدُ

بلواه بلوى مع الأمراضِ تتحدُ

*

حيث المرتب لايغنيك عن ألمٍ

وحيث يجفوك من قد كنت تعتمدُ

*

تنهارُ اجزاؤك الأخرى بلا ألمٍ

يموت جزءٌ وجزء منك يزدردُ

*

جميلُ ثوبك يغدو رثَّ أمنيةٍ

مشى بها الكأسُ حتى ملّهُ الرشدُ

*

الموتُ أقربُ ماقد كنت تحسبهُ

ترجوه حيناً وحيناً يلعبُ الحَرِدُ

*

ينذركَ جزءٌ من الأجزاء في عطبٍ

فيستغيثُ بأجزاءٍ له تجدُ

*

ليت الغرام الذي قد عاد ثانيةً

يغادر اليوم حياً مابه أحدُ

*

وليت صرح الهوى ينهارُ آخرهُ

إن كان اولهُ نارا ستتقدُ

***

محمد الذهبي

 

 

تلك هي حكايتنا.. لدي هوس الكآبة في هذا التأريخ.. اليوم استلمت راتبي ولا أدري لماذا قطعوا عشرين الفا منه وهذه حكاية كل شهر احيانا اكثر وأخرى أقل ربما البعض يعده مبلغا بسيطا لكني اشعر بالغبن والتجاوز ليس على راتبي انما على كرامتي وحين سألت موظفة المصرف أجابتني.. عليك بمراجعة الدائرة المختصة بإصدار بطاقتك.. الدائرة تبعد عني عدة كيلو مترات.. اما جواب الدائرة فكان راجعي بعد اسبوعين.. أعترف اني أشعر بالخجل لما آلت اليه أوضاعنا.. لذلك تناسيت الموضوع تجنبا لإصابتي بصداع شديد..

تذكرت قائمة المشتريات التي سجلتها لي ابنتي.. انشغل تفكيري بأمور عديدة حتى لم انتبه للمكان الذي سرت فية.. أوقفت السيارة للتبضع.. كان دخولي بالجهة المعاكسة للسير.. ربما بسبب الضجيج والحركة الغير طبيعية للسيارات في الشارع وذلك لتغير مسار الطريق فقد كانت هناك تحويلة مؤقتة من أجل ترقيع الحفر الموجودة فيه لذلك أستوقفني شرطي المرور قبل مغادرتي للمكان ولصق ورقة على السيارة لغرامة مالية.. الحمد لله.. ما هذه الاحباطات التي نزلت فوق رأسي.. قلتها بعصبية مفرطة لكن هاجسي يقول.. بان الجميع يعانون مثلي.. وكل منا لديه قصة أغرب من قصص الف ليلة وليلة..

كنت أسير ببطء شديد لأستعيد نشاطي وحيوتي.. لكن شيئا ما استرعى انتباهي فمن بعيد لمحت وجه صديقتي انها مفاجأة غير متوقعة لكنها جعلتني ابدو سعيدة نوعا ما.. آه انها نجاة.. صديقة الطفولة والشباب.. تمتلك روحا طيبة وتتحدث بأريحية محببة وتميل للمزاح دائما.. كانت تقف على الرصيف في انتظار سيارة.. عندها نسيت مسألة غرامة المرور والعشرين الفا وحتى أخبار الفيس بوك (صعد الدولار.. انخفض الدولار) يا لها من لعنة ممقوتة حلت بنا.. على كل حال تفاءلت خيرا برؤيتها.. أوقفت سيارتي حين اقتربت منها.. صعدت بجانبي ووجهها يتهلل فرحا مثلي تماما.. تبادلنا العناق والتحية والسؤال والجواب عن أحوالنا وأبناءنا.. وطالت احاديثنا بشتى المواضيع ثم تذكرنا ايام طفولتنا التي لا تنسى والمواقف المضحكة التي كنا نمر بها وكيف ان جارتنا العجوز التي تسكن وحدها في بيت كبير موحش يحتوي على غرف كثيرة وباحته الوسطية مفتوحة على الفضاء الخارجي.. كنا نزورها دائما ولا ندري ما الذي يشدنا لزيارتها المستمرة ربما تعاطفا مع وحدتها مع انها لم تطلب منا ذلك.. لكنها كانت تحدثنا عن خيانة زوجها الذي لم تنجب منه وكيف كانت تهتم به وترعاه كأنه ابنها ثم غدر بها وتزوج من امرأة أخرى.. تلعنه وتشتمه بأقسى الكلمات ثم تقول بصوت خفيض انه الآن في قبره وبالتأكيد يسمعني..

كانت عجوز شرسة وقاسية وكانت تستهوينا شراستها وقسوتها.. وبفضل معجزة من السماء ان نضع اقدامنا على دكة الباب ونهرب بسرعة البرق ان سمعنا صرختها المدوية في ارجاء المنزل في حالة تبدي انزعاجها منا.. قلوبنا تكاد ان تخرج من صدورنا خوفا وترتجف أبداننا رعبا..

والغريب في الأمر ان نجدها أحيانا أخرى عجوزا وديعة وهادئة ولا ندري انها مثل أبن آوى حين يخطط لأمر لصالحه.. نعم كانت تكلفنا ان نقوم بأعمال شاقة لتنظيف دارها أو غسل ملابسها وأوانيها غير عابئة بطفولتنا وبراءتنا وكنا نساعدها بسخاء مفرط ونقوم بتلك المهمات ونحن نشعر بسعادة غامرة نضحك ونمرح ونغني لها اغنية ست الحبايب.. وهي تبتسم لنا وترفع يديها بدعوات مباركة لنجاحنا في المدرسة.. تسألنا عن أخبار اهلنا ونفرح حين نسمعها تمدح امهاتنا وعوائلنا..

وبعد برهة من الزمن تشعر العجوز بالتعب والنعاس وتبدي لنا رغبتها بالنوم لكننا وبعمرنا الطفولي لا نقدر ذلك ونبقى نلهو ونمرح وضحكاتنا العالية يملأ صداها غرف المنزل.. وهنا تمسك بعصاها وتطردنا شر طردة وتسمعنا كلمات نابية وتلعن جميع أهلنا.. حينها نستخدم أقصى طاقاتنا للهرب.. ولكن بعد مرور عدة أيام ننسى كل شيء ونعيد الكرة ثانية لزيارتها..

ضحكنا انا وصديقتي كثيرا حتى سالت دموعنا فشعرت كأنني طفلة لحد هذه اللحظة ومما اسعدني أكثر ان صديقتي ما زالت تحتفظ بصفة مرحها الدائم وتعليقاتها المثيرة للضحك رغم ما تعانيه من تعب في تربية أولادها الأربعة بعد وفاة زوجها..

كنت اسير وئيدا لإطالة الوقت معها.. توسلتها لضيافتي فبدرت منها ابتسامة مريحة للنفس مع كلمات شكر وامتنان ثم قالت ان أولادها بانتظارها لتحضير وجبة الغداء.. وحين وصلت صديقتي قرب دارها ودعتني بقبلة ونزلت.. تابعت السير الى داري وعند نزولي من السيارة افتقدت محفظتي فلم أجدها بحقيبتي ولا بالسيارة.. بحثت عنها وعدت للسيارة مجددا فلم أجدها.. رانت على روحي كآبة موجعة !! فتح أولادي الباب ثم تسمروا بمكانهم فهم يقرأون ملامحي جيدا

يا الهي.. لا أحد صعد معي سوى صديقتي نجاة.. أيعقل هذا.. لا والف لا انها فكرة مرفوضة ومستحيلة اذ اني أعرف اخلاقها جيدا.. أذن يتوجب البحث مجددا في السيارة وفي الحقيبة وافراغ كل محتوياتهما واحدة بعد الأخرى.. وبعد ان تعبت تماما اتكأت على حائط بجانب باب داري.. وأنا أضرب كفا بكف ولا اعرف كيف اتصرف تاركة باب السيارة الامامي مفتوحا.. حاولت وبشتى الطرق ان استرجع جميع خطواتي من لحظة استلام راتبي وحتى صعودي الى السيارة وكذلك حاولت ان أتذكر تحركات صديقتي هي الاخرى ثم غاصت روحي ندما.. وتعوذت وأستغفرت ربي ( ان بعض الظن أثم ).. لم يبق أمامي سوى دعاء الله ان يخرجني من هذا المأزق..

وفي تلك اللحظة سمعت صراخ ولدي منبها اياي لما فعله اخوه الأصغر منه.. ها هو طفلي الصغير ينثر الدنانير فوق الارض وهو يقول هذه فلوسي ولا اسمح لاحد ان يأخذ شيئا منها.. عندها تنفست نفسا عميقا وانتابني فرح غامر ثم شرعت بالتقاطها واحدة بعد الاخرى.. وسألته اين وجدتها ايها اللعين.. ؟؟ وكيف صعدت للسيارة دون ان اراك.. !!.. فأجابني بهدوء وبصوت خفيض.. هناك.. واشار بيده الصغيرة على مخبأ بين الكرسي وحافظة السيارة..

فشكرت الله كثيرا.. ليس لأني وجدت راتبي.. ولكن الحقيقة اني وجدت صديقتي..

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

 

رفع الطبيب صوته ناصحا:

- كم مرة أخبرتك سيدتي ان الانفعال يضرك، عليك ان تكوني هادئة في تقبل الأمور.

- فلت مرارا انك يجب ان تطيعيني، فانا رب الأسرة وأنت عاجزة عن القيام بأي شيء.

هي في صراع بين ما تتطلبه الصحة من إتباع تعليمات الطبيب وان تحافظ على بناء الأسرة التي أخذت تنبيء بالانهيار

- خذي الأمر ببساطة واخرجي وتمشي وتمتعي بدفء الشمس والهواء النقي تنفسي بعمق، ولا تدعي المتاعب ان تهز كيانك.

- حين أقول شيئا عليك السمع والطاعة صحيح انا اعمى لكني اشد بصيرة منك.

تستحي ان تحدث أحدا بمتاعبها، مضى العمر سريعا ولم تر طعم الراحة، كل وقته صراخ وعويل وارتفاع بالصوت يسبب لها التوتر وانعدام الرؤية وعدم القدرة على التحدث بشيء مما يرعبها ويقض مضجعها، لم كل هذا؟ وماذا جنت ؟حتى تعاقب بهذا العقاب الذي لا ينتهي مهما بلغت من العمر، دائما هي الفعالة والمبادرة،قامت بنجدته حين سقط أرضا وسارت به نحو الطبيب الذي فحصه واخبرها انه بحاجة الى عملية فهل بامكانها أن تجريها في مستشفى حكومي أم تبقى هنا حيث المستشفى الأهلي والرعاية الضرورية، تناست ما بها من متاعب صحية واسرعت لنجدته كما تتطلب عشرة العمر.

- لم تفعلي شيئا من اجلي ولم تسرعي، كما تهرعين لآمر عزيز عليك، وها انا اعمي بسبب تقصيرك.

قالت جارتها:

- لولاك لفقد عمره ولكنك عجلت في الذهاب به الى الطبيب ففقد عينيه وكان قبل ذلك قصير النظر يشكو من أمراض عديدة مزمنة،ولا يرى بوضوح كما ترين انت.

- ماذدا يتعبك سيدتي ؟أجدك لا تتقدمين، هل أنت مواظبة على اخذ العلاج ؟

- علاجي يتطلب نقودا كثيرة وأنت بخلت بها علي. ماذا تنقصين ان صرفت على علاجي من راتبك، فهل تقولين انك تصرفينى على الايجار والطعام، اضافة الى ما تقومين به، ام انك ترين اني لا أستحق ؟

كانت مدينة لأشخاص عديدين، للقيام بالعملية وإجراء العلاج، واثمان العناية المركزة وبقيت تدفعين لمن وقف بجانبك واستلفت منه النقود، كل شهر تدفعين فسطا من راتبك، وهو يبالغ في لومك وتقريعك، أنت حريصة على صحتك كما تحرصين على صحة من يرافقك في الحياة لكنه لا يرضى بما قدمت له.

- عليك ان تطيعيني فانا اعرف بمتاعب الطرق وتعرجاتها، وانت امرأة بلهاء لا تدري ما الذي يسيء اليها وما ينفعها؟

حرصه على مصاحبتها أينما تذهب اثأر استغراب الأصدقاء والمعارف، فهو الأعمى يذهب معها الى اي مكان تريد وعليها ان تجلسه في مكان يريحه، ويجلس مع الصديقات ويسمع أحاديثهن وهذا سبب إحراجا لها وللصديقات.

- ما الذي يتعبك سيدتي؟ أحسن الدواء هذا الذي وصفته لك. والدواء لا يمكن ان يشفي الا اذا أراد المريض الشفاء.

- يجب ان تقوذيني حين اسير معك فانا أرى ببصيرتي وأنت البليدة لا يمكنك ان تري.

تنفسي بعمق سيدتي المتاعب لن تكون قادرة على هزيمتك،الا ان رغب بالانهزام. وسوق ترين الهموم وقد انجلت والفجر آت لا محالة.

***

صبيحة شبر

15 شباط 2023

قبل هطول مطر يناير

كانوا يمدحون الظلال

اخذتهم خطاهم إلى مدن الثلج

والرماد

ليس في دفاترهم حكايا الرحيل المباغت

إلى الملكوت

اصواتهم تجاوزت الشرفات

قبل مجيء الغروب، يأتي الغرباء

ذاهلين تراهم عيون العسس

حالمين بالافق والتلال البعيدة

كانها منارة امراء الحرب قبل ضياع

الفريسة

هنا وصايا الولد العنيد تكتبها سواعد

فتيان الرصيف

لم نر في وجوه العابرين

دهشة الأجداد حين غابت عنهم حكايا

الولد الأسير

كثير من نبيذ الشرق على طاولة الذكرى

قليل من بياض الروح حذو النهر المتاخم

للحنين

*

قيل لاولاد الروابي انهم جاؤوا من ضفاف

المدى

ليس لهم في المدينة ذاكرة وأحفاد

لا يخافون من الأنواء

لا يهابون الضجيج الطالع من افواه

السفهاء

لا مكان لهم في مشهد الغيم المتناثر

في الزوايا

ربما خذلتهم الأجساد

و تبعثرت ألأوراق

بامكان القوافل الآتية من بعيد

أن تحفر في دهاليز الزمان

للمدى ذاكرة وانوار

للصدى إنفتاح المسافات على بهاء

الصياح

للريح الآتية من جنوب الأقاليم

ولد جسور وصبايا ذاهلات

هنا حبري وغضبي وذاكرتي ودعاء الأمهات

إحداهن إسمها آمنة

كانت تقول لي فجر كل يوم:

أكتب يا ولدي

ولا تلتفت إلى الوراء

حبرك محلق في سماء الينابيع

أكتب أيها الآتي من الزمن البعيد

ولا تخف من سفهاء المرحلة

في البدء كانت الكلمة ونوارة الروح

ربما نسي الأحفاد ذاكرة الأجداد

و صار المكان القصي ملاذا للعابرين

هنا قريباً من الصدى ينام الفتى

بلا حقيبة باذخة

ولا مدد يأتي من الأنصار

لا خوف في الجسد النحيل

لا افق تراه العيون

لا أمل في القادمين من الأنفاق

كانهم جاؤوا من زمن بعيد

يحملون على الأكتاف بهاء اللغة

المشتهاة

هنا حبري ودمع الرجل الشريد

لم نكن وحدنا في لهيب العاصفة

كانت معنا الرياح اللواقح

ذاكر الأيام

إنفتاح الكلام على ورقات الحنين

إخضرار الشجر الحزين

قبل هبوب العاصفة

رحيل الخطى إلى الملكوت

*

للجسد الغارق في المتاهة

آهات وصيحات الآتين من الأقاصي

قبل مرور الشاحنات تباغتني امراة

النور بالسؤال اليتيم:

كيف صار المشهد قريباً من الغيم

و البلاد صارت سرابا....؟!

ستبقى أصوات الرعاة ملاذا للعابرين

هنا سرب من حمام الشرق

يعبر الأقاليم

على الأجنحة ذاكرة الفيافي

وإرتمام الجسد في النهر المتاخم

للرخام القديم

***

لبشير عبيد - تونس

28 فيفري / فبراير 2023

 

في عينيك

اكتشفت مجدي

حلما بلوري اللون

فقلت للحياة:

السُّؤدد في مقلتيها

امتداد للحقيقة

الخالصة...

*

يا روعة التوحد

في رَشْف الكأس

المُعتقة...

يا صحوة القلب

في رسم الخطى

الشّاردة..

*

أَعْبرُ الى زمنك

الوردي

فأقطف ثمار

حلمي اللذيذ

كًمّثرى

وشطائر موز

أحتمي باليقين

وخلاصة الحقيقة

واِنبلاج الفجر.

أُطارد غيمة

مبتسمة ..

أعانق نجمة

خضراء

أرتشف فنجانا

من شفق

وألملم على سبابتي

خيوطا من نور

أمد شراع مركبي

وأبحر في محيط

الوهج....

*

أفتح شرفات

تطل على حقول

الوجد

وانساب

كهبة نسيم في مجرى

الورد..

اعلن للفراش الهائم

بدء موسم الرحيق

ولقُبرات الميلاد الابيض

موعد السّفر

الى جزر العُنفوان..

*

وكما حَدث وقيل

في سفر الكمون

أحتفي بقطرات

النَّدى

وعناقيد السنا...

وأدون على رقّ

الاِنشطار

أجزاء وميض

لا ابعاد له

***

محمد محضار

2009

 

في قيلولة الشفق

ارى شعلة الحرائق

تمتد نيرانها على مدى النظر

فتحرك الذكريات البعيدة

لتطفو على بحر آلامي

انه الحلم القديم الجديد

يتسلق كالشبح اكتافي

أتأمل نفسي في وحشة الطبيعة

قدمايَّ تثبتان في مكانهما كالمسمار

صوت يتناهى من مكان ما

حسبت من يناديني باسمي

صراخ ينبثق من عمق التراب جروح

تعبنا من ظلم الزمان

ومن اهانات لدمائنا النازفة

وتضحياتنا من أجل الحرية

الى متى يبقى الوطن مهزوماً

والشعب تحت السياط مهاناً

وقفت مشدوهاً من هول الخجل

أصابني البكم

لا املك تبريراً في الرد على تضحياتكم

سوى انها ذهبت هباءً منثورا

وشقاء لنا نحن الأموات الأحياء

الضمير حذفت من قواعدنا اللغوية

اليوم احتل المال منصة الأخلاق

يتهافت الجميع لا لبناء الوطن

فأملاء الجيوب على حساب الشرف

غدا ثقافة اللصوص منهجاً في عالم السياسة

***

كفاح الزهاوي

 

في مدينتي فاجعة

صوتي مخنوق

هنا في الأبعاد،

صوتي شبيه

بتلك الأصوات الكتيمة

تحتَ الرّكام والأنقاض.

*

دقيقة واحدة

من فعل الطبيعة،

دقيقة واحدة

ومصير أليم.

*

قولي لي

أيتها المدينة

هل ما أراه حقيقة؟

أجل يا أختاه

إنها حقيقة مُرّة،

قولي لي

إني أعيد النظر

ولا أصدّق،

نعم  في مدينتي فاجعة!!

في مدينتي

صَرخاتٌ، ورُعبٌ، وكآبة ْ،

ألم، وأملْ!!

**

صوتي مخنوق

وأنا عاجز

حتى عن الصراخ،

الحزن في مدينتي

في كل الأنحاء:

في البيوتِ

في المنازل ِ

في الشوارعْ.

**

لماذا لا يلعَبُ الأطفالُ

في الساحات؟

لماذا لا تفتحُ النوافِذ ُ

كي تعانق الشمسَ؟

يؤلمني هذا الصّمت!

يؤلمني هذا القبح!

*

أفتحُ هذي الشاشة الصغيرة

أسمعُ أصوات رجال الإنقاذ

تتلوها صرخات الأقرباء ....

نظرات نحو الحطام،

نظرات نحو البيوتِ المُهدمة،

وفي العمق ِ أحياء

بالعمق ِ أحياء.

*

إنه بؤسٌ

لم نرَ مثله من قبل

سَبَبهُ العَجزُ،

إنكَ عاجزٌ أن تفعل شيئاً

تفتدي به من تحب

تفتدي به من هم هناك!!

*

أخبار مُقلِقة

وهذي الشاشة تجرحُ الفؤادَ!

بلدي هناك يكافح،

بلدي يكافحُ بؤساً لا مثيلَ لهْ،

بلدي، الذي لم ألمسه في البعد

لكنه

بين أضلعي يغلي

منتظرا فزعة الشجعان.

*

كلمة ٌ

تتلوها كلمة ٌ،

كلمات فظيعة

تصيبني بالألم والأسى .

*

هناك

خطوات

خطوات

خطوات ...

خطواتُ رجال الإنقاذ

شبيهة بخطى الأنبياء،

الرسلُ

والأنبياء

يأتون لتأدية الرّسالة،

ها هم رجالُ الإنقاذ

جاؤوا

تحدوهمُ النخوة والمَحبّة.

*

ماذا نقول لهذي الوجوه الحَزينة

على أطراف ِ الهاوية؟

ماذا نقول لهذي الأصوات ِ المخنوقة؟

ماذا نقول للأطفال؟

ماذا نقول للنساء؟

ماذا نقول للعذارى

في العراء؟

نعم إنها الفاجعةّ!!!

*

كثيرون في سباتٍ عميق،

كثيرون رحلتْ أرواحُهم إلى جوار الخالق،

صعبٌ وقاس ٍ

صَمتُ الإحتضار،

ظلامٌ في القلبِ

والدنيا لا تزال صَباحْ،

إنه ظلامُ النهار.

*

أصواتُ الأحياء

تحت الأنقاض،

أصواتهم تناديني

تمزق الصّمتَ في المكان،

وتدعوني،

تدعو الجميع،

كأني بها تقول لنا:

هَيّا إلى العَمَل ِ....

*

إنه بؤسٌ أوجدته الطبيعة:

الزلزالُ

والثلوجُ

والرّياحُ العاتية

والبردُ القارس!

*

حصارُ أمريكا

"قانون قيصر"

لا يعرفان مَعنى الرّحمَة،

أمريكا لا يعنيها أبداً

تعب الأجسادِ،

التي تهتزّ وترتجفُ

تحتَ الأنقاض.

*

نعم

صوتي مَخنوقٌ

هنا في الأبعادْ .

***

بقلم إسماعيل مكارم

روسيا الإتحادية

إلى نور

لا تربي الحلم في هذي البلادْ

ولْتُرَبّي غضبكْ

واحرسه بالنار التي أضرمها القهرُ

واسْقه إن لزمَ الأمرُ دمَكْ

لا تربي الحلمَ إلّا إن استوى العابدُ والمعبودُ

لا فقير ولا أجير ولا أسيرَ.. لا أميرَ ولا ملكْ

*

لا تربّي الحلم في هذي البلادْ

سوف يسرقه الفسادْ

ويخونك ويُقالُ إنّ الله في عليائه قد أهملكْ

*

لا تربّي الحلمَ دون ثورةٍ

لا تربّي الحلمَ إلا ثورةً

تتفقّد الأسواقَ وشوارع الفقراءِ

تعيش بين النّاس تحميهم

تكبر فوق أيديهم

إن الحياةَ أملٌ دائمٌ مشتركْ

***

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

 

حرية لها قضبان

لما ظلم الحكام والرعاة تذئبَ الناس، فانقلبَ الميزانُ، وباتت القضبان رمزا للحرّيّة، والظلام رمزا للنور، وطُوي الحق بلفائف من الباطل، وعلا صوت عواء الذئاب، وفحيح الأفاعي، وزئير الأسود وزمجرة الضباع، حينئذ لم يكن بوسع الملائكة سوى الإعلان عن قيام دول الغابات.

***

لم تطق كلماته، فقد كانت تترامى على سمعها كالصاعقة، وتنزل على جسدها كسياط من لهيب بركان جائع، ففرت منه ركضا -لا تلوي على شيء- إلى حيث لا تدري، شعرت بقدميها تركضان على ذوائب سيوف باترة، وأن الليل أرخى سدوله ليعلن عن نهاية الأمل الوحيد الذي كانت تبتغيه ليبدلها عن سنوات الملجأ المريرة.

ورغم أنها صدقته القول -حيث إنها تعلم أن أبلغ الصدق أن يكون من ضفائر دموع ساخنة مجدولة- داس بكلماته على وجيعتها.

لم يفارقها ما دار بينها وبينه وهي تركض ركض الخائفين.

واستعادت في مخيلتها الحوار: «نشأتُ في الملجأ»، فدهش دهشة رشح من بين ثناياها غضب جارف، واستدار ليتفحصها بنظرة استعلاء وغضب، ثم اتكأ مرة أخرى على السيارة.

شعرت به، لذلك عاجلته رغبة في امتصاص غضبه واستدرار عطفه بقولها: «الملجأ أرضه سلاسل في الأقدام، وسقفه أغلال في الأعناق، وهواؤه يحبس أنفاسي كأنما أصّعد في السماء، ولم أدر ماذا جنيت، فلم أجد إجابة غير قولي: فكم من زهرة عُوقبتْ لا تدري يوما إثمها!»

استدارت هي الأخرى هذه المرة تحدق به، لتستشرف ما بداخله، فتأكد لها أن الكلمات لم تؤثر فيه، بل ازداد  منه زفير الأعماق ضيقا وغضبا.

فقالت له كلمات أخرى رغبة في تحطيم الصخرة التي تتمركز في صدره وتلين بعد أن اتكأت بظهرها على السيارة مرة أخرى: «وما كتمَ أنفاسي واختلجتْ فيه جوارحي وتململتْ فيه روحي أكثر من تردد سؤال يجلدني في كل ذرة من كياني كله، لماذا رماني أهلي؟»

وأنّت أنين المصاب الجريح، وانهمرت الدموع وجسدها يرتجف وهي تحاول أن تصل إلى الحقيقة بطرح أسئلة أخرى على نفسها: «هل أنا بشرٌ من طينة غير طينة آدم؟ لعلي مررت بمراحل نموي من بداية النطفة حتى إكساء لحمي في رحم شيطان مارد، فطردتُ من أرض البشر لأحيا في عالم الشياطين، ويكأنّ نفسي عفّ عنها كل مَن في الأرض وكل مَن في السماء؟»

سكت برهة، ثم التفتت إليه مرة أخرى فوجدت أوداجه تنتفخ، مدفوعة من طوفان غضب جارف فسألته: «كل مَن في الملجأ يشهد لي بخلقي الرفيع وجمالي المنقطع النظير، هذا أنا، فما قولك؟»

لم يجبها، وظل متصلبا غاضبا، بيد أن الدهشة زالت عنه، هو يحاول أن يستجمع قواه محدثا نفسه: كيف أواجه هذه الحثالة بنت الزناة.

شعرت ما يدور برأسه، فتماسكتْ، تعرت عندئذٍ من ثياب الألم واليأس وارتدت ثوب العزيمة والأمل، فقالت: «لكني كنتُ أبث العزيمة في نفسي خوفا من أن يقتلني اليأس، فكثير ما كنتُ أقول: لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس، وكنتُ أبحث عن الأمل في ثنايا فاه الشمس المشرقة، وفي حياة الأرض المهتزة المربوّة من سقيا السماء بعد أن كان قد مزق أحشاءها الجفاف.»

دارت عيناها عليه وهي تنكر موقفه في نفسها، لذلك قالت وهي تهزه من ساعديه: «لابد أن نحيا بالأمل، ليس كل الناس رؤوس شياطين، وليس كل من يعوي من الطامعين، وليس كل من يزأر من المتوحشين، وأنت أكبر دليل.»

لم يعلق أيضا.

عادت ووقفت بجانبه يائسة، واتكأت على سيارته وقالت بصوت منخفض: «لذلك خرجت من الملجأ لأكسر رُغام اليأس والتشاؤم وأُعلو راية الأمل والتفاؤل، ووجدتها فيكَ، فما قولك؟»

سكتت برهة ثم صرخت بترديد نفس السؤال.

لكن لا مجيب.

فاستدارت وهزته مرة أخرى من ساعديه ورددت على مسامعه نفس السؤال.

ظل ساكنا أيضا، وشعرت حينها بأن غضبه ينفجر من معين الغيظ والحنق عليها، وقد صدقت مشاعرها بالفعل، فقد تبدل حاله تماما بالفعل، وخرج عن سكونه وتحول إلى بركان ثائر، رفع رأسه مستنكفاً، فاغرا فاه كي يتمكن من قذف كم هائل من كلمات لاذعة وارتفع صوت كالخوار: «أنا أتزوجكِ يا بنت الملاجئ، إني من أصول راسخات كالجبال وأنتِ من أصول خيوط عنكبوت هوت من قديم بزفرة نملة ضالة، اغربي عن وجهي يا بنت الزواني.»

وصفعها على وجهها، صفعة باليمين والأخرى باليسرى.

***

أسرعت في عدوها حتى أعياها الركض فهدأت من خطاها وقالت لنفسها مستعبرة: «مجتمع كالتماثيل الصماء، يسبحون بحمد التقاليد العمياء، تقاليد توارثها الأبناء عن الأجداد، آفة القرن وكل القرون، تقاليد جسدوها تماثيل في نفوسهم ففريق عبدوها طواعية وفريق ذلت لها أعناقهم فعبدوها كرها، وكنت أنا أحد قرابين آلهتهم، فيا ويل أمثالي من هؤلاء المكفوفيّ الأبصار، يا ويلي، وويل كل الضعفاء.»

وظلت تلتفت يمينا ويسارا بقلب فارغ ووجه شاحب تتأمل في كل من حولها وتقول: «مجتمع يحب الجمال وإنْ كان زائفًا، والمظاهر ولو كانتْ كاذبة، والمناصب ولو كانتْ طاغية، والعائلات ولو كانوا جبابرة، والأبنية العالية ولو كانتْ هاوية.»

وبدأ يبلغ منها التعب حتى توقفت تماما عن الركض وسارت تترنح وهي تسير، قالت: «التهمتني تماثيلهم، وستظلُّ تلتهم إن لمْ تستيقظ ضمائرنا، أو تستيقظ ضمائر رُعاتنا ومسئولينا.»

وعادت تجهش بالبكاء وهي تتذكر سبب جراحها الذي انفجر منذ لحظات،  تذكرت ما قال مدير الملجأ لها: «وجدكِ رجل شحّاذ على باب مسجد تصرخين من الجوع والعطش، فجاءني وقال: «خذْ هذا المولود يا "بيه"، ارعه واعتني به، فإني رجلٌ لا أكاد أحمل نفسي، فإني أجوع أكثر مما أشبع، وأتعرّى أكثر مما أكتسي، ولا أبيتُ إلا على جوانب الطُرقات، وها أنتَ ترى عاهتي، وولّى مستاء وقد أجهش بالبكاء.»

لم تدر بنفسها بضع لحظات حيث أخذتها غفوة السكارى، رأت أمامها الزهور تعوي عواء الذئاب، وتسير نحوها وهي تزأر زئير الأسود الجائعة، فانتبهت لها فنهضت وعاودت الفرار وقد عاد إليها وعيها وقالت: «ماذا كنتُ أرى خلفي رباه.»

وواصلت السير وهي تتأمل بحزن بالغ وتقول: «ما أراه أمامي ما هم إلا أشباح الإنسانيّة، وظلام النفوس الساديّة، وضحكات السخرية ذات الأصوات الساخرة الفاترة المتأفّفة، وحضارات من خيوط العنكبوت تسكن الحدائق قبل اليباب، وسمعتُ أقبح عواء، وفزعتُ من زمرة أسود ملكية، وتصافّتْ الأفاعي لتفحّ في فمي سُمّاً ناقعاً.»

***

وفجأة رأت أمامها خمسة من رجال يدلعون ألسنتهم على جسور شفاههم، ويتحسسون قضبانهم وينظرون إليها نظرات شغف، وبعضهم كان يعضّ بأسنانه العلوية على شفته السفلى، وسمعت أحدهم يقول: «أليست هذه فتاة الملجأ؟»

أجابه أحدهم: «نعم هي بجسدها وجمالها.»

قالوا: «إذن، فجسدها مباح.»

وهجموا عليها ينهشون جسدها نهشا، كأنهم مجموعة من الأسود تأكل فريستها بعد أن نجحت في الإيقاع بها.

واغتصبوها واحدا واحدا ولم يعبأوا بالمارة، حيث إن نظرتهم لها كنظرتهم هم لها، لحم رخيص مستباح.

ولما انتهوا منها بعد التناوب واحد بعد الآخر ضربوها وهم يشيرون لها ناحية الملجأ ويقولون: «امضي الآن يا بنت الملاجئ.»

***

وسارت تترنح، حتى إنها لم تستطع السير إلا اتكاءً على جدران المباني، تستغيث بالملجأ، فلما كانت على مقربة منه سقطت من الإعياء، حاولت النهوض فلم تستطع، فزحفت، زحفت بقوة رغبة في النجاة، وما بين فخذيها يؤلمها، ودم فرجها قد لطخ حوضها، نظرتْ إليه، وقالت بأسى بالغ: «أَظْمَؤُوا شهواتهم على انفجار خاتمها.»

***

قابلها المدير فزعاً وقال: «ماذا حدث يا روضة؟ وما هذا الدم الذي يلطخ ثوبك؟ ومَن مزق ثوبك؟»

قد بلغ بها الإعياء إلى حد جفّ فيه حلقها، فرفعت يدها اليمنى وهي تلف أصابعها نحو نافذة حجرتها كأنها تلوذ به وتقول بشق الأنفس: «احملني إلى الداخل.»

فلما حملها وانتهى بها إلى سريرها جلس بجانبها بوجه فزع، وكرر سؤاله السابق.

أجابته: «الآن علمتُ لِمَ رماني أهلي، الآن آمنت أنّ الفقراء يقتتاون رفات العظام، وأن الضعفاء يستقوون من الوهم والسراب، وأن الحق توارى خلف السحاب، وأن العدل هو عدل أصحاب القوة والسلطان، والباطل هم كل أصحاب الفقر والضعف.»

قال: «قلتُ لكِ ذلك من قبل ولم تصدقيني.»

وظلّ ينظر إليها وكلتا عينيه تذرفان الدمع ذرفا، أما هي فقد كانت تكلم نفسها وهي تتحسس بطنها: «تُرى، كم حملت الأرض من أجنة باسم روضة، أو روضتين أو ثلاث، أو عددا لا يحصى منها؟ لعلني كنتُ بذرة تبرعمت من فرج أمي نتيجة ذئاب مثل الذين اغتصبوني، آه من شوادن الغزلان التي خرجت من صلب ظهور الذئاب.»

نظرتْ إليه بوحه شحب شحوبا غريبا، والدمع قد لطخ وجهها البريء، وقالت: «هذا زمان انقلبت فيه الموازين، فباتت الحرية خلف القضبان، والحبس في الفضاء الفسيح، والآن باطن الأرض أولى بي من ظهرها.»

قالتها وسكنتْ إلى الأبد.

***

قصة قصيرة

إبراهيم أمين مؤمن - مصر

أما بعد

مازلت أشتاقك

ولاشيء يهون علي

هي نار أشعلها

تأكل نفسها

وأجد كل شيء

باقياً تحتها

كفينيق

ينهض بكل عنفوان

جناحاه

يحددان المسافة

ما بين

قلبي وقلبك

يظلانها

كغيمة

لأبقى دائماً في انتظار البشارة

ستمطر حباً ولو بعد حين

وإني أحبك

تعرف أكثر مني

وتزدادُ خوفاً

كلما ابتعدت أو اقتربت

وسيان حبك لي والعاصفة

تأتي جسوراً

تحتل كل المواقع

تغير المعالم

وتمضي

أسميك الرجل الخراب

بلا اي سحنة

حضورك محنة

غيابك محنة

أعدو على ممرات الوجع

أعد الجراح

لنصل جديد

لنص مليء

بشؤون صغيرة

قتلها التجاهل

يؤرق عاشقين

في طور البراءة

على هيئة خوف

يقض المضاجع

أسميك الرجل الخراب

لك ألف ظل وظل

ووجهك الذي أنكرته المرايا

تبخر

كفزع يجول في أنحاء المدينة

حيناً كعاصفة

وآخرَ

مثل جوقة موت

تنهض من توابيت قديمة

وأنا وحدي أغني

سأذهب يوماً إلى حتفي

وحيدة

بلا شؤون صغيرة*

لا تثير انتباهك

ولكنها الآن كل حياتي ...

***

أريج محمد أحمد - السودان

..............

* شؤون صغيرة عنوان قصيدة للشاعر نزار قباني

 

نوال*:

فيما أنت قلقاً

تنتظر ساعة عودتي

وعيناك ترقبان الباب

مد بصرك سترى هناك

جسدي

مصلوباً على باب

مسجد

ونافورة عطر، أحببته

تفوح تحت رأسي المقطوع

وسحابة حمائم بيضاء

تبسط اجنحتها فوقي

*

وسترى في الأفق البعيد

آلاف السومريين يشقون طريقهم

بين اعواد القصب

ها هم وصلوا الى نينوى

انحنوا على قدمي العاريتين

غسلوهما برحيق القداح

وبمياه الفرات

ترنموا حزانى بمراثي عشتار

كما حزن جلجاميش على

أنكيدو

وحين ذرفوا دموعهم سخية

أرتفعت جثتي فوق المياه

***

* أشواق

هؤلاء القتلة يا أختاه

قذى قبيح في العيون

قالوا لي، نمن عليك بعفو

وبعمر جديد..

حين يصير حبر الاقلام دما عبيطا

وأوراق الكتب المدرسية اكفانا

بيضا

وتلاميذ الفصل فرقة إعدام

فتذكرت حين انقلب الماء فرحا

فأخترت الفرح

بحياة آخرى

*

يا اختاه

ما صرخاتهم "الله اكبر"

إلا عواء ذئاب جائعة،

بليل بهيم

كجباههم السود

*

يوماً ما، ربما كان صدفة

إلتقينا انت وانا

عند منعطف شارع

وكنا نحث الخطى

لمكان العمل:

أنت لمستشفاك

وأنا الى مدرستي

وربما تبادلنا تحية الصباح

ولكن أكنت تعلمين

أننا سنلتقي مرة أخرى

على موعد هذه المرة

في طريق الشهادة!

***

صالح البياتي – استراليا

........................

* الشهيدة نوال بولص، الطبيبة في المستشفى الأهلي في الموصل، قطعوا رأسها، ومثلوا بجسدها، وعلقوها من شعرها على باب مسجد النبي شيت.

* الشهيدة اشواق ابراهيم النعيمي، كاتبة باحثة في السرد، مشرفة تربوية، اختصاص شؤون ادبية، عضو اتحاد الكتاب والأدباء في العراق، حكم عليها بالأعدام رميا رميا بالرصاص وسط مدينة الموصل ، صباح يوم

الخميس 10/ 12/ 2015، بعد قرار المحكمة الشرعية الداعشية الذي اتهمها بالخيانة، لأنها لم تستجب لأمرهم بتدريس مناهجهم التكفيرية في مدارس المحافظة.

 

من دون يدين

 لم يذهب إلى قارئة الكف شأنه شأن كل فقد عاد من الحرب بلا يدين!!.

**

قصة حلم

معرض السيارات

ذهبت لأحد المعارض غرض شراء سيارة،ف ترك لي صاحب المعرض حرية التجوال في الساحة المليئة بالسيارات،. قال لي: قُـدْ أيّة سيارة تعجبك ولا تفكر بالثمن. دهشت للمنظر.. حقّا سيارات فاخرة فخمة من علامات تجارية راقية معروفة. مارسيدس.. بورش.. فولكس فاغن.. شفر.. بيجو... وأنواع أخرى لا تراود مخيلتي إلا في الأحلام.. وقفت أمام سيارة أمريكية.. لم أتردد كونها ثقيلة تكلفني وقودا مضاعفا.. ومن حسن حظّي أن الباب ظل مغلقا.. حاولت بجهد فتحه لكنه استعصى.. تحولت إلى سيارة مارسيدس.. وفي نيتي أن أغتنم الفرصة، لعل صاحب المعرض خصّ أول من يدخل معرضه بسيارة هدية، ولم يكن أحد هناك غيري، غير أن باب السيارة بقي مغلقا.. لم أتعب نفسي. السيارات كثيرة، وقفت أمام أوبل والغريب في الأمر أن بابها استعصى أيضا..

فوكسل..

كراون

تويونا

ميني

سكودا

أمريكي.. ألماني.. إنكليزي.. سويدي فولفو.. يا للتعاسة كلما هممت بفتح باب وجدته مغلقا.. دفعني يأسي إلى أن ألتفت إلى صاحب المعرض الذي مازال جالسا في مكانه ولعله سمع ندائي من خلف الزجاج الشفاف، فأشار من دون أن يلتفت نحوي إلى زاوية منسية من زوايا المعرض، أسرعت كأن الوقت يحاصرني وماتزال هناك رغبة تحثّني على أن أجد سيارة لها باب يطاوعني.

هناك في تلك الزاوية المنسية، واجهتني سيارتي القديمة المتهالكة التي طالما فكرت أن أرميها في أقرب منفى للهياكل القديمة.

كان بابها مفتوحا وبدت تطاوعني مثل حيوان أليف.

**

قصّة حلم أخرى

المسيرة الصامتة

تلك الليلة - ليلة الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982 - نمت متأخرا فراودني حلم غريب الملامح، رأيت الملوك والرؤوساء والأمراء العرب، يسيرون في تظاهرة صامتة.

كل شئ صامت.

هدوء تام.

الشارع نفسه خال من المارة والسيارات. المحلات مغلقة الأبواب.

وقفت وحدي أراقب من بعيد.

كان الرئيس الصومالي محمد زياد بري يرقص في المسيرة ويصرخ: دون أن يلتفت إليه أحد: "رحم الله والديه الذي ضيّع خصيةّ".

الغريب أني بعد سنوات من الحلم التقيت ابنة أحمد آدم وزير خارجية الصومال زمن الرئيس محمد زياد بري لذي هتف في التظاهرة الصامتة وجدتها مثلي تطلب اللجوء.

***

د. قصي الشيخ عسكر

لا أحد يراك

وأنت تدخل الليل وحيدا

بكامل موتك..

تقلب ليلك على

جمر الحرير والمخمل..

تملأ رأسك بوسائد أنيقة

محشوة بالكلام..

تضاجع أشباحا عقيمة.. و

تهرب من قصيدة تشير إليك

بكل أصابعها..

الى قصيدة

مبتورة  الأصابع..

لا أحد يراك..

وأنت

تسحب اسمك من ظلال

أسمائهم..

وتبقى وحيدا..

تسند ظهرك

على ظهر

وحدتك..

خمس و أربعون عاما..

وكل يوم يمر ينهش نصفك

وحين ينتصف الليل يكملك..

ظلك المنقوع في

فنجان قهوة..

تارة تغمسه..

وطورا يغمسك..  ولا

تكتفيان

من المرارة..

ربما..

لن ترضى عنك البدايات

ولا النهايات..

حتى تنشطر

الى ألف ألف  قصيدة..

وتخرج من شهيقك الأخير

بنصف نبضة..

خمس وأربعون عاما..

وأنت لا تعرف

من أنت من

بين كل أقنعتك..

لا أحد يراك.. ولا..

خنجر يباغت توقعاتك

ويطعنك من الأمام..

لتموت وجها لوجه

امام  الحقيقة..

خمسة و أربعون عاما..

وأنت  ترفع صلواتك

للآهة..

تتضرع  لها أن تخرجك

من وهم  نبؤتك..

تتوسل لها أن توقظ حواسك

من نومها..

لعل الليل يغادر خزانتك

ويسحب الشمس

من ضفيرتها..

خمسة وأربعون عاما..

لم يحدث أن  اكتمل  العيد ليلة في

أحلامك..

وحين تدحرج القمر..

لم يعكس  شيئا

على مراياه

سوى دمعة..

ولا أحد رآها..

ولا احد رآك..

ولا أحد رأى كيف

شهدت الالهة..

أنك قد

صمت  لخمسة وأربعين عاما..

***

بقلم: وفاء كريم

اِضربي بسوط الغياب

و أوجعي

واحرقي بالهجر

زوايا مرتعي

دون الحطب

تموج النار به

صرخات روح

عجَّ بها مسمعي

شربتُ الفراق

بكأس الصمت

اجرعه وحيدًا

والنفس لم تكن معي

اقتات بصدفةٍ

الوذُ بها

من بؤس وداعٍ

مِن مَصنعي

سئمتُ حرفًا

باكيا حزِنا

نبذت السطر

هجرتُ مضجعي

وصرت اجول

في كل شارع

ثمل الخُطى

سيّال مدمعي

ساقني الدرب

الى حيث اللقى

الفيته قفر

مؤنسه النَعي

عدتُ الى داري

اعرج الخُطى

عدتُ الى الحرف

أُكمِلْ مطلعي

لأسطر اماطلْ

في اكمالها

إن كملت حينها

يُعلَن مصرعي

***

ايهاب عنان سنجاري

كاتب وشاعر / العراق

أغمضتْ عيْنيْها بعد أنْ بلّلَها المطر.. كانتْ تفتحهما بين الحين والآخر؛ نِصف فتحة، ثمَّ لا تلبث أن تعود إلى الحال السابق..

أُصْبوحة اليوم؛ تشِي بقصِيدَة شِعْر؛ ستنْظمُها رِياحٌ لطيفة بِقَوافٍ من أوْراقِ الخريف الأصْفر وبأوْزانٍ من هَدير الموج الأبْيض.. البَرُّ والبحْرُ غارِقان في طقوس التّهْليل.. قطراتُ الشتاء؛ بدأتْ تُداعِبُ الشّجر والحجر، وتختلط برغْوة المْوج وبحبّات الرّمْل.. يعلو التَّسْبيح بيْن السّماء والأرْض على وَقْعِ ُموسيقى كوْنِية، تسْتعْذِبُها الرُّوحُ المفْتونَة بسِحْرِ الطبيعَة..

يطولُ استِقْرارُ الحمامة فوق العَمود الكهربائي.. لا شيء يُزْعِجُها.. وَحْدةٌ ماتِعَةٌ، أحْلامٌ مِغْناطيسية تجْتذِبُها إلى مَلكوتٍ مُتَعَالٍ.. هناك؛ حيث الصّفْوُ المأمول والملاذ المنشود.. من نافذة الغُرْفَة؛ تتأمّلُ الفتاةُ سكون الحمامة، ثمّ تعود فتُوَزِّع نظراتها بين العمود الذي تعْتَليه الحمامة وبيْن الأرْض وهي تتحمّلُ كلّ هذا الدّكّ..! سيْلُ المَرْكبات.. كثافةُ المباني.. ضجيجُ البشر وهمْ يتعقّبون الحياة إلى ما لا نهاية.. يا إلهي.. كلُّ هذا الهَوس..؟ مِنْ أجْلِ ماذا..؟ وبماذا..؟! تتناسلُ الاستفْهامات في زمنٍ قدْ تجاوز كل الاستِفْهامات ولمْ يبقَ سوى التّمَنّيات المُعَلّقة على أقواس المُستحِيلات..!

نظرتْ إلى الحمامة، تمنّتْ لوْ أنها نزلتْ بنافذة غرفتها.. ستُطْعِمُها..ستسْقيها..ورُبّما تتعوّد الحمامة على المكان الجديد، فتطير إليْه بين الفينة والأخْرى.. ربّما ستبْني عُشّاً في رُكْنٍ منْ أرْكان النَّافذة الواسِعة.. طرِبَتْ "مختارية" لهذه الفكرة، نسيتْ نفسها وحوّلتْ عيْنيْها عن الحمامة وبدأتْ تتأمّلُ منظراً آخرَ مِنْ بَعِيد..

تحت العمود الكهربائي..

طِفلٌ بِعُمْرِ اثنتيْ عشر سنة؛ بخطواتٍ مُتَّئدة؛ يتّجهُ نحو العَمود، يحْملُ كيساً ثقيلاً فوق ظهره؛ يُمْسِكه بيد، وباليد الأخرى يحْمل قطعة كرتون سميكة على شكل مستطيل. وكأنّ الطفل يأتي إلى هاهُنا لأوّلِ مرّة.. يُدقِّقُ النّظر في المكان، ينظر يميناً وشِمالاً، يرْفع عيْنيْه إلى السّماء وكأنّه يبحث عنْ شيء.. يكاد الكيس يتدحْرج مِنْ على ظهْره، يعودُ ليخْفض عيْنيْه.. الأرض ندية بزخات المطر السابقة.. ومع ذلك يبسط الطفل قطعة الكرتون ويُنْزِلُ الكيس من على ظهره، ويبدأ في إخراج أشيائه.. يُرتّبُها فوق الكارتون بعناية ملحوظة. "مُختارية"؛ من نافذتها الواسعة في الطابق الثاني من العمارة؛ تستطيع أن ترى المعروضات بوُضوح.. مناديل ورقية، بضعة جوارب نسائية ورجالية، قطع صابون الاستحمام، مناشف صغيرة الحجم بألوانٍ مُخْتلفة، عُلَب دُهنية للأقدام المُشقّقَة، وأشياء أخرى دقيقة.. جلس الولد فوق الكيس بعد أن أفرغه والمارّة مِنْ حواليْه؛ بيْن رائح وعائد، وبين متوقّف عند بسطة الكارتون، يتأمّل المعروضات؛ علّه يُصادف غرضا مطلوباً؛ يعْفيهِ زحام السوق الأسبوعي.. تنتفض "مُخْتارية" على صوت أختها "عبّاسِيَة" وهي تُناديها من أجلِ الذهاب إلى ورشة الخياطة.

الفتاتان تمْتلكان هذه الورْشة؛ مُنْذ سنوات.. تُشغِّلُ ثماني فتياتٍ في صنف الخياطة التقليدية الجميلة، ألبسة الأعراس وغيرها من المناسبات السّارّة. الأناملُ الفنّانة تحيكُ الموروث الشعبي باحترافية لافتة؛ أساسُها الذّوْقُ المُمَيّز وحُبُّ المِهْنة؛ عندما تُصْبِحُ المهنة رسالة، تجْلوها رغبة عميقة في الِاحْتِفاء ب: "الأصيل" وترْسِيخِه في الذَّاكرة الجَمَاعِية.

تترأسُ الأخْتانِ الورْشة؛ وتبْدُلان جُهوداً مُعْتبَرة مِنْ أجْلِ اسْتمْراِريتِهَا.. خرَجَتا من المنزل، توقّفتْ "مُختارية" قُبَالَةَ الطفْل تحْت عمُود الكهْرَباء؛ وكأنّها تريدُ أنْ تشْترِيَ شيْئاً.. انْتَبَهَتْ  "عباسية" إلى حرَكة أخْتِها وطلبتْ مِنْها أنْ تؤجِّلَ الِاقْتِناءَ إلى ما بعْد العودة من الورْشَة.. أذْعنتِ الفتاةُ لأمْرِ أخْتِها وهي تُحَدّثُ نفسَها " ليْتهُ يَظلُّ هُنا إلى غايَة المَسَاء.." لمْ تكنْ ترغب في اقتناء شيء بِعَيْنه.. كانتْ تودُّ إسْعادَ الطفل بِحُجّة الِاقْتِناء.. سيَفْرَحُ لا محالة؛ عنْدما يلمسُ إقبالَ المارّة عَلى سِلْعَتِه..

أنينُ القُماش تحْتَ وَقْعِ الإبَر..

قبْل أنْ تدْخُلا الورْشة؛ سمِعَتِ الأختان ضجيجاً غيرَ عادٍ.. هرْوَلَتا.. المُشْرفة على البنات؛ في زاويةٍ تَقْضِمُ أظافرها والتّوتُّرُ يكسو وجهَها.. البناتُ مُكتئبات؛ يتحلّقْنَ حول آلات الخياطة وإبَرُها تثقُبُ الأقمشة بسُرْعة جُنونِية..! البنات يُحاوِلن التّحكّم في الآلات؛ لكن لا يُفْلِحْن.. حركة الإبر تتسارع، والثوْبُ ينْسَلّ.. الخيوط تتطاير في الهواء، التّمَزُّقُ يتّسِع.. الأنينُ يتصاعد تحت سِياط الإبَر وهي تجْلِدُ القماش.. الذّهولُ يُغْرِقُ الجميع.. الأفواهُ صامِتة والآذانُ صاغِية.. لا أحَدَ يُصَدّق.. لا أحَدَ يفْهَم.. لا أحَد يتَقبّل..

تلتفتُ "عباسية" إلى العدّاد الكهربائي؛ تُسْرِعُ نحْوَه، تضغط على الأزْرَارِ القاطِعَة؛ يتوقّفُ ضجيجُ الآلات، تتجمّدُ حركة الإِبَر، بيْنما تظلُّ أعْيُنُها الضّيّقة شاخصة نحو القُماش وكأنّها تتوعّده بالمزيد من التّمْزيق..! تُهرْوِلُ "مُختارية" تّجاهَ المُشْرِفة على البنات، تحاولُ أنْ تفهم منها ما حدث.. تتجمّعُ مِنْ حوْلها باقي الفتيات والذّهُولُ يلجمُ الأفواه.. بعْدَ بُرْهة؛ تنْطِقُ المُشْرِفة "نجاة" بكلمات مُتَقَطِّعاتٍ وهي تشيرُ إلى إحْدَى الآلات بأنامل مرتجفة.. ترْوي مشهد الصباح وعيناها لا تُفارقان الآلة.. " عندما شغَّلْتُها في بداية الصباح؛ لاحظتُ تباطؤاً غريباً في عمل الإبَر وهي تخيط الأقمشة.. فحَصْتُها، وَجَدْتُها ما تزالُ صالحة للاستعمال. وشيئاً فشيْئاً بدأ التّباطؤ يزْدَادُ، فهَرَعْتُ إلى اسْتبْدالِ الإبَر بأخرى جديدة؛ غير أنّ المُفاجأة كانتْ معَ هذا الاسْتِبْدال.. خُيِّلَ إليَّ أنّي أسمع صوْتاً تُغَلِّفُهُ البحّة.. تسمّرْتُ في مكاني وأرْهَفْتُ السّمع.."

حديثُ الأعْيُنِ الضَّيِّقة..!

" تعِبْنا منْ خِياطة أقْمشة للبشر.. تقيُّحُ الرّوح يُغَطّي البدن..! نُفضِّلُ خياطة أكْفانٍ لأحْقادِ البشر.. ! أكْفان لِغدْر البشر.. أكْفان لِهمَجِية البشر.. للِدّمار.. للخيْبات المتعاقبات.. أكفان للمكر.. للخداع.. أكفان لِخُبْثِ الطبائع.. للخيانات وهي تجْلد القلوب الطيبة، للرّذيلة وهي تمُدُّ الجسور لتقطع أنوار الفضيلة.. نخيط الأقمشة لِزينة الأبدان وأين زينة النّفوس.. أين جوهر الضّمائر.. أين التّسامي، أين التسامح، أين الرّحمة، أين النّخوة.. لِمَنْ نخيط هذه الأقمشة..؟ لِمَنْ..؟ لأجْسادٍ مُنَمّقة وأرْواح مُخَرّبة.. الجُلودُ مُغَطّاة؛ والنّواصي غاطسة في صهاريج التّقيّح..! سنُمَزّق وسنُمَزّق وسنُمَرِّرُ الرّسالة إلى بقية الإبَر في الورْشاتِ الأخْرى؛ حتى القُماش سيَهْرُبُ مِنَ البشر.. سيتْرُكُهُ عارِياً؛ مثلما يتعَرّى شجرُ الخريف.."

كانتْ "نجاة" تروي حديث الإبر؛ وقدْ بدأتْ تستعيدُ هدوءها وعلامة استفهام تقفز بين عيْنيْها:" تُرى؛ لو كانتْ وحدها في هذه الورشة، هلْ كانتْ ستبقى صامدة وسط عتْمة الغرابة..؟ وَمَنْ كان سيُصدِّقُ حكْيَها..؟ سيقولون لا محالة: "الِمسْكينة تُعانِي منْ مسّ..! المِسْكينة تتخيّل.. الِمسْكينة أصابَها خَرَفٌ مُبَكِّر.."! ما أكْثرَ التّأويلات وما أسْهَلها !

اِرْتأتِ الأختان "عبّاسية" و"مُختارية" ضرورة إغلاق الورشة لِيوْميْن كامليْن؛ حتّى يتمَّ تدخُّلُ مُهنْدِس الصّيانة. قرّرتا تسْريحَ البنات والعوْدة إلى البيْت.. طِوال الطريق؛ كانتا تسْتعِيدانِ وَاقِعَة اليوْم.. هل صحيح ما قالتْه "نجاة" ؟ ثُمّ كيف ُيمْكنُ تسْليم الطلبيات في الوقْتِ المُحَدّد..؟ وهلْ سيفهمُ الزبائن تبْريراً كهذا..!

تهلّل وجْهُ "مُختارية" وهي تلْمحُ الطفل.. إنه ما يزالُ في مكانه وِبيدِه اليُمْنى فطيرة، وأمامه قارورة ماء صغيرة؛ تقدّمتْ نحْوهُ؛ تأمّلتْ ما تبقّى من المعروضات، شعُرتْ بالحَرَج وأختُها تُكرِّرُ على مسامعها: " لا شيْء هنا تحْتاجِينَهُ.. فلْنذْهبْ.." ردّتْ "مُختارية" بِامْتعاض دون أن تنظر إلى أختها:" إذْهَبي أنْتِ.. سَأشْترِي مِشْطاً وعُلبَة دبابيس، وقدْ أجِدُ الجوارِب القطنية التي تُناسِبُ أقْدامَ أمِّنا.." انْحنتْ تتفحّصُ الأشياء.. قفز الطفلُ إلى جِوارِها وقدْ عزَّ عليْه أنْ تنْحني الفتاةُ لتلْتقِطَ ما وقع عليْه الِاخْتيار. " دَعِيني يا خالة؛ أساعِدك.." أشارتْ بأصابعها إلى ما ترْغبُ في اقْتنائه، جهّز الطفلُ المطلوب ووَضعَهُ داخلَ كيسٍ بْلاسْتيكي صغير، ثمّ قدّمهُ للفتاة والفرْحَة تُنيرُ مُحيّاهُ.. سلّمَتْه النّقود، رَبتَتْ على كتفه وهي تدْعو له بالحِفْظ.. تابعَها الطفلُ بعيْنيْه المُتوَهّجتيْن وهو يتمنّى أن يرْسلَ اللهُ إليْه مَنْ يشتري منه الأشياءَ القليلةَ المُتبقِّية..

استلمتِ الحاجّة "أُمَيْمَة" الجوارب وهي تُمْطِرُ ابْنتها بِأدْعية الرّضا والفلاح.. مضتِ الليلة كلّها؛ لا حديث فيها إلّا عن الإبر المتمرِّدة، كانت الحاجة تُشارك بِهَزِّ رأسِها قبل أنْ تسْتسْلِمَ لِإغْفاءَاتٍ مُتَقطّعات.. عدمُ الفهْم أحْياناً ؛ يعْفيك سوءَ التّقديرات..

حلّ الصباح، فتحتْ "مُختارية" نافذة غُرْفتها، نظرتْ إلى أعلى العمود، لمْ تجد الحمامة.. فكّرتْ.. سأجلبُ بعضا من الخبز وأتركه في زاوية النافذة، رُبّما تراهُ أثناءَ عوْدتِها. ظلت تراقب العمود بين الفينة والأخرى طوال الصباح؛ إلى أنْ حلَّ وقتُ الظهيرة.. صادفتْها  تُرفْرِفُ فوق العمود.. شعُرَتْ بطرب عجيب وهي تتأمّلُ رفْرَفَتَها، اقتنعتْ بأنّها ستنزلُ يوما ما ضيْفا على هذه النافذة..

خيْبة في السّلة..!

تبْدو السّلّة ممْلوءَة، نقية، مُزرْكشة مِنْ إحْدى الجِهات بخيوط صوفية رقيقة، متعدّدة الألوان.. الجهة الأخرى من الدّوم الرّفيع.. ربّما ذهب صاحبها أوْ صاحبتُها لاقْتناء أشياء أخرى، ولِثِقَلِها تُركتْ في هذه الزاوية من السّوق الكبير.. رُبّما أوْصَى تارِكُهَا أحَدَ أعْوان التُّجار؛ بِالِانْتباهِ إليْها؛ بعْد أنْ سلّمَهُ بضْعَة دنانير، فَقَبِلَ؛ وعنْدما طال الوقت؛ نسيَ أمر السلّة وراح يُساعد في نقل أكياس الخُضر والفواكه؛ أمَلا في الحصولِ على بضعة دنانير أخريات..  لصُّ السّوق "مسعود"؛ يتجوّلُ بين الزبائن بحذائه الرياضي الخفيف.. يتفحّصُ الوجوه، يتمعّنُ الجيوب، غليونه بين شفتيْه، هاتفُهُ مُلْتصق بأذنه اليُمنى.. يُبْعِد الغليون تارة ليتحدّث.. ثمّ لا يلبث أن يُعيدَهُ إلى مكانه ليسْمع.. وهو يُنْهي جولتَه الأولى؛ لمح السلّة الأنيقة في الرّكن. يَمْضي وقتٌ طويل وهو يُراقب المكان.. يغْتَنِمُ فرصة شِجار بين تاجريْن، يمشي بهدوء، يأخذ السلّة، يتأمّلُ حزمة النّعناع الكبيرة التي تُغَطي مُحْتويات السّلّة.. نعْناع أخضر، تتصاعد رائحته الجميلة لتقتحم تجاويف الأنف.. مُتْعَةُ الوجدان والعَين معاً.. يُغادر السوق، يمتطي سيارة أجرة.. في مقعَدِهِ الخَلْفي؛ يبْدأ في تفْتيش السّلّة.. يُزيحُ حزمة النّعْناع.. يصرخ وقد أذهله الموْجود.." ما هذا؟!  موْلود..؟!!" يتوقّف السائق؛ ينْزلانِ من السيارة، يحمل اللص السّلّة، يضعُها على الأرْض، يمُدُّ يَديْه ليُخْرِج المولود؛ غير أنّ سائق الأجرة يمْنَعُه: " لا تفعلْ شيْئا.. لا تلْمَسْهُ.. سنذهب به إلى الشُّرْطة.."

في مقرِّ الشُّرْطة؛ لمْ يكن الاعترافُ بنية السّرقة؛ صَعْباً على "مسعود".. "أنا لصّ سوق وليس لصَّ بشر..!" لمْ يكنِ التحقيق طويلا مُتْعِبا.. ف "مسعود" من أصْحاب السّوابق في مجال السرقات الخفيفة وَسِجِلّهُ موْجودٌ في أرْشيف الأمْن..

بكى اللصّ بين يديْ المُحقّق وهو يُردّد في صدقٍ بادٍ: " لقدْ سرقتُ السلة كعادتي؛ وأنا أجهلُ ما بداخلها.." لمْ يكنْ بكاء "مسعود" خوفا من العقوبة، ولا خوفا من تهمة ثقيلة مثل هذه.. كان بُكاءَ تأثُّرٍ.. كان بُكاء شفقة، بُكاء حسرة على قلوب قاسية.. ساعتَها عاش "مسعود" لحظة الأسى بكلّ جوارحه.. بأمْرٍ مِن الضّابِط ؛ تقدّمت مُساعِدة أمْنِية، أخْرَجَتِ الرّضيعَ من السّلة.. وهي ترفعُهُ؛ لَمَحَتْ ورقة مطوية في قعر السلة. أشارتْ بِعيْنيْها إلى حيث الورقة، نظر المحقق إلى حيث أشارتْ، رفع الورقة وقرأ: " قبل ترْكهِ؛ أشْرَبْتُهُ مُنوِّماً حتى لا يسْتيْقِظ قبْل الأوَان..!"

وضع المُحقِّقُ رأسَهُ بيْن يديْه وغاص في تفكيره.. فجْأة انْتَبهَ وصوْتُ المُساعِدة الأمْنِية يعلو ويُكرِّر: " سيّدي.. لقدْ بدأ الرّضيعُ يتحرّك.. أنْظرْ.. !" الجسمُ الصّغير يهْتزُّ كلّه.. الأصابع الصغيرة في حجم عود الثّقاب؛ تتشابك، ثمّ تعود لتسبح في الهواء.. العينان تنْفتحان بصعوبة، ثمّ تنْغلقان وكأنّ ضوء الغُرْفة أزعجهما.. حركة الجسم تزداد، تخرج القدَمان من تحْتِ الغطاء الصّوفي وتُلامِسان ذراع المُساعِدة الأمْنيَة، قدَمَانِ في حَجْم حبّة ثمر.. يتثاءبُ الرّضيع ويسْتعدّ لِفرْض وُجودِه على الجَميع.. ! يتعالى صوت بكائه.. يكتبُ المحقّق تقريرهُ في الحين..يُسلّمُهُ للجهة المعنية، يُؤْخَذُ الرّضيعُ إلى دارِ الأيْتام.. ينْهار "مسعود" بيْن يديْ الشرطي وهو يقودهُ نحْوَ النِّظارَة..

يَا خَالة..!

" منذ ستّة أشهر فقط؛ علِمْتُ بقصّة تواجُدي في المَلجَأ.. أخْبَرَني مُدير الدّار بعْد إلْحاحٍ مُتواصِلٍ منّي، وأخذ وَعْداً منّي: أنْ أنسى الموضوع تماماً. رغم وُجود مدرسة تابعة للملجأ؛ لمْ أُفْلِحْ في الدّراسة، استشْعَرْتُ ساعات الدرس ثقيلة على نفسي.. المعلّمة تتحدّثُ عن الأخلاق.. عن العدالة.. عن الأخوّة.. عن الأحلام الجميلة.. عن الآداب العامّة..عن ضرورة الكفاح في الحياة.. عن الاعتماد على النّفس.. المعلّمة تتحدّثُ عن كلِّ شيء؛ إلّا عن ظلمِنا..!

استأذنْتُ من المدير للخروج من الملجأ.. لم يقبلْ في بداية الأمر واعتبر ذلك مُجازَفة، غير أنّ حُسْن سلوكي الذي يشهد به جميع مَنْ في الدار؛ جعلَهُ يقْبَلُ على مَضض.. وكان شرطه؛ أنْ أعود كل مساء للمبيت في الملجأ وإلا سيُخْبِر الشرطة بأنّي هربْتُ من الدّار. خرجتُ إلى الشارع الواسع.. أبْحَثُ عن رِزْقي.. عنْ.. وُجُودي إنْ كان لي وُجود.. لمْ أكنْ أُحْسِنُ عملاً عدا مهنة التّنْظيف، نظّفْتُ حوانيت الدّبّاغين والنّجّارين والعَطّارين والحدّادين والورّاقين، غسلْتُ صناديق بائعي السمك، غسلتُ واجِهات المحلات التجارية؛ إلى أنْ جمعْتُ مبلغا أعانَني على فتْحِ مشروع بيْعٍ للأشياء الخفيفة؛ وهو ما تريْنه يا خالة.."

كان "أحمد" الطفل؛ يقصُّ حكايتَه والعائلة مُتَحلّقة مِنْ حوله.. "مُخْتارية" وأخواتها. فقد طلبتْ منه في إحْدى الأمْسيات؛ أن يحملَ معها بعض المشتريات إلى الطابق الثاني؛ بعد أنْ نزلتْ من سيارة أجرة أمام باب العمارة.. كان "أحمد" على وَشك الانْصِراف.. فقدْ جمع ما تبقّى من المعروضات القليلة داخل كيس صغير؛ وَضَعَهُ تحت إبْطِه؛ وتأهّب للمغادرة. نادتْهُ، سارَعَ إلى مُساعَدَتِها، ومِنْ يوْمِها تعرّفَ على جميع أفْرَاد العائلة.. سيتعوّدُ عليْهمْ وسيتعوّدون عليْه.. كانت المناسبة عندهم؛ هي عودة الأخت الكبيرة "أمّ معاذ" من البقاع المُقَدّسة.. لذلك اضطرّتْ "مختارية" إلى الاستعانة بهِ في حمل أغراض تجهيزات هذا الحدث السّعيد..عاش الفرْحَة معَهُمْ.. عاش الدِّفءَ لأوّل مرّة.. استنشقتْ رِئتاهُ رَحيقَ الوُجود الذي خرج يبْحث عنه يوم فضّلَ اكتشاف الشارِع.. وألغى مِنْ حِسابَاتِه كلّ الموَانِع التي اعْتبرَها سِجْناً اسْتِثنائِيا في دَارِ الأيتام..

كانتِ الحاجّة "أُمَيْمَة" توصي بناتها دائماً بتفقّده.. وكثيراً ما طلبتْ منهن دعْوَتَهُ إلى تناول الغذاء معهم؛ فإذا تعذّرتِ الاستجابة للدعوة بسبب البسْطة والسلع المعروضة فوقها؛ أمَرَتْهُنّ بأخذ الطعام إليْه وهو في مكانه.. لمْ يعُدْ وحيداً.. هناك مَنْ يُفكِّرُ فيه، هناك مَنْ يتفقّدُهُ، أصبحتْ هذه العائلة بالنسبة إليْه؛ "مِنْحة" وَضعتْها الأقدارُ في حياته..

مِسكُ الحُرُوف..

بعد سنة كاملة من تربّصها الطويل بالخارج؛ تعود الأختُ الوُسْطى "حكيمة" المُتخَصِّصَة في الدراسات الِاسْتشْرَاقِية إلى البلَد؛ على أمل التّدريس في إحْدى الجامعات الوطنية.. وُعود التوظيف تتبخّر.. تلجأ إلى إحدى الشركات الخاصّة؛ فتتوَظّفُ  كنائبِ مُدير؛ في الوقت الذي كان للمدير شهادة أدْنى مِنْ شهَادتِها..! اعتبرتْ هذا العمل مُؤقّتاً، وبدأتْ تملأ فراغها في نهاية الأسْبوع بالكتابة القصصية؛ دون أنْ يُنْسيها ذلك؛ ضرورة تقديم ملفّ التّوظيف في مجال اختصاصها؛ كلّما تناهى إليْها خبَرُ فتح التوظيفات عن طريق المسابقات..

كانتْ "حكيمة" تعرف قصة "أحمد" عن طريق الرسائل والصور التي تبَادلتْها مع العائلة خلال سنة التّربّص بالخارج؛ كمْ عزَّ عليْها أنْ ينقطع الصغير عن التّعْليم في سنّ مبكرة.. ها هي اليوم؛ تتعرّفُ عليْه عنْ كثب، تلمس ذكاءه وطموحه، وتعتزم مُساعدتَه. يقضي "أحمد" الفترة الصباحية في الشارع قبالة العمارة؛ يُمارس تجارته الصغيرة- كما كان يسميها – وفي المساء يُواظبُ على الحصص التعليمية التي خصّصَتْها له "حكيمة" في بيت العائلة.. كان عملها في الشركة؛ يبدأ في الساعة الثامنة صباحاً ويتوقّف عند حدود الثالثة والنصف، تمرُّ عليْه؛ فتجدُهُ بانتظارها وقدْ جمع أشياءَهُ المتبقية.. يدخلان الدّار، رائحة القهوة التي تُحضِّرُها "عبّاسية"؛ تُنْعِشُ الدّماغ.. رائحة هذا البيْت تسْكنُ ضُلوعَه، وهو يكبر شيئا فشيئاً؛ حتّى أصبح شابا فاستأذن منْ مدير الملجأ، ولم يعُدْ يبيت هناك كما كان.. ولكنه في الوقت ذاته؛ لمْ يغْفَلْ عن زيارة الأيتام الجُدُد؛ حتّى أنّهُ كان كثيراً ما يحْمِلُ إليْهِمْ بعض الحاجيات التي لمْ يَطلْها البيْع. سعِد مديرُ الدّار وهو يلمس هذه الأخلاق الكريمة لدى "أحمد" وتمنّى له كلّ الخيِر.

ليالي الورْشة..

بعْد أنْ شارَكَهُمْ أسراره وأحلامَه، وبعْد أنْ تغذّتْ روحُهُ بِقِيَمِهِمْ ونقاوة قلوبِهِمْ، شدّتْهُ حِبالُ الودّ إليْهم.. فراح يفرح لأفراحِهِمْ ويحْزن لأحْزانِهِم، يسألُ عن غائبهِمْ، ويطمئنُّ على الحاضر منهمْ..فيفوز بثقتهم وتقترح عليْه الحاجّة "أميمة" أنْ يبيتَ في الورشة؛ بدلاً من الملجأ. تقوم "مُخْتارية" و"عبّاسية" بتجْهيز اللازم؛ فتختاران مكانا فارغاً في الورشة؛ وتدعوانه إلى مُساعَدَتِهِما في نقل الفراش والغطاء والمدفأة الكهربائية إلى حيث المبيت.. تمْنحُهُ "حكيمة" مكتباً صغيراً يعودُ إلى أيامِ طفولتها وكرْسِيا عتيقاً، يستخْدِمُهُما للقراءة وتلخيص ما يقرأ؛ حسب أوامر أستاذته "حكيمة". قبل قدوم البنات العاملات في الورشة؛ يُغادِرُ المكان إلى بيْت الحاجّة "أميْمة"، يحْتسِي قهْوَتَه بالفطائرِ اللذيذة التي تُعِدّها "عباسية" يوْمياً للعائلة.. يُسلّمُ المفتاح للحاجّة مخافة أنْ يضيعَ منه، ثمّ ينزلُ إلى الشارع؛ يتسوّق ويبيع والدّنْيا مِنْ حواليْه بطعْمٍ جديد..

كان يجد في حصص التّعَلُّم الغذاء العقلي والرّوحي.. ف: "حكيمة" تبذلُ قُصارى جُهْدِها من أجلِ تحْبيب الدّرْس إليْه.. لمَسَ صدْقَها ونُبْلَ هدفها؛ فعكف على التّحْصيل والقلبُ البريءُ يمْتنُّ لهَذا المَلاك الذي سخّرهُ اللهُ لإنارَة درْبِه. شيئاً فشيْئاً؛ يتمكن من المشاركة في امتحانات التكوين العِلمي الحُرّ فيُتابع دراستَهُ بواسطة نظام "المُراسَلَة".. يكْبُرُ حماسُهُ وهو يقطف ثمرة اجْتهاده.. نتائجُه الحسنة؛ تُفْرِحُ الجَميع.. يدخل الجامعة ويكتشف عالَما جديداً.. عالم التّخصّصات على أوْسع نطاق.. يخْتارُ شعْبة الآداب، يرْوِي ظمَأهُ بمُلازمَتِه للمكتبة. يتذوّق رحيق الخيال وهو يجوب به عوالم الفكر الإنْسَاني الرّاقي، ويحطّ به الرّحال على عتبة عيون الإبداع في مختلف العصور.

في إحدى الليالي الباردات وهو يستعدُّ للنّوم؛ بعد أنْ أمْضى وَقْتا طويلا في القراءة؛ سمِعَ جلبة في الخارج، تلاها ارتفاع أصواتٍ مُخْتلطة؛ شقّتْ سكون الليل.. ارتدى معطفهُ وخرج مُسْرِعا يستطلع الأمر.. متسكّعون يتشاجرون مع اثنيْن مِنْ مُوزِّعي المُخدّرات؛ والسلاحُ الأبيض يُغازِلُ العتْمة.. بدون تفكير؛ أخرج هاتفه من جيب معطفه وبدأ يتصلُ بالشرطة. لمَحَهُ أحَدُهُمْ، هجم عليْهِ بضربة سكّين؛ أصابتْ أحَد كتِفيْهِ.. ظلّ في مكانه ينزف حتى وقتٍ متأخّر.. حين مرّتْ دورية المُراقبة الليلية؛ كان الهاتف بيده وهو مُغْمَى عليْه.. تبيّنوا أنه كان بصدد الاتّصال.. نُقِلَ إلى المُسْتشْفى.

باب الورشة مفتوحٌ، تحرّيات الأمن؛ تتوصّلُ إلى مالكي الورْشة. يطرقون بابهمْ.. ينْهارُ الجميع.. الحاجّة "أميْمة"؛ تبكي وهي تُرَدّد: "قليل الحظ.. ماذا يُريدون منه..؟!" أما البنات فكنّ يقْطَعْنَ البهو العريض؛ ذهاباً وإياباً دون وَعْي.. لا "مُختارية" ولا "عبّاسية" يخطر ببالهما اللحاق به إلى المستشْفى في هذا الليْلِ الدّامِس.. تهرع "حكيمة" إلى هاتفها، تطلب سيارة أجرة، تُرْشِده إلى عنوان البيت وتلبس ثيابها الصوفية استعدادا للخروج. رُبع ساعة وتصل سيارة الأجرة؛ البِنْتانِ تُطلان من النافذة والحاجّة "أميْمة"؛ تسأل في قلق وعصبية: " هلْ ركِبتْ أختُكُما..؟" تُطَمْئِنانِها وتجلسانِ القُرْفصاء في حسْرةٍ تُلْجِمُ الأفواه..

رغم رباطة جأشها، رغم قوة صبرها؛ لمْ تتمكّنْ "حكيمة" من التّحَكّم في دمْعِها.. يتأثّرُ السائق لحالها، فيحُثُّها على التّفاؤل والإكثار من الدّعاء..

مِنَحُ الزّمَن عجيبة..!

بضعة أسابيع؛ كانتْ كافية ليعود "أحمد" إلى حياته الطبيعية.. فبعد مغادرته المُسْتشْفى؛ تُقْسِم الحاجة "أُمَيْمة" ألا تتركه يبيتُ في الورْشة؛ على الأقلّ وهو في طور النّقاهة. يُلَبّي طلبها لمدّة أسبوعٍ فقط، ثمّ يعود إلى مكان مبيته. في هذه الأثناء؛ تُسْتَدْعى "حكيمة" إلى الوظيفة في الجامعة.. تعُمُّ الفرْحةُ البيْت، يتقاسَمُ معَهُمْ سعادةَ اللحظة.. تُقيمُ "أمّ معاذ" حفلا بهيجاً احتفاء بِتَحقُّقِ حُلم أخْتها "حكيمة" وتيمّنا بِنَجاةِ "أحمد" من الموْت. وهي تُقدّم استقالتها لمدير الشركة؛ تتوسّط "حكيمة" لأحمد من أجل توْظيفه في أيّ منْصبٍ كان.. يعِدُها المُديرُ خيْراً خاصة وهو يرى شهادة الشابّ الجامعية ويسمعُ شهادة "حكيمة" في الشاب الأمين الخلوق. بعد شهر؛ أُسْتُدْعِيَ للعمل في أحد المكاتب التابعة للشركة خارج البلْدة..  مَنْ كان يظنّ أن هذه النّقْلة من حياة إلى حياة أخرى؛ ستخْلق مشْهدا استثنائياً يُوثِّق زمن المُكاشفة.. ستجمعه روابط الصّحْبة مع أحد زملاء العمل في الشركة، وبمُرورِ الأيّام؛ تتطوّرُ الصُّحْبَة إلى صداقة عميقة، أصبحا لا يفترقان، ومِمّا عزّز تقارُبَهُما أنّ الشركة؛ خصّصتْ لِعامِليها القادمين من خارج المنطقة؛ شُقَقا صغيرة في عمارة واحدة؛ قريبة من مكان العمل. يظلان مع بعض طوال الوقت، لا يفترقان إلا إذا ذهب "أحمد" لتفقّد الحاجة "أميْمة" بين الفينة والأخرى. عندما سأله "عصام" عن سبب علاقته بهذه الحاجّة؛ لمْ يجِدْ "أحمد" بُدّاً من سرْد حكايته منذ النّشأة في دار الأيتام إلى غاية تعرّفه على عائلة الحاجة "أميْمة".. كان "عصام" يستمع إليْهِ وقد انتابتْهُ دهشة لمْ يستطعْ إخفاءها.. وفلتَ منْ لسانه السؤالُ المُفْزِع: " مَنِ الذي وضعك في الميتم؟!" اِبتلع "أحمد" ريقه، أشاح بوجْهِه واختصر الكلام: " أنا اِبْنُ السّلّة..!! تركوني في السوق الأسبوعي.. خيّبْتُ أمل اللصّ الذي سرق السّلّة، فأخذني إلى مركز الأمن، ومِنْ ثمَّ؛ سلّموني إلى ملجأ الأيتام، وقدْ أخبرني مديرُ الدّار بقصتي عندما بلغتُ العاشرة من عمري بعد أن ألححتُ عليْه ورَجوْتُهُ.."

لمْ يسْتَطِعْ "عصام" أنْ يضبِط نفسه.. انتفختْ أوْداجُهُ وانهمرتْ دمعة حارّة على خدّه الأيمن وبدأ يُتَمْتِم: "السلّة..السلة.. السّوق.. السّوق.. تلك الأصبع الزائدة في القدَمِ اليُسْرى..!" ذُهِل "أحمد" وآذانُهُ تلتقط الكلماتِ المُبَعْثَرَة في ثنايا لحظة الميلاد الجديد.. كان "عصام" يحكي بنبْرة الموجوع المسرور في نفس الوقت: " قبل وَفاتِها بأيام؛ أمرتْني أمّي أنْ آتيها بصندوقها الحديدي الأثري المُغَطّى بقماشٍ حريري في رُكْنٍ من خزانة ملابسها، وضعْتُهُ أمامها، رَأيْتُها تلتقط مفتاحا صغيراً من وسط مزهريتها المُفضّلة على كل أثاث البيت وتحفه. المزهرية أعرِفُها منذ بدأتُ أُدْرِكُ الأشياء.. لا أحدَ يلمسُها ما عداها.. فتحتْ أمّي "كريمة" الصندوق وأخرجتْ منه رسالة تبدو قديمة حسب اصْفِرار الورَق، أشاحتْ بِوجْهِها وطلبتْ منّي أنْ أقرأها.. وأنا أفتحها؛ ظننتُها وَصِية أو ما شابه.. فكُلّنا نعلم أنّ المرض الخبيث نهش جسد أمّي وأنّها تعيش لحظاتها الأخيرة. قرأتُ والحروف تتغلغلُ في داخلي؛ فأُحِسُّها إبَراً تنْغرزُ في عقلي وقلْبي.. كِدْتُ أفْقِدُ توازُني فأصرخ في وجْهِها، كِدْتُ أصبُّ نيران غضبي في وجْهِها الهزيل الشّاحب.. سقطتُ على الأريكة عند قدَمَيْ سريرها وبكيت.. بكيت.. أرادتْ أن تعتدل في جلْستها لتتحدّث أو لتشرح.. انتبهْتُ إلى حركة يدها؛ فإذا بها تُشيرُ أنْ: " أكْمِلْ القراءة.." بقية الحروف؛ تُطوِّحُ بي في غُيومِ كرْبٍ شديد يفلق الحجر..

اشتغلتْ أمّي كمديرة طبخ في أحد البيوت البورجوازية وهي في زهرة شبابها، كانتْ قد تخرّجتْ من مدرسة الطبخ وقدّمتْ ملفّها للعمل في أحد الفنادق أو المطاعم الكبيرة في البلدة، وبعد مدة؛ حصلتْ على العمل في مطعم؛ غير أنّها لم تستمِر هناك؛ حيث اقترح عليْها أحد المُرْتادين من البورجوازيين الكبار؛ أنْ تتولى مهمة الطبخ لضيوفه من أصحاب الصفقات؛ بعد أنِ استأذن من صديقه مالك المطعم، ووعدها بأنْ يُضاعف لها الأجر الذي تحصلُ عليْه في مكان عملها. بعد تفكيرٍ طويل؛ قرّرتْ الانتقال إلى العمل في قصر البورجوازي، فاتّصل صاحب المطعم بالقصر وأخبَرهم بتلبية الطلب.

استلمتِ العمل؛ وأمانيها تتصاعد مع كلّ راتب تقبِضُه: كرسي مُتحرّك لوالدها، غسالة ثياب لوالدتها مثل بقية الجارات، سرير مُريح لأخيها الذي يُتابع دراسته في ظروف بائسة.. سيرتدي ملابس جديدة مثل أقرانه في المناسبات، ستدْعمه بالدّروس الخصوصية في الموادّ الأساسية، فتختار له أجود المُعَلّمين وأكثرهم شهرة، ستشتري له خزانة جميلة من الخشب المنقوش؛ يُرتّبُ فيها أشياءهُ ويُخفي فيها مصروفه اليومي الذي يأخذه من أخته.. ستُغيّرُ أثاث البيْت؛ فقد أكلهُ البِلى منذ سنوات ولمْ يعُدْ ينفع.. ستُحقّقُ رغبة أختها في التسجيل بدورات تكوينية للحلاقة العصرية؛ يُكلّفها ذلك مصاريف مرتفعة حيث تشتري لها ما يلزم من الأجهزة والإكسسوارات المطلوبة.. كلّ هذه الأماني تحقّقتْ بفضل تفانيها في عملها وبفضل طيبة العائلة التي اشتغلتْ عندها، حتّى أنّ ربّة القصر؛ كانت كثيرا ما تناديها لمُجالستها والاستئناس بأحاديثها المشوّقة عن عوالم الطبخ وقصص الطبّاخين وقد يتشعّبُ الحديث بينهما؛ فتنتقلان إلى مواضيع أخرى مثل الاجتماع والسياسة والرياضة والفنّ وما شابه.. تمرّ الأيام؛ فتتعرّف "كريمة" على أخ زوجة صاحب القصر العائد من ديار الغربة. تنشأ بينهما علاقة؛ فيُقرّرُ الزواج منها بعد أن أخبرتْه بحمْلها منه.. وكأنّ الخطيئة تأبى إلا أنْ تطفو على السّطح.. سيموت "توفيق" في حادث سيارة بعد أنْ كلفه صهره بالتوجه إلى أحد مصانع العائلة؛ لِمُعايَنة الشّحْن نحْو المِيناء. كانتْ "سُكيْنة" أختُه؛ تعلم كل شيء عن علاقته ب: "كريمة" فقد أخذها معه لِخطبة الفتاة من والديْها، ثمّ طلب منها أنْ تُجهِّزَ كل ما يلزم؛ اسْتِعْداداً للعُرْس.. غير أنّ أجلَهُ سبقه، واستبدل تجهيزات العرس بتجهيزات الجنازة.. فحساباتُ الأقدار؛ تتجاوزُ حسابات الأحلام..!!

مع مرور الأيام؛ يبدأ بطنُ "كريمة" في البُروز.. تُدبّرُ أختُ المرحوم أمْرها حيث تُرْسلها إلى مزرعة العائلة خارج المدينة.. هناك ستهتمّ بها العائلة المُكلّفة بالعمل في المزرعة. قبل ذلك؛ تزور "كريمة" عائلتها وتُخْبِرُهُمْ أنها ستُرافق إحدى بنات صاحب القصر للعلاج خارج البلاد، وأنّ غيابها قد يطول حتى تُشْفى المريضة. كانتْ هذه فكرة "سُكيْنة" حتى لا ينفضح الأمر.. خطّطتْ أنْ يتربّى المولود في تلك المزرعة، فهو ابنُ أخيها ولا يُمْكِنُها التّخلّي عنه. غير أنّ الحسابات الجديدة؛ ستُلْغيها الأقدار مرة أخرى.. قبْل الولادة بليْلتيْن فقط؛ تتوفّى السيدة "سُكيْنة" بسكتة قلبية على إثر خبر سقوط المروحية العسكرية التي كان قد امتطاها ابنُها في إحدى الحِصص التّدريبية..

طقوس الجنازات؛ ستحْفرُ خنْدَقَها في قلب "كريمة".. ففي ساعة سوداء؛ غابت كلّ الحلول الممكنة، ولمْ يعُدْ من الجائز البقاء في المزرعة ولا الاحتفاظ بالمولود.. كانت تتعجّب من وجود إصبع زائدة في أحد قدَمَيْه..! خمّنتْ : "رُبّما ستكون هذه الإصبع الزائدة رحمة من الله.. قد تكون هي العلامة التي تُعينُ على التعرّف عليْه يوما ما.." ثم تركتْهُ لأقْدارِه في سلّة؛ بالسّوق الأسبوعي..

تعود "كريمة" إلى عملها في القصر، تستوحشُ المكان وقدْ خلا من أحبّائها: "سُكيْنة" و"توفيق".. بعد سنوات؛ يقترِحُ عليها صاحب القصر – وهو الذي علِمَ قصّتها عن طريق زوجته سُكيْنة- يقترح عليها الزّواج من أحد أصدقائه بعد أنْ تكفّل هو بإخباره عنْ ماضيها مع صهره المرحوم "توفيق". وافق الرّجلُ وهو المُحْتاج إلى رعاية خاصة في سِنِّهِ المُتقدّمة وظروفه الصعبة. لقد هجرتْهُ زوجته السابقة حين أتْعبَها مرَضُه وكثرةُ تدخلات أهله في حياتهما بسبب عدم قدرتها على الإنْجاب رغم طول مُدّة الزّواج؛ ففضّلتِ الانْفِصال عنه.. تزوّجتْه "كريمة" دون رغبة في الزواج.. وانتقلت إلى بيتها الجديد. أدّتْ ما عليْها تُّجاه زوجها الطّيّب، خدمتْهُ، حرصتْ على أوقات أدويته ومواعيد فحوصاته.. بعد سنتيْن؛ تُنْجِبُ "عصام".. يترعرع في أحضان أسرة مثالية؛ أسرة سعيدة؛ لولا النّغص الذي كان يهزم قلب "كريمة"؛ فتبكي وحرقة التخلي عن ابنها الأول؛ تُهشِّمُ ضلوعَها.."

بكى الأخوان.. طلبا المغفرة لأمّهما وقرّرا زيارة قبرها في نهاية الأسبوع..

فوق العمود الكهربائي..

كانتْ "مختارية" تراقب الحمامة الجديدة منْ نافذتها.. سارعتْ إلى وضع بعض الخبز في زاوية من النافذة؛ ثمّ ذهبتْ لتفتح الباب على إثْرِ طرقات متتاليات.. تُفاجَأُ والشّابّان أمامَها؛ بينما صوت الحاجّة "أُميْمة"؛ يعلو ويستفسر: " مَنِ الذي طرق الباب..؟" يصيحُ "أحمد" وهو على العتبة: " أنا "أحمد" يا أمّي "أميْمة".. أحمِلُ لكِ مفاجأة.." تهلّل وجه الحاجّة وهي تسمع صوت "أحمد"..

كان غذاءً فاخراً؛ أعدّتْهُ البنات؛ بطلبٍ من الحاجّة.. وكانتْ قصة "الأقدار" مُشوِّقة؛ ستتخذ منها "حكيمة" موضوعاً جديداً لكتاباتها الرِّوائية..

في الصباح؛ تُزيحُ "مختارية" الستائر كعادتها؛ وقبل أن تفتح زجاج النافذة؛ تُبْصر حمامة بألوانٍ زاهية؛ تحمل بمنقارها أعوادا؛ بعد أنْ وضعتْ الحشائش والريش والقشّ وبعض الأغصان الصغيرة في إحدى زوايا النافذة العريضة.. تبْتهِج الفتاةُ وتُفضّل أنْ تتريّث؛ لنْ تفتح النافذة حتى لا تُزْعِجَ الضيْفة الجَديدة.. إنّها بِصَددِ بِناءِ عُشّها..

"زيْنب"؛ هذا الصّباح..

عبر أمواج الأثير؛ يتسلّلُ صوت الإعلامية المتألّقة إلى القلوب؛ ليُعْلِنَ عن موضوع جلسة اليوم: "الرواية النسوية وخصوصياتها".. كان الحوار ثقافيا ممتعا؛ ناوش عوالم السّردي النسوي وقارب إشكالاته.. "زينب"؛ بِرِقّتها، بخِفةِ رُوحِها، بِحماسِها، بِنشاطها؛ تتعمّقُ مع الروائية المبْدعة "حكيمة" في النّقاش، تُثْرِيان الجلْسة، تتدخّلُ ثلة من مُسْتَمِعي الإذاعة المحلية، تتسع الآراء النقدية، تُسْتَحْضَرُ النظريات في الإبداع الإنساني ككلٍّ؛ بعيداً عن مسألة التّصنيف.. ينجح البرنامج.. بِنبرَاتها العذْبة؛ تُعْلِنُ الإعْلامية المُتألّقة؛ نهاية الوقت المسْموح به.. تبدأ نشرة الأخبار المُفصّلة؛ تُقدّمُها إحدى زميلات "زينب"..

***

شميسة غربي/ سيدي بلعباس/ الجزائر

لا عليك أن تلومَ أحداً

لو حشّد لكَ عبارات نابية، الليل

وقذفكَ بها، كلما نأت معانيكَ عنه

اختطف عظامك البرد

مضى بك الإرث المشاغب

ونجى من فرحك الأسى

لم تكنْ تضاريسك هي الأخرى موجة تتهجى الريح

في هذي البلاد الملعونة

اذا ما حطّتْ ضحكتك الأليفة

واعترفتْ بسذاجتها، عند نهاية السطر

وهي تتلو خارطة آلامكَ وهواجسكَ

عباراتكَ الغامضة التي مزّقها الغبن

جرفت الأيام إشاراتها الجارحة

موسيقى شتراوس و هايدن وفيروز لم تعُد تهمُك،

ذخائر العمر الباهتة التي انحسرَ ايقاعها

لم تعُدْ هي الأخرى كافية للمضي إلى تيه جديد

كشفتْ أحلامك الشحيحة حقيقة واحدة

هي أنك ستضاف كرقمٍ صريح بين أقرانك

وان ما جنيته من كتابة قصيدة على أمل أن تقتفي أثرك

ما هي سوى أظلاف تحفر في أنقاض وافتراضات

ربما سينجيك السرّ الذي سافر إلى قلبك البعيد

الحبر الغامق الذي تركته ينتقم لك على طاولة الحياة

المدن المجاورة التي انطفأ فيها كل شيء

سوى ثكنات، تزينك بإشارة ماكرة

على بعد زهرة ميتة من جراحك

لا تسقط حيرانَ ....

لا تذُبْ في سُكرتكَ كالأبله

ابتسم على شغافِ الذاكرة والكذب والذل

والوعد الذي بينه وبين الجمال مسافة خبث

ابتسامة تختصر بها لوحة سريالية

لا تشبه ما اقترفه دالي من حماقات

ليبقى هنا الجدار مضاء  إذنْ

يعانقُ الفراغ،

متطلباتك،

رائحة الكلمات وعربدة القواميس.

النجمة النائمة تهتف من بعيد :

يحيا الحُبّ و قراءة الكفّ

ما لهذا الرمل من صروف

من أساطير وخيانات

من وحشة تهب المعنى زمناً آخر للعزلةِ

من ريح لاهبة عطشى تلهثُ

توقظ أبجدية كاملة للحزنِ

وفوضى تعبث بالخيالِ

ضراوة تجعلك تكابد حلما مُجنّحا

أو ربما واقعاً رثّاً

سيترك وراءه طوائفَ ممزقة وملوكاً صرعى.

***

زياد السامرائي

ارخبيل الحب قد يداهمه الاشرار

ازيحوا

عن مرايا رؤاكم

وامانيكم

واحلامكم

لون الشوك

العوسج

وثرثرة الرمل

التراب

والغبار

والتي تبدو

كعمود

الخبث المستحكم

مطارد لمدارات

البرق الريح والمطر

ولاماني الهداهد

القبرات والفراشات

فافيقوا افيقوا

ان ارخبيل الحب

قد يداهمه

الاشرار الحمقى

انا لم الق شباكي

في البحر العائج

الا من اجل

اصطياد القرش

الابيض

ولم انصب فخاخي

الا من اجل اصطياد

الحداءات

الشواهين

والبزاة

فافيقوا افيقوا

ايها الاحبة

وغنوا غنوا

مع الايل

والغزلان

اغنيات البرق

والريح

واغنيات المطر.

***

سالم الياس مدالو

 

مايا قامت حلفت بعيونا تحمينا

زلزالْ يدمِّر فينا

عشّاقْ بْيبكوا ماضينا

مايا قامت حلفت بعيونا تحمينا

مايا شفيت تا تشفي الحاضر

من قهرو يشفينا

نحنا مين

والأرض شقَت منَّا عْنَاوينا

نحنا مين

والأرض سرقت منَّا غوالينا

مايا سمعت عن زلزالا بكيت

مايا صرخت و بدمعاتا همّت سألت

أيُّوب لساتو عبيحمي دودة صبرو؟!

ولَّا الموت لاحق همُّو بغدرو؟!

مايا رجعت نامت تا تحمي بكرا

مايا حلمت إنُّو حبَّا باقي فوق الذكرى

مايا نسيت عيسى المصلوب

صارت سيرتها هادا الشعب المنكوب

مايا نسيت عدرا المثلى

صارت قداما هي الأم الثكلى

بردان و ناسي اسمو

مضيع بيتو و شكلو و كسمو

و بيطلعلك واحد بصَّار

يا روحي حملك بالقنطار

وبتطلعلك من قلب الفنجان

كذبة كبرى متل الجان

زلزالك عايش جوَّاتك

خلِّي فكرك أكبر من سحباتك

و تا تصلي راجع ركعاتك

بس لا تنس بالرجعة عقلاتك

مايا قهرت هالزلزال

عودوا يا شعبي المختار

مايا كسرت هالتمثال

قوموا يا شعبي المحتار

***

بقلم: الشاعر ياسين الرزوق زيوس

الخميس 23\2\2023

 

يقولون لي: لماذا لا تنشر ما تكتبه على الفيسبوك؟

أقول:

أنا لا أتجرأ

على نشر قصائدي

على أوراق تذروها الرياح

أخاف أنّ أحداً يَسرُقها !

فأنا لستُ نزاراً من آل القباني

ولا محموداً من آل درويش

ولا واحدا من رجالٍ يَعرفهُم زماني

وقصائدي ... يا أصدقائي

ليست قصائدَ حُبٍ

ولا حتى حِكاية

من حكاياتِ الغرامْ

قصائدي .. يا سادتي

كلِماتُ ودٍ

تحمل وجَعي وشَوقي

إلى بلدي الجَريح ِ

أرسلها  كُلَّ صَباح ٍ

نحوَ شرق المُتوسّطِ

مَعَ  سُحُبِ  الغمامْ .

***

بقلم: إسماعيل مكارم

كراسنودار 2016

في نصوص اليوم