نصوص أدبية

نصوص أدبية

حين توفي أبي كانت الدولةُ كلها في عطلة رسمية لأسبوع بسبب الحداد العام. الحداد ليس بسبب وفاة أبي بالطبع، ولكنه بسبب وفاة "الزعيم" الذي كان يحكم البلد في وقتها. وكان سبب وفاة أبي كما نظنُّ، أنه لم يجرع مرارة فقدان الزعيم الذي كان يحبه كثيراً، فحدثت له أزمة قلبية توفي بسببها. في الحقيقة أنني لم أحزن على وفاة أبي كثيراً. نعم تأثرتُ بعض الشيء لكنني كنتُ مرتاحاً بيني وبين نفسي. لأنني قد نجوت بأعجوبة من إهانات وضربات أولاد المحلّة التي كنّا نسكن فيها آنذاك. أولئك الأولاد الذين كان أبي يعذّب آباءهم في معتقلات الزعيم. حين كان يعمل جلّاداً في معتقل أمني، وكان كلما اعتقلتْ مباحث الزعيم رجلاً من رجال المحلّة بسبب شبهة أو تهمة ملّفقة، عذّبه أبي لنزع اعتراف منه بشتى أنواع الجلد والضرب والاضطهاد. وهذا الأمر دفع بأولاد المحلّة الذين تعتقل السلطات آباءهم، إلى أخذ ثارات آباءهم المعذبين منّي. فبعض الآباء حين يُفرج عنهم ويعودون إلى منازلهم بعد نجاتهم من الاعتقال، يحكون لعوائلهم عن الشخص الذي كان يشرف على تعذيبهم. وهكذا لم تتوقف هذه الدوامة إلا بوفاة أبي، ونجاتي ونجاة أهل المحّلة من هذه المحنة. كان أبي يقول أن الزعيم خالد، وأنه لن يموت، وحين كانت أمي تصلّي يسخر منها، ويقول لها صلّي باتجاه صورة زعيمنا، إشارة منه إلى أن الزعيم هو الرب الذي يؤمن به ويعبده. والذي كان يعلّق له صورة في كلّ ركن من أركان المنزل. ولشدّة هذا الحب للزعيم الراحل لم يحتمل أبي مرارة فقده، فتوفي بعد أن سمع بموت الزعيم ببرهة قصيرة. وعادة حين يموت الإنسان لا يموت ماضيه معه. ذلك الماضي الذي عاش فيه أبي ولم أرث منه سوى لقبي - ابن الجلّاد- الذي ظل لصيقاً بي. وفشلت كلّ المحاولات التي مارستها لكي أمحو الماضي، أو أزيل اللقب عن كاهل سمعتي في المحلّة. فقد ظل كما أسلفت ملتصقاً بي كما تلتصق العِلْكة بشعر الفتاة. على الرغم من تكلّف الملاطفة مع الآخرين، والسعي في عمل الخير هنا أو هناك. ظل الناس ينظرون لي على أنني واحد من أبناء الجلّادين. ولم يشفع لي اللطف ولا أعمال الخير في إزالة تلك الصورة عنّي. ولستُ أدري ما هو الشيء الذي يرضي الناس؟!. فليس هناك من صنيع خير إلا وصنعته!!. ولم يتبق إلا الرحيل من المحلّة وتركها للأبد، تاركاً السمعة واللقب اللذين ورثتهما عن أبي. وهذا لم يحدث بسبب الدافع الذي كان يدفعني لتغيير صورة العائلة. متخيلاً أن رحيلي من المحلّة سيكون انهزاماً وهروباً لن أعيش بعدهما في رخاء أبداً. وهنا تفجّرت في ذهني الفكرة الخطيرة. إن كنتُ أريد محو اللقب والسمعة فيجب عليّ أن أقوم بعمل بطولي. عمل يغطي بفداحته على كلّ الآثام التي ورثتها وأرهقت كاهلي. حين توفي الزعيم استلم من بعده ابنه مقاليد الحكم. لم يتغير النظام كثيراً. لقد بقي كل شيء على حاله. الشيء الوحيد الذي تغير في صور الزعيم. حيث تم دمج صورة الابن مع صورة والده في الشوارع والجداريات العامة. وهنا فكّرتُ أن أفضل وسيلة لصنع تاريخ جديد للعائلة، هو أن أنضم إلى جماعة مناوئة لنظام الزعيم الجديد. وإذا دخلتُ المعتقل وتعرضت للتعذيب فسيكون هذا يوم سعدي. على الأقل سيُقال عنّي أنني بطل ومناضل ضد الحكم الجائر، وغيرها من صفات الشهامة والرجولة. غاسلاً بهذه الصفات كل أدران الماضي. وسينسى الناس لقب "ابن الجلّاد" ويبتكرون لي لقباً جديداً بلا شك. لكن الحظ السيء كما يبدو لا يفارقني. لأنني قبل أن أشرع في هذه الخطوة زارنا ذات يوم أحدُ الجلّادين الذين كانوا يعملون مع أبي. وأخبرني أن دائرة الأمن ترغب في أن أحلّ محلّ أبي في وظيفة شاغرة. نزل عرض الجلّاد كالسوط على بدني. ولم أملك خياراً سوى الرفض. كيف أقبل بعمل في مكان كان يعمل فيه والدي مازلتُ أعاني من سمعته الشائنة؟!. لهذا رفضت الوظيفة الشاغرة ولم يكن رفضي مباشراً، بل تحجّجت بحجج واهية لكي أفلت من القبول بذلك العرض الذي كان مغرياً. وقبل أن يخرج زميلُ والدي الجلّاد من المنزل، خرجتُ قبله لكي أطالع الشارع خوفاً أن يراه أحد. والمصيبة أنه حين خرج من المنزل قد لمحه أحد الجيران. وكما هو مألوف لدى أهل المحلّة. خبر زيارة زميل والدي لنا انتشر كالنار في التبن. وهذا ما أضاف لمهمتي الجديدة عبئاً في إقناع الناس أن لا شأن لنا به. ولم يتبق سوى أن أضع مكبر صوت وأنادي بأعلى صوتي في شوارع المحلّة: أيها الناس صدقوني، لقد تم عرض عمل عليّ في معتقل الأمن ورفضت كرهاً وبغضاً. ومع كل المحاولات لكسب ثقة الناس بي إلا أنني لم أفلح. حتى الجماعة التي كنتُ على وشك الانضمام لها سراً، عن طريق صديق حكيت له عن تمنياتي في مناوئة هذا النظام. رفضتني ولم تقبل الانضمام لها، وابلغوا صديقي أن يتركني وشأني، لأنهم ظنّوا أنني جاسوس أعمل لدى النظام. وزيارة الجلّاد زميل والدي لمنزلنا كانت الضربة القاضية التي قصمت ظهر أحلامي. حتى عشتُ أيامي في نكد ومشقة، حين أمشي في الشارع ويخزرني الناس بأعينهم. تلك الأعين التي كانت تشتمني بنظراتها الحادة. ثمّ مرت الأيام وأنا محبوس في المنزل. أراقب بين حين وحين العالم من النافذة. وأعود إلى غرفتي مطالعاً صورة أبي المعلقة. وكانت تجلدني تلك الصورة بسياط الحزن وأنا أتمتم: لماذا... لماذا؟!. حيث صرتُ أعيش ما بين سياط ماض لم أرث منه سوى لقب مشؤوم وإهانات وضربات أولاد المحلّة. وبين حاضر ومستقبل يجلدني بسياط العار والهوان. ولم أجد لي ملاذاً سوى التصوّف والانعزال عن الناس. في محاولة منّي لغسيل نفسي من كدوراتها وأحزانها. وهذا الشيء ساعدني في أن أتعرف على شخص أرشدني إلى جماعة دينية. كانوا يرحّبون بأي عضو ينضمّ إليهم. بغض النظر عن تاريخه وسمعته!!. وبالفعل كان الأمر جدّ سهل والمهمة في الانضمام لم تكن عسيرة. أيام وأيام من اللقاءات بالإخوة الذين كانوا في الجماعة. إرشادات وخطب سرية مناوئة للنظام. وصلوات وأحاديث تحثّ على تزكية النفس والشريعة والعقائد. حتى أطمأنت نفسي مع هذه الجماعة الإيمانية، وصرتُ لا أقو على مفارقتهم والامتثال بأمرهم. الشيء الوحيد الذي لفت انتباهي أن الجماعة كان أفرادها جلّهم من الغرباء. وعرفتُ لاحقاً أن الأمر مقصود ومقنع في الوقت ذاته. حتى يسهل الفرار والإفلات من أيدي النظام. هنا عادت إليّ ثقتي بنفسي. لأنني وجدتُ في هذه الجماعة المنظمة طريقاً للثأر لكرامتي ومحو ذلك التاريخ المشين الذي تركه لي أبي. وشيئاً فشيئاً صرتُ أتقرّب إلى أن اصبحت أن الذي يؤم المصلين في مقرّنا السري. فقد حصلتُ على المباركة في الصلاة من "شيخ الجماعة" الذي لم نكن نلتقي به. ولم تصلنا أوامره إلا عن طريق وسيط منّا. والسبب أن الجماعة تخشى على حياة شيخنا المستور وراء حجاب الحيطة والحذر. ثم جاءت الأوامر من  شيخ الجماعة بعد أن كثر عددنا واشتد عودنا. وصارت لدينا القوة لكي نخرج إلى الشارع. حيث أُمرنا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في المحلّة التي كنّتُ أعيش فيها. وهنا جاءت الفرصة لكي أردّ الصفعة لتلك المحلّة التي نبذتني سابقاً. حيث سأعود لها وأنا في صفّ جماعة لا تأخذها في الحق لومة لائم. وبالفعل كنتُ والإخوان نلقن أهل المحلة دروساً قاسية في الالتزام بما نأمر به وننهى عنه. حتى وصل الأمر إلى استعمالنا "التواثي"* لكي نؤدب المخالفين والمارقين على تعاليم الجماعة. وكنتُ أنا شخصياً أحمل العصا ضارباً بها من أراه خارجاً عن أوامرنا. ولم أزدد في عين الناس إلا احتراماً وخشية، وفي عين الجماعة إلا مكانة وحظوة. حتى همس في أذني الوسيط الذي كان يربطنا بشيخ الجماعة. وقد أخبرني أن الله اجتباني لنعمة كبرى. إلا وهي اللقاء بشيخ الجماعة المستور. حيث سأفوز ببركات اللقاء به ومباركته لي شخصياً. وبالفعل ذهبنا سوية إلى المكان الذي كان يسكن فيه الشيخ. حيث كان على وشك اللقاء بي وبإخوة أخرين من جماعات متفرقة تابعين له. وبعد تبادل السلام والتهاني بيني وبين الإخوة الآخرين، دخل علينا شيخ الجماعة الذي استقبله الآخرون بالتكبير والتهليل. كان الجميع فرحين بهذا اللقاء إلا أنا. حيث تسمّرت في مكاني مدهوشاً. أطالع بفضول هيئة الشيخ ووجهه وملامحه التي بدت مألوفة عندي. لقد كنتُ أعرف جيداً هذا الشيخ على الرغم من ملابسه البيضاء وغترته ولحيته الطويلة. خصوصاً بعد أن نظر إليّ مبتسماً وصار يطالعني حين اقبلت عليه مسلماً. فعرفت فوراً حين صافحني بحرارة، أنني قبلتُ من حيث لا أدري بالوظيفة الشاغرة التي عرضها عليّ من قبل.

***

أنمار رحمة الله – قاص عراقي

.............................

* التوثية: باللهجة العراقية تعني العصا الغليظة

 

أنا عميلٌ سريّ للحدائق العامة

وللبساتين المتجاوزةِ على مساحة النهار

أتوارى داخل تويجات الورود الغافلة

وأسرقُ شَفراتِ رسائلِها العطرية

وعندما تتعبُ الأشجارُ من الوقوف

أتبادلُ معها الأدوار

لأتحسّسَ رحِمَ السواقي الحوامل

ومن مخبئي السريّ داخل اليقطينة

أراقبُ مؤامراتِ المطر

وأردّ عليها بالطشوتِ والقبعات

**

أنا العميلُ السريّ

للمزارع المزهوّة بأقراطٍ من الخنافس

أكتبُ تقاريرَ عن إصابة الحشائشِ بالصَلَع

وأقترحُ نقلَها للنوم في سريري

وأبالغُ في تقدير خطورة الخصوم

فأوصي بارتداءِ اليعاسيبِ نظّاراتٍ سود

**

أنا العميل السريّ للغابات الولود

تلك التي تُنجبُ في كلّ ولادة

آلافاً من غرف النوم والاستقبال

أبحث عن فسائلَ تُقاسي الوحدةَ واليُتم

وعن براعمَ مَلّتِ العملَ بدوامٍ كامل

فخرجتْ للتنزّهِ حاسرةَ الوجه

وربما أتّهمُ الفراشات والديدان بالخيانة

فأوعز للمقصّ بشنّ حملات تفتيش

وغاراتٍ مفاجئة

**

لا ضرورةَ لإنكار بصمةَ إبهامي

فأنا عميلٌ لسلطات الخضرة من أقصى الأمزون

حتى مذابح النخل البصرية

أتبعُ الدعسوقةَ إلى مستشفى الولادة

متوسلاً إليها أن تُنجبَ توائمَ

ببقعٍ تومض كالمصابيح

وأوقّع مواثيقَ لتقاسم الفصول

ما بيني وبين حديقة الجيران

فلا ساقيتهم تجرفُ حصّتي من الضوءِ إلى تقاويمهم

ولا ساقيتي تُغري ضفادعهم بالانتساب إلى أبنائي

**

أنا والأحراج

تدرّبنا في المعسكرات المُعطّرة بأنفاس الطين

وتقاضينا ثمن عمالتينا عناقيدَ عنب

ربما في غدٍ أتحوّلُ شجرة

فتنمو لأكتافي أغصانٌ وأوراق

وتُحوّلُ عظامي نُخاعَها إلى نسغ

***

شعر: ليث الصندوق

يا لها من لحظات ساحرة فردوسية الروح.. كان الربيع يتمايل على أنغامها طرباً.. أومأت الشمس بغمزاتها  القرمزية مودعة رياض الحياة بعد نهار حافل بالعشق والفرح.. وبينما الربيع يزخر بهذه النشوة العارمة حَطت على كفّيه فراشة كسيرة الجناح يخفق قلبها ألما كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة وتودع لحظاتها وتستنجد متلهفة !!

 ارتعد الربيع، وقال: ما الخبر يا فراشتي؟؟؟

  أجابته هامسة: لا أدري يا ربيعي.. أنا فراشة آتية من قوس قُزَح لأنشر السلام والحب في جميع أرجاء الأرض وأُزيّن الدنيا بألواني الرومانسية العاشقة.. كنت أعيش حياة حرة طليقة.. أزهو بألواني.. أغازل أكمام الزنبق وعناقيد الكرز، وألثُم براءة النسيم، وأسابق الريح مع الأطفال.. فجأة طاردني صيادون، وحاولوا اصطيادي فوقعت بين كفّيك ألتمس عطفك وحنانك فلا تتركني..

 طفقت عينا الربيع بالبكاء.. ولامس جناحي الفراشة برفق متناهٍ .. وهمس قائلا: يا فراشتي القُزَحية.. لأجلك سأفعل المستحيل حتى ترفلين ثانية كما عهدتك.. فأدمعت عينا الفراشة من الحسرة، وسألته بغصة: هل أنت ربيع حقيقي؟؟؟

أجاب: أفديك بدمي وروحي يا فراشتي الجميلة، لك ما تشائين، وسأمنحك كل الحب دون مقابل..

وتسأله: أليس بالحب تحدث المعجزات؟؟.. سأبعث فراشة قُزَحية لأجلك ونَغمر الأرواح المستغيثة على الأرض بالأمل إنما أريد مساعدتك..

الربيع: أطلبي.. وسأكون عند حسن ظنك، وإلى جانبك ما حييت..

الفراشة: أريدك أن تطلب من جميع من في الطبيعة، نسيمها، وزهورها، وطيورها،وأشجارها، وحشائشها وفيافيها، وبراريها، ولياليها، ونهاراتها وكل دابة فيها أن يؤازروا بعضهم بعضا وأن يشيعوا المحبة فيما بينهم، وأن يتصدوا لهؤلاء الصيادين الذين يطاردونني ويريدون أسّري و كل الأحرار، وأن يؤدّوا الصلاة والتأمل لسلامة الأرض، ولشفائي هذه الليلة، لأنني لن أبعث من جديد إلا بمحبتكم، وأريدك أن تحفظني في قلبك وتغمرني بدفئك وحنانك ..

فما كان من الربيع إلا أن وعد الفراشة وعدا قاطعا بأن يحفظها في قلبه، ويحرسها بعطفه وحنانه لتنام ملّتحِفَة بشغافه بعد سماعه كلماتها المستغيثة، ثم نادى على جميع من ذكر في الطبيعة طالبا منهم تأدية الصلاة والمواظبة عليها بأمانة وصدق، وكذلك مؤازرة "فراشة قُزَح" في مطاردة الصيادين صباح مساء دون هوادة لتخليصها من براثنهم المميتة..

تملّكت الفراشة سكينة صامتة أنجبت فجراً وردياً مُشرقاً بعدما شعرت بتضامن الآخرين معها، والتفافهم حولها في معركتها حتى تنتصر أحلامها وتتحقق رغباتها، فجأة  طارت  من  قلب ربيعها فراشة ناصعة البياض مزركشة بلون الصفاء والنقاء والسلام.. وقالت: لأجلك بُعثت أيها الربيع لأني أعشقك ولا حياة لي بدونك، ولأجل رسالتي الغالية التي أطمح في إيصالها للبشرية.. ابتسم الربيع بملء شدقيه مجيبا: أنت فراشة قلبي، وتعانقا معا عناق الأحبة..

بعد أن اطمأنت الفراشة القزحية لهذا اللقاء وعلاقتهما الأبدية التي لا ينفصم عراها طارت تعلو نحو السماء والسرور يغمرها..

 ناداها الربيع: إلى أين أنت ذاهبة يا فراشتي البهية؟

أجابته والدموع تملأ مقلتيها: سأعود العام القادم في مثل هذا الوقت.. انتظرني.. أنا مُمتَنّةٌ لك جدا على مساعدتك الدائمة لي ولن أنساها طالما يسري النبض في عروقي.. وكل عام وأنت ربيع عمري وحياتي، والحق، والعدل، والخير، والسعادة.. والربيع الحقيقي.

***

سلوى فرح - كندا

 

صوتُ الحقيقةِ

ناحَ على دروبِ الرَّدى

تُباغتُنا الحروبُ

بأقنعةٍ شيطانيَّةٍ

تُرعِبُنا

وتُشرِّدُنا

وتجعلنا في بوتقةٍ حمراءَ

نتهجّى كلَّ ألوانِ

العذابِ

ونكفرُ بالألمِ في دربِ الظَّلالِ

وهم قابعونَ

يخيطونَ جلودنا

بإبرٍ سامةٍ

ويبيعونَها على أرصفةِ الموتِ

نقاومُ الزَّحفَ… بالزَّحفِ

نصطادُ الوقتَ المبعثَرَ

على قارِعَةِ الشُّجونِ

لطردِ ضبابِها الأسوَدِ

الممتدِّ في كلِّ الجِهاتِ

كعاصفةٍ حمقاءَ

تُدَمِّرُ كياننا وتعبثُ

بكلِّ ما هو جميل ..

***

سلام البهية السماوي

من ديواني النثري (على أجنحة التيه)

 

الساعة على وشك منتصف النهار، وضوء الشمس في يوم صيفي قائظ قد حرك ستائر نافذه غرفة النوم بلهيب رقراق.. فتحت ريحانة عينيها لكن ما لبثت أن أغمضتهما من جديد، واضعة ذراعها على وجهها،فاشعة الضوء كانت اقوى من أن تحتملها مقلتاها..

من شهر وقبل أن يعلن الصيف لهيبه المبكر بعد سنة من جفاف شح فيها المطر، وريحانة تفكر في تغيير ستائر غرفتها بأخرى أكثر سمكا وأشد غمقا. يداهمها أمر مفاجئ فتنسى الستائرالى أن يأتي يوم جديد،تضرب الشمس عيونها صباحا فتنتبه للستائر التي يجب أن تغيرها.. 

أكثر من مرة خرجت لتقتني ستائر جديدة، فتتدفق عليها، ذكريات ماضية في الطريق، فتقصي كل غرض قد خرجت من أجله ؛ كم حاولت أن تتغلب على نسيانها هذا لكن لا تلبث ان تسقط فيه وتتمرغ في جديد طارئ تنشغل به الى أن يتبخر الأصل الذي كانت تعول على إنجازه..

اليوم يوم الستائر عبارة وضعتها في صلب عقلها وعلى طرف لسانها ترددها :

الستائر، الستائر، الستائر... ولاشيء اليوم غير الستائر..

تعد فطورها وهي تركز في نوعية الستائر التي تناسب ألوان غرفتها، تتناول ما أعدته وألوان الستائر هي ما يرفرف أعلاما بألف نوع وشكل، مصفوفة أمام بصرها، تضيف لغرفتها جمالا ورونقا، تغير لباسها وهي تدندن:

طلع الصهد فالراس

 ودوخني حر اليوم

النسيان راه وسواس

يحرك لعتاب واللوم

الرضا بواقعها ما يملأ صدر ها بقناعة،فهي قد فقدت أمها وهي صغيرة، وكان ابوها غارقا في السياسة تبتلعه بمشاكلها الى أن أخذت عمره ففقدت ريحانة كل حنان قد يعوضها غياب الأم، ملأت الغربة كيانها وكادت أن تبدد شخصيتها التي تشرذمت حين هاجر أخوها الى كندا لاتمام دراسته، ولم يتبق لها غير الغربة تعقد معها ألفة وثيقة..

طرقات على الباب تقرع سمعها فترد باسمة :

ـ ستائر انتظري..

 تتوالى الطرقات..من هذا المتعجل الذي اتى ليشغلها عن الستائر؟

يفاجئها بالباب رجل أشعث، كث اللحية ذابل الجسم،يبادرها بسلام..

تدير وجهها وقد أقفلت الباب وهي تقول : "الله يسهل "

صدى الرجل يصل اليها متقطعا كأنه يتوسل أمرا :

ـ ريحانة القلب أرجوك، تمهلي..

بسرعة تعيد فتح الباب وقد فاجأها الرجل وهو يردد اسمها كاملا. تقف أمامه متفرسة في وجهه.."أعد ما قلته"

يخفض الرجل بصره ويردد ـ

لم أقل شيئا للا ريحانة، بادريني بأكل الله يرحم الحاج المعطي..

ردد العبارة بمسكنة وتذلل ولدت في نفسها شفقة ورحمة !!..

تزداد استغرابا، الرجل يعرف اسمها واسم المرحوم أبيها، ربما أحد ممن كان تحت سلطة أبيها.. تشرع له الباب وتدعوه للدخول قبل أن تتحقق ممن يكون.. تتركه وتقصد المطبخ لتجلب له أكلا..

حين عادت وجدته يتفرس في محتويات البيت، وكأنه يسترجع ذكريات ماضية.. ركبتها رهبة جعلتها تأخذ كل الحذر وهي تضع له ما يسد به جوعه.. فما أثارها في الرجل أكثر بكثير مما استكانت اليه، وقد شرع يتصرف وكأن لا أحد يستطيع مقاومته..

دلفت الى غرفة نومها، أخذت هاتفها وحاولت ان تستدعي خالها، إذ يلزمها مؤنس يصد عنها ما قد يباغثها، فصدماتها السابقة في فقدان أمها ثم قتل أبيها غدرا من قبل رجل دنيء الأصل رضيت به زوجا، جعلها تشك في زائر غريب كم تؤنب نفسها بتوبيخ وندم أن سمحت له بالدخول الى البيت وهي وحيدة بلاحماية.. بسرعة يفاجئها الرجل بباب غرفة نومها يتطلع اليها في خبث فتضطرب، عيناه تنفذان الى دواخلها في وقاحة لم تلاحظها من قبل، يسقط الهاتف من يدها :

ـ من أنت ؟ وماذا تريد ؟ تركتك تأكل وأنا بك واثقة، وأمهلتك حتى تنهي أكلك ثم أسألك عمن تكون ؟

كشر الرجل عن أسنان سوداء :

ـ أحقا لم تعرفيني ؟ أنا فعلا تغيرت..ألم تكوني تسخرين من سمنتي ؟..أنا إسماعيل، زوجك، حبيبك، من كنت تسمينه "عبل " خرجت أمس من السجن واليك بادرت بزيارة..شوق الى مطلقتي العزيزة..

ترتعب، حلقها يجف، والحصرم ما يتوقف في حنجرتها، كل مافيها يهتز من رعب، عشرون عاما غيرت شكله.. كان بدينا حليق اللحية، أقصر قامة مما هو عليه الآن..وها هو أمامها بشعر طويل، ولحية كثة، ضامر الجسم وقد غارت عيناه فصارت كل عين في وقب عميق تحيطه حراشيف وقشور. تتجلد متحملة نظراته الوقحة عساها تخفي عنه خوفها، لكن عقلها شغال، يبني حلولا لنجاتها.. تراجعت قليلا الى الخلف، تمسكت بستائر النافذة..

ـ ماذا تريد مني، قتلت أبي،وافترقنا بطلاق،فماذا تريد بعد ؟

يسترسل في ضحكات المكر مكشرا عن أنيابه فتتبدى أكياس صغيرة تحت عينيه كأنها مملوءة بسوائل على وشك الانفجار، رعب أكبر يتملكها، شيطانا يتبدى لها، جثة أبيها تتماوج أمام ناظرها، بدقة تراقب الزائر أمامها في لحظة تحاول أن تطرد صورة أبيها حتى لا يغيبها أثر الحادثة عن حضور البديهة، فينقض عليها كما انقض على أبيها حين فاجأه وهو يفتح خزينته فطعنه بسكين بلارحمة ثم ارداه قتيلا..ولم يتم القبض عليه الا بعد شهرين من بحث وتربص..

يتقدم خطوة منها، عيناه تتحركان كبوصلة تحدد موقعا، أدركت أنه يتقصد أسهل طريقة للارتماء عليها وشل حركتها "قاتل، خبرته كبيرة بكيفية الانقضاض على ضحاياه ".. يرن الهاتف، فيتراجع،و بلهجة آمرة يقول :

ـ ردي على الهاتف،ربما يكون حبيبا،خطيبا جديدا،أليس كذلك؟

أدركت أنه يريد أن يتمكن منها فتعمدت أن تترك الهاتف يرن فوق سرير نومها، لاتوليه التفاتا، حذرة من أن تفقد قدرة تركيزها على الزائر.. يقترب أكثر من السرير، ثقته بنفسه شجعته على أن يمد يده ليلتقط الهاتف،استغلت انحناءه و نثرت ستائر النافذة بقوة، والقتها عليه فصار يتخبط داخلها كمن ركبه مس من جنون، يضرب يمنة ويسرة يحاول الانفكاك من شرنقته..

بسرعة تفتح النافذة وتقفز منها الى حديقة البيت تستغيث.

حاول الهروب بعد أن تخلص من ستائر النافذة فوجد حراس الحي بالباب وقد تنبهوا لاستغاثتها فأطلقوا الكلاب تنهشه نهشا الى أن اتى رجال الشرطة..

خسيس وضيع، لم ينفع فيه سجن ولا عقاب يوم أتى لخطبتها لم يكن غير موظف بسيط قفز بالتملق يرتقي السلالم بسرعة بعد أن ساعد اباها في الانتخابات الجماعية فاستخصه الأب كاتبا له حين تم انتخاب أبيها عمدة للمدينة، ما أن تزوجها بعد تزلف كبير لأسرتها حتى ظهرت أطماعه و نوازعه الشريرة.. انحطاط نفسه جعله يتاجر بأسرار ابيها لصالح منافسيه من تيارات أخرى وعليه يتآمر.

ذات ليلة.تسلل اللئيم من غرفة نومها وحاول سرقة وثيقة سرية وخطيرة من خزانة أبيها ولما كشفه الأب أرداه اللئيم قتيلا ثم عاد الى جانبها لينام قرير العين حتى إذا اصبح الصباح كان ممن روجوا عن أبيها التلاعب بميزانية الجماعة فانتحر اتقاء للفضيحة..لكن دهاء الشرطة كان اقوى من نفسه الشريرة فكشفت لعبته بأثر دم لا يكاد يبين وجد على وسادة زوجته فكان الخيط الذي عرى جريمته التي تم على إثرها حل حزب وتوقيف أشخاص آخرين.. شهران وهو فار متخف في قبو أحد معارضي أبيها الى أن كشفته الزوجة الثانية للمعارض..

لم تنس ريحانة ستائر نافذتها، رحل الصيف وحلت تباشير الخريف بعد إقامة عند خالها لشهور، وعاد أخوها من كندا، وقد هدأت زوابع زائرها القاتل اللئيم الذي تم الحكم عليه بالمؤبد لتختار ستائر لنافذة غرفة نومها وهي أكثر صلابة واوفر ثقة بنفسها، بين عيونها قرار حتمي: لاثقة في سائل متمسكن، ولا شفقة على دنيء وغد..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

ســيذهبُ كــلَّ مــاتركَ البُغَاةُ

وتَــذْرُوهُ الــرِّيَاحُ الــسّافِياتُ

*

ويَــسْقطُ ماادَّعَوْا زَيفاً لشِعْرٍ

ولــنْ يَــبقى لــهُ إلّا الــرُّفاتُ

*

وإنْ شَــغَلَ المنَابرَ والمقاهي

ونــاصَرَهُ الأَكــابرُ والذَّواتُ

*

طلاسمُ أربكتْ عُمْقَ المعاني

ومِــنْ سَقطاتِها انتحرَ النّحاةُ

*

لــيجعلَهَا الــعَييُّ لــهُ مَــلاذاً

إذا ضــاقتْ عــليهِ المفرداتُ

*

تَــلَــقَّفَها الــشّغوفُ بــكلِّ آتٍ

مــن الأغــرابِ كانَ لهمْ أداةُ

*

فلا البحرُ المُقَرفِصُ فوقَ تلٍّ

مـــع الأيــامِ تــرويهِ الــسقاةُ

*

ولا قِــطٌّ يــطيرُ بــلا جَــناحٍ

ومِــنْ طَــيَرانهِ تخشى القَطَاةُ

*

ســيصبحُ قِــبلةً للناسِ مَهوىً

كــنــجمٍ فــيــهِ تــأتــمُّ الــهداةُ

*

فــأَصْلُ الــشعرِ تِــبْيانٌ جَلِيٌّ

مَتَى غَلَبَتْ عليهِ المُبْهَمَاتُ.؟

*

ســيبقى الأصلُ جذاباً جميلاً

مــدى الأيــامِ تــرويهِ الرُّواةُ

*

ســيبقى صــامداً مادامَ عُرْبٌ

بــهمْ نَــفَسٌ وإنْ قــلَّ الرُّعاةُ

*

فــذوقُ العُرْبِ مصقولٌ رفيعٌ

ومـــا تُــغرِيهِ إلَّا الــطيّباتُ

*

ســيَلْفِظُ كــلَّ مــولودٍ هــجينٍ

غــريبٍ قــد يجيءُ بهِ الغزاةُ

*

بثوبٍ عَورَةٍ ما صانَ عِرْضاً

وقد غابتْ عن الجسدِ الحياةُ

*

أَنُــبْدِلُ بالحَصَافةِ شِبهِ عُرْيٍ

ومِــن أَثْــوابِنا غَــارَ الــعُرَاةُ

*

فــلا تركنْ لِمَنْ يَشْتَاطُ غَيظاً

ولا تــسمعْ لِــما قــالَ الوشاةُ

*

فــمَنْ يَــعْتَدْ عــلى زادٍ وفيرٍ

فــهلْ تُــغنِيهِ فــي يــومٍ فتاتُ

***

عــبد الناصرعليوي الــعبيدي

 

المسيح لم يولد

منذُ أعوامٍ عدة.

اليَدُ التي تقرعُ الاجراس

مبتورةُ الاصبع

تَلوَنت خدودُ العذراوات بالسوادِ

انصهارُ الكحل

بجمِر الدمع

يترك ندبا على ثنايا الروح

كُل الاماني ذابلات

أزهار الميلاد بلا روح

على دكِة المغتسل

تنتظُر الدفن!

هطولُ الأمطارِ، ذات شتاء

سَتروي الزرع

هَلّ جفَ الضرع؟

لا قدور على موائد الايتام

لااماني

لا احلام

تمازح لَيل الفاتنات

هلّ باع التاجر اقمشة

بالوان زاهية!

في الصيف القادم

ساعاقر كاس ماء بارد

لكن  أنا

رجلٌ عاقرُ

الا انها

لم تكن كذلك

هذه الارض

انها

ولادة انجبت

خوذاً، ورماحاً

واعذاق  تمرـ

***

كامل فرحان حسوني - العراق

 

حين تشيخ الأيام لا تخبو نواصيها

ولا يأذن غروبها بذاكرة العمر

غير أنها تنضج ويزهو شبابها

منتحلة هوية أيامنا بمحض نسخة.

فتنسل كأرملة سوداء بعنوة صمت يؤرقني

فلا استجارة للأستفهام منها،

غير آبهة بمشيب بيوت ارواحنا..

موشومة باستسقاء أعمارنا من ملح الذبول.

وكي لا اجامل جدية فلذات روحها

سأكون بلطافة أبنة مزن الوقت.

أهمس بوجه قلبها اللامبالي

بما أوتيت من غفلة فطرة،

وليطمئن نبض اندهاشي

من ارتعاد مجون السؤال برخاوة الفكرة.

فكل أبناء أيامك تشابهت علينا

أيتها المولودة من رحم العمر

الممهور حبلها السري باندثار الأجداد.

كلما نرقّع هندام هروبها البارد

تمزق قماط مسراتنا الدافئ

لمَ تأتينا عارية الفجأة همجية الفواجع؟

برفاهية نزوات القدر؟؟!

سأدفن بذرة الحزن خفية في تربة العمر..

ربما تنبت بادرات الفرح بنزاهة الهدنة.

ليتوضأ غد الشمس نثيث قبلة فجر.

وتولد كل شهور السنة غابات ديسمبر..

باشجار ميلاد جديد !!

***

إنعام كمونة

30/12/2023

 

هكذا كان الأمر حسبما نشرته إحدى الصحف الأجنبية

شخص ما

في مكان ما

يبني عنكبوت في إحدى أذنيه بيتا

والحق إني عشت حالة رعب قبل أن يجذبني النوم إليه. في يقظتي رأيت خرابا:

بيوتا تحترق

أشلاء

ركام

وفي أحد مشاهد اليوتوب وقع بصري على جنديّ إسرائيليّ يطرق بوابة عريضة لبيت متهدم من جراء غارة في غزة. أظنه كان مرتبكا أو فقد أعصابه.. كان هناك ركام خلف البوابة والجندي يطرق بقبضته. دفعني الخوف والملل وكثير من الحتق إلى أن أعرض عن المشاهد المتحركة أمامي وأنصرف إلى الصحف الأجنبية، وربما أنساني خبر العنكبوت في تلك الصحيفة هول الحرب المتحركة على وسائل التواصل الاجتماعي في غزة.

لكنني مع ذلك تمتعت بنوم مذهل بعد كل ما شاهدت وقرأت:

ليست هناك من كوابيس اجتاحت نومي سوى بعض حركة في أذني..

الأذن اليمنى بالضبط

قيل إن الأنبياء يأتيهم الوحي من الأذن اليمنى والشياطين تنفث هلوستها للسحرة والساحرات باليسرى.. أعرف نفسي لست شيطانا ولا نبيا. أذني الآن ثقيلة خَدرة.. نعومة غير معهودة وهناك شئ ما.

نهضت من فراشي متثاقلا، ووقفت وقفة جانبية أمام مرآة خزانة الملابس الطويلة:

دهشة

تأمل

صدمة

شبكة على بوابة أذني وسطها عنكبوت يتربص بعينيه الجاحظتين

إذن كانت الصحيفة تكتب عني.

لا أحد سواي

لفت نظري قبل النوم مشهدان أحدهما منظر الجندي الذي يقرع بوابة بيت أصبح أنقاضا، وخبر قرأته.. رؤيا ثابتة وأخرى متحرّكة ما أبصرت من عنف وماقرأت نصفه تحقق

كنت أخشى أن يكون العنكبوت ساما، يلدغني إذا ما أهجته بيدي. كل شئ أصبح الآن واضحا: عليّ أن أضع سماعة الهاتف إلى الأذن اليسرى لأرد على أية مكالمة وأتعامل بالطريقة ذاتها مع الهاتف النقال، قالت لي الطبيبة:من الأفضل أن تدعه وشأنه فهو لا يقدر إن يتوغل داخل الأذن وإلا ستقتله مادة الصمغ المرة، وعليك أن تضع في الحسبان على الأقلّ أن يكون من النوع السام فلا تحرك يدك نحوه عرفت أنه قد يبقى يوما أو يومين. رحت أراقب أذني عبر المرآة بيت جميل.. نت يربض وسطه عنكبوت يظلّ يطل من موقعه على العالم بعينين مذهلتين. خلت أن نصفه عينان، وقد اتعبني الوقوف الجانبي أمام المرآة والنظر إلى أذني فيما يشبه حالة الشزر، فلجأت إلى المرآة الصغيرة التي أمسكها أمام أذني وأحركها نحو زاوية أقرب إلى عيني. فأتقين أن هتاك بقايا بعوضة أو جناج ذبابة اصطادها ضيف أذني الطفولي.

كنت أتحاشى النوم على جانبي الأيمن، لو كانت أمي حية لقدمت لي تفسيرا أرتاح له. كانت تقول إن العنكبوت خير فهو الذي بنى بيته على باب الغار ليوهم المشركين ألا أحد فيه في حين كان النبيّ ورفيقه داخله.. أووه معان كثيرة كان يمكن أن أستوحيها من ضيف لم أتوقعه فيما لو أردت.

إذهب إلى الشارع

أتبضع

أقابل أصدقاء

حياة عادية

ولا أظنّ أحدا التفت إلى أذني. ولم تعد قنوات التواصل الاجتماعي تظهر مشهد الجندي الإسرائيلي الذي دق عدة دقات على بوابة بيت فلسطينيّ تهاوى تحت القصف. لم يغادر العنكبوت ومن خلال المرايا رأيت بقايا ضحاياه. زرت الطبيبة مرة أخرى فطمأنتني أنه سيغادر، ولا ضرر مادمت أمارس عملي وأعيش حياة طبيعية. ولكي أتجاهل أروح أتابع القنوات.

أرى جيدا

أسمع بكل وضوح وهو اليوم الرابع أو الخامس والثمانون للحرب

بين حين وآخر ألجأ للمرآة فأرى ضيفي القبيح. أحيانا أشعر بهزات بيته فأعرف أنه اصطاد حشرة ما

ومرآتي اليدويّة التي أزوغ ببصري معها تساعدني على أن أجد في بيت هش مشادٍ في أذني بعض بقايا الحشرات.

مرّ أكثر من شهرين مع ذلك مازلت أواصل مشاهدة الأخبار.. ثم انام على جنبي الأيسر في انتظار أيهما يغادر قبل الآخر الحرب أم العنكبوت؟

***

قصّة قصيرة: قصي الشيخ عسكر

 

وماذا بَعْدُ ياعَــــــــرَبُ؟

وماذا بَعْدُ ياعَــــــــرَبُ؟

*

سؤالٌ تــــــــــــافِهٌ أدري

وأتفهُ منهُ من خَطَبــــوا

*

وبالوا فوق ثوب الشعبِ

كـــــــي يَتَنَجَّسَ السببُ!

*

فلا يَقْــرُبْهُ إنســــــــــانٌ

ويُلْغيْ الطالِبَ الطَّـــلَبُ!

*

ويَمضي الجائرُ المجرور

مرفـــوعاً و(يَرْتَكِـبُ)!

*

وماذا بعد غير الجُرحِ

يَفْتَحَــــــكُمْ ويلتَـــهِبُ!

*

وغير الذَنْبِ تَحْمِلـــكمْ

على أذيـــــــالها الرُّتَبُ

*

أيُطْرِبكمْ صُراخ الـــدمِ

والأشـــــلاءُ تَختَضِبُ؟!

*

أيُثْلِـــــجُ شمسَ أعيُنِكمْ

إذا اكتَحَلَتْ بما حَــرَبوا؟!

*

وعـــــــاثوا في تَوَحُشهُمْ

وهَانَ الخَطْبُ.. والخُطَبُ!

وقادوا صَــــــــمْتكمْ رَغْمَـاً

إلى أحواشِ من حَلبــــوا!؟

*

فلا وجَبَتْ عُروبتــــــــكُمْ

ولا قُمْتُمْ بمـــــــــــا يجِبُ!

*

فلســـــــــــطينُ هي الدارُ

وأُمُّ عيـــــــــــــــونِنا وأَبُ

*

يَمينُ الله لن تكــــــــــبو...

ولن يَنْبـــُــــو  لــــــنا دَأَبُ

*

وضُفْرُ (بـــــــراءة ٍ) يكفي

ليَخْشــــــــــوهُ ويَرتعِبوا!

*

وسيـف الله فَوَّضْـــــــنَاهُ

يَمحُـــــــــوهمْ إذا اقتربوا

*

يَمــــــــــانيونَ رِبِّيُــــــون

يعلو الرأسُ لا الــــــذَنَبُ

*

فلا نــــــــــامت لنا عينٌ...

ولا ارتفَعَتْ لنـــــا سُحُبُ!

*

لنا الميــــدان  لا أنتــــــمْ

فَمِــــــنّا الليثُ... والشُّهُبُ

*

ومنّا العـــــــــــهدُ لايفنى

وإنْ هَرِمَتْ بنَــا الحِقَبُ!

*

و فينا عِـــــــــــــزَّةٌ تَأبى

خُنُوعــــاً أيها الـ(حُجُبُ)!

**

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

ديسمبر ٢٠٢٣م

 

العمر له نجوم

والنجوم لها عمر

فكلما وسعت سماء روحي

يزداد العمر الافتراضي

لاقمار قلبي ونجومه

2 -

ارائي ورؤاي

تركض حافية

صوب سماء الحقيقة

فيما الحقيقة

نجمة ساطعة

في سماء روحي

3 -

المسافة بين الياس والحزن

ضعف المسافة

بين الفرح وسماء الحقيقة

لكن المسافة بين بيدر قلبي

وزقزقات عصافيرة

تساوي صفرا .

***

سالم الياس مدالو

كل ما اعرفه عن الهيدروجين

انه اكسير للمحكومين  بالاعدام

*

وكل ما اعرفه عن الذكاء الاصطناعي

انه استنساخ للمتقدمين في السن

*

وكل ما اعرفه عن المناديل الورقية

انها تزداد نعومة

في ايادي الجميلات

الرافلات في الاحذية المدببة

*

اما انا فسأكمل رحلتي

في سلال القمامة

باحثا عن حظي اليائس

بين بقايا ارواح منتهية الصلاحية

*

فلا حاجة لي اليوم

ان اصحو على صبح جديد

لاكون صريحا معكم تماما

لقد انطفأ الحلم وخاب الامل

وسأموت بعد ايام

وكاجراء روتيني

ساستيقظ بعد مراسيم الدفن

لاستخراج شهادة الوفاة

من مكتب حفار القبور

*

ليس لي في محافل الشعر

غير اثقال الشيخوخة

وايام هرمت بسرعة الضوء

*

عندما امر بمرحلة وحشية

اقوم ببحث عن الثأر

في زرب الانترنت

ما أنا الاذئب منفرد ابتكره الذكاء الاصطناعي

قد يحدث ان اجلس على مقعد في حديقة عامة

مع المفلسين والمشردين

وصعاليك من سلالة الهيدروجين البشري

*

وسافترض انني نمت فى حضن  حجر نجمة غجرية

تحت ضوء القمر بابعاد ثلاثية

وكلما كسبت رهان من اجل كبوة معكوسة

لخيول جامحة

أتأخر في كتابة وصيتي

أتعسف على كثير

ممن دخلوا حلبة الشعر

فقصائدهم غير متكافئة

وغير قابلة للتجديد

فهي تحتاج الى هيدروجين سائل

يجردها من الصدأ

*

كل ما انجزته الآن

لا شيء  غير ربوت لامرأة عاقرة

فقدت رضيعها

نتيجة علاقة غير شرعية

افتعلها الذكاء الصناعي

*

بقي ان اقول ان الهيدروجين

جراد متناسل

وان بمقدوري ان اتحدى

الذكاء الاصطناعي بكل سهولة

فقوانين اللعبة لا تتغير

لمن يبغون التوقيت

بحبات الساعة الرملية

***

بن يونس ماجن

بلونِ التحيات يدخلُ منسللاً

وجه ُ هذا الغريب ِ،

يُفتّشُ عن وجع ٍ تائه ٍ

في ثيابِ الحدائق ِ،

في بحّةِ النايِ،

أو شهقة ٍ للندى

تستريح ُ السماءُ على صمته ِ لحظة ً

للتأمّل ِ

في وجه ِ هذا الغريب ِ

المُغيّب ِ بين النهايات ِ

يستنزف ُ الماءَ من جبهة ِ الصخر ِ

لاشئ َ غيرُ القميص ِ

الذي ترتديه ِ المياه ْ

يرفّ ُ على روحه ِ بانتظار النوارس ِ

تختطفُ الموجٍ َ

مشتعلا ً في أناه ْ

هو الآن َ ينهضُ فيه الرمادُ

الأخيرُ

فتبكي الأغانيْ على جمرة ٍ

رقدت ْ في رؤاه ْ

*

صوت ُ هذا المدى،

والزمان ِ الذي كان (أعمى المعرّة ِ)

يُطفي نياشينَه ُ

باحتدام ِ النشيد ِ مع الأسئله ْ

" أبكتْ تلكمُ الحمامةُ "

أم أفزعَتها الأغاني؟

هنا

يستبيح ُ المسافة َ بين المسّرة ِ في النرجس الفذ ِّ

وبين العذاب ِ على " الجلجله ْ

***

شعر: نزار حاتم

وجهك ام رفاتُ

ليس به حياةُ

*

غادره الحسنُ البريء فهوَ ترَّهاتُ

*

جُنَّ بحسنٍ زائفٍ

وانفلت انفلاتُ

*

يا موظةَ التجميل ما في قبحها موظاتُ

*

لم يبق وجهٌ واحدٌ

لم تره الصالاتُ

*

قلت ارحمونا وانتهوا

ولتنتهي مأساةُ

*

وانتِ يا وجيهةً

وجهك تحريفاتُ

*

والله كنتِ امرأةً

واليوم أنتِ شاةُ

*

ماذا أرى .. ألم تكن

تَصدقك المرآةُ؟

*

فمٌ ولا بَقَرَةٌ

أنفٌ ولا سَعلاةُ

*

حواجبٌ أضاع حسنَ رسمهنَّ (التاتو)

*

وطال حنكٌ كأبي الهول فيا زوعاتُ

*

وفي الشفاه فِنَرٌ

مُجَّت به القبلاتُ

*

سكَّانُ وجهك المساكينُ جميعا ماتوا

*

والله لم أعرفك! قلتُ: (هل لها خواتُ)؟

*

أصبحتِ (أخرى) ليسَ أنتِ، ليسَ فيك ذاتُ

*

أتلك (تجميلاتُ)

أم تلك (تقبيحاتُ)

*

ماذا جرى تخبَّل النسوانُ والبناتُ

*

الذنبُ للقالب لا

ذنبٌ لها الطيناتُ

*

جاءت ترينا حسنها الجديد (خريعاتُ)

*

فلعَّبت نفوسنا

كأنها كراتُ

*

قلتُ ابدلي رأسك لا

تُجدي الجراحيَّاتُ

*

هيهات منك الحسن يا

قبيحةٌ هيهاتُ

*

بريئة كنتِ فزانتك الجماليَّاتُ

*

عودي الى وجهك

أو نفسك يا فتاةُ

***

الدكتور محمد تقي جون

 

عبد الامير العباديامرأةٌ في اقصى الجهاتِ

قالوا جُرِحَ قلبها

استوطنتْ ادغالَ الدنيا

تبحثُ عن ضماداتٍ لِقلبها

قلتُ اني انهيتُ إعدادَ حقيبةِ اسفاري

حملتُ شرايين قلبي كي اقطبَ جراحاتها

 

امرأةٌ تهزُ مهدَ الالهةِ

تداوي ساعاتِ السحرِ

أنى لكِ تلكَ الشموعُ

اخبرتني ثمةَ عيونٍ لا تعرفُ الحسدَ

ايقضتْ صحوي ارجوحةُ مصيرٍ

عفيفةٌ من احببتها

فتحتُ لها اسرارَ صمتي

انتصبتُ الهاً نذرتُ له العمرَ قرباناً

 

تسألني النساءُ عن اصولِ العشقِ

أتهافتُ ابحثُ عن فكِ طوقِ عذاباتي

اقولُ لعلني اخطأتُ يا امرأة

يأتي الصدى اقتربَ

السماءُ تحتضنُ من عشقتْ

تعلقها كوكبٌ سماويٌ يا رجلُ

 

يا أمراه لقد تعاقدتُ مع الالهةِ

اشتري لكِ جبلاً ومنصةَ شعرٍ

القي في حضرةِ الكهنةِ

قصيدةً، قلتُ دونوها

بأحبارِ اوردتي 'انثروها

مع كلِ الصباحاتِ الفيروزيةِ

 

الان خذي ما تبقى

من شذراتِ نزفي 'قولي ما تشائين

قررتُ ان تكون جذوراً

لعمري الذي افنى جذوره

تبركاً باغصانِ حبكِ

 

أنا وانتِ اي حرفٍ يجمعنا

احرفُ الحبِ ما خُلقتْ الا لاجلكِ

كي تكوني مليكةً لحبٍ انتِ تاجه المؤبدِ

 

من الحماقةِ ان لا تعشقي

لا مدوناتٍ ترصعُ سحرَ غورنا

انتِ المخطوطةُ الازليةُ

وانتِ النقوشُ والازاميلُ

وقلبي اللوحُ الذي ينتظرُ لبَ ريشتكِ

لنكتبَ قصةَ حضاراتِ هذا الوله الخالدِ

 

يا خاتمتي المؤبدةِ

لقد مخرتِ كل عبابِ البحورِ

أنا يا سيدتي مولوي في النسكِ

ادعو لاكونَ آخرَ المتصوفةِ

وأشعاري حتفٌ يسوقني قنديلاً

يضيئُ لشهداءِ الحبِ

***

عبد الامير العبادي

 

ناجي ظاهرجمع صخر العدوان في اسمه ما بين اسمين، يكمل احدهما الآخر ويعزّزه ايضًا، وكنا نرى فيه اسمًا على مسمى، فقد قسا علينا، نحن ابناء حارته، واحدًا تلو الآخر، ولم يوفر أيًا منا ليوم كريهة وسداد ثأر. كأنما هو يقتصُ منا.. وينزل فينا عقابًا كان يفترض ان ينزله بقتلة والده قبل ولادته بأشهر، الامر الذي دفع احد ساخرينا إلى القول: " مقدرش على الجمل دق بالبُردعة". أما أنا فقد راقبته منذ بداياته أيام أراد أن يكون شاعرًا مفلّقًا، وأصدر مجموعة من الشعر دلّت على موهبة متدفقة، وعلى قدرة معجزة في الاغتراف من بحر الشعر، وليس النحت من صخره، وقد كنت معجبًا به آنذاك.. كل الاعجاب، فرُحتُ اكيلُ له المديحَ على الطالع والنازل، ما حبّب الكثيرين من أبناء حارتنا به ودفعهم لأن يخطبوا ودّه.. وحتى حينما وقع الحادث الاكبر في حياته، ذلك الحادث الذي بقي متحفظًا عليه.. كما يتحفّظ الموجوع على دُمّله، بقيت واقفًا معه.. وإلى جانبه، أما عندما انقلب من العدوان الركيّض، إلى عدوان الاعتداء، فقد كان لا بد لي من توجيه السؤال الخالد إليه: لماذا؟، فبرر عدوانيته المستجدة.. بقوله إنها كانت ملجأه الوحيد للمضي في رحلة الحياة الصعبة، وإنه إنما أراد بها أن يُعلّم الحياة درسًا لا تنساه، مضيفًا ان الحياة هي الناس، الاخصام والاحباب أيضًا.

بعد ذلك الحادث الذي تكتم عليه صخر حتى أيامه الاخيرة في الحياة، لم يعد هو.. هو وإن كنا بقينا نحن، أنا على الاقل، أنا.. أنا، وكان سبب بقائي على ما أنا عليه، هو إيماني المطلق به وبرسالته الشاعرية، غير أن ما حصل فيما  بعد، هو أن طرقنا اختلفت وتصالبت مع بعضها بعضًا، وقد جاءت النتيجة على النحو التالي، هو ترك عبادة ربة الشعر هاجرًا إياها إلى ربة المال، وأنا بقيت على حبي للربّة الاولى، الامر الذي دفعه لأن يُعيد.. وأن يكرر وصفي بـ الابله. وقد تقبلت وصفه ذاك، لمحبة تأصلت في نفسي تجاه ابطالنا المُهجّرين أولًا وتجاه ابنائهم الميامين.. وهو منهم ثانيًا.

للحقيقة أقول إن صخرًا كان عنيدًا وطموحًا أيضًا، في كل ما يقوم به ويمارسه من أفعال، وهو لم يكن يؤمن كثيرًا بالأقوال، وكان يراها بضاعة الخائبين، أمثالي، لذا عندما انتقل من عبادة الشعر إلى عبادة المال، كان دائم السعي والتنقيب عن المصادر المترخنة الغنية بالأموال، فتنقّل من عمل إلى آخر.. ومن منصب حسّاس.. دسم إلى آخر، وكان أن توصل في فترات حياته الأخيرة، بحنكته وتخطيطه المحكم، لتولي ادارة مؤسسة ثقافية ذات قيمة وشيمة، وذلك بعد حكاية تروى، فقد تم تعيينه خلال، وبعد ندوة أقامتها تلك المؤسسة وحضرها مستخدموها جميعهم تقريبًا، ومما نُمّي إلي أقول: إنه ما أن انتهى رئيس المؤسسة من طرح وجهة نظره القائلة بأن على الجميع أن ينصاعوا لأوامره، إذا ما أرادوا وضعًا أفضل لهم وللمؤسسة، موضّحًا أن السفينة إنما تُقاد بهمّة ربانٍ واحد فقط، وأن الطبخة إذا ما كثُر طباخوها شاطت، حتى انطلقت تذمرات مستخدمي المؤسسة الرافضة لمنطق، لا يرى أي منطق سوى منطقه الخاص سليمًا، ويبدو أن صخرًا رآها فرصة سانحة، فراح يكيل المديح للرئيس.. ولما فاض به لسانه من حكم تشبه الدرر، بل إنه تمادى في موقفه ذاك، فراح ينتقد المنتقدين داعمًا رأيه بأهمية نقد النقد.. منطق صخر ذاك أعجب رئيس المؤسسة، فما كان منه إلا أن أشار إليه بهزة من رأسه، طالبًا إليه أن يتبعه بعد انفضاض الاجتماع إلى غرفته في أعماق المؤسسة.

بسرعة التوافق بين الطيور المتجانسة، تمّ الاتفاق على أن يتولّى صخر، ابتداء من اللحظة، بل من الآن، منصب مدير المؤسسة، فالثقافة تحتاج إلى مَن يصونها ويرعاها، وليس إلى مَن يُميّعها.. كما اتفق الاثنان، الرئيس وصخر. في اليوم ذاته تولّى صخر منصبه، حمل حقيبته الديبلومات، وتوقّف في أعلى مرتفع في المؤسسة مُراقبًا كل ما يحدث فيها، وكان أن أجرى لقاءات تعارف أولية بينه وبين موظفيه، بهدف اعطاء كل ذي حق حقه وتوكيل الانسان المناسب بالمهمة المناسبة.

أجرى المقابلات مع موظفيه واحدًا تلو الآخر، وعندما توقف قبالته الموظف الثالث، ادرك انه عثر على بغيته، فطلب منه أن يقترب منه وهمس في أذنه قائلًا له إنه وقع الاختيار عليه ليكون الساعد الأيمن له في مراقبة ما يدور في المؤسسة، من أجل نجاعة أكثر في أدائها. انتهى الاجتماع بين المدير الجديد وبين مستخدميه الجُدد في المؤسسة، ليتفرق كل عائدًا إلى مكتبه وعمله.

في اليوم التالي، وهذا ما عرفته من ذاك الموظف "العَين" ذاته، بعد حكاية سأؤجل سردها قليلًا، جاءه هذا الموظف بخبر مفاده أن هناك تذمرًا جديًا بين الموظفين بسبب تجاوز رئيسهم لهم وجلبَ شخصٍ من خارج المؤسسة ليكون مديرًا عليهم، وأشار إلى موظف مشاكس عُرف بالرفض وعدم القبول للكثير من الاوامر. هزّ صخر رأسه علامة على أن حَبَّ الموظف المقصود وصل لحظة الطحن، فوضعه تحت المجهر طوال أربع وعشرين ساعة ليدعوه فيما بعد، انت قمت بالكثير من التقصيرات في عملك خلال الاشهر الماضية، لذا فإنني أسلمك كتاب الفصل. بإمكانك التوجه إلى محاسب المؤسسة لتقاضي أجرتك واتعابك مع حبّة مسك. وعبثًا حاول الموظف استعطافه، متوسلًا إليه بأنه أب لخمسة اطفال ويحتاجون للكثير من أجل إعالته لهم، فقد اصم اذنيه، فما كان من هذا الموظف إلا أن توجّه إلى رئيس المؤسسة طالبًا منه إعادة النظر في فصله المباغت من العمل، وقد عرفت مما نمي إلي، أن الرئيس فتح ملف الفصل عن العمل، ليتأكد من أنه عثر على المدير المناسب، وليواصل رفضه لإعادة النظر المطلوبة في فصله عن عمله. وعندما دخل صخر غرفة رئيس المؤسسة.. وقع ما كان يتوقعه، لقد قررنا رفع درجتك، لتكون مساعدًا اوليًا لي. لكن كيف سنملأ الفراغ الذي خلفه ذاك الموظف الكبير؟ ابتسم صخر وهو يرسل نحو رئيسه ابتسامة ذات الف معنى ومعنى.. أترك هذا علي.. في اليوم التالي كان صخر قد ملأ الفراغ بأحد اتباعه الراضخين له.. على طول المدى.

وكان صخر كما قال لي جاسوسه ذاك الموظف، قد استبدل معظم موظفي المؤسسة، بأشخاص آخرين هو راضٍ عنهم. بعد هذا، كان عليه ان يُسدّد ضربته الأخيرة إلى ساعده الايمن، ذلك الموظف، ولم يكن صعبًا عليه أن يخيط له ملفًا، يمكن أن يدخله السجن، وليس الاقالة من عمله في المؤسسة وحسب، إلا أنه وُجه هذه المرة بقوة كبيرة، فما كان من هذا الموظف إلا أن فرط كيسه من أسفله إلى أعلاه، وهو ما أدى إلى موافقة رئيس المؤسسة الفصل.. شكليًا.. اولًا، ووضع مديرها، صخر العدوان ثانيًا، تحت المراقبة أربعًا وعشرين ساعة، مستعينًا بالموظف المفصول ذاته، وطالبًا منه أن يكون عونًا له في كشف عورات مدير المؤسسة. لم تمض سوى أيام حتى تبين أن صخر العدوان قد سيطر على المؤسسة الثقافية سيطرة شبه تامة، وعندما توقف رئيسها حائرًا ما بين الشك واليقين، قرّر أن يلعب لعبته الكبرى، .. في أن يمتحن قدرته وأن يكتشف العطل، فاستدعى صخرًا وسلّمه كتاب إقالته من عمله مديرًا لمؤسسته. تقبّل صخرٌ الامرَ ببرود أعصاب عُرف به، منذ ذلك الحادث الذي تكتم عليه حتى يومه الأخير في عالمنا، وما أن خرج من غرفة رئيسه، حتى عقد اجتماعًا لأصدقائه الموظفين، تباحث معهم في كيفية الرد على مديرهم، فاتفق هؤلاء على مقاطعة المدير، وعدم العودة إلى العمل إلا بعد إعادة صخر إلى عمله.

أوصل ذلك الموظف المفصول شكليًا، الانباء إلى رئيسه أولًا بأول، فما كان من الرئيس إلا أن ضرب ضربته القاصمة، وشبه الانتحارية لانقاد سفينة مؤسسته.. وافق على استقالة جميع موظفي مؤسسته غير آسف على أيٍ منهم، وكان آخر من أقالهم ذلك الموظف الجاسوس الملازم للجميع. الامر الذي دفعه لطلب اللقاء بي، على اعتبار انني من اصدقاء صخر العدوان.. وسرد تفاصيل ما جرى له في أيامه الاخيرة. وها انذا اروي لكم ما رواه لي، دون زيادة او نقصان، أما صخر العدوان فقد عاد إلى بيته.. وقد اعتمت الدنيا في عينيه.. واستسلم لنوم عميق... عميق..

 

قصة: ناجي ظاهر

 

 

سوف عبيدفي عامه الخمسين

لجلوسه على العرش

اِنتصب أنو شروان في صدر الإيوان

بين يديه الأمراء والوزراء والأعيان

والجواري والغلمان

*

ظلّ أنو شروان صامتا

لم ينبس ببنت شفة

ولا حتّى اِبن لسان

أطرق زمنا

وجم الحاضرون في أماكنهم

لا أحد يجرؤ على الكلام

طال إطراق أنو شروان

فجأة هزّ رأسه كسرى أنو شروان

وقال ـ أتدرون ما ألذّ شيء

في الدنيا؟

لا أحد عزم أمره أجاب

*

حينذاك قال كسرى أنو شروان

ـ أخذت من الدنيا كلّ شيء

شربت حلو الشّراب

أكلت شهيّ الطعام

لبست فاخر الثياب

أنا الذي سلطانه من هنا

إلى أقاصي البلدان

ونلتُ من كلّ حسن وجمالْ

فلم أجدْ في الدّنيا

ألذَّ

من مُحادثة الرّجالْ !

***

سُوف عبيد

 

عبد اللطيف الصافيلأجلكِ يَا حَبِيبتي

سأجْعلُ منْ رذاذِ الغيْمِ

زاداً للقُلوبِ البائِسةِ

وأَرْوي عطَشَها بدَمِ الرِّيحِ

سأُربِّي الحلْمَ الذِّي يطْفُو فوقَ ملْحِ عَيْنيكِ

أبثُّهُ قواعِدَ العشْقِ الأربَعونَ

وآياتٍ بيِّناتٍ منَ الجُنونِ

سأكرِّسُ كلَّ حَواسي لِرَائحةِ المَطرِ

أجْعلُ منْ ثغْركِ العَذْب

معْزوفةً متْرعةً بالجَمالِ

تداعبُ أوْتارَ قَلبي

سأَهْدِمُ كُلَّ معَابِدِ الْحُبِّ الْقَدِيمةِ

أهْزِمُ الْحَنِينَ الَّذي يُسَيِّجُ رُوحِي

وأمْضِي مِثْل ضوْءِ البرُوقِ

أفضُّ بَكارةَ اللَّيلِ

فترقصُ النُّجومُ بينَ تلالِ نهْديكِ

تُضيءُ وُشُومَ الْفرحِ

البَادِيةَ عَلى جَسَدِكِ الْمُرْتجِفِ

مثلُ بُرْكانٍ

حِينئذٍ

سَيكونُ بوُسْعي يا حَبيبتي

أنْ  أحتضِنَ صوْتَ النُّبوءاتِ

المشْتعلِ في دمكِ

وأنْ أهزَّ عُروشَ خيْلكِ المُسرَّجةِ

خلفَ أبوابِ الصَّمتِ

وأصْرُخَ في العالَمِين

مِلءَ أَشْواقِي

من فَوْقِ الْمآذِنِ

بيْنَ شُقُوقِ الْماءِ الْمُتَوهِّجِ فِي صَلَوَاتِي

فِي سرِّي و عَلانِيَّتي

وعَلَى مَائدة إحْتِضارِي

أحِبُّكِ.

***

عبد اللطيف الصافي/المغرب

 

محسن عبد المعطيقِصَّةُ الْغَزَالِ فِي ضَوْءِ الْحَدِيثِ الشَّرِيفْ

يَا رَوْعَةَ الْغَزَالِ!!!=فِي قِمَّةِ الْجَمَالِ

رَشَاقَةٌ وَخِفَّةٌ=يَا مَضْــــرِبَ الأَمْثَالِ

إِشْرَاقَةٌ وَسُرْعَةٌ=تَعِيشُ فِـــي خَيَالِي

عِنْدَ الشُّرُوقَ – إِخْوَتِي=يَا فَرْحَــةَ الْأَطْفَالِ!

وَالْمِسْكُ – يَا أَحِـبَّتِي-=بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ

                      ***

عُرْبٌ كِـــــــرَامٌ لَقَّبُوا=الشَّمْسَ بِالْغَزَالةْ

فِي وَقْتِ إِشْرَاقٍ لَهَا=بِفَضْلِ ذِي الْجَلاَلَةْ

                      ***

لَحْمُ الْغَزَالِ طَيِّـبُ=وَالْمِسْـكُ مِنْـهُ أَطْيَبُ

كَمَا أَبَانَ سَــيِّـدِي=خَيْرُ الْأَنَامِ الْمُهْــتَدِي

فَطَيَّبَتْهُ عَائِشَةْ=قَبْلَ الطَّـــــوَافِ الْأَمْجَدِ

فِي يَوْمِ نَحْـرٍ خَالِدٍ=لَدَى الزَّمَانِ الْأَبْعَدِ

               ***

اَلْمُسْلِمُونَ فِي الطَّوَافْ=كَأَنَّهُـــــــــمْ غِزْلاَنْ

فَحِينَمَا جَــــاءَ الرَّسُولْ=اَلْمُصْطَفَى الْإِنْسَانْ

وَقَصْدُهُ أُمُّ الْقُرَى=فِي الْعُمْرَةِ الْمُقَدَّرَةْ

وَمَعَــــهُ أَصْحَابُهُ=كَعُصْبَةٍ مُسْتَبْشِرَةْ

مِنْ بَعْدِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةْ=بِسَنَةٍ يَا صَحْبِيَهْ

يَأْمُرُهُمْ بِالْهَرْوَلَةْ=رَسُولُنَا مَـــــــا أَنْبَلَهْ!

فَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْ=رٌ وَالْجُمُوعُ مُكَبِّرَةْ

وَالْمُشْرِكُونَ أَبْصَرُو=هُـــــمْ قُوَّةً مُعَبِّرَةْ

عِنْدَ الطَّوَافِ الْهَرْوَلَةْ=وَالْمَشْيُ بِالرُّكْـنِ الْيَمَانِي

فَشَبَّهُوهُمْ عِـــــنْدَ ذَا=كَ الْحَالِ بِالْغِــــــــــزْلاَنِ

                 ***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

 

فرات المحسنفي الجنوب البعيد، في قرية نائية. هناك حيث يغور الجوع والمرض بعيدا في تلك الشعاب والسواقي وبيوت الطين، ليصطاد ويغل حقده في صدور البشر دون رقيب وحسيب. كان جبار مطشر مهودر، بعامه الذي لم يدون في تأريخ محدد، يشذب سعفاته، استحضارا لطلب جديد. فقد أمتهن منذ طفولته صناعة المقاعد والمناضد من سعف النخيل.  

 يروي جبار مطشر مهودر بفيض من كلمات، إن عمره من عمر ملك العراق فيصل الثاني، الذي قتلته اليد الظالمة في اليوم الأول من جمهورية عبد الكريم وعبد السلام. هذا ما يؤكده جبار مطشر  بتلذذ يخالطه شيء من الحزن، حين يُسأل عن عمره. يدون في ذاكرته هذا التأريخ مع تفاصيل أخرى، يلذ له الحديث حولها، ويردف ذلك بالقول تأكيدا لما يرويه، بأنه سمع ذلك وغيره، من عمته لطيفة، التي ماتت بالتدرن بعد وفاة أمه بعشرة أعوام، لذا أحتاج لمعرفة يوم مولده مدة ليست بالقصيرة، ودائما ما يقول بأنه ما عاد يأسف لضياع أيامه، ولا حتى سنوات طويلة قضاها هاربا من الخدمة العسكرية، يجوب الهور، يعبر الحدود نحو إيران هربا من رجال الأمن العراقيين، ومن ثم يعود هاربا حين يطارد من الشرطة الإيرانية.

 كان يمط شفتيه ويشعر بالنشوة وهو يتحدث عن عمره، الذي يقرنه بولادة ملك العراق، بالرغم من أنه لا يعرف بالضبط في أي عام أو يوم ولد ذاك الملك. ولكن جبار مطشر مهودر يقول إن عمته لطيفة كانت ذكية نبهة وتؤرخ للقرية حوادثها وأبناءها، لذا لا يمكن الشك فيما تقوله أو تعلن عنه.

 دائما ما يبدو جبار مطشر في حديثه عن عمره، وكأن له علاقة قربى بذاك الشاب الجميل الطلة الأنيق الذي اغتالته رصاصات رعناء، لم تأخذ بالاعتبار حتى صلة الرحم التي تربطه بآل بيت النبوة، هكذا يصف جبار الملك فيصل الثاني والواقعة التي أسست للجمهورية الأولى في العراق.

 يسرح في البعيد، ومع دقات فأسه فوق اللوح الخشبي وهي تشذب السعف وتنضده، يتذكر سنوات عمره التي سارت بعجالة، دون أن يتغير حاله كما حال قريته المنسية الراقدة بين الماء والسماء.

فوق حصير جوار باب كوخه الطيني، جلس جبار مطشر مهودر يبسط يده ويرفعها في عمل دؤوب مثابر،تحيطه كومة سعف نخيل، وجواره جلس حفيده ذو التسعة سنين، ينظر لكف جده وهي تعمل بترو ودقة، فيشعر بذات الزهو الذي يعتمر قلب جده.

ـ جدي ، مَن هو بوش؟!

قال الحفيد وهو يتطلع لفأس جده وهي تنقر برتابة غصن السعفة لتشذبه. 

بوجه باش وابتسامة عريضة أجابه الجد

ـ بوش هو رئيس أمريكا.

ـ أهو من عشيرتنا؟!

ـ كلا يا ولدي فهو رئيس أمريكا.

ـ وأين تسكن عشيرة أمريكا؟

ـ أمريكا ليست عشيرة، أمريكا دولة يا ابني.

ـ وأين تقع دولة أمريكا؟

ـ إنها بعيدة جدا عنا.

ـ أبعد من سوق الشيوخ؟

ضحك الجد بصوت مكتوم قبل أن يرد، وراح يمسد شعر حفيده :

ـ أبعد وأبعد.

ـ أبعد من الناصرية ؟.

ـ أبعد وأبعد يا ولدي. قالها وتغضن جلد خديه، حين انفرج فمه عن ابتسامة برزت معها عظام وجهه المكدود الهرم، وبقايا أسنان نخرها دخان التبغ.

ـ أبعد من بغداد؟ 

ـ إنها بعيدة عنا جدا، بعد السماء عن الأرض.

ـ ولكن لماذا تأتي وتضربنا بالقنابل مثلما يقول أبي.

ـ إنها تريد أن تأخذ نفطنا.

ـ ولكن جارنا أبو أرحيم جاء وأخذ منا صفيحة نفط ، برضانا دون أن يؤذينا.

ــ إنه قدر فرض علينا يا ولدي.

***

فرات المحسن 

 

 

 

 

في نصوص اليوم