نصوص أدبية

نصوص أدبية

هو أبٌ حنونٌ لقصائِدِهِ

ربّاهُنّ على الطاعة

واحترامِ المَمَاحي والأحبار

ولأنهنّ يتيماتُ الأم

فقد تولى رِضاعتُهُنّ من أنامِلِهِ

فتعلّمنَ بأنّ للآباء عشرةَ ثدِيّ في كلتا اليدين

وعلى صِغرٍ

ألبسَهُنّ الحجابَ المقاومَ للرطوبة والصدأ

فاختلفَ فيهنّ النقّاد

منهم من ظنّهُنّ يُعانينَ من ضمور الرأس

ومنهم من ظنّ لرؤوسهنّ براعم وأغصان

لكنهم لم يختلفوا على أن قصائِدَهُ تخمِشُ الوجوهَ

فهي لم تُكتبْ بالقلم

بل بمِقراضِ الأظفار

**

تُرى من أية رَحِمٍ نَسَلَتْ قصائدُهُ المشاكسة

بصوتها الساحقِ للعظم

وبشفاهها النازفةِ من كُثرة الشتائم

لطالما طردهنّ من مسوداته

لكنهنّ يَعُدنَ من نَخْرِ الأسنان

وفي أعقابِهِنّ قاضمو الزجاج

وشاحذو السواطير

**

أيها الشاعرُ المُبتلى بذريّتِهِ الورقية

قصائِدُكَ تُذكّرني بخيبتي في استبدال السكاكين

من أشداق جِرائي بشتلاتِ زنابق

لقد استعدَوا عليّ حتى وزارة الدفاع

بتفكيكِ سِرفِ دباباتها

***

شعر / ليث الصندوق

هبطَ اللّيلُ عليّْ

و أنا أمشي وحيداً في دروبٍ شائكةْ

أتحدّى الشوكَ،

و الظلمةُ كانتْ حالكةْ

فَجأةً حطَّ غرابٌ في يديّْ

وأحاطتني جموعٌ وحشودْ

مِنْ نِمورٍ وأُسُودْ

وصراخٌ يملأُ الأفقَ ضجيجاً

عابراً كلّ الحدودْ

ليُغَطّي أُذُنَيّْ

كنتُ أستغرقُ في قيلولتي

لَمْ أكُنْ أعرف أنّي

سأرى الكابوس يأتيني نهاراً

فكوابيس النهارْ

علّمَتْنا أنْ تجيء

خارجَ النّومِ، توافينا جَهاراً

باِنهمارْ

عندما استرجعتُ نفسي

هالني أنْ أَبْصُرَ البابَ موارَبْ

و أرى الشّباكَ مفتوحاً على آخرِهِ

مَنْ تُرى يمتلكُ المفتاحَ غيري

ما جَرى ...

كَيْفَ جَرى؟

لَمْ أُصدّقْ ما أرى

كَيْفَ لي تصديق ما كان مُحالْ

كَيْفَ لي تبرير ما لستُ أرى

هَلْ سيأتي من يُريني

يا تُرى؟

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن – أستراليا

حين يستدعي السيد المدير أحد الموظفين فإن ذلك يدلّ على أمرر جلل أما أن يشكره لخدماته أو يويخه بسبب إهمال ما، وفي أفضل الحالات ـوهو المألوف، أن يستدعي سيادته رؤوساء الأقسام ليبلغهم معلومات تخص العمل والموظفين بعضها يمكن أن يكون في غاية الكتمان.

أمّا أن يقع الاختيار عليّ وحدي فذلك يشير إلى أمر جلل!

وخلال اجتيازي الممر بكل هدوء وثقة شأني كلما استدعيت للقاء مسؤول أعلى تواردت في ذهني احتمالات كثيرة تأرجحت بين السرية والاستحسان وربما العقوبة أو التنبيه لخطأ ارتكبته عن غير قصد.

لو أخطأت أي خطأ مهما كان تافها لتعرض المركز الذي أعمل فيه إلى هزة حقيقية.أضع في بالي:

الاقتصاد.. ضرر مالي

سمعة المؤسسة

الصحافة والسياسة

ليقل ذلك الآخرون على وفق مايشاؤون

لكنّ الذي زادني ارتياحا أني رأيت السيد المدير ينهض بقامته المديدة ويمد يده إليّ مصافحا وهو يقول:

مرحبا بك أيها العبقريّ

شكرا يا سيدي أظنني أعمل بإتقان فأنا منتبه طول عمري ولن أغفل مادمت أتمتع بخاصية الحذر والانتباه

تقول والدتي إنني كنت حذرا ومنتبها منذ الصغر.

أشكّ في كلّ شئ حتى أتحقق من صحته

ربما يعود الفضل في شحذ ذهني وتوقده في هذه الدرجة الإيجاية إلى سلوك أبي مع أمي

كان يعاقبها بعنف

يضربها بقسوة

إلى درجة أني تحاملت عليه

لا أقول أكرهه أو أحقد عليه

لعلّ شخصا بمواصفاتي لا يحقد ويكره

فليس هناك من عدوّ لي سوى الهاكر

ويوم مات وجدت راحة كأنّ شيئا ثقيلا انزاح عن صدري

وأنني وإن أكن ولدت في الغرب فإنّي أحيانا أعدّ نفسي لاجئا في أي مكان في العالم

منفيا باختياري

لقد أصبح كل ذلك ماضيا

اظنني استفدت منه خاصية الانتباه

لم أخش أحدا

ولا أخاف قط

لكنني

أحذر الآخرين وأتربص بهم

لا أدري لم تذكرت أمي وعنف أبي اليوم بعد أن أخبرني السيد المدير أنني أقدر أن أتابع عملي من البيت ولا حاجة لحضوري في مبنى المديرية

في الوقت نفسه، وبعد أن خرجت من المؤسسة ي إلى منزلي الذي سوف يصبج برجا أراقب منه العالم كان يسبقني يومٌ مختلفٌ يطبع ذاكرتي بشتاته.

ساعتها

فررت فزعا من البيت

رأيت والدي ينهال لسبب ما على أمي ضربا

كان قاسيا الى حد ما

غاضبا بشكل هستيري مثل إله قديم يتجمع الدم في وجهه والشّرر بين عينيه

فقد عقله تماما ولا سبيل إلى إبقافه

ولم يكن بامكاني فعل أيّ شئ

عاجز

على الرغم من أنه لم يضربني قط

أو

يهددني

بل

يدللني

يشتري لي كثيرا من الهدايا وقبل هزيمته الأخيرة جهل يعلمني غنّ الملاكمة

مع ذلك، أشعر بالنفور منه، حالما يدير وجهه أنظر إليه بحنق.

.وأظنّه يرى والدتي العدوّ الوحيد له في العالم..على الأقلّ حسب تصوري.

لم يكن أمامي حلّ آخر سوى أن أنهزم

أفرّ من البيت.

وقد قادتني قدماي من دون أن أعي إلى مسطبة ما في المنتزه القريب

وضعت رأسي بين يديّ ورحت أفكر

منذ ذلك اليوم اعتدت أن ألجأ إلى المكان نفسه كلما اندلع شحار بين أبي وأمّي

من يصدق انني لم أكن أبكي

حاولت

استعصت الدموع

تمرّدت

مراراً فأحفقتُ

توقّد ذهني

فأدركت أنّي لا أقدر على البكاء لكني يمكن أن أؤدي أعمالا مذهلة.

لديّ حالة غير عاديّةٍ من الاحتراس

كان ذلك أوّل اكتشاف لي عن نفسي

ولم أستفق من شرودي إلا حين أحسست بكفّ تهبط على كتفي .

يد مفعمة بالدفء

ناعمة

فوقع بصري على أمي التي بدت بوجه مزرق من كدمات واحمرار

Mumلماذا لا تشتكين عليه

عيب يا ابني نحن أصولنا شرقية ومازلنا نحتفظ ببعض تقاليدنا

هذا إنسان متوحش متوحش جدا

لا تتكلّم عليه بهذه الصورة إنّه أبوك.

راودتني فكرة أن أخبر معلمتي في المدرسة بما حدث ولعلّ أمي قرأت هواجسي فحذّرتني.كانت تخشى من أن تتبناني البلدية وتبعدني عن البيت أوتقوم الشرطة باعتقال أبي الأمر الذي لا ترغب فيه قط.

لم أكن خائفا وأنا أعود معها إلى البيت

أمّا بعد سنوات فإنّي أبدو سعيدا جدا حين استقبلت الخبر

شخص جديد يجد نفسه يصبح أكثر حرية بالعزلة

مثل متصوف قديم

أو

نبي يرمي نفسه في كهف فيرى الأفق الواسع والدنيا أمامه

.شغلي نفسه الذي يمتاز بخاصيّة فريدة لا يتطلب مني أن أذهب مثل بقية الموظفين إلى العمل.يمكن أن أكون في البيت وأراقب الكومبيوتر.أحمي المديرية التي أعمل فيها، من المتطفلين والمزعجين والسراق، ومن بحاولون أن يبتزوا الزبائن، أو يتحايلوا على البنوك.

وقد وجدت في العمل داخل المنزل راحة لا متناهية..أجلس في شقتي المتواضعة وأراقب..أصطاد الهاكرز والطفيليين عصابات السرقة.

راق لي العمل والجلوس في البيت

وتحولت إلى كتلة من النشاط.

أظنني تحررت من الكآبة تماما.

وتحولت شقتي إلى نواة للعالم

بالضبط مثل النواة التي تتمركز وسط الشمس ..

النواة في عمق الأرض وحبة الجوز وكلّ شئ مدور

وسوف يصبح لمكونات شقتي طعم آخر:

المرحاض

المغسلة والمطبخ

فراش النوم

أجلس صباحا، أفكر وأعدّ نفسي للعمل.

بدلا من أغادر منزلي في أثناء تساقط الثلوج أو الحرّ فترة الصيف، وقد أُصْبِحُ عرضة لهواء المدينة الملوّث والزحام والفوضى، وأوبئة تفاجئ من حيث لا نعلم أكون بدأت عملي الساعة الثامنة بذهن صاف ومزاج رائق.

راتبي الشهري يدخل في حسابي عبر النت..أطالع باهتمام الفاكهة والخضار واللحوم والألبان على الصفحات الألكترونية فيصل إلي ( الدلفري) وقتما أشاء.

كلّ شئ يصلني إلى البيت حتى اكثر الفنون متعة مسرح وسينما انتقلت إليّ في البيت.

أما صلتي بأصدقائي فكانت عبر الهاتف ثمّ انقطعت تماما.

أكتشفت أنّي يمكن أن أعيش من دون صداقات.

ولا يشكّ أحد في أن العمل من المنزل منحني الراحة والأمان في الوقت نفسه جعلني أراقب العالم من دون أن يشعر بي.

ماعدا أمرا مهما لم أكن لأستغني عنه.

هو الذي يلتهب بمشاعري وأحاسيسي.

الحب

المرأة

العاطفة التي قادتني إلى الآنسة داليا..

في أوقات الفراغ

وليست هي المصادفة

عثرت على أحد المحتالين يحاول أن ينصب على فتاة فاخترقت بطريقة احترافية رقمه السريّ

ثمّ كشفت تلاعبه أمامها:

إنّها تندفع عن غير وعي

أراقب بفضول

تعرف الكثير من أسرار الشبكة فتظنّ حسابها محصّنا من الاختراق

أستدعي بعض خصوصيتها

شابة في العشرين من عمرها

داليا النسور

اسم الأب جميل النسور

عشرون سنة

موظفة في شركة نقليات

تتقدم بطلب قرض :ثلاثبن ألف باوند

فجأة

مثل الفايروس فايروس اللاب توب يزحف هاكر عبر وسيط وهميمن بنك آخر

يمكنه ولا أشك في قدرته فهو محترف وذو سطوة أن يضيف مايشاء من الأصفار يمين المبلغ فيحولها من دون أن تعي عبر حساب الوسيط إلى حسابه مبلغا بالملايين ّ، فتبدو الآنسة داليا باليقين القاطع مختلسة من دائرة النقليات المبلغ الهائل..

الكوسج يناور مناورة ذكية

كنت أجد وأنا أطارد الهاكر الكوسج صعوبة في اقتناص الروس والألمان..يتعبونني حقا..قأحبط محاولاتهم قبل أن يخترقوا حسابات دائرتي

شرطي الكتروني حاد الذكاء

أمامي الآن حالة خاصة ليست ضمن عملي

فضولي في البحث ساعات تفرغي جعلني أعثر على ضحية جديدة لهاكر محترف

لا أنكر أن اسم الضحيّة لفت نظري.لايهمّ من أيّ بلد الشرق واسع.

أتابع الهاكر فأراه يقترب من الرقم المليون

خطوة واحدة ويحقق النجاح

هل يعنيني الأمر

إنها فتاة شابة مفعمة بطموح وأحلام واسعة فهل بمقدوري أن أصبح مثل زائر السفاري يجلس في سيارته ويراقب بشغف ولذة حيوانا مفترسا ينقض على غزال فينشب فيه مخالبه وأنيابه فلايمدّ يده إلى سلاح جنبه في السيارة فيطلق النار؟

عتدئذٍ تتحرك أناملي

أرسم دائرة حمراء

وأزرع فايروسا حول الهاكر

أراوغه

ثمّ

أدخل ببعض التفاصيل معها

ولعلها عدتني بطلا

فارسا من فرسانا القرون الوسطى بعثته السماء لنجاتها

كتبت لها إنّ الأمر عاديّ ولايستحق كل هذا الثناء

ونصحتها ألا تقترض مبلغا كبيرا من دائرتها عبر النت فهناك هاكر يتربص

فأعجبت أكثر بتواضعي

وبدأنا نتراسل

فاتحة مريحة لبداية صداقة عوّضتني عن أصدقائي

وبمرور الوقت

حدَّثتني عن نفسها وحدثتها عن بعض خصوصياتي

كلّ ليلة قبل أن أنام أكتب لها تقول :إنها لا تقدر أن تنام إن لم أكتب لها

اندفاع

تعاطف

وشيئا فشيئا

تحولت العادة إلى حب

حب جارف بيننا

هي المخلوق الوحيد الذي أحدثه فكلّ يومي أقضيه في متابعة الكومبيوتر .

ألغيت الخارج من ذهني

وأقصر عمل أقوم به أفتح نوافذ البيت للتهوية

أو

ألقي نظرة على الشارع العام من نافذة غرفة الاستقبال

أصبحت محور العالم

كلّ ما في الخارح يأتي إلى حيث أكون

هل أصبحت مغرورا إلى درجة لا تطاق

مازلت أشعر بالزهو قليلا

لا بدّ أن أشكر التطور الهائل المخيف الذي جعلني أعود إلى البيت

قصة الهرب من المنزل إلى المنتزه أعدتها مرات كثيرة

استنسختها

ببعضٍ من التواضع هي التي استنسخت نفسها بشكل جديد:

آخرها أني خرجت بعد شجار حام بين أمي وأبي

لا حاجة لأن يكون هناك سبب

أحيانا يختلق أحدهما عذراً تافها للشجار وتكون أمي هي الخاسرة نهاية كلّ صدام... وجه متورم بكدمات على الخدين زرقاء أما أنا فأفتح الباب وأهرب إلى المنتزه القريب

ذلك اليوم كما أعود الآن إلى المنزل وحدي جلست على المسطبة ذاتها وضعت رأسي بين يديّ، وحاولت البكاء

كل مرة تتمرد عيني علي الدموع

هل لا أستطيع البكاء إلى الأبد.

وماذا عني حين كنت طفلا

أمي تفاخر بي المدرسة والجيران تدّعي وهي صادقة أنّي في الطفولة لم أكن أتبوّل في الفراش شأن الأطفال الآخرين أمّا عن بكائي فلا تذكر شيئا

أحسست بيد تهبط على كتفي فأزحت راحتيّ عن عينيّ ورفعت نظري فإذا هو أبي:

هل تأتي معي

رحت أعضّ أسناني من الحنق و وددت لو أقدر على أن أقذف بوجهه سيلا من التقريع واللوم:

لماذا تضرب أمي

أطلق ضحكة مكبوتة أعقبتها ابتسامة صفراء مثل زهور النرجس في المنتزه التي بدأت تتلاشى منذ بدأ الدفء يدبّ:

لأنني أحبها َ

فنظرت إليه بأسف

***

رواية جيب

قصي الشيخ عسكر

أفق للغواية

يغريه الموج كل مساء

وهو يراود زرقة الأفق

يصير الموج عناقا

يصير العناق رذاذا

يصير الرذاذ لوحة فنية

تصير اللوحة في عيون العاشق

نورسا..

وسفرا...

ومرفأ...

ومزارا ..

*

ضفاف للمتاهة

حافي القدمين كمريد

فوق طين نهر النيل يسير

يمضي به العشق لفيض الماء أنى شاء

رويدا .. رويدا كمياه النبع

تتدفق رؤاه

***

عبد الرزاق اسطيطو

 

الفصل الثالث من رواية: غابات الإسمنت

السجن الكبير

جئته أحمل ثماني سنوات سجنٍ عليّ أن أقضيها فيه.

تسللتْ لنفسي مشاعر الخريف بلغتهِ ولحنه، بلونهِ الكهرماني الأصفر، هو ليس فصلا من فصول السنة فحسب، بل نافذة صريحة ومشرعة نحو ما مضى وما سيأتي، محطة بين قيظ المشاعر وصقيع العمر، له زوايا كثيرة ومختلفة وكل منا يراها من باب ذاكرته ومشاعره.

خلتُ نفسي ابتعدت عن العالم تماما، هكذا حسبت؛ لكن العالم في الخارج كان يسعى إليّ، لا أريد أن أتعجّل الأحداث، فقد دخلتُ إلى هذا المكان بعد صدور الحكم، وطالعتني وجوه، بعضها كئيب وبعضها الآخر حادّ النظرات، وهناك الذابل الكتوم، غير أنهن جميعهن كن متلهفات لسماع السبب، هل قرأن الصحف من قبل؟ لا أظن.

أم محمد العجوز التي حكمت بسنتين في قضية تهريب، دعت أن يفرّج الله الكرب عنّي وسألتني فيما إذا كنت أحب أن تقرأ لي كفّي؟ تقول إنها محترفة في قراءة الكفّ.. تعرف الودع؛ لكن الحارسات لا يسمحن بدخول الحصى للسجن، لذلك يمكن أن يحلّ الكف بدل الحصى، وإن كان الأخير أكثر دقّة! نائلة العاصي كانت تنظر إليّ نظرات غريبة غير واضحة، هزّت رأسها وانصرفت، أمّا مديحة نعمان فقد أصبحت صديقتي حقا، جميلة رائعة ذات وجه بريء ناعسة النظرات، غير أن شحوبا ما يخيم على وجهها! لا أظنه بسبب قتام السجن، فنحن نخرج معظم النهار إلى الباحة، نغادر القاعة بضع ساعات ونعود إلى التنظيف أو سماع درس أو نقضي ساعات تأهيل، كنت أفضّل الخياطة، مهنة المستقبل التي أحلم بها.

مديحة نعمان التي أصبحت صديقتي، كانت معلمة في إحدى المدارس، حكايتها سمعتها منها على فترات بعد أن توطدت العلاقة بيننا، ولم تكن تشرح لي كل شيء قبل أن تتركني أجرّب بنفسي، لفت انتباهي أن الحارسة استدعتها، فابتسمت نائلة العاصي بخبث، غابت ليلة وعادت قبل طلوع الفجر بساعة، عادت أكثر حزنا وأقل رغبة في الكلام، كنّا نجلس أنا وإياها ذات مساء في باحة السجن، وحدنا حين اقتحمت عوالمنا أم محمد، سألت بفضول:

- هل قضيتِ الليلة في غرفة الحارسة تكنسين وتعملين الشاي كالعادة؟

- أرجوك لا تسأليني.

رجعت لصمتها فالتفتت إليّ:

- أعطني كفك لأقرأه لك!

ابتسمتُ وقلت: لا داعي.

- لا أطلب نقودا، اعتبريه للهو.

وواصلت حديثها، صدقيني ستجربين كل شيء بنفسك وتجدينني صادقة، هناك نساء قبل أن يخرجن من السجن تنبأت لهن بأحداث؛ والكثيرون والكثيرات ضربتُ لهم الحصى عندما كنت طليقة، فحدث لهم ما قرأت، وما زالت السجينة أم كامل تزورني في السجن بعد أن خرجت، وتحققت أمور ذكرتها لها.

تمعنت في وجهها وأنا أطارد أحلامي، لاحقتني الكوابيس بالمشنقة، حكم عليّ الليل بالموت، والنهار بالحياة والعقوبة، أمّا هذه المرأة فتصرّ على أن تجعل الزمن ضمن إطار المرح واللهو داخل مكان معتم مغلق.

بسطتُ يدي: تفضّلي.

فتأمّلت لحظة وقالت: أنت في محنة، ستعيشين بخير، وسيكون الزمن في صالحك، حلوة هي الأيّام ومرة في فمك، سيقع في حبك الأبيض والأحمر والأسود، وبعد أن تخرجي من هنا تعيشين في الغربة؛ لكنك لا تحتاجين لأحد..

وقطع عليها القول والإسهاب في التفاصيل صوت صرير الباب، فتوقفنا عن الحديث والهمس، تخطت الحارسة الممر وتوجّهت نحوي قالت: تعالي معي إلى الإدارة لتكوني في مكتب السيدة المديرة.

أتذكر أني حين وصلت السجن استقبلتني حارسة سمراء بوجه متجهم؛ لكنها كانت طيبة القلب على ما يبدو.. بدا وجهها غاضبا ثم تراخى إلى حد أنها بدت مسالمة وهادئة لا تبعث على الخوف، فتحتْ ملفي وتطلعت في وجهي والصورة وقالت: أنتِ إنعام؟

- نعم.

سلّمتني ملابس واستلمت مني أشيائي الخاصة، ساعة يد وبعض الأوراق المالية وقلادة ذهبية، وضعتْ كل شيء في مظروف وقالت:

- اسمعي.. السيدة مدير السجن هذا وعموم سجون النساء، ابتسام علّام في إجازة اليوم وغدًا، ولا بدّ أن تراكِ وتتحدث معكِ حين تعود.

بعد عودة المديرة استدعتني في مكتبها.

كنت هذه اللحظة أواجه المديرة برأس منكّس وعينين كسيرتين، سيدة في الثلاثين من عمرها ببدلة أنيقة، سمراء ذات حمرة، وجه مدور بعينين حادّتين كأنهما عينا صقر، حلوة وفيها خشونة.. أنوثة ورجولة معا.. طلبتْ من الحارسة أن تخرج والتفتت إلي، قالت:

- إنعام.

- نعم.

- أنت هنا لكي تتعلمي (تلاشت الرهبة منّي) إذا أطعتِ ولم تتسببي في مشاكل؛ أيّة مشاكل ومشادات، فسأكتب عنكِ خيرًا كثيرا، فتقضين عندها نصف مدة الحبس.

- سأفعل إن شاء الله.

نهضتْ من مكانها واستدارت عن المنضدة نحوي، نظرت إليّ بتأمل وتمعن، خلتها نظرة غريبة، كأنها تعرفني، أشكّ في أنّنا التقينا ذات يوم في مكان ما.. عيناها تسلطتا عليّ كعيني من يمارس التنويم المغناطيسي، فشعرت براحة واسترخاء.. قالت:

- ما كان عليكِ أن تقتلي زوجكِ لتأتي إلى هنا بثمان سنين، وهل يوجد في الدنيا رجل يستحق مثل هذه التضحية؟

دارت حولي وواجهتني بعينيها الحادتين، نظرة غريبة غير الحنان والإشفاق، وليست كذلك نظرة قرف أو اشمئزاز، قلت:

- إنها القسمة والنصيب، والأمر مكتوب سيدتي.

فمسحتْ على يدي برفق: هل كنتِ تحبينه؟

- ربما.. يحدث أن يكون الوجع على هيئة حُب، فقد تزوّجنا زواجا تقليديّا؛ لكنه جعلني أتعلّق به بعد الزواج، إنه الرجل الذي جعلني أعيش مترفة، وأوّل إنسان يلمس جسدي.

- اللعنة! أحببن بكل ما أوتيتن من قوّة؛ لكن تريثن في إظهار مشاعركن وتصديقها، لتتجنبنّ حجم الألم والمعاناة فيما لو اتضح أن الطرف المقابل لا يستحق.

وضحكت بشماتة قائلة:

- أنتِ امرأة شجاعة وسأساعدكِ على أن تقضي نصف المدة!

هل تعدينني أن تطيعي النظام؟

أجبت من دون تردد:

- أعدكِ سيدتي.

صمتتْ.. أخذتها لحظة تأمّل وانشراح، راودني إحساس أنها تجول بعينيها حول جسدي أو تجعلني ألفّ حول نفسي، وعيناها ثابتتان على جسدي، كأن لعينيها مفعول منوم مغناطيسي، كانت تنظر إليّ وهي جامدة، أو مبحرة في مكان بعيد وزمن آخر.

تساءلتُ هل تلعب معي دور القط الذي يترك الفأر على سجيّته لينقض عليه فيما بعد؟ ربما هي مجاملة كاذبة، وبعدها بدقائق أو ثوان تنقضّ عليّ لتصفعني، أو تهوي عليّ بعصاها الغليظة، المركونة على إحدى عارضات الحائط الخشبية المخصصة للملابس.

لكن يمكن ألا يحدث هذا، فأنا سجينة إجرام، هكذا يقول الحكم الصادر بحقّي، قاتلة.. لست سجينة سياسية، فأعامل بقسوة.

لم أقد تظاهرة تطالب بإسقاط الحكومة، كنت بعيدة عن السياسة، لا تهمني الأسعار إن هبطت أو ارتفعت، ولا أبالي بالأحزاب وصراعها، بل سمعتُ أنّ مسجوني الجريمة والتهريب والمخدرات يعيشون في السجون بأمان من التعذيب، وهذه المرأة تعاملني على الرغم من رتبتها ومكانتها كأنني ضيفة.

هل أصدّق عينيّ أم أكذّبهما؟

ضغطتْ على الجرس، فقدِمت سجانة غليظة ذات قسمات صارمة تخشى عبوسها السجينات الأخريات، حتى خيّل إليّ أنها أكثر شراسة من الأولى التي استقبلتني في النهار أول يوم:

- نجيـّة.. خذيها إلى المطبخ لتنظّف المدخل ثم لتعدّ لي كأس شاي، وإن أحبت فلتعدّ لنفسها كأسا.

- حسنا سيدتي.

غبنا أنا ونجية في الدهليز، فالتقطت مكنسة؛ عندئذ قالت السجانة نجيّة بصوت رقيق تلاشت منه الحدة:

- ما دامت السيدة النقيب آمرة السجن قد رضيت عنك، فستكونين أميرة السجن.

- صحيح!

بالمناسبة يا ست نجية، شعرت إنها تعاملني مثل أختها أو ابنتها.

- السيدة النقيب غير متزوّجة.

- لكن لمَ كل هذا؟

- هكذا هو مزاجها، تحبّ الجميع وتتعاطف معهنّ.. ترى السجن تهذيبا وإصلاحا وتربية، ولا تترك السجينة التي يطلق سراحها تصارع الحياة لوحدها، فتجد لها عملا.

- ابنة حلال والله.

وأكّدت: المهم أن تكوني مطيعة ولا تخالفي أمرًا.

قصدتُ المطبخ وأعددت ثلاثة كؤوس شاي، فقد حسبت حساب نجيّة التي بدت لطيفة معي، وحملتُ الصينية برفقتها إلى مكتب المديرة النقيب التي وجّهت كلامها إلى نجيّة:

- دعيها تكمل كأسها براحتها.. ثم وجّهت كلامها مباشرة إليّ:

- سأصحبكِ غدًا بنفسي إلى الطبيب الخافر في المشفى، غدًا كوني مستعدة عند الساعة التاسعة!

رحت أتلذذ بكأس الشاي وفي بالي خاطر آخر، هل كلّ هذا اللطف من دون مقابل؟

لا أظن..

كل ما أراه وفق أسوأ الأحتمالات، أن السيدة النقيب وضعت في حسابها أن تجعلني جاسوسة أتنصت على السجينات، ربما تصرف لي مالًا مقابل ذلك، هذا أمر سيء يجعلني أحتقر نفسي؛

لكنه على ما يبدو، أسوأ من جريمة قتل ارتكبتها ساعة فقدت أعصابي أمام مشهد فظيع!

كلّ شيء جائز ما دمت في عالم غريب لا يغفل عنا بالمفاجآت.

وانتشلتني السجّانة من أفكاري وهي تطلّ من باب المطبخ لتقول:

ـ هل انتهيتِ؟ هيّا بنا.

ورحتُ أسير أمامها إلى العنبر.

***

ذكرى لعيبي

يا أيّها الزّعيمْ

يا أيّها الزّعيمْ

في القدسِ تعصِفُ ضجّةٌ

وأعاصِرٌ تهيمْ

- يا أيّها البَهيمْ

هذي أمورٌ كلّها لا تنفع الزّعيمْ

فَلتُحضِروا بعدَ العَشاءْ

عذراءَ من أحلى النّساءْ

للقصرِ حتّى أهتدي

في جسمِها النّحيلْ

لمزارع النّخيلْ

*

يا أيّها الزّعيمْ

في القدسِ ماتت ثُلّةٌ

والقبرُ ينظرُ والكفنْ

ألفًا من الرّجالْ

للموتِ حتمًا قادمونْ

طوعًا فليسوا يُظلمونْ

- يا أيّها البهيمْ

فلتحضِروا السّيوفْ

فزعيم أمريكا وصلْ

والكلّ فينا مُنشغلْ

في الرّقصِ والتّكريمْ

*

يا أيّها الزّعيمْ

أقصَوا عن الأقصى الأممْ

وتصاعدَتْ منه الحممْ

وخيالُ إبليسَ انتشى

من فعلِ أدناسِ العجمْ

- يا أيّها البهيمْ

أحضر لنا من أطيبِ الثّمارْ

وسنكتفي وعيونُنا

تلهو بنهدٍ قاصرٍ

أن ننظرَ الأخبارْ

*

يا أيّها الزّعيم

إنّي لأبصقُ آسفًا

على الزّعيمِ منبّهًا:

"أسفي على ريقي الّذي

أهدرته ظلمًا بكمْ

بزعيمنا البهيمْ"

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

أتنكرُ أني جئتكَ أحملُ

طقوسَ البلدَهْ

وعلى كفي ينمُو السحابُ

وتبرعمُ التلَّهْ؟

جئتك وفي دمي

ينابيعُ دجلهْ

تزهو ليلَ نهارَ

كأني عروسٌ

بل وردهْ

هل تنكرُ كمْ ضحكةً خبأتُ

في السلهْ

وكم حشرتُ من نجمةٍ

في القربهْ

أتنكرُ أني كنتُ محضَ

طفلهْ

أحملُ معي حمرةَ

الخجلِ معجوناً

بالدهشهْ؟

*

أعانقُ المدى الفيروزيَّ

وأرحلُ نحوَ المحارِ

وألوحُ بالخمسهْ

لي منْ سعفِ القمرِ

عمرٌ وبرههْ

ولي رقصةُ السنونُو

غطاءً وآنيهْ

تقتاتُ الشمسُ منْ عبيرِي

والنجمهْ

يخبئُ النهرُ في رمالِه

الرعشهْ

وأكسُو صدرَ أمِّي غابةً

وفرحهْ

أتنكرُ كلَّ هذا

أمْ أشقيك بالحقيقةِ

المرهْ

لقد كحلتُ قبلكَ حياتِي

نغماً... بالدبكهْ

وصُغت ليالي منْ معينِ

عدنَ

وجاورتُ أيلولَ

وجمعتُ العطورَ

في علبهْ

وأقمتُ معبداً

وطرَّزتُ النبوهْ

*

ثم كانتِ

الزلَّهْ

يوم ألقيتَ

التحيهْ

وكالثعلبِ أخفيتَ

الغدرَ

والقسوهْ

وقد برعتَ وأجدتَ دورَ

الضحيهْ

ولمْ أدرِ أنكَ تحوكُ منْ

فمِ الشيطانِ

ضربةً تلوَ

الضربهْ

وحررتَ في عينِي شعراً

وقصيدهْ

وقلتَ كلاماً...

وجعلتني أميرهْ

قلتَ إنَّ شَعركِ

يسيلُ كالليلةِ

ظلمهْ

هو كالستارةِ

يحجبُ عني الشمسَ

والحضارهْ

وعلى ثغركِ تختصمُ

الشهوهْ

كما في الحقيقةِ تتجادلُ

السّنةُ والشيعهْ

فهلْ يا تُرى أحظى منها

برشفهْ

وحول خصركِ

تنمو غاباتُ أقحوانً

وضيعهْ

ويتوسدُ خداكِ

وريقةً وزهرهْ

تنهلُ منَ الحمرهْ

أضفتَ بكلَّ دهاءٍ وريبهْ:

أنتِ امرأةٌ قدّتْ منْ

رحيقِ النشوهْ

وعيناكِ بهما حورٌ

تحبسُ الأنفاسً

وتصيدُ الرجفهْ

لهما صبغةٌ

كما القهوهْ

*

قلتَ كلاماً

ذهبَ بكلي

والبقيهْ

فماذا تبقى منْ تلكمُ

الصبيهْ؟

نجحتَ في الايقاعِ بي

عنوهْ

فعلى ضلوعِي ثمةَ

جثهْ

لم أكنْ أدركُ أنني مجردَ

صفقهْ

فجُدْ بما شئتَ

من سكاكينِ الغدرِ

والخسهْ

وزدِ الطينَ بلهْ

فأنا لا استحقُّ

الرّأفهْ

لأنَّني بسذاجتِي

فشلتُ في فهمِ

اللّعبهْ

***

لطيفة أثر رحمة الله

 

حـَنَّ إلى بيت الآباء والأجداد؛ هنالك بعيدا عن بنايات المدينة الأسمنتية؛ التي تمتد أطرافها الأخطبوطية؛ لتلتهم ما كان منبع عين، وما كان حقلا لعيدان سنابل في لون الذهب، وما كان بستانا لأشجار مورقة بالخضرة، ومثمرة بالعنب، والتين والزيتون، والليمون، يرتفع غبار الأسمنت على جميع الأشياء حارا يحبس الأنفاس، وأتربة الأرض يكون قد بللها ماء المطر، فتصير رطبة ذات رائحة، وفي باطنها جذور نبت أخضر، غدا هذا خيالا، وإن عين الإنسان لشوق عارم إلى رؤية ذلك عن كثب؛ لأنه يُحيي؛ إنه إكْسير آلحياة، ولا آدمية بدون تربة بنية اللون، ذراتها تركة أزمنة جيولوجية ضاربة في القِدم، وماء رقراق عذب يخرج من بين صخور غطاها الطُّحلب.

لنْ تمحو سِنُون عمره التي نيفت على الخمسين من مخيلته صورة بيت جده، كانت لبنات حيطانه من حَجَرٍ، شُدّ بعضها إلى بعض بالتراب، وغطِّيت بطبقة من التراب نفسه، وطُليت بالجير الأبيض. حُجُره فسيحة، سُقوفها من أعمدة متوازية، وأخشاب مصفوفة؛ مُلِّطت بمخلوط من التراب والجِص، تحيط بساحة واسعة. فُرُشه من حُصُر منسوجة بالدَّوْم، وبخيوط من صوف ذات ألوان زاهية، ولن ينسى أبَد تلك الأعوام زريبة البهائم، كانت إلى اليسار من باب البيت.

في لحظة كأنها نور أومض فجأة ثم آنطفأ؛ تذكَّر الآباء والأجداد وهم أموات، يدعو لهم بالرَّحمة والمغفرة وبمأوى الجنة.

لم يمْهله العمل؛ فلم يخْل لنفسه، ولو لزمن يسير؛ يطبق فيه جفنيه، ويغيب ذهنه وحِسُّه عن كل ما يدور حوله؛ فيَستسلم فيه لنوم عميق، أو لجلسة حميمية بين أفراد أسرته، وهو إلى جانب كثرة آنشغالات ذلك العمل، وآجتماعات مستعجلة، وأيام دراسية داخل البلاد وخارجه؛ حبيس حركة تراقصية في ذهاب وإياب؛ صباح مساء؛ تحمله خلالها سَيَّارته عبر شوارع متشابكة من مقر عمله إلى بيته؛ فتنهال عليه صور من الماضي، وذكرى أيام مضت، ووجوه أشخاص أحسنوا عِشْرته، فيجد في هذا عزاء، يُنَفّس عنه كُرْبته.

تساءل: «أما يزال بيت جدِّي على حاله، أم آنْدرست أركانه؟».

وهو منذ أعوام لم تطأ قدماه تلك الأرض الضاربة في آلامتداد إلى الشرق وإلى الجنوب، ولم يسلك ذلك المِسرب التَّرِب؛ يحاذيه بيت جده، تهبط أمامه أرض حَدَر؛ إلى بئر كانت مورد ماء للإنسان، والأنعام، والدواب، والطير.

وفي صباح يوم من أيام صيف أحد آلأعوام؛ لم يرافق أفراد عائلته إلى شاطئ البحر للاصطياف؛ كما دأب منذ سنوات، وأخبر زوجته وأولاده بأنه سيسافر بدونهم إلى مكان؛ سيُطلعهم عليه حينما يعود؛ فلم يهتموا بالأمر، وتركوه على سجيته، ولم يلحوا في السؤال، ثم آمتطى سيَّارته، وحررها من كوابحها، وترك أعضاء محركها تهدر في تناغم وآنسجام، وسار بتريث في أزقة وشوارع المدينة، ثم بعد ذلك لفظته الأبنية على طريق منعرج؛ يخترق أراضي آلبادية آلواسعة، فساحت عيناه في ذلك آلامتداد، بعد أن كانتا حبيستي أروقة طولية وقاعات ضيقة؛ تحيط بها جدران عالية، وأوراق بيضاء يظل مشدودا إليها، وعقله يخترع الأفكار، فيخطها مدادا، أو حبيستي شاشة الحاسوب يتفحص المواقع الإلكترونية، وأرشيف الإدارة.

مدّ ذراعه الأيسر خارج نافذة السَّيَّارة؛ فلفح يده هواء لاهِب، وكان قد آستخدم جهاز التبريد للتخفيف من السخونة التي تسربت إلى الداخل، لم يكن مُتعجلا؛ فخفف من السرعة حتى يتمكن من أن ينقل عينيه إلى حيث يشاء؛ إلى صف من جذوع الأشجار يسرع عكس اتجاهه؛ إلى بيت تفكك طينه، وآنهارت حجارات جدرانه، يتوسط أرضا بائرة، ولم يبق من السَّور المحيط به إلا أجزاء لا يستبعد أن تكون مأوى للأفاعي والعقارب .

قال: «إنه مكان قوم كانوا قد عمروه أفراحا وأتراحا، ولما تَحَدث الذين قدموا من المدينة عن غجريتها، واروا جثث آبائهم وأجدادهم في قبور من تراب وحجارة، وحزموا أمتعتهم ورحلوا، مُنجذبين بذلك البريق الذي تتلألأ به حليّ المدينة».

وهو في توغله في تلك التلال والسفوح، ويضمه سهل؛ يحلق نظره في أجوائه الرحبة؛ يشعر بالطُّهر يغمره، وأنه تخفف من تراكمات حياة مضنية؛ ظل يرزح تحت ثقلها منذ أن آنغلقت عليه الدّروب، وطبقات تزداد علوا من الأسمنت، وأسياخ الحديد؛ إلى حد أنه كاد أن يقنع نفسه بأنه لا مخرج له من متاهة؛ ينطلق من إحدى أركانها؛ ليعود إليها بعد رحلة بحث عن المنفذ المفقود.

أيكون قد عاد القَهْقرى إلى ذلك العهد الذي كان فيه طفلا ؟ وكان أحب شيء إليه ذلك المِسرب الأُحْدور، فتتوق نفسه إلى أن يستسلم لجاذبيته، فيركض في أرضه التّرِبة الممهّدة، وقد لمحه من بعيد، فنزت عيناه دمعا، وأفرز أنفه بقايا عطر منديل أمه عندما كان يتشبت بأطراف ثوبها، مُستعطفا إياها أن تتركه، وذلك الأُحدور الذي يجذب ساقيه الصغيرتين للرياضة.

وترجل من السيارة، وطفق ينقل عينيه في أصغر وحدة قياس من مربع ذلك المكان؛ فوجده كما هو: الحاشية التربة يحدها عشب بري أخضر، وزهور صفراء اللون؛ مازالت تقاوم حرارة الصيف القادم.

ثم آحتوت عيناه وبلهفة عجلة بيتا ما تزال الطريق إليه طويلة؛ فبدا صغيرا ومنعزلا وسط أراض ضاربة في كل آلاتجاهات الجغرافية، ويكبر كلما تقدم، ويترك عجلات سيارته تدور بلا هوادة، وهو يسمع من حين لآخر آحتكاكها بالحجارة وبفروع نباتات شائكة، وفرح طفولي اعتراه حين لاحت له من بعيد شجرة التِّين، تُظلل أوراقها العريضة والغامقة الخضرة بئرا؛ بجانب جِداره حبل قِنَّبيّ ودلو، وترسبت رائحتها الطبيعية الخالصة في خلايا جدارات أنفه، تتضوَّع في منخريه كلما ساحت بفيحان نفاذ، قال: «... ونحن صغار، أنا وأخي وآبن عمي، أقوانا يتعلق بفروعها ليُرسل إلينا حبات تين يانعة آلْقشرة، تفرز سائلا سُكَّريّا، ونحن في لهو لا ينتهي إلا بصوت آمر من الآباء والأجداد».

ثم أن هدير السَّيَّارة؛ إنفجار كونيّ دوَّى في أرجاء البادية، فنبح كلْب، ونهض يسترعي القادم إلى حِمَاه: « كفاك حيث أنت؛ وإلا فإن غشاء لحمك يتوق لعضَّة من أنيابي».

وفي أعقاب ذلك النُّباح؛ تحرك الهُوينى جسد شائخ، وخطا بثلاث قوائم بتُؤَدة، وفاجأ القادم من بين حجارة سور، كأن التلقائية التي تتحرك بها أعضاؤه؛ يعرف صاحبها، فنادى بصوت مسموع: هذه العَمّة!

وهي تنظر إليه بآنحناءة لاثمة، وبدموع بهيجة بللت خديه؛ فضمها إلى صدره، قالت له:

- أو تظن أنني نسيتك؟ ما زالت عيناك واسعتين، وحاجباك ممتدين بالسواد؛ كما كانا منذ زمن طويل.

ما زال إذن فرد من تلك الأسرة الأبوية التي تناثرت شظاياها في كل حدب وصوب؛ حيا يرزق.

شدت بعَضُده، وقادته إلى الداخل؛ فضمه فناء رحب، وسقوف وجدارات مُنهارة؛ إلا حجرة واحدة هي مأوى عمته.

جالت في أرجاء البيت، وقد غدت خيزرانة؛ أيقظ فيها القادم حنانا أمَويّا؛ ظل راكدا منذ عهد قديم، فجدد عنفوانه؛ تُعِدّ إبريق الشاي، وتستعد لشيء آخر كان مفخرة، وهو كرم متوارث، وموثق في كتب الطَّرَائف والمُلح.

قالت:

- كنت أنتظر مجيئك، وأدأب في سماع ما يرد عنك من أخبار؛ فكانت فخرا لي؛ قالوا بأن ابن أخيك كان تلميذا مجدا، وطالب علم مستغرقا فيه إلى حد الهوس؛ وقد صار له شأن؛ لم أستغرب ذلك؛ بل هي وراثة خَصْلَة؛ انحدرت من أصلاب أجدادك، وما آحتفاظي بذلك الصندوق الخشبي، الذي كان ملكا لأبي؛ أي جدك، وبما هو مرتب فيه؟

فتحاملت في مشيتها، وجلبت الصندوق؛ ففتحته؛ فتقدم هو، وشاهد محتوياته: كتب قديمة مجلدة ومذهَّبَة، وكيس جلدي؛ جُذب خيط من جنس جلده، فآنحبست فوهته على شيء محفوظ بداخله، كانت الكتب؛ كتاب الله المسطور، وأجزاء كاملة من مُوَطَّأ الإمام مالك بن أنس (رحمه الله)، وأخرج من الحافظة الجلدية ساعة جيب سويسرية؛ تُذيلها سلسلة؛ وكلتيهما من الفضة.

قالت:

- اِحْمل بني جميع هذه الأشياء؛ فهي دلالات لأبنائك من بعدك، وكذلك الساعة فهي دائما لصلاة وَقَتَها الله عز وجل.

قال:

- كأنّني في حاجة إلى شيْء ما هناك من حيث قدمت.

قالت:

- أن تصل رحمك، وأن تتناول يداك تركات من ماض مجيد.

وعاد بعد أيام، وقد سرّته وأطْربته أحاديث العمّة؛ من روايات يشهد عليها بيت جده، وحكايات ونوادر من سالف أزمان أمة ما تزال تقاوم.

***

احمد القاسم

القبو يغرق ما بين العتمة والضوء، رائحة الموت تنبعث من كلّ الانحاء، جسد الغضنفر مُسجّى على سرير، في إحدى الزوايا يسترخي بيانو قديم يعلوه غبار الزمن. الحيرة تفترش وجهي أخويه. رجل يرتدي الاسود يدخل الغرفة. يرسل نظرة إلى الجسد المسجّى، تظهر على وجهه قسمات الرهبة. حتى وهو على فراشه الاخير مُرعب. طوال حياته القصيرة، (أربعون عامًا)، دبّ الفزع في كلّ مكان حلّ فيه، هابطًا من سمائه الرهيبة، نشر رائحة الموت في كلّ مكان سار فيه أو توقّف، وها هو بعد مصرعه يدُبّ الرهبة في الغرفة.

الصمت يُهيمن على أجواء الغرفة، لا يشق سديمه إلا رجل آخر يدخل الغرفة مرتديًا الاسود، يقترب من الجسد المُرعب، هذه هي نهاية كلّ كائن، لا فرق بين موت أسد الغابة وقطّ البيت، كل منهما يموت نفس الميتة، كان الغضنفر رجلًا مهابًا، لا أحد يمكنه أن يرفع رأسه فيه. لم يكن يعدّ للعشرة، ما إن كان أحد يتسبّب له بأية مضايقة، قد تتسبّب بتعطل أي من أعماله، حتى يجد نهايته بانتظاره، لا يعرف كيف تأتي تلك النهاية المُهلكة، ولا بأية طريقة، حينًا تأتي عن طريق حادث طرق مؤسف، لا يعرف أحد مَن يقف وراءه إلا إذا رؤي الغضنفر يمشي في جنازته، وحينًا آخر قد يسقط معترض طريقه.. من أعلى بناية في المنطقة، قضاءً وقدرًا، وفي أحيان أخرى قد تختفي آثاره نهائيًا، تبتلعه جهنم في أتونها، بعدها لا أحد يعثر له على أثر، ويتقبّل أهله اختفاءه، متوكلين بإعالة من خلّفهم من ابناء وبنات وزوجة ثاكلة، بانتظار عودته العبثية. بعد أن حقق الغضنفر كلّ ما أراده ورجاه وحالفه التوفيق، فأضحي واحدًا مِن أثرياء المنطقة، عاد إليه حُلمُه القديم حُلم الطفولة في أن يكون عازفًا فنانًا وموسيقار يُبدع وينتج ما يخلُب الآذان ويسحر الالباب، فلجأ إلى طريقة أخرى غير تلك التي اتبعها مع أعدائه واخصامه ومعترضي طريقه نحو قمتها المنشودة المستقرة. تمثّلت تلك الطريقة في أنه بات يلي كلّ فشل له في تعلُّم الموسيقى، تفتقد الحياة الموسيقية في البلدة واحدًا من أعلامها، أما الطريقة فقد تمثّلت في أنه كان يدعو مَن يقع عليه الاختيار، فيقدّم له مسدسًا ذا باغة تتّسع لسبع رصاصات، إلا أنها لا تتضمن إلا رصاصة حيّة واحدة، والموسيقار المسكين، يصوّب مُرغَمًا نحو رأسه ويضغط على زناد المسدس، مرةً، فيما يضغط الغضنفر على الزناد في المرة التالية، ومَن تكون الرصاصة الحيّة مِن نصيبه، يكون الموت بانتظاره، حتى ما قبل أشهر، قال الرجل ذو الملابس السوداء لنفسه، قُتل في حضرة الغضنفر اثنان مِن خيرة موسيقيّي البلدة، أما أمس فقد قَتلت الرصاصة الروليتية الطائشة الغضنفر ذاته، ليأتي مَن يعود به إلى ذلك القبو وليُسجّى في وسطه بانتظار امحائه من دفتر الوجود واختفائه الابديّ، بحضور أخويه وقلة من مرتدي البدلات السوداء. أمّا ذلك الموسيقار الناجي من الموت المُحتّم، فقد وضع رأسه بين يديه بانتظار ما قد يوقعه أخوا الغضنفر وأقرانهما من الرجال السود به من عقاب.

مرتدي الاسود الثاني هذا، يبتعد عن الجسد المسجّى، متوقّفًا عمّا مرّ في خلده من صور وأخيلة عن اللحظات الاخيرة في حياة الغضنفر، يبتعد مُخليًا مكانه قرب الجسد لآخر يرتدي الاسود، هذه هي النهاية إذًا، يرسل نظرة إلى الجسد المرعب، يقول له بصوت خفيض، يحرص على ألا يسمعه أحد خارج الغرفة، ذلك الموسيقار المسكين، حائر فيما يمكنه أن يفعل، كان غارقًا في بحر من الرهبة. منذ تلك اللحظة لم يرفع رأسه من بين يديه ويتوقّع في كلّ لحظة أن تنتهي حياته وأحلامه، في الابداع والمجد، وتوجّه إلى الجميع في مقدمتهم أخوا الغضنفر، حمّلني المسكين رسالة حافلة بالرجاء، كلّ ما يريده هو أن يشارك في التشييع، وأن يتمكّن من رؤية وجه الغضنفر قبل تغييبه الثرى... قلب المسكين ملئ بالرحمة والموسيقى.

يرسل كلّ مَن في الغرفة نظرة حائرة إلى الآخر، الظلام يغشى العيون، يتقدّمون نحو الجسد الممدّد أمامهم، في محاولة لمعرفة رأيه، حتى في غيابه له حضور، يمعنون النظر لحظات طويلة كأنها دهر، الجسد يغرق في بحر غيابه وفنائه، يعود كلّ مِن المحيطين به لتبادل النظرات والتشاور بواسطتها. تسود الاجواء نظرات تقبل، الاخ الاكبر يهز رأسه بإمكانه (الموسيقار)، المجيء، والمشاركة في تشييع الجثمان. كان من الممكن أن يكون هو المقتول. كتب الله له عمرًا جديدًا، فهل نحرمه نحن إياه. رحم الله الغضنفر.. علينا أن نتقبّل النهاية.. مهما كانت صعبة وقاسية.

أصحاب القبو وأهله، وبينهم الجسد السجّى على سريره، يستقبلون بعد أقل من ساعة موسيقار الليلة الاخيرة في حياة غضنفرهم، عظّم اللهُ ساعةَ الفراق، يدخل الموسيقار الغرفة، مرتديًا الاسود، يُدني وجهه من وجه الغضنفر، تمرّ بخاطره اللحظات المُرعبة الاخيرة في هذه الليلة المُظلمة الظالمة، إنه لا يعرف ماذا يفعل، كان بالإمكان أن يكون هو المُسجّى في غرفة أخرى ومكان آخر، إلا أن الله ستر. رَحمهُ الله كان يُحبّ الموسيقى، أراد طوال حياته أن يكون موسيقيًا.. حُلم الغضنفر دمّره، ودمّر كلّ ما حوله، لو وجد اليد الحانية ما فعل كلّ ما فعل، وما وقعت حوادث سير قاتلة ولا.. وقع أناس من أعاليهم المرعبة الرهيبة، بل ما غيّبت نار الحياة أناسًا أبرياء أوقعتهم حظوظهم ومصائرهم في بوتقته الملتهبة.

الصمّت يرين على الوجوه مجدّدًا. الموسيقار الضيف يشعر بأصداء موسيقية تأتي من بعيد، تمتلئ أذناه بالانغام والالحان، إنها تحمل نكهة الرحيل والنهاية، يتوجّه نحو البيانو المُسجّى هناك في إحدى زوايا الغرفة، متخطّيًا الجميع يتوقّف قريبًا منه مثل غضنفر حنون، يتّخذ مَجلسه لصقه، يمُدّ يده الاولى، يُمرّرُها على عدد من مفاتيحه، يرسل البيانو أنغامًا جنائزية، تتوقّف يد الموسيقار لحظة خاطفة لتمتد يدُه الأخرى كأنما هي تودّ مساعدتها، تمتدُّ اليدان معًا وفي آنٍ واحد. تنطلق الأنغام ما بين الرهبة القاتلة والفرح الحيّ، تهتز الغُرفة، يهتزّ وجه الغضنفر، لأول مرة يهتز، ولآخر مرة للأسف. لقد أغلقت الصفحة الاخيرة في كتاب حياته، شعور غامض يخيّم على وجوه مرتدي البدلات السوداء، "لو انطلقت هذه الالحان والانغام في بداية حياته لما كانت هذه نهايته"، توحي الوجوه دون أن تنطق، ويندفع الجميع في إتمام الترتيبات الجنائزية، لقد تأكدوا أن الغضنفر الرهيب لم يعد هنا بينهم، وأنه غادرهم تاركًا لهم حُلمًا رائعًا.. عليهم مواصلته حتى ذراه العالية المرتفعة.

بعد إتمام مراسيم الدفن، في الليلة ذاتها، وليس في ضحى اليوم التالي.. كما كان مُرتبًا، نفض كلٌّ مِن المشيّعين غُبار المقبرة عن قدميه، مبتعدًا عنها، ومقتربًا من الحياة وموسيقاها الملازمة الابدية. تلك كانت اللحظة الاصعب في حياة الغضنفر الرهيب.. في حياة الموسيقار المبدع، وفي حياتيّ أخويه وأصدقائهما مِن أصحاب البدلات السوداء.. فقد راح كلٌّ منهم يبحث عن بداية جديدة بعيدة عن سابقتها.. ماضين في طريق الحياة ومسالكِها الخلّابة الغامضة.. الحافلة بالألغاز.. والاسرار أيضًا.

***

قصة: ناجي ظاهر

ما زلت أذكر تلك اللحظة حين التقيت بها في المرة الاخيرة من ذلك الصباح الخريفي، ضباب يتجه نحو الأفق، يحجب الرؤية رويداً رويداً. وكنت غارقا في تأملاتي في واقع الحياة وقلبتُ الأوراق المبعثرة على المنضدة في مكتبي وكانت النافذة الوحيدة في الغرفة مغلقة في الطابق الثاني من البناية، وتردد وقع اقدام خفيفة وهي تصعد الدرج وتقترب الصوت روداً رويداً من الغرفة، فجأة انفتح الباب، ترددتْ في وقفته قبل الدخول ثم خطوت الى الداخل ووقفتْ قرب الباب الخارجي للغرفة كانت تبدو عليها الحيرة. ولم يكن على وجهها مرحها المألوف، وكانت صورة وجهها تلوح بسر ترتبط به أغوار نفسها وكانت هذه النفس كأنها مرعوبة او مهمومه لم أكن انتظر مجيئها، وقد شعرت بفرح ممزوج بقلق لمجرد دخولها الى غرفة المكتب.

- في البداية بدا عليٌ التردد وعدت اهز رأسي بقلق، أمِطْتُ اللثام عن مخاوفي.

- وقفتُ خلف المنضدة واحدى يديَ في جيب السروال والثاني مرفوعة لأحيها بحرارة وهي لم تستجيب، ضلت واقفة، ويدها اليسرى على خصرها المشبوب.

- قلتُ:

- تفضلي اجلسي،

- بقيت صامتة وتحدق فيٌ، استمريتُ في النظر اليها بهدوء وهي في حالة عصبية حادة، تركتها حتى تقرر بنفسها. بعد برهة، جلستْ على الأريكة القريبة من الباب واتكأتْ بظهرها على المقعد بعد أن أخذتْ نفساً طويلاً دون أن تنبس ببنت شفة! ضمت ساقيها وعيناها محددتان في السقف، كانت تضع شال من الحرير على كتفها.

- سيطرتْ عليٌ في هذه اللحظة شعور بحزن عميق، وأنين الظلمة ووحشتها تتسرب الى قلبي وكياني. لم تكن على عادتها، بعد فترة من الصمت، رددت كلمات لم أفهمها فقد كانت مبهمة وغامضة وهي ترتعش كما ترتعش نبتة وضعت في الماء، وبدا الانفعال واضحا على وجهها. وملامحها أقل صفاء مما كانت منذ أعوام.

قالت جوهرة:

- لم أتِ وحدي اخي طاهر معي وهو جالس مع الاستاذ علي في غرفة الانتظار.

اردفتْ:

- انك تسئ لي عند اصدقائك.

وقد تعجبت من كلامها، وهي تعرفني وتعرف طباعي جيداً، لم اقل شيئا تسئ إليها، وكانت تحكي بطريقة تود ان تسمعها وتشعرك بأنها ضائعة الحق في الحياة..

كدت اسمع دقات قلبها لعنفها، كانت كئيبة تلفها هالة من الحزن وتبدو متعبة ومرهقة بسبب مرض غريب أَلِمَ بها. كان الموقف صعبا ًماذا اقول لهذه الانسانة التي عرفتها مناضلة صلبة مثقفة لا تستكين وتضج بالحيوية والتألق وتستقطب الاهتمام. كنت حائرا لم اتفوه بكلمة.

في تلك اللحظة، نظرت إليها بدهشة، وكأنني رأيتها لأول مرة. يطاردها الحزن في كل مكان، ويحيط بها، ويدور حولها، دون أن يدمرها بضربة من مخالبه، أخذتُ أراقبها مراقبة المكتشف الذي يحاول معرفة الحقيقة.

- حاولتُ ان اغير مسار اللقاء وتفكيري لا زال مضطرباً منذ اللحظة الأولى من لقائي بها، سحبت نفسا عميقا بعدما فكرت أن أغير مجرى الكلام عساني ان أستطيع التغلب على حالتي وتقليل مساحة الحزن الذي تلبسني كقوة خارقة.

- ركنت الى الهدوء وزال عني التوتر، ولكن الأفكار والذكريات ظلت تتوالى علىٌ.

كنت أفكر فيما إذا مصارحتي لها بما يجول في خاطري تخفف من حدة توترها.

قلت لها بأعصاب هادئة:

- عندما تتوترين تتراءى لي انك أكثر جمالا!

يبدو أنني عندما نطقت هذه العبارة بدت كما لو كانت مغازلة أكثر مما كانت ملاطفة الجو.

لقد شعرتُ أنها تغيرت مشاعرها ورسمت على وجهها علامات الرضا لأول مرة في هذا اللقاء ربما شعرتْ بالسعادة. شعرتُ بهدوء داخلي عميق تسري في جسمها.

ونقطة البدء في تعارفنا معا، كانت صباح ذلك اليوم من الأيام، حين دخلتُ بيت أم سلام وكنت على موعد اللقاء بها في مهمة حزبية. كانت جوهرة تجلس في الغرفة التي تطل نافذتها على الباب وقد لمحتْ وجهي وعرفتْ من خلال تجربتها الحزبية على أنني شخص غير عادي، هكذا هي قالت لي، بعد أن تسلمتُ منها رسالة تطلبْ تنظيم عملها مع المنظمة

كانت جوهرة زهرة جميلة، فاتنة، بشرتها ناعمة بلون بياض السكر ممشوقة القوام، وشعرها الشقراء مسدول على كتفيها، كانت تتميز ببراعة مشيتها المتناسقة واناقة ازيائها، صحيح انها امرأة حادة المزاج، ولكن انسانة طيب القلب وكريمة النفس، شخصية ذكية وشديدة الحضور فهي كانت تتمتع بثقة بالنفس، وهي سيدة مشهورة على نطاق مدينتها. ويبدو للمرء في الوهلة الأولى عندما يقع المرء بصره عليها أنها ليست بحاجة إلى أحد، ظلت محبة للناس، قريبة منهم، تحاول أن تقدم لهم ما تستطيع وهي تسعى لمساعدة المحتاجين.

هذه المناضلة التي لم تنقطع عن المعرفة وعن النضال السياسي خلال المراحل الصعبة والخطرة التي يعجز القلم عن وصفه.

كانت تدخل الى غرفتها تقضي ساعات عديدة منكبا على الكتب. وكانت لها مكتبة عامرة بمختلف الكتب الادبية، والفلسفية، والاقتصادية، وغيرها.

صقلت جوهرة فكرها وشحذت مواهبها وانارت بصيرتها، فلم يعد مجرد انسان عادي تساق في خضم الحياة دون ارادة ووعي وإنما كانت في مجمل حياتها السابقة تتناول المسائل بالتفكير والتحليل والتدقيق والتأمل وقد قابلتها أيام عصيبة وواجهت ظروف شديدة التعقيد بعد حملات الاعتقالات التي شنت على رفاقها. فظن البعض أنها لا تقدر الصمود أمام هذه المصاعب، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، بل تخطت كل هذه الصعوبات والعقبات التي اعترضت طريقها وخرجت من المآزق كافة بطريقة ذكية.

ولكن في الحملة الاخيرة قبل ثلاثة عقود ونيف أصيبت بصدمة كبيرة بعد أن تعرضت الى التهديد والوعيد والتعذيب النفسي والبدني من قبل أجهزة الأمن والمخابرات للسلطة العراقية اثناء اعتقالها في بغداد في نهاية الثمانينات من القرن العشرين. حولت حياتها الى تعاسة، ومرهقة للغاية.

لقد كانت على مدى الأعوام الماضية وتأخذها يومياً حمماً من الحزن وتنتابها نوبات الخوف واليأس وخيبة الأمل وهي غير مقتنعة بما يقال لها، وهي تصر على ما تتخيلها هي واقعية وهذا ليس مرض كما يشاع عنها. ولا تشعر بالرضا والسعادة وتحولت حياتها ومن حولها الى جحيم منذ فترة طويلة وفي بعض الاحيان يساعدها الحظ ينمو ببطء وتعود إلى حالتها الطبيعية، في هذه اللحظات الجميلة تطل خيالاتها من عقلها الباطن وتهيمن الخوف مرة اخرى.

تسبب تخيلاتها التي تتكلم عنها ضيقاً لمن حولها وفي بعض الأحيان ما يثير سخريّةَ أبنائها. يصفها ابنها الأكبر بأنها متعبة بسبب توترها وخيالاتها.

خلال هذه السنوات ها هي تعيش الحالة نفسها وفي عينيها جفت الدموع، لا تزال تعاني من الخوف القديم الجديد، فقد خارت قواها وامتلأت رأسها بأفكار من نسج خيالها. وغالباً تنقبض قلبها وتدخل غرفتها وتغلق الباب والشبابيك على نفسها من شدة القلق. إن القلق ضلٌت تنهشها طوال هذه الفترة.

كما هو معروف أن الرأس تفرز عند التوتر الشديد دهوناً ومواد أخرى، وتساعد الدموع على إخراجها بعدها يشعر المرء بالهدوء، أما جوهرة كانت تحتقن الدموع في عينيها وتزداد التوتر.

في بعض الليالي، تستولي عليها كآبة غريبة. تأخَذَهُا عَلَى حِينِ غِرَّةٍ، ويستبد بها خوف، تشعر أنها الوحيدة، قد هجرها صديقاتها واصدقائها جميعا معانيا من اضطراب عميق دون تعرف لماذا تحدث لها. دون تدرك أنها ابتعدت عن العالم من شدة الخوف بعد مرضها.

تتحدث مع نفسها وتقول:

- لا أحد يزورني، كما لو كانوا نسوني، كما كنت، حقا، غريباً عنهم!

- نعم الجميع هجروني، بقيت وحيداً اصارع هؤلاء الحيتان، وحتى في بيتي لا أشعر بالراحة.

يُعدّ اضطراب الوهم من الأمراض النفسية المصنّفة تحت اضطرابات الذهان، وهو مرض يعاني فيه الشخص من مشكلة في إدراك الحقيقة، لا تدرك جوهرة سبب هذا الأسى الذي يزحف الى داخلها، وأن ما تعاني منها ليس مرضًا بحدّ ذاته، والاصعب من حولها لا يفهمونها وقد رفضت العلاج النفسي، مما اضطر أحد أقاربها طرح مرضها على طبيب الأمراض النفسية وكتب لها الحبوب، واخيراً أبدى استعدادها للعلاج الدوائي، وبعد أن تناول الأقراص، بدأت تقوم بتنظيم ما تدور في رأسها في فترة بسيطة وقد ساعدها على التهدئة في السنة الماضية، وأقلعت عن التخيلات والاوهام وبدأت تمارس حياتها بشكل طبيعي.

***

سهيل الزهاوي

لـِــكُــلِ أُفْــقٍ ... أســارِيــرٌ وأضــواءُ

وأفــقُ حَـــرفِــكَ ، فـي الأزمـان وَضّـاءُ

*

لَــمّا انْـتَـقَـيْـتَ الــقوافي كُــنتَ فـارِسَـهـا

في النّسْجِ حتى زَهَتْ في الوصفِ أجْواءُ

*

روافِـدُ الــتٍـبْـرِ ، مِـن يـنبوعِكَ انـبَثَـقـتْ

لــلـقــلـــب نــورٌ .... ولـلـظــمآن إرْواءُ

*

يا شاغِـلَ الـناسِ ، في سِحـْـر البيان وقد

شــــاعـَـتْ بــنــهـجـِـك ، اخــبارٌ وأنْـباءُ

*

وَظَّــفْـتَ ، مِـن مُعجم الألفاظِ ما نَدَرَتْ

ايـْــقَــظْتَ فـي ذِكْــرِها مَــنْ فـيه إغْـفاءُ

*

( انـامُ مِــلئ جــفـونــي عن شـوارِدِها )

أجـَـلْ ....لــهـا أنـتَ ، والإبــداعُ آلاءُ

*

إنّ انــسجــامَ الــمعاني ، في صياغـتـِها

مِــثــلُ الــقِــلادَةِ ، رَصْفُ الــدّرِ إيــماءُ

*

سُــمْــرُ الــقَنا مَضْربُ الأمثالِ صَوْلتُهـا

وفــــي هِــجــائـكَ ، لــلأضْــدادِ إدمـاءُ

*

ذو الـعقـل ، إنْ بـَـلَغ َالنـبوغُ بــه العُلا

فَــحِــكْـمَةُ الـرأي ، تـوثــيــقٌ وإدلاءُ

*

بـَـلَغـْـتَ فـــي حِكْمَة الأشــعار مَرتَبةً

أرّخْــتَ مَــجْـدا ، به الأهدافُ أضواءُ

*

(أنا الـذي نظرَ الأعـمى الى أدبي)

عَــزّزْتَ نـفسَكَ حـيثُ الحَسْمُ إجْـراءُ

*

مُــذْ جالَ فــيك شُــعورُ العَـزْمِ مُتّـقِدا

الســــيفُ مُـنـصَقـِلٌ، والشِعرُ إرسـاءُ

*

لا يـَذْوي غُـصنٌ ، وَجَـذْرٌ فيه يَرْفِدُه

جُـــودُ الــعـطاءِ ، لــه نَـسْغٌ وإثْـراءُ

*

( الــخـيلُ واللـيلُ والبــيداءُ تعرفني)

أعـــلنـْـتَ فيــهـا مَـسيراً ، فيه إحماءُ

*

أبـَـيْــتَ أنْ تُـنـشِدَ الممدوحَ مُنـتَـصِبا

حتى اسْتَـويتَ جُـلوسا ً،لا كما شاءوا

*

يــبـقى السـُّـموُ بِكبْرِ النـفس مُـؤتـلقاً

لا فــي الــبَـدانـَةِ ، أوْ مــا جـادَ آباءُ

*

يا مُـودِعـاً ، في ثنايا القلب سِـيرَتـَه

عـلى خُـطاكَ ، لنا فـي الشعرِ إسْراءُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

من (الحالمةْ)

يُسافرُ حرفي أثيراً

يُذيبُ الفراغَ الذي

امتدَّ أوديةً هائمة ْ

*

وايقاع َقيعانِ يأتيه ِ

من كل سِحْر ٍ عتيق ٍ

وعطر الرضى

بعناق ِ الطبيعة ِ للقادمين َ

صبايا شموس ٍ

بدفءِ الوداد ِلَهُ مُلْهِمَة ْ !

*

وأفئدة ً بالأهازيج ِبَشَّتْ

تُحَنِّي خُطَاها لهُ

ووجهها صِدْقاً صريح الهوى

يُحَيِّيهِ :أهلاً وسهلاً

هنا (العاصمة ْ)!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي – اليمن

 

هذا العراقُ وما أدراكَ معناهُ

شعبٌ عريقٌ ونُـبـلٌ في سـجاياهُ

*

به الحضاراتُ تحكي عِـزّ غابرِهِ

وحاضرٌ يشـتكي بـؤسًا مُحـــيّاهُ

*

كان العراقُ عراقُ الخيرِ لي وطنًا

واليـومَ تــاهَ وقَـبـلَ الـيـوم تَـيّــاهُ

*

فالحاكمون به بلـواهُ مُـذْ حكموا

بــه تجـلّـتْ عِـيـانًـا عـنـدَ مــرآهُ

*

فلا ضميرُ ولا دينٌ لِـمَنْ حكموا

ولا رجـالٌ وإنْ عُــدّوا فأشـبـاهُ

*

ذمّـوا الظروفَ وقالوا انّها سببٌ

هـذا الـتردي لها لسـنا فـعـلـناهُ

*

قلتُ النفوسُ تردّتْ فهي في دركٍ

يا أرذلَ الخلقِ أين الـحُـرُّ الـقـاهُ

*

مُـذْ كانَ لليـومِ حُـكامٌ هُـمُ خَـوَلٌ

طـبعٌ تَـطـبَّـعَ لا عِــــزٌّ ولا جــاهُ

*

صنيعةُ الغربِ باتَ الحُكمُ شهوتَهمْ

بـاعوا الـبلادَ لـهُ حسـبي هـو اللهُ

*

والشعبُ وا أسـفي ما زال في حُلُمٍ

متى يُـفـيـقُ يـرى للـمجـدِ مَـرقـاهُ

*

هـذا العراقُ وحُـكّامٌ بـهِ انـحـدروا

الى الـحضيضِ وفي الديجورِ مأواهُ

*

أدمى فـؤادي وقد عاينتُ حالتَهُ

وحـالَ شـعبٍ غـدا في الوهمِ مرعاهُ

*

فهو الطريدةُ يـغدو عـند سـكرتِهمْ

يـدورُ في فـلَـكٍ لا يــدري مَـغـــزاهُ

*

أرى عراقي عـراقَ الخيرِ مُـنتهبًا

شـعبٌ يُـعاني وحُكْمُ الـجـورِ أعـياهُ

*

لكـنَّ لي أمــــلًا يـومًـا يـعـودُ بـه

رجـالُ صـدقٍ الى الـعلـياءِ مـرقـاهُ

*

يبقى العراقُ عراقي والـدُنى دُولٌ

حتى وإنْ طالَ في الـوعـثاءِ مَـسراهُ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

الثلاثاء في 3 كانون ثاني 2023

لم يفلح معلما الإسلامية واللغة العربية في ردع بعض التلاميذ عند (حَلَّتِهم) عندما شاهدا هؤلاء ينبزون زميلهم (محيسن) لمرات متكررة بــــــ (إبن خيرية العَرجَه) فيذهب منكسر النفس إلى أمه، لا يجرؤ على إخبارها بما نبزوه، تلك الأم التي كانتْ (خَبَّازةً) ماهرةً تُخرِجُ من تنور طينها العراقي، رغيفَ الخبزِ الحارِ الذي تفوحُ رائحتُهُ فتشمُها الروح . كانت خيرية تذهبُ لبيعِ خبزِها بعبائتِها الباهتةِ المتهرئةِ فتفترشُ مكانَها في السوقِ الكبير، (محيسن) هو ابنها الوحيد لأبٍ كان عاملَ بناءٍ ماتَ إثرَ مرضٍ عضال. تحصلَ محيسن بصعوبة وتعثر على شهادة الابتدائية ... قالت خيرية يوماً لجارتها: (أهم شي محيسن صار يقره ويكتب) فطريق التعليم طويل ومهنتي لا تسمح بتوفير المال للدروس الخصوصية، عمل محيسن بائعاً للماء والمناديل في تقاطعات السيارات حتى أصبحَ وجههُ خشناً كالحاً بحرارة الصيف الحارق وبرودة الجو القارس، كان أكثرُ ما يحزُ في نفسه عندما يسأله أحدهم هذا السؤال: ابن من أنت؟ فيجيب أنا ابن خيرية الخبازة، فيباغته السائل (خيرية العرجه غير؟) فيجيب على استحياءٍ وخجلٍ (نعم) وتكمنُ الحيرةُ في نفسه ، فيتساءل لماذا تُعرف أمي بعاهتها لا بمهنتها ؟

يا لهذا المجتمع المتنمر!! .

بعد وفاة خيرية استقر محيسن الفتى الشاب اليافع بصندوقه الخشبي وعلب دهانه في باب المعظم (مُجَّمع الكليات) وهو يومئ للمارة من طلاب الجامعة والأساتذة والموظفين وبقية المارة بعبارة يكررها (أصبغ حذاءك بألف / أصبغ حذاءك بألف) كان يشعر بمرارة الحزن تسيل من قلبه، وهو يرى من بعمره من الطلاب وهم يتأبطون محاضراتهم متأنقين نظيفي الملابس، وهم يرتادون الجامعة، فيسحب نفساً عميقاً من دخان سجارته، وهو يتعوذ من الشيطان ويحمد الله على نعمة العافية، في يوم الجمعة يكون العمل قليلاً ؛ فيتصفح بعض الصحف والمجلات من (بسطية أبو جواد) جاره في الرصيف، وأبو جواد هذا رجلٌ مسنٌ، قضى شطرَ عمرهِ في حربِ الثمانينيات وبضعةِ سنواتٍ في الأسر، ما يميز أبي جواد، أن شاربه مصفراً جراءَ إفراطه في التدخين ... ناوله (أبو جواد) يوماً مجلةً، فقال له

محيسن: إقرأ هذا النصَ المتمرد للشاعر عدنان الصائغ، فكان النص الشعري يقول:

نظرَ الأعرجُ إلى السماء ...

وهتفَ بغضب ...

أيها الربُ ..

إذا لم يكنْ لديكَ طينٌ كافٍ ..

فعلامَ تعجلتَ في تكويني ؟!!.

مضت السنون ومحيسن يصبغُ أحذيةَ المارة، اكتشفَ من خلالِ مهنتهِ في صباغة الأحذية أنَّ كثيراً من الناس يَحرصونَ على تلميعِ أحذيتِهم لكنهم لا يَحرصونَ على تلميعِ رؤوسهم الصدئة، ومن جراءِ هذه المهنة، اعتادَ محيسن النظرَ إلى الأرضِ والأحذية ِ، فكانتِ الأرضُ والأحذيةُ أقربَ الأشياءِ إلى عينيه، لكنَّ الأقربَ إلى قلبه، وروحه هي الأرضُ التي أكلَ منها رغيفَ خُبزِ أمهِ الحار.  

***

مثنى كاظم صادق

  

الشّوقُ غالبني ومثلي يَضعفُ

إذما الفؤادُ بهِ اشتياقُكِ يَعصِفُ

*

كلُّ التّصبّرِ ليسَ ينفعُ عاشقًا

لمّا سهامُكِ يا جميلةُ تُحذَفُ

*

النّاسُ لا تدري بحالي ليتَ مَن

لامَ الأحبّةَ قبل لومِهِ يعطفُ

*

ليتَ العواذلَ واللّوائمَ ليتَهمْ

فهموا الهوى مِن قَبلِ منْهُ تأفّفوا

*

يا ربِّيَ الْطُفْ بالأحبّةِ مَن لنا

يا ربُّ إلّا أنتَ فينا يلطفُ

*

تمضي السّنينُ وحبُّها لي سيّدٌ

لا ما استراحَ ولا نوى يتوقّفُ

*

تمضي السّنينُ وحبُّها بي صامدٌ

ما كان يومًا يلتوي أو يَتلَفُ

*

تمضي سنينٌ وهْي دائي والدّوا

يشفي فؤادي خمرُها لو يُرشَفُ

*

كم كان صعبًا أن أُكتّمَ لوعةً

والحبُّ منّي ظاهرٌ يتكشّفُ

*

ضاقت بِيَ الآمالُ لكن ها أنا

أمشي طريقَ الحبِّ لا أتخوّفُ

*

أيكونُ حبُّكِ يا حبيبةُ صُدفةً

يا خيرَ حبٍّ في حياتي أصدفُ

*

أيكونُ حبُّكِ كالأماني نجمةً

وَيَدي أمدُّ لِنَجمَةٍ لا تُقطَفُ

*

سأظلُّ أُنشدُ في الغرامِ قصائدي

والحبُّ من فرطِ الصّبابةِ أنزِفُ

*

سيظلُّ وعدي يا حبيبةُ صادقًا

مهما مصيري في الهوى لا أخلفُ

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

 

تمرّدْتُ على المَدينة

ليسَ للآهاتِ فيها صَدىٰ

يعيدُ على مَسمَعي بوحَ سريرَتي الحَزنىٰ

وحينَ خانَتْني حانةُ الليل

مع النِساء ...

وعارضاتِ الهَوىٰ

وجرَّدَتْني الخداعَ ألسِنَةُ الشُموع ...

خرَجتُ مُنسلّا بين أوجُهٍ قرمزيّة

أبحثُ في جُيوبي

عن مسبَحةٍ مَنسيّةٍ

وأدعِيةٍ طواها ضَبابُ الذاكرة

**

في أزقّةِ يوتيبوري*

يتوسّدُ الشارعَ حَجَرٌ نَظير

يَكتمُ لونَهَ غَضَبُ الأحذية

إنتَظِر!!

بعدَ بلّةِ مَطَرٍ صَيفية

يُريك بألوانِ قَوسِ قزح

مُؤخّراتِ النِساء

**

تحتَ نُصبِ جوستاف أدولْف**

في ساحةٍ يَعبثُ في أركانِها التأريخ

تكَوّرَ شيخٌ عليهِ ثيابُ دُمىٰ الحُقول

تَهتزُّ يداهُ كالسَنابلِ الخاوية

يُحدّثُ لا مُبالاةَ العابرين

كأنما يسبُّ سخطَ الملائكةَ

لعَقَ من شَفَتيهِ سَكيبَ البيرة

ليَسلِبَ آخرَ زادِ السُكْر

نظرَ الى ابتسامةِ التمثالِ

فاعوَجَّ فكّهُ بضحكةٍ بليدة

دمدمَ ساخراً

مُحترَمٌ لأنك من حَجَر

لو أنتَ مِثلي لنالكَ البُصاق

**

في سُرّةِ يوتيبوري

يَنداحُ مُتنزهُ قَصرِ المَلِك

وتحتَ شَجرةِ تفّاحٍ ألِفَتْ رائِحةَ البشَر

على ضفةِ البُحيرة

سيّدةٌ تفتَرِشُ صَمتَ أحلامِها  

على بساطِ الأورادِ المَنثورة

يَلمعُ في خَصائِلها خَجَلُ الشَمس

ويرقصُ في مُحيّاها انعكاسُ الماء

تلتَذُ بدِفئ جُفونِها

تنأىٰ عن أعينِ القنّاصينْ

نَظرتُ لغَفلتِها ..

أُسائلُ خَيبَتي

تُرىٰ من يَحتَلُّ نَشوتَها العَمياء

**

الرَبيعُ في هذهِ البِلاد

لقيطُ الشتاء

يَدفنُ عارَهُ الصَيف

**

هنا...

الخَريفُ مَحفلُ العُري

حينَ ترمي صبايا الشجرِعفّتَها

تراودُ فيكَ غرائزَ الإناث

تعرضُ فتنَتَها

وانحناءاتِ سيقانِها الملساءْ

تفتحُ أذرُعَها

تهمسُ في نُعاسٍ شَهيّ

لستَ وحدكَ عاشقَ الأجساد

**

يوتيبوري .. ذاتُ الصيف

قارورةُ عِطر

أجسادٌ تثأرُ من ملابسِها

جنائنُها مواقدُ للشواء

دخانُها يَخِفُّ بالنبيذ

أنهارُها من خُمور

ليثملَ فيها التائبونَ من الصَلاة

الباحثونَ عن الفردوسِ بلا دُعاء

المعرضونَ عن أعمارِهم

يوتيبوري .. عِلَّتي

فقد صَحا بيَ عِرقيَ المَجنون

يقودُني الى الظلام..

الظلام ..

ذلكَ الذي يلحَقُ بي ..

من بلادٍ طغىٰ بها الأولياء

**

عادل الحنظل

.....................

* يوتيبوري ثاني كُبريات مدن السويد وقد عشت فيها منذ 2005

** جوستاف أدولف هو مؤسس المدينة، وينتصب تمثاله في ساحة برونز باركن المركزية والتي يسرح فيها المدمنون على الكحول بهيئاتهم الرثّة.

 

اهتزاز الدواخل يلطم الكريات ببعضها

في بؤرة الجسد.. يتكوم الألم

كل الأعضاء على أهبة التشييع؟

خائن هذا الحلم الرافض الاستحمام..

في طست النهار البارد..

خلاصا من اعوجاج الأحداث

الجسد أيضا خائن.. يرتدي معاطف أكبر من حجمه

فتتأرجح الأزرار بين اليمين واليسار

ناسية مشاق السير وما يتقاطر من سخافات على الجبهة

الجوع خائن.. الفقر كافر.. فمتى يعلن توبته

يكسر أصنام الوهم الـ يرتدي بذلته العسكرية

مزهوا بنجماته المتلألئة

غير عابيء بظلال الليل المتساقطة؟

*

تتقرفص السنون أمامي.. تسأل: وماذا بعد؟

الصفحات رمادية.. تسحب النهارات نحو حارات ضيقة

ونوافذ تفوح منها روائح الدخان.. والموت

كثير من الغموض يلف دروس التاريخ

والجغرافيا ليست مثقفة بقدر يجعل التضاريس

تفك لغز الأهرامات.. وأساطير مجرات

تغلغت في البحر.. قبل وبعد سكوت المدافع

*

الزجاجة رمادية..

تختصر مكونات النظام الدولي.. الإنسان الآلي

والطفل ذي الأربعة رؤوس

عند الأبواب المفغورة.. والمغفورة

البلاد تبيع الأحصنة.. لتبتاع ذلا وكثير مهازل

وأخبار الموت تتنزل عارية كالهواء

تغسل مناجل قطعت رقاب السنابل الناضرة

عمال النظافة يطاردون أقذار المدينة

من أعماق الظلمة.. حتى البياض المتربع في السفح

الأشعة تنفي وجود معادن.. كل ما هنالك=

مثقف يهدر الصحيفة

فيلسوف يتاجر بالمدينة الفاضلة

فنان يزوّر تواقيع اللوحات

ممثل ينثر المسرحية في خواء

بائع الفول.. المسجد.. المكتبة

وثرثرات المقاهي

لماذا لا أنام؟

بوصلة الرأس مكتظة بالرسوبيات

وتعلمون.. للقطيع تقاليده

له طقوس بدونها.. لا تتغير إعلانات الجدران

ولا يمسح وجه الوليد المثقل بالإسفلت

*

الأمس لا معنى له في أجندة مدرس

باع كتبه القديمة ليبتاع دواء السعال

حافل عند جارنا الذي يغير سيارته كل سنة

لتظل الأجنة عالقة بالأرحام

فلا مكان لها في مدينة

تعيش على دماء الفلذات كما العقارب

وللغد ألف معنى = هكذا يقول الفلكيون

الخوف.. القلق.. الجزع.. الهلع.. الانتظار

ثم البداية والنهاية

عند مدخل البداية.. محطات احتراق..

الغربان تتجرأ على نقر الرأس السوداء

ترغب في أكل الديدان.. الناخرة للدماغ

الأورام دثرته بوهم دافيء..

فظل مخزنا مضاء بنار استسلام

*

ألم يسري كالسم تحت الجلد

ودروس المدرسة تصطك

قوانين حمورابي..

وصول الفنيقيين والقرطاجيين

الفتح الإسلامي

تمثال الإله بعل ينتصب.. وأنهار أنا

وماذا بعد؟

*

أدخل مزيج الألوان والأشكال

بحثا عن معبد أقرأ فيه تراتيل القيامة

كل الساحات والميادين في علية الرأس ملأى بالموتى

مكتظة بالقيود.. شعارات القبور المجاورة:

الظلمة.. ورائحة الأكفان

أجدادنا فتحوا العالم.. نحن أغلقنا النوافذ

وقلنا= لبثنا يوما أو بعض يوم

ثم تناوبنا على تدخين سيجارة

قالت المرآة =عند مدخل الجنون بحيرة أثرية للزينة..

والاغتسال من مخلفات التاريخ

قال الجدار= ما بالك تهذين.. الميادين واثقة من الرؤيا..

ومن صحن الفول المغمس بالثرثرات الحزينة

أعمدة النور تصيح = اصمتوا =

المدينة تتآكل.. احفروا.. احفروا

صحن الفول يعادل وجها لا يحمل تراميم..؟

*

الزحام والعلل.. والأرق الملعون يخنق مداخل الشعر

القوافي باردة.. لا تذيب صقيع الروماتيزم

الجوع يلتهم ما تبقى.. وماذا بعد؟

لا أحد ينسى أول درس في الحب

أول قبلة سرقها تحت إبط الجدار

فكيف ننسى أول نقمة.. وآخر لعنة؟

أن تقتات الحقن.. تعتاش على الحبوب المهدئة

لن يمنحك هامش فسحة.. استراحة محارب

كلنا محاربون.. ما دامت قوى العالم

عاجزة عن مراقبة الظنون

*

وما ذا بعد؟

المرآة تنظر في اشمئزاز.. لا.. في عطف وشفقة..

لالالا.. في نفور تحدقني

كفرا بحواراتي الهوجاء

الآن علي أخذ حقنة.. لترقيق الضغط

و أخرى.. لتشذيب السكر

بعد قليل حقنة.. لتهدئة هيجان الغدة

ثم حقنة.. لتثمل الأمعاء الثائرة

حتى يرتدي النبض رداءه المستعار !

*

سأمعن النظر.. عندما أفقد البصر

سأركز مليا.. عندما تبيض الذاكرة

جدي كان بصره آية.. ولم ينتبه إلى القبعات الحمر

حين هدت صخرة الذكريات.. حيث كان يلتقي حبيبته

مازال يحضن المكان.. ويبكي

يشم دخانها ليستمد حيوية الموت

أبي كان ذكيا.. شديد التركيز

لم ينتبه إلى دموعه المتساقطة.. أسفل شعيراته الشعثاء

الريح الشرقية تحارب الغربية.. لكنه لم يحترز..

لزمهريرها وهو يضرب قلب الدار

أشعر بعطش قاتل..

سأوقف زحف الأفكار.. تكسير الأحجار

جرعات متلاحقة.. متنافرة..

سأغادر رأسي الفسيحة.. الأمسيات الباهتة

وأغاني الطرب

الثلج يتوسد مسام المدينة

الصمت يوغل في المجهول

وحرارة الرصيف عاجزة عن تدفئة الحرقة

*

وماذا بعد؟

للريح صوت أرق من نشيجي

يغتبط وهو يداعب الطفولة

يهز شوارب فحولة قابعة في كل مكان

وأنا أمام الزجاجة.. أنتظر انتهاء الدوام.. الديمومة

لا أفكر مطلقا في إجازة

علاوة على مهمة زخ العرق على الأزرار

على عبور لا منته بين أطراف الزجاج

هذه علبة تسعنا جميعا.. فيها نلعب لعبة الضجر

السباق في طبقات التفاهة.. ارتقاء الشرود والذهول

السوقية.. العنجهية.. تحرير الأوطان.. قتل الكفار..

وأحيانا =كوماندو = يزحف مثل الدود بين الحروف

عند انتهاء المهمات الصعبة..

يلتقي العشاق.. لتبدأ حصة الغرام

ننسى الوحدة العربية.. داعش.. داحس.. ويكيليكس

جنود الروم.... الخ

هي أطول حصة عربية..

تقدم في المدن المنسية.. والمسافات المتشابكة

*

وما ذا بعد؟

الموت يبث بهاءه.. بخارا ينهض برفق

يدعو الجيران إلى وليمة

هي النهاية كما تنبأ العرافون

فوق رأسي علاقات جدلية.. كشفت بشاعة اليقظة

مددت رأسي بعيدا.. نحو برنامج حداثي

نخرت ضيوفه.. صور ضاعت طراوتها

مزهرية كبيرة ضاقت بالغبار

وكؤوس اكتسبت أهميتها أمام الكاميرا

سأقرض الزجاج انتقاما

أكسر الأخبار تعرية.. لكل الهياكل المزهوة كذبا

*

أينع الصمت

سألقي حرفي.. وأرحل لليلة قادمة

و دوام عليل في باحة الزار

عيناي على الإيقاع

وجعي على نبرات الكيبورد

ورأسي أرجوحة فضائية !

***

مالكة حبرشيد

الفصل الثاني من رواية: غابات الإسمنت

استقبلني السجن الكبير بأجوائه المعتمة ووجوه السجينات المتباينة، كما لو أنّني رأيتها منذ زمن بعيدٍ، ثم توارت وعادت ثانية في أحد الأحلام المبهمة الكئيبة، كان النور في ذلك المكان خافتا؛ لكنني على الرغم من ذلك، ميزت بين وجوه عدّة؛ وجه متعب بدت عليه آثار السجن، وآخر ناضر كأن صاحبته لم تعانِ في هذا المكان المغلق أي همّ.

السجن نفسه بضوئه الخافت، يرسم وجوهنا كيفما يشاء، بألوان البؤس والسرور والخوف والنضرة والذبول بشتى الألوان، ومن مفارقات القدر أن نجد وجها ريّان المحيّا متهلل الأسارير لمحكومة بالإعدام، وآخر متعبا لمن حُكِم لبضعة أشهر.

مفارقة عجيبة غريبة.

كنت قبل صدور الحكم عليّ قد قضيت في الحجز المؤقت بضعة أيام لغرض التحقيق، وجدتُ في الغرفة ثلاث نساء سبقنني: جميلة وعادلة وكريمة عبد الحي، جميلة وعادلة وقعتا في فخ الشرطة في يوم واحد وفي المكان ذاته، بتهمة تهريب العملة وتزويرها، هما تعترفان بالتهمة ولا تنكرانها، تدخنان ويأتيهما أحسن طعام، لا أشك في كرمهما وتفاؤلهما، أما كريمة فلها قصة أخرى تختلف تماما؛ لكنها تشبه قصتي وتفصيلاتها المثيرة أو المملّة، ويبدو هذا كافيا ليجعلها صديقتي، كنت آمل أن أجدها في سجن النساء إذا سبقتني؛ لكن التحقيق في قضيتي سار بسرعة كبيرة، لأن أهل زوجي أغروا الصحافة وبعض وسائل الإعلام للتحريض، غير أن القضاء لم يتأثر بما راح ينشره الإعلام من وصف لي وتحريض عليّ.

انتشرت قصص وأحاديث لجعل القتيل هو الضحيّة.

قيل إنّه متزوّج من الفتاة التي ضبطتها معه في الشّقّة.

واتهمتني إشاعة أنني سهّلت له الأمر، جعلوني قوّ...!

وذهبت بعض التخرّصات إلى أنّ عملية القتل حدثت بسبب الاختلاف في المصالح، لأن زواجنا كان مبنيا على صفقة تجارية.

أمّا كريمة فلم تأكلها الصحافة ولا الشارع العام بالأقاويل، لأنّ زوجها شخص عادي لا ينتمي للطبقة الأرستقراطيّة التي تمدّ مخالبها إلى جهاز الدولة وتحشر نفسها في قرارات الحكومة.

كريمة نفسها تنتمي للطبقة دون الوسطى.

فلم يهيّج فعلها المجتمع؛ سوى حديث عابر لم يشغل الناس.

لقد قالت لي إنها يئست من الحياة بعد أن وقع عليها حكم بالنشوز من زوجها الثاني، اتضح لها بعد تحرٍّ دقيق أن لزوجها الأوّل يدًا في موضوع النشوز، سألتها بفضول:

-       كيف عرفتِ؟

أجابت إن زوجها الثاني الذي كان محلّلا اعترف لها، قصّة يمكن أن تعيد نفسها في أيّ زمان ومكان ولا تبعث على الملل إطلاقا على الرغم من أننا نعرفها من قبل.

كان كل شيء يسير على ما يرام حتى اكتشفتْ نقطة ضعف زوجها الأول، عصبي المزاج مقامر لا يأوي إلى البيت إلا بضع ساعات كأنه في سفر دائم.

خلاف يومي.

جحيم.

صراخ.

زاد الأمر سوءا أنها رزقت منه بطفلين تصفهما كأنهما وردتان، وتضمّ يديها إلى صدرها ثم تسحب نفسًا عميقا كأنها تشمّ وردة بين يديها.

وقد حصلت بينهما خلافات لمرات ومرات، وفي كلّ مرة يتحقق الطلاق، قال لها بعد أن رأت ندمه في الثالثة، أنه يعرف محلّلا يمكن أن يصبح زوجها مدة ثم يطلقها.

هكذا بيسر وسهولة اقتنعت..

أقسمَ لها أنه لن يعود لغضبه.

وما عليها إلّا أن تمتثل لطلبه، لا إكراما لعينيه بل كرمى للولدين..

تلك هي نقطة ضعفها..

والطعم الذي بلعته من دون أن تعي أنّه سمّ زعاف.

وافقتْ ولم تعرف أن زوجها السابق ذا الطلقات الثلاث، كان يمارس هذه التجارة مع جماعة من الأغنياء، تزوج وطلق وكانت بعض زوجاته يعدن إليه وأخريات لا يرجعن.. وفق هوى التجار وسوق الرغبات السائدة، ولأن كريمة استفزته فقد ركب رأسه العناد.. هكذا جرت الأمور حتى جاء محلّل رفض الطلاق، أراد زوجها أن ينتقم منها فاتفقا على أن يصعّد الخلاف بينهما إلى درجة أن يحصل الزوج الجديد على حكم بالنشوز، يبدو أنها لم تكن رائجة في سوق النخاسة، فلم يرق للزوج أن يرجعها بعد الاتفاق مع المحلل فكان النشوز صدمة لها.

نهاية مستقبلها.

ما أقبح الرجل الديوث، الجبان!

فغلى بعروقها الدم، وفار الانتقام بنفسها؛ لم تقصد المحلل بل قصدت زوجها وانتقمت منه، فمن يصدّقها غيري أنا رفيقتها في الحبس على ذمّة التحقيق، وأنا مثلها أدانني المجتمع قبل القضاء؟

لم تكن مغفّلة أو ساذجة، عقلها كبير يزن الأمور، ولا أظنّ غريزة الأمومة تشكّل نقطة ضعفها حين قبلت بالزواج من المحلل للعودة إلى أبي ولديها، فكلّنا نحن النساء في مجتمعاتنا العربية نبقى - بخاصة المطلقات - عرضة لمطامع الرجال حتى يتحقّق الهرب بالزواح، فتجد الواحدة منا نفسها في مأزق جديد؛ وكريمة هي جرح آخر ينزف فينا وما زال ينزف.

غير أنّ لقائي الأوّل معها ورفقتي انتهت حين دخلتْ السجّانة لتطلبني للمحكمة، فغادرتُ التوقيف إلى المحكمة التي كنت متشائمة منها، كنت أتوجس خيفة أن تصدر بحقي أقصى عقوبة وهي الإعدام، تصوّر رسخ في ذهني، أو أنني افترضته لأنني توقعت أن تؤثّر حملة الصحف والإعلام والرأي العام الغاضب في مجرى التحقيق، وربّما يزيدني هذا التصوّر الغريب قلقا حين آوي إلى الفراش وقت النوم؛ إذ حالما أغفو أجدني أحلم أحلاما غريبة:

مشيت في صحراء مترامية الأطراف، فجأة انقلب المشهد من صباح واضح المعالم إلى ليل معتم خال من القمر والنجوم، صورة زوجي وهو يخرج من باطن الأرض وبجنبه ترقد عشيقته التي قتلتها معه يوم الحادث، أراه يمدّ إليّ يديه يدعوني إلى حضنه، اقتربت من دون خوف ولا تردد حتّى أصبحت قريبة منه على بعد خطوات، وقبل أن أصل إليه انشقت الأرض من جديد وابتلعته، وفي أقلّ من لحظات سطعت الشمس من جديد، فالتهبت الرمال بالنار، سقط نيزك أسود من بقايا الليل.. فأحدث حفرة في الأرض، اقتربت منها ووقفت على حافتها، وجدت زوجي داخلها يسترخي جنب ضبع ملطخةٍ ببقع سوداء وحمراء، مربوطة بحبل يقيّد عنقها، انقلب على جنبه، فسمعت للضبع شخيرا يتصاعد نحو رقعة سوداء ما زالت من بقايا الليل، فلم يبق من البقع عليها إلا الحمراء، كان حذرا من أن تستيقظ الضبع لحركته، وضع إصبعه على شفتيه محذّرا، وفتح عقدة الحبل من عنق الضبع بحذر، كأنه في بطئه ينجز عملا يعادل ساعات، فصنع من الحبل على هيئة مشنقة وقفز من الحفرة، طار نحوي وهو يقهقه ويصرخ.

صرختُ بوجهه بغضب: لن تستطيع اللحاق بنا، لن تقدر أن تغادر الحفرة وتعود للحياة، ركضَ فتراجعت، ثقلت رجلاي ورحت أسير إلى الخلف حتى اصطدمت بشيء صلب، فالتفت فإذا بالشرطية خلفي، لا تخافي قالت، واحتضنتي ثم عضتني من أذني محذّرة: لا تخرجي وحدك في الصحراء عند النهار.. أشارت بيدها فانقشعت الشمس وحلّ ظلام دامس، وسألت عند الصباح كريمة: هل سمعتني أصرخ في نومي؟ فأجابت بالنفي.

وفي ليلة تالية اقترب الحبل مني أكثر.. حلم آخر، تأكيد لموتي وتحقيق لأحلام أناس لا أعرفهم يريدونني أن أموت.. أتذكّر الزمن هذه المرّة، إنّه الفجر، بعض الأحلام أنساها حين أستيقظ على صوت الحارسة، ولعلني أتذكّر حلم الفجر والحبل وقت مطلع الشمس، وحدي في غابة، أشجار فقط وسكون، لا صوت ولا حركة، مكان يعجّ بالشّجر والنبات ويضجّ بالصمت ويخلو من الحيوان والطير، أسير بين الحشائش حافية يأكل قدميّ نبات الحرّيق؛ فجأة من شجرة سرو ضخمة منتشرة الأغصان أحسست بشيء ما يلامس هامتي ثم يتدلى أمام وجهي، كانت مشنقة تتدلى من غصنِ ضخم، لم أر أحدا، ظننت زوجي بين الأغصان، وما زال الفراغ والخواء يحيط بالشجر، حبل على رأسي وغابة بصمتها تشبه القبور، فكرت بالهرب فاندفعت أهرول فقفزت المشنقة من الغصن تسبقني .. إنه الموت، بدأت فتحة المشنقة تعبر من هامتي ووجهي إلى عنقي..

التفّت،

ضاقت..

أنفاسي تهدجت،

رحت أصرخ.. صرخت وصرخت من دون جدوى، ثمّ جلست مرعوبة وأنفاسي تتلاحق، كانت جميع السجينات نائمات، ولو كنت أصرخ لسمعنني، ويبدو أن ما خلته صراخا لا يعدو كونه همهمة، لقد حكمت على نفسي بالشنق.. أحلامي قست عليّ ولم ترحمني، غير أن قرار المحكمة جاء رحيما بي، فقد وقفت في قفص الاتهام وخلّفت الخوف ورائي، كما لو أنّي نسيت الكوابيس التي داهمتني كلّ ليلة.

لم يأتِ أحد من أهلي.

جميع أقاربي أعلنوا لخلق الله البراءة منّي؛ إذ رأوا في سلوكي شذوذا، لأنّ الأفضل للمرأة وفق العادات والتقاليد والعرف السائد، أن تلزم الصمت أمام زوجها في كلّ الأحوال: حين يهينها تصمت، وإذا ضربها تصمت، أمّا إذا رأته متلبسا بالخيانة والزنا فما عليها قبل كلّ شيء، إلا أن تكبت بنفسها وتتستر كأنها هي المذنبة، وإلّا ستكون مضغة للأفواه، فكيف بي وقد وجّهت رصاصة نحو زوجي وعشيقته؟

كان الأدّعاء العام قاسيا عليّ.

ومحامي زوجي القتيل محترفا في قلب الحقائق.

أخيرًا راعت لجنة القضاء ظروفي النفسية وردّة فعلي، فأصدر القاضي علي حكمًا بالسجن لثمان سنوات، فتنفست الصعداء.

كذبت أحلامي.

وخابت الكوابيس.

ابتسمت.. نعم.. في عالم خرب لا بد من الابتسامة في وجه الوجع، فالهزيمة لا تليق بالقلوب النقيّة.

***

ذكرى لعيبي

قطعْت حبلَ الخوفِ في روحي

و لم يعد موتي الزؤامُ أمرًا مرعبَا

فالموتُ عند أقدامِ القهرِ حقيقةً

خيرٌ من الموتِ عندها كَذِبَا

اعتصمْتُ كهفَ الصمتِ حين وجدْتُني

بين الورى

شِبهَ ظلٍّ

يردِّدُ الخُطَبَا

يدايَ منَ التصفيقِ الصفيقِ قد غدَتْ ريشةً

ترسمُ الظلمَ مجدًا

و لسانيَ الأعوجُ

قد غدا حَطَبَا

فلأيِّ عطرٍ ينتمي نَفَسي

للزُّورِ للبهتانِ

لرئةِ السجّانِ

للحبرِ يقتلُ الكُتُبَا؟

ولأيّ رمزٍ من رموزِ السماءِ أعودُ

لِملاكِها الحرِّ

أم لشيطانها

حين يحسنُ الطّربَا؟

أنا لم أعدْ مثلَ الينابيعِ نقيًّا

و لم أحفظْ وصيةَ أمي

و لم أُدركْ معنى الطهارةِ

حين ترتدي الجَربَا

هكذا شوَّهوني

هكذا موَّهوني

هكذا جعلوني كالحرباء

تارةً عشبًا وتارةً خشبَا

هكذا استلُّوا من نياطِ القلبِ حلمـا بريئًا

و استعذبُوا حرقَ البنفسجِ

في شرفاتِ روحي

فهَوَى العبيرُ سجينًا ثمّ مُغتصبَا

هكذا أرادوني

مجرد دميةٍ

تبكي وتضحكُ

تلعبُ الدّور الذي رسموا

و تزيِّنُ الفُجْرَ الذي كُتِبَا

هكذا علموني أن أكونَ بلا معنىً

أن أعرفَ الخوفَ

مع الخبزِ..مع النومِ..مع الأحلامِ...

أن أدفنَ الغضبَا

أن أكونَ فردَ قطيعٍ

إذا غضبوا جلدوهُ

و إن جاعوا أكلوهُ

و إن تعبوا ركبوهُ

و إذا اشتهوا وطؤوهُ

تعدَّدتْ أربابُه حتى عدَّد الربَّا

جعلوني كافرًا

ثم ألقَوا عليَّ بردَ الإرهابِ والرَّهَبَا

لكنّني الآنَ نَفَذَتْ نسائمُ الكبرياءِ إلى رئتي

و استوطَنَتْ خيوطُ النور ِ

القلبَ والهُدُبَا

عرفْتُ لونَ طريقي

كيف يكون زفيري

كيف يكون شهيقي

عرفت جمالَ السماءِ حينَ غدوتُ طيرًا

أدركْتُ صوتَ الحياةِ المبهرَ العَذِبَا

فهرعْتُ أسكنُ في مخاطرِها

كالطّفلِ يفرحُ إذْ يمارسُ الَّلعِبَا

خُذني إلى دربِ الضياءِ ولا تخفْ

فالرُّوحُ يعجبُها أن تسكنَ السُّحُبَا

و الرُّوحُ تَثْملُ من دنانِ كرامةٍ

و الرُّوحُ يُسعِدُها أن تفديَ الأَرَبَا

***

د. عبد المجيد أحمد المحمود – سورية

كل جمعة مباشرة بعد آذان الفجر يأخذ بيدها كطفلة إلى نفس الجهة ونفس المكان ونفس المقبرة، وفي الطريق وهما يمضيان بخطى ثابثة بين أزقة المدينة ودروبها المتعرجة وشوارعها الفسيحة المزينة بلوحات الإشهار المضاءة، وأشجار الياسمين الذي تزيد غبش الفجر بهاء وجمالا، كان يذكرها بالخطط المتفق عليها لجمع المال بأقل جهد وبحيل متقنة، ويشرح لها كبلاغي محنك كيفية اختيار الكلام المناسب للشخص المناسب، ويتوقف أحيانا ليوضح لها أكثر نظريته في فهم الحياة والناس وكيفية الإحتيال عليهما معا ... يأخذ نفسا من هواء الفجر النقي.. يتأمل السماء التي بدأت تودع نجومها المتلئلئة كأنه يناجيها، ثم يصعد بخفة العصافير فوق عتبة باب إحدى العمارات الشاهقة ليمثل أمامها بإتقان دور عجوز أعمى هده الفقر والزمن ونسيه الحظ والقدر فجعل منه متسولا معدوما .. فتنتاب فطومة نوبة من الضحك حتى تدمع عيناها وتظهر أسنانها المتبقية، وهي تتفرج عليه معجبة به قائلة له : "والله ثقت بك التهامي متقول غر بالصح أعور وشارف فين قريت العفريت هذا التمثيل..." ثم يأخذ بيدها من جديد ليكمل المشوار.. وعندما يصل بها إلى مكان عملها يفرش لها قطعة الكرتونة على الزليج الرمادي المتسخ فتجلس بتؤدة وتمد رجليها النحيلتين وتسند ظهرها المقوس كمنجل على الجدار المهترئ لتشرع في لعب دورها على خشبة مسرح الحياة مرددة " يا فتاح يا رزاق يا مهول كل الأرزاق" وبعد هذا الدعاء تعمل على ترتيب أغراضها. القفة المخصصة للخبز والحليب تضعها على يسارها حيث باب مقهى الريو، وعلى اليمين جهة باب مخبزة السعادة الدائمة تلقي بعصاها والصرة البيضاء. أما النقود فكانت تدسهم بحذر شديد في حمالة صدرها بعيدا عن الأنظار خاصة زوجها.. وهكذا يتحول المكان   إلى مقر عمل ... وما بين هذه الأبواب المشرعة كانت تلتقط كل صباح ومساء رزقها ولا تبرح مكانها إلا وقت القيلولة، لتجوب شوارع المدينة ممثلة على أصحاب المحلات ورواد المقاهي دور عجوز قليلة الحيلة والنظر يساعدها على ذلك طفل في العاشرة من عمره مقابل عشرين درهما لليوم ...وتعود لمكانها من جديد بعد أن تكون قد تأكدت بأن مدخولها عند نهاية المساء لم يقل عن الجمعة السابقة مليما واحدا.. تلك حياتها التي ورثتها عن أمها وورثتها الأم عن الجدة حتى صار التسول حرفة العائلة ومصدر رزقها...ودعها زوجها بعدما دبت الحركة في الشارع والحياة في النفوس وراج الدرهم في الصرة والخبز وعلب الحليب في القفة، قاصدا السوق الكبير الذي يتوسط المدينة ويقصده الكل للتسوق حيث يرتدي هناك نظارة سوداء، وجلبابا حائل اللون، مفترشا الأرض مباشرة جالسا القرفصاء... ففطومة لم تقبل به زوجا لها إلا بعد تأكدها بأن دخله في السوق أكثر بكثير من دخلها أمام المقبرة. فرزق الأحياء كما تقول غير رزق الأموات.. وبعد زواجها منه ازداد رزقها، فعملت على بناء الطابق الثاني من بيتها، واشترت بعد ذلك بسنتين بيتا آخر وفتحت أسفله دكانين واكترتهما لتاجرين بثمن مغر ..كانت كلما عادت من عملها وقبل أن تخلد للنوم تعيد عد النقود وتتأكد من ما ادخرته في وسائد غرفة النوم ومن ما قبضته من المكترين فهي لا تثق في خزائن البنوك مثلما يفعل زوجها الأهبل الذي قد يضيع ماله في رمشة عين، وقد نهته كثيرا بعدما سمعت من الراديو عن السرقات المتعددة لناقلات أموال البنوك واختراق حسابات الزبائن ... عاد التهامي من السوق بعد يوم عمل مضن حصل فيه على ألف درهم وهو دخل لا يحصل عليه موظف بسيط خلال أسبوع من العمل، ولا محالة ستفرح زوجتة فطومة أيما فرح بهذا الخبر العظيم، وهي عندما تفرح تتنازل له عن حصتها من اللحم والفاكهة .... فتح الباب بهدوء ثم وضع بعد ذلك القفة والحذاء في المطبخ، وأمن على ماله تحت الوسادة وذهب لإيقاظ زوجته فطومة لتناول وجبة العشاء... ظنها في البداية بأنها غارقة في النوم بعد يوم عمل شاق ومتعب لا يقدر عليه سوى الأشداء من الرجال ..قلبها يمينا وقلبها يسارا.... نادى عليها بصوت عال ..ولما تأكد من موتها وبأن روحها صعدت إلى السماء.. اختلطت عليه مشاعر الفرح والحزن وفضل في النهاية ان يكون واقعيا أكثر من اللازم.. جمع المال الموجود في الوسائد ووضعه في قفة كبيرة وغطاه بقطعة قماش بالية ونقله صباحا على وجه السرعة إلى البنك ...وجد البنك فارغا من الزبائن .. أكد له الموظف أكثر من مرة من أن المبلغ هو خمسون مليونا وأربعة آلاف درهم بالتمام والكمال خرج الرجل من وكالة البنك مسرورا، وفي غفلة انشغاله بما سيفعله بهذا المال والعقار الذي انضاف لماله، وممتلكاته نسي مراسيم دفن زوجته فطومة وإخبار السلطات بموتها، ولم ينتبه لصخب الشارع ولا للمارة ولا للسيارات التي تمر بجواره كالبرق... خطى الخطوة الأولى على الخطوط البيضاء لممر الراجلين ولم يكمل الخطوة الثانية حتى ارتفع صياح المارة وأسفهم على ما حصل فقد دهسته سيارة كان صاحبها يسوقها بتهور وجنون فأردته قتيلا مرميا بالقرب من الرصيف غارقا في بركة من الدم .. وهكذا صارت الجنازة جنازتين، وتحول بيتهما في النهاية إلى مأوى للمتشردين والحمقى وقطط آخر الليل وتلك أحلام أخرى منذورة للرحيل.

***

قصة قصيرة

عبدالرزاق اسطيطو

...................

* "أي تطابق بين أحداث القصة وشخصياتها وما جرى ويجري بالواقع هو من قبيل الصدفة وإبداع التخييل الذي يجعل الخيال واقعا والواقع خيالا"

تقولُ:

ما لقصائدِك موحشةٌ

أين شدو حنجرتِك؟

كلماتُك تفوحُ ترافةً

وصورُك

تجعلُ الأنهارَ مرآةً

تغتصبُ انوثة الحوريات

*

أحبك واحدًا

شامخًا

منكسرًا

سيًان عندي

فما تدخره من الودِّ

يصلحُ ما فسد من العالم

*

قد يشغلُني عنكِ

حزني

فقدي

لكنْ

لن أجزعَ من طرقِ بابِك

*

ثمة ما يجعلُني منجذبًا إليكَ

انّ قلبي

قد اختار ان يكون بقربِك

وكفى!!

*

تُعيد عليّ

لماذا انا؟

اضحكُ

فيأتي النداء:

الطريق من هنا

*

في الأول من فراقِنا

تنكسفُ الشمسُ

وفي الثاني منهُ

تبتلع القمرَ

حوريةٌ سماويةٌ

وفي الثالثِ منهُ

يطرقُ بابي

بردُ السماءِ

فاشعرُ بأنّ البيتَ

أوسعُ من انْ يضيقَ

قد تغيبينَ

لكن خيالك

ما زال بيننا

قصيدة لم يفتضَّ بكارتَها شاعرٌ

*

مَن يصدقُ بأنَّ رجلًا

مثلي يحملُ قلبَ

عصفورٍ

***

د . جاسم الخالدي

مُهْدَاةٌ إِلَى الشَّاعِرَةُ اللبنانية:

كرستين افرام

***

بَيْتِي الْعَتِيقُ مُجَمَّلٌ

بِطَبِيعَةِ الرَّحْمَنِ مَهْدَا

*

شَمْسٌ تُصَبِّحُ سَطْحَهُ

وَتُسَبِّحُ الرَّحْمَنَ فَرْدَا

*

ظَلَّتْ لِكُلِّ فَجِيعَةٍ

بِمَشِيئَةِ الرَّحْمَنِ ضِدَّا

*

اَلدَّاءُ تَصْرَعُهُ إِذَا

قَصَدَ الْمَكَانَ يَرُومُ أُسْدَا

*

وَتُحَوِّلُ الْأَيَّامَ نُو

راً سَرَّنَا وَأَشَادَ مَجْدَا

*

مَا قَصَّرَتْ فِي دَوْرِهَا

أَوْ أَهْمَلَتْ مَا كَانَ جِدَّا

*

تَشْفِي السِّقَامَ بِدِفْئِهَا

وَقَضَتْ عَلَى الْآفَاتِ حَدَّا

*

وَشَدَتْ بِأُغْنِيَةٍ لَنَا

جَرَدَتْ هُمُومَ الْأَمْسِ جَرْدَا

*

رَقَصَتْ لَنَا بِنُعُومَةٍ

فَضْفَاضَةٍ تَجْتَاحُ بَرْدَا

*

مُتَفَرِّجُونَ يُصَفِّقُو

نَ يُقَدِّسُونَ الْيَوْمَ قَدَّا

*

عَاشُوا الْحَيَاةَ بِحُلْوِهَا

وَبِمُرِّهَا يَبْغُونَ هِنْدَا

***

د. محسن عبد المعطي - شاعر وروائي مصري

كَمْ سألنا؟

كَمْ سنسألْ؟

دونَ أنْ يأتي جوابْ

جلُّ ما راودنا مِنْ أسْئلةْ

ظلَّ مهملْ

خلّفَتْهُ القافلةْ

هَلْ سنبقى نتأمّلْ

سارِحِينْ

في ضبابِ الإحتمالْ

غارِقِينْ

نتحرّى عَنْ نُجومٍ آفلةْ

عَنْ سنينْ

هربتْ منّا،

وما عدنا نراها

عَنْ زمانٍ مُبهَمٍ سوفَ يجيءْ

قُلتِ لي، والحزنُ ينهلْ

مِنْ صدى صوتكِ

أنّاتِ عذابْ

هَلْ سنبقى نحنُ نسألْ؟

وكلانا

لَمْ يَذُقْ طعمَ الجوابْ

بعدَ أعوامِ اِرتِقابٍ و عذابْ

كَمْ سألنا؟

كَمْ سنسألْ؟

هَلْ سنبقى وحدنا

سائلينْ

دعْ سِوانا

يسألونْ

معنا

علّهمْ لا ييأسونْ

مثلنا

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

 

 

غنيت للوطن الحزين

ومزجت حزني في القصيدة

بلسما للعاشقين

ومسحت عن وجه الحبيبة دمعة

وأضأت في ليل الخريف

مشاهدا للتائهين

ورسمت من نور المحبّة

صورة لحبيبتي

ضاءت كنور الصبح

في عمر السنين

***

بقلم / تواتيت نصرالدين

 

 

مًدّ لي أجنحته

في الفضاء

وأدارَ دَّفتّي شراع أمنياته

بَسطَ لي حُلماً أَزرق

تحققّتْ نبوءتي

وَتمَّ شَغَف اللقاء

مُهاجِرة مُغادرة

مِن موانئ التعب

مِن تراب الأجداد

مِن عطرِ ياسمينك

ياعتيقة المدائن

ياشام

إلى شواطئ النوارس

التي ملّتْ وِحدَتي

وَصَمتي

تُصبِحُ وَ تُمسي

على صوت

مُقرءٍ ينتَظِرُ

دعوة

من يقيم تأَبِين

على جَسدٍ

مُسجى بلا حِراك

***

راغدة السمان

سيدني - أستراليا

 

اجرى الطبيب عددا من الفحوصات للمريضة التي اكثرت من مراجعة عيادته وهي تحلم بايجاد امل عله يتحقق على يديه :

- لا امل لك سيدتي في الانجاب، جربنا عددا من الطرق ولم تنجح احداهن، يمكنك ان تتعايشي مع الوضع والا تستمري في البحث عن امل جديد لا يجدي نفعا كل الاوقات

- ولكن احدى صديقاتي انتظرت عشرين عاما بعد زواجها حتى تحقق املها في الانجاب!

- مثل هذه الحالات شاذة لا يمكن القياس هليها عندنا نحن معشر الاطباء، نحن نؤمن بالأرقام والبحوث الجديدة تنص انه لا يوجد امل دائما ...

تصمت المريضة ...هي لم تعتد على اليأس، كل حياتها تناضل من اجل تحقيق احلامها التي تبدأ صغيرة ثم تكبر وتنمو، الى ان تصبح شجرة باسقة كثيرة الأغصان متلالئة الثمار، وهذا الطبيب يدعوها الى ترك الأمل لأن عدم الوصول الى تحقيقه يولد عند الكثيرات نوعا من الفجيعة لم تعتد نفوسهن المرهفة عليها ..

زوجها الحنون الذي رافقها في كل سفراتها الباحثة عن علاج في الدول المنقدمة، ويدرك مدى اللوعة التي تحيط بنفسها المتطلعة والتي لا تعرف اليأس ابدا وتبذل كل ما في وسعها لانبثاق امل جديد، هما الاثنان لا يعرفان القنوط، هما يؤمنان بقدرة الانسان على ايجاد سبل السعادة والقضاء على طرق الحرمان التي يكابدها الكثيرون، حياتهما حميلة سعيدة يتعاونان فيها في كل الامور، وهما متشابهان في التطلعات والاهتمامات وكل ما تفكر به الزوجة يشعر به، وكل ما يخطر على بال الزوج تحس به قبل ان يبوح به، كل المعارف والأصدقاء يغبطونهما على نوعية الحياة التي يعيشانها وعلى الاهتمام الكبير يبعضهما والتعاون في تسيير دفة المنزل، وقليلا ما تحدث عندهما الخلافات بشان توزيع الاعمال بينهما فكلاهما عاملان ومن طبيعة المرأة في عالمنا ان يكون علبها من الأعباء النصيب الاكبر، ولكن زوجها كثيرا ما اقترح عليها ان يساعدها بعض الاحيان في الاعمال المنزلية التي يقدر عليها، فهو لا يحسن الطبخ ولا غسل الملابس ويمكنه ان يغسل اواني الطبخ بعض الاحيان ان كان لا يتعارض عمله هذا مع موهبته في القراءة والرياضة التي تهتم بها الزوجة ايضا ولكنها تجد الوقت الكافي لقراءة كتاب معين استرعى اهتمامها او اداء بعض التمارين الرياضية التي تحبها وتجدها تحافظ على صحتها ولياقتها االبدنية ..

راجعت العديد من الاطباء والطبيبات أملا في احراز امل، ولكن كل نصائح الاطباء بان لا امل يمكن تجفيفه لم تجدي عندها وبقي الطموح والثقة ناصعين كبيرين، صار لهما عشرون عاما من الحياة الزوجية ولم ينجحا في تحقيق املهما المشترك ..

بعد ان زارت اخر طبيب وقال لها:

- لم يجد الطب دواء ناجعا لحالتك سيدتي!

- لكني لن اترك املي في تحقيق ما اصبو اليه

- الطب يتطور، وهناك ابحاث تجري في امريكا للعثور على علاج لحالتك سيدتي ..

- متى يصل الينا هذا العلاج؟

- لم يصلوا هم بعد!

لا تبالي بتوجيهات الطبيب وتعود الى بيتها ولكن الأمل ينتصر، يقول لها زوجها:

- يقول الاطباء ان العيب مني، يمكن ان نتطلق وتبدئي من جديد

- ولكنك مثلي تريد ان تصبح ابا!

- النساء أكثر رهافة من الرجال وأكثر طموحا ان يصبحن امهات، ومن العار ان ابقيك معي لتزداد معاناتك وحرمانك من تحقيق ما بقيت طوال عشرين عاما تأملين به ان يتحقق!

- لن ارض بهذا الاقتراح، وسوف ننتظر معا حتى يتحقق ما نريد، كلي امل يا حبيبي ان نجد حلا لمشكلتنا التي وجد الكثيرون لها حلولا ومثال ذلك صديقتي سهام التي بقيت بعد الزواج عشرين سنة، ولم تنفصل عن زوجها وبقيت مع رفيقها يبنيان حياتهما معا ..

- يقول الأطباء ان وضعنا يختلف عن وضع صديقتك سهام، شرحنا للاطباء حالتها ولا يمكن ان تكون كل الحالات متشابهة ولها علاج واحد!

- سوف نجد بديلا! ولن اوافق على الانفصال!

- لك ما تريدين، وحين تقررين الانفصال أكون تحت أمرك، يقول الطب لا امل في حالتي انا وليس في حالتك انت، فلنجرب الانفصال، لتتمكني من العثور على ضالتك!

- لا جواب عن طلبك عندي، انا متمسكة بجياتنا معا ... أجد السعادة معك ..

- سعادتك مع الطفل اكبر!

يذهب الزوج لينام تبقى المراة ساهرة، فقد تلقت اتصالا هاتفيا من شخص لا تعرفه :

- انتظري سيدتي هذه االليلة سوف اقدم لك هدية تفرح لها نفسك، في تمام الساعة الثانية صباحا ..

- اقدم لك هدية جزاء تعبك ولهفتك، ولدت انا طفلين جميلين لم يعترف بهما الحبيب الذي قدمت نفسي اليه، سوف اعيش مطمئنة لانهما عندك ..

تنظر الى ساعتها تجدها في الواحدة والنصف، تعمل لها كوبا من عصير الليمون، وفي الوقت المحدد يدق باب المنزل بخفوت، تذهب لفتح الباب، تجد عربة صغيرة فيها طفلان يضحكان ولدا قبل ايام، وفي العربة رسالة مطبوع على الالة الكاتبة فيها :

_ اقدم لك هديتي هذه، فقد تخلى عني الرجل الذي احببته وقدمت له نفسي، سوف اكون مطمئنة ان طفلي عندك

***

صبيحة شبر

10 آب 2022

صريرُ ضيفِها الصَرصار، وراء الغسّالة، في غرفة الغسيل الصغيرة، جعلَها ترى الحقيقة في واقعها المؤلم. جسدُ زوجها الملقى على السرير إلى جانبها، جعل الليل عبئًا ثقيلًا، أثقل منه في أي ليل سابق، وجعل مِن الخروج إلى غُرفة الاستقبال، للاقتراب من ذلك الضيف، للاستماع إلى صريره وإلى مواساته لها من الوحدة، مَهمة لا بدَّ من القيام بها وتنفيذها للتوّ.

بعد ثوانٍ، حملت جسدها، كأنما هو جُثمان ميّت يسبح في سديم الكون، وانطلقت باتجاه، غرفة الاستقبال، في طريقها القصير الطويل إلى هناك، وقع نظرُها على ابنتها الصبية، ابنة العشرين، كانت ابنتها نائمة، لولا وجود ابنتها في البيت، ولولا حاجتها لأبٍ يحدب عليها ويرعاها، لما سمحت لذاك الثقيل، زوجها، أن يأتي إلى البيت مرة في الأسبوع، ولاكتفت بالصَرصار، بصريره وبمواساته لها.

ذاك الضيف، وراء الغسالة في الغرفة الصغيرة، اختفى في البداية مثلَ زائر ثقيل، لا ليس ثقيلًا، ابتدأ عهدها به، ليلةَ صحت على صريره، إثر مغادرة زوجها للبيت قبل أشهر.

حين شعرت بوجوده بحثت عن قُبقاب خبّأته في الجوارير القديمة، حتى وجدته. هرعت بعد ذلك إلى الغسالة فأزاحتها، لسحق ذاك الضيف غير المرغوب به، إلا أنه كان أكثر ذكاءٍ وحنكة، فقد زاغ منها، وانسرب...

في الليلة التالية، شرعت في إغلاق أذنيها بما توفَّرَ من قطن في البيت، غير أن الصرصار أبى إلا أن يرسل صريره مخترقًا الليل.

فكَّرت في أن تشرب حبة منّوم، كما كانت تفعل حين كان زوجُها حاضرًا غائبًا. بيد أنها ما لبثت أن طردَت هذه الفكرة، وتبنَّت فكرة أخرى، متمرّدة على المجهول، كما فعلت دائمًا. الفكرة الأخرى، تمثّلت في الاستماع إلى صرير الصرصار. لماذا هي لا تستمع إليه؟ لماذا لا تستمع إلى ما يبثه في الليالي الطويلة الموحشة؟ ألم تدرك منذ فتحت عينيها حتى بلوغها ما بلغته من عمر، أنه يوجد لكل شيء سبب، وبالإمكان التوصُّل إلى أسراره بشيء من الأناة؟ فلماذا لا تستمع إلى الصرصار؟ لماذا لا تحاول أن تفتح أذنها، ولماذا تغلقها أصلًا، ألم تغضب يوم فضّل زوجها النوم على الحديث معها، فأشعلت الدنيا نارًا لم يخبُ لها أوار، إلا بدفعِهِ إلى خارج البيت، على أن يعود مرة واحدة في الأسبوع؟ لماذا هي تغلق أذنها أمام الصرصار؟ وكأنها ملأى بالطين؟ أو ليس من الأفضل لها أن تستمع إليه، فإما يعجبها صريره، وإما تمجُّه أذنها، فتجد له علاجًا يشبه ذاك الذي عالجت به زوجها؟

في الليلة الطويلة التالية، شرعت بالاستماع إلى الصرصار. أعطت نفسها كلَّ ما ملكته من إمكانية على الإصغاء. استسلمت لسماع صوته، مثلما يفعل العاشق المتيَّم حينما يستمع إلى صوت محبوبته. استمعت إلى الصرصار، استمعت إليه بكل ما لديها من قوة متبقية. مهلًا مهلًا ابتدأت تألف صريره، بات صريره في فترة قصيرة، أو طويلة، لا تدري، جزءًا من ذاكرتها، بل أكثر من هذا باتت تنتظر الليل كي يأتي، كي تستمع إلى ضيفها المرحَّب به، وإلى صريره الشبيه بالغناء. هي لا تبالغ إذا قالت إنها وجدت أخيرًا معزوفتها بعد طول انتظار.

الليالي بعد وفود الصرصار، بعد إقامته وراء الغسّالة، باتت ذات رائحة، نكهة ولون، هكذا راحت لياليها بالتغير.

وطرق الأمل بابها مجدّدًا، فراحت تهتم بنفسها، ترتدي أحلى ملابس النوم، بانتظار صوت صديقها وراء الغسّالة، ولم يكن هذا يُخلف ميعاده معها. كان ما أن يرين الصمت النائم على أرجاء البيت، حتى يُرسل صريره موقظًا أجمل ما في المرأة وأحلى ما في الليل. وكانت المرأة تحاول المحافظة على الصمت، محافظتها على روحها، وزاد في محافظتِها هذه، أنها أحسّت أنه يوجد بالصّرصار مثل ما بها، وأنه يطلب طوال الوقت ويسأل مَن يحلّ وثاقه، كأنما هو يحكي بلسانها، ويطالب بحقه في الحياة والصرير، وكأنما هو يطالب بهذا الحق لكلِّ من ينشده، ويهفو قلبه إليه!!

هكذا بات صديقُها، سلوتَها الأساسية، بل إنها مع مضي الأيام، باتت تعرف كيف تدفعه إلى الصَّمت، كي يستمع هو إليها، فما أن تنهض من مجلسها، في غرفة الاستقبال، حتى يتوقّف، عن الصرير، وتشرع هي في التحدث إليه: اسمع جيدًا، أنت الوحيد الذي يستمع إليَّ بكل مشاعره وأحاسيسه، ويعرف كم أنا بحاجة إلى زوج، حظ اليقظة لديه، أكثر من حظ النوم. أنت الوحيد الذي يُحيي حياة توشك أن تموت في داخلي. أنت مَن يستمع إلى شكواي. أنت مَن أناجيه ومَن يناجيني، مَن يسمعني حين أكون وحيدة ومن يستمع إلي حينما أريد. كان صديقها يستمع إليها، وكذلك هي، لا يقاطع أحدُهما الآخر وينتظره حتى ينهي كلّ ما لديه. لم يكن يقاطعها، فيضع الكلمات على لسانها كأنما هو لا يريد أن يستمع إلى غير ما يريد أن يستمع إليه، ولم يكن ينظر إليها شزرًا حينما تتحدّث عن شؤونها الصغيرة، لم يكن يلغي مسافة الصمت المطلوبة بين أي متحدثين، بل كان يصمت، وكأنما هو لا يريد أن يستمع إلى أي إنسان آخر سواها في الكون.

حينما كان هذا كله يحل بينهما، كانت تبدو وكأنما هي المرأة السعيدة الوحيدة على الأرض، فكانت عيناها تفيضان بمحبة لكل شيء، مكتسبتين لمعةً كادت أن تخبو وتتلاشى.

مع الوقت ابتدأت تعتاد على تهيئة الجو وإعداده، ليكون ملائمًا للقاء الفريد بينها وبين صديقها، فكانت تُشعل شمعة ينبعث منها نور خفيف، وتطفئ الضوء، فينتشر جوّ شعريّ ساحر، يدفعها للاسترخاء على أريكة وضعتها خصيصًا في غرفة الاستقبال. وما أن كانت تضع رأسها على وسادة وثيرة وضعتها في أقصى الأريكة، على يدها تحديدًا، ما أن كانت تمضي لحظات من الصمت، حتى يبادرها صديق الليل بصريره المألوف، الأثير على روحها القريب من قلبها. فكانت تغمض عينيها وتستمع إليه بجوارحها كلّها، وكان صريره ينهال عليها وكأنما هو نهر من زبرجد، فتمدّ يدها مرحبةً به ومهللة.

أمّا حينما كانت تريد أن تتحدّث، أن تعبّر عمّا بها، فما كان عليها إلا أن تتحرّك على أريكتها، فيصمت الصرصار، منتظرًا أن تفيض نفسها بما اضطرتها حياتها إلى جانب زوج غير متفهّم، من مشاعر وأحاسيس، هي لم تكن تبخل على صديقها، ولم تكن لتخفي عنه أية صغيرة أو كبيرة، وإنما كانت تُصارحه بكلِّ ما في دخيلتها، بل إنها كثيرًا ما كانت تنسى نفسها، فتصارحه بما خجلت أن تقوله أمام أي من الناس، وربّما أمام ذاتها. هي نفسُها، لم تكن باختصار تتردَّد في أن تفكَّر أمامه بصوتٍ عالٍ، وكان أشدّ ما يُسعدها هو أنه كان يستمع إليها بخشوع أشبه ما يكون بخشوع راهب تمنَّت أن تلتقيه وهي ماضية في صحراء حياتها.

ونشأت مع مضي الوقت، لغةٌ مشتركة بين الاثنين، لا يفهمها سواهما، كانت أشبه ما تكون بلغة عاشقين عرفا طريقهما.

*

استلقت المرأة، صاحبة البيت، على أريكتها في غرفة الاستقبال. وضعت رأسها على وسادتها الخاصة، هيّأت الأجواء كلَّها، بما فيها إشعال شمعة خفيفة النور، واستلقت تفكر في زوجها الغائب هناك في غرفة النوم، حتى في يوم مجيئه الوحيد في الأسبوع، ها هو يناغي الكرى، ويتركها وحيدةً مثلَ كتلة وحيدة تسبح في سديم الكون، ها هو يوغل في سُباته، وها هي توغل في يقظتها، ها هما يفترقان مجدّدًا، وها هو كل لقاء يتحوّل إلى ظل للقاء، لا معنى له.

تحرّكت على أريكتها. رفعت صوتَها هامسةً بما بها. اقتربت من غُرفة الغسيل. أدنت رأسها حيث تعرف أن صديقَ ليلِها يقبع بانتظارها، وراحت تحكي عمّا بها من ألم.

في تلك اللحظة شعرت بزوجها يسير باتجاه الحمّام. كان واضحًا أن حاجته أيقظته، وأنه سيعود بعد قليل إلى نومه. توقَّف عند باب الحمّام، سألها عمَّا إذا كانت تريد أن تنام، ولم ينتظر إجابتها. دخل إلى الحمَّام وأحكم إغلاق بابه وراءه. بقيت هي وحيدة بانتظار صديقها المنتظر، ليبعث صريره شاقًا صمت البيت، ومواسيًا إياها في وحدتها الرهيبة.

***

قصة: ناجي ظاهر

مَنْ يعتقدون أنّ الأدب الجريء إثارة للغرائز؛ وابتذال أو خدش لحياء مصطنع؛ والمُتطرِّفون، المُتشدِّدون، القريبون من دِيْنامِيت السياسة؛ أنصحهم بعدم قراءة هذه الرواية.

الفصل (1)

هل نلوم القدر؟

أم نلوم مجهولًا آخر يطالعنا من حيث لا ندري.

إنعام عبد اللطيف، كان هذا هو اسمي، وربما أطلّ عليكم باسمٍ آخر لم يبتكره لي والداي؛ لكن لن أتعجّل الأمور، فكل شيء يأتي بأوانه.

قلت منذ البدء، هو اسمي الذي عرفت به، ولا شكّ أنّه الاسم الوحيد الذي لم يلتبس بقناع؛ أيّ قناع في هذه الرواية.

نعم، إنعام عبد اللطيف الحاير؛ إذ إن جميع المسميات التي ترد في الأسطر القادمة انطبعت على وجوه صاحباتها الحقيقيات من خيالي، فمن حقّي أن احتفظ ببعض الأسرار، ولعلّي لا أرغب في أن أؤذي أحدا أو ألطّخ سمعة أي إنسان مهما كان.

وهذا يكفي لأنني حقا لا أملك روحًا ترغب في الانتقام أو الشرّ...

أبدًا، ليس ذلك الأمر في بالي.

أمّا ما حدث فقد جرى على الرغم من إرادتي.

لذلك تبدو الأماكن غير معروفة لوازع ما، أضمرته في نفسي، قد يكون الغموض أحيانا أقرب إلى الصدق، وغرابة الزمان والمكان لن تخفيا جمال العمل الذي أريد أن يظهر للنور، أمّا الوقت فلا يهمّ أن يكون أمس أو الآن، ومن المحتمل أن يستقرّ في قصتي هذه على الغد.

لا أرغب أن أدخل في تفاصيل واسعة ودقيقة، فأنا اليوم حسب الظاهر أملأ عينيّ بالنور ورئتيّ بهواء نقيّ، هذا وفق الظاهر.

على الأقل أشعر بالأمان..

أطرد الخوف عنّي لأنني أحسّ أن هناك من له يد عليا يحميني.

يعطف عليّ.

يحسّ بي..

كنت أخرج من المكان الضيق الكئيب، الذي ألقاني القدر فيه خلال الليل بحجج شتّى لا يناقشها أحد.

بنت هوى بأسلوب آخر!

كنت امرأة متزوّجة، ومن حسن الحظ أنّي لم أرزق بأولاد، فخلال الشهر الثالث لزواجي حدثت المأساة، خيّل إليّ أن زوجي شاب طيب مخلص، لم نتزوّج عن حبّ، نحن عائلة متوسطة الحال، أما زوجي فهو ينحدر من عائلة معروفة بالثراء والسيادة، وقد اعترف لي بعد الزواج أنّه رآني أتبضّع مع أمي في إحدى الأسواق، فبهره جمالي.

أعرف أنني جميلة، وأن جمالي قد دفعه إلى أن يتتبع أخباري، ويتقصّى عن عائلتي، ففاتح أهله بموضوع الزواج، وهو في الخامسة والعشرين، وكانت أمه تحثّه على الزواج، لم يكن وحيد أهله؛ لكنه كان الأكبر.

لا أشكّ أن الزواج والذرّيّة يقرّبانه من امتيازات ومال مضاعف من أبيه ليبدأ مشاريع جديدة.

ردّد على مسامعي أنّي علامة فأل حسن عليه، فقد توسعت بعد زواجي منه مشاريعه وناله خير كثير، فتحققت أرباح كثيرة عزّزت مركزه في السوق وعند الحكومة، وهو ما كان يطمح إليه منذ صباه، وها هو يعثر على ما أراد، وقد زادني تعلّقا به أنّه بعد الزواج اقترح عليّ أن يفتتح لي محلّا أبيع فيه الملابس الخاصّة بالنساء في مدينة أخرى تقع على مسافة عشرين ميلا من مكان سكنانا.

زبائن جدد.

معاملات جديدة.

وواقع مختلف مع الحياة وجدتُه بفضل زوجي.

ووجوه لم آلفها من قبل، حيث شعرت بمسؤولية تجعلني امرأة عظيمة في المستقبل.

قال إنه مشغول بالعمل ويخشى عليّ من الضجر، ولا يرغب في أن أظنّ أنّه أهملني.

تعلّقتُ به أكثر وأحببته حبّا لا يوصف.

وجدتهُ يمثّـل لي كلّ شيء، ولم يخطر في بالي أنّه أبعدني ليمارس أمورًا غفلتُ عنها!

طيبتي أم سذاجتي؟

كلّ يوم أقود سيّارتي وأعود من عملي وقت المغرب، خلال العمل تجري بيننا مكالمات وغزل رائع، بدوت مسحورة به على الرغم من أننا لم نتزوّج عن حبّ كما قلت؛ لكنني ذات يوم اطّلعت على كلّ ما كان مستورا.

التغاضي للمحافظة على خيط مودّة يربطنا بالآخر، لا يعني أننا سنتقبّل الاستغفال أو التجاوز، أو نشعر بالإهانة ونسكت، لا بدّ أن تظهر الحقيقة وإن بعد حين، هذه المرة لم يمرّ وقت طويل.

بعد أكثر من شهرين مرّا على زواجنا، لا أدري لِمَ انقبض قلبي، حتى كدت أرى السماء الصافية ملبدة بالغيوم، والطقس الهادئ ذا النسيم الصافي العليل.. عاصفا أهوج، تتلاعب به الرياح التي تتحوّل إلى إعصار مدمّر، حتى دخلتْ المحلّ فتاة جميلة في التاسعة عشرة من عمرها، يظهر عليها بعض الشحوب، وفي عينيها قلق وخوف، أوحت لي هيئتها أنها تعاني من شيء ما؛

تصدُّع.

كارثة.

نظرات منكسرة.

لا أنكر أنها أجمل منّي.

ذات جمال مبهر صاف تحسدها عليه كثير من الفتيات.

وكلّ مظاهر التصدّع والانكسار لم تؤثر في جمالها الخارق، سوى ما تثيره حالتها من إشفاق.

جنسية أخرى.. من بلد غير بلدنا، جاءت تبحث عن لقمة العيش، فمن يصدّقها غيري، ولا تقوى أن تناطح شخصا ينتمي إلى عائلة ذات نفوذ اجتماعي وسطوة في الاقتصاد والسياسة.

تألمتُ كثيرًا، وجنّ جنوني؛ ثمّ تظاهرت بالبرود حين سمعت أن زوجي جرّدها من الشيء الذي لا يعوّض بثمن، وعوّضها عنه بمبلغ كبير من المال مقابل سكوتها، المهمّ أنّه اشترى شرفها مثلما يشتري أية سلعة تعجبه في السوق:

جلّابية..

حذاء..

قلم حبر..

ساعة..

سيارة..

أي شيء يخطر في البال، حتى إذا ما شبع منه، رغب عنه فألقاه بعيدا عنه!

والأدهى أن الفعلة تمّت بعد شهر من زواجنا؛ أنا التي وجدني فاتحة خير له، سلّمتني الضحيّة نسخة من مفتاح الشّقّة التي يلهو بها زوجي، وكانت قد استنسخت دون علمه أكثر من نسخة، لا ألومها ما دام قد غرر بها ووعدها بالزواج، فأنا أعرف أن مجتمعنا ذكوري يسمح بالتعدد؛ لكن أن يأتي الفعل بصيغة عبث؛ عبث يجعلني أفقد اتزاني ويثير فيّ القرف!

سألتها:

-هل أجريت العملية؟

هزّت رأسها بالإيجاب وأردفت وهي تنظر إلى الأرض خجلى من عينيّ اللتين ما فتئتا تنظران إليها نظرات ثاقبة: نعم

-       أجيبي بصراحة هل كنت تعرفين بأنه متزوّج؟

ردّت بلهجة لم أشكّ في صدقها:

-       لا تؤاخذيني، أخبرني أنّه يعيش جحيما معكِ، وأنّكما على وشك الطلاق؛ إذ لم يعد ينفع وفق ما قاله لي أي علاج سوى الطلاق، ولا تنسي أنني من بلد فقير ومن عائلة مسحوقة (وتهدّج صوتها بالبكاء فنهضتُ وأحضرتُ لها كأس ماء، وقدمت لها منديلا تجفف به دموعها)

-       لا بأس.. لا عليكِ

-       صدقيني لو كنت أعرف الحقيقة لما اندفعت معه.. أنا ضحية.. ضحية فهل تصدقينني.؟

قلتُ لا بأس عليكِ.

-       هل غفرتِ لي من كلّ قلبك؟

-       نعم ما دمتِ لا تعلمين بالحقيقة الكاملة.

منحتها مبلغًا ليس بقليل وشكرتها.. نصحتها أن تسافر في أقرب وقت إلى بلدها قبل أن يقع عليها أيّ عقاب، وتابعت الموضوع حتّى تأكدّتُ من سفرها.

كل ذلك وفي ذهني شيء واحد يدور.

الثأر...

الانتقام لكرامتي...

الانتقام بالآلة التي اشتراها لي، وعلّمني على استخدامها، خشية من أن يداهمني لص في الطريق أو العمل.. وكان بنفسه يشرف على تدريبي عليها في نادي الرماية...

كنت أتحسس كلماته الناعمة وأسترجع الذكريات، فأراها أشبه بملمس أفعى ذات سمٍّ قاتل لا شفاء معه، مَنْ أجبره على أن يتزوّج؟ من دفعه ليقول لي إنني حياته؟ كلّ حياته، فمنحته روحي وجسدي وانسقت معه بعوالم من الوحي الشّفّاف؟

لا أظنّ أنّ سيدة مثلي يمكن أن تندفع مثل اندفاعي، ثم أكتشف أنني عشت في كذبة كبيرة تحولت إلى جريمة اغتصاب بحقّ فتاة عذراء؛ وبطل تلك الجريمة زوجي.. أصعب شيء على المرأة، أن تعيش كذبة كبيرة بحجم العالم كلّه.

الكون كذب ونفاق مركزه زوجي الذي جعلني أعيش في وهم لا حدود له.

فاتخذت قراري الجريء؛

راقبت المكان وانتظرت...

انتظرت ساعات.. رأيت فتاة تدلف نحو بوابة العمارة.. على بعد خطوات تبينت سحنتها السمراء، وبعد دقائق وصلت سيارة زوجي..

مشاعر الانتقام تجتاحني..

غضب من غير حدود...

فكرامة القلوب أعلى قيمة من أي مشاعر بعد مشهد خيانة.

لو خانني زوجي بعد سنوات من الزواج، لوجدت حججا شتى تقنعني بالخيانة، ربما كنت سأظنّ أنّ في معاملتي له، أو في تمنّعي عنه، دافعا له نحو امرأة أخرى، ربما كنت سأعزو السبب إلى بعض التغيّر في جسدي، ولعلّ الأمر نتيجة إهمالي له واهتمامي بالبيت والأولاد.

كنت سأقول لعلّ العشرة الطويلة تجعلني أسامح وأغفر وأغض النظر، مثل أعمى يقنع نفسه أنه ما دام لم ير شيئا فلا يظنه واقعا وإن كانت أذناه تسمعانه.

لكن كلّ شيء مرّ بشكل سريع لم يجعلني أفكّر طويلًا.

الإحساس بالكرامة والانتقام.

انتظرت بضع دقائق ثم صعدت، غضبي يزداد.. العنوان ذاته والشقة نفسها.. حمدت الله على أنّه لم يغيّر القفل، وأن النسخة التي عملتها (جمانة) تدور بيسر.. تدور وبات رأسي يدور معها.. وهناك عن لا وعي دلّتني شهقات خافتة إلى غرفة النوم، لا أدري كيف حملتني رجلاي، لهاث أصوات أشبه بالصراخ تتفجّر منها نشوة ماجنة، فاقتحمت الغرفة...

ودوّت رصاصة...وأخرى..

شلال دم..

وجثتان بعيون جاحظة مخيفة..

وجدت أني أصبحت في لحظة الغضب رسامة ماهرة، أرسم باللون الأحمر وحده؛ إذ لا شريك معه من الألوان الأخرى.

الزرقة تلاشت.

الأصفر يهرب.

الأخضر غائب...

والدم المسفوح يتحدث بصوت على وقع بكائي.

أناس تجمهروا ...ضجّة وشرطة...

مشهد لا أنساه ما حييت...هذه كلّ جريمتي..

الناس والصحف رأوني مجرمة أستحق القصاص، مشفقين على زوجي الذي رآه رجال التحقيق والجمهور الذي حضر الواقعة ساعتها، عاريا تماما من ملابسه هو وعشيقته، أما أهلي الذين تخليت عنهم وتخلوا عني منذ دخلت السجن فقد لاموني على فعلتي، وحجّتهم؛ ما دام زوجي وفرّ لي السكن والعيش والعمل، فلأدعه يفعل ما يشاء، لم يعلق بأذهان الجميع سوى بركة الدم ومشهد القتل الشنيع.

خيبتان: قلبي الذي نبض بحبه وآمن به بعد زواجنا، فقررتُ انتزاعه.. وعيني التي رأته كل الرجال، حتى شاهدتْ خيانته ففقأتها على طريقتي.

تلك كانت النهاية.

أو

هي النهاية البداية.

ليسمها الآخرون ما شاؤوا من تسميات فهي وإن تعددت المسميات تبقى ذات لون واحد فقط.

***

ذكرى لعيبي

سبتة ومليلية والصحراء المغربية

سبتة ومليلية:

مدينتان توأمتان

مغربيتا الاصل والمكان

خريطة وتآريخ ومجد عريق

عروستان

لا تنفصلان

اغتصبتا في ليلة زفافهما  

حماماتان

أيام زمان

كانتا في صحبة

لقلاق مغربي

وكانتا تنامان

في عش واحد

على شاطئ

البحر الابيض المتوسط

*

على قمة جبل طارق

كانت المنارات

تبكي على فراق الهدهد والكناري

*

ثمة قطعتان لا يتجزءان    

من تراب بلدي

بجلودنا

تلتصقان

وبسحناتنا

ولغتنا

وهويتنا

تتكلمان

**

الصحراء المغربية:

ونادت الصحراء المغربية:

انقذوني من هؤلاء "البوليزاريو" المرتزقة

فأنا ارث مغربي اصيل

وحبل سرتي ممدود من طنجة الى الكويرة

فكانت المسيرة الخضراء المجيدة

*

ثمة "جمهورية وهمية"

تتناسل جرذانها تحت خيام متآكلة

يطوقها مرتزقة بدعامات جنرالات غبية                          

ومليشيات ارهابية

يقتاتون بالثمالة والهذيان

خيامهم بلا اوتاد

كأنها ارجوحات في مهب العاصفة الرملية

وباسنانهم المسوسة

يحفرون قبورهم

تحت كثبان الرمال الملغومة

ويقدمون القرابين الوهمية

للانظمة العسكرية الاستبدادية  

***

بن يونس ماجن

بقطعة فحم، خطت على الأرض تربيعات ثلاث أفقية متتالية، ثم مربعين عموديين ملتصقين، رمت شقفة من فخار في المربع الأول، وبدأت تنط برجل واحدة، كانت بين حين وآخر تتلفت يمنة ويسرة، كأنها تترقب وصول صديقاتها ليشاركنها اللعبة.. تتوقف قليلا، ترفع وجهها الى السماء، وكأنها تستعذب نسائم مابعد العصر منعشة تجتاز الدرب، حيث الربيع شرع يودع القرية بعد سنة من جفاف..

بعيدا عنها وعند مدخل الدرب، وقف شاب في عقده الثاني يتابعها وهي تقفز فوق التربيعات كفراشة جذلى يغمرها السنا، وكلما ارتفعت تنورتها ظهرت ركبتاها القمحيتين وفخداها البضتين. لم تكن تحفل بذلك، فقد كانت رحابة طفولة في لفيف براءة..

هي طفلة في الثالثة عشرة من عمرها، لم تكن أجمل بنات القرية لكنها كانت دقيقة التقاطيع، متناسقة القد، في عينيها الواسعتين حوَر، يضيف الى لونها القمحي وشعرها الرطب المسدول على كتفيها ملاحة جذابة ؛ كان وجود الشاب مألوفا لديها، فهو من اقربائها، لهذا لم يثر في نفسها أي خوف أورهبة لتحتاط من وجوده ومن متابعتها وهي تمارس لعبتها اليومية، كما أنه ابن الحي، الذي تعود ان يغيب شهورا كطالب في بلاد المهجر، ثم يظهر في عطلة صيفية او عيد ديني..

كانت بين قفزة وأخرى تسارق اليه النظر، على وجهها تتربع بسمة رضا وثقة، فقد كانت تمنى النفس أن يجود عليها بقطعة شوكولاطة مما تعود ان يوزعه على صغار الحي كلما حل بالقرية..

تسمع نداء أمها آتيا من داخل البيت، تترك شقفة الفخار على التربيعة، ثم تلج باب البيت لتعود وفي يدها قطعة نقدية، تركض قاصدة دكان الحي.. تتوقفت حيث يقف الشاب العشريني، يتبسم في وجهها، يسألها عن وجهتها، ثم يهمس لها بكلمات، تنتظر بباب بيته قليلا قبل أن تسمع نداءه فتلحق به..

يخرج الشاب بعد برهة كهارب بعد سرقة موصوفة وفي يده حقيبة سفر..

ظلت الصغيرة قلب البيت لا تدري ما حل بها، فهي لا تذكر الا صوت الشاب وهو يناديها: سناء ادخلي !!!..

ناولها كاسا به عصير، ثم لم تعد تذكر شيئا..

حين صحت وجدت تبانها بين ركبتيها، ومادة لزجة كقطرات الشمع على فخديها..اصفر وجهها، بلغ قلبها حلقها، ارتعدت من خوف يغتالها، هي لا تستطيع أن تتمثل ما وقع، لكن وجود تبانها في غير مكانه قد حولها الى فأر مذعور لايدري له وجهة، أحست بالم تحت بطنها وفوق عانتها، تحسست المكان فوجدت اثر دم، بكت وهي تلطم وجهها بيديها الصغيرتين وكأنها قد أدركت ما وقع:كيف تواجه أمها وأباها ؟، كيف تواجه أخوتها الكبار ؟ كيف ترفع راسها بين صديقاتها في الحي والمدرسة ؟.. وحدها قطعة النقود النحاسية ظلت حبيسة كفها، لكن كل ماعداها قد ضاع، حلم عفتها وشرفها اعلن انتحاره في لحظة ثقة، لحظة طمع منها في قطعة شوكولاطة.. أعادت تبانها بيدين مرتعشتين، من بين دموعها تلمست القطعة النقدية مبللة عرقا قلب كفها، كما تبلل تبانها بما لا تعرف ماهو، وكما تبلل عمرها خزيا وعارا، خرجت تجر قدميها الصغيرتين تقصد الدكان، تستعيد كلمات أمها استعادتها لفرحتها المغتالة: "نصف كيلو سنيدة وصابونة صغيرة " تسلمت ماطلبت من صاحب الدكان:"عيونه تمسحني !! ياويلي لوعرف !! " عادت الى البيت، وضعت السكر والصابونة في غرفة أمها، ثم هرولت الى مرحاض البيت؛ شرعت تغسل فخديها، وتمسح ما علق بتبانها، أثارها لون الماء الممزوج بصفرة وأثر من حمرة باهتة ..

ركبها صراع نفسي حاد؛ هل تتكلم ؟، هل تصمت ؟ في كلامها فضيحة مدوية قد تتجاوز القرية، وفي صمتها نهاية عمرها، آمالها واحلامها.. تعاود غسل وجهها، تصب قليلا من الماء على قفاها، تحاول ان تهدأ، أن تبترد، أن تخفي كل مابها، أن تتغلب على صراعها النفسي الى أن يمر اليوم بسلام قبل أن تقرر ما تفعل.. تذكرت حديث النساء صباح كل زفاف مر في القرية عن" صباح البنت"، عن السروال، عن الاحتفال بالدم الذي رشمه، عن إحساس أهل البنت بالفخر والشرف..

تلطم وجهها: ماذا بقي لها وقد فقدت أعز ما تملكه بنت ؟

تركنت في زاوية من غرفة الضيوف كما تفعل كلما ارادت ان تخلو لدروسها، فهو الحل لتواري خوفها عن وجه أمها وكل من يدب في البيت، رغم الذعر الذي يعوي في باطنها والشحوب الذي يركبها.. حلقها الذي صار جافا كحزمة شوك، عسير ان يبتلع ريقها..

تذكرت احدى صديقاتها حين اختلى بها أحد رعاة القرية وفض بكارتها، كيف هاجت البيوت وماجت، كيف صار اللغط حديث الصغار والكبار حول الحرب التي اشتعلت بين العائلتين الى أن انتهى الامر بانتحار الصديقة، وتدخل الدرك بقوة ردع والقاء القبض على بعض من استغلوا الوضع بالوشايات والنميمة ..

بلاعشاء نامت.. كم هذت خلال نومها المتقطع:

ـ أكره أن اصير كصديقتي، مضغة على كل لسان، عارا على ابي المريض، خزيا لإخوتي، لن يتفتت لي صخر، فأصير وبالا على كل أهلي، لن استسلم لانهياري، سأحاول أن أنساه، المصيبة ستعتقل حريتي، لكن اعتقال حرية أهون من فضيحة مدوية قد تنتهي بانتحاري أو بقتلي من قبل أحد اخوتي الكبار..

لا..لن أنتحر، ولن أتكلم.. سيكون الصمت ظلي، ينتصب بيني وبين غيري..

من ليلتها فقدت الطفلة بشاشتها ومرحها، بعد أن انهار كيانها النفسي، كما انهار لسانها عن الكلام، تغيرت حالها، تغريداتها الطليقة صارت تمتمات كلام، وبريق عينيها المضيء صار انكسارا، يستغرقها تفكيرشغلها عن دراستها، فحول اجتهادها الى خمول تبدى لكل العيون ؛كثيرا ما سألتها أمها عن سبب هذا التغير المفاجئ، فيأتي الرد بعيون مكسورة وكلمات قليلات:

ـ تعب وعياء..أحس بانهيار جسدي كأني لا أتناول أكلا..

ثم جاء الفرج عن طريق طبيب أعلن بعد فحصها: بداية التهاب كبدي هو ما حول نظارة الوجه الى شحوب وعياء بدني..

بدأت تقاوم حالتها، مقاومتها لتراخيها في مراجعة الدروس وإنجاز الواجبات، صار تقدمها الطفيف تقادما لحالتها، وفتورا في المراقبة من قبل أهلها الذين سلموا بقولة الطبيب وأضافوا للأدوية التي نصح بها، عقاقير شعبية أخرى، لم تستطع إعادة اشراقة وجهها، اما اعماقها فهي كتلة دموية وحدها تدري ما بها..يغسلها النسيان لحظات ثم لا تلبث المصيبة أن تكفنها من جديد؛كم مرة حاولت أن تبوح لاحدى صديقاتها وتفجر اللغم عساها ترتاح من كوابيس لياليها الطويلة.. لكنها سرعان ما تتراجع. فماعاد اليوم انسان يكتم سرا. ان تعتقل مصيبتها في اعماقها خير من ان تصير أنثى متهمة بثرثرات القوالين..

أحيانا تحس بنسمة راحة تنزل عليها كرحمة سماوية، تتنهد وقد تبكي، ثم لا تلبث أن تغسل وجهها بماء بارد ولسانها يهمس:

ـ لك الحمد ربي أني لم أحمل والا كنت في القبر قبل الأوان..

ربع قرن وهي تحمل سرها، تتقادفها السنوات بين نهار وليل، وليل و نهار، تقضي الشهور والاعوام بالأماني الكواذب الى أن نالت شواهدها ثم اشتغلت..

دفنت عمرها في مهنتها، تناست متع الحياة، مات في صدرها الأمل موت جسدها الذي تخشب، وصار يتلقى بلا ردة فعل، لهاة مكتوم ينبعث كلما لفها ظلام، أنثى تجر جثتها خلفها في صمت، لا ينعكس أحيانا الا بكلمات تخالها من رجل خشن بلا خبرة، وبمفردات ماتت لها أحلام، تحسها وهي تتكلم وَهْنا من راس بلا جسد، تدحرجت من قمة الى أسفل وانسابت في انحدار، تغسلها دموع لا تفتر، حتى في عملها فهي تقاوم واقعا وحده يعيش مدفونا في صمتها ؛ ترى الغير من حولها كشخصيات درامية تؤدي دورا مسرحيا في حياة لا تنصف أحدا.. حتى رحماتها السماوية تناستها، ما عادت تثيرها بأمل، ما الفائدة و قطرة الدم دليل عفتها قد جفت الى الأبد..

كلما أتاها خاطب تبرمت وتعللت وأخرجت فيه مساوئ.. مدعية أن صديقاتها قد تعرفن عليه فحذرنها منه..

لحظة الجرم وحدها تعيش واضحة في ذهنها، لا تفارقها، تستعيدها بكل تفاصيلها من لحظة شرب العصير الى ان وجدت تبانها بين ركبتيها بقطرات كالشمع السائل.. كلما جحظت عيناها تمثلت كل رجل كقريبها الذئب الذي لم يحترم قرابته ولا طفولتها، والذي رغم تعلمه وارتداء بذلة من خارج حضارته ظل حقيرا متخلفا لا يعي ما تساويه حياة طفلة يغتصبها وهي لا تشاركه رغبة ولا إحساسا أو فهما لما مارسه عليها، ذنبها أنها وثقت في قناعه المزيف.. سيظل شرفها كما عفتها وبراءتها بل ستظل كل حياتها تصرخ عاليا في وجه كل مغتصب براءة أيا كانت الطريقة التي سلكها لينقض على فريسة بريئة..

المجرم الآتم البغيض ماعاد له في القرية ظهور، لكن بين أبناء القرية قد بقي له اثر بافتخار: شاب من العدم استطاع ان يحوز شهادة علمية، يحصل على وظيفة في بلاد الغربة ويتزوج نصرانية.. لا احد يعرف أنه مجرم، يجر وراءه جثة قلب جسده المدنس، وضميره الميت عبر ثنائية حياة تعلن الدين وبه لا تؤمن، نهش طفلة بريئة، وضع حبلا ابديا لمشنقة طاعنة ابدا لن يغيب لها اثر..

تدرك أن الزمان شرع يطويها ببطء، سلحفاة يدب،، وكأنه يعاند ما بلغته من عمر..كل رجل هو لديها لسعة عقرب، عضة ثعبان، مراوغة ثعلب، ومتابعة ذئب، قد تبادله النظرات اذا ما رفعت البصر، لكن نظرتها نظرة خوف وحذر، رهبة، انعدام ثقة وسوء ظن..

الرجل عذابها بالليل والنهار، يتكوم في عينيها كمزبلة جديرة بإضرام النار فيها، فهو سبب عذابها، هو من جعلها محط تساؤل وشفقة تكرهها من كل من يحيط بها..

لماذا لم تتزوج ؟..سؤال يملأ الأفواه وتنثره العقول بتخمين وتأويل !! ربما مسحورة من قبل الجن، تملكها أحدهم فمنع الرجال عنها وقد فروا بعد يأسهم من قبولها.. عيب خلقي يشوه ما تفخر به كل أنثى.. خنثى تتستر عن حالها..حتى افراد أسرتها صارت تنطلي عليهم دعاية السحر و الجن ففوضوا أمرهم الى الله، فقدر بنتهم أن تعيش عانسا مملوكة لجن ..

في عملها تجاهد ألا تثير حديث الرجال، بل هي تتجاهل كل الرجال في موقع عملها، لا تحاول أن تعرف لهم اسما، أو ترد عليهم سلاما اذا مرت بأحدهم، وتنسحب أو تصمت إذا ما إحدى النساء تكلمت عن رجل ولو كان أباها، تحس بالقرف والاحتقار، وبالخوف من ان يجرها لفلتة لسان تكشف سرها، حقدها الدفين، جثمان عمرها المركون داخل جسدها، كأن الصمت هو حقيقتها التي تواجه بها كل المواقف التي قد تجعلها تكشف ولو جزيئة من دواخلها..

تذكر وهي لازالت طالبة جامعية أن إحدى البنات همست لها بأن أستاذ مادة الكيمياء الحيوية معجب بها ويتطلع اليها بشوق..صمتت بلا رد، وقد تأكدت من ذلك من محيط اسرتها..كانت تدرك أنه مجرد جبان أو ثعلب كاي رجل آخر.. يطلق الدعايات دسيسة اغراء ليتصيد المغرورات..

ذات شتاء، وهي خارجة من عملها، لاحقها برق ورعد، ومطر يتهدل على كتفيها، اقترب منها أحد المارة محاولا أن يجعلها معه تحت مظلة، اتقاء من الجو الماطر، دفعته بمرفقها دفعة اسقطته على الأرض، ساعده بعض المارة على الوقوف، انتصب وهو محنط بوحول الشارع الذي شرعت السيول تجرف كل ما صادفته في طريقها من قوة التساقطات..

انزوت في ركن تحت سقيفة متجر وشرعت تبكي..لماذا تصرفت بعدوانية مع رجل لا يعرفها ولا تعرفه، ذنبه أنه حاول ان يساعدها على عبور الشارع الى الطوار الآخر بقليل من البلل، هي حقا قد اغتصب آخرون طفولتها، منعوها ان تحمل لقب بهجة الطفولة سعيدة كما حمله غيرها..لكن ما ذنب الغير فيما وقع لها ؟ ليس هم من اسقطوا طفولتها من مرايا الحياة، ليس هم من منعوها الطيران فراشة بين الزهور..لا..إنهم عود من نفس الغصن، نفس تربية الاستعلاء، التفضيل ونفخ عقدة الذكورة..

حلم قد غاب عنها منذ الحادثة وعاد اليوم يلازمها من جديد، يضاعف من آلامها وعذابها، حلم ترى فيه نفسها وهي تحرق العضو التناسلي لكل دمية.. كان الحلم في صغرها يقتصر على أنها ترمي الدمية بعد الحرق أما في الليالي الأخيرة فصارت ترى أنها تغرز فيها سفودا يخرج من عينيها قبل أن ترمي الدمية في البحر..

تمتنع أن تحضر كل عقيقة المولود فيها ذكر، هو عندها مغتصب جديد آت ليخلف من مات..حين تزوج اخوها اختلقت نزلة برد قد حلت بها وظلت حبيسة الفراش حتى لا تحضر ليلة زفافه، فلم تكن العروس غير أخت استاذها الذي أطلق دعاية الاهتمام بها.. كان ما يملأ فكرها:كم من طفلة قد اغتصب أخوها قبل ليلته هذه ؟، وهي اليوم مثلها لا تملك وجها تسير به بين الناس.. هل حقا ان زوجة أخيها عذراء، أم ان أخاها سيكون الرجل المخدوع من قبل انثى عرفت كيف تتغلب على نفسها وتقاليدها وبطش أهلها وحرصهم على العادات والطقوس؟ في حين فشلت هي في ما أفلح فيه غيرها.. بئس تربية لا تعلمنا غير الخوف والخضوع وتقديس التقاليد.. ترسخ في عقولنا الشك حتى في اقرب الناس الينا..

صحت في الصباح على زغردات النساء و نغمات الطبالين والغياطين، تتقدمهم نكافة تضع على راسها صينية، يتوسطها سروال زوجة أخيها، دليل براءتها من اغتصاب قبلي بقطرة دم؛ ربما لم تكن زوجة أخيها مصابة بنهام الطفولة لكل ماهو حلو لذيذ، أو لم تجد من يترصد لها فيغتصبها بلا رحمة..ومن يدري ربما كان لزوجة أخيها من الذكاء او الخبرة ما وجهها كيف ترتق مشكلها..

بكت، واهتز صدرها أسى وغبنا حتى كادت أن تفقد وعيها..

هكذا تطويها الأيام بوسواس خناس وبلا ثقة في نفسها ولا في غيرها، عود الربيع فيها قد ذوى ويسارع للجفاف والتفتت..

أحيانا كانت تسائل نفسها:هل كل بنت فقدت بكارتها تنزوي كانزوائها ؟ فتئد نفسها بنفسها ام فقط هي تقاليد قبيلتها التي صار الرجل القاتل هو نفسه الذي يطلب شهادة البراءة من طبيب محلف لا قابلة تكتفي بتجربة كسر البيضة لتحدد الماضي الجنسي للفتاة، ومن يطلب من الرجل شهادة العفة والخلو من أمراض ربما يكون قد التقطها من غيرها ؟ أي حكم هذا الذي يقتل بنتا بخطأ رجل ويشوه سمعتها بفضيحة من قبل رجل ؟ !!..وهو نفس الرجل الذي يطالب بصك عفتها حتى يرضي غروره وعنها يكون راضيا ؟؟ !!..

بدات تدخل المنتديات العربية بعد أن سمعت حديث استاذات عن فوائدها كقتل الفراغ عند غياب الأزواج، أو للتسلية والتعارف مع نساء أخريات من أوطان أخرى، أو التثاقف واقتناص فوائد تهم حياة المرأة..شرعت تقرأ ما ينشر .. لم تكن مقتنعة بما يكتبه الأعضاء خصوصا من رجال يستعطون الحب بعبارات تافهة، يبالغون كذبا في إعلاء المرأة.. ذئاب.. لو ظفروا بها وحيدة أو طفلة صغيرة لمزقوا جسدها.. اقترح عليها أحد الأعضاء المساهمة في نشاط ثقافي.. توجست من اقتراحه، ربما هو استدراج لها، لكن أسلوبه وطريقة تعامله تدل على أنه كبير السن يتصرف برزانة، وكل من في المنتدى يمتدح تعامله مع الجميع.. فكرت طويلا قبل ان تستجيب محاولة للتخفيف من ثقل حمولاتها بنسيان وقتي..

لاحظت أنه يحاول التقرب منها.. بدات تحتاط، هي لا تصادق رجلا، ولا تريد ان يتعرف عليها رجل، لكن ما يكتبه هذا العضو يثيرها، يحسسها بصدقه، حين راسلها كان ردها التواء هو تناقض ما في نفسها.قالت: لا تحاول معي، فرغم سنك الكبير على ما أظن فانا أكبر منك بكثير ولا أملك شيئا اقدمه لك مما تبحث عنه، أرجو أن تحترم نفسك..

كم كان يؤلمها وضعها، أنثى لا تثق برجل لكن هذا العضو يحسسها دوما بقربه، يقرأ كل ما تكتبه اليه بمنطق العقل والموضوعية، انجذابه اليها ليس بكلمات غزل وانما بالتعمق فيما تتبادله معه من كلمات واقتراحات لتنشيط ما تقدمه الى أن فاجأها ذات يوم: حسناء هل سبق ان تحرش بك احد الى درجة الاغتصاب؟ من يكون؟ وفي اية مرحلة من عمرك؟

الخبيث، كيف استطاع أن يقرأها ثم يفجراللغم في صدرها، ان يستعيد لحظة صباها الموءودة.. ربما سنه وثقافته الواسعة قد جعلته يكتشفها.. بكت..ليلة بكاملها وهي تبكي.. كيف ترد؟ ماذا تقول له؟ ربما خير لها أن تنسحب من المنتدى او على الأقل من النشاط..لكن الى متى؟ وكانها بدأت تضيق بحالها، بثقل سرها.. لماذا لا تجرب وتبوح له بسرها وتنتظر ردة الفعل.. هو عضو ليس من قبيلتها، و لا من وطنها قد تخشى أن يفجر سرها بين الناس، لا تخاله لئيما فيتكلم بين أعضاء المنتدى، ولن يكلفها ذلك غير انسحاب.. ووجدت نفسها تصارحه، تحكي قصتها، ترمي كل همها بين الحروف في صدره.. تدرك أنه اول شخص استطاع أن يجعلها ترتدي جلباب جرأة ورغبة في أن تحكي له ما يؤرقها منذ أكثر من ربع قرن..

ادخلته في نطاق واقعتها، يشاركها لحظة الوأد.. قالت له: حقير، جبان لم يرحم صباي، خجلي، ثقتي رغبتي في قطعة شوكولاطة.. سلمني شهادة وأد أبدي ورحل..رحل بلاعودة..

توهمت أن هذا العضو كاي رجل تسلم منها الخبر، عرف سرها و لن يلبث أن يتجاهلها في المنتدى، أن يحتقرها، ثم عنها يبتعد..

وخانها سوء الظن، خانتها النفس وما توهمت، خانها العقل وما خطط..وجاءها رده:

سيدتي العزيزة

كل كلمة منك هي قوة تسكنك لكن تجاهدين على إخفائها، اغتصبك رجل. افقدك غلالة هي لافتة الشرف التقليدية، كثير ممن خلق الله ادرك انها صارت خرقة بالية قد مزقها الزمن، تلاشت فتلاعبت بها الرياح بلا أثر بعدي..تربيتك نشأتك، خوفك، هذه كلها عناصر مؤامرة اصعب بكثير وأخطر مما ألحقه بك قريبك ابن القرية..

قفي أمام مرآة.. انظري الى خلق الله فيك..هل ضاع منك شيء؟

ماضاع منك غير بسمة رضا أنت من تعمد ت قتلها، وبريق عينين غادرهما كحل، يداك من تقاعستا عن الإمساك بمرود امتثالا لعقلك الضابط، الذي تحكمت فيه طقوس البلد وعاداتها وما بنته من مدماك للخوف في نفسك، ما ضاع منك هو نظرة إيجابية لنفسك وقناعتك بها، وقد أحللت بدلها نظرة سلبية تحولت مع الزمن الى شبح مرعب يسكنك، وبدل أن يسكنك الحب سكنتك الكراهية، كراهية نفسك قبل غيرك ككارثة تعوضين بها ما تحسينه وتسمينه ضياع شرف..

قرات كلماته مرة ومرتين وثلاثة، استغربت !!كيف غاب عنها أن في الحياة بار وضال، خلوق وحقير، بشر يخطئون و آخرون يصيبون..

ها هوذا شيخها لم يتخل عنها، لم يتركها، لم يبتعد عنها، أحست ان قربه منها صار التصاقا ذاتا بذات.. لا يتوانى عن السؤال عنها كلما غابت.. احست انه كلما تقدمت الأيام صار يتقرب منها اكثر، في صدق حديثه، في محاولة شدها اليه ..طلب منها ايميلها.. ترددت في البداية لكنها أصرت ان تسير معه الى النهاية فربما قد تكشف حقيقته كما كشفها..

كانت مع الايام تبهرها ثقافته، اتساع افقه المعرفي، كلما واجهته بسؤال فتح أمامها اكثر من باب مما كان منغلقا لديها، قدم لها وجهات نظر متعددة حول الدين والحياة بأمثلة وحقائق ليست هي ما يكتبه المتشددون ويدعيه القوالون ممن يرتدون الأقنعة عند الظهور، واكتشفت أكثر أنه من اسرة عريقة لا يتعدى العقد الثالث من عمره، ضربه القدر بمصاب، ماتت زوجته بعد أول وضع لها، تركت له صبية تتربى في رعاية أمه، غادر وظيفته، وغير توجهه المهني بعد شلل نصفي من صدمة ما أصابه وقد شفي بقوة منه وإصرار على الحياة، وتفاؤل بغد أحسن..

ووجدت نفسها تثق بما يقول، تجرب ما يقترحه، تتخلى عن كثير من عادات ألفتها.. تغتسل شيئا فشيئا من أتربة صارت ركاما على أكتافها، وجدت نفسها تضحك وتشارك الآخرين بسماتهم، تحضر حفلات دعيت اليها، .. تقف أمام المرآة تحرك خصرها برقص، تمرر يدها على جسدها، فتجد نفسها ـ وكما قال لها ـ:" أنثى بكامل الانوثة، لم يسرق منها الاغتصاب الا ماتوهمته قد ضاع وهو باق، حي فيها يحتاج فقط للمسة من يدها "..

تحرك راحة يديها على ثديها فتحس بخفقة في صدرها، رغبة تسري في جسدها، كل ما توهمته قد ذوى لازال ينتظر استجابة منها، إرادة تحركها، نسيانا مطلقا بان عثرة طريق لا يمكن ان تغير العالم الا وهما في عقل من يتوهم ذلك..

وبدأت تتعلق بصديقها، تراسله، تقضي معه الساعات تقرا وتصغى لما يكتب ويقول، وله تحكي استجاباتها الجديدة، نظرتها الى الحياة من حولها بعد أن تعرفت عليه، استغراب أهلها من تغيرها، قناعتها بان الشمعة التي أشعلها الصديق في نفسها بتوجيهاته وشروحه، بالحرية التي فتح لها نوافذ في ذاتها، بقربه منها قد اشعرها بقوة وفخر وانتصار على نفسها وما واجهته خلال أزيد من ربع قرن.. حتى خلايا جسمها صارت أكثر نشاطا وحيوية، وقد آمنت أكثر ان كل إحساس بالقهر والغبن يلزمه صديق بشخصية جذابة، بعواطف إيجابية ونظرة تفاؤل تركز على اعماقك قبل مظهرك وتتماشى مع الإحساس بحاجاتك النفسية، وليس أي شخص قادر على منحك هذا الشعور.وكما قالت له في احدى رسائلها اليه: أحس اني اتغير بسرعة لا لاني نسيت ولكن لانك استطعت ان تفتح أكثر من بوابة للتواصل والعطاء، وتضع أمامي أكثر من فكرة ورأي كلما تعمقت فيها وجدتها هي بوابة نجاتي، لهذا أعدك اني تركت الماضي بغير رجعة واليه لن أعود لكن لا تتركني.

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

"مقاطع من نص نثري طويل"

لـ " كـلـكـامـش مـا لـكـلـكـامـش ".. (*)

ولـ " إيـنـانـا " مـا لـ " إيـنـانـا "..

ولـي مـا لـيـس لـي..

*

لـيـس لـي مُـلـكُ هـرون الرشـيـد فـأخـشـى ضـيـاعَـه..

ولا كـنـوزُ قـارونَ فـتـرهـقـنـي حـراســتـهـا..

ولا مـقـعـدٌ فـي بـرلـمـانِ أوروكَ فـأتـشـبَّـثُ بـهِ

تـشـبُّـثَ قَـرادةٍ بـجِـلـدِ خـروف

*

أنـا الـربّـانُ الـذي أراد عـبـورَ بـحـر الـنـار بـسـفـيـنـةٍ مـن ورق..

والـفـلاحُ الـذي لا يـمـلـك غـيـر مـنـجـلٍ صـديء..

والـراعـي الـذي لا يـمـلـكُ مـن الـقـطـيـعِ

إلآ الـبـعـر..

مـنـذ عـادت إيـنـانـا الـى عـالـمـهـا الـعـلـويّ

وأنـا مَـلِـكٌ بـدون رعـيَّـة..

*

يـومـي كـبـاديـةِ الـسـمـاوة

لا شـجـرةٌ فـيـهـا فـتـنـسـجُ ظِـلالـهـا بـسـاطـاً

لِـقـدَمَـيَّ الـحـافـيـتـيـن..

ولـيـس غـيـر الـسـرابِ أســتـقـيـه لـي ولـنـاقـتـي!

*

تـعـلـمـتُ مـن الـنـاعـور أنْ أسـقـي الـحـقـولَ الـعـطـشـى

وأكـتـفـي بـأنـيـنـي..

وكـالـتـنـور: أمـنـح خـبـزي لـلـجـيـاع

مُـكـتـفـيًـا بـرمـاد احـتـراقي

*

لـي:

مـن بـاديـةِ الـسـمـاوة صـبـرُ رمـالِـهـا عـلـى الـعـطـش..

ومـن الـبـحـر الـزَّبَـد..

مـن الـصـحـو الـقـلـق..

ومـن الـنـومِ الـكـوابـيـس..

ولـيـس لـي مـن أوروك إلآ الـغـبـار الـعـالـق بـحـذائـي..

حـذائـي الـذي ثـقَّـبَـتْـهُ أسـلاكُ الـحـدودِ الـشـائـكـةُ

حـيـن اجـتـزتُ أوروك ذات رعـب!

*

مـذ شَــيَّـعـتُ جـثـمـانَ الأمـس

وأنـا أحـفـر فـي مـقـبـرةِ الـحـاضـر

قـبـرَاً لـغـدي..

غـدي الـذي مَـرَّ سـريـعـا

مـرورَ حُـلـمٍ بـمـقـلـةٍ رمـداء

*

لـيـسـت لـي غـابـة فـأعـود إلـيـهـا

هَـربـاً مـن جـحـيـم أوروك

ولا " شـامـاتُ " فـتـؤنـسِـن حـزنـي الـوحـشـيّ.. (**)

وتـذيـب بـنـارِ أنـوثـتـهـا جـلـيـدَ الـضـجـر الـمُـتـجـمِّـدَ

فـي عـروقي..

*

" إيـنـانـا " عـادت الـى كـتـاب الأسـطـورة..

وأنـا عـدت الـى سـبُّـورة الـواقـع:

أمـسـحُ بـأجـفـانـي غـدي الـذي مَـرَّ سـريـعـا

مـنـتـظـراً أنْ يـأتـيَ الأمـسُ فـأكــتـبـه

عـلـى ســريـري!

*

هـي لـيـسـتْ طـريـقـاً فـأسـلـك غـيـرَه..

لـيـسـتْ مـديـنـةً فـأُقـيـمُ فـي غـيـرهـا..

لـيـسـتْ يَـداً فـأُشِـلُّـهـا وأكـتـفـي بـواحـدة..

ولا سـاقـاً فـأسـتـبـدِلُ بـهـا عُـكّـازا..

إنـهـا مـن نُـسـكـي الـتـبـتُّـلُ والـمـحـراب..

والـحـانـةُ والـخـمـرةُ مـن كـأسـي..

ومـن صـحـراءِ روحـي

الـبـتـلـةُ الـتـي أنـجَـبـتْ تـسـعـة بـسـاتـيـن

والـغـيـمـةُ الـتـي مـلأتْ أخـاديـدي بـتـسـعـة أنـهـار

*

أيـهـا الـعـشّـاقُ

مـن رأى بـي شـوكـاً فـلـيُـقـوِّمْـهُ بـأزهـاره (***)

فـتـعـاونـوا عـلـى الـزهـور والـرحـيـق

ولا تـعـاونـوا عـلـى الـشـوكِ والـقـيـح

*

إذا لا أعـشـقُ ولا أكـتـبُ شـعـراً

فـكـيـف ســأعـرف أنـنـي

عـلـى قـيـدِ الـحـيـاة؟

*

الـعـمـرُ لـيـس الـمـاضـي والـحـاضـر

إنـمـا

مـا سـوفَ نـعـيـشُ فـي مُـســتـقـبـل الإيـام

*

قـلـتُ لـهـا بـي جـوعٌ لـفـاكـهـة بـسـتـانـك..

أعـطـتـنـي بـذوراً لأزرَعَـهـا

وتـعـرفُ أنـنـي لا حـقـلَ لـي

وأنَّ الـنـهـرَ بـعـيـد

*

مـا الـفـائـدةُ مـن امـتـلاكـي شـراعـا ومـجـذافـاً

إذا كـنـتُ لا أمـلـك سـفـيـنـة ؟

***

يحيى السماوي

.....................

(*) تناص مع قول السيد المسيح عليه السلام في إنجيل مرقس " ما لقيصر لقيصر وما لله لله ".

(**) شامات : الحسناء التي تعرّتْ للوحش أنكيدو فتأنسن بعد ممارسته الحب معها.. وإينانا إلهة الحب والخصوبة والمطر في ملحمة كلكامش..

(***) تناص مع قول الخليفة عمر بن الخطاب " رض ": أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجا فليقوّمه ". وأيضا " فـتـعـاونـوا عـلـى الـزهـور والـرحـيـق ولا تـعـاونـوا عـلـى الـشـوكِ والـقـيـح " تناص خفي مع قوله تعالى (تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)

أشتهي ان أكتب نصا

(لفلم) خيال علمي

اكون فيه عالماً

حالماً

اصنع اكسير السعادة

أجمع فيه خلطة سحرية

بعض من

أوراقِ الجوريِ

وادعية الصالحين

وترنيمة (دللول) من قلوبِ الأمهات ِ

وآيات من الذكِر

و(ماءُ الفراتُ) قبل الجفاف

وارشهُ رذاذاً فوق (رؤس) العراقين

لينسو (اوجاعُ) الحروب .

وبعض فساد الساسة .

***

كامل فرحان

 

مع تباشير الفجر يتنفس الصبح على صوت ضرب كفوف سعدية وهي تطوع الشنكة (العجينة) وتحولها لقرص مستدير ساخن تملأ رائحته منزلها والمنازل المجاورة لها، ومزيج من روائح الحب ودعوات امها التي كانت تجلي عن روحها الهم والتعب. ومع وجود جاراتها اللواتي ادمنت معهن الحديث والحكايات وهن يتجمعن حول دفء تنورها القابع في احدى زوايا حديقة المنزل. كانت تشعر بالرضا عن نفسها نوعا ما، بالرغم من قسوة الحياة وثقل المسؤولية التي ألقيت على عاتقها خصوصا بعد ان غادرتهم زوجة اخيها المتوفى، وقررت الزواج برجل تقدم لها، وتركت لهم ولدين مازالا بحاجة لمن يرعاهم. فكرت كثيرا بهذا الامر وهي تنظر الى طفلين بحاجه الى رعاية واهتمام وشعور اتجاههما يقول بانها اصبحت بالنسبة لهما الاب والام والعمة.."

تمتلئ الحياة بالمنغصات ولعل الفقر من اهمها ويصبح اشد صعوبة على البعض رغم انه يخلق صلابة للشخص نوعا ما، هكذا كانت تبرر لنفسها واقع الفقر الذي تعيشه. وهي تطبع القبل فوق جبين اختيها الاصغر منها سنا وتعبد لهما طريق الدراسة التي تفانت من اجل يكلل بالنجاح كي لا يصبحن نسخة مكررة منها وتكسوا حياتهن وثيابهن حبات الدقيق. لم ينل التعب وحرارة تنورها من جمال شكلها ووجهها فمازال الخطاب يطرقون بابها، لكن ذلك الجمال مصيره الى الزوال هكذا حدثت نفسها وهي تطوع الشنكة التي ذكرتها بثديها الذي أصبح أكثر طراوة وذبولا منها. وما زاد من قلقها أكثر هو تقدمها بالسن دون أن تشعر في خضم حياتها المثقلة بالمسؤوليات.

في أحد الايام شاءت الصدفة ان تطلب احدى جاراتها يدها للزواج من أخيها الارمل، ابتسمت في سرها وارتشفت كوب الشاي سريعا وغمرتها سعادة كبيرة حاولت ان تخفيها قائلة لها: امهيلني يومين لأفكر، شعرت ان الوقت أصبح مناسبا بعد ان كبر ابناء اخيها واشتد عودهم وتفوقوا في دراستهم، واشتدت سعادتها عندما كانت عندما تسمعهم ينادونها يمه. واختيها اللتين قطعتا شوطا كبيرا في حياتهم الدراسية وأصبحن على مشارف التخرج من كلياتهن، شعرت بانها قد ادت كل ما عليها من التزامات عائلية اتجاههم وعليها الالتفات الان لنفسها فنداء الامومة نداء قاس يداعب خيال أي امرأة، لذا كان عليها ان تخبر والدتها بموضوع الخطيب هذا وتشاركها الراي والقرار فيه، لكنها تفاجأت برد صادم من امها عكس ما كانت تتوقع حين قالت لها: انت كبرى اخواتك وأنت من يقوم على خدمتنا وانا امرأة مسنة، يجب ان تكوني اخر من يفكر بموضوع الزواج هذا، ماذا اصابك اين عقلك؟ هل ترغبين برجل يطفئ النار المتأججة داخلك ويبعدك عنا؟

ارتفع صوتها بوجه امها قائلة: لم يزدني العقل سوى بؤسا، لم يعد أحد بحاجة لي، اود ان اتزوج ويكون لدي طفل كباقي النساء، أتمنى أن تشعري بي وتعامليني بالمثل كما تعاملين اخواتي. على إثر ذلك علا صوت اختيها، اللواتي لم تكن ردة فعلهن اقل من والدتها، رفضن بشدة بل ان احداهن كانت قاسية جدا وقالت: لها بصلافة لم تكن تتوقعها، دعك من هذه الاحلام التي لا تليق بمتصابية عجوز مثلك. وقفت عاجزة مذهولة تشعر بالإحباط والحزن الشديد، تذكرت بقسوة تلك الايام الصعبة التي عاشتها، وهي ترعاهم فهي لم تبخل على اختها بشيء. اصيبت بالحزن وشعرت بانكسار في داخلها، كان الارق رفيقها في تلك الليلة التي مرت طويلة، وشريط الذكريات المليء بالتضحيات يسير امامها يشعرها بالخذلان سبب ردة فعل تجاهها. لم يمر ما حدث عليها بسلام ففي اليوم التالي وعلى حين غفلة شعرت بالدوار، وان نبض قلبها أصبح ضعيفا، وفجأة وهي تقف خلف صفيح تنورها الساخن سقطت على الارض وفقدت وعيها افاقت بعدها لترى انهم قد نقلوها الى المستشفى وأنها محاطة بجمع من الاطباء، يبدو انهم كإنو متأكدين من خلال تحاليل الدم التي اجريت لها، بانها مصابة بمرض السكري المتقدم وسمعت والدتها راي الاطباء بصمت وانهارت في البكاء.

سرعان ما نطفئ بريق عيناها وبدت أكبر من سنها بكثير، وأصبحت تصارع المرض والعنوسة معا وغاب صوت كفوفها ولم يعد للصباحات اي معنى شعرت بأن الحاجة قد انتفت اليها، بعد ان اقعدها المرض وتبوأت مكانها الجديد لتجلس جنب الى جنب مع امها. شعرت وكأنها انضمت لكبار السن وغيرت الحياة مسارها معها. بنت قنطرة الاحلام بينها وبين المستشفى، التي أصبحت شغلها الشاغل حتى حديثها تغير وبات يتمحور حول السكري ومضاعفاته والتي كانت تتداوله مع المريضات ممن يعانين من نفس المرض الذي كشر عن انيابه و بدء ينال منها بشكل تدريجي، بدء بجفاف الجلد ووخز ابر الأنسولين التي تركت اثارها على جلدها الرقيق وبشرتها، تسلل الجفاف بصمت لينال من اسفل قدميها الذي تيبس وزادت التشققات فيه، واظافرها التي بدأت تطول وتتقوس كمخالب قط، رغم حرصها الشديد على الاعتناء بها الا أنها وقعت في غفله بعد ظهور تعفن في اصبع قدمها الكبير، لم تشعر به الابعد ان انتشر الى باقي قدمها الذي اصطبغ فجأة باللون الازرق، اخذتها الحيرة والقلق والتفكير في الذهاب الى وجهتها الوحيدة، وهي المستشفى ودهاليزها التي انتهت بها في صاله العمليات وايدي الممرضات وهن يثبتنها في مكانها وكمامة الاوكسجين التي راحت تسرب المخدر الى باقي جسدها، وصوت يقول لها عدي حتى العشرة ....

***

نضال البدري

 

في تلك الليلة لم يستطِع سليم النوم، فقد داهمته رغبة الكتابة:

لا تسأليني، يا أثيرة، كيف أكتب؛ وهل يُسأَل الزهر كيف يعبق شذاه؟ وهل يُسأَل الطير عن طيرانه؟ إنّه يجد جناحيه يرفرفان بعد أن ينبت لهما ريش. وأنا ألفيتُ نفسي أكتب ذاتَ يومٍ دون أن أعرف السبب.

كنتُ كلّما تحدَّثتُ معكِ، يا أثيرة، تبرعمتْ في روحي رغبةُ الكتابة مثل زهرةٍ ربيعيَّة، وتموسقتْ في مسمعي كلماتٌ لم تُنطَق من قبل، وحلّق في فكري الشوق، مثل سُنونوة مهاجرة في فصلِ الربيع، لعناق القلم. حتّى لو كنتِ صامتةً مطرقةً أثناء لقائنا، كنتِ تفجِّرين فيَّ تلك الرغبة الجامحة في الكتابة مثل ينبوعٍ جبليٍّ. كانت حاجتي إليكِ حاجةَ المزمارِ للهواء، وحاجةَ النغمِ للوتر.

يقولون إنَّ الكتابة كالحبيب المتسلِّط الغيور الذي يدمِّر كلّ مَن سواه وما عداه. ولكنَّ الكتابة عندي وصيفةٌ مسخَّرةٌ لإرادتكِ، وفيَّةٌ لذكراكِ. تأتي بعد ابتسامةٍ منكِ، فتحمل صورتكِ إلى ناظري، وتُجري حروفَ اسمكِ على قلمي. الكتابة منكِ ولأجلكِ، ولم تكُن غريمتكِ أبداً. أستسلم لهاجسِ الكتابة الذي يداهمني وأنا مخدّر معدوم الإرادة كأنَّني أستسلم لهمساتكِ، للمساتكِ، لسحركِ أنتِ. يداهمني هذا الهاجس المستبدُّ كيفما شاء وحيثما شاء؛ طوراً بعد منتصفِ الليل فيسلبني النوم، وطوراً وأنا في رفقة الآخرين فيحرمني صحبتهم. إنَّه كالقدر لا يُرَدُّ، وكالطُّوفان لا يقف في وجهه سدُّ.

لم أَكُن أنشر ما كنتُ أكتب. لا جدوى من ذلك. في وطني كنتُ أكتب في فتوتي لكي يقرأني أهلي وأصدقائي ومعارفي، فأشعر بالفخر. أَمّا في الغربة، فأَنا أَلجأُ إلى الكتابة عندما يُمسي عالمي حزيناً يستحيل العيش فيه. فأكتب لكي أعيد تشكيل العالم حولي بقوَّة القلم. يُسكرني حفيفُ الحرف فألوذ بالخيال وأحتفي بحياةٍ لا علاقةَ لها بالواقع. قلمي كان معولي أقطع به الأسوار، أهدّها، أهدمها، لأنطلق في الفضاء الرحب. ولكن لا داعي لنشر ما أكتب. لماذا أنشر في الغربة؟ لا أستطيع أن أُطلعك على بَوحي. ولا يعرفني أحد من القراء في بلدكِ. فأنا مجرَّد غريبٍ عابر أو ضيفٍ مسافر. وما يُكتَب في قطرٍ عربيٍّ لا يصل إلى الأقطار الأخرى إلا لماماً، تصدُّه الحدود والقيود مثل سلعةٍ مهرّبة، مثل بضاعةٍ محرّمة، مثل عارِ ينبغي طمسه.

بعدما غادرتُ وطني، لم أكُن أكتب للنشر، بل لكي أكسر الطوق من حولي، وأخرج من عزلتي، وأتواصل مع الذين بعدوا عني أو بعدتُ عنهم، ولكنَّهم مكثوا في وريدي. أكتب في محاولةٍ يائسةٍ لأعيد بكلماتي الواهية عالماً خلّفته ورائي؛ أكتب لعلَّني بحروفي العليلة أستطيع أن أعيد بناء وطنٍ فقدتُه بحماقة وجُبن؛ أكتب كي أقترب من نفسي، أغوص في أعماقها، أُحسُّ بوجودي، أَتنفَّس نسيم الأفكار حولي؛ أكتب كيما أبني بحروفي الرهيفة خميلةً وارفةً احتمي بظلالها من هجير الغربة وعَسْف الترحال الدائم... ليس المهم أن يقرأني الآخرون، فمتعتي الحقيقيَّة تكمن في فعل الكتابة ذاته. ففي الكتابة تكتسب الأشياءُ حولي بُعداً رابعاً، وينضاف إلى كياني حسٌّ سادسٌ، فأصوغ نفسي من جديد، وأشكِّل عيني ولساني ومن خلالهما أشكِّل العالَم من حولي؛ أُبدع عالماً جديداً ألوذ به، أداري فيه خيبتي، وأعوّض عن عجزي تجاهكِ. في الكتابة أتخلَّص من سجني ومنفاي، فأستعيد حرِّيَّتي وأمارس إنسانيَّتي. ولكنَّ كثيراً ما يشنقني الحرف وترجمني الكلمات.

تحلّق كلماتي بلا أجنحة في فضاء الحُلم، تخترق غيوم َالأعالي، تستحمُّ في مياه الأمطار قبل أن تولد، تغسل عن ريشها غبار الدلالات البالية، تقترب من النجوم فتتجمل ببريقها، ثمَّ تحطُّ على القمر بكامل زينتها لتغفو على تخومه. ويبقى الأمل يراودني أنَّني بعد رحيلي الوشيك من هذا العالم ستعود كلماتي هابطةً من القمر إليه، نابضةً بالحياة، لتمارس عملية الخلق بعد أن كانت مخلوقة.

يهطلُ الألمُ غزيراً في فيافي القلب، حتّى تفيض به جميع أنحائه، وترتفع درجةُ حرارةِ الضياع في أعماق الروح، فأحاول أن أُسطِّرَ الألمَ على الورق، وأبثَّ الحُمّى بين السطور، في محاولةٍ لإرقاءِ النزيف الداخلي وتخفيض سخونة الأحاسيس. أحفر قبراً لحروفي وكلماتي، ألحدها فيه حتّى يعثر قارئٌ مجهولٌ عليها يوماً ما فيبعثها حيَّةً من مرقدها، وقد تغيَّرتْ ألوانُ سحنتها على شفتَيه، وتبدَّل رنينها على مسمعيه.

عندما كنا نلتقي في اليوم التالي، كنت تنظرين إلى عينَيَّ وتقولين: " دكتور سليم، لا شك في أنَّك أمضيتَ سهرةً مثيرة، فآثارها في عينَيكَ المُحمرَّتَين." فأعتصم بالصمت. ثمَّ يثير صمتي شكوككِ فتسألين: " مع مَن أمضيتَ السهرة؟" فأجيب وابتسامةٌ ساخرةٌ على شفتَيّ: " معك، يا أثيرة.". ويظهر شبحُ ابتسامةٍ على شفتَيكِ، ابتسامة يجهضها الحزن في عينيكِ، والقنوط في خديك. كنتِ لا تجودين بأكثر من ابتسامة في أحسن الأحوال. كنتِ تتجنبين الضحك، تهابينه، تمجينه، لا أدري، ولكن لم أَحظَ يوماً منكِ برنينِ ضحكةٍ تنطلق من رئتَين واسعتَين أو من حنجرةٍ صافية، كأنَّكِ والضحك في خصام. ولكن لماذا ألومك على ذلك في حين أنا نفسي لم أَكُن قادراً على الضحك منذ أن فارقتُ بلدي، وأمسيتُ أعجب ممَّن يستطيع أن يضحك، وأتساءَل في نفسي: " يا تُرى ما الذي أضحكه؟". لم أَنتبه إلى أنّني كنت عاجزاً عن قول شيءٍ مضحكٍ لكِ، وعاجزاً عن الضحك لو سمعتُ ما يُضحِك. فقد خبرت الضحك عندما كنت صغيراً. كنا نحن الأطفال في القرية نضحك من أعماقنا لأتفه الأسباب، نضحك بصوتٍ عالٍ يشيع الفرحة في الفضاء حولنا، وتزدهي الألوان، وتغرِّد العصافير.*

***

الدكتور علي القاسمي

...........................

* الفصلة د89 من الرواية:

- علي القاسمي. مرافئ الحب السبعة، ط4 (الرباط/ الدار البيضاء: دار الأمان/ دار الثقافة، 1444/2023) بمناسبة صدور طبعة جديدة منها. والرواية متوافرة في موقع "أصدقاء الدكتور علي القاسمي" على الشابكة.

في يومٍ

من أيّامِ طفولتهِ

كانَ يقلِّبُ أوراقاً منسيّةْ

مُلِئَتْ بحروفٍ يَجْهَلُها

من لغةٍ لا يدري

هَلْ كانتْ ميتةً أم حيَّةْ

قال سأكْبَرْ،

أتعلّمُ سبعَ لغاتٍ أو أكثرْ

وسأبني بُرجاً يُشْبِهُ بُرجَ مدينةِ بابلْ

سأجيءُ بما لَمْ يأتِ بِهِ أحدٌ قبلي

مرّتْ تعدو السّنواتُ،

وصارَ كبيراً

شنّوا حرباً أحرقتِ الأخضرَ واليابسْ

عادتْ قطعاتُ الجيشِ،

وعافتهُ أسيراً

يستجدي النورَ بظلمةِ وقتٍ دامسْ

-2-

في يومٍ من أيّامِ كهولتهِ

كانَ وحيداً يستعرضُ

ما مرّ وراحْ

من سنواتٍ حبلى

بالأفراح وبالأتراحْ

يتمنّى أن يرجعَ طفلاً

أن لا يبقى كهلاْ

أنْ تُنْقذَهُ الأيّامْ

من كابوسٍ يطردُ ما يملكُ مِنْ أحلامْ

يندسُّ بغَفْوَتِهِ حينَ ينامْ

يتركُهُ يبكي

يتبعثرُ بينَ يقينٍ أو شكِّ

وتهبُّ رياحْ

لتخلّفَهُ شبحاً منسياً بينَ رُكامِ الأشباحْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن – أستراليا

 

عَاودتْني رغبة آلْغوص في أعماق مياه الأُقيانوس، فحركت بقدمي زعانف كبيرة وثقيلة، دفعتني بيُسر وبهدوء في عمق الماء، مُستنشقا الأُكسجين المعبأ في قارورة، تشدها إلى ظهري أحزمة مطاطية، فرأيت في الأعماق وِهادا وأغــــوارا، وغابات من النباتات البحرية، وكائنات غريبة الشكل؛ فجأة برز أمامي من بين الصخور سرطان؛ يكبر عما ألفته عيوننا من سراطانات الشواطيء الصخرية، يُثير الرهبة بنواتِئ درعه، وبمخلبه الحاد الذي يُشهره كلما شعر بخطر يتهدده، ورغم ذلك تعقبته، مُتأملا حركاته الفريدة في محاذاته للصخور والأجمات البحرية، وحاولت الإمساك به؛ فآختفى في سحابة رملية يُثيرها بدبيبه، فلم أخل سبيله؛ بل جددت في البحث عنه، فرأيت في لحظة ما ما يصطبغ بلون الصخر يتحرك؛ فلم يكن شيئا آخر سوى السرطان، سبح بعد برهة بعيدا يضرب في الماء بأطرافه المرنة، فآقتفيت أثره في تحد وعناد، ورأيت أحيانا أنه يتقهقر فيلوذ بحفرة، فيبقى لصقها؛ فآنتشله بقوة، لم يُبد أي مقاومة؛ فآستغربت لأمره، وتأملته عن كثب، فلم أدرك طبيعته، لم يكن سرطانا حيا، هو شيء شبيه به، فآجتاحتني أفكار وخيالات كثيرة؛ قلت في نفسي: «في عمق المحيطات والبحار بقايا سفن وغواصات، وطائرات غارقة، وهياكـــل آدمية لم تتحلل، وقنابـــــل حية قابلة للانفجار، وأدوات معدنية»، فتصورت على آلتوّ محطات (تحتمائية)؛ يسكنها بشر يقومون بأعمال لا تطرأ على بال سكان الأرض؛ لذلك أرتاب أحيانا فيما يجري في أعماق المحيط.

وضعت السرطان بحذر كبير في كيس مربوط إلى حزامي؛ الذي يحمل ثُقّالات الرصاص، وحركت زعانف قدمي، فآرتفعت أشق الماء، ألتفت بخوف مرة بعد مرة في زُرقة ماء البحر، أتخيل جيشا بمثل هذا السرطان يتعقبني بآستنفار رهيب، لأن عضوا من كتيبته يوجد في حوزتي، ولما ظهر لي غاطس مركبي؛ تمسكت بحاشيته وآمتطيته على عجل، ووضعت السرطان على طاولة الفحص، وفي باطني رجاءُ مَنِ آستنفد كل وسائل الكشف عن شيء له لغز غائر؛ من أن لا يوجد في أوصاله قنبلة بعَدَّاد تنازلي. قد تصدق نبوءتي؛ فلقد طفحت تِقانة العصر، وأنَّى وليت وجهي أجد ما يُذهلني وما يُريبني.

حدثتني نفسي قائلة: «قيل أن في إسمنت الحيطان، وفي السقوف؛ أسياخ الحديد، ولاقط صوت».

ضغطت بسبابتي وإبهامي على أعضائه، فلمست فيها لُيونة طبيعية، أتيت بِمشرط، وشرعت أشق الأطراف والرأس؛ فكشفت عن جهاز متكامل؛ ذو نظام آليّ وتِقاني معقد؛ من أسلاك موصلة للطاقة، وقطع مغناطيسة، تحتل مركزه نواة عقل إلكتروني ببرمجة دقيقة، يستمد طاقة تشغيله من الفارق الحراري لمياه سطح البحر الدافئة، ومياه الأعماق الباردة، فهي إذن أعضاء سرطان طبيعي مُحنطة بمواد كيماوية، عبارة عن غشاء يلف آخر آلي: لاقط صوت، وجهاز إرسال، وآستقبال ذبذبات صوتية؛ يتم تحليلها في مركز ما.

اِرتسمت أمامي صورة فظيعة لعدد كبير من هذا آلنوع من آلسرطان، يجوس بين الصخور؛ قريبا من سواحل المحيط، ومياهه الضَّحلة، تنقل أغشيتُها آلاصطناعية آلحساسة همساتنا، وهمهماتنا، ودبيبنا، وحركاتنا، وتنسخ ملامحنا، ونظراتنا، وقاماتنا.

ألا تكون في الدماء المستوردة أجهزة رصد مجهرية؟ تنقل نظام مجتمع بكامله إلى حواسيب، يُسجل في أقراص، ويُوثق إلى حين؛ إن في هذا كله نشوة إبداع وخلق، وحافز وتفوق، وسطوة أيضا.

أليس فيه زحف وسيحان؟

إنهم بلا شك يُعايِنونني الآن، ويقرؤون ما يجول بخاطري، وما يخططه فكري. إن هذا السرطان الذي ما تزال فيه نبضات بقية من طاقة كهربائية؛ ينقل ضربات قلبي، وتشنُّجات أعصابي، وتقلّصات أوداجي؛ ويُترجمها إلى لغة؟ لم أتردد؛ فأدرت بسرعة محرك المركب، ولُذت بالشاطئ، وسِرت حثيثا إلى غرفتي، وأحكمت إغلاق بابها ونوافذها، وتصورتني أنني في حصن منيع، جعلت السرطان في طَسْت وصَببْت عليه كمية من البنزين وأضرمت فيه النار، فآحترق وتفحم، ثم صار رمادا أذروه بأصابعي.

شعرت بفرحة آنتصار؛ فآبتسمت وغمرتني نشوة؛ ألم أكتشف جهازا ينقل نأمة وإشارة من يمشي على هذه الأرض، وأُبطله وأدمره؟

ما لبث أن داهم غرفتي ثلاثة رجال في زي عسكري، يحملون رشاشات ومصابيح يدوية، أوثقني إثنان منهم، وسحب ثالثهم من جيبه جهاز مغناطيس، ثم مرره فوق الطّست؛ فآنجذبت إليه حبة معدنية، تناولها بين أصابعه مُحدقا فيها، فآنفرجت أسارير وجهه، وقام آخر بملء خزان إبرة بسائل قنينة، أفرغه في عروقي، وتركني أهوي على الأرض، وعبثا حاولت أن أقف على رجلي وأستند إلى الحائط؛ فتمددت على ظهري وأحسست ببوادر غيبوبة، لم أعُد أُبصر بعدها شيئا، فقط سمعت وقع أحذيتهم، ثم ساد المكان سكون.

***

قصة

أحمد القاسمي

 

تعثرت وأنا أكرع قوافي شعر ابو نؤاس، يبدو أن السكر قد نال مني، ويحي!! أهكذا كنت بمجونك عندما تستبيح بيوت الشعر فتغزوا حروفها، أظنك كنت تختلس النظر إليها اولا ومن ثم تُغير على أسرتها ليلا، تشبعها لثما وهي مستسلمة إليك، تُشعرك بلذة ما تتذوقه، أجدني على غرارك اليوم اسير أبحث عن الجيوب الجانبية عَلَّ هناك من تستحق أن أخرج ثعابيني من تحت ردائي ليسبر عالم لم ادخله في حياتي، ها انا بلغت ما يقارب الأربعين ولا زلت بِكرا.. أظنني موبوء أو أن شيطان عهري قد تاب فغفر الله له، حتى أنه قد صام الدهر بعيدا عن ملذات عالم الرغبة..

بغداد يا لذة العاشقين وغربة الفقراء والمساكين، يا زهو زرياب والموصلي، يا طرب ناظم وأم كلثوم، وعبد الوهاب، يا شواطي دجلة.. يا ابواب جهنم الماتعة التي تفتح فيموج على صخب باراتها الراقصات وبائعات الهوى.. انظر الى حالي يا أبا نؤاس عاشق بائس، لفظه القدرة من بطن حرمان ثم ألقى به حيث تراني، اجوب الأزقة والطرق المعبدة والغير منها، أبيع وهما لنفسي، أمنيها بأبيات شعرك الذي حفظت ولا اخفيك ليس وحدك من أحفظ شعره فهناك المتنبي الذي ما ان أسكر حتى ألبس رداء الشدة والكِبر ثم اسمع كلماتي من به صمم.. لكن يبدو ليس هناك من به صمم غير وحدتي الخرساء.. لكن هناك زبانية سلطة متخفين بهيئة سكارى وما هم بسكارى، فألحق ذيل خوفي بأسناني ثم ألوذ هاربا إلى شارعك، أُُمني نفسي بمتعة مع أنثى أي أنثى فعالمي الذي يحيط بي مجرد من كل أنوثة او لمسة منها، إني محاط بخنازير سلطة، كأن لا هم لها سواي مع أني لم أقل شيء يدين أفعالها وما تقوم به من فساد او نهب أو سرقات، حتى جرائم القتل والخطف والمفخخات لم أتحدث عنها مع غيري رغم أني وغيري نراها، كنت أهرب بعيدا رغم أني شاهد عيان.. لا لست شاهد عيان أشطب هذه العبارة يا أبا نؤاس.. أعلم جيدا أنك شهدت ورايت وسمعت الكثير لكنت بقيت صامتا اخرس لم تبح إلا عن مجون مخمور.. أدرك انك لست المتنبي الذي راح ضحية لسانه، قُتل في صحراء بيوت خالية من الشعر.. حتى نصبه أرأيته؟!! لا زال من ذاق ومؤمن في بيوت الشعر التي صاغها يتطلع الى ما يشير إليه على نهر دجلة.. دجلة الخير أم البساتين.. ضاع وتاه في حبك الجواهري من تعرفيه ولا تعرفيني.. ارايت؟؟ إن حب دجلة وبغداد يصنع من المتسكعين مثلي شعراء واقسم ليس شعراء مصادفة.. إني أقرض الشعر كما يقرض الفأر ما يطوله منذ ان كان درصا، يا له من تشبيه لقد صرنا نشبه انفسنا بالفئران فزمن ان تكون شبلا لذلك الاسد قد ولى.. على أية حال.. ها انا استبق ظلي كي أحظى بزجاجة من مخمور قد نال منه السكر وسقط في وحل الخيال، كم أرغب أن تكون الى جانبي نديمة جميلة تنادمني ثغرها وانا أضع بأناملي النقاط التي لم توضع على حروفها الغائرة، أفترش عباءة رجل متدين، أحكي له قصة الصدق والكذب حينما ارتدى الكذب ملابس الصدق بعد ان اغراه بالسباحة معه، فأرتدى الكذب ملابسه وهرب، وحين سار الصدق بملابس الكذب بين العامة لم يصدقوه فكان كل ما يقوله كذب رغم أنه صادق.. هكذا عالمنا الأبيض اسود والاسود ابيض.. ثق بي يا أبا نؤاس إن حياتك الماجنة كانت قبلة للمتسكعين اما توبتك فكانت قبلة لرجال الدين.. استحضر من ابيات الشعر التي قلت في حق نفسك

يا ربّ إن عظمتْ ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم

أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

مالي إليك وسيلةٌ إلا الرجـا وجميل عفوك.. ثم إن مسلم

أظنك تنشد التوبة؟ لقد باتت عناوين مداخل ابواب طلب غفران من كان المجون حرثه، ها انا أمامك لا أؤمن بأي شيء سوى ما بين يدي قنينة الخمر هاته التي أظنها توأم نفسي الأمارة بالسوء فلا حظ لي بغيرها.. أطمع ان يجسدوا حياتي وسيرتي بِنَصب يكون قبلة للمتسكعين في عالم التسكع فيه يحتاج الى شهادات عليا، يتوشح بها من يصبو لأن يكون دكتور او ثور.. إضحك لِمَ لا تضحك؟؟؟ لا اظنك منهم فأنت فارس الخمر المعتق من تظهه يكون مثلك، انا لا اقصدك او من هم على شاكلتك.. إنما عنيت عصرنا هذا او تراه صباح او مساء.. لا عليك سأكتم ضحكتي، يبدو ان مزاجك ليس كما أتوقعه منك في كل مرة سأغادرك حيث رأس المنصور.. سأضع رأسي الى رأسه سأتناطح معه بسؤاله أينا رأسه اكبر أنا أم أنت أم الحمار او الثور، فلا بد أجد عنده الإجابة لأن رأسه كبير جدا.

لاشك سيكون جوابه رأس الجسر أكبر.. الجسر الذي شهد الكثير من القتلى والموتى الشهداء وغير الشهداء دون أن يحرك ساكنا، كأننا نرث الاحداث رضاعة من صدور أمهات ثكلى فهناك على الجسر تركوا نعش من كانت الطامورة بيتا له، تركوه بعد أن نالوا منه بسم زعاف.. وها نحن نتجرع السم من متشدقي التدين والدين بعناوين إسلامية كتب عنها المتنبي وابو نؤاس وتغنت بها ولادة وغيرها الكثير.. لا أعرف لم نحن المغضوب عليهم ولم نحن الضالين.. حسنا.. حسنا لا تشح بوجهك عني، سأرحل يبدو أني قد إنحرفت عن مساري الطبيعي، سأحمل نفسي حيث الزقاق المظلم الذي تقبع على جانبيه المواخير والحانات.. وعرابي الأجساد البشرية، لا تخشى شيئا لست منهم بل انا لي حاوية نفايات أراودها عن نفسها كل ليلة فتجعلني انام معها.. أعني بداخلها هكذا هي حياتي بين زقاق وشارع آخر وبينك وبين الرشيد دون هارون.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

 

أَنا لستُ يوسفَ يا أَبي

وحبيبتي لَيْسَتْ زُلَيْخا

واللهُ يعلمُ بيْ

أَنا لَنْ أَقَدَّ

منْ قُبُلٍ

ولا منْ دُبرٍ

قمصانَ شعبي

وما حفرتُ ...

على جدارِ بلادي  

شروخاً أَو ثقوبْ

ولا أَنا مثْلُ الطغاةِ والقُساةِ

كنتُ جَرَّحْتُها بالندوبْ

*

أَنا لستُ يوسفَ ياإلهي

وإنَّما أَنا العراقيُّ الجريحْ

الخياناتُ خرابي ومَتاهي

أَنا تائهٌ في الريحْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

أَيُّها الزمنْ

أَنا العراقيُّ المُبتلى

بالخائنينَ

الكاذبينَ

السارقينَ

وبالذئابِ التي

تَنْهَشُ لَحمَ الوطنْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

أَيُّها الشيْطانْ

اللهُ يعرفُ

قسوةَ الإنسانْ

إِذْ يَطغى

وحينَ يُغوى

وعندما يصحو

في جسمِهِ الحيوانْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

وما أَلقيتُ أَيَّ كائنٍ

في غيابةِ الجُبِّ

أَو في متاهةِ الوجودْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

لكنْ أَنا العراقيُّ

المخنوقُ والمسروقُ

والمذبوحُ والمشنوقْ

والتائهُ في العواصفِ

والقانطُ في المتاحفِ

والضاعَ منّي البلدْ

والحلْمُ ضاعْ

وضاعَ الضميرْ

وضاعَ اليراعْ

وضاعَ المصيرْ

وقَدْ بقيتُ

بـلا :

أَ

ح

دْ

***

سعد جاسم

 

 

عبثًا يحدثُنِي عن الأحلامِ

مستبشرًا بقوادمِ الأعوامِ

*

كم كان مغمورًا بحبِّ حياتِهِ

طلقُ المحيا ذائبُ الأنسامِ

*

لكنَّه من فرطِ حبٍّ قادمٍ

ينأى عن الأنغامِ بالانغامِ

*

يشدو القصائدَ من فؤادٍ صادحٍ

ويصوغُ أغنيةً لطيرِ حمامِ

*

سمحٌ، وديعٌ، طيبٌ، ودماثةٌ

يحكي طويتَهُ فمُ الأيَّامِ

*

عقدانِ مرا، وهو طفلٌ حالمٌ

يلهو مع الأترابِ في إنعامِ

*

وثلاثةٌ أخرى انقضتْ بمحبَّةٍ

يسقي نداماهُ بشهدِ كلامِ

*

يهوى الجمالَ مُتيّماً بظلالهِ

صافي السريرةِ لا يردُّ مرامِي

*

عتبي على هذي النسائمِ قصَّرتْ

في أنْ تقي روحي من الآلامِ

*

عتبي على أيدٍ رحيماتٍ أبتْ

الَّا تكونَ رحيمةً بهمامِ

*

تركتْكَ وحدك دونَ أي فضيلةٍ

ومضيتْ مضطرًا بنارِ ضرامِ

*

حاولت أن ترجو الشفاءَ ولم يكنْ

حلمُ الشفا أبدًا بعيدَ مرامِ

*

سائلتني قبلَ المنيةِ، والدي:

ماذا وراءَ السقمِ من أسقامِ؟

*

حولي يدورُ الموتُ، كيف أردُّهُ

قدري أفارقُكم، وقلبيَ ظامي؟!

*

عندي طموحٌ كيف أقطعُ نسلَهُ

ولديَّ الفُ قصيدةٍ وكلامِ

*

وطِماحُ مَنْ غرسَ المحبةَ جاهدًا

ألَّا أغادرَ موضعي ومقامِي

*

قدْ عدتَ يا نيروزُ بعدَ غيابةٍ

لكنَّ عودَكَ لم يكنْ بسلامِ

*

راحَ الذي يُحْيِيكَ، وهو محمّلٌ

بالحبِّ والأنغامِ والأحلامِ

*

واليومَ أنِّي ذاهبٌ لأزورَهُ

لأجددَ الذكرى، بيومٍ دامِ

*

ومعي التي حملتْ ولم تبخلْ عليـ

كَ بفيضِ عاطفةٍ وحلو كلامِ

*

يا عيد نيروزٍ بمن أفجعتني

فإذا بنورِ الصبحِ محضُ ظلامِ

*

وتركتني وحدي أصارع محنتي

إنِّي على حربٍ مع الأيامِ

***

د . جاسم الخالدي

 

إلى ابني رافي

رفائيللو....

كما أحبّ

أن أناديك

رافائيل يا ملاك الشفاء

باركني الله حين أنجبتك للحياة

وأعطاني اسماً قوياً

من حرّاس مملكة السماء

في ليلة من ليالي آذار

رذاذاً من حنين

عذوبة إحساس

تفتحت لها براعم الأزهار

فوق جميع الأشجار

يا ملاك الشفاء

حين أهمّ بنطق اسمك

تضحك الحقول

فتطير من بيادري أسراب

اليمام

ويظلل وجهي قوس قزح

ووشاح سلام

رفائيللو

يا ملاكي الشافي كم من مدن قطعتها

وشوارع مشيتها

كم من ليالٍ هشّمت واجهة الريح

وأنا أرتل تقاريظ وتسابيح...

وأنا أتلو أسفار العبور...

في ممرات الشقاء

شربنا حياة بائسة

عشنا ثالوثا مقدسا

في أقنوم واحد!

شربنا كؤوس مترعة

ونخب الشفاه الكاذبة

حتى الثمالة

كان لئيماً قاسياً عالمنا

لكنك يا ملاكي كنت مؤمناً

بأجراس الآحاد

وأنا أنظر بصمت في بحر عينيك

كان الأمل يغني

رغم دموع المآقي..

وأنت تردد: لا تبكي يا أمّاه

أيها الفرح الأخضر كالعشب

ياربيع قلبي

أنت رحيق الحياة وبهاؤها

أسير في ظلالك

أتبعك في تخوم دمشق

وحاراتها

وأبوابها السبعة

إلى محيط الجنوب العظيم

تنام من تعب

و ذراعي لك سرير

لم تصمت رياحنا العتيقة

ولم يهدأ قلق حبري يهادن القصيدة

وانت تشاكسني

مثل شقيّ صغير

تقمصّتني ..

تقمصت روحي وبدوت كأنك أنا

يا وتيني

يامؤنس الروح

ساغب فمي بالدعاء

ليحرسك رب السماوات

وينثر بركته صباحاً ومساء

***

راغدة السمان – سيدني / استراليا

 

 

في نصوص اليوم