نصوص أدبية

نصوص أدبية

أحياناً

يَقْرَؤني الدفترْ

بالمقلوبِ

ولا يتــــــــعثَّرْ!

*

أحياناً

يَبْحَثُ عن (لُقْمَةْ)

تَرْفَعهُ نيابةُ عن ضمَّةْ!

*

أحياناً

يُلْقي عصا العُمْرِ

في آخرِ

نُقطةِ حِبْرِ!

*

أحيانآ

كلبي يَنْهَقْ

وحماري يَنْبَحُ: أحمقْ!

*

أحياناً

تُجّــــارُ الدِّينْ

تَغْشَاهُمْ لَعْنة...أمينٰ!

*

أحياناً

يَمْنَعهُ مانعْ

حِفْظ النحوِ

بِنَعْتٍ (تابعْ)!

*

أحياناً

في المشفى تموتْ

دون عناية...دون تُخُوتْ

والأعجَبُ أن طواقِمَهُ

تَسْمَعُكَ.. تَرَاكَ وأنت تموتْ!

وعِلَّةُ ذلكَ يامَكبوتْ

أنكَ أغْبَرُ

ذو طِمْرَيْنِ...عَفِيفاً

لاتحمِلُ (مِحْفَظَةً حُبْلَى) ...

أويَحْمِلُكَ الكُوتْ!

*

أحياناً

يَنْتَفِضُ المَرْضَى!

*

أحياناً

في الغُرْبَةِ وطني

لا أقطُنَهُ...

بل يَقطُنني!

*

أحياناً

وطنـــــــــــــي يتمدَّدْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

29/4/2024

دعنا سيدي

نوشم الحروف بحر نارْ

ونكف عن هدر

قسم وفيض

عارْ

فحياتي كسكون الأكواخ

لم تتغيرْ

*

في حديقتي زنبقة

تحبل خطيئة

تتكررْ

ووشما مدفونا يثأرْ

سأرحل...

وأحمل معي لهيب تُرْبها

تسند سماء فوقي تزأرْ

أسائل عتبات الموج

عن سرها المُضمرْ

أكتنز عويل الريح

وأغربل غضبي نايا

يستعير وشوم غجرية

لأبدأ العدَّ  من العشرة

حتى الصفر

*

دعنا سيدي

نوشم الحروف بحر نارْ

ونكف عن هدر

قسم وفيض

عارْ

ولتفك قيدي

ولتسرجْ معصمي ينبوع

اعتذارْ

ودمْعا يتهجَّى الخلاص

بانبهار

أين؟ أين سنيني العشرْ

حصنُ شوْكٍ وظل

بيدرْ

لعنة قدَّتْ منْ جسْر

ألمٍ مبعثرْ

لقَدْ مضى عمْري

في روضته الورد

انتحرْ

بل وكلُّ وجع فيه أَزْهرْ

فكيف كيف كنتُ

لعمري أهْدرْ؟

لقد سئمت تنهد البحارْ

وفتك الاطْوارْ

لقدْ غدوتَ حقلا مسمًّما

لا ترجى منْه الثمارْ

وسماء تحتضن طيرا أبابيل

ترمي أفقي

حجرا من نارْ

صدِّقني أنت في ميداني

خاسر

مهما تقنَّعتَ بطوق

انتصارْ

أفعالك تغتال الجمالْ

كما جيش التتارْ

تحوك منْ صدر المدارْ

خططا وتبني الاسْوارْ

فأين أنت بالغ بهذا الاصرارْ؟

ألا ترى أني أركن أنفاسي

حدَّ الانهيارْ

أنصهر كما الخناجرُ الصدئة

حدَّ الاندثارْ

أحرق جبين النهارْ

وأصطاد لوحات فان جوخ

من حانات مالها

قرارْ

يحتطبني سرُّك المضمرْ

تُنْبِت رسائلك القديمة

همجية الغجرْ

تنبعث من زواياها

روائحُ عفنه

كما المقابرْ

وهي تراقص أحذية مبلَّلَه

تتجسَّأ لغة العسكرْ

فكيف استطعتَ أنْ تطبخ

كلَّ هذا الحذرْ

وتدوزن أنغام الصَّهيل

وتقود شطآنك نحوي؟

الملائكة تقود حتفها

نحو الهجير

اعتكفتْ لملايين السنين

على سطور المنبرْ

تركتُ ورائي رسائلك خنجرا

يحتضرْ

***

لطيفة أثر رحمة الله

 

"الى سيدي أمير المؤمنين، إمام المتقين

علي بن أبي طالب عليه السلام"

***

عـذيــري أنَّ فـردَكَ لا يُــعَــدُّ

جَـمَـعـتَ الـمـكرمـاتِ وأنـتَ فـردُ

*

وحُـزتَ الـحسـنـيـيـنِ: وصِـيُّ طـهَ

ولــلأطـهــارِ أنــتَ: أبٌ وجَــدُّ

*

فـمَـنْ ـ إلآكَ ـ بـيـن الـخـلـقِ شـقَّـتْ

جــدارًا كـعــبــةٌ لـِـيُــهَــزَّ مَــهـــدُ؟

*

فـلـسـتُ بــمـادحٍ شــمـسـًا بـقَـولـي

تـفـيـضُ سـنـىً فطـبـعُ الـشمسِ رَفـدُ

*

ولا مَـدحـًا إذا فــاضــتْ حـروفـي

وقـلـبـي فـيـكَ قبلَ الـثـغـرِ يـشـدو

*

فـمـا مـعـنـى قـصـيـدي لـيس فـيـهِ

الـى مـيـلادِكَ الــقــدسـيِّ قــصــدُ؟

*

لأنـتَ الـشـمـسُ لـكـنْ لا غـروبٌ

وأنــتَ الـحَــدُّ لــكــنْ لا  تُـحَــدُّ

*

ولـيـسَ سـواكَ يُـرجـى يـومَ عُـسـرٍ

ومـا لِـســواكَ ســـيـفٌ لا  يُــرَدُّ

*

وأنـتَ الـبـحـرُ لـكـنْ دونَ جَــزرٍ

فـبـحـرُكَ وحـدَهُ فـي الـجَـزرِ مَــدُّ

*

وأنـتَ فـتى الـحـنـيـفِ الـلـيـسَ يُـعـلى

ومُــورِدُ عَــزمِــهِ إنْ عَـــزَّ وِردُ

*

وأنــتَ بَـرودُهُ إنْ شــبَّ جــمــرٌ

وأنــتَ لـهــيــبُــهُ إنْ ضـجَّ بَــردُ

*

وعِــيــدُكَ وحـدَهُ لـلـظـلـمِ وعــدٌ

وعـهـدُكُ وحــدَهُ لـلـعـدلِ عَـهــدُ

*

وأنـتَ مـن الــنـجـومِ تــمـامُ بَــدرٍ

فـهــلْ مـجـدٌ كـمـا مُـجِّـدتَ مَـجــدُ؟

*

وأنـتَ الـسَّـحُّ والـتسـكـابُ غـيـثـًا (2)

وغـيـرُكَ غــيــثُــهُ بــرقٌ ورعـدُ

*

وُلِـدتَ مُـطـهَّـرًا فـي خـيـرِ بـيـتٍ

وخـيـرُ الـخـلـقِ مـنـه عـلـيـكَ بُـرْدُ

*

فـمـنْ ـ إلآكَ ـ مُـبـغِــضُـهُ كـفـورٌ

وعُـقـبـى عـاشـقـيـكَ جَـنـىً وخُـلـدُ

*

كـفـاكَ مـن الـشـجـاعـةِ أنتَ مـنـهـا

كـمـا " حـاءٌ " إذا مـا خُـطَّ "حـمـدُ "

*

كـسـيـحُ الـخـطـوِ غـيـرُكَ خـوفَ حَـتـفٍ

وأنـتَ كــمــا  ســيـولُ الـسـفـحِ تـعـدو

*

وأنـتَ عـلـى الـضـعـيـفِ الـرفـقُ صِـرفـًا

وأنـــتَ عــلـى شـــدائــدِهــا  الأشـــدُّ

***

أبــا  الـفــقــراءِ: شــكـوى فـاطِـمِـيٍّ

تـــمــاثــلَ عـــنــدَهُ: تــاجٌ ولــحــدُ

*

ولـي عـذري إذا عَـجَـزتْ حــروفـي

وألـجَـأنـي الـى " الـضـلِّـيـلِ " قــصــدُ (3)

*

" ولـيـلٍ " طـالَ حـتى قـلـتُ: دهــرٌ (4)

وصــبــحٌ غـابَ حـتـى قــلــتُ: وأدُ

*

أعـاديــنــا لـهــمْ مِــنــا عـلـيــنــا

يــدٌ تـسـطـو وأخـرى تـســتــبــدُّ

*

مَـشـيـنـاهـا ومـا كُـتِـبــتْ عـلـيــنـا

خُطىً مـا زانـهـا فـي الـمـشيِ رُشــدُ

*

ومـا دالــتْ بــنــا الــدنـيـا ولـكـنْ

ربــابــنــةٌ تـــزوغُ ولا نـَــردُّ..!

*

تـصَهـيَـنَـتِ الـعـروبـةُ واسـتـجـارتْ

مـن الـسـبـيِ الــمُـذِلِّ مـهـا ودعــدُ!

*

فهُـم فـي الـقـولِ "حمزةُ" أو "حـسيـنٌ" (5)

وهم في الفعلِ "حـرمـلـةٌ" و"هـنـدُ"

*

إذا تـشـكـو الـسـقـامَ الصعـبَ روحٌ

فـلـيـس بـنـافـعِ فـي الـبُـرءِ جِــلــدُ

*

ولـيـس بـمُـحـرقٍ شـمـسًـا لـهـيـبٌ

ولـيـس بـمـوهِـن الأقـمـارِ سُـهـدُ

*

ولـيس بـســيِّـدٍ  مَـنْ سـاسَ قـومًـا

إذا لــلأجـنـبيِّ الــوغــدِ عــبــدُ

*

فـكـلُّ تـبـاعــدٍ فـي اللهِ قــربٌ

وكـلُّ تـقـاربٍ فـي الـجـاهِ بُــعــدُ

*

تـهـشَّـمَـتِ الـنـفـوسُ فلا نـفـيـسٌ

ودكَّ صــروحَـنـا شَــتَـتٌ وكـيــدُ

*

فـكـمْ من " مُـلجِـمٍ " أخـفـى حـسـامًـا (6)

يــسـيــرُ بـهِ الـى الأبــرارِ حــقــدُ

*

فـمـنـذُ شُـجِـجـتَ رأسـًــا والـرزايــا

عــلـى أيــامِــنـا بـالــرزءِ تـعــدو

*

تـعـطَّـلـتِ الـكـرامــةُ واسـتـجـارتْ

عـروبــتــنـا وشــلَّ الـعـزمَ قَــيــدُ

*

فـمـا نـفـعُ الـكـتـائِـبِ دون حـزمٍ

يــسـيــرُ بـهــا إذا مـا جَـدَّ جِــدُّ

*

فـيـا جـبـلَ الـشـهـامـةِ ذا زمـانٌ

رثـى فـيـهِ خـنـوعَ الـسـيـفِ غِـمـدُ

*

فَـجَـرَّبـنـا الـمُـجَـرَّبَ وهو لـصٌّ

فـبـيـنَ صـبـاحـنـا والـلـيـلِ سَــدُّ

*

أبـا الـفـقـراءِ مـا جـاعـتْ جـمـوعٌ

إذا الـحـادي بـمـا أوصَـيـتَ يـحـدو

*

إذا جـاعَ الـرغـيـفُ فـأنـتَ قـمـحٌ

وإنْ عَطِـشَ الـنـمـيـرُ فـأنـتَ وِردُ

*

فـكـنْ يـوم الـورودِ شـفـيـعَ صَـبٍّ

بــهِ لــلــقـائِـكَ الــقــدسـيِّ وَجــدُ.

***

يحيى السماوي

................

(1) ألقيتُ القصيدة في مهرجان الإمام علي  بن أبي طالب  " ع " للإبداع الشعري في دورته السادسة والذي عُقِد برعاية المكتبة المختصة في كانون الثاني عام 2024 في النجف الأشرف .

(2) السح: المطر الخفيف .. التسكاب: المطر الكثيف الشديد الهطول .

(3) الضليل: امرؤ القيس .

(4) إشارة الى قول امرئ القيس:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي .

(5) حرملة: هو الملعون حرملة بن كاهل الأسدي قاتل عبد الله الرضيع ابن الإمام الحسين وأحد المشاركين في قتل العباس عليهما السلام .

هند: هي الملعونة هند بنت عتبة والملقبة بـ " آكلة الأكباد".

(6) ملجم: هو الملعون عبد الرحمن بن ملجم الذي اغتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .

 

الصمت..!!

كأني بها قد تمادتْ

على الصمتِ

كادتْ أنْ تصيرَ حصاناً مجنحْ ..

تطيرُ معَ الريح

عبرَ هذا الزمان الكسيح

أراقبُ سحنتها

وذاكَ الجمال الرصين

ولستُ أمزحْ..

غدتْ، تحرثُ الحقلَ

تسقي البساتينَ

وترسمُ للغيمِ أشكاله

تصبُ صباحاتها

ندىً عابقاً بالشذى

وقطعانها في السهلِ تمرحْ..

تلكَ قافيتي

وذاكَ نهاري

وتلكَ اغنيتي

وألحانها في اليمِ تسبحْ..

كأني أراها

عندَ خابية الزمان اللعين

تحتسي دمعها بصمتِ الحيارى

تنزُ دماؤها

في الهمِ تُسْفَحْ ..

وإني أشاكسُ نفسي

بقدحِ فؤادي

اغطي الهمومَ العوادي

ولستُ أبرحْ..

لعلي أراها بأحلامي الغافيات

نسيماً يراقصُ همسه

كالغيمِ يسرحْ..

نقياً بأشجانه

يشيعُ الجمالَ

كلاماً وهمساً، كغصنٍ مُقَدَحْ..

***

السفوح..!!

يا لهذا الجمال الرخيم

يا لتلك السفوح

وتلك الجروح

غدتْ أفواهها

من فرطِ إشهارها فاغرة..

تنزُ دماء تسيل

كأن لرجعها وقعٌ

تميدُ بها فكرة عاثرة..

تلك هي المحنة الجائرة..

على اعتابها

أبصر الصحو رائعاً

يبهج القلب

وبين حينٍ وحينْ

تداعبُ صحوها غيماتْ..

وما بينَ بينْ

تنداحُ من علوها نغماتْ..

ومن لحظها همساتْ..

لتمحو سنيناً من الهمِ في لحظاتْ..

يا فرح الدنيا

حينَ يغني القلب، تموت العبراتْ..

*  *  *

د. جودت العاني

01/ مايس /2024

ديكٌ يصيحُ ولا يَمَلُّ

وصخرةٌ تنكُرُ قُدوسَ المَطرِ

وأثمانُ دمٍ

ثَلاثينَ من فِضَّةٍ

على المَفارقِ تَنتَثِرُ

في داخلِه ثُعبانٌ يَجولُ

والنَّفسُ بالشَّرِّ تأتَمِرُ

بالأمسِ معي كانوا

وللمُعجِزات صَفَّقوا

واليوم وِزر مالم أفعل حمَّلوني

ولِحُكمِ إعدامي هلَّلوا

وذاك الَّذي بالأمسِ تقاسمَ جَسدي

وشرِب من دَمي كؤوساً مُترَعةً

عند طُلوعِ الفَجرِ

إلى قيافا سَلَّمَني

"من يأكلُ معي الخُبزَ

رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ "

عَجباً يَنكُرُني الصَّديقُ

وقاطِعُ طَريقٍ يُصدِّقُني

كَأنَّي ما مشيتُ على الماءِ

وما شفيتُ مَرضَاهُم

ولا أحييت مَوتَاهُم

ولا عُميانُهم أبصَروا

ببضعةِ دُريهماتٍ إلى الجَلَّادِ باعوني

ووسطَ أثَمَةٍ أَحْصَوني

ولي تُهماً من كُلِّ الألوانِ لَفَّقوا

"نفسي حَزينةٌ حتَّى المَوتِ"

"أهكذا ما قَدِرتُم أن تَسهروا معي ساعةً واحدةً ؟"

بالأمسِ أطعمتُهم خبزاً وسمكاً

واليوم هتفوا: اصلبوه اصلبوه

"من مِنكُم يُبَكِتُني على خطيئةٍ؟"

غَسلتُ أرجُلَهم

وصرتُ خادمَهُم

فأحكموا الوِثَاقَ حول عُنُقي

أنا النُّورُ وصَوتُ الحَقِ

لكِنَّهم أبداً ما عَرَفوني

وفي يومِ جُمعةٍ على خَشبةٍ رَفَعوني

"اقتسموا ثيابي فيما بينهم

وعلى لِباسي ألقوا قُرعةً "

أوصيتُهم أحبُّوا بعضَكُم

فأتقنوا الكُرهَ والحِقدَ اِمتهنوا

استباحوا مَقابرَ الأَجدادِ

وملايين المرَّات جسدي صلبوا

نشروا نيرانَهم

فوق رقابِ الأطفالِ

وبعثروا كّلَّ السَّلامِ الَّذي لَهُم تَركتُ

وسَقوا شَجرةَ الزَّيتونِ

ما تبقَّى مِن دَمي

طلبتُ منهم ألا يكنزوا

على الأرضِ مَالاً

فامتلكوا مَصارفَ

تكفي لِخزنِ كُلِّ أحزاني

وزادوا في جِراحاتي

وبي نَكَّلوا

غداً حين أعودُ

ماذا تريدون أن تكونوا

شُركاء نِعمةٍ

أَم مُستَحقي نِّقمَةٍ؟

ما أردتم سِوى ذَهباً ومَالاً

وأنا لا ذهباً أقتني

ولا مَالاً أمتلِكُ

لأنَّ مملَكتي

ما كانت يوماً من هذا العَالمِ

«أنتُم مِلحُ الأرضِ

وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ

فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟

***

جورج عازار

ستوكهولم السويد

 

عدت ذات مساء إلى بيتنا مسرورًا فرحًا، فاستقبلتني امي بابتسامة رضا ومحبة و.. تساؤل عيانيّ. قلت لها انني تعرّفت على انسان مهجّر مثل حالاتنا، صاحب دكان تذكاريات في وسط البلدة والله منعم ومفضل عليه. واصلت امي ابتسامتها، كأنما هي تطلب مني ان اوضح لها اكثر، فالقيت عليها محاضرة مطوّلة.. حاولت ان اوضح فيها ان هناك فارقا واتفاقا بيني وبينه، اما الفارق فانه يتمثل في انه في حوالي الخمسين من عمره.. متزوج من اجنبية، في حين انني في السابعة عشرة.. واعزب.. لكن إلى جانب هذا.. هناك ما هو مشترك بيننا، فهو يحب الفن ويمارس الرسم التشكيلي خفية وزهدا في الشهرة المزّيفة.. وانا احلم بان اكون كاتبا. اما ما يحيط بهذا كله ويتوّجه.. هو اننا نحن الاثنين من اللاجئين في بلادنا. استمعت امي الى محاضرتي باهتمام شديد، وقالت لي: انت من يوم يومك بتحب معاشرة الكبار.. بس انتبه ودير بالك. طمأنت امي. تناولت كتابا استرخي هناك قريبا مني وشرعت في قراءته، وعندما ابتدأ الظلام في الهبوط على بيتنا وعلى كتابي.. كان لا بد من أشعل القنديل واواصل القراءة.

بعد ايام توجّهت امي الارملة للعمل غسّالة في بيوت اليهود، فيما توجهت انا الى صديقي في دكانه، وقد كنت مستمعا له ومستمتعا به، حد انني احببت الا ينقضي الوقت، واقر ّان الجلوس اليه كان بمثابة قراءة اخرى في كتاب ذكي. ومضت أشهر وانا اتردّد على دكان صديقي ذاك، الى ان قال لي ذات جلسة إنه ينوي ان يسافر لزيارة اهل زوجته الأجنبية، فسألته عن الوقت الذي سيقضيه هناك، فرد ليس اقل من شهر.

بعد خمسة عشر يوما مررت بالقرب من دكانه ففوجئت به وقد جلس هناك في مدخلها على تنكته التاريخية العريقة، ووضع راسه بين يديه. ما إن رآني حتى هتف بي:

- جيت؟..

لم اجب ورددت عليه بنظرة متسائلة عن سبب عودته قبل انتهاء فترة رحلته المتوقعة.

-  هذه حكاية يطول شرحها..

أجابني وتلالٌ مشجّرةٌ بالحزن تطلّ من عينيه.

- ما الذي حدث؟.. هتفتُ به.

- ما حدث لا يتحمّله انسان. قال وهو ينظر إلى الفضاء الممتدّ امامنا في الشارع.

شعرت بنوع من الكرب، واجتاحتني حالة من القلق المشوب بحب الاستطلاع، ووجدتني ادخل في حالة من الصمت. بدا ان صديقي شعر بما شعرت به، فشرع في اغلاق دكانه، وأمسكني من يدي، لأجد نفسي إلى جانبه في سيارته، ولننطلق بالتالي إلى قريته المهجّرة الساكنة في روحه وقلبه.

اوقف سيارته بالقرب من عين الماء، الاثر الوحيد القائم من قريته. نزل من سيارته، سار وسرت وراءه، أمسك بزهرةِ نبتةٍ يابسةٍ وقذف بها إلى عصفور حلّق قريبًا.. طفرت دمعة إلى عينه، وقال لي:

-  لقد تدمّرت.. طرقت بابي نكبة اخرى.

ارسلت تجاهه نظرة متسائلة، في محاولة مني لتشجيعه على البوح وعدم قطع تسلسل أخيلته، فتجاهل نظرتي وسرح في فضاء قريته واشجارها وتمتم:

- لو بقينا هنا.. ما حدث كلّ هذا.

وجدتني اندفع هاتفا به:

- ما الذي حدث.. قلبي لا يتحمل أكثر.

- زوجتي رفضت العودة الى البلاد. قال كأنما هو يهوي بحمل ثقيل أرهق كاهله.

قال هذا وعاد يرسل نظرة إلى العصفور والزهرة. ويضيف:

- لقد فررت اوروبا كلها.. لا يوجد فيها لا زهرة ولا عصفور يشبهني.. خسارة..

ومدّ يده متحسّسًا ريش ذلك العصفور.. بحنو وحنان.

مضى الوقت بطيئا بين دمعة وذكرى.. ووجدته يتوجّه إليّ ونحن نستقل سيارته عائدين إلى ناصرتنا:

- انت بتحب كتابة القصص.. وبتحلم تكون كاتب.. صح؟

هتفت به دون ارادة مني:

- صح.

أضاف:

- انت بتحتاج لأجواء مريحة لكتابة القصص. صح؟

انتشيت:

- صح.

عندها نطق بما مهّد له:

- شو رايك تيجي انت وامك للسكن عندي.. بيتي كبير وبتسع النا كلنا.

اجتاحني شعورٌ حلوٌ، خاصة انني حلمت فعلا أن أغلب التهجير بالقصص، وها هي الفرصة تحين لأن أجد الوقت الكافي والنور الكافي للكتابة.

في طريق العودة الى بيتي، رحت أتصوّر ما سوف انعم به من راحة وهدوء بال، ووقت للكتابة، بل تصوّرت ان الله بعث لي أخيرًا ماري هاسكل*، في اهاب رجل فلسطيني لاجئ مثل حالاتي، واخذتُ امني نفسي بكتابة قصص تهز ّالعالم وتؤكد له ان طرد اهلي من قريتهم لم يقضِ عليهم وإنما فتح المجالَ بشكل أو بآخر.. لأن تزدهر في حديقتهم الف زهرة.. وغابة من الاحلام. تمنيت لو ان الطريق قصر لأصل إلى بيتنا في حي الصفافرة، بأسرع وقت ولأخبرها بنبأ الحلم الرائع الذي طرق اخيرًا ابواب حياتي وطموحي. عندما وصلت بيتنا، لم تكن أمي هناك.. استلقيت تحت شجرة الليمون في حاكورة بيتنا الفقير المتواضع. ونمت على حلمي الجميل. لأشعر بعد لحظات بيد امي تسوّي شعري وتطلب منّي ان ادخل إلى البيت لارتاح هناك. قبل ان انام اخبرت امي بما اقترحه علي صديقي المكلوم.. فسألتني وانت شو رايك، فقلبت سؤالها.. بالأول قولي انت. عندها غرست امي عينها في عيني.. فكرك في بيت في الدنيا ممكن يكون أفضل من بيتنا؟ عندها خجلت من امي ولم اعد الى اقتراح صديقي.. بتاتا.

***

قصة: ناجي ظاهر

....................

* ماري هاسكل الامريكية راعية جبران خليل جبران وداعمته في مسيرته الإبداعية الصعبة.

أريد لحظة الدهشة

في عمق التقاء تفاصيلنا الصغيرة

عندما أخبرتني إنك تقرأ

كتاباً لابن الفارض

ورأيته يطل علي بذات غلافه

الأزرق من تحت وسادتي

حينها وضعت درجة

جديدة في سلم

ارتقائنا نحو الهناك

حيث نلتقي

بلا مواعيد

بين دفتي

كتاب

بين

أبعاد صورة ما

بين

نغمة

و

أخرى

تتنزل

من حنجرة

مترفة

بارتعشات

مضيئة

حينما يغني

بوب مارلي

*

I wanna love you

And treat you right

I wanna love you

Every day and every night

*

ويسري صوته من نافذتك

ليروي فيني عطش اللحظة

وتصدح أوصالي

مع ويتني هيوستن

*

I will always love you

My darling, you,

*

أريد لحظة الدهشة

حينما تحدث الأرض السماء

بلغتنا

أنا

و

أنت

تعالي

فترقد

في

حجرها

غيمة

غيمة

أريد كل اللحظات التي تؤسس لعالم

لا يحتمل غثيان التكرار الباهت

وجمود الفكرة

أريد أن يصفق الورد

كلما اعتليت منصة القصيد

لتهديني نصاً

تبدأه بي

وتختمه بي

أن تكتبني

حبيبتي

أريدها

أحبها

أعشقها

بكل لغات الدنيا

نعم اعتمدني قصيدة بلا نهاية

لكي لا تكف الدهشة

عن مغازلتي

كل صباح

بقبلة

تمسك بي أكثر

واسمعْ

درويش

"وانتظرها

إلى أن يقول لك الليل لم يبق غيركما في الوجود، فخذها إلى موتك المشتهى وانتظرها"

*

ودعنا نرقص مع الفيتوري

ذاك الشاهق

*

"في حضرة من أهوى.. عبثت بي الأشواق

حدّقتُ بلا وجه.. ورقصت بلا ساق"

*

هي لحظات ستشكلنا

لوحة

والحب

جدار

للدهشة

هي

نظرة

من لوحة داڤينشي

تتبع وجهك

وتربك خط السير

إلى غير عيوني

اتبعها

وسافر

لحكايا

المدن

البعيدة

ووجوه

اللقاء

العديدة

في قصيدة

في كتاب

أو

في

مجاميع الغناء

وانتظرني

ليت شعري

أنا

كم لبثت

أشعل

الرؤيا

قناديلاً

وأطفو

فوق

بحر

الأمنيات

أبحث

عن

أصابعنا

التي

ترتل

الأشعار

وجعاً

ثم

لوناً

ساحراً

في سماء

اللحظات .

***

أريج محمد أحمد - السودان - مصر

25/4/2024

 

حينما يشتهى الضوءُ

أن يرسمَ لوحة

تتأهب الأشجار فترتدي جبّة الربيع

وتمشّط الجداول بريقها

فتغفو الألوان على غيمة

من حديث الصّباح

حينما يريد الضوء أن يكتبَ قصيدةً

يرسمُ في خيالاته جسرًا

يعانق ذاكرةُ الأزمان

فتضيء دروب الحب

وتُزهر الأماني

حكمةُ القصيدة

أن تنسجُ الأفكارُ من حريرِ اللغةِ

شاعرًا ينثرُ أحرفَهُ على صفحاتِ الأملِ

ويتأملُ في صمتِهِ:

هل يُستعادُ الذي أضاعته الروحُ في زحامِ العمر؟

هل تلتقي الأرواحُ ما بين سطرين

في لغزِ الوجودِ؟

ربما..

إنما..

حكمةُ القصيدةِ

حين تكشفُ الكلماتُ

عن وجهها للإلهامِ

تختفي الحروف..

وتبقى المعاني صامدة

في عروشِها !

حينما يسدل الضوء ثوبَه

تتلمسُ الظلماتِ قلبها

تتشابك الأفكار

على مسرح المعاني

بحثا عن معنى عميق أو رسالة خفية

تتماهى مع المصير.

و حينما يريد أن يخلّد قصيدتَهُ

يدّعي أنّها أسطورة

مازالت تُروى .

***

ريما آل كلزلي

مرتضي  العربيد النزق، الذي لا يرضى أو يقنع باللذة القليلة، ولا بالبهجة الضئيلة، أفنى عمره، وشبابه الزاهر، في مطاردة شهواتة التي لا تكاد تنقضي، وحال الشباب في السودان في تلك الفترة، كان لا يختلف كثيراً عن حال الشباب في المنطقة العربية، فكلهم لم يكن يعوزهم الرواء، ولا الخنا، ولا الرغبة الملحة،  ومرتضى الذي تخرج من كلية الهندسة بتقدير ممتاز، كان مقياس النجاح عنده، أن يظفر ويوفق إلى كل ما يريد، وأن يستمتع بمباهج الحياة في اسراف وغلو، وقد يكون السبب في ذلك، أنه لم يجد من يمنعة عن الفتنة، أو يعصمه عن الغواية، فقد نشأ يتيماً توفي أبواه وهو في ميعة الصبا الأغر، وتكفل خاله "خالد" المهندس المدني برعايته، وخالد "المدني" اللقب الذي توافق الناس على منادته به، نسبة للقسم الذي تخرج منه وبرع فيه، كان طموحه الناهض أن يحرر شباب قريته من قيود الماضي، لقد تأثر "المدني"بالحضارة الغربية، التي أطلع على ما فيها من ألوان الحياة، حينما كان طالباً في كلية الهندسة بأحد جامعات الاتحاد السوفيتي في ستينيات القرن المنصرم، وأراد بعد عودته أن يستأنف حياته الحرة المتهتكة، في قريته الواقعة على ضفاف النيل الأزرق، ولكنه لاقى ضروباً من المشقة، وألواناً من العنت، و"المدني" هذا كان لا يضيق بشيء مثل ضيقه من أعراف وتقاليد المجتمعات التقليدية، التي كانت تستهجن اللذة المحرمة، وتحصي على صاحبها الأنفاس، وتبث حوله العيون، لكل هذه الأسباب كان يستبد به الملل، ويسرع إليه الضجر، وينتظر بفارغ الصبر وظيفته التي يتأهب للنهوض بأعبائها الجسام، فقد تعلم من الغرب كيف يتفانى في أداء وظيفته، ويعرف قيمتها، ولايقصر في فرائضها، لقد سئم"المدني" من قريته، ومن بساتينها الممتدة، ورياضها الجميلة، لأنه يعيش على غير سجيته وسط أهله وعترته، فهو مضطر لهذا الاحتشام المتكلف، والوقار المستعار، ووالد المهندس خالد الذي كان أول شيء جرى على خاطره بعد عودة إبنه، هو أن يزوجه من بنت أخية، لذا كان ينتظر أن يثوب إلى ابنه شيء من الرشد، حتى يكمل له مراسم قرانه، فوالد"المدني" يرى أن الزواج عاملاً أساسياً في اصلاح ولده، وأن ولده سيحب بنته أخيه، وسيسعد بهذا الحب، وبهذا ستنتهي قصته مع العبث، وستسكن نزواته بعد حركة، وتخمد شهواته بعد نشاط، ولكن صولات " المدني" في الحق لم يوقفها إلا نسيس الموت، تزوج "المدني" من بنت عمه وهي صبية في الخامسة عشر، أو السادسةعشر من عمرها، ومضى بها إلى مقر عمله في الخرطوم، والصبية التي استولى عليها الخوف المروّع، من فكرة العيش بمعية بن عمها الذي كانت لا تعرف عنه إلا القليل، أدركت فيما بعد أنه وثيق الصلة بهذه الحركة الفكرية العنيفة، التي تلزم صاحبها بأن يزهد في العبادات والشعائر الدينية،  وهذه الحركة التي كانت تتراكم، وتتراكب، حتى غطت مساحات واسعة من أنحاء العالم، قد يعرف الناس من أمرها وقد ينكرون، ولكن" المدني" آمن بها، لأنها كانت تدفعة إلى الغضب الجامح، والسخط العنيف على الأنظمة الحاكمة، كما أنها كانت تذلل له شائك الحياة الاجتماعية التي تتعارض مع طريقته في الحياة، فهذه الحركة مزاج بين التمرد، والعهر، والمعارضة السياسية.

 وبعد الزواج عاد"المدني" على ما كان عليه، شديد العاطفة، قوي الكلف و الحس بالنساء، ولعل الزواج زاده شغفاً والحاحاً، فصار يكثر من مغامراته مع "الجنس اللطيف" وكأنه سيرتحل عن هذه الحياة في القريب العاجل، لقد كانت كل المشكلات التي تتألف منها حياته، كيف يضحي بالقليل من حريته التي يريد أن يحتفظ بها ما وسعه الاحتفاظ، لتتلائم مع الضروريات التي تقتضيها حياته الطارئة الجديدة التي تحيط به وتؤثر فيه، ولعل الشيء المحقق أنه أحسّ أن والده قد ورطه في هذه الخطوة التي تخالف طبيعته وحريته التي عبث الزواج بحدودها وآمالها، وفي الجانب الآخرأخذت"نفيسة" المشرقة النفس، المبسوطة الأسارير، تراقب زوجها الذي يتهيأ للنهوض

وتستطلع حركاته، ونفيسة كما نعلم قد نشأت في قرية على ألوان من العقائد، تقتضي من صاحبها الالتزام بها، مهما لاقى فيها من جهد وضيق، ومن أهم هذه المثل والعقائد طاعة زوجها، والصبر على علاته، وعدم النفوذ إلى دقائقه،  هذه الأشياء توشك أن تكون "ديناً" عند ممن هم على شاكلة نفيسة، لأجل ذلك كانت تستحي حتى من النظر إلى ملامح زوجها، ولم تحيط هي بتقاطيع وجهه، هل هي غائرة أم عميقة، إلا بعد فترة طويلة من عيشها معه في بيت الزوجية، ونفيسة التي لم تظفر من زوجها إلا بِشْرِ ما تظفر به الزوجات،  حرصت رغم معاناتها مع الخيانة، أن تقنع عقلها بأن حياتها مع "المدني" في جملتها وتفصيلها، كانت مزاجاً من الجمال والقبح، والسعادة والتعاسة، واللذة والألم، "فالمدني" الذي يألفها حقاً، ويحبها فعلاً، ولم تتغير عاطفته تجاهها مطلقاً، عجز أن يغل نزواته أو يقيدها، ونفيسة التي لم تترك خيانة "المدني" لها أي قسطاً من أمل، أو حظاً من عزاء، سعت أن تكبح من جماح زوجها، وتكفكف من غلوائه، ولما فشلت في مساعيها أخذت تضيق "بالمدني"، وتقسو عليه، ولا تلقاه إلا عابسة ساخطة، فضاق بها المدني، وأرسلها مع أولاده الصغار إلى قريته، وحرص على أن يأتي إليهم نهاية كل شهر، فيقضي معهم يومين أو ثلاثة، ثم يعود إلى الخرطوم التي يهيم فيها بكل ما هو جميل ورائع، ويظهر هذا الوله، وذاك التدله بأي امرأة يلقاها، ويتكلف هذا العشق الفاسد إلى أبعد حد، وينخرط في عوالمه وضروبه إلى أوسع مدى.

في هذا البيت الذي انصرفت سيدته عنه، نشأ مرتضي الذي سيقيم حياته على الخطيئة، ويعكف عليها حينما يكبر، مدللاً مرفهاً، وقد ساعده ثراء خاله، وحبه له، وعطفه عليه، ألا تقطب الدنيا جبينها عليه إلا بمقدار، وقد أكتسب مرتضى من هذا البيت باقة من الخصال التي أعانته على أن يشق طريقه في الحياة، وقد أسعفته هذه الخصال أن ينال جل ما أراد، فهو بخلاف هذه الابتسامة الساخرة التي ترتسم على محياه دائماً، كان نابها ذكياً مثل خاله"المدني"، وصاحب سحر طاغي، يستطيع أن يؤثل مكانته في القلوب، وسلطانه على النفوس، كما كان صاحبنا، صاحب حظ عظيم من الرقي، واللباقة، وخفة الظل، ومرتضى مثل خاله "المدني" في عشق النساء والافتتان بهن، فما يرى أي غادة هيفاء، في أي روضة فيحاء، إلا سعى لأن يوقعها في أسره، ويسمعها حديثه الماتع الذي يخلب الألباب، ويملأ أذناها بالوهم، والخيال، والأمل، في زواج قاصد، وبيت رفيع الدعائم، ولكن وعود هذه الشقي على كثرتها لم تستحيل إلى زواج سعيد، كانت مجرد وعود يستدرج بها قطيع الحسان إلى مخدعه، ولم يشقي مرتضى عقله، أو قلبه، أو ضميره، بمصير ضحيته التي يتحول حبها له إلى غضب عارم، ثم يغسل هذا الغضب العارم، دموع ساخنة لا يتوقف وكفها إلا في مشقة وجهد، ثم تنصرف بعد ذلك محزونة مستيئسة عنه، هكذا تمضي حياة مرتضى كما مضت حياة خاله "المدني" لا يحد حظها من الحركة، ونصيبها من النشاط، إلا علة طارئة تجبر هدير مخدعه على الخفوت، ومرتضى الذي كان يُكْبِر خاله "خالد المدني" ويُعْظِمه، أثار مرضه وهلاكه شططاً عليه، ودفعه لأن يظهر حزناً وأسى لا سابق عهد له به، ثم أخذت الأحداث تتلاقح، والخطوب تتدافع، ففي قريته والجموع ما زالت تترى معزية في فقد خاله، تناول مرتضى طعامه وهو كارهاً له، ومتبرماً به، فإذا بسيارة عسكرية، ينزل منها رجل قاسي الملامح، حاد الغضب، فظ الطباع، لا يعرف العار ولا يرضاه، يجر خلفه شقيقته وقريبتها، إنها "منى" الرائعة، العذبة، التي كانت تذيقه ألواناً من الدعة والنعيم في شقته التي استأجرها خصيصاً لفسقه وضلاله، ولكن ما أسرع ما ضاق بها هي وبنت خالتها "سلوى"، ولكن مهلاً، ترى ما هو سبب هذه الزيارة الكريمة التي أتحفوه بها؟ قطعاً هم لم يتجشموا المشاق، ويقطعوا كل تلك الرحلة المضنية من أجل إظهار الحزن واللوعة على فقد خاله، ومرتضى الذي كان يعتقد أن حياته ستمضي في هدوء شامل، وسلام كامل، أفسدت عليه "منى وسلوى" كل شيء، وأبغضت إليه كل شيء، وأحس شيئاً مما تحسه النفس وهي في مثل هذا الموقف العصيب الذي ناله فيه ما ناله من الضعة والصغار، لقد أحس مرتضى لأول مرة بالندم على حياته الناضبة، و داهمه احساس جامح بأنه يبغض خاله الراحل، ويسرف في بغضه، فهو من عبّدَ له هذا الطريق الحافل بالزيغ والآثام، وهو الذي جعل شره أكثر من خيره، لقد أسدلت "منى وسلوى" أطوار القبول والرضا عن حياته السابقة، وفتحن له أبواب التوبة، ومددن له من أسبابها، لقد اضطر مرتضى أمام توبيخ أسرته، وتهديد شقيق منى وسلوى أن يرضخ ويتزوج منهن، بعد علم بأن كلاهما حامل سفاحاً منه، وأخضعه شقيق" زوجتيه" لأن يوقع على مبلغ طائل من المال في مؤخر الصداق حتى لا يقدم على طلاقهن بعد وقت قصير.

ولم يرد مرتضى نفسه إلى الأمن، وقلبه إلى الطمأنينة طويلا، ليمضي في تلك التوبة التي سكت صوتها سريعا، لقد ترك مرتضى تلك الحياة التي ثقلت عليه، بعد أن أجبرته الظروف على الزواج، والزواج كان آخر شيء يطمح إليه، ترك مرتضى إذن منى وسلوى في قريته كما ترك خاله المدني نفيسة، وعاد لحياته السابقة، عاد لحريته المسرفة التي يبيح فيها كل لذة، ويمعن فيها في كل مجون، عاد الشقي كما كان يبتكر المعاني، ويتقن الأساليب، ويحسن الاختيار، ويعود نهاية كل شهر لزوجتيه وولديه، تماماً كما كان يفعل خاله "المدني" في حياته، والغريب أن مرتضى بعد أن طافت به هذه الخطوب، ورجع لحياته العابثة، أصبح أكثر قدرة على الحركة والاضطراب، وأميل إلى التروي والانتقاء، وأحرص على الاستمتاع بضروب الملذات في شره وعنف، وسار على هذا النهج حتى حضرته الوفاة، وطوته يد المنون.

***

د. الطيب النقر

 

لَا،

فَالْعَبَاءَةُ مَا تَزَالُ مُعَلَّقَةْ،

هذي،

وَتَبْدو كُلَّ فَرْضٍ مُشْرِقَةْ

*

في كُلِّ فَجْرٍ تَقْتَفي صَوْتَ الْأَذَانِ

تَظــلُّ فـي صَـادِ الصَّــلَاةِ مُـحَــدِّقَــةْ

*

تَرْنُو لَـهَا سَجَّادَةٌ،

أَوْ تُرْبَةٌ

كَــانَتْ تَـمَـــسُّ جَبينَهَا كَـــيْ تَعْتِقَهْ

*

أُمِّــــي تُــــرَدِّدُهَـــا الْــمَنَــاجِـــلُ كُــلَّمَـــا

رَفَّتْ بِكَـــفِّ الْكَــادِحينَ الْمِطْـرَقَةْ

*

كَانَتْ تَلُمُّ الْغَيْمَ،

تـُحْصي غَيْثَهُ،

وَبِهِ تُسَافِرُ لِلْفَلَاةِ لِتُنْفِقَهْ

*

أُمِّي لَيَذْكُرُهَا الْعِرَاقُ،

فَطَالَمَا

اتـَّحَــدَتْ بَقَايَاهَـــا لِتَحْمِــلَ بَيْرَقَهْ

*

الْأُمَّهَــاتُ صَهَرَنَ أَحْــزَانَ الْعِرَاقِ

وَصِغْنَ مِنْهَــا أَلْفَ بُشْرَى مُورِقَةْ

*

وَنَـحَتْنَ فَــــوْقَ الْمَــاءِ هَيْبَةَ فَــــارِسٍ

من نَضْرَةِ الْأَشْجَارِ يَـجْمَعُ فَيْلَقَهْ

*

وَنَسْجْنَ مِنْ قَصَبِ الْـجَنُوبِ حِكَايَةً

تُــرْوَى إِذَا مَــــا الْمَــوْجُ شَـــاكَسَ زَوْرَقَهْ

*

بِنْتُ الْعِرَاقِ مِنَ الثَّرَى ابْتَكَرَتْ حُروفاً

وَانْبَرَتْ لِلْمُسْتَحيلِ لِتَمْحَقَهْ

*

وَتُزَخْرِفُ الْمَعْنَى عَفَافاً،

يَزْدَهي

بِنُضَارِهِ شَوْقُ الْقُرَى الْمُتَـرَقْرِقَةْ

*

وَتُـجَدْوِلُ الطُّرُقَاتِ بِاسْمِ اللَّا انْتِمَاءِ

لِــــتَــتَّــقــــي شَــــــــرَّ الــظُّــنُــــونِ الضَّــيِّـقَــــةْ

*

تَنُّورُهَا الطِّينيُّ يَرْقَبُ كُحْلَ كُوخٍ

يَشْــــرَئِبُّ قُبَيْــلَ عُــــشِّ الــزَّقْــزَقَــةْ

*

أُمِّي *.

تُسَامِرُهَا مَوَاويلُ الرَّغيفِ

بِـحُضْنِ سَاقِيَةٍ تُـهَدْهِدُ زَنْبَقَةْ

*

أُمِّي تـَحُجُّ لَـهَا النُّجُومُ لِتَحْتَسي

مَــــاءَ الْـخُلُودِ بِكَفِّهَا الْمُتَصَدِّقَةْ

*

أُمِّي عَلَى الْكَلِمَاتِ روحُ صِفَاتِـهَا

تَطْفو،

وَحَفَّ بِـهَا السَّنَا كَيْ تَسْرِقَهْ

*

يَتَصَفَّحُ الصَّفْصَافُ سُـمْرَتَـهَا،

وَبِالْقُبُلَاتِ يَرْشُقُهَا الْخِضَابُ

لِتَرْشُقَهْ

*

يَتَضَــوَّعُ الرَّيـْحَــانُ مُبْتَهِلاً إِذَا

نَادَى بـَهَا مَاءُ الدِّلَاءِ لِتُهْرِقَهْ

*

وَإِذَا اسْتَجَارَ بـِهَا الْمَدَى مِـمَّا بَدَا

وَشَكَـــا عِنَــــادَ غُــيُــومِــــهِ الْمُتَفَــرِّقَـــةْ

*

وَصَفَتْ لَهُ عِشْقَ الْعِرَاقِ تـَميمَةً

لِـيَـعــودَ مَنْتَصِــراً عَــلَــى مَـــا أَرَّقَـــهْ

*

وَطَني الَّــذي قَصَدَ الْـحـُسَيْنُ تُــرَابَهُ

هَلْ يَسْتَطيعُ الْـحُرُّ أَلّا يَعْشَقَهْ؟

***

عبد الكريم الياسري

البصرة في آذار 2014

القصيدة منشورة في مجموعتي "حين يحتفل القصب"

 

نمضي على سنن الدهور ونعبرُ

حينا تجاملنا وحينا تغدرُ

*

لكننا مستسلمون لأمرها

فيما عبرناه وما لا نعبرُ.

*

عجبا نرى منها العجيب ونصبرُ

ونلوذ بالصمت الرهيب ونسكرُ

*

ونعاتب الايام بعد دوالها

لكنما الايام منا تضجرُ

*

نأتي إلى الأرضين دون إرادةٍ

ونعدُّ عمرًا فات وهو مبعثرُ

*

نرجو بقاءً لا لعمر زائف

ندري كتاب العمر يوما ينشرُ

*

يا أيها الدرب الطويل، أما عرف

ت حكايتي، أني إذن لمقصرُ

*

ألأنَّ شعري لم يصلك نحيبُهُ؟

ام أن في مغناي شدوًا يسحرُ

*

أدركت فيّ محبة لا تختفي

فظننت اني عاشق متهوّرُ

*

ارجوك لا ترمِ السهامَ بخافقي

فلقد رميت وذي سهامك تخبرُ

*

صرنا انا والجرح ظلينِ معا

ما أن يمر الحزنُ ظلي يكبرُ

*

وتعوًّدَ الدرب الطويل طرافتي

عجبا لجرحي، كيف مثلي يصبرُ

*

ها أنت تحمل ما حملت مرددًا

من ذا يعيدك يا زمان ويحضرُ

*

الموت اشقاني وأن لم يقترب

مني ولكن منه يشقى المخبرُ

*

عرج إلى روحي، فقد افزعتني

الهمُّ يأكلني وناريَ تسعرُ

*

هي لعبةُ الأيامِ ندري أنّها

لا بد يوما يلتقيك المحشرُ

***

د. جاسم الخالدي

لكن

كيف ذلك...؟!

وعبق

طهارتها

اكسير الحياة

*

يحق لها أن تفخر

وتضاهي

شموخ

نخلة باسقة

خطوة وئيدة

*

التبسّم

سلاحها العتيد

كلما قذفت بين خطوات قدميها

نفايات

توصف تعسّفا بالبشرية

*

تتشبث

بكل ما أوتيت من قوة

فحلمها

قاب شهقة أو أدنى

*

تسطع لناظريها

حقيقة

يُحاوَل تدليسها

آه يا فرج الله

القريب

***

ابتسام الحاج زكي/ العراق

 

من نُطفةِ التكوينْ

والتَخْليقِ والتحْليقِ

والطينِ الحزينْ

وفي مدى هذي الحياةْ

وعلى صدى هذا الزمانْ

أنا خُلِقْتُ محكوماً عليَّ

بلَعْنَةِ الشِعْرِ المُؤبَّدْ

وجَمْرَةِ الحُبِّ المُبَدَّدْ

وحِكْمَةِ الموتِ المُؤَكَّدْ

وعواصفِ الآلامِ والأحلامِ

والخساراتِ الثقيلةِ

والذكرياتِ المَريرةِ

وخَيْبةِ الوطنِ المُشَرِّدْ ،

وأنا المُشَرَّدُ

والمُجَرَّدْ

منْ ترابِهِ

وبساتينِهِ

ومنْ هوائهِ

ومنْ رافدِيْهْ

ومنْ حضنِ أُمي

التي لمْ تحْتَضِنْ

في غيابي

سوى صوري

في المنافي

وفي غُرْبَتي

وضياعيَ

الفادحِ

والجارحِ

والقاسي

حدَّ البكاءِ

والنحيبِ

والعويلْ

في ليلِ

البلادِ الغريبةِ

الخادعِ

والفاجعِ

والطويييييلْ

مثلَ أنفاسِ

جبلٍ ثلجيٍّ

في " أتلانتكِ "

الخوفِ

والمجهولِ

والغرقى

والدَمِ

والحيتانِ

والموتِ الثقييييييييلْ

***

سعد جاسم - كندا

 

لا دخلَ لي

إنها مهمتَك

بأن تسألَ ثيابي

التي تترنحُ بلا حياءٍ في خِزانتها ..

أو

تتقافزُ على حبالِ الغسيل!

ومهمتُكَ

أن تعرفَ أسبابَ غناءِ القاطرةِ

التي تحملُ زجاجاتِ عطري الفاتن

عندما قبّلتني أوَّلَ مـن أمس!

صارت كُتبي

تقفزُ كما لاعبو السيرك ..

صحونُ الدارِ ترقصُ الباليَه ..

وأنا أضحكُ ـ فجأةً ـ بلا سبب

في اجتماعات العمل السخيفة ..

أهزُّ كتفي للمرآةِ ..

أغمزُ لعصافيرِ شارعِنا المخبُولِ

وأشعرُ أني في كل زحامٍ

أكادُ أهمُّ بفتحِ البابِ

وأركضُ...أركضُ

كي أرمِي نفسي في النهرِ

وإذا انتصفَ الليل

أزغردُ فرحًا

وأغمُض عينيَّ على قبلتِكَ!

***

سمرقند الجابري

(*) من مجموعتي (رابط لأغنية ساحرة) منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2023.

بماذا كانت تفكر قبل أن تكتب رسالتها الأخيرة؟

 يقال بأن العقل يعلمك بموتك قبل أن يتوقف عن العمل بعد توقف القلب بثوانٍ معدودة. ترى مكانك محلقًا كطائر سنونو مهاجر، تغادر بلا جمهور، وبلا وجوه تبكيك. لم يفكر أحد أن يضع على قبرك وردةً، فهم متعبون من أجل البحث عنك في هذا الفراغ السخيّ. تمر سنون حياتك سريعًا كضباب يخترق أشجار صنوبر باردة فلا تستطيع عين كاميرا من التقاط صورة ثابتة. تموت " سحر سيف الدين " ولكن قبل هذا لابد أنها قد شاهدت نهرًا جاريًا يمر من تحت أقدامها، فقد كانت تفكر في الماء طوال ثلاثة أيام مضت. روحها رفعت قبل أن تبلل عطشها برشفة فتلاشى السراب في لحظة. ترهّلت كل أفكارها وأصيبت باليأس فعلا، حي لا أحد يسمع أنينهم المبدد في الظلام. كل ما فيها إلى جانب عائلتها المكونة من سبعة أشخاص تبعثروا في عرض الصحراء بعدما تاهوا فيها وانقطعت بهم السبل. تاركين حياة أخرى تمرح في قمصان معلقة في الخزانات، ورائحة بهارات على رف المطبخ، وبعضًا من قوارير العطر أوشكت على الانتهاء، وزجاجات ماء ليس لها غطاء، تبخرت في ثلاجة بيتهم المستأجر في مدينة " الفاشر " أما دجاجاتهم العشر فأوصوا بها جارتهم الكفيفة وصبي لها ترعاه. يعرفون بأنه ربما يسرقها ومع هذا تركوها له، وراحوا بكل أشواقهم وقدرهم الغريب ليعانقوا أبيهم وأخيهم ناصر اللذين مضى على استقرارهم في ليبيا أكثر من أريع سنوات طرزت بالصور والرسائل لا غير. الجثث الثمانية تبعثرت حتى احترقت جلودهم السمراء. فلم تقو ضباع الصحراء على مضغها حتى. على مقربة من سحر سمعت عظام أخيها آدم وهي تتكسر. آدم الذي حفر بيديه قبره كان يعاني من هشاشة العظام وأمراض أخرى نمت معه منذ ولادته. هي من كانت تشعل له ضوء الأباجورة وتحكي له عن الجدة " ريحانة " عن قصصها الخرافية، وعن أصناف الطعام الليبي الذي وعودوا بتذوقه حال وصولهم إلى مدينة " الكفرة " التي يتوجهون لها في الغد. كم بدا بريئاً تحت نور الأبجورة الخافت، بملامحه الجذابة وابتسامة الرضا تعلو شفتيه الممتلئتين. نام غارقا في أحلامه بعدما طبعت على جبينه قبلة. القبلة التي وشمت بها جلده اليابس وهو يموت أمامها نطقت باسم يحب أن ينادى به " دودي " وكان له وقع غريب في نفسه، بالكاد تعرفت على صوتها وهي تناديه فقد جف الماء في فمها. بعد خمسة أشهر من العثور على جثث العائلة المفقودة في الصحراء والذين قضوا من الجوع والعطش. تبين أن الأم " عرفة " ماتت منذ اليوم الثاني. في سلام تام نامت ولم تستيقظ بعدما هبط لديها السكري فلم تتذوق حلاوة عناق زوجها أو ابنها صلاح ولا حتى من كان معها في الرحلة المشؤومة. تلاها آدم الذي نادت عليه أخته سحر " دودي .. دودي " مرات عدة، وفي المرة الأخيرة صحا فزعاً وهو يسأل: " ماذا هناك؟ أأنتم بخير؟ " لم تتمكن من السيطرة على نفسها هذه المرة، ضحكت بصوت عالٍ وهي تقلب الهاتف الذي في يدها، تفرك عينيها المسهدتين، وتتعثر في خطواتها. يغمرها خوف وحشي وهي تلقى نظرة خاطفة على جثث من حولها. على ملابسهم التي طويت بعناية، وحقائبهم اللامعة، وأحلامهم الشاردة، وجوازات سفرهم التي لم يسافروا بها من قبل. في حين وعدت أمها فور عودتهم من ليبيا أن تحج معها إلى بيت الله الحرام هذا العام. نظرت إلى هداياهم التي تخلوا عن مصروفهم من أجلها. إلى هاتفها الساكن حيث لا إشارة تنطلق منه، نظرت وبددت وعودها في صرخة كبيرة. سألت نفسها عن مزاجها الذي تعكر بسبب زوجها الكسول وهي تسترق الوقت من أجل أخذ حمام سريع فهي لا تحب السفر إلا بعدما تغتسل وتتطيب بالبخور السوداني المعتق. أكانت الصحراء تستحق كل ذلك؟ ماذا عنه وهو يحيط ابنها الأوسط " عثمان " بذراعيه خوفًا عليه من أن يسقط في حفرة آدم. لقد بدت الصحراء الشاسعة كسجن بلا قضبان. كتمت مرة أخرى صرختها أثناء ما حملتهم سيارات الإسعاف. فقد فات الأوان، وحان أوان كتابة رسالتها الأخيرة التي سيجدونها في حقيبتها المعلقة في رقبتها الهزيلة. قبل ذلك كان لابد من الالتفات إلى أختها الكبرى " سلوى " التي كانت تنازع، بالكاد كانت ترى ظلها بعدما غمرتها الرمال. بدت كشعاع خارج من بؤبؤ قط في ليلة شديدة الظلمة. سلوى التي كانت تحلم بخطيبها عبدالقادر وهي تزف إلى سرير الليبي الغريب، في غرفة فندق مزروع على أطراف قرية نائية في أرخبيل واحات بلدة الجوف، سمعته سحر يدندن داخل الحمام بلغة غريبة وهو يستحم استعدادً لاستقبال عروسه. فضحكت بحسرة. أحست بأن سلوى تحلم وكأنها في فيلم قديم، متخيلة بأن خطيبها الوسيم سيخرج فجأة من وراء أحد أعمدة المرمر، وبيده سيجارة، لتتبعه بثوبها السوداني الذي يصدر حفيفاً كلما مس الأرض. فجأة ضحكت وهي تشم رائحة فمها التي أزعجتها، مررت لسانها على أسنانها الأمامية فتوقف. لجأت إلى حبة حلوى احتفظت بها في حقيبتها، وبمجرد أن مدت يدها تذكرت آدم الذي كان يحب الحلوى. فرمتها في حفرته الصغيرة بعدما زحفت على بطنها إليه، وحين وجدته قد مات فعلا لم تبك. اكتفت بالصراخ، لقد أحست بأنه لا ماء في جسدها، لقد ذبل بشكل رهيب. في أنفاسها الأخيرة تذكرت آخر كتاب قرأت فيه عبارة " لا تنظر في عيني جريح " المقلتان المتحجرتان تلتقطان انعكاس الخوف الذي غشاها بعدما أيقنت أنها آخر من يموت من عائلتها. لن تحدق في عيني أمها ولا سلوى ولا مصطفى ولا أبنائه الثلاثة. فهي تخاف أن ترى فيها سرًا قديمًا، أو ندبة أخفوها بحذق. ربما تدفعها الشفقة على نفسها فتمص أصابعهم التي فقدت أناملها من كثر ما أكلوا أظافرهم. تقول في نفسها وهي تخرج القلم من حقيبة مصطفى الشاعر المغمور: نبدو كمن ابتلع لحظات الرعب كلها. ونحن نخفي هلعًا داخل ثيابنا. لقد شهدت واحدًا من أبناء مصطفى وهو يأكل جربوعًا ميتًا، ما دعا والده إلى الإنزواء عند عجلة السيارة المقلوبة ويبكي طويلاً جراء فعلته. هو يعلم أن الخوف سيتسرب من سرَّته، ويهوي عليه بقبضته المؤجلة كلما غادر مقعده الدافئ، مخلّفًا وراءه بقع دم يابسة وثلاث غزالات لم يُغمض أحد أعينهم. ثمة رسالة كتبتها سحر، غمستهم في حوض ماء شربوا منه واغتسلوا وضحكوا كثيرًا بعدما أخرجتهم من حفرة واسعة في صحراء لا تلمع فيها إلا بضعة نجوم..

نص الرسالة

" إلى من يجد هذي الورقة.. هذا رقم أخي محمد سيف الدين.. استودعكم الله وسامحوني أنني لم أوصل أمي إليكم.. بابا وناصر بحبكم. ادعوا لينا بالرحمة وأهدونا قرآن واعملوا لينا سبيل مويه هنا "

***

بلقيس الملحم - شاعرة وقاصة من السعودية

...............................

* القصة مستوحاة من قصة مأساوية.. تم العثور على 8 جثث لأفراد عائلة سودانية في الصحراء الليبية قضوا نحبهم في عرض الصحراء عطشاً وجوعاً مع وصية مؤثرة من إحدى الضحايا بتاريخ 15 فبراير 2021

 

أجيد جلد الذات

بسوط النكت السمجة

من دفين الوجع أبدعها

وبملح الدمع أشكلها

هكذا أضمن انتشارها

بين أقراني من ذوي الخيبات

في وطن يجيد ترشيد الحرقة

ليبلغ الكمد محله

عربي أنا.....

أستمتع بالنوم في العراء

السماء خيمتي ....والنجوم ندماء

يوثقون لحظات احتراقي

الكلاب الضالة تدفيء ظهري

والقطط تشاكس نومي

وأنا أزاحمها في علبة الكرتون

حيث الصغار وانا ننتظر

ما تجود به الموائد المستديرة

من بقايا اللصوص المبجلة

*

عربي أنا.....

من قال أريد مستشفى او مدرسة

جامعة...او حتى مرحاضا

التبول على الجدران يشعرك بكينونتك

وموتك على الرصيف يمنحك هالة

في الهواتف العابرة ...

متسعافي جرائد الغد ....

وجنازة تليق ....على شاشة الفايسبوك

*

عربي أنا.....

أرضع حلمة العراء

كيما أصاب بالسمنة

أعجن الفراغ رغيفا

على أبنائي وأحفادي...أوزعه

ويبقى حق الجيران محفوظا

في جراب الحاوي

كيف لا وعشرون درهما

أخرجتنا من النماء

لنحتل مرتبة الهراء

*

عربي أنا......

لا حاجة لي بعلم أو كتاب

فشاشة التلفاز كفيلة بتعليمي

كيف يكون الرقص على الجراح

كيف بالجهل تضمن بطاقة انتماء

بالكي تخرس ضميرك

إن انتابته نوبة الوعي والدهاء

*

عربي أنا......

ومن مثلي تجاوز صبر أيوب

وأنا في الألفية الثالثة

مازلت أسكن الكهوف؟

بمحراث الانتظار أحرث المدى

على امتداد الأزمنة اشتل الامل

في عيون الغضب

عل مطرقة الجلاد تسقط يوما

ليتحرر الغيم المعتقل

على افق الزمان

يعود الأمان الهارب في كل الجهات

*

ها قد جرف النهر الحقيقة

اختنق الافق باللعنات

فاي مصالحة تعيد للوطن لغاته الضائعة

لتتحرر الانفاس الرقراقة

من قيود الصمت الثقيلة

لنردد على مرأى الماضي ومسمع الآتي

نشيد الخلاص؟

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

أنا ضوءُ المِصباحِ

يا فَراشتي

فمن حُدودي لا تقتربي

وعلى مَشارفِ الخَطرِ

أبداً لا تَحُومي

تَعالَي حين أخبو

أو عندما يعتريني وَهَنٌ

أو رُبَّما حينما يراودني النُّعاسُ

أنا على جناحيكِ السَاحرين

خطرٌ

في حُضني جمرٌ ونارٌ

وموتٌ وفناءٌ

رَقَصاتُك تُسيلُ لُعابي

فلا تُكثِري من فنونِ إغرائي

إن دَنَوتِ

أخشى أن تَختلَّ كُلُّ مَوازيني

ويَعتري بوصِلتي النِّسيانُ

لا تُبعثري أدراجَ الرِّياحِ

كُلَّ ابتهالاتي

ولا تَطمَعي في رَباطةِ جَأشي

ولا في بَريقِ أحداقي

أنا لَكِ المَوتُ الزُؤامُ

والبعدُ عني هو الحَياةُ

أنا الأضَّدادُ في دُنيا الخَياراتِ

حلوٌ ومرٌ

عِشقٌ وكُرهٌ

حصيفةً كُوني

فسذاجةٌ أن تُجازفي

في لُعبةِ المغامراتِ

غازلي كُلَّ الزُّهورِ

وارتاحي فوقَ كُلِّ الأغصَانِ

وتُراقَصي أمامَ عتباتِ السُّلطانِ

وداعِبي جَدائِلَ الأميراتِ

في القُصورِ

ولَكِن حَذارِ

أن يُثيرَ غَرائِزُك لَمَعاني

فالدُّخولُ إلى حُجراتي

أَسْرٌ من غير إطلاقِ سَراحٍ

مشروطٍ أو بغيرِ شروطٍ

هل رأيت أحداً

من العُشَّاقِ

يَتضَرُّعُ إليكِ

من أجل أن تَرحلي

ويناشدُكِ مُتوسلاً أن تَهجُري؟

أنا الوَلُوعُ الماقِتُ

والهائِمُ الباغضُ

أنا الفَخُّ لأَمالِكِ

وأنا الشَّركُ لأَحلامِكِ

هُمُودي هو الكَمينُ

وسَكينَتي لَونُ المَكيدةِ

نامي في عُيونِ القَمرِ

أو فوقَ وسَائِدِ السُّحُبِ

ولَكِن أبداً لا تَختَبِري

سِعَةَ صَدري

فتُطيحُ بِرِقَّةِ جَناحَيكِ

ذاتَ مرةٍ

ثُورةُ غَضبي

***

جورج عازار

ستوكهولم السويد

أتساءل ذات نهار عندما لمحت ورقة برتقال تتدحرج بإتجاه بركة حبر على الجانب الآخر من كومة الكتب المركونة على الطاولة....

أتساءل لماذا نحتاج إلى الإمساك بحفنة من الخيال حتى ننثرها على سفح كتاباتنا لنأتي بتلك الملامح العالقة داخلنا...

في هذه الصباحات التي تصنع من خيوط الشمس بدايات لفصل الحرائق...فصل رائحة الخبز والمطر والأبجديات المزهرة....

بعد الركود الحرفي الذي نخر في كتاباتي الشتوية والقحط الذي غزى مفرداتي في فصل البكاء...

كنت تسألني متى أقطع صيامي الكتابي وأخرج من معتكفي الحبري...؟

الآن حرفي يتمدد قليلاً كفراشة تخرج للحياة من شرنقتها.....

عندما كنت تكتب لي تقول في آخر السطر... إنك تعيد قراءة إمرأة المطر في كل مرة لمحاولة منك لنتشالي من مستنقع الضجر وإستحضار حرفي على قارعة الورق...

بهذه الأسطر التي تتدلى منها عناقيد حرف أخبرك إنني أشرع لكتابة نص يعيدني إلى ضجيج الحياة مرة أخرى.

***

مريم الشكيلية /سلطنة عمان....

عُرف زميلُنا الصحفي مشهور حبيب بحبه الطاغي للنساء، وبقدرته الفائقة في الاستحواذ على اهتمامهن، بل ومواعدتهن والخروج معهن، ولم يكن يميز بين فتاة ما زالت في بداية طريقها وبين امرأة متزوجة او مطلقة او ارملة، فكلهن لديه سواء، الامر الذي كان يثير حفيظتنا نحن زملاءه الصحفيين السبعة العاملين في الصحيفة، ويدفعنا الى حب المراقبة والاستطلاع، صحيح اننا كنا غير راضين عن فعائله تلك، الا اننا كنا في نفس الوقت نتساءل عما يفعله ليستحوذ عليهن منتقلا من واحدة الى اخرى، وحدث اننا سهرنا ليلة العيد الكبير، نحن العاملين في الصحيفة، حتى ساعة متأخرة من الليل، وامتدت بنا احاديث الغوى والهوى ، فاغتنمت الجو وسألته عما يفعله للنساء كي يكسب ثقتهن بتلك السهولة الواضحة، فهو ما ان تنتهي علاقته بإحداهن، بهذه الطريقة او تلك، حتى يشرع بأخرى. فابتسم وقال: شوف لكل امرأة يوجد مفتاح، انهن مثل الاقفال المغلقة، فاذا ما عثرت على مفتاح احداهن فإنها لن تلبث الا ان تستسلم لك.. ان عاجلا وان اجلا، وذكر عددا من الطرق الأخرى منها انه يحاول في المقابلة الاولى مع من يقع عليها الاختيار، يحاول بكل جهده ان يعرف مما تعاني، فيعرض عليها خدماته وينفذ وعوده لها غير عابئ بأية خسارة مالية.. فالمال غاد ورائح، اما كيف يقترب منها جسديا فقد ذكر انه في البداية يحاول ان يدفعها للضحك ليكسر جدار الخجل، فاذا ما امّنت له وضحكت.. او ظهر سنّها، فانك تكون قد اقتربت خطوة نحوها، اما الخطوة الاخيرة فهي ان تباغتها على حين غرة باقتطافك قبلة سريعة من عنقود خدها. وعندما اعربت عن استغرابي قال: لا تستغرب. الحكي احيانا لا ينفع، اضف الى هذا ان معظم فتياتنا ونسائنا، اذا لم يكن كلهن يخشين ان يبحن بأي اقتراب جسدي منهن، ثم ماذا ستقول الواحدة منهن لولي امرها.. ان فلانًا باسني؟ عندها ستعاقب اكثر وهو ما يجعلها تلجا الى الصمت.

تصرفات حبيب.. نا.. هذه، دفعتنا نحن زملاءه الصحفيين السبعة، لأن نفكر في تلقينه درسا واذا تطلب الامر اكثر، في حسن الاخلاق والابتعاد عن الاضرار ببنات الناس، فأخذنا ننتظر الفرصة المناسبة لتلقينه مثل هذا الدرس.. او الدروس، وكان ان انضم ذات يوم مستخدم بسيط وربما ساذج الى طاقم العاملين في الصحيفة، فوجدناها فرصة سانحة لمعرفة ما غمض او غاب من اخبار حبيب، وسألناه عما يطلبه مقابل خدمة بسيطة يقدّمها للجمع، فسارع الى القول رغيف فلافل من المحل في الطابق الاول، تحت مكاتب الصحيفة، ضحكنا يومها وسألناه عما اذا كان لا يهمه ان يعرف ما هي تلك الخدمة المطلوبة ام لا..، فرد علينا من طرفي شفتيه: بالأول رغيف الفلافل بعدها كل شيء يهون. عندها ايقنا اننا وجدنا الثغرة للحد من غي حبيب وتماديه على بنات العالم، فقدّمنا اول رغيف فلافل لزميلنا الساذج، ونحن نقول له: كل ما نطلبه منك هو ان تضع الزميل مشهور حبيب تحت المراقبة وان توافينا بأخباره اولا بأول. ابتسم ساذج الصحيفة وهو يرسل النا من طرف عينه نظرة الفاهم. قال هذه مقدور عليها.. وابتدأ المراقبة.

لم يمض سوى يوم واحد حتى جاءنا بالخبر المتوقع، ان حبيب يقف قبالة بيت قريب من مكاتب الصحيفة، صبيحة كل يوم، ينتظر ان يخرج رجل من بيته، وفور خروجه من هناك يدخل هو، وهل رأيت ماذا يفعل هناك؟ سألنا ساذج.. نا، فرد بأنفة عربية نعرفها اكثر من الجميع، ولوّ وشو بده يعمل.. وقال بخفر.. بعمل اللي بعمله الزلمة مع المرة. عندها ابتسمنا ونحن نشعر بمفاجأة حقيقية.. رغم اننا توقعنا مثل تلك الخبرية، قدمنا الى ساذج.. نا.. رغيف فلافل ساخنا يرتفع منها البخار، واجتمعنا لنفكر في ماذا بامكننا ان نفعل ازاء مثل ذاك الإدّ العظيم، وتوصلنا الى اننا يجب ان نضع حدا لتلك المهزلة والا نُمكّنها من التفاقم، منعا لمضاعفات قد لا تحمد عقباها. وكان ان اتفقنا على ان نطلب من ساذج.. نا.. ان يترقب خروج حبيب من بيت تلك المرأة وان يدخل اليها ويحذرها قائلا.. ان زوجها طلب منه ان يقوم بمراقبتها، وان ضميره لم يطاوعه فيتسبب في خراب بيتها.

ابتسم الساذج ومضى وهو يقول هذه تحتاج الى رغيفي فلافل، فوعدناه بثلاثة ارغفة، اذا ما نجح في مهمته تلك. دخل الساذج في اليوم التالي متهلّل الاسارير، وهو يقول انه ما ان حذر تلك المرأة.. كما اتفقنا معه، حتى امتقع وجهها، واغلقت باب بيتها مُقسمة انه لن يفتح الا لزوجها. للحق نقول اننا شككنا فيما قاله ذلك الساذج، غير اننا ما لبثنا ان صرفنا ذلك الشك مستبدلين اياه بالقين، اما كيف حصل ذلك، فقد رأينا زميلنا حبيب يدخل مكاتب الجريدة مبكرا على غير عادته في الفترة الاخيرة، وعلى وجهه علامات غضب وانكسار، وكان ان ادنيت فمي من اذنه لأساله عمّا به، فأرسل نظرة غاضبة نحوي، ولم يجب. عندها ايقنت ان علاقته بتلك المرأة قد انتهت.. وان عهد عبثه بها وببيتها.. قد ولى.

في الايام التالية تواصل ظهور الغضب على وجه حبيب، الا انه ما لبث بعد فترة، ان استعاد فرحه الهارب، فسألته عن السبب من منطلق المحبة والطمأنينة، فأرسل نحوي نظرة انتصار وتمتم قائلا: لقد غمزت الصنارة مجددا. واعترف انني حاولت ان اعرف منه المزيد، الا انه اصرّ على صمته، الأمر الذي دفعني إلى عقد اجتماع حضره الزملاء الموظفون السبعة.. زائد ساذج الجريدة، وكان ان جدّدنا فترة توكيل الساذج بتشديد المراقبة، غاب الساذج يومين وفي الثالث عاد ليقول لنا انه رأى حبيب.. نا.. برفقة صبية من جيل بناته، في الحرش القريب. وعندما طلبنا منه ان يُفصّل في القول.. رد قائلا: بستحي. عندها قدمنا اليه رغيف الفلافل المطلوب، وصرفناه للتداول في الحل، وكان اول ما اتفقنا عليه هو ان يقوم الساذج بمراقبة تلك الفتاة ووضعها تحت المجهر، وكما حصل في المرة السابقة، غاب الساذج يوما ونصف اليوم وجاب لنا الاخبار: الفتاة/ ضحية مشهور حبيب.. هذه المرة من عائلة محافظة، وعدد اخوتها ثلاثة، وهم معروفون بالشراسة وعدم التسامح مع من يقع بين ايديهم. بعد التشاور فيما بيننا، توصلنا هذه المرة الى انني سأقوم برقن مكتوب تحذيري نلتهب ومجهول التوقيع، اعلم فيه حبيبا بما علمنا به عن تلك الفتاة، وان اطلب من الساذج، ان يدزّه اليه بطريقة متقنة. فوعدني الساذج خيرا. بعد يومين دخل حبيب وهو يزفر مثل افعى زارطة، فأيقنت ان سهمَنا قد اصاب هذه المرة ايضا، وسالت حبيبا عما به، فنفر بي قائلا: عفّ عني.

دخل حبيب مجددا في حالة من الحزن، الا انه ما لبث ان خرج منها فرحا، وبالغ في فرحه فعزم كل موظفي الجريدة على اكلة فلافل مفتخرة، اكلنا الفلافل هذه المرة جماعة، وما ان انتهى العرض حتى غمزنا الساذج موحين اليه ان يجدد مراقبته، ولم يطُل انتظارُنا هذه المرة، فسرعان ما عاد الينا الساذج وعلى لسانه قصة مثيرة مفادها: ان حبيبنا يتردد على بيت امرأة مطلقة وام لسبعة شباب!! ما ان سمعنا هذا حتى انتابتنا حالة من القلق، وقبل ان نطلب من الساذج ان يقوم بأية مهمة تحذيرية، جاءنا يقول.. ان ابن تلك المطلقة قد داهم غرفة امه بعد دخول حبيب اليها، وانه قد صوّب نحو راسه مسدسه، قائلا له اما ان تقتل واما ان تعقد قرنك على امي، فاختار حبيب اهون الشرين.. وعقد قرانه على تلك المطلقة، تحت التهديد بالمسدس. ولم يكن امام حبيب من مفرّ، فدعانا الى عقد حفل عقد قرانه على تلك المطلقة، فاستجبنا لدعوته ورقصنا.. ورقص ساذج.. نا.. كما لم يرقص من قبل.. في حين توقف حبيب حائرا وغير مصدق ما حدث معه.

***

قصة: ناجي ظاهر

(نص من وحي قصيدة الشاعرة المبدعة جوانا احسان: ناقوط لا يجف)

تتحرين عن إيقاع

حارس الليل

وتسمعين صفارته

في ليلة باردة ..

**

والعاشق يتخفى في ظلال

الغيمة الشاردة..

فتصيرين في ليالي الشتاء

إمرأة ماردة ..

**

وتفر منك طقوس الهوى

وتبقين شاخصاً في الضباب

وأناك معلقٌ بالغياب

وتذوبين كقطعة سكر

في إناء معطر

والرذاذ يسيح

على زجاج النافذة ..

مقدرٌ ان يسيح

في لمحة واعدة ..

**

وقطرة الزنبقة ،

تعطر هذا الجمال الرخيم

وتمسي اشتياقا وهمسا وصبا

يلامس روحها في الشوق حبا

**

من يسرق هذا الشذى والاريج

من يقتفي أثر الضبية الشاردة..؟

**

وقطرتك الثالثة

رهان هذا الزمان

على العشق

فلا الشمس تمحو الزمان

ولا الزمان ينسى الهيام

ويمسحه دفعة واحدة ..

**

واللعنة ،

لا توقف انسياح الرذاذ

على الزجاج

ولا تمنع اريج الياسمين

ستجعل الشمس تذوب

في الليالي الباردة..

**

تظلين تنقطين الصفاء والنقاء

وتظل القطرة تسيح في المخيلة

وشذى القطرة في الزنبقة

وعلى سطح القرميد قطرات

لا يشغلها وهج الشمس.. !!

***

د. جودت العاني

27/ نيسان/ 2024

أتمنى ان انفض عني غبار السنين

وأعود طفلة  بضفائرها الجميلة

قلبها صاف وروحها ندية

لكني أوصيها ان لا تكبر

مثل دميتي

التي البستها ثوب حائط المبكى

كنت أحدثها عن قاربنا المثقوب

وعن كثبان الرمل المنسية

وعن وعود  مسيلمة

وهلوساته القديمة

ضاعت وعوده  بين محطات كثيرة

قلقة دميتي ... تبكي وأد فراشاتي

في أمسيات الغروب

وعصافير مملكتي التي حطت أكنانها بعيدا

كانت تغفو بأحضان تلك الشجرة

وكان مسيلمة  يعشقها هو الآخر

تغفو جفونه تحت ظلالها  مطمئنة

كانت الشجرة  تواسيه

وتسمع ثرثرته الدائمة

كانت تمسد شعره وهو يقبلها

قبلة عاشق محموم

يبحث عن عطرها وعن انفاسها

وفي ليلة ظلماء

طوقها برباط خيباته

وطواحين ذكرياتهم تغدو  كاذبة

كم نبيا يحتاج   لتصدقه

وقلبها   اختار اللارجعة

لن اطوي صفحة من كتابي

ولكن حرقه  هو الأجدى

مذ بكى مسيلمة ندما

ومذ فاضت  الوديان بدموع التماسيح

ومذ شهدت نبوءته تلك الشجرة

ومذ ادعى انه يصلي خاشعا

في  أماكن متعددة

وادعى انها أميرته للأبد

ثلاثون عاما ونيف  يتفيأ ظلالها

كنومة  ثعلب  حاصره  المطر

لكنه عمدا  تزحلق بتبوله

ومضى تاركا  عفنه تحت ظلها

رويدا رويدا انحنى جذعها

لكنها لم تسقط ...أبدا

***

سنية عبد عون رشو

تنهيدةٌ

ترسمُ انحناءات الرّيحِ

على أدراجِ الغفلةِ

نشيجٌ ..

يحشرجُ بكلِّ لغاتِ الوجعِ  !

وشياطينُ الدَّهاءِ

تسخرُ من همسِ الملائكةِ

وتتمادى في نزوحِ المعنى

من بوتقةِ الحرفِ

وتُدَحرجهُ عن جبينِ الغفلةِ !

كلُّ الملامحِ متشابهةٌ

في التّيهِ

لا تبحثُ عن بدائلَ !

انعدامُ الصّوتِ ..

ارتجافُ القصيدةِ ..

موتُ المجازِ ..

يتدحرجونَ عنوةً من مساماتهم

ويحتلّونَ مسافاتٍ هلاميّةً

في اللا جدوى

ونحنُ

نهاجرُ في حافلةِ الغيابِ

لنغرقَ بالهذيانِ

تحملُنا محطّاتٌ منسيّةٌ

وتَرْمينا

على قارعةِ الضّيقِ

الحربُ ..

دمَّرَتْ آلهةَ الحبِّ ..

وباتتْ فريسةً للوَجَعِ

نترَنَّحُ

بكلِّ أكاذيبِ الرُّوحِ

ونهذي بأشجارٍ قُطِعَتْ أغصانُها

ونامتْ

بأحضانِ الحرائقِ

لعدم ِ صلاحيَّة الصَّحوِ

يبكي الصَّحوُ

الأرقُ

والقلقُ

في زمنٍ كسيحٍ

أضاعَ الخُطى

في بوتقَةِ اليأسِ

نسيتُ .. كيفَ أرسمُ

ملامح قلبي

ونسيتُ عقلي

على حافةِ الجنونِ

حينَ تهشَّمتْ روحي

بكلِّ مفرداتِ اليأسِ

وبكلِّ الأفكارِ المحنَّطةِ

حين كُتِبَتْ تفاصيلُ الذّاكرةِ

وأُعيدتْ صياغتها

بالأكاذيبِ المُسَربلةِ

بالسَّلوى

تنبشُ رفاةَ الكونِ

ولا تعيدُ صياغتهُ

فتَنْثرهُ هباءً

على قارعَةِ التَّيه ..

***

سلام البهية السماوي

أيـنَ رَدُّ الـردِّ يـا نـسلَ القـرودِ

يا سـلـيلَ الـبغي مِنْ تـلكَ العُـهودِ**

*

أيُّـها الـسـفّاحُ مـا تُـدعى بـهِ

نَـتَـنُ الانـتانِ مِنْ صُـلبِ الـيهودِ

*

هـذه غَـــزّةُ مــا زِلـتَ بـها

خـاسـئًا تَـقـري هــلاكًا للـجـنودِ**

*

أيُّـها الـسـفّاحُ هـذا يـومُـكُمْ

لـعـنـةٌ فـيـهِ وصِـدقٌ للـوعــودِ

*

إنَّ وعـدَ اللهِ حـقٌّ فـابـشروا

بـهـلاكٍ وشـتـاتٍ كـالـجِــدودِ

*

مـا يـزالُ الـتِـيـهُ لـكنْ مـا بـهِ

غـيرَ مـوتٍ نـاطرٍ أهـلَ الـجـحودِ

*

فـطـعامُ الـمَـنِّ والـسـلوى غـدا

مِنْ صـواريخٍ أتى عِـبـرَ الـحـدودِ

*

أيـنَ ردُّ الـردِّ يـا سِــنخَ الـخـنا

إنّ يـومَ الحسـمِ في سـكبِ الـوقـودِ**

*

جُـرمُكُمْ أفـضى وهـذا مـا أرى

لِـمَــزيــدٍ مِـنْ دمــــاءٍ وصـمــودِ

*

إنَّ نَـصـرَ اللهِ آتٍ فـافـعــلـوا

مـا تـشاؤون وزيـدوا بـالـقــيـودِ

*

فـالـدماءُ الـطُهرُ طُـوفـانًا غـدَتْ

وهي غِـسـلـيـنٌ لِـظَـــلّامٍ حـقــودِ

*

لا لأمـريـكا ومَـنْ حـــالَـفَـها

قِـدرةُ الـتـغـيـير في هـذا الـوجـودِ

*

سُـنـنُ الـخـالـقِ تـجـري رغـمَهُـمْ

دونها كَمْ حاولوا وضعَ الـسـدودِ**

*

إنَّ يـومَ الـفصلِ هـذا قـدرٌ

لـسـرابٍ انتهت كـلُّ الـجهودٍ

*

فـكـيانُ الـبـغي حـتـمًـا زائـلٌ

قـدْ أتى الـطُـوفانُ مِنْ بـعـدِ الركـودِ

*

وبــهِ أنـهـى بـقـــايـا ســكـرةٍ

لـبـني صِـهـيونَ مِـنْ بـعـدِ الـرقـودِ

*

إنّ يــومَ الـفـصـلِ هــذا جـاحمٌ

وأدَ الـحُـــلـمَ وأيـــــامَ الـسَـعـودِ

*

ولـقـد أزرى بـمـيـزانِ الـقـوى

ومَـفـاهـيـمٍ غـدتْ فـوقَ الـسُـفـودِ**

*

يا بـني صهـيـونَ هـذا يـومُـكُـمْ

يــومُ عــادٍ إنْ نـسِـيـتُـمْ وثَـمُــودِ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك/ كوبنهاجن

الثلاثاء في 23 نيسان 2024

.....................

** تُـقري: أي تُطعم

** ينسِلُ: يُولدُ

** سِـنخ الخنا: أصل الرذيلة

** سُنن: جمع سُنة وهي الطريق

** السُـفود: جمع سِـفـد وهو سيخ من حديد لشي اللحم

نُكوص

تجاوزتُ السبعين، صارت سنيني كأحجدارِ الدومينو،  لا استطيع اللعبَ بها، وحدي.

**

حُب

تُوفيَ والدي، قرأتُ في دفاترهِ، جميعَ أسراري، لم يحدّثني عن أيّ منها، قَط.

**

ندَم

ارتكبتُ جريمةً، ذاتَ عُمْر، عندما أنقذتُ نفسي، أعرفُ ذلك الآن.

**

عجز

لقد مات، كانَ أعزَّ صديق، ما الذي فعلتُه، قرأتُ الفاتحة، تبّاً.

**

سلوى

نظرتُ في صوري القديمة، كل أصدقائي يحدّقون بي، لم يفعلوا ذلك من قبل.

**

آفة

إلتقانا بزّيّهِ المُرقّط، كأنّنا في مَجلسِ حَرب، أبلهاً، بليداً، مُجبَرٌ أن أُنصِت، لكلّ زمانٍ دولةٌ... وبِغال.

**

نَكَد

ماذا، أتظنّونَ أني مَجنون، لأني أنشأتُ حسابَ انستاجرام لقطّتي، الجميعُ يفعلُ ذلك، بلا وعي.

**

نسبية

إنّهُ ولَد، ولَد، صرخَ في غرفةِ الولادةِ ليلاً، لم يستيقظْ،  سوى أبيه.

**

انتكاسة

ذلك التائه، عادت اليهِ الذاكرة، فارغةً تماماً.

**

الزهايمر

تُرىٰ، ما الذي حدث، نادىٰ بأعلى صوته، وكان الجميعُ بقربه.

**

مؤاساة

أنتَ بأمان، قلتُها برفق، وضَعتُ يدي على كتِفه، وأنا أكثرُ خوفاً منه.

**

ذهول

طالما تساءلتُ، ما الذي يعنيهِ التفكيرُ بصوتٍ مرتفع، حتى رأيتُ امرأةً تناديني، بابتسامةٍ غامضة.

**

نفاق

لن ألتقطَ ورقةَ النقودِ من الأرض، فلا أنحني أبداً للمال، يالها من خدعة.

**

مرارة

رسموا خطّاً لا ينبغي تجاوزه، الجانبُ الآخرُ بلا خطوط، قصةً وطن.

**

اعتراف

أحبّ أن أتركَ آثاري على الثلج، وأنظر خلفي، ذلكَ ما أجيده، بلا أخطاء.

**

عادل الحنظل

يحدث أن تسير بغير أفق وبدون بوصلة كنت تملكها يومًا وأنت في البحر فوق ذلك المركب الذي وجدت نفسك فيه، تحدّد الاتجاهات إلى محيطات ومرافئ في مهمة العمل المنوطة إليك، زائرًا أو محاربًا فوق سفينة حربية تزور دول وجزر العالم الجميلة، تلك المهام محدّدة بدقة المسافات والوقت حتى الوصول.

لكن أيضًا يحدث أن يراك شخص وأنت تسير في طريقك لا يلتفت إليك أحدٌ. شبه تائه، بعيدًا عن الحاضر لا تعرف هدفك أو موضع قدمك في وسط هذا الشارع المزدحم بالمطاعم والكافيهات متوجهًا بنظرك إلى استقرار المكان المناسب. النادلات الأجنبيات واقفات أمامك، شبه انحناءات متواضعة، يرحبون بقدومك، تردّ بالمثل، هذا المشهد ربما استهوى إحدى النادلات التي ربما كانت تتابع خطواتك حتى تصل إليها.

شدّتني تلك الابتسامة الساحرة التي يمكن أن يقع أحد الرجال في حبّها، لكنها كانت الخطيئة عندما التوى كاحلي الأيمن بين الخطوة الأخيرة قبل الوصول. جاءت مسرعة تحاول مساعدتي في النهوض وبعض الألم يضرب كاحلي.

- سيدي: هل أنت بخير؟

- أعتقد ذلك.

- دعني أكلّم الإسعاف!

- لا داعي لذلك، فقط أريد الجلوس.

بينما كنت أنهض، وضعت يدي بيديها حتى استقام جسمي واضعًا راحة يدي على كتفها الأيمن.

- تفضّل، اجلس هنا. أين مصدر الألم؟

- إنه هنا، في الكاحل الأيمن.

- دعني أضع بعض الثلج، وسوف تشعر بالراحة.

وعندها عودتها نزعت الجورب الرمادي القطني الذي أرتديه، ووضعت الكيس البلاستك بداخله حبات الثلج التي تلمع كالنجوم.

تذكرت تلك المرأة التي أطلقت النكات والسخرية أمام الفيلسوف طاليس المالطي الذي تنبأ بحدوث كسوف للشمس قبل ألفين وخمسمئة عام قبل الميلاد: أنّى لك أن تعلم كلّ شيءٍ عن السماء يا طاليس، وأنت لا تستطيع أن ترى ما تحت قدميك؟ لماذا تبتسم وأنت بهذا الألم؟، تذكرت أحد الفلاسفة.

- يا إلهي، أنت في وجع وتتذكر هذا الفيلسوف؟!

أخبرتها بالقصة، فضحكت، لكنّها ما زالت ممسكة بكيس الثلج فوق كاحلي.

- اعذريني، وهذا ليس شأنك أن تقومي بمساعدتي، أقدّم اعتذاري.

- لا عليك سيّد ...؟،

- اسمي فؤاد، من السعودية. أنتِ امرأة طيبة.

- أنا كاترينا، من الفلبين.

- ربما لن أجد شخصًا ما يسعفني كما تعملي الآن.

- لا عليك، كنت أعمل في خدمة الطوارئ في بلدي، كما تعلم، ليس هناك أمان وظيفي، اضطررت أن أكون نادلة.

لقد قرأت مقالة جميلة، تتحدّث عن ثنائية الوعي لدى الإنسان، إذ يقول الكاتب: الإنسان لا يكفيه أن يوجد وحسب، فالوجود لا يعني الحياة، بل عليه أن يكافح من أن يبقى وأن يحقّق غايات أخرى.

- قبل أن أجيب، أشعر بالخجل وأنتِ كالقرفصاء متكئة على الرجل اليمنى.

- لا تهتم كثيرًا، أمارس الرياضة كلّ يوم بعد الانتهاء من الدوام. سوف أرفع كيس الثلج بعد قليل.

- يبدو عليك، سيّد فؤاد، كاتبًا أو فليسوفًا، للمرة الأولى أسمع هذا المصطلح "ثنائية الوعي"، أعتقد لديَّ ثلاثي ورباعي الوعي! - لماذا تضحك سيّد فؤاد؟

- لأنّها المرة التي أسمع بثلاثية الوعي.

- كيف تشعر الآن؟

- أعتقد أنّ الألم بدأ يختفي، يبدو أنّه انزلاق خفيف. لا أعلم كيف أعبّر عن شكري لك.

- لا عليك، هذا واجب إنساني، دعني أضع لك الجورب القطني الجميل وتنتهي الحالة.

- هل تعلمين أنّ لديك ابتسامة ساحرة وفاتنة آتية من الأعماق؟ أعتقد أنّها سحر اللحظات التي تحدّثنا فيها بطلاقة اللغة الإنجليزية التي تحدّثنا بها.

انكفأت قليلًا ثم اجتاح الخجل وجنتيها وبدأت أشعر بتأثير سحري عليها.

- آه! تذكرت سيّد فؤاد، لدينا جميع الأنواع من القهوة.

بين كسل غير مجادل، اختاري إحداهما.

ابتسمت، كأنّها تريد العودة بسرعة.

أثناء عودتها، اتضح أنّ حجم الكوب يصعب حمله بيد واحدة، من باب الدّعابة، قلت: هذا مثل "البانيو"، أستطيع أن أستحم فيه.

ضحكت بصوت عالٍ، والجميع ينظر فاعتذرت كثيرًا لما صدر منّي. وفي ترددها لسؤال كان عالقًا في ذهنها كما يبدو، قالت

- سيّد عامر، أعتقد أنني رأيتك في السناب شات.

- ربما.

- بل متأكدة. كنتَ تحمل كتابًا لكن لم أفقه ما كنت تقوله؟ يبدو أنك تتحدّث عن كتاب.

ابتسمت حينها ثم قهقهت قليلًا، بعيدًا عن المتطفّلين الذين يشاهدون اللقاء، هنيهة، قلت لها:

- تذكري، ربما شخصٌ آخر يشبهني.

- لا، أعتقد إنه أنتَ.

الفرحة كانت غامرة جدًا، إنّها المرة الأولى تحدث لي، وبما أنني سوف أكون بعد قليل في أسرة كتّاب وأدباء "البحرين"، وهي موقع هذه المحادثة.

- سوف أعود إليك سيّدي، هناك زبون قادم.

قبل عودتها ذهبتُ إلى السيارة وأنا أشعر بتحسّن أثناء المشي، التقطت الكتاب من فوق المقعد. بعد عودتها رأت الكتاب:

- هل هذا هو الكتاب؟

- يَسْ، أي نعم، بل متأكدة إنه هو، الكتاب ألوانه متميّزة، هذا ما استقرّ في ذهني.

ابتسمنا جميعًا.

- إذًا أنت مؤلف هذا الكتاب؟

أومأت برأسي لها بِيَسْ، أي نعم.

لم تصدّق خيالها وتذكرها، إنه لكِ آنسة؟،

- أنا كاترينا من دولة الفلبين.

ملأتُ لها الصفحة الأولى بالتوقيع واسمها والتاريخ.

- خذي، إنّها نسختك.

- لكن لا أستطيع فهم لغة الكتاب.

بدأت أشرح لها بإيجاز محتوى الرواية.

قالت: أهذا ما حصل؟ إنّها مؤلمة، لكنها سعيدة في نهايتها. في قراءتي المتعددة للروايات، كثيرًا ما نقرأ النهاية المأساوية، حقًّا أنا سعيدة بذلك، لكن تذكر، ما قاله جلال الدين الرومي: هناك كثير من الأمل، في غياب الأمل.

دُهشت وهي تذكر اسم ابن الرومي، فسألتها:

- هل تعرفينه؟

- نعم، أعرفه، بل العالم يعرفه.

الدهشة بدأت تكبر، يبدو أنّ ما نعرفه عن أنفسنا لا يُعتدّ به قياسًا أمام هذه الفتاة الجميلة والفعل المخجل الذي شعرت به، لقد محقت نفسي في استعلائية قليلة جدًا، لا دلالة لها فوق محور وجهي في الضبابية والانكسار الذي شعرت به!

- سيّدي، هل أنت هنا؟،

- يس... يس، آيام هير، كاترينا، أنا هنا، يبدو أنّ الحديث بدأ ينبض كالجنين في الشهر الثالث، هل تستطيعين الجلوس؟

- انظر إلى داخل المقهى، كان يبدو المدير مستمعًا جيّدًا لحالة النقاش.

سمعته يقول في دهشة: اخلعي تلك المريلة كاترينا، اجلسي معه، أنتِ بخير، سوف أكون معكم بعد قليل، أيّها الدوبامين.

لقد بدأت أشعر بالسعادة والتوازن بعد رحلة الأعباء والأحزان الأخيرة، إنه آلكسند آبرو من كوبا عازف البوق المشهور، إنه أكثر الفنانين البارزين في دولة كوبا، لكنه توقف الآن، زوجته بحرينية، تعرف عليها بعد قصة حب جميلة أثناء زيارتها لدولة كوبا، ما زال يحيي بعض الحفلات في البحرين والخليج.

لم يكن مدير المقهى إلّا فيلسوفًا آخر، اسمي آلكسند آبرو من دولة كوبا، إنّها صدفة أخرى سيّدي، كوبا بلد جميل، لقد زرت كوبا، لكن فقط ميناء قونتانموا في فترة الثمانينيات.

- وماذا تفعل في قونتانموا؟

- كنت عسكريًا بحريًا مبتعثًا من بلدي ومتدربًا فوق إحدى السفن العسكرية الأمريكية.

- عذرًا، ما اسمك؟

- اسمي فؤاد.

- وماذا يعني؟

- القلب.

- اسمٌ رومانسي جميل، لقد سمعت حديثك مع كاترينا، سوف يسعدني مرة أخرى أن نتحدّث عن كتابك، ما عنوانه؟

- "ابن العوّام".

أيقظني رنين الهاتف المحمول أثناء الحديث، نظرنا سويًا، إنه زميلي جعفر، أعتقد أنّني تأخرت، يجب أن أكون في أسرة الأدباء والكتّاب بعد قليل.

- كاترينا، آلكسند، سعيد برؤيتكم جميعًا، شكرًا لك كاترينا، وجودك معي كان مهمًّا في الساعتين التي تحدّثنا فيها، أراكم قريبًا. - مرحبًا جعفر، أنا قادم.

خطرت ببالها فكرة فقالت:

- سيّدي، قبل أن تغادر، هل تقبل أن أعرض هذا الكتاب في الفلبين والمساعدة في ترجمته إلى اللغة الإسبانية، لدينا قرّاء كثيرون. - طبعًا لا أمانع.

- إذًا اتفقنا.

تبادلنا أرقام التواصل، لكن قبل مغادرتها، قلت: إنْ حدث هذا، لك بعض المال من نقاط البيع.

ابتسمت قائلة: لا… سيّدي، إنّها هدية القدر لك. لقد تم دفع الحساب، انظر إنّها إشارة المدير.

رفعت راحة يدي بالشكر لهما جميعًا.

- سؤال أخير، هل تتذكرين اسم الرواية؟

- قالت بابتسامة عريضة: "ابن العوام" بلكنتها الفلبينية الإنجليزية.

صمت الجميع في القاعة وهم ينظرون إليَّ مندهشين: كاترينا ليست هنا سيّد فؤاد، أنت في مجلس الكتّاب والأدباء.

غادر الجميع اللقاء وهم يُردّدون جميعًا بصوت واحد: كاترينا...كاترينا...كاترينا. 

***

فؤاد الجشي

 

اتحرَّى عَنِّي بهذا الفجر البارد

أجدُني أتصيَّرُ لقطراتٍ ثلاث:

*

قطرةٌ تنزلِقُ على نافذةٍ ضبابيَّة

قطرةٌ تشفُّ بالزنبقة البيضاء

قطرةٌ تتجمَّدُ فوقَ القرميد الأحمر

*

أتحرَّى عَنْكَ بهذا الفجر البارد

أجدُك تمسحُ زجاجَ السيَّارة الضَّبابي

هكذا تمسَحُنِي أنا المُتبَلْوِّرة في القطرة الأولى

وبخِرقةٍ رطبة !

*

وأنايَ قد تصيرُ القطرة الثانية،

فأخافُ رَشْقاً..

لَوْ رَشَقَتْ يَدُكَ الزَّنبقة على صبيَّةٍ عابرة

*

وأنايَ قد تصيرُ القطرة الثالثة،

فأسيحُ عِشْقاً..

لَوْ حَنَّتْ الشَّمْسُ بنظرة إلى قرميد بيتِكَ

*

أتحرَّى عنَّا بعدَ ألفِ فجرٍ بارد

أجدُكَ علامةَ تعجُّب لَمْ تتعجَّبْ الحال

وأجدُنِي علامةَ استفهام بهذا السؤال :

كيفَ أنفلِتُ مِنْ لعنةِ الصَّيرورة إلى قطراتٍ ثلاث ؟

وبالرَّهافةِ أتقاطرُ فجراً على شيءٍ يخصُّكَ

كَـ زنبقةٍ بحديقتِكَ

أو نافذةٍ بسيارتِكَ

أو قرميد فوقَ بيتِكَ

عبثاً أحاولُ الجفافَ بآخرِ نُقطة

وأنا بنتُ الناقوط الشَّاعر نُقطة فَـ  نُقطة

*

*

30 / شباط / ألفين وَ أنايَ المُتقاطِرة

***

جوانا إحسان أبلحد

 

بين ذراعيكَ

تضمها ضميمَ

سنبلةَ لمنجل

‏أم أودعتها

‏جبال الحيرة مستلقيةً

‏على سرير سلطان الوَسن

‏واللّيل؟

يسامرُكَ سَعيرُ أبراجِ النّار

‏في لهاثكَ المحمومِ

فلا تَعدَّ المواقيت بين راحتيها

‏مثقالاً بعدَ مثقالٍ

‏كلّما حبِلَتِ الأرضُ

بالعيونِ الكاذباتِ على غصونِ أشجارها

‏ولا تقفْ

‏مثلَ طفلٍ علِقَ على مشاجب

نسيانه

‏رداءَ الصّبا مكللاً بمعطفِ

الكهولةِ

‏وبين يديه غفلة الينابيع وما تبقى

‏من عناقاتِ عشتروت

أمُّ الغواية والغاوياتِ

والْغيّ

مذ تفصّدت البراعمُ

على غصون أشجارها

وأنا أدعو الفصول

إلى صومعة ربيعنا الولهان بالورد

وأغنّي صخبَ أناشيدِكَ الغافيات على

الهُدُبِ

يابزوغَ العُقْلَةِ

على سِعافِ النخيلِ

والتينِ والزيتونِ وما تبقى من الشجر

‏أعتقْ

ذراعي لأرقصَ

‏فالرقصُ قيد المولوي وحُجَّتُه

يلبّى نداءَ روحهِ.

‏أغانيكَ العطشى يا مفصّد الكلماتِ

في شِعري

تندُّ

من ينابيعها خوابي الماء

الزلالِ

‏ومازالتْ تُناديكَ

بلسانِ الطير هامسةً

‏يا غَفولُ

‏أنتَ سيّد الخيالِ الجامحِ

‏في المتُون

وعلى الرّابياتِ الشاهقاتِ

والسُّحبِ.

***

ريما آل كلزلي

نشرات الاخبار الثقافية

التي استجلبها الشعراء

من مسافات ضوئية نائية

وحولوها الى مسائل حسابية معقدة

كانت غير قابلة للحل والتخمين

في نظرالشعراء الذين

ارادوا أن يغيروا العالم

*

بعض الاحيان

الارض لا تعرف كيف تدور

حول قصائدهم

التى خرجت طازجة

من مطفأة السجائر

واعقاب مستميتة

رديئة الانتاج

*

يا ترى مالذي تقوله مشاعرهم الكاذبة

التي ترفضها القلوب

وتهمس بها العيون المخاتلة؟

فاقدوا الذاكرة

يطلقون النار على اوهامهم

وتسافر في رؤوسهم

قصائد وطلاسم عن قضايا تافهة

عالمهم لا يحتاج الى شيء

فهم فقراء أغنياء سعداء

*

ما رايكم ايها الشعراء

لو نرسم اشباح الموتى

على شواهد قبورهم

ما دامت المقابر مزدحمة

بأموات تعرج نحو المراقص الليلية

*

ليس ضروريا ان أتحدى العالم

من وراء النظارات الشمسية

وانا غير مستعد

للسير في جنازات الشعراء

الذين يغرقون الفراهيدي في بحورهم

ويطردون افلاطون من مدينتهم

ويتصرفون كأن ليس هناك في غزة ابادة جماعية

*

معظم الشعراء مصابين بالفشل ولا أقول الشلل

مثلهم كمثل الحكام العرب

يمضون ساعات يتسكعون ولا يكترثون بما يجري

في قطاع غزة

وفي احلامهم الوردية

يفترسهم كابوس المذابح الفلسطينية

*

ولأني شاعر لا افهم لغة الابداع

ماذا سأفعل  بقصائد مرتبكة الهذيان

مكسرة الاجنحة

لا تطيرولا تغرد

لها صدى مبحوح

وعفوية المزاج

خطت حروفها بالذكاء الاصطناعي

*

كل ما اطلبه من الشعراء

ان يساعدونني على دفن النفايات النووية

في قصائدهم

و تنظيم طقوس السير في جنازاتهم

حتى عدسات نظارتي الطبية

لم تعد تحميني من الضوء والحول والانعكاسات

*

غير اني احتاج الى نوع خاص

من المواعيد المؤجلة

لكي اعيد ترتيب

دقات ساعتي اليدوية

بتقنيات رقمية

وانا جالس على مقعد خشبي

تحت ظل شجرة منسية

***

بن يونس ماجن

كان شابا في العقد الثاني من عمره حين قدم اليه صاحب الورشة التي يشتغل بها عرضا مغريا لم يتمالك نفسه الا وقد هوى علي يدي ولي نعمته يقبلهما شاكرا ممنونا، صدر خافق وعيون تعانق البسمات

"اِسمعْ آولدي صالح !.. عشر سنوات وانت تشتغل لدي، أتيتني طفلا باكيا منتحبا من إخوتك الذين أكلوا حقك وما جعلوا لك نصيبا مما تركه أبوك، ويشهد الله انه رغم ترددي واعتراض زوجتي شغلتك وآويتك وأدخلتك بيتي كما لو أنك ابني، كنت عند حسن الظن وما رأيت منك الا الخير: صدق القول وأمانة السلوك ووفاء القصد، ولم تلاحظ عليك للا حبيبة زوجتي غير حسن الخلق ولا منك شكت بنتي للازهور يوما قلة أدب أو زيغ نظر..

أمس وأنا في حديث عائلي مع زوجتي حول الخُّطاب الذين يطلبون يد للازهور اقترحت عليَّ زوجتي:

"لماذا لا يكون صالح الزوج الذي يرضى عنه ضميرنا مذ دخل صبيا بيتنا، فهو مناسب لبنتنا؟.. " وقد قلبت الامر على عدة وجوه بعد أن شغلني بتفكير النضج الذي يجب ان يتسم به رجل حتى يتغلب على رواسب ظلت راسخة من معاناة سابقة ؛وأنت من هذه الناحية رجل ونصف، كما أن للازهور بنتي قادرة على ان تكون ربة بيت تتحلى بكل صفات المرونة والقدرة على التكيف مع التغييرات وعنك لا يغيب هذا الامر كما أنها ستكون أما ناجحة فقد سبق ان ساعدت أمها في تربية اخيها المتوفي، وهي لم تتوقف عن الدراسة الا بعد أن نالت الشهادة الابتدائية، لكن أنت يابني جئتني طفلا وكنت داخل بيتي منطويا على نفسك، حتى المدرسة لم يسعفك الحظ بالجلوس على مقعدها، لكن استطعت ان تملك الحرفة في ورشتنا بمهارة واتقان وذكاء حتى صرت اهلا لتكون معلما يسير مقاولة رغم صغر سنه..

يصمت الحاج قليلا ثم يتابع:

للأمانة وجدتك اليها أنسب من غيرك، رغم فوارق طفيفة ربما ذابت وانت معنا في البيت، فتشربت من عاداتنا وتقاليدنا، وصرنا نعرفك حق المعرفة، أقمت بيننا وحضرت معنا مناسبات عدة فخبرناك، فلماذا نهدي خيرنا لغيرنا؟

صالح يعرف للازهور معرفة يقينية، لم يلاحظ عليها يوما ما قد يشوه سمعتها بشك او حبة خردل من سوء الظن ولئن كان كثيرا ما يسرق اليها النظرات فتبادله بسمات الرضا فذاك لانها كانت تعده قريبا منها، الرجل الوحيد الذي يدخل البيت بإذن أبيها وفي غيابه، حتى أمها لا تتحرج أن يظل شعرها عاريا أو ساقاها مكشوفتان في حضوره وكما تقول عنه للاحبيبة:من خجله لا احد يعرف لون عينيه..

لم يفكر صالح يوما في أن الفرق الزمني الذي بينه وبين للازهور قد تجاوز عمره بكثير، فهي قد أطلت على الأربعين بينما هو لازال في بداية العشرين وما عزم مشغله أن يزوجها له الا بعد أن صار لقب بائرة يلازمها ومن أجله تقطر ماء عيونها، تلازمها التعاسة ويقيم التشاؤم في أعماقها مأتما.. لماذا يرفضها كل من رآها رغم طول قامتها وبياض بشرتها وعيونها الواسعة.؟.أنوثة لا تخفى.. صدر عال وقد ممشوق، لكنها مذ رفضت ابن عمتها لتفسخه ومجونه وعينه التي كانت على مال أبيها صار لايقبل بها أي رجل غيره وكأن يد ميت قد وضعت عليها، كل من اتى لا يعود، وقد أدركت للا حبيبة أن بنتها "انعمل لها عمل" حتى تظل عانسا والفاعل الجاني اللئيم عنها لا تخفى أفاعيل أمه..

خصص الحاج لبنته وزوجها "مصرية" ملحقة ببيته الرحب الفسيح بعد اصلاحات جعلتها اشبه بدويرة كل مافيها ينطق أصالة مغربية تبهر العيون وتثير الدهشة، ونظم عرسا لهما اقام به الحي واقعده حتى صار مضرب مثل في الكرم وتنويع المأكل والمشرب وشغل جوقين أحدهما لطرب الآلة والثاني للملحون.. ورغم هذا البذخ فما سلم الحاج من القوالين:اب اشترى لبنته البائرة صانعا صغيرا لديه..

عاشت للازهور ليلة ليلاء كأنها أميرة فاجأت صالح بما كانت تستبطنه من أحاديث النساء في السطوح وهو يجهله، وقد حاول أن يذيقها بتوجيه منها من متع الحب ما اغتبطت به وعوضت حرمان سنوات العنوسة.. يتعب صالح وتطلب المزيد ؛ مدقوقة فوق صدره بالمسامير ومن اللعب على صدره لا تشبع.. أمها للاحبيبة صارت لا تحملها ارض او تقلها سماء بسروال ابنتها الذي اعمى العيون التي تكلمت واخرس الشفاه التي نطقت بعد أن غاب عنها الخطّاب زمنا ثم كانت إقامة صالح في البيت مبعث وشوشات شك وغيرة من جارات كانت عيونهن لهفة على صالح بما منحه الله من جمال الصورة، رجولة بطول قد، وشعر غزير كشعر الهنود يحرك الأمهات وبناتهن برغبة..

من الشهر الثالث لاحظ صالح ان زوجته صارت تتثاقل، وتزداد مع الشهور سمنة، رقادها صار يطول وتكره أن تصحو، يتستر على ذلك بصبر، لكن ما أغاضه أنها صارت منطوية على نفسها، قلما تبادله حديثا واذا تكلمت أتت كلماتها سخطا ونخطا، وكلما أراد ان يلمسها بليل أظهرت تبرما وضجرا، بل في إحدى المرات ركلته وعنها أبعدته، فأنى له من ليال كانت تمنع عنه النوم وهي بين رقص وغناء كمراهقة صغيرة، وحركات كانت تثيره برغبة، فهي اليوم صارت تنفر حتى من عطره الذي كانت تهواه وهي من اخترته له بذوقها وتصر الا يخرج الا إذا بخته على صدره، تقبله وتعض شفتيه ، وقد تضطره للعودة الى الحمام قبل الخروج.. اليوم صارت كثيرا ما تظل في سريرها تسد دونها باب غرفة نومها، تمنعه الدخول عليها بعد ان تحمل النوم خارجه..

لم يجد صالح غير للا حبيبة يشكوها إهماله من قبل ابنتها وما ركبها من كراهية له بعد ان كانت تمنعه حتى من الذهاب لعمله، وقد سمعها تقول لبنتها ذات يوم:

ـ كُلي وقيِّسي.. خفي على صالح ودعيه يخرج لعمله فأبوك قد انتبه لغياباته الكثيرة..

بسمة واسعة تشرق على وجه للا حبيبة، وصالح يصف لها حالة للازهور: "بنتي حامل !!.. لك الحمد يارب، عوضت يأسي أملا..

هزات صدر بوجيب تغيب عنها العقل بحضور وتحكم ارادي، يرتمي بعضهما على بعض في عناق للخبر السعيد، "قريبا يجد الحاج حفيدا يعوضه ابنه المفقود "، تطوق صالح بذراعيها ضاغطة على صدره، فيبادلها العناق، لم تكتف بقطف قبلتين حارتين من خديه بل تجد اسنانها بشفته السفلى قد تحكمت تاركة نزيفا تألم له صالح والدنيا تدور به لا يدري ما أصابه، ثم تنسحب فارة منه وكأنها تخشى رقابة عليها لتتركه بين قذائف عقله والبيت من حوله يلف به ويدور..

ماذا أصاب للاحبيبة؟.. هل ما قامت به رغبة فيها قد تحركت، أم غيرة فيها قد غلت؟ مقارنة بالحاج زوجها فهي أصغر منه بكثير، لم يتزوجها الا بعد ان طلق زوجتين قبلها كانتا عاقرتين ثم تزوج للاحبيبة وهي لازالت طفلة لم تبلغ سن الرشد ، فوضعت له للازهور ثم ابنا اتى بعدها فمات جراء بوحمرون..

كيف تسمح للاحبيبة أن تتجاوز حدودها مع زوج ابنتها وهي تدرك خجله وتقديره لحرمات بيت انتشله صاحبه من الفقر والعوز وأكرمه بزواج من بنته الوحيدة؟

يتلمس صالح شفته التي ترسل ألما.. لا زالت تنزف اثرا من دم.. يخرج من البيت وكأنه يتلمس الطريق من غبش في عيونه، وهدير في صدره.. يقتعد كرسيا على الطريق لمقهى صغيرة ، يطلب قهوة وكأس ماء، يصبه دفعة واحدة في جوفة.. يترك ورقة نقدية بجانب كأس القهوة ثم ينصرف..

انزوى في ورشة العمل بعيدا عن انظار الحاج. كيف يستطيع ان يتطلع الي وجهه؟ قد يسأله عن جرح شفته !! ماعساه يقول؟.. هل يجرؤ أن يخبره الحقيقة كما تعود الا يحكي له الا الصدق؟وأن زوجته للا حبيبة قد عرت عن وجه غير ما عرفه عنها؟ كيف يجني على نفسه ويشتت بيتين دفعة واحدة؟..

أتى أحد المساعدين يخبره أن الحاج قد سافر الى احدى المدن القريبة لحضور جنازة متعامل معه، وقد انتظره طويلا قبل أن يوصي العامل بتبليغ رسالته الى صالح..

بسرعة يعود صالح الى البيت، يدخل على حماته التي كانت تعد حلويات في المطبخ، تنهض اليه وتعانقه بقبلة على خده ثم بسرعة تجر كرسيا وترجوه الجلوس قريبا منها فلديها ما تخبره به عن للازهور.. يتملاها بدقة، كانه لم يكن معها صباحا وكأن ما وقع حلم اختص به ولم تشاركه أحداثه..

"ماذا تريد أن تبلغه عن للازهور؟.. "

انتفاخ متورم في وسط شفتها العليا شده بانتباه وابعده عن متابعة التفكير، يغلي من داخله وهي بجانبه هادئة..

 "دم بارد ونظرات براءة قد حيرته "رغم أنها كانت تتطلع اليه بنظرة لا تخلو من معنى.ماذا تريد أن تقوله؟

ـ صالح ولدي!!.. كما تعلم فللازهورحامل، وان ما أصابها ربما هو من التهاب مسالكها البولية وهو نفس ما وقع لي حين حملت بها، كما ان نوعا من الاكتئاب مايلازمها.. وهي تبكي عما بدر منها..

اهتز صالح، كيف لم تخبره للازهور بذلك؟الم تكن تعرف بحالتها؟ كيف تستبطن كل ألاعيب الحب بمهارة وعنها تخفى علامات الحمل؟ وكراهيتها له هل هي ظرفية أم ستدوم؟ هل للعمر اثر على وحم المرأة؟..

تضع للاحبيبة ذراعيها على كتفيه كأنها تبعث السكينة الى صدره وعقله الذي انشغل بما سمع:

ـ يلزم ان تصطبر قليلا، أيام وتعود اليك للازهور بنفس رغبتها وكل ماتحتاجه الآن فأنا موجودة ألبيه لك !!..

تثيره العبارة ولها يهتز ، ماذا تقول حماته؟.. وكيف وجدت الشجاعة لتبوح به؟ ربما تأويله لكلام حماته هو غير ما تقصدته ، ربما غاب تفكيره في فرحة اكتسحته كونه سيصير أبا فلم ينتبه لما نطقت به.. وقبل أن تعود لعجينة حلوياتها تقول له:

اذهب اليها، حاول ان ترتاح بجانبها، ستجدها في انتظارك ربما لاكما تحب أن تلقاك لكن أخف مما صدر منها ظلما في حقك، لتكن أناملك إحساسا يصل دواخلها،.. لقد قمت بما يلزم وبقوة لاني أكره ان أرى ابني حبيبي وقد فقد سيطرته على نفسه واحساساته..

أنت ابني ياصالح، وأنا لك أم، فاعذرزوجتك يابني فرغم عمرها فهي تتصرف خارج ارادتها، وحبها لك لامثيل له فأنت حبها الوحيد

حاول ان تأخذها لطبيب ليكتب لها دواء لالتهابات مسالكها البولية

تتملى وجهه ثم تقول ضاحكة:

هل راجعت نفسك في مافعلته صباحا؟

مندهشا يرد:

وماذا أتى مني؟

ضحكتها لازالت تشرق في وجهه بمعنى فترد:

ـ الحمد لله ان كنا وحدنا والا رجمونا بالطوب والحجر..

منزعجا يقول: بربك ماذا فعلت؟

الا ترى شفتي العليا كادت تفقد امتلاءها الوَسَطي ، ولوما اسناني التي انقدتني بعضة على شفتك السفلى ما تركتني.. أنسيت أنك ارتميت علي بجهالة واجتراء؟.. انكتمت خوفا عليك وعلى نفسي؟.

أحس خجلا يطويه، اضلاعه تصطك داخل صدره، هل حقا هو من بادر بعض شفتها أم هي التي ارتمت عليه وشرعت من فرحتها بحمل ابنتها تقبله؟ كيف غاب عنه عقل وانشل له تفكير فصدر منه ماصدر؟.. كيف اعاب على حماته سلوكها وهو من ارتكب الجرم الكبير؟.. هل حقا أن حماته لم تكن الا في موقف الدفاع عن نفسها وشرفها من تهوره، ماذا لو اخبرت زوجها فيجد نفسه في الشارع لاعمل ولازوجة ولابيت؟.. ثقة بها، هوى على يديها يطلب عفوها ويحدثها عن شفته وما فعلته اسنانها، ويقسم انه لم يتقصد ما فعل وبه لم يشعر، وكأنه كأن مسلوبا من ارادته..

تعانقه وتطمئنه:

ـ لا عليك، اقدر انفعالاتك وأفهمها، كلانا كان يعيش أزمة فراغ، إهمال وقلق، رغبة بي قد طالت فاحتملت وآمنت بالنصيب والزمن، وبك قد حلت.. داهمت عنفوان شبابك وقلة خبرتك فتهورت...

زوجتك في الانتظار يا صالح فرفقا..

يخرج صلاح ويترك حماته للا حبيبة تكمل عجين حلوياتها عيون تدمع وزفرات تحرق الصدر..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

مـشـى بـيَ الـلـيـلُ الـى الـفـراتِ

قـبـلَ مـوعـدِ الأذانْ

*

الـى صـلاةِ الـفـجـرِ ..

وحـدي

وبـقـايـا مـن رذاذ الـقـمـرِ الـنـعـسـانْ

*

ودمـعـةٌ خـبـيـئـةٌ ـ وربـمـا قـهـقـهـةٌ صـامـتـةٌ ـ

تـخـثَّـرتْ مـا بـيـن أهـدابـيَ

والأجـفـانْ

*

وبـيـتُ شـعـرٍ واحـدٍ

حـاولـتُ أنْ أُكـمِـلَـهُ قـصـيـدةً ..

فـأعـلـنـتْ عـصـيـانَـهـا  علـيَّ أبـجَـدِيَّـتـي

وأبـحُـرُ الـعـروضِ والـبـيـانْ

*

لأُكـمِـلَ الـبـيـتَ الـيـتـيـمَ الـمُـسـتَـبـى

عـن الـمـشـوقِ الـسـومـريِّ

عـاد بـعـدَ غـربـةٍ طـويـلـةٍ

فـلـم يـجـدْ جَـنَّـتَـهُ الأرضـيـةَ / الـمـكـتـبـةَ / الـديـوانْ (*)

*

مُـفـتِّـشًــا فـي الـلازمـانِ عـن غـدي

فـلـم أجـدْ

إلآ بـقـايـا جُـثَّـةِ الـمـكـانْ

*

فـي شـبـهِ تـابـوتٍ مـن الـرَّمـادِ

تـذروهُ ريـاحُ الـغـدرِ والـجـحـودِ

والـخـذلانْ

*

والـحُـلُـمَ الـبـسـتـانْ:

*

أودَعَـهُ عـنـدَ خـؤونٍ جـاحـدٍ

كـان يـظـنُّـهُ مـلاكـاً

قـبـلَ أنْ يـكـتـشـفَ الـمـارقَ فـي خَـبـيـثِ أصـغـرَيـهِ

والـشـيـطـانْ

*

مـشـى بـيَ الـلـيـلُ  وحـيـدًا  ..

سـاعـةٌ مَـرَّتْ عـلـى حـفـيـدِ أنـكـيـدو  ..

وسـاعـتـانْ

*

والـسـومـريُّ الـحـالِـمُ الـمـغـدورُ فـي فِـردوسِـهِ

لـمّـا يـعـدْ يـمـلـكُ مـن تـنُّـورِهِ

غيـرَ رمـادِ  الـيـأسِ والـدخـانْ

*

لا الـمـاءُ .. لا الـخـضرةُ .. (**)

لا الـحِـسـانُ .. لا الـلـؤُلـؤُ  ..

لا الـمـرجـانْ

*

لا الـسـنـدسُ / الإسـتـبـرقُ / الـزنـبـقُ

لا الـريـحـانْ

*

ولا جـواري مـلـكِ الـمـلـوكِ " هـارونَ "

ولا كـنـوزُ " قـارونَ " ..

ولا تـاجٌ وصـولـجـانْ:

*

يـمـكِـنْ أنْ تُـحَـرِّكَ الـمـيـاهَ

فـي أنـهـاريَ الـظـمـيـئـةِ الـشـطـآنْ

*

إلآكِ يـا صـوفـيّـةَ الـلـذاتِ  ..

يأطـاهـرةَ الآثـامِ ..

يـا مـائـيَّـةَ الـنـيـرانْ

*

يا امـرأةً

زفـيـرُهـا  أريـجُ زعـفـرانْ:

*

جـمـيـعُ مـا خـسـرتُـهُ صـار رِبـاحًـا ..

وبـخـورًا صـارَ مُـذْ دخَـلـتِ فـي مـحرابـيَ

الـدُّخـانْ

*

أنـا وأنـتِ والـفـراتُ

الآنْ:

*

نـوقِـظُ فـي بـاديـةِ الـسـمـاوةِ الـعـشـبَ

نـقـودُ نـحـوهـا الأمـطـارَ والأنـهـارَ

والـغـدرانْ

*

نـنـشُّ عـن غـزلانِ " أوروكَ " ذئـابَ الـغـدرِ

والأحـزانْ

*

كـلُّ خـؤونٍ  لـلأمـانـاتِ :

لـئـيـمٌ / مـارقٌ / مُـبـتـَـذَلٌ / جَـبـانْ

*

واسـتـطـرَدَتْ سـيـدةُ الـنـسـاءِ فـي " أوروك ":

إنَّ الـبـحـرَ لا يُـغـوي الـفـراشـاتِ

فـإنَّ قـطـرةً واحـدةً مـن الـنـدى

تُـطفـئ مـا يـعـجـزُ عـن أطفـائِـهِ الـبـحـرُ مـن الـنـيـرانْ

*

هـل يـمـلـكُ الـعـصـفـورُ مـن غـابـاتِ " أوروكَ "

سـوى مـا يَـسَـعُ الـعُـشَّ مـن الأغـصـانْ؟

*

مَـجـدُكَ فـي الـعـشـقِ

وفـي الـقـصـيـدةِ الـبـيـضـاءِ

كُـنْ مـثـلـي:

فـقـد هَـبَـطـتُ مـن عـرش ســمـاواتـي الـى أرضِـكَ

فـلـنُـشـدْ  إذنْ

مـمـلـكـةَ الـفـراشـةِ / الـوردةِ ..

والـحـمـامـةِ / الـهـديـلِ  ..

والـرَّبـابـةِ  الـنـاسـكـةِ الألـحـانْ

*

مـا ضـاعَ قـد ضـاعَ

فـإنَّ الـنـهـرَ لـن يـعـودَ لـلـغـيـمـةِ  ..

والآهـاتِ لـن تـعـودَ لـلـصـدورِ ..

والـدمـوعَ لا يُـمـكـنُ أنْ تـعـودَ لـلـعـيـونِ ..

والـرَّمـادَ لـنْ يُـبـعـثَ مـن تَـنُّـورِهِ  أفـنـانْ

***

يحيى السماوي

السماوة الخميس 28/3/2024

............................

(*) إشارة الى شخص ظننته صديقا ملاكا فاستأمنته ـ حين كنت هاربا من العراق لسبب سياسي ـ بستاني ومكتبتي فخانني بهما ، فلم أحصل من بستاني ولو على سعفة واحدة ـ ولا من مكتبتي التي تضم آلاف الكتب ولو على غلاف كتاب واحد  ! والأنكى من ذلك: كان من بين موجودات مكتبتي ملف فيه العديد من قصائدي المنشورة وغير المنشورة فسرقه ابنه وأخذ يقرؤها أمام شعراء السماوة على أنها من شعره مثيرا دهشتهم وذهولهم ـ وهم الذين يعرفونه لا يعرف الفرق بين ميزان الشعر وميزان الشعير ـ قبل افتضاحهم أمره بعد عودتي للعراق !

(**) تناص مقلوب مع شطر بيت منسوب للشاعر الإماراتي حمد بن عبد الله العويس ونصه:

الماء والخضرة والوجه الحسن

(في الذكرى التسعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي)

***

تسعونَ مرّتْ والحُداةُ تسيرُ

في دربِهمْ سُنَنُ النضالِ غزيرُ

*

سرّاً وجهراً ما انثنى متوارياً

فنشاطُهُ عبرَ السنينِ يمورُ

*

أيامَ كانتْ للحِراكِ شرارةٌ

أثمانُها التنكيلُ والتكسيرُ

*

جَمْعُ الحشودِ وراءَهُ وأمامَهُ

لم تُرهِبِ القضبانُ والتنميرُ

*

فعلا المشانقَ أنجمٌ نَوّارةٌ

تزهوْ فَخاراً والوجوهُ تُنيرُ

*

افتحْ كتابَ الخالدينَ تعاقبوا

زُمَراً ، تخطُّ سطورَها، وتُديرُ

*

وبيوسفٍ ورفاقِهِ يومَ اعتلوا

والحزبُ فوقَ لسانِهِمْ تكبيرُ

*

تلك الملاحمُ سِفرُها لا يرتوي

فِكْراً ، وذِكْراً  ،  فالغذاءُ وفيرُ

*

كانونُ يشهدُ ماخبَتْ أنوارُهُمْ

تشرينُ أقبلَ، والشبابُ هديرُ

*

"وَيْلي الوزارةُ  كمْ  هيَ الْغدَّارةُ

هُمْ بالرَّصاصِ وبالْحجارِ نثورُ"*

*

فهيَ الحجارةُ في أكفِّ شبابِهِ

سدٌّ حصينٌ والرصاصُ كسيرُ

*

وذئابُ فاشستِ الظلامِ تكاتفوا

ظنّوا  المذابحَ حتفُهُ الميسورُ

*

لكنَّ عنقاءَ العقيدةِ حلَّقَتْ

نَسْراً يفكُّ جناحَهُ ، ويطيرُ

*

مرَّتْ بهِ مِنْ عاتياتِ عواصفٍ

ما زادَهُ ، إلّا الصمودَ ، مسيرُ

*

بقيتْ بهِ الراياتُ تخفقُ عالياً

لمْ تنتكسْ أو يعصفِ التغييرُ

***

عبد الستار نورعلي

.....................................

 "ويليْ على الوزارهْ شلونْ غدّارهْ

هُمَّ بالرصاصْ واحنهْ بالحجارهْ"

هو أحد شعارات ثوّار انتفاضة تشرين الثاني في بغداد عام 1952

 

مـــأهورُ.. يامـــأهورُ.. يامـــأهورُ

طاب اللِقا... واسْتَعْذبَ الجمهورُ

*

وتَوَاعَدَتْ أيـــــامُنا شغفاً بِكِ

وتدورُ في فلك المنى وتدورُ

*

وتزاحَمَتْ أقدامَهُمْ في دَربكِ

الوردُ..والموديلُ..والمقدورُ

*

إن جاء (ثاءٌ) يفتديكِ بِعُمْرِهِ

فلتسعدي فهو الفتى المنظورُ

*

وإذا هداكِ الـــ(جيمُ) روحهُ إنهُ

ظِلٌّ لشمسكِ بالهوى موفورُ

*

أوجاءكِ (الميمُ) فقولي مرحباً

بحبيب قلبي أيها العصفورُ

*

هي كل مارأت العيونُ وآمَنَتْ

الاَّ يَلُمّها في الوجــودِ نظيرُ

*

تمشي ويتبعها الهوى ورِجالَهُ

مَنْ غَيْرها صَلَّتْ عليها الحُورُ

*

وعلى يديها أسلمَتْ دول الأذى

وإلى الســــلام العالميُّ تسيرُ!

*

عيناها مافَطَرَ الإلهُ سِواهُما

وحَبَاهَا وجهاً يَفتديهِ ضَريرُ!

*

ولُقَدَّها صَمْتٌ يبوحُ بحَرْفِهِ

ويحيطُ قارِئهُ الذي...ويُثيرُ

*

ونبيذها أدبٌ رفيعُ المستوى

فقليلهُ وكثـــــــــيرهُ منذورُ!

*

من لم يذقْ (مَأْهُورُ) عاش بعُزْلةٍ

عن عـًــــالمٍ بعليلها مَسْجُورُ!

***

محمدثابت السميعي - اليمن

 

كانت، حين تزور الحي

تطرقُ بابي

أعدُ لها الشاي

تكتمُ ضحكتها

حينَ ألمحُ نظرتها الشاردة..

**

كانت، تلازمها بسمة

حينَ ترمقُ الدربَ

من كوة النافذة

كنتُ اتركها تلهو

أداعبها، حين تجلس قربي

أشير لها بالنبيذ

وتختارها جعة باردة..

**

ذاتُ مساءٍ، وبعد إنتظار

لم تعد تقرع بابي

لم يعد غير عطر

توارى هنا

وظل لها

يتخطى النسيم

حين غابت عن الحي

مرة واحدة..

**

انتظرَ العصرَ،

تمضي سويعاته الفارغات

أسمع في الليل أنفاسها

وصمتٌ توارى

خلف قامتها الماردة..

**

يطول انتظاري

طوال المساء اللعين

وعند طلوع الضياء الأخير

أشد الرحال

إلى عزلتي العائدة..

**

لم تعد تقرع بابي

لم يعد غير صمت

تمادى، يشيع الحنين

لنظرتها الساهدة..

**

ما تراها تفعل الآن؟

هل تغلق الباب على حالها

تتذكر همس الطواحين

التي غادرتها الرياح،

أم تقرأ الآن

ما تيسر من سورة المائدة..؟

***

د. جودت العاني

18/12/2023

رخيصة في السوق

هذي الأقنعه!

هيا اشترِ قبل انكشاف المعمعه

واختر من الألوان

والأشكال والأحجام

ما فيه السعه

جَميلة ورائعه

كافية ومانعه

فان رأيت غيرها ملائما

فاعزب......

فقد تعيش في هناء ودعه!

وارحل إذا ضاقت عليكَ الواسعه

وغادر الجدبَ ولا تأسف،

إلى الديار الممرعه

فان نسيت ما حلمت

وما رغبت أو هويت

وما أجدت وابتليت

فابعث إليه وردة ناصعة وودعه!!!!

***

د. عبد الهادي الشاوي

 

كُنْ نَهرِي ..

لأرفَّ يَمامَة نورٍ حول روحِك

وأستنشِقُكَ

عِشقًا أبَديًا من روحِ اَلياسمين

أنت الأزَليُّ في دَمي أتَوشَّحُ حَنينَكَ..

كُنْ بَحرِي يا أميرَ شَواطِئي

لأغْرقَ في أمْواجِكَ

أبحَثُ عَن صَدَفاتِكَ

وأجمَعُ فَيروزكَ..

كُنْ لؤلؤةَ أحلامِي

أتغمّدُكَ بِروحِ العِشْق

كُنْ نارِي

وداهمْ طَلقةَ الثلجِ الأَخيرة

ليتَوهَّج لَهيبُكَ في فَضائِي

*

أُحبكَ قَبلَ الوِلادَةِ..

أُحبكَ بَعدَ البَعثِ..

يا ندَى الفَجر وعِطرَ اللَيلْ

كُنْ دَميَ الثائرَ في فُؤادي

وتَخَثّرْ بينَ شَفَتيَّ  ..

تَدَفَّقْ في عمرِي

شَلاّلاتِ ضَوءٍ

أكُنْ زهرتكَ البَنفسَجِيَّة

المُعَطرَة بِماءِ السَماءِ

لأُذيبَ جَليدَكَ..

*

دعْني أموتُ على راحَتَيكَ

أتَشَظّى بَينَ شَفتَيكَ

جُزرًا وخِلجانًا

حبَّكَ يَكسو جسدي

كزَغَبِ طائِرِ القَطا

والشَوقُ يَرتَعشُ في عَينَيّ

كجناح فَراشَةٍ يُغازِلها النسيمُ

كُنْ خُلودي وهوائي

تَنفَسْ كي أَحْيا  ...

كُنْ وَشمِيَ  .. كُنْ عِطرِي

كُنْ وَطنِي لأَهيمَ فيكَ..

***

سلوى فرح - كندا

 

مَخْلُوقانْ

لا أدري كَيْفَ اِخْتَرَقا سوُرَ حياتي

مُنْذُ زمانْ

مَخْلُوقانِ عجيبانْ

لا أُبْصِرُ  إلاّ ظِلّهُما

يَخْتَلِفانِ بلا سببٍ

و بلا سببٍ يَتّفِقانْ

كلٌّ يُبْصِرُ  مِنْ زاويةٍ

لا يَعْرفُها أحدٌ آخرَ

كلٌّ يَبْحَثُ عَنْ أحلامٍ ضائعةٍ

عَنْ سُفٌنٍ راحِلَةٍ

وهُما كلَّ مساءٍ يَلْتَقِيانْ

وَسْطَ الظُّلمَةِ لا يَرَيانْ

بَعْضَهُما

و قُبَيْلَ حلولِ الفَجْرِ

يغيبانْ

.......................

.......................

أَتْرُكُ دَرْبَهُما

وأسيرُ بِدَرْبٍ مُخْتَلِفٍ

فيفاجِئُنِي

مخلوقانِ غَرِيبانْ

غيرهُما

لَمْ أشهَدْ مثلهُما

يَقْتَتِلانْ

أُغمِضُ عينيَّ وأمضي

في دربٍ آخرَ أجهلهُ

وأنا مُخْتَنِقُ الصّوتِ أسائلُ:

هَلْ تبقى دنيانا

تمشي بالمقلوبْ

حاضنةً صوراً مقلوبَةْ

لابِسَةً أرديةً مثقوبة؟

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

 

هذه المدينة لا تعرفني

بليلها الموشى بحبات المطر

وصباحها الهادئ الرزين

هي لا تعرفني

عابرة أنا

ولكنها

أهدتني بحراً

وأرصفة

ومبان عتيقة

أهدتني حضناً

يطمئن

رعشة الوطن

ويطرد غول الخوف

أهدتني

شجراً أخضراً

يمتد يطوق

روحي بظلال الألفة

هنا أم درمان

هنا الخرطوم

هنا بحري

برغم البعد

ورغم حدود الجغرافيا

بنكهة ثوبي السوداني

بأغنيتي

(عدى فات زمن العيون الألفة والحضن الملاذ)*

أهدتني فراشة

بأجنحة من غيم

أهدتني سراً

أن أبقى على

دين الأرض

كل بلاد أسمع فيها

روحي تهمس شعراً

أن أحسبها مرافئُ عشق

أن اتعلم فيها

كيف أحب بلادي أكثر

أحن إليها

وأن أنثرني

عطراً

شوقاً

دمعاً

للياليها

وأن ألقاها كل صباح

في قلب مدينة

أسكن فيها ولا تعرفني

وأبادلها الحب...

***

أريج محمد أحمد – شاعرة سودانية – مصر

16/4/2024

.......................

* من أغنية "عدى فات" للشاعر الراحل المقيم صلاح حاج سعيد

 

(1) حالة حب

أعرفُ ما وراءَ الخطابات ..

أودعُ كل الذين استشهدوا

مواسيةً كلَّ طفلٍ سيولدُ مع ألغازِه

*

وحيَن أقفُ قباَلة العراقِ

أفعلُ اشياءَ عديدةً لا أفهُمها

كأنْ تُمزقَ انشودتَه كلَّ دُموعي

*

كثيرًا ما أنامُ قبَل الفجرِ

وأنا أتوسلُ الآتي ..

أعاودُ إسكاتَ التلفازِ بضربةِ كفٍّ

يعقبُه بكاء ..

أو قد يختلطُ الفرحُ بالحزنِ مع موجزِ أنباء!

*

سنظلُ حفاةً يمشونَ على السيفِ

وإذا سألنا الغرباء ماذا دهاكم؟

سنجيب بلا وعي:

"إنه الوطن"!

**

(2) بقاء

إنها لا تسكت

تلكَ الأصواتُ البائِسة ..

*

وأنا

لا أرمي سمعي لبعضِ القولِ

أبحثُ عن شيءٍ يليقُ بروحِي

وأعرفُ أن الوجعَ يطاردُ مخاوفَنا

يلاحقُ ما نجونا بالحصولِ عليهِ

مِن يومٍ سيأتي ..

*

وفي نهايةِ تلكَ الحربُ :

سأنامُ كثيرِا ..

سأنامُ

كأنَي لم أنزفْ حُزناً كهذا

كأنيَ عشتُ لأرسمَ ..

أو أعشقَ..

أو أطير..

كأني

بقيتُ بلا كدماتِ العالمِ السُفلي

لوطنٍ تهشّم بسهولةٍ

وبقيَ عزيزا

***

سمرقند الجابري

.........................

(*) من مجموعتي (رابط لأغنية ساحرة) منشورات الإتحاد العام للأدباء والكتاب العراقي

 

من الوديان جِئتُ

بعضي يموجُ في بعضي

أبحثُ عن بحرٍ مُشَرَّعٍ

تَناديني الطريقُ

فأواجهُ النسيانَ

فاقدًا ذاكرةَ العودةِ

مع ذلك أمضي.

برحلةٍ لا عودةَ منها

كلُّ لحظةٍ تُحيلُني ماضٍ

وإن أقفلتُ الحياةَ على عتماتِها

كي أتفتَّقَ موتًا

فأواجهُ الظلماتَ بلا وَجَلٍ

نهرًا جديدًا كَهُطولِ المَطَرِ

أُصَلِّي للضفافِ فينبتُ الربيعُ..!

أُعانقُ الطريقَ في لحظةِ انكسارِ الضوءِ

والخفافيشِ

أشربُ من عينِ الصَّخْرِ

أُفَكِّرُ لمرةٍ واحِدَةٍ بِاحْتِلالِ البَحْرِ

ومثلَ تُرْسَانَةٍ نَوَوِيَّةٍ يلوحُ لي الطَّرِيقُ،

والكلّ يتساءلونَ مَنْ تكونُ؟

أنا لم أحملْ فِراشي معي فالتُّرابُ سَنَدي والأرضُ بيتي

والغُرْبَةُ نَشِيدي.

وهناك...

في الشمالِ، حيثُ يَرْتَخي الضِّياءُ

يهمِسُ الأملُ

قِصَصًا من نورٍ وظِلٍّ

لنهرٍ رأى في الأفِقِ إشراقةً

فَرَكَضَ نَحْوَ الأماني

يُعانقُ أرواحَ السكينةِ

وبِعَيْنَيْهِ بَرِيقٌ وسُؤالٌ:

متى نَعودُ أحرارًا؟

سأُنظُرُ للأمامِ

طالما تَلُوحُ الشمسُ في مَحارِيبي

فالأرضُ بكُلِّ تُرابِها

مَسْرَحٌ لزراعةِ الأحلامِ

سأُنظُرُ للغُرَّاسِ وأنتظرُ دَوحًا من قلبِ الأرضِ بكُلِّ شَوقٍ..

سأَجْري على الأرضِ المُنْبِتَةِ بالعَطاءِ

أُصافِحُ السَّنابِلَ

وأُغازِلُ الوَرْدَ وأُقنِعُ أزرار البنفسجِ أن تَبتَسِمَ

تَحْتَ شمسٍ تُذيبُ شَمْعَ الأمْسِ المُظلِمِ

وتُشرِقُ على كُلِّ زاويةٍ شَكٍّ

بنورِ يَقينٍ .

أَتْبَعُ دربَ العَصافيرِ

ترقُبُني الأشجارُ

حيثُ الأحلامُ تَتَجَسَّدُ

في رَقْصَةِ ألوانِ الفُصولِ

أَتَنَفَّسُ عَبيرَ البَداياتِ العَذْبَةِ

وأَشْهَدُ ميلادَ نُجومٍ تُحاكِي الأمَلَ.

أعزفُ سيمفونيةَ الحياةِ

بكلِّ نبضةٍ تُرسلُ أمواجَ الحبِّ إلى شطآنِ الوجود

فكُلُّ حَبَّةِ رملٍ تحتَ أقدامي

تروي قصةَ انتصاري على العدم

أمضي كرجلٍ يزرعُ قلبه ُفي البحرِ

وينسى روحهُ في الصّحراء.

***

ريما آل كلزلي

فاجأنا عمّي، بعد انتقال زوجته المصون الى رحمة الله، عن عمر ناهز السعبين عاما، بانه ينوى الارتباط بامرأة تستر عليه شيخوخته وتكون سندا له في ارذل العمر، ولم يكتف بهده المفاجأة وانما تجاوزها بزيارة ليلية ليطلب مني المساعدة بالعثور على زوجة مناسبة له.. تملأ الفراغ الرهيب الذي تركته زوجته المرحومة، هززت راسي محبذا ومباركا، فنحن نعيش في فترة تختلف عن سابقاتها من الفترات، بما فيها فترة تهجيرنا من قريتنا، بقوة السلاح، واكدت رايي قائلا انها فترة لا يوجد للمرء الا نفسه، وقلت له بالعبرية "ام اين لي مي لي"، فطلب مني عمي ان اترجم له ما قلته بالعبرية الى العربية فرفضت، واردفت حتى لا ازعله "بحكش جسمك مثل اظفرك"، ابتسم عمي ومضى في ليله، لاكتشف في اليوم التالي انه شرع في اخبار الجميع بما انتوى ان يفعله.. وان قصة رغبته بالزواج، قد انتشرت على كل شفة ولسان من السنة ابناء الحارة.

سمعت في الايام التالية انه لجأ الى احد متشردي الحارة وشذاذي افاقها ليساعده بالعثور على زوجة تملأ ما خلفته زوجته الراحلة من فراغ، وان هذا اوصله بعد دعوته على ثلاثة ارغفة فلافل، الى احدى العوانس، المعروفات بهبلهن، فحملت نفسي وهرعت اليه: هل ما سمعته يا عمي صحيح؟ ماذا سمعت يا ابن اخي؟ سمعت انك تفكر بالزواج من تلك الهبلة. اه.. وشو فيها يا ابن اخوي.. على الاقل بتدير بالها على عمك. بس هاي هبلة يا عمي. هبلة.. هبلة يا ابن اخوي.. ولك ان شا الله بتشُخ على حالها. بدي وحدة تونسني بوحدتي.

تركت عمي وانا افكر في كلماته الجارحة.. هل اوصلته وفاة زوجته الى تلك الحالة التي تحدث عنها؟ هل هو يعيش مثل هكذا وحدة ونحن حوله موجودون؟ ركبني شيطان الاسئلة، لقد بات امر ارتباط عمي جديا، لكن هل يوافق ابناؤه وهم كثر وبينهم الشرس الحاضر طوال الوقت للشجار، هل يوافقون على ارتباطه في سنه تلك المتقدمة؟ هكذا وجدت نفسي اردد سؤالا يحتاج الى اجابة ليست بيدي. اتصلت بعمي وسألته عما اذا كان ابناؤه موافقين على زواجه؟.. فجاءتني اجابته الفورية: شو دخل اولادي.. وين بكونوا لما بكون لحالي في الليالي الطويلة.. كل واحد منهم ملتهي بتَبع مرته.

أثّرت فيّ كلمات عمي، وقررت من فوري مساعدته.

في اليوم التالي ابتدأت رحلة البحث عن زوجة لعمي، فرحت اسال عمن ترضى به زوجا له في تلك السن المتقدمة، وكان ان قللت عقلي واتصلت بمن سبق لعمي وان اسأله، فأخبرني انه توجد في بلدة مجاورة امرأة في الخمسين من عمرها وتريد ان تتزوج. وراح يعدد مناقبها الطيبة، توجهنا، عمي، انا وذاك المتشرد، من فورنا الى تلك البلدة، عندما اوقفنا سيارتنا بعيدا عن بيت كبير فاره، اخبرنا مرافقنا المتشرد ان ذاك هو البيت المقصود، طلب منا ان نبقى في السيارة، وترجل منها قبل ان يستمع لإجابتنا، وولى مسرعا كمن ضربته بعصا على قفاه. لم يطل انتظارنا، لنستمع الى جلبة وصراخ، وشتم وسباب، تنبعث من البيت قبالتنا، عندما عاد المتشرد بثيابه الممزقة، ادركنا ما حدث معه، فقطب عمي ما بين حاجبيه، فيما لاحت ابتسامة على شفتي. ومضينا في طريق عودتنا الى بلدتنا خائبي الرجاء، على امل ان نجدد البحث في اليوم التالي.

في اليوم التالي تكرّر موقف اليوم السابق، لكن بفداحة اكبر، فقد راينا امرة معافاة تقذف متشردنا من بوابة بيتها، وتلحق به، ليدخل الى سيارتنا وليطلب منا ان نهرب ناجين بجلدنا، غير ان تلك المرأة تمكنت من منعنا من الانطلاق، وراحت تتساءل مين هذا الشايب العايب اللي بده يتزوجني؟ انكمش خالي، فيما هتفت بها قائلا.. انه كان معنا وهرب خوفا منها. تقبلت المرأة الحانقة الغاضبة روايتي وسط علامات شك بدت على وجهها، وسألتني عما اذا كنت متأكدا مما اقول؟ فأرسلت نظرة استجارة بعمي، عندها مد لي حبل النجاة وهو يقول، نعم نعم هو هرب. ابتسمت تلك المرأة ومضينا نحن الثلاثة هاربين، وحامدين الله انه نجانا من براثنها ومن لكماتها.

بعد يوم من هذه الحادثة وقعت الحادثة الثالثة، فقد انتهت بان اكل مرافقنا المتشرد نصيبه من اللكمات والصفعات، ووزعت العروس العتيدة، هي واهلها، علينا ما تبقى من لكمات لا تنسى، بعد ان اكلنا نصيبنا من الضرب، وتوقف مهاجمونا عن توجيه الاهانات رأيناهم ينصرفون عن سيارتنا واحدا وراء الآخر حتى انهم بدوا مثل صف عسكري ادى مهمته على وجهها المنشود وعاد غانما سالما. فما كان منا الا ان لجانا الى ما تبقى في سيارتنا من قوة واندفعنا اندفاع عاصفة قاصفة مبتعدين عن تلك الشريرة واهلها الكرام.. سامحهم الله.

عندما اتخذ كلٌّ منّا، نحن الاشقياء الثلاثة، لم نجد افضل من هذه التسمية، مجلسه في احد المطاعم الشعبية في حارتنا، لم يسالنا عمي عما ننوي اكله وطلب لكل منا رغف فلافل، فأتينا من غلنا وفتكنا به عن بكرة ابيه، ما دعا عمي الى طلب رغيف آخر وبعده آخر.. بعد ان شبعنا، اولا ضربا وثانيا فلافل، تفرقنا وقد تأكد لنا اننا لن ننجح فيما وطّنا انفسنا عليه. غير ان ما حدث في الايام التالية جاء مختلفا. كما تبين لي على الاقل فيما بعد. ويبدو ان ذلك المتشرد، بحث عن طريقة اخرى يلهي بها عمي، فاقترح عليه ان يجلس في المحطة المركزية للحارة، وهناك تجد ما هب ودب من النساء، كل ما هو مطلوب منك، هو ان تفتعل اي حركة، ان تقول على مسمع من تروق لك، مثلا، ان الباص قد تأخر، فاذا تجاوبت معك، تابع معها، اما اذا لم تفعل، فانصرف الى غيرها.

ما إن دخل كلام متشرّدنا عقل عمي وركب على عقله، كما علمت فيما بعد، حتى سارع من فوره لارتداء كل ما على الحبل من ملابسه الجديدة، واغرق نفسه في بحر من الروائح العطرية، وتوجه في ساعات الصباح المبكرة الى محطة الحارة المركزية، اتخذ هناك مجلسه مثل ملك غير متوج، وجعص يعج على سيجارته المارلبورو الثمينة، وما ان لاح له طيف بغيته من النساء، حتى شبّ على قدميه وتعمد الوقوف قريبا منها، وهو يتمتم بكلمات عن تأخر الباص، افتعلت المرأة حركة، فهم منها انها غير معنية بالتحدث اليها، فعاد الى مجلسه كسيرا متهدل الاذنين. بعد ساعة من الانتظار شاهد امرأة تقترب من المحطة فراودته احاسيس جدية ان صنارته قد غمزت، الا ان نقبه طلع على شونة هذه المرة ايضا. فعاد الى مقعد الرئاسة في محطة الحارة المركزية. بعد ساعات من الانتظار، وقع حادث مكّن عمي من تحقيق بغيته. كان ذلك عندما رأى شابا يحاول معاكسة احدى الواقفات فانتابته حمية ونخوة عُرف بهما في ايام الصبا والشباب الغابر، فدنا من الشاب مشددا قبضته في محاولة منه للكمه، الامر الذي لفت نظر تلك المرأة. الشاب على ما يبدو فضل الانسحاب وولّى مختفيا في الفضاء الرحب. اقترب عمي من تلك المرأة فابتسمت له، فتجرأ وهو ينتقد شبيبة هذه الايام: اما شباب. عندها انفكت عقدة لسان الاثنين، خالي وبعده تلك المرأة التي اكتشف انها حسب الطلب .. ربلة.. ملانة وملظلظة، واخذهما الحديث، الى ان جاء باصها فانصرفت. هكذا وجد عمي ضالته.. وبادر في صبيحة اليوم التالي الى المحطة ليجري محادثة عمره مع تلك المرأة.

دبّ هذا النجاح الحمية في راس متشرد حارتنا، فتحدث عنه لآخرين بصورة هامسة.. بلغ خبر علاقة عمي بتلك المرأة اسماع ابنائه، فما كان منهم الا ان ارسلوا اليهم اشرسهم، ليخبره ان امر علاقته بامرأة محطة الحارة، قد انتشر وذاع، وان اخوتها قرروا اطلاق النار عليه في اول فرصة يرونه يتحدث فيها لأختهم. ما ان سمع عمي هذا التهديد الواضح المكشوف، حتى انكمش وانطوى على نفسه.. واغلق باب بيته على نفسه.. منذ ذلك اليوم لم ير احد عمي.. فاعتقد البعض انه مات.. علما انه حي يرزق.. ويتطلع الى يوم امن يجمعه فيه رب العالمين بفتاة احلامه.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم