نصوص أدبية

نصوص أدبية

حينما أطرقُ بابَكِ

يستقبِلُني الصَّمتُ

جائِعٌ أنا إلى خُبزِ عينيكِ

وظامئٌ إلى بَراكينِ شِتاءَاتِكِ

أخمراً كان ذاكَ

الَّذي ارتَشَفتُ أم دَماً

صارَ طَعمُهُ سِياطاً

تَجلِدُ من العمرِ أسفارَ النِّهاياتِ؟

أخمراً كان ذاك الَّذي سُكِبَ

فصارَ طَحالبَ حَنينٍ

في مَعارِجِ الرُّوحِ؟

ما كنتُ أرغَبُ أن أثمُلَ مُبكراً

حتى لا يفِرُّ مني الحُلُمُ

فأبحثُ عنه في بيداءَ

مِثلَ غَريبٍ

أعياهُ السُّؤالُ

باخوسُ لا ينفكُّ يَملأُ لي

كؤوساً مُترَعَةً

وبوسيدون يُغري مَراكبي

للتوغُّلِ أكثرَ في الأعماقِ

تائهٌ أنا في ثالوثِ الخَياراتِ

ولَدَتْني الأرضُ ذاتَ صُدفةٍ

ووهبتني نُسْغَ الحياةِ

ذاتَ عُمرٍ

وإلى رحمِها

على حينِ غَفلةٍ

من جديدٍ ضَمَّتني

كأنَّني ما بدأتُ حينما وَلَدَتْني

وما عِشتُ حينما أحيَتني

وما استرجَعَتْني رَميماً

عندما أضَعتُ بداياتي

أعمارٌ تَنفَدُ وأبوابٌ تَنتحِبُ

كلَّمَا بدَّدتُ سَطراً في كِتابٍ

تمتلئ بأسفارٍ

وتُعرِّشُ كالُّلبْلِابِ

فوق تِلالِ الرُّوحِ

ذاكرتي

جئتُ إليهم زائِراً

ورحلتُ غَريباً

فلا هُم عَرَفوني

ولا أنا وَجدتُ ذاتي

بِلا وَداعٍ مَضيتُ

في رُوحي نَّوَاحٌ ورَمادٌ

وفي جَسدي هَسهسةُ حَريقٍ

أصواتٌ تغتالُ ألوانَ الذِّكرى

وأنا بلا حِراكٍ

أعاينُ من نافِذةِ السَّماءِ

غُرباناً تلتَهِمُ

من فتافيتِ عُمري

كُلَّ ما تَبَقَّى

***

جورج عازار

ستوكهولم السويد

النافذة مشرعة على الساحة الفارغة، إلا من بعض الأثاث القديمة، المتآكل بفعل الرطوبة.. ودالية ذابلة أوراقها، أغصان الدالية ماتزال متمسكة قابضة بجدران الساحة العالية.

العجوز عينها على النافذة، وحيدة تتأمل زوايا البيت، وحيدة تتأمل كبة خيط صوف رمادية، الكبة على الطاولة الوحيدة في زاوية البيت، و في الركن الآخر كرسي هزاز، هدية عيد ميلادها الثمانين..

الكرسي وحيد يتأمل العجوز الوحيدة.. عينها مرة أخرى على الهاتف الذي لا يرن إلا قليلا.

 القط عند الظهيرة ينام على عتبة النافذة المطلة على الساحة الفارغة، يستيقظ بكسل، يلوي ظهره، يتكور آخذا شكل قوس، رؤيته تغري فضول العجوز.. القطط لا تهرم ولا تشيخ..

. القط يمدد قدميه الأماميتين، ينظر إلى النافذة، يتأمل العجوز بعينين حزينتين.. يقفز إلى داخل البيت البارد، ينط فوق السرير قرب العجوز، تمرر أناملها النحيفة المرتعشة على فروة شعره المتشابكة، يداعبها بمخالبه الصغيرة، ثم يستلقي على ظهره عند إحدى قدميها، تتأمل حركاته، تبتسم، القط ينظر إليها بعينين مشاكستين..

القط بقفزتين:

 الأولى على سجاد البيت و الثانية فوق الطاولة حيث كبة خيط الصوف الرمادي، يرتطم بها، يدحرجها إلى الأسفل، محاولا الإمساك بها، تغوص مخالبه الصغيرة بأعماقها، يحاول عبثا التخلص منها، كلما حاول، زادت تمسكا بمخالبه.. فيختلط خيطها و يتشابك

العجوز ترمقه، تصرخ، لا تقوى على الصراخ، القط غير مبال، يدحرج كرة الخيط، يسلها خيطا خيطا، يبعثرها، يركلها مرات عديدة.. ينظر إليها بعين قط ماكرة، يتأمل وحدتها القاتلة داخل الصمت، و وحشة المكان.. يهمس في داخله (الأمكنة بساكنيها).. يغادر عبر النافذة، مسرعا إلى الساحة الفارغة إلا من بعض الكراسي العتيقة المتآكلة بفعل الزمن و الرطوبة، متسلقا تلك الدالية الميتة أوراقها.. القط يغادر متى شاء..

. القطط لا تستأذن حين تأتي، ولا تستأذن حين ترحل..

العجوز وحيدة على الكرسي الهزاز تحاول عبثا فك تشابك كبة خيط الصوف المعدة لقميص شتوي لن يكتمل.. بيدين مرتعشتين تحاول فك الخيط، مرت ساعة، ساعتين، ثلاث ساعات دون جدوى..

رن هاتفها و هي في غفوة خفيفة، أجابت: إبني، تعال، هناك مشكلة مستعصية و طارئة.. ويداي ترتعشان..

بعد يومين، إندلف إبنها إلى داخل البيت، فك كل خيوط الصوف، رتب البيت، غسل بعض الأواني، فتح علبة الحساء المعدة سلفا، قام بتسخينها.. قبل جبهتها، تمسكت بيديه، إرتعشت لدفئهما.. ثم رحل في صمت، الأبناء يرحلون متى شاؤوا.. ويعودون متى شاؤوا..

القط عند الظهيرة، مستلق فوق عتبة النافذة المطلة على الساحة الفارغة، إلا من بعض الأثاث المكسور ودالية.. يستيقظ، يقفز على السرير، تداعب فراء شعره المتشابك، يقفز على الطاولة، يركل كبة الخيط، يحاول التخلص منها، يعبث بخيوطها، تتشابك..

العجوز لا تقوى على الصراخ.. القط يغادر.. رن الهاتف: إبني تعال.. يداي ترتعشان.. بعد يومين، إندلف إلى البيت، فك تشابك كرة الصوف المعدة لقميص شتوي لن يكتمل.. رتب البيت، غسل بعض الصحون، غير ملابسها، أعد لها وجبة حساء بنكهة الطماطم..

عانقها، قبل جبهتها، إرتعشت يداها لدفء يديه..

غادر البيت، و اختفى.. بعد يومين لم يأت القط، كما كان يعودها كل ظهيرة.

العجوز تراقب النافذة، تتأمل كبة الصوف، تدحرجها على الأرض، تلتقطها، تسحب رأس الخيط، فينسلخ إلى آخره، تعبث به، تخرج ما بجوف الكبة، فتختلط خيوطها..

العجوز بنية مبيتة تعيد اللعبة.. كل يومين يعاود إبنها زيارتها، لعيد الخيط كما كان، بعد ساعات طوال.. يقبلها ثم يغادر..

القط الآن عند الظهيرة، مستلق على عتبة النافذة، عند جارتها العجوز.. يراقب العجوز بعينين مشاكستين ماكرتين، يتأمل

. البيت البارد، صمت المكان،يتأمل كرة الخيط..

***

 محمد عجرودي – باريس

 2024

 

هكذا دائما وبشراهة قندس

نأكل الوحل والقش ونعوي في الليل.

نهوى رائحة الدم والفضيحة.

إهداء ذكرياتنا لوحش من السيراميك.

قطع أصابعنا ورميها لبنات نعش.

نستمني  ونطعم النعاس الأظافر .

الليل طويل القامة وأمنا لم تعد من المبغى.

نسيت نهديها الساهرين في فم كنغر.

الأشباح تروض اللامعنى أمام البيت.

وفي عانتي سرب من القمل والقيح.

ومثانتي ملآى بالرهائن.

بديدان منذورة للخراب.

من حين إلى آخر يطاردنا الرب بمسدسه الأشيب.

نرمي صلواتنا لكلبه السلوقي

ليخفت زئير الصيرورة.

ونقاوم صفير مفاصلنا بتبغ الجنازة.

***

فتحي مهذب

هل يكون الموت ظلا للوحدة؟

صحْراءُ لا عُودَ فيها

يُظلِّلُها

يتخبَّطُ في بطْنها النّفْطُ

لا النّبْضُ يدفعُه، لا الشّرايينُ تمْتصُّ

ماءَ الضّلوع

صَحراءُ من وجعٍ

تُرْقِصُ الحُزنَ في دَمِنا ...وتــــــــجوعُ ....

مع الزَّمنِ الزّفتِ حتْما تجوع

لتأكُلَ أطفالَها

ــ لا كما القطّةُ خوْفًا عليهم ــ

ولكنّها النّارُ

إنْ جاعتِ النَّار تأكُل أحْطابَها،

ما تبقّى من الجَمْرِ أيضًا

وتجترُّ ما يتَناثرُ من لَهبٍ

وتلاطفُ حمّى الرَّمادِ

بملحِ الدّموع

اعتصرْنا على الشّمسِ شهْدَةَ دمعاتنا

ثمّ صحْنا على غيمةِ الماء عودي

إلى اللّحظةِ الصّفْرِ

لا بدّ للماءِ من فرصةٍ للطّلوع

صبّي ثريّاكِ عشْقًا لتونسَ

نحنُ نزفْنا ولم يتبقّ

إلى السّحُبِ المثقلاتِ

...سوى قصب لا يظلّلُ قامتَه

صارَ يمشي كمفتتنٍ

بانْكِسارِ الظّلالِ على قدمٍ واحدهْ

أو كمرتبِكِ الخطواتِ

فعودي ليمتدَّ ظلُّ البلادِ بدون انْكسارٍ

***

المولدي فرّوج -  تونس

2012

 

في ليلة العيد مزق الفقراء

بطائق هويتهم

وشرِبوا نَخْبَ فقرهم

ممزوجا بالعبرات المالحة

قالوا لبعضهم أنهم مجرد رقم

في سجلات الهوية

لا اعتبار لهم في زمن الردّة

وتخمةِ البلداء

في ليلة العيد اندلعت شرارة الكرب

في قلوب الفقراء

وأومض الفزع في عيونهم

ينادي جمرة الغضب

يصافح دمعة القمر

يلامس حرقة القلب

ترتجف الكلمات على شفاههم

تحترق ملامح حلمهم الغجريّ

يتوارى رجلٌ منهم وراء نافذة معتمة

يقيم صلاة الجائعين

يعلن أن العيد خرافة في عرف المتخمين

وفرض وهمٍ عند عشائر المعوزين

وأن نشوة البؤس وتراتبية الشقاء قدر

الفقراء

في ليلة العيد يسافر الأغنياء

إلى الجزر العذراء

يَبحثون عن جنة لا تشبه جنة الفقراء

وبحيرات من نبيذ تستحِمّ بها حور العين

وشمس ترسل ألوان قزحية لا يحلّ شفرتها

سواهم

هناك سيسخرون من لهفة الفقراء على

ذوات الظلفين

ويرطنون بلغتهم الفاجرة

وقد يبحثون عن كازينو قمار لصرف

الفائض من أموالهم

في ليلة العيد يفتح الفقراء باب البلاهة

على مصرعيه

ويصلبون الوعي الشقي على أسوار المدينة

يعلنون الولاء للوشايات الكاذبة

ثم يرتدون أقنعة تخفي ندوب أرواحهم البئيسة

ويَصِلُون الرحم ويتحدثون بزهو عن السلف الصالح

ويقهقهون بإبهام يُخْفِي كلومهم المتراكمة

***

محمد محضار

12 يونيو 2024

 

قبل أن تلتقي به في الموعد والمكان المحدّدين.. الساعة السادسة والنصف في قاعة الزمن الجميل، كتبت إليه عبر الماسنجر تسأله عمّا إذا كان يعرف مَن هو العاشق الجديد، مرفقة سؤالها عمّا إذا كان بإمكانه التكهن بمن يكون، ومجيبة بطريقة غامضة أنه أبعد ما يكون عن الشك فيه. أما ما كتبه لها ذلك العاشق فقد تربّع على عرش الماسنجر متخذًا شكل سؤال: "فهمنا أنك سلطانة الغرام.. هل يهمك أن تعرفي مشاعري السُلطانية تجاهك.. ليتك تقبلينني فارسًا مغوارًا يا سيدتي". هذا الموقف أعاده إلى الماضي البعيد، يوم التقيا قبل العشرات من السنين ونشأت بينهما علاقة مودة وصداقة ومزاح. حينها التقيا في قاعة الشكر الجزيل، ومع أنه لا يتذكّر الآن ساعة ذلك اللقاء بالتحديد، إلا أنه ما زال يتذكّر، كيف اتخذ كلّ منهما مجلسه قُبالة الآخر، وشرعا في حديث تخلّله دخول هذا الكهل أو ذلك الشاب المشرئب بعنقه زهوًا وتشوفًا، وخروجه من القاعة بعد أن تطبع حضرتها قبلة على أحد خديه متبعة إياها بقبلة أخرى إضافية على خده الآخر. كان يعرف في ذلك اللقاء بالضبط.. كما عرف طوال سني علاقته المديدة بها أنها امرأة معروفة.. امرأة جمهور.. لذا أوصل إليها ما أراد إيصاله

عبر أغنية لوديع الصافي.. "بترحلك مشوار قلتلها يا ريت.. قالت لكن اوعى تغار.. حوالي العشاق كثار.. قلتلها بطلت خليني في البيت.. قالت". منذ ذلك اللقاء الحافل بالغموض ترافق الاثنان هي واصلت غاراتها على جمهرة عشاقها أو محبيها.. للتخفيف، وهو واصل الغناء.. خليني في البيت.. لكن دون أن يبقى في البيت.

بعد خمس دقائق من اللقاء بينهما.. هي وهو، كانا في طريقهما.. بناءً على اقتراح ذكي منه.. إلى زيارة صديقهما القديم الجديد، الصديق المغرم بها .. بصمت. هي كانت ترسل الابتسامة تلو الأخرى، محاولة استفزازه للإجابة على سؤالها عمّن يكون العاشق الجديد، وهو كان يفكر في سبب سؤالها.. وفي خاطره رغبة جامحة في معرفة من يكون ذلك العاشق الصنديد. ورغم أنه أراد أن يترك السؤال مفتوحًا على جميع الاحتمالات، ليؤكد لها ما حاول أن يرسّخه في ذهنها حول رزانته وحكمته، فقد كان مشغولًا طوال الوقت بمن يكون ذلك المقصود. ترى هل يكون ذلك الصديق القديم الجديد؟ نعم نعم قد يكون هو.. فقد دأب منذ غارتهما الأولى عليه في بيته المتواضع في أعماق الغابة، قبل حوالي العقد من الزمان، حتى الغارة الأخيرة.. في الأسبوع الماضي، وربّما حتى هذه الجارية الآن، دأب على استعراض مغامراته الغرامية مشيرًا إلى صولاته وجولاته عبر محطّات الفيسبوك ومساربها المجهولة الخفيّة.. حيث تتجوّل هناك جنّيات ألف ليلة وليلة وسلطانات الزمان. كان ما إن يأخذ الاثنان.. هي وهو.. مجلسهما المعتاد على المقاعد ذاتها، حتى يشرع في السرد المشوّق عن غاراته وغرامياته.. موجّهًا الحديث إليه هو.. وليس إليها هي.. وكأنما هو يريد أن يحكي مع الكنّة لتسمع الجارة.. كان يصوّر نفسه كأنما هو معبود جمهورية النساء.. مُشيرًا وغير مُصرِّح.. إلى هذه المُعجبة التي لفتتها كتاباته فاتصلت به.. وعرضت عليه حبّها أو عشقها.. غير مهتمة لزوجها النائم في الغرفة المجاورة.. أو تلك الساحرة الفاخرة.. كان يتحدّث عن النساء بالجُملة.. الامر الذي فرض السؤال: إذا كان يوجد لديه كلّ هذا الكم من النساء والورود.. لماذا هو يُسمّع صديقته كلّ تلك الحكايات؟.. قبل هذا.. لماذا هو يرويها له.. على مسمع منها..

الامر الآخر الذي فرض نفسه وهما يمضيان باتجاه بيت صديقهما العاشق المتخفّي.. ما لبث أن تطوّر وتقدم بسرعة بارقة.. فقد دخل على الخط صديق له.. كان ما إن يدخلا.. هي وهو.. بيت صديقهما حتى يخرج من بيته المجاور ليدخل حيث يجلس الجميع.. تتوسطهم سلطانة العشق الأبدية.. ليتخذ بعدها مجلسه مسترقًا نظراته المتيّمة إليها دون أن يمكّن أحدًا من ضبطه متلبسًا بنظراته المغرمة صبابا.. ترى هل هذا هو العاشق الجديد؟ هل هو ذلك المتسلّل إلى ملكوت صديقته متلفتًا حذرًا.. معتقدًا أن أحدًا لا يراه وكأنما هو علاء الدين يضع على رأسه طاقية الاخفاء.. فلا يراه أحد، في حين هو يحوم حول تلك المعشوقة الأبدية.. حالمًا بنظرة فابتسامة فموعد فلقاء؟. هل يتوجّه إليها قبل أن يدخلا بيت صديقهما في أعماق الغابة.. ويعلن لها عن معرفته بهوية عاشقها الجديد.. رغم تأكيدها صعوبة الإجابة. وربّما استحالتها.. كون هذا العاشق غير متوقّع؟.. هل يقدّم لها تلك الإجابة لتعرف أي صديق صدوق هو وأي سند حكيم لها في رحلتها الجبلية الصعبة؟ ما إن قرّر يفاجئها باكتشافه الارخميدي هذا.. حتى شعر باقترابهما الشديد من بيت صديقهما.. هناك في أعماق الغابة.. متشابكة الأشجار.. ترى ماذا سيحدث عندما يدخلان.. هما الاثنين.. إلى بيت صديقهما؟ وأطلّ طيف ذلك الصديق عليه من بين أوراق الأشجار.. استرق نحوهما.. بالأحرى نحوها.. ابتسامة غامضة كعادته.. وشرع يروي عن مغامراته وغاراته الغرامية.. موجّهًا الكلام إليه.. على أمل أن تسمع الجارة.. فتحنّ وتئن..

سارت هي بخطى حيية متردّدة فيما سار هو وراءها، تعلو وجهه زوبعة من التساؤلات.. لقد عرف الإجابة.. العاشق الجديد.. المستبعد من كل قائمة واحتمال.. هو ذلك الجار المتخفّي.. مسترق النظرات الابدي.. "وجدتُها"، هتف بينه وبين نفسه.. وقبل أن يقدّم لها الإجابة على طبق من صداقة خالدة.. رنّ خلويها.. فأدنته من أذنها اليمنى بسرعة وسرّية غير معهودة.. وراحت تتحدّث بثقة مَن ترفض عاشقًا ترامى على أعتابها..

- هل هذا هو العاشق الجديد؟ سألها صديقها.. مرافقها الحائر.

- لا ليس هو.. ردّت.

- هل هو صديقنا صاحب البيت..؟ عاد يسألها.

- لا ليس هو.. عادت ترد.

- هل هو ذلك الجار المتخفّي.. تابع السؤال.

- لا ليس هو.. تابعت الإجابة.

- من يكون إذا لم يكن لا هذا ولا ذاك.. سألها بحنق من أغضبه الغموض القاتل.

- ألم تعرف بعد أيها الاحمق.. ألم تعرف مَن هو بعد كلّ هذا الكم الهائل من السنين؟ نفرت به. أما هو فقد بقي صامتًا.. وقرّر دون إرادة منه.. قرّر النكوص.. والعودة من حيث أتيا.. سار وسارت هي وراءه.. كانت الساعة تقترب من السابعة.. وانطلق الاثنان في الغابة متشابكة الأشجار.. والاسرار.. أيضًا..

***

قصة: ناجي ظاهر

أخيرا

كما تطلّ شمس في يوم شتويّ غائم من بين براثن الغيوم

اكتشفت أنّي يمكن ألّ أكون وحدي كما عهدت نفسي من قبل

الحقّ حدث ذلك الاكتشاف الرهيب يوم نوت السلطة في البلد تحديث كلّ شئ، تحت حجة تفادي الإرهاب، وقد مرّت الأمور بسلام وهدوء، فتغيّرت شوارع، وطرق، وحُدِّثَتْ شبكة الهاتف والكهرباء، وبنيت مدارس جديدة، وأنفاق، ومجار، ورممت جسور.

لا أبالغ

كلّ الأمور سار على وفق نهج التقدم العلميّ العصريّ الحديث واللحاق بالركب الحضاري الذي كنّا محرومين من زمن السلطة البائدة..

أمّا المشكلة الحقيقية فقد ظهرت واضحة معي من دون أن أدري..

كان هناك قرار من السلطة يقضي بدمج الهوية وبطاقة التعريف والمستمسكات الرسمية ببطاقة واحدة ذات ملامح ألكترونية لا تُخترق..

فكرة حضاريّة أيضا.

البطاقة الذكيّة التي تستعصي على التزوير.

بدلا من أن أحمل عدة مستمسكات في جيبي فأثبت أني واحد تصبح معي هويّة واحدة تصلح لكلّ شأن: المواصلات وفي الدوائر الحكومية في الوقت نفسه أستطيع السفر بها..

لقد رحّب الجميع بالفكرة.

أنا نفسي شعرت بارتياح: بدلا من أن أحمل هوية عامل، وشهادة، وبطاقة تعريف، وبطاقة نقل ومستمسكات رسميّة أخرى تثبت هويتي، تجعلني أشعر بثقل، وأشكك في نفسي، أسأل إذا كنت واحدا فَلِمَ هذا العبء الثقل، كل هذا يتحقق لأثبت أنّي نعمة الله بن عبد الواحد، لست بحاجة لأكون أكثر من شخص هل أصدّقك أنّك هو على ورق متعدد، ففي كلّ يوم يبدو أني أظهر بشكل ما يثير الدهشة. ثمّ همست: بطاقة واحدة تكفي. ولأدع أجهزة التصوير الحديثة ترسم وجهك بدقّة متناهية.

ليس هناك من شئ يقيّدني.

وقد ذهبت مثل خلق الله إلى دائرة السجل قالوا: سنجدد هوياتكم الشخصية حيث تصعب على أيّ من هؤلاء الإرهابيين الدّمويين أن يتلاعب بأسمائكم، لا أحد يسرقكم وينتحل شخصيّاتكم، نريحكم ونوفّر لكم الأمان، ونمنع الدواعش الذين يمتهنون التزوير بدقّة متناهية. ستتجمع المستمسكات كلها في بطاقة واحدة. العلم تقدّم الآن أيّها السادة وليس من مصلحة الدولة أن تتعب المواطنين أو أن تتركهم فريسة للإرهاب..

ليس بإمكاننا أن نعزل أنفسنا عن التطوّر فنعيش بعقليّة الماضي..

إزاء هذا التصريح الحكومي رتبت دائرة السجل المدني لقاءنا حسب الحروف الإبجدية. خصصت بعض أيام الأسبوع للأسماء التي تبدأ بحرف الألف والباء والتاء. كان اسمي يبدأ بحرف النون، أصبحت من مجموعة يوم الخميس، أسماء النون والكاف ومابعدها، ولم يصحب أيّ منّا أية صورة إذ أنّ آلات التصوير المتطوّرة جدّا جدّا دخلت في جميع الدوائر، ولا أشكّ في أن صورة تلتقطها لي آلة تصوير حديثة استوردتها الدولة ستكون أفضل مما لو كلّفت نفسي جهدا وقصدت الاستوديو القديم وسط المدينة الذي اعتادنا أن نزوره فيمناسبات الأفراح والأحزان..

هكذا ظننت ولم أكن مخطئا.

وقفت في طابور طويل - شأني شأن الآخرين في الطابور- كنت مشغولا بهاتفي الجوّال الذي رغبت أن ألتقط لي صورة فيه فأرى هل تختلف عن كثيرا عن صورتي الموعودة في بطاقة التعريف الجديدة.

كلتاهما في اليوم نفسه.

وأحدهما سبقت الأخرى ببضع دقائق أو ساعة على أقلّ تقدير لكنّي لا أشكّ أنّي أشعر بارتياح تام حين ألتقط لنفسي صورة أكثر مما ذهبت للمصور أو سألت أيّ محترف في التصوير أن يلتقط لي واحدة، على الرغم من أنّ ال(سلفي) لا يكون أكثر دقّة من صور يلتقطها لك آخرون، مع ذلك أجدني أنا الذي رسمت نفسي بنفسي !

أو

كتبت ملامحي حسبما أرغب على الشاشة الصغيرة..

بعد دقائق

ساعة..

ساعتين...

استقيلني السيد أمين السجل المدني، وراح يدقّق المعلومات التي تضمّنتها وثائق قديمة تحرّرت منها وأنا أتنفس الصعداء كأنّني تخلّصت من عبء ثقيل رحت أحمله على عاتقي ستنوات طويلة:

- كلّها ياسيدي معلومات رسمية موثّقة وأظنّك تعرفها سلفا.

ردّ بابتسامة باهتة:

- عمل روتيني لا أكثر

تابعت باهتمام بطاقتي الشخصية القديمة:

- هكذا كنت إذن.

تذكر يا سيدي أن هذه الصورة لي قبل عشرين سنة.

يبدو أنّك مازلت وسيما إذ لم تتغير كثيرا.

وقفت أمام الحاسوب، اتبعت إشارته، ونظرت في المربع وسط شاشة الحاسوب القائمة جنبي على الحائطـ، نظرت إلى صورتي، فلم أر شيئا مريبا، وشيئا فشيئا، حدث قتام في الشاشة وانتثرت عليها بعض الحبيبات، وعاد الصورة إلى ماكانت عليه وبدا نور الشاشة أبيض ساطعا يبهر البصر، ثمّ ظهر المربع من جديد.

الشاشة بيضاء

ليس هناك من شئ

ضحكت سرّا على الموظف ونفسي وشاشة الكومبيوتر التي استعصت عليها صورتي وكان على موظّف السجل المدني أن ينقر مرّتين أو ثلاثاً على الزر فتظهر لي صورتان أو أكثر أختار واحدة أراني أرتاح لها أكثر من الأخريات:

- هل من شئ؟

نفث الهواء كأنّه يسخر:

- يحدث يعض الآن أن تسعصي الألكترونات أو تقف لأمر ما.

- لا غرابة.. العقل البشري الذي هو من صنع الله يتلبّك فكيف بعقلٍ يصنعه البشر.

عاد ينقر:

- خير.. ليكن خيرا. (وأضاف) الغريب في الأمر أن أكثر من شخص دخل قبلك والتقطت بالحاسوب صورا شتى، أنل آسف أن يحدث هذا معك.

- إنّه من سوء حظّي.

داعبت أنامله الجهاز، والتفت إليّ:

- جاهز الآن؟

نعم ياسيدي

وقفت في المكان ذاته وثبّت عينيّ على شاشة الجهاز، وقابلت الضوء الساطع بابتسافة خفيّة، تمتح صورتي بعض الألق:

- سألتقط لك أكثر من صورة لتختار واحدة منها.

- شكرا

نقرات خفيفة، تتراقص أمام عينيّ، ومضة سريعة وتعود الشاشة بيضاء من أيّ شئ.... عندها يلوح البرم والضيق على وجه السيد الأمين:

- لو تعطّل الجهاز لشُلّ عملنا اليوم.

قلت بكلّ سذاجة:

- ياسيدي يمكنني أن ألتقط صورة لي في جهاز الموبايل وأحولها لك..

هزّ رأسه مقاطعا:

- ذلك ممنوع(ثمّ تساءل بجدّ صارم )مذ متى اشتريت هاتفك؟

- قبل سنتين.

فابتسم ساخرا من سذاجتي:

- أجهزة الدولة حديثة آخر المخترعات.. أطول عمر لها ستة أشهر ونجددها باستشارة خبراء أجانب كلّ ثلاثة أشهر لذلك يبدو كلّ ملامح الصورة فيها واضحة تماما المعاني الحفيفة وبعض ماضي الأفراد يظهر على وجوههم.

- الآن ماذا أفعل ياسيدي؟

تأمّل فترة وهزّ كتفيه:

يمكنك الانتظار في اقبو حتى استدعي آخرين من الطابور.

وهبطت درجات السلم فلفحت أنفي عفونة ورطوبة، وتخلل عيني شبح لضوء باهت بعضه من مصباح قديم وبعضه الآخر من شق في الشباك المبهم المقفل منذ زمن.. كانت هناك رفوف كثيرة ضمت سجلات قديمة وملفات تناثر عليها الغبار، معلومات سوف يزجون بها في شرائح صغيرة تتستوعب ملايين المجلدات، ورأيت في طرف القبو البعيد كرسيا خشبيا وسلما صغيرا بأربع درجات يكفي من يضع قدمه على الدرجة الأخيرة الوصول إلى الرفوف العليا.. تحملت عفونة الغرفة وجلست على الكرسي. لم تثرني السجلات القديمة، وليس من حقي أن ألمس أحدها فيثور بوجهي غبار ساكن تراكم منذ سنوات، وجدتها فرصة لأتلهى مع هاتفي النقال، وألتقط لي صورة وسط العتمة أثبت بها عطل الجهاز الحكومي، كانت السخرية واضحة على وجهي، وانشغلت بلعبة ثمّ مللت وتابعت الأخبار، بعد دقائق أو ساعات يصلحون الجهاز ثمّ تلغى هوياتي القديمة لأطلّ على الآحرين بهويّة واحدة، سمعت صوت الأمين يناديني فارتقيت الدرجات.

- لا مشكلة الجهاز التقط الصور لكلّ الطابور يعني ذلك أن لا عطل مفاجئ.

- هل تجرب.

- حسنا قف مكانك وانظر إلى الشاشة..

عدّلت هندامي، وعدت إلى ابتسامتي الخافية التي تنشر الانشراح في قسماتي وتجعل خدي متوردتين. المربع يظهر واضحا، نقرة..

اهتزاز في الضوؤ

خطوط تتراقص على الشاشة

صفاء

حركة اهتزاز

عودة الخطوط..

ثمّّ

صفاء تام

لون فضّي

.... و....

- هكذا إذن

قال أمين السجل عبارته، والتفت إليّ، وهو يقول:

ظاهرة غريبة، ليست من اختصاصي..

- ياسيدي هذه صوري الشخصية عندك في الهاتف.

- إسمع أيّها السيد أنا لا أشكّ فيك لكن تعرف البلد يمرّ بظروف أمنيّة داعش.. والإرهاب.. أرجو ألا تفهمني فهما خاطئا، لا أشكّ فيك ولكي أؤدي واجبي وأريح ضميري أتصل بتالسيد مسؤول الأمن الجديد ليطلع على الأمر.

قلقت بقلق:

إذا كان الجهاز

فقاطعني وقد تغيرت ملامحه ونطق عن لهجة قاسية:

لا تكثر الكلام معي.. إرجع إلى القبو إلى حين يأتي السيد مسؤول الأمن.

لم أعترض، وخطوت أهبط الدرج كما لو كُلِّفت بواجب أن أطالع - وسط العتمة- جميع االصفراء التي ارتمت على الرفوف منذ عقود.

2

نظر إليّ بعينين زائغتين فيهما بعض الشفقة والسخرية ثمّ تساءل:

منذ متى ابتعت هاتفك ؟

قبل سنتين أو أكثر بقليل.

ملامحه تدلّ على أنّه لا يرغب في أن يطيل الحديث:

أووه نحن اليوم أبناء هذه اللحظة لقد تغيّر كل شئ هذا الجهاز أقررناه قبل ثلاثة اشهر وسنلغيه ونجلب غيره بعد بضعة أشهر العلم في تطوّر!

وماذا عليّ أن أفعل ؟

إنتظر حتى ينتهي الطابور وأعود إليك.

وحين هممت بالإنصراف اعترض بلطف.. وفضّل أن أبقى بالقرب منه في الغرفة المجاورة التي تضمّ بعض السجلات القديمة، قلت معترضا من دون أيّ احتقان:

ياسيدي الأمين يمكنني في هذا الحالة أن أذهب إلى أيّ مصوّر في مركز المدينة ثمّ أعود لك بصورة تستطيع أن تحوّلها في حاسوب السجل المدني.

فهزّ رأسه محفيا بعض البرم:

هل تتركني أواصل عملي وتستريح في قبو السحلات حتى أنادي عليك.

فقبلت على مضض، وهبطت الدرج لأقضي بعض ساعات مع الأرفف القديمة، مع التراث جلست على مسطبة بالية وسط الغبار، وقد شعرت للوهلة الأولى بضيق في نفسي.

3

كان السيد ضابط الأمن لطيفا معي

مدّ يده مصاحبا، وقال وهو يرحّب بي ويطلب لي كأس شاي وعقب وهو يقرأ ملامحي التي باحت بالريبة والشكّ:

- إشرب سيد نعمة الله نحن لسنا كالنظام السابق ندس السمّ في الطعام والشراب لمن نستدعيهم (تنفّس بعمق، ونفث هواء ثقيلا)أنت أساسا لست متهما حتّى نستنطقك.

راودني اطمئنان وبعض راحة شجعاني على الاعتراض:

لماذا استدعيتموني إذن.

فأطلق ابتسامة واسعة:

لدراسة ظاهرة في السابق كان ضابط الأمن يتّهم ويدين ويلجأ إلى العنف أما نحن فشغلنا الدراسة والبحث وقد واجهتنا ظاهرة جديدة تمثّلت بامتناع الحاسوب في مديرية السجل المدني عن قبول وجهك، ربما هناك أمر ما علينا أن ندرسه.

ولكي أثبت أنّ حاسوب الدولة على حطأ أو إنّ هناك بعض لبس حدث في الألكترونات والبرمجة، التقطت هاتفي من جيبي، والتقطت صورة لي فيه، وضعت الهاتف أمام عينية، قلت بكلّ ثقة:

أنظر أيها السيد هذه صورتي أو بكلّ وضوح آخر صورة ألتقطها أمامك فأثبت أنّ جهاز السجل المدني يقع في بعض الاختلاط.

نظر إلى صورتي في الهاتف غير مكترث، وواصلت: لكي تصدّقني سأفعل ذلك أمامك.

رفعت هاتفي النقّال أمام وجهي وضغطت على الزر، وقدمت الهاتف إلى السيد الضابط:

- جميل جدا

أتحب أن التقط لك صورة معي:

- لامانع

انتقلت إلى حيث يجلس التقطت صورة معه أثارت اهتمامه، كان يبتسم ويقول: الآن أرسل الصورة المشتركة إلى هاتفي لأحللها، في الوقت نفسه، طلب منّي هاتفي وقام بمسح الصورة من الذاكرة وقال معقبا:

ياسيد نعمة الله أنا رجل أمن لا يحق لدواعي أمنية...

- فهمت ياسيدي

ثمّ اتجه إلى الحاسوب الذي أمامه وسألني بلطف أن أقف أمام شاشة جانبية ليجرب وجهي مع آلة حديثة قال عنها إنها أكثر تطوّرا ودقّة من آلة التصوير في مديرية السجل المدني، ظهرت غشاوة وحبيبات وصدر من الجهاز صفير حافت يشبه طنين بعوضة، غير أنّ الأمر الذي زادني استغرابا ظهور سريع لخطوط ودوائر لم تتجمع خطرت لمحة واختفت فالتفت نحو الضابط فوجدت ابتسامة غريبة ترتسم على شفتيه.

رحت أنتظر جوابه.

فأشار إلي أن أرجع إلى مكاني جنب المنضدة، وجلس وهو يتأفف:

- لا أخفيك سيد نعمة الله أنّ الحالة غير طبيعية قد تكون داعش أو أمرا آخر لكن مع ذلك ليس لي الحق في أن أبقيك هنا على الرغم من أن وجودك أفضل لسلامتك، يمكنك الخروج، إرجع إلى الماضي القريب والبعيد، وتذكّر أننا نتابع أيضا قضيتك.

- وماذا عن هويتي الجديدة؟

- نحن الآن في بداية الطريق ولا أظنّ القضية المبهمة التي تطعن في وجهك من فعل داعش أو أحزاب المعارضة وليس لها علاقة بالسياسة حسب رأيي.

سألت بقلق:

- أهو مرض عضوي خطير؟

مطّ شفتيه مستغربا، فقلت هل تسمح لي بزيارة السجل المدني وأطلع على الورقة الخاصة بنا.

- حسنا يمكنك ذلك وسوف أتصل بأمين السجلات.

كنت أغادر دائرة الأمن، وفي ينتابني بعض الشك والخوف، من الخارج نفسه، هل أصبحت هدفا لعصابة تمتلك أجهزة ذات تقنية متطوّرة تستهدفني، ولم أنا بالذات.. معان كثيرة كانت تدور برأسي.

4

كان أمامي طريق قد يطول..

وأوّل شئ تذكّرته بعد أن خرجت من دائرة الأمن أنح أن أمرّ بمحلّ التصوير الشهير وسط البد. من قبل راحت عيناي تقعان على مشاهد مثيرة، ومشاعري ترقى في أحاسيسها السامية. هذا المكان ذاكرة البلد منذ عشرينيات القرن الماضي توارثه الحفيد عن الأب عن الجد فالجدّ الأعلى، أجيال ترسم بدقة أعراس البلد. زأفراحه وأحزانه، جدتي وصورة زواجها من جدي وأبي وأمي، كانت آخر زيارة لي قبل عشر سنوات ثمّ اختفى المحل من ذاكرتي وأمنياتي. كأني في حلم عشر سنوات عقد يحدث فيه الكثير. لم نكن نفكر زمن الحصار بالتقاط صورة، ولاأن نعلن عن أفراحنا، ولم تكن لدينا نفقات للبذخ، وعندما انقضى القرن العشرون حلت ذاكرة جديدة، غزتنا فجأة مخترعات جديدة، هواتف، حواسيب، أجهزة معقّدة مركبة.. كنت أقف على باب الاستوديو وكأنني أقف على أطلال جديدة..

لقد تغيّر كل شئ تماما..

كيف نسيت ذلك؟!

الاستوديو انقلب إلى محل اتصالات وناديا لهواة اللعب في الحاسوب، ماتت صور جدتي وجدي واختفى أبي، وأمي...

الناس بدؤوا يرسمون أنفسهم بأنفسهم.. أو على أقلّ تقدير دوائر الدولة ترسمهم..

ضحكت في سري وأنا ألقي نظرة أخيرة على المكان، وأغادر.. من حقّ رجل الأمن ألا يخبرني أن محل التصوير ذاكرة البلد انقلب إلى معنى آخر، فشغله الشاغل أن ينصت لا أن يحكي، مع ذلك لم أسامح جدتي التي تفتخر أن لنا صورة قديمة مع جدي في الاستوديو وقد ضاع كل شئ.. سامحها الله لقد تحملت الكثير..

(جدّتي عيوش العارف أم أبي رحمها الله، العائلة كلّها في أمن الدولة، تجلس وسطهم ومن ضمنهم أبي ولا تستطيع أن تتكلّمبوجودهم.. المفروض أن تجلسوتسمع حتى تصاب بسكتة قلبية وتموت.. هذه مشكلتنا معها.. توفيت عن عمر 105 أعوام.. والمفاجأة المضحكة المبكية أنها بعد طول استماع لأفراد عائلتها، جاءت داعش فنبشت القبور وكسرت الشواهد يوم استولوا على بلدنا.. الكل يعرف أننا أضعف منها ولولا الإيرانيون.. والروس والأمريكان لاحتلت الشرق الأوسط)إذا ماظهرت لي صورة وتأكد السيد ضابط الأمن.. على فكرة نسيت أن أسأله عن اسمه، سأسأله حين يتصل بي وربما لن يذكر اسمه لي لأنّه يسمع ولا يتكلم..، سأقول له إني أشكر الإيرانيين والروس والأمريكان لا لكوني أحبهم بل لأنّهم طردوا داعش التي نبشت قبر جدّتي وكسرت الشّواهد..

غير أن الصورة القاتمة التي انطبعت في ذهني عن استوديو الصور، انكشفت بعض الشئ، وسط الغبار الكثيف، والرفوف الصفراء، لمحت بعض الأسماء..

ابتسم لي أمين السجل المدني، واعتذر عما بدر منه قبل بضعة أيام وأمل أن تقدر الدولة بجهازها الأمني الجديد على حلّ مشكلتي.. سحب كرسيا إلى ركن قريب من الخزانة وبسط يده بكل لطف في أن آخذ مجلسي حيث الكرسي وطاولة صغيرة ثمّ أحضر ثلاث سجلات ضخمة مصفرّة يعلوها الغبار، وضعها على الطاولة أمامي، وقال سأتابع عملي مع أصحاب الطلبات في حين تستطيع أن تتابع السجلات، لم أعر اهتماما للقادمين من الخارج الذين راحوا يدخلون واحدا إثر واحد يقفون أمام الشاشة يلتقطون صورا لهويّاتهم الجديدة، وانهمكت في متابعة السجلات الخاصة بي وبأهلي الذين رحل أغلبهم وأوّلهم جدّتي أمّ أبي.. رأيتها صورتها القديمة التي التقطتها عدسة المصور القديم، اسمها واسم أبيها وجدّهاأأبي والصورة التي التقطها في الاستوديو القديم المتحوّر الآن إلى محل اتصالات، صورة وكانت ذات ملامح زاهية، لم تبتعد السجلات إلى أكثر من صور الأجداد، فالسِّجل المدني، والإحصاء جرى ترتيبهما عام 1934، نحن الآن فسنة 1924، الأجيال تلاحقت، والأهم من كلّ ذلك صورتي التي تجمع ملامح الإثنين أمّي وأبي.. المشكلة وجهي، والآلات الحديثة الراقية في السجل المدني، والأرقى منها في دائرة الأمن لا تتقبّل أن تنطبع ملامحي. لا داعي لأن أثبت أنّي ذكيّ فوق العادة فأثبت أنّ الدول الأكثر عراقة في المشروع الدمقراطي نفسها التي نحن نحثّ الخطا للحاق بها تغذّي دوائرها العامة بآلات متطوّرة وتجعل الأجهزة الأرقى بيد الدائرة الأمنيّة، نحن لسنا استثناء من القاعدة العامة ولو كنت في السابق لتعرضت لتعذيب هائل كون أفراد أسرتي عملوا مختارين أو مجبرين في الأمن الوطني وكانت جدتي تجبر نفسها على الاستماع طوال اليوم إليهم، والأدهى أنّ صورتي استعصت على جهازين متطوّرين، فمن حقّي أن أكبر السيد ضابط الأمن الذي نسيت أن أسأله عن اسمه ولا أنسى أن أشكر أمامه الأدقاء الإيرانيين، والرّوس، والأمريكان الذين خلّصونا من عصابة داعش، ولو أنهم جاؤوا متأّخّرين بعد أن نبشت داعش قبر جدّتي وبقيّة القبور وأزالت شواهدها.

ليس هناك شئ جديد في السجلات القديمة، أسماء أعرفها وصورا رسميّة لا لأستبعد أني رأيت بقاياها الأخرى عند أبي وبقيّة الأهل غير أنّها بقيت شاخصة في ذاكرتي وربما ستظلّ بقية حياتي إن لم أُصَبْ بفقدان الذاكرة.

لعد بضعة أيّام اتصل بي ضابط الأمن عبر الهاتف، فوصلت في الموعد، بقي محتفظا بابتسامته، وقبل البدء بأيّ شئ، فضّل أن نذهب إلى الحاسوب فوقفت أمام الشاشةـالتقط صورة فلم تظهر عليها أيّة ملامح، بقيت صامتا، فربت على كتفي وقال:

- سأجرب مع حاسوب آخر.

خطوت ثانية إلى مكان التصوير، وأمعنت النظر في الشاشة من جديد، نقر على الزر فتفاجأت بصورة ذات دائرة تلتفّ على دائرتين في الأسفل ونقطة في الأسفل ثمّ تحت النقطة قوسان.. ابتسم الضابط وازدادت حيرتي، ماعلاقة الدوائر والصور بوجهي، هل أصبحت لعبة للآلات الحديثة أم أنّ في وجهي شئ ما مبهم يمنعه من أن يلتحق بتلك الأجهزة المتطوّرة، قال الضابط بكلّ هدوء:

- لاتقلق أيّة ملامح تظهر تصبح في مصلحتك.

- مهما يكن فيبدو أني أجهل كلّ شئ.

لا تجعل اليأس يجرفك بعيدا.

استلّ من درج مكتبه ملفا يحتوي بضعة أوراق، وضعه أمامهي وهو يقول:

- إنّه ملف والدك، اقرأه بهدوء فنحن على وشك أن نصل إلى نتيجة.

كنت أطالع باهتمام كلّ ماورد في السجل عن تاريخ ابي الذي كان هو وأعمامي يعملون في جهاز الأمن الوطني، بالتأكيد الذي بين يديّ صورة وليست السجل الحقيقي أو نسخة لبعض أوراق من السِّجل الحقيقيّ، وقفت عند طلب غريب لأبي يرجوه أن يحوّله للعمل في الأمن الخاص بالسلك الدبلوماسي تكريما له بعد خدمة صريحة وإخلاص للدولة وسيرفق ذلك بملخق آخر يبن فيه السبب، لم أجد الورقة الأخرى، لكنني وجدت أبي صريحا ومخلصا لجهاز الأمن مثل بقية أعمامي الذين سببوا الصداع لجدتي، لقد كتب أبي عن أناس ماتوا، وآخرين مازالوا أحياء حتىّ إنّه كتب عن عائلته وإخوته، أما الورقة الأخرى فلم يحتوها السجل الذي بين يدي!

دخل عليّ الضابط وازالت ابتسامته على وجهه، رفع السجل من أمامي، ومد يده مصافحا، وقال لانريد أن نتعبك، نواصل غدا.

وفي اليوم التالي جئت والأمل يراودني في أن تتقبّل الآلة الأكثر دقّة وجهي، قلت للضابط نفسه:

- من غرائب الأمور أنّي لم أعرف بعد اسمك الكريم.

فازدادت ابتسامته سعة وقال:

- ليس هذا هو المهم بل الأهم أن نعيد إليك ملامحك.

وقبل أن يقدّم إليّ أيّ دليل، وقفت أمام الشاشة على الحائط، ضغط على الزر، فظهرت الدائرة الكبيرة والدوائر الثلاث، ثمّ القوسين أسفل منها، فهزّ الملازم جادارأسه، وانتظر لحظة نقر بعدها على زر البورد، فظهرت صورة الدائرة الكبيرة بمحتوياتها وشخص ليس بالغريب عليّ...

إنّه أبي..

أبي موظف الأمن القدير، وهناك ملامح أخرى عند كتفي الأيمن لصورة مبهمة مشوشة أقرب ماتكون شبيهة لأمي التي توفيت بعد أبي بحادث سير قبل التغيير الأخير، وظهور داعش وجئ الروس والأمريكان والإيرانيين.

هل هي معضلة أخرى، فلِم لا أخمّن أن الدّوائر تخص وجهي، مما يؤكّد حسن ظنّي أن السيد ضابط الأمر، نهض بكلّ همة وخاطبني بلطف:

- بدأت ياسيد نعمة الله بوادر النجاح تلوح. أطمئنك، مرّة أخرى، إلى أنّي لم أخفق في أيّة مهمّة انتُدِبتَ لكشفها.

ذهني صافٍ، والعجب يتناوشني، تفاؤل عند ممثل السلطة يثير في نفسي انشراحا لاحدّ له فيزول الهاجس وبعض القلق.

ليس هناك من خوف..

ولا أظنّني اقترفت تهمة

لا أنكر أنّ الحقائق الجديدة التي جمعت بعض الخطوط وصورتي أبي وأمي في الأعلى جعلتني خلال اليومين السابقين، وفي اليوم الآخر قصدت بعد مكالمة هاتفية دائرة الأمن.. استقبلني السيد الضابط. زربّما هذه المرّة زاد انشراحه درجة واقتربت جهوده من حلّ اللغز بكلّ تفاصيله:

سيد نعمة الله لعلك لا تصاب بالدهشة حين تعرف أنّ معظم وثائق الأمن أتلفت في البلد كنّا نعرف بعض المعلومات العامة عن والدك لكن من حسن الحظ أنّه اشتغل في أكثر من سفارة وكانت هناك أكثر من وثيقة كتبها بخط يده عن نفسه وعن والدتك.. أظنّ هذا يكفي لتطلع عليه بنفسك.

رحت أتابع باهتمامٍ وشغفٍ ماكتبه والدي عن نفسه وعن أمي. يبدو أنهم أخفوا عني تقاريره عن الآخرين، لذلك هناك حالات لم يفحر بها أمام جدتي أو يسبب لها صداعا.

كان أبي حسب التقارير التي احتواها الملف يهيم شغفا بأمّي ودفعه حبُّه لها أن يرجو الوزارة كي تنقله إلى الخارج. ولم تغبنه الحكومة حقّه، كان الضابط الأمني الذي انتقل في عدة سفارات فرآى أكثر من بلد وأقام علاقات كثيرة، في ملفه السرّي الذي قدم من الخارج أنّ أمّي كانت تعاني من تشوّهٍ في الرحم، ولم يكن أبي ليرغب في الزواج من أخرى أو يطلّقها. وأرى أنّ هذا الجانب الإنساني الرائع في حياته.

الحب، والحب بعنف

الحب والتماهي

كلّ ذلك دفعه أن يفعل المستحيل. أخفى الأمر عن أبي وجدتي، وانقل في خدمة الدولة بعيدا عن العيون، هناك عرض مرض أمّي على أكبر الجرّاحين، فحدثت المعجزة.

طفل الأنانيب

هل أضحك لأني كنت في أنبوبة ثمّ انتقلت إلى رحم أمّي.

ويبقى أبي رجل مبادئ فقد أخفى قضية طفل الأنابيب عن جدّيي وجدتي ولم يخفها عن الدولة.. تبقى قضية واحدة غابت عن فطنتي إلى الآن؟

- ياسيدي صدقني أنا لم أفهم إلى الآن ماعلاقة كوني طفل أنابيب برفضٍ يبديه الحاسوب لوجهي.

- بل هذا جوهر القضيّة.

- كيف؟ قد تخفى علي أمور لاتخفى عليكم؟

على أيّة حال إستعدّ الآن لالتقاط صور أخرى فنحن في الطريق لالتقاط وجهك الذي أتعبنا.

وقفت أمام الشاشة وكان ينقر:

ملامح لا علاقتي لشكلي بها

أنفي ليس هو

عيناي

وجهي المدور وفي الصورة وجه طويل..

أنا دائما حاسي الشعر وفي الصورة أبدو أو يبدو الآخر يرتدي قبعة اعتاد أن يرتديها الرسامون والفنانون. كان الشخص الآخر ذا عينين ماكرتين مثل عيني ثعلب، ولا أظنّ عينيّ توحيان بالخبث أما وجهي فيبدو وسيما خاليا من أيّ تجهم. لا أمدح نفسي وأجد أن بعض النساء أغرمن بي لوسامتي..

هل سخر الحاسوب هذه المرّة من شكلي فظهرت بصور شتّى..

بعقال

بسدارة

حاسي الرّأس

وجوه تقترب أحيانا من قسمات وجهي إلى حد شبهٍ قريب وتفترق إلى حدّ

لكنّي لست هو

كلّ شئ محتلف إذن..

أنا في صور أخرى

وتجلٍّ آخر

عندئذٍ تنفَّس الضابط الصعداء، وقال لم تبق إلّا خطرة واحدة أفضّل أن نكملها غدا فتظهر صورتك كما أنت الآن!

- هل أطمئن، أنا أعرف ياسيدي نفسي لم أكن إرهابيا ولست من جماعة الحكومة السالفة، مع أن أهلي كانوا في نفس الجهاز وكانوا يحكون لجدتي عن مآثرهم، كانت تضجر ولا تبدو أية علامة على قسماتها، وأشكر، ياسيدي الأصدقاء الرّوس والإيرانيين والأمريكان الذين طردوا داعش التي نبشت قبرها وأزالت الشواهد!

- لا بأس عليك!

- سأمرّ على قبرها بعد أن أخرج منك!

- هذا قرار يخصك ولن نتدخل في خصوصيّاتك.

- لكن قبل أن أغادر دائرتكم هلا تفضّلت وأخبرتني لِمَ امتنع الجهاز عن التقاط وجهي.

فابتسم ابتسامة واسعة، وقال:

- كونك طفل أنانيب، يرتبط بالتقدّم العلمي، القرن العشرون الذي ولدت فيه قرن الاختراعات العظمية، وقد أزال الطبيب خلال دمج الحيمن بالبويضة كل السلبيات الموروثة منك.. فقر الدم، العوق الذهني، الضعف، أمراض الكلى، أيّ سلب.. فكنت صورة إيجابية لا تحمل أيّة ملامح سلبية.

قاطعته مؤكّدا:

- الشئ الغريب أنّي لم أكن أعرف ذلك وأشعر بسعادة أني لا أحمل أيّ مرض.

- تلك هي المشكلة التي واجهت الكامرات الراقية، إنها ذات قدرة على جمع مظهرك الخارجي بما يدور في أعماقك من أحاسيس وموروث، فلم تكتفِ بجانب واحد ورفضت استقبالك..

- إلى هنا الأمر منطقي ولا علاقة له بالإرهاب بل بعمل أبي وأعمامي في جهاز الأمن عند الحكومة التي سلفت.

- نمعم أمّا نحن فقد جمعنا معلومات عنك وعن أصول عائلتك، تتبعنا الظاهرة بدقة. فظهرت لنا أشكال مختلفة، ظهرت دوائر وخطوطثمّ صورة أبيك وأمّك، ثمّ بعض أقاربك، كلّما غذينا الحاسوب بمعلومات تقدمنا خطوة.. وهكذا.

- آمل أن يظهر وجهي غدا!

فنهض، وفمت من إشارته، أنّ عليّ أن أغادر، فمددت يدي مصافحا:

- سنغذي الحاسوب بالمعلومات القديمة ليظهر وجهك غداّ.. شيعني إلى الباب وكانت يده تربت على كتفي برفق: لا تقلق.

 وخرجت من عنده، وفي رأسي تتلاعب فكرة ما، لم أخف من أن أحاسَبً بجريرة أبي وأقاربي، ومن سبب لجدتي الصداع، ولم أعلن عداوتي للروس والأمريكان والإيرانيين، بل شكرتهم لأنّهم طردوا من نهب قبر جدتي وبقية القبور، أحيانا يأتي ذكر الأسماء من دون عمد فأذكر اسم دولة قبل غيرها لا لأنني أحبّها أو أحترمها أكثر من الدولتين الأخرين، بل هي المصادفة وحدها.. المصادفة التي تجعلني لا أعير اهتماما لترتيب الأسماء.. فكم مرّة سبق على لساني اسم جدتي قبل جدي وكم مرّة ذكرت أمي قبل أبي.. هي المصادفة وحدها جعلتني أقف لحظة على الرصيف، وأتأمّل في وجهي الآتي يوم غد.. في القرن العشرين جردني الطبيب من كلّ ماهو سلبي يعيق ذهني وجسدي.. سأعيش عمرا طويلا.. جدتي عاشت 95 عاما على الرغم من ثرثرة أحاطت بها سبَبُها أعمامي وأبي، ولولاذلك لامتدّ بها العمر إلى 105 سنوات. يُقال ذلك، أمّا أنا، الآن، وقد عرفت أنّي من دون علل ولا مرض، ولست معرضا لأيّ مرض عقلي، فَلِم أعود إلى شكلي القديم، من الممكن أن ينتقل إليّ فايروس الحاسوب نفسه، شئ من الشكّ يراودني، يتحوّل إلى خوف، ثمّ رهبة..

توجّس

شكّ

وقلق

ربما أدعهم يجمعون المعلومات يغذونها في الحاسوب كاملة فينجزون العمل غدا..

أمّا أنا فالأفضل لي ألّا أزور الحاسوب، ولا أدعه يلتقط وجهي الجديد، أفكّر بالغياب ليكون الرحيل.. أو الهرب.. الهجرة بصمت.. ليقولوا أيّ شئ.. المهم إنّي لا أريد أن أرى صورتي بشكلها القادم.

***

قصة طويلة

قصي الشيخ عسكر

أَهْــلُ الْــمَعَازِفِ أَتْــقَنُوا أَدْوَارَهُمْ

وَعَــلَــى الْــجَمِيعِ تَــفَوَّقَ الــطَّبَّالُ

*

ذَاكَ الْــمُــجَوَّفُ لَا عَــقِيدَةَ عِــنْدَهُ

الــسَّــوْطُ يَــمْلِكُ صَــوْتَهُ وَالْــمَالُ

*

فَــتَــرَاهُ يَــجْعَلُ خَــائِفًا مُــسْتَسْلِمًا

بَــطَــلًا  تَــخَافُ لِــقَاءَهُ الْأَبْــطَالُ

*

مَــعَ  أَنَّــهُ يَــخْشَى الــلِّقَاءَ بِــحُرَّةٍ

إِنْ  لَـــمْ تُــكَــبِّلْ كَــفَّهَا الْأَغْــلَالُ

*

كَـــمْ  لَــمَّعُوا نَــعْلًا عَــتِيقًا بَــالِيًا

حَــتَّــى ظَــنَــنْتُ بِــأَنَّــهُ جِــنِرَالُ

*

لَوْ ثَعْلَبُ الصَّحْرَاءِ، (رُومِلُ) ذَاتُهُ

ذَاكَ  الَّـــذِي قِــيلَتْ بِــهِ الْأَقْــوَالُ

*

لَاقَــى  الْــهِزَبْرَ أَبَا الْفَوَارِسِ مَرَّةً

مَـــاتَ  ارْتِــعَــابًا أَوْ أَتَــاهُ خَــبَالُ

*

أَوْ (مُــونْتَغَمْرِي) قَــدْ يَفِرُّ مُوَلْوِلًا

إِنْ  مَـــا أَتَـــاهُ الْــفَــاتِكُ الْــقَــتَّالُ

*

وَهُــوَ الَّــذِي أَضْــحَى ذَلِيلًا تَابِعًا

وَبِــــأَهْــلِــهِ  يَــتَــحَــكَّــمُ الْأَرْذَالُ

*

حَــتَّــى الْــهَزَائِمُ خُــطَّةٌ مــحْبوكَةٌ

لَـــمْ يُــدْرِكُــوا أَبْــعَادَهَا الْــجُهَّالُ

*

قَــدْ كَــادَهَا الــلَّيْثُ الــسَّبَنْتَى لِلْعِدَا

حَــتَّى تُــمَرْطِلَ جَــيْشَهُمْ أَوْحَــالُ

*

مِــمَّــا يُــسَهِّلُ مَــوْتَهُمْ وَهَــلَاكَهُمْ

فَــبِــأَرْضِنَا  تَــتَــسَارَعُ الْآجَـــالُ

*

عَــمْرٌو وَسَــعْدٌ وَالــزُّبَيْرُ وَخَــالِدٌ

فِــي  سَــيْلِ صَاحِبِهِمْ هُمُ الْأَوْشَالُ

*

كَــلِمَاتُهُ الْــجَوْفَاءُ لُــغْزٌ غَــامِضٌ

فِــيــهَا يَــحَــارُ الْــفُطْنُ وَالْــعُقَّالُ

*

فَــبِهَا مِــنَ الْــفِكْرِ الْــعَمِيقِ مَنَارَةٌ

تَــسْرِي عَــلَى أَضْــوَائِهَا الْأَجْيَالُ

*

إِنِّي  لَأَضْحَكُ مِنْ عَقَاعِقَ عَقْعَقَتْ

بِــهُــرَائِهَا  مَــا صَــدَّقَ الْأَطْــفَالُ

*

سَــبَقُوا مُــسَيْلِمَةَ الْــكَذُوبَ بِــفَنِّهِمْ

مِـــنْ كِــذْبِــهمْ يَــتَــعَلَّمُ الــدَّجَّــالُ

*

يَـــا  أُمَّــةً لِــلْجَهْلِ بَــاتَتْ مَــرْتَعًا

وَبِــأَرْضِهَا  قَــدْ سَــاءَتِ الْأَحْوَالُ

*

مِــنْ  أَلْــفِ عَامٍ كَسَّرَتْ أَصْنَامَهَا

وَالْآنَ يَــسْــعَى خَــلْفَهَا الــضُّلَّالُ

*

كُــلُّ الشُّعُوبِ تَطَوَّرَتْ وَتَحَرَّرَتْ

هَــلْ يَــا تُــرَى يَــتَحَرَّرُ الْأَنْذَالُ؟

***

عــبــد الناصر عــليوي الــعبيدي

والهداهد

انا واسراب

العصافير الهداهد

واليمام نحيك  قرص شمس

بالف طيف

كي نمنح للسنبلة طيفا

وللغزلان طيفا ولليمامة

التي تبني عشها

فرحة بين اغصان

شجرة السدر طيفا

وللفراشات في الحقل

المستباح طيفا

وللطفل الشريد

وللطفلة الشريدة طيفا

و لقلبي  ولاسراب

العصافير  والقطا

والهداهد   طيفا

ومن ثم نمضي

نمضي فرحين

صوب ذلك

التل المعشوشب

الجميل  لنغني

معا اغنيات

للبرق للخصب

وللبنفسج الجميل

وللشجر .

***

سالم الياس مدالو

 

النبيذُ الذي

أَسْكَرَ الكأس

حتى الثمالةْ

تَمَدَّدَ خلف العيون ِ

وسِروالهُ تشربُ البحر

تفْتِلُ أمواجهُ

موجةً

موجة ً

قاعدةْ!

*

تلهو هنا...

وهناك

بثوبٍ تُبَدِّلهُ حسبما

تقضيهِ السَّفَالَةَ

والفائدةْ !

وتَسْبَحُ تحت يَدٍ

غَسَلَتْها العمالةْ

بِمُسْتَنْقَعِ (العبدةِ) الجالِدَةْ !

*

فمها: لَدْغَــةٌ راصِدَةْ

رأسها : حَشْوَةٌ

- صَلَفٌ يابِسٌ -

ورؤىً فاسِدةْ !

*

هي الخَبَثُ

الوَلَغُ اللاهث ُ

خَلْفَ نِعَالِ

بني (البْلغَةِ) الحاقِدةْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

هل كانت ملامح وجهي هي التي تربطني بكم؟ إذن لماذا لم أعد أحبكم بعد عودتي من ساحات القتال مشوّها. أكلت الانفجارات تضاريس وجهي ونخرت تلك المأساة أجمل زوايا اتزاني من دون ان تعرفوا، كما حصل لعصا النبي سليمان(ع).

لا زلت أتذكر خميس انكساري قبل عشر سنوات كأنه اليوم، حين ألقوا القبض عليّ في بيت خالي (علاء) وأنا لم أزل أحلم بمزيد من الحمامات الزاجلة لقفصي الصغير. كنت بطلاً حين خبأت عن فطنة أمي تمردي على إرادتها وهي التي تحلم بي مهندساً وأنا كاره للمدارس ومن يدخل إليها، لا حلم لي غير زواجي من فاطمة، إبنة خالي التي تعلمتُ معها بأن الحب ممكن في زمن الموت الازرق.  كنتُ أتوق الى من يفهم خارطة حزني، لامرأة تفهم حبي للطيور وخوفي من الأماكن المرتفعة وعشقي للخبز الساخن، لإنسانة لا أخجل امامها من قمصاني المثقوبة ومن أبي السكير ومن فقر عائلتي الذي تأسس منذ الطوفان الأغر لنوح (ع).

حلمت دوما بالعمل مع خالي سليل الصبر كالأتقياء، والاقتران بابنته، ولكنهم القتلة، أقصد من يعشقون الحروب ويدفعون لها خيرة الحالمين بالغد، حينما ساقوني كالخروف الى معسكر التدريب، وأجبروني على ارتداء بدلات بلون الطحالب تفوح منها رائحة من سنقتلهم، لنتدرب على تمزيق الأرانب التي أحببناها منذ فجر البراءات الاولى، ولنقاتل رجالاً أعلم انهم تركوا وراءهم أشياء كثيرة يحبونها وحملوا بدلها الأسلحة مثلنا مرغمين!

ثكنات الجيش لا خبز فيها، غير أني أشمُّ رائحة الأرغفة كلما دفنتُ المساء بحروف الحبيبة، لأزف كل الأحلام لهودج فاطمة، وانحت خيالاتي متصوراً أن كل الرصاصات التي عبأت بها بندقيتي ما هي إلا حبات حنطة لأرشها فوق حماماتي في سطح خالي المنتظر عودتي.

الرسائل رابطنا الوحيد، تأتي كل أسبوع مثل ماء الجنة على قلب تائه في صحراء .. تحمل اخبار الحيِّ، أهل الدار، هديل الشباب على أغصان نهاراتي.  اشتاق بعدها لصراخ أبي فهو أهون من وقع الصواريخ وأوامر الضباط.  اشتقت للعاطلين عن العمل الذين كنت أُقرضهم ما استطعت كي لا يفوا بديونهم وإن أقسموا بكتب الله .. أفتقد رائحة الحساء الذي تطبخه جارتنا كل مساء وترسل لنا طبقا منه كي لا ننام بلا عشاء.

أعادوني الى بيتي بعد معارك ديزفول* مشوّهاً.. لم أكن أحلم بغير الشفاء.

استجمعت الكثير من حب الله لأرمِّم وجعي، وأقدر على النظر في المرآة، استجمعت حبي لفاطمة كي استجيب للعلاج الطبيعي في مستشفيات بنتها الدولة ذاتها التي دفعتنا للحرب، ذاتها الدولة التي دفعت ثمنا للأسلحة التي نحارب بها أكثر من الأدوية التي قد تصلح بعضاً مما قد يجازي تعب أمهاتنا وانتظار الحبيبات على شرفات صارت نهشاً للأتربة، من يصلحنا من ذكرى سرفات تلوك أضلاع اصدقائنا وتمرُّ ساخرة على حقائب براءاتنا المنتحرة؟

تزوجتْ من كنتُ اُمني سنواتي بالإكتحال بعطرها من رجل آخر، لأنهم يئسوا من اعوام قضيتها في المشافي لإصلاح خرائب عمري، باع خالي طيوري كلها وغادر البلاد بما تبقى من أولاده كي لا يزجّوهم في المعارك عنوة، اختار المنافي على وطن شُبّانه ينضجون مبكراً فتأكلهم الأسئلة، ليستردهم الله هرمين كسفنٍ قديمة**.

وحدها أمي بقيت على ابتسامتها وصلاتها، ما زالت تبحث عن عروس ترضى برجل له ثلاثة أطراف يعتاش من راتبه الأعرج، ولم تعلم باني لستُ حاقداً على أحد، غير اني صرتُ أكرهُ كل الناس بالتساوي!

وحدها فاطمة ظلت كل إسبوع ترسل لي بيد زوجها أرغفة ساخنة، وحساءً يحمل رائحة الأمس المسلوب، لا شيء يرممنا كالحب إذن، لذا عدتُ لشراء الحمائم، والبحث عن عمل يناسب قلب رجلٍ يظن ان الحرب لا يجب أن تهزم الأحلام.

***

سمرقند الجابري

من مجموعتي القصصية (علب كبريت)

......................

* ديزفول: اسم مدينة ايرانية حصلت فيها معارك شرسة بين العراق وإيران.

 

الشاعر الذي دخل بيت الطاعة

وهويحمل شمعة حزينة

وعلى رأسه نار هادئة

وتحت ابطيه حفنة من قصائد رديئة

كان يأكل مع الغنم

ويتعشى مع الذئاب

ويسهر الليالي مع البوم

تحت اوتاد خيمة

في مهب الريح

*

انه ذلك الشاعر الذي يقول شيئا

ويفعل شيئا آخر

انه حقا ثعلب ماكر

يلقي حصاه في المياه الراكدة

ويلج جحر الضب

ثم يترأس جلسة تحضير الارواح

ويكتب قصائده عن فوبيا الانتحار

لم يكن يقرأ شعرا

عن غزة الجريحة المنكوبة

فهو مصاب بوباء العصر المزمن

الذي انتاب جل شعراء اليوم

ثم يتفرج ويتألم على طريقته البوهيمية

وينتظر معجزة  قد يتنبأ بها الزعيم العربي

ليمنحه قلادة النظم

فيصبح رئيس بيت الشعر

*

يغزل خربشاته بسراب متطاير

ويغفو في هذيانه العميق

يتنصل من احلامه السوداء

ليعيش في بروجه العاجية

كل قصائده تصب في واد واحد

غالبا ما يغرد خارج السرب

وليس له قضية ولا مصداقية

ولا غاية ولا مسعى

وقاموسه لا يمتلك الا كلمات تافهة

عن الحب والغرام ونزوات لياليه الحمراء

نصوصه لا علاقة لها بالشعر ولا بالنثر

فهي مجرد خربشات تتهادى على حبل الغسيل

ولا تجد متسعا لكتابتها

على ورق دفتر تلميد بليد

*

آه ياغزة

حتى الشعراء تخلوا عنك

أزعجت الجميع وقاومت المعتدين بكل جسارتك

وصرت شوكة في حلقهم

ودوخت العالم المتصهين المتعفن

فطوبى لك ولطوفان الأقصى المجيد

***

بن يونس ماجن

مدّدت يدي إلى مقبض الباب الذي هرأه الصدأ. حال أن أمسكت به، ترك خطوطه البنية على باطن كفي، ورؤوس أصابعي.

دفعت الباب إلى الداخل، انفتح شيئًا فشيئًا؛ فاهتز المكنون من ثقل الصرير. ما أن ولجت الجوف، حتى داهمني السواد على الفور، فلم أر في هذه الأرض، عدا الضوء الخافت المنبعث في مكان ما هناك بعيدًا في الأفق.

أدركت الطريق بحدسي الذي من المفترض أن يقودني عبر ممر ضيق، وقد أكلت الرطوبة جدرانه، حتى فاحت منه روائح نتنة طافية في الهواء، إلى هدف باتر الحد. غطست في بحر الصمت. كان الصمت في هذا الفضاء المجهول أكثر الأشياء رعبًا. لم أخف الظلام بقدر ما كنت أرتعد خوفًا من الصمت.

بدت المسافة على مدى النظر قصيرة إلى فوهة النور، لكنني أحسست أنها تحتاج إلى سنوات ضوئية من أجل الوصول إلى تلك النقطة. بذلت جهدًا هائلًا كي أصل إلى هناك لدرجة أنني لم أكن أعرف ما إذا كنت أسير على الأرض، أم معلقا في الهواء.

وفجأة، لمحت مخلوقًا غريبًا في الأفق، يمشي كالإنسان، ذو وجه غير مألوف وشعر كثيف يغطي جسمه، يتجه نحوي. لملمت نفسي وأطلقت سيقاني، وعدوت بكل ما أملك من قوة ورباطة جأش حتى فقدت أنفاسي التي سقطت مني في الطريق في أثناء الجري.

توقفت عن الركض، ولهثت كالكلب، التقط الهواء ليتسرب إلى رئتيّ. ينداح صدى موجات في الأرجاء، التفت حولي وأجول ناظري صوب طرف، بدا لي  كغلالة في هيأة اللامنظور الغامضة، وبدأت أتخيل  نتوءات صغيرة تسبح في الهواء لأشجار عارية الأوراق، هائمة بين السماء والأرض في سكون الطبيعة لا جذور لها. أحاول أن أكتشف خبايا فكري المضطرب الذي يرى ما خفي عن الأنظار، أجد نفسي وسط معمعة ثنائية القطب.

***

كفاح الزهاوي

حينما يشتهي الضوءُ

أن يرسمَ لوحة،

تتأهب الأشجارُ فترتدي جبّة الربيع،

وتتزين الأزهارُ بأقراط الندى اللامعة،

وتمشّط الجداول بَريقَها،

فتغفو الألوان على غيمةٍ

من حديث الصّباح.

وحينما يريدُ أن يكتبَ قصيدةً،

يرسمُ في خيالاته جسرًا

يعانق ذاكرةَ الأزمان،

فتضيء دروبُ الحبِّ

وتُزهر الأماني كأزهار البرتقالِ في بستان الحنين.

حكمةُ القصيدة

أن تنسجَ الأفكارَ من حريرِ اللغةِ،

نصًّا ينثرُ أحرفَهُ على صفحاتِ الأملِ،

ويتأملُ في صمتِهِ:

هل يُستعادُ الذي أضاعته الروحُ في زحامِ العمر؟

هل تلتقي الأرواحُ ما بين سطرين

في لغزِ الوجود؟

ربما...

إنما...

حين تكشفُ الكلماتُ

عن وجهها للإلهامِ،

تختفي الحروف...

وتبقى المعاني صامدة

في عروشِها!

حينما يسدلُ الضوء ثوبَه،

تتلمسُ الظلمات قلبَها،

فتتشابك الأفكار

على مسرح المعاني،

بحثًا عن رسالة خفية

تتماهى مع المصير.

وإذا أراد أن يخلّد قصيدتَهُ،

يدّعي أنّها أسطورة

ما زالت تُروى،

كأغنية الرياح في ليالي الشتاء.

***

ريما آل كلزلي

 

رغم كل هذا الطوفان الكتابي في داخلي إلا إنني أقف عاجزة على أن أحرك قلمي على الورق وكأنه يسير على الصخور النارية....

في هذا اليوم الضبابي الذي يغطي تلك المساحات الشاسعة أردت أن أنفض الرماد الخامل من ذاكرتي وقلمي وأكتبك بلغة الحواس الخمس لا لغة الأرقام التي تبعث على الضجر والجمود ....

نحن الآن في بدايات حزيران الصيفي الملتهب ليس بفعل إنصهار الشمس وإنما بإختناق رسائلنا التي نطعمها للنار وتتركنا في ساحة المعركة  لتقيس معدل كبرياءنا ...

هل نحن نسير على نفس الطريق ونلتقي دون أن تحررنا كلماتنا من شباك الأحرف المتساقطة على جانبي الذاكرة ...؟!

هل نحن بهذا السخف أم الهشاشة الداخلية التي تحركها رياح الصيف لا القواميس اللغوية التي تعيد ترميم ملامح أبجديتنا....؟!

إنني أتساءل لماذا لا يحاول أحدنا أن يقف في الأرض الصلبة ويجر الآخر من تلك الرمال المتحركة التي تدعى بالممرات الضيقة للحياة ....؟!

لماذا كان الإهتزاز مرسوم على تعابير أقلامنا في كل مرة  وكأنها تأخذنا إلى حتفنا القدري من الغياب الطويل....؟!

أردت أن أبعث لرسائلنا رمق ضئيل من الحياة حتى نرتشف تلك الأحرف المنعشة تحت ضغط حزيران وحرائقه ....

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان ....

ماذا لو كنتَ في السَبعين

تخُطُّ مساراتِكَ في الجِهاتِ الأربَع

لا زلتَ الفتىٰ الذي امتٰطىٰ بقايا حائطِ الطين

يَسوقُها نحوَ أحلامهِ النَديّة

شَرِبتَ من جَرّةِ الطلْع

كيفَ لكَ ألّا تعُود

سنينُك التي بَعْثَرْتَها كلاعبِ القِمار

يَجمَعُها أخيراً ذلكَ النهرُ الصَغير

النهرُ الذي علّمكَ العَوْمَ  في الرابعَة

لازالَ شِرياناً

ينبُضُ بينَ صَدغَيك

كلّما أرخيتَ رأسَكَ في إغفاءةِ  يأس

أخبَروكَ النهرُ جَفّ

هَوَتْ على ضِفافهِ النَخيل

حَلّتْ على شاطئيهِ لَعنةُ الرَحيل

لا تحزَن

سيَبقى كما الأنساغُ يَجري فيك

**

2

بابَ سُليمان

الصورُ التي تمسّكّتْ بالذاكرة

تطوفُ كالحورياتِ في آخرِ الطَريق

الداليةُ التي راوَغَتْ هَجيرَ الشَمس

الدلوُ الذي تحَجّبَ بالصَفصاف

سيماءُ كفّي على نَخلةِ الليلوي

وأوجهٌ توارى خلفَها الزَمان

البُلبلُ الذي تلَقّطَ قطرَةً من نَهرِك

كانَ صاحبي

أخشابُ جسرِكَ المَرصوفةُ كالأسنان

عبَرتُها كطائرٍ يستَنشِقُ الماء

لم ترَ ظهري الذي تقَوّسَ بَعيداً عنك

معَ ذلك .. تَحَلّقَ عُمري حَولك

لم نفتَرِق

حبلُ مَشيمَتي

تُمسِكُ طَرْفَهُ جَدّتي

تَرقَبُ تحتَ رَملِ الزُبَير

في انتظارِ أيمنِ الخدّ

يَؤمُّ حَضرةَ البَصري

**

عادل الحنظل

 

يا رب

إغفر خطايايا الموحلة والكثيرة

في العتمة أفنيت أطفالا كثرا

رميتهم الواحد تلو الآخر

في بئر العدم

أنا مجرم حرب يا رب

أقتل كل يوم أشياء كثيرة

فراشات يقيني الملونة

الساحرة التي تراودني في منحدر قوس قزح

بجعات المخيلة المتوهجة

أرسم نهودا عذبة

ثم أطلق عليها وابلا من صقور الغريزة

أنا متوحش يا رب

متوحش جدا

أحب عاصفة من الضوء

السخرية من دوران الأرض الأبله

ذئب ماكر ومحتال

ذئب غريب الأطوار

ملطخ خطمي بالدم

أخطف نهرا متدفقا من النساء السمراوات

أحملهن إلى جزيرتي النائية

لآكلهن بفداحة ضارية

الغفران يا رب

دققت الكثير من المسامير في جمجمتي

طاردت سربا من المتصوفة

طاردت نفسي في غابة اللاجدوى

أصغيت طويلا إلى أمواج هواجسي

إلى شجرة الموسيقى

إلى حركات النجوم

رقصة الأرواح الغائبة

شككت طويلا في كل شيء

أحرض جيراني على الإنتحار

أحرض غرائزي المتوحشة

على القتل

أحرض المرآة على افتراس وجهي

على سرقة كنوز حتشبسوت

من عيني المليئتين بأسرار الفراعنة

طرد الغيوم والذئاب من حديقة رأسي

يا رب أنا مجرم حرب

ألقيت قنابل فوسفورية في مقاطعة متناقضاتي

خنت صاحب الكوجيتو والغزالي في بيت الإستحمام

إعتديت على قلبي وعقلي بالرصاص الحي

زاعما أن الحقيقة فكرة باطلة

والعالم معادل موضوعي للاشيء

أفكر طويلا في الموت

في سلاله المليئة بالأرواح

زيارته المكرورة لي آخر المساء

بوجه مغضن وذراعين من البرونز

بإيقاع جناحيه الوريفين

يا رب

الشتاء الفائت

كدت أصعد إليك على دراجة من قش

غير أن إمرأة من الذهب الخالص

سرقت الحبل الذي اشتريته

الذي علقته في السقف

لأتسلق سماءك المليئة بالأزهار

أبني عشا جميلا بعيدا عن الأنظار

على حافة الأبدية.

***

فتحي مهذب - تونس

 

لم انتظر طويلاً، توقفت أمامي سيارة أجرة، بعد بضع دقائق قطعتها مشياً للوصول إلى الشارع العام، كان شارع المنزل القصير تظلل نهايته شجرة سدر كثيفة، احتميت بها من رشقات مطر بدأت تتساقط سرعان ما غسلت حبات النبق المتناثرة على إسفلت الشارع.

أنزل السائق زجاج السيارة إلى منتصف حيّزه ومدّ عنقه النحيف نحوي:

ـ تفضل حجي تكسي؟

هذا أول استفزاز بعدنا بأولها، مشّي! منظري العام وهيأتي لا يوحيان بانتمائي لرهط الحجاج.

قلت نعم، إلى متحف كولبنكيان .

ظل صامتاً لبضع ثوان، ثم سألني بلسان متعثر:

– عفواً! هذا المتحف في بغداد؟

– نعم في ساحة الطيران.

ـ صار (واضح)!، من الأول يا حاج، تقصد سوق (البالات) في الساحة؟

قبل أول انعطافة نحو الشارع الرئيس، سألني بعد أن طلب مني ربط حزام الأمان:

قلت له: عليك ان تخفض صوت الراديو كي تسمعني جيداً، كانت أغنية بكلمات هابطة يصرخ مؤديها مثل عجل مهيأ للذبح.

ـ تزعجك؟

– جداً

– تفضل هاي لخاطرك !

– ولماذا لخاطري؟ هي أغنيتك أنت، لست مجبراً أن أسمعها أنا!

كان شاباً مهذباً، أدرك انفعالاتي بحذر، فاستجاب بسرعة لطلبي وكتم الصوت بشكل نهائي .

– اسمعني، سأختصر لك حكاية كولبنكيان:

هو رجل أعمال أرمني (برتغالي) يسمى أيضاً (مستر 5%) لأنه كان يتقاضى نسبة 5 في المئة من عائدات النفط، لدوره في عقد صفقات استثمار نفط العراق، مقابل ذلك (تكرّمت) علينا مؤسسته ببناء بعض المشاريع في بغداد، منها ملعب الشعب، وقاعة كولبنكيان (متحف الفن الحديث) ومبنى جمعية التشكيليين العراقيين، وغيرها، هذه الخمسة في المئة كانت سرقة مشرعنة باتفاق مع الحكومة، لكنها ظلت شاخصة بهذه المباني إلى هذا اليوم.

– على هذا الأساس ماذا نسمي جماعتنا؟

سمّهم ما شئت، لكن عليك أن تدرك جيداً، أنهم امتدادات جينية للصوصية في الكون !

ـ يجوز لي تسميتهم مستر 95 %

- مثل ما تحب ! لكني أراها  عدوى وبائية، سعار عمّ البلاد للخراب والنهب والسرقة، لا يمكن للبلدان أن تتقدم دون سنن أخلاقية حارسة لها، وإلا فالبلاد ليست إلا سوق (بالات).

ـ توقف! هنا قاعة كولبنكيان، تفحص بنايتها جيداً، الحقيقة هنا أولا، لا في البالات !!ولا تنس اسمها منذ هذه اللحظة .

***

جمال العتّابي

 

حلقة من: المدينة الغافية في احضان البوسفور

كانت السماء بيضاء كنديف القطن تتحرك غيومها ببطئ حين هبطت طائرة الخطوط الجوية التركية فجراً على مدرج مطار اتاتوك.. فيما كانت الأضواء الصفراء الباهتة تضفي شيئاً من الشحوب على تلك المنازل القديمة والجميلة في المدينة التاريخية اسطنبول.

كانت اجراءات الدخول الى المدينة بطيئة بسبب ان ثمانية اكشاك رسمية في المطار لم يعمل منها سوى كشك واحد وسبعة غائبات وعشرات من البشر انهكهم التعب في الانتظار..!

اسطنبول في نظره مدينة وديعة ودافئة ودائمة الحركة وجميلة يراها تغفو في أحضان مياه البوسفور.. في الميدان حيث نصبْ الجندرمة القديم، كانت تحط مئات من الطيور وعشرات من البشر يقذفون اليها بقطع من الخبز، وهي تتصادم لنيل قوتها، كما البشر تماماً، يسعون الى لقمة العيش التي قد لا تكون سهلة، حيث الغلاء الذي يتصاعد ولا يتراجع والليرة التركية على الرغم من تراجعها امام الدولار إلا أن انعكاساتهاعلى الاسعار كانت كبيرة، وخاصة على محدودي الدخل كانت تبدو كارثة لا تحتمل.. انها لعبة الصيرفة وحرب الاسعار..!

الطريق من مطار اتاتورك الى قلب منطقة تقسيم كانت طويلة وصعبة وخانقة بطوابير من السيارات، وحين سأل السائق التركي، لماذا هذا الاكتظاظ، أجاب: انه زخم الصباح، ثم استدرك، نحن نعاني هذا المأزق طوال اليوم.. ولكنه ادرك ان السائق، أي سائق في هذه المدينة لا يتحمل كلف المسيرالطويل المقرف حد الفزع، إنما الشخص الراكب الذي يستقل سيارة الاجرة، هو الذي يتحمل الكلفة المضاعفة.!

سأل صاحب الفندق في منطقة تقسيم، كم هي اجرة التاكسي من المطار إلى الفندق؟ قال: بين اربعين الى خمسين ليرة تركية.. وحين اعطاه خمسين ليرة أحتج، أعطاه خمس ليرات اخرى فزاد احتجاجه، اعطاه خمس ليرات اضافية فزاد غضباً بطريقة متعجرفة.. والمشكلة انه لا يعرف غير التركية، وحديثه كان معه بالإشارات، حيث طلب من صاحب الفندق ان يتولى الترجمة، لأن اكتظاظ الطريق ليس مسؤولية الراكب، ثم ان السائق كان قد تاه في الازقة الضيقة التي تكتظ بها المدينة القديمة ولا يعرف مكان الفندق، علماً بان عنوان الفندق بين يديه كاملا حتى رقم الهاتف.. ومع ذلك فقد بين له انه تاه.!

تلك مشكلة عويصة، واسطنبول مدينة سياحية جميلة ربما تعتمد ميزانية السياحة فيها على ادامة الحياة في زمن تراجعت فيه معدلات الدخل القومي الاجمالي ودخل الفرد الى مستوى الخسارة بعد الرجات السياسية التي ضربت تقسيم كما ضربت تركيا بمجملها.. فالسائق التركي كان ينبغي ان لا يكون انانياً ويترك انطباعاً ينعكس بالسلب على بلده فتخسر السياحة بسبب مراوغته واجرته الفاحشة.!

أحبَ هو اسطنبول.. هذه المدينة القديمة الوادعة والنظيفة.. نعم كانت الرقابة البلدية صارمة اغضبت محال في سوق تقسيم لبيع الفواكه والخضار وبيع السمك الطازج.. لقد غضب بائع الخضار لأن رجل البلدية طلب منه أن يدخل صناديق الفواكه والخضار ولا يزحف بها نحو الخارج ولا يعيق طريق السابلة.. ولم يتزحزح مأمور البلدية الا بعد ان نفذ صاحب الفواكه طلبه على الرغم من الغضب الشديد الذي كاد ان يحطم سلال المعروض من الفواكه.. والرجل المراقب كان هادئاً ولديه اوراق التغريم اذا لم يطع أمره.. هكذا اذن هي البلدية ونظامها الصارم الذي يفرض النظام وهيبة القانون ويفرض النضافة والمنظر الجميل للمدينة.!

في الشارع النازل من الميدان الى عمق تقسيم ، تسمع موسيقى الطريق بإيقاعات مختلفه يقوم بها محترفون وهواة احدهم كان يعزف موزارت وباخ وآخر كان يتولى الضرب على القانون وزميله يقرع الطبلة بإيقاع جميل وهو يروج لنسخ من انتاجه الموسيقي على شكل اقراص حيث الناس يتحلقون حوله ولا يأبهون بمرور الترام الصغير، وهو عبارة عن قاطرة واحدة  أو إثنتان حمراء اللون لا تسمع لها ضجيجاً، تأتي وتذهب عبر هذا الشارع المكتظ بالبشر وهي تنساب بهدوء كأنها نسمة صيف عابرة، ولا يكترث لها احد.

كان دائماً يقول، أن هنالك فرقاً بين المدنية والحضارة.. المدنية تقتني كل شيء حديث ، والحضارة ومقوماتها الثقافية تضع المعايير في كيفية التعامل مع المدنية المعاصرة.. المدنية ليست حضارة، والحضارة أكبر وأعمق من أي مسحة مدنية قد تأتي من الخارج وليس لها جذور ضاربة في أعماق المجتمع حيث يبرز الافتراق ويظهر الاغتراب بين المدنية والحضارة.!

ابتزه سائق التاكسي بوضح النهار، وحين خرج الى الشارع رأه مكتظاً بصورة لا تصدق.. مسحة طاغية من أوربا في الشكل والمظهر.. الفتيات يتأبطن الفتيان وهن يتأبطن بعضهن، والملبس أوربياً والمقاهي والمطاعم والفنادق والمباني والشوارع هي مسحة من أوربا تقريباً.. التقليد ليس كافياً، ولكن الجوهر يبقى شرقياً تتحكم فيه العادات والتقاليد والأحكام المسبقة، وإن عنصر الإحتكام هو العقل وليس المعيارالعاطفة وشهادة القلب معاً.. المعايير مخفية في أعماق الذات يكشفها السلوك والموقف عند الحاجة وعند الإستفزاز وعند الإثارة، كما قال " هنري بيرغسون" الفيلسوف الذي تحدث عن الحقيقة والمبادئ والاخلاق.(الجوهر يكشف عن نفسه دائماً).. ولا يعني ذلك أن الغرب أحسن اخلاقاً.

الغيوم تتراكض في السماء وتتراقص معها اجنحة النوارس القريبة من الساحل، والعالم هنا يستيقظ على صوت مرور السفن المتنائية من بعيد.. حتى تكاد لا تسمعها وهي تختلط مع اصوات الناس الذين يتدفقون من كل حدب وصوب مع اصوات النوارس وموسيقى الهوات الصاخبة وهم يفترشون رصيف الشارع، ليس عرضاً لفن إنما طلباً لبضعة ليرات تكفي ليوم واحد على أقل تقدير.

أحبَ هو اسطنبول بكل ما فيها وعليها.. أما الخارج الغربي السادي فهو يسعى ويتكالب من اجل ان يغير كل شيء في العالم ويبقيه مجرد هياكل تتحرك دون ان تتمكن حتى من استخدام عقولها.. هياكل مهووسة بالأكل والشرب والجنس.. لا شيء يغير ما يريده الأوغاد في الخارج، سوى إرادات الناس حين يقررون.. انهم يريدون أن يفككوا كل شيء حتى الإنسان يفصلوه عن ثقافته، ويسلخوه عن بيئته ويمسخوه وحشاً لا يعير اهتماماً لأدمية الانسان، يرى الدم مجرد شيء مسفوح لا يحرك فيه غير شهوة الموت من جديد.. إنه " الزومبي " اللعين الممسوخ الخالي من القيم والقادم من العالم السفلي، لا يبصر، لا في عينيه ولا في بصيرته سوى الدم ومحق الآخر..!

حضارة الخارج المادية باتت تفضل هذا الأسلوب لقهر الشعوب وارغامها على الإنصياع إلى حيث التدجين، بدلاً من اعلان الحروب وتجييش الجيوش والطائرات والدبابات والراجمات والصواريخ والجنود من اجل القتل والاحتلال.. انه حشد مكلف في المال والرجال، أما "الزومبي" المحلي القاتل المحترف فهو المثال باعتباره أداة التغيير المعاصرة، أداة الحضارة الغربية الراهنة..!!

***

د. جودت العاني

12/07/2023

(إلى حسن العاني)(*)

بعد أقل من عشرة أيام على وفاته

إتصل بي هاتفياً من هناك

كان صوته شاحباً ومُثقّباً

وأنفاسه تتفتت من برودة الغربة

فقد أخذ معه حقائب ملآى بالدموع

بينما راحت أفكاره تتوهّج

محوّلة اليأسَ إلى شجرة ذات أسنان

**

سألني عن الوطن

هل ما زالت خارطته في المدارس ملوّنة؟

أم انّ العثّة استبدلت أثواب العرائس بالرماد

وهل الهواء ما زال يصلح لنقل البريد السرّي؟

أم انّ أنفاس نافثي الحجارة قد أيبسته

فصار يتفتت تحت الأقدام

سألني عن مصير موجةٍ من الغِرين

مرّت بجسر الصرافيّة

ثمّ اضطجعت

تتنسّم أبخرة الليل المشويّ على قصائد أبي نواس

لكنّ عيون الصيّادين قطّعت أزرارها

فبدتْ نهودها الألف

كأسماك موشكة على الذوبان

**

سألني أسئلة كثيرة

لكنّ نشقة الغبار الخارجة من ثقوب الهاتف

جمّدت الزمن

فلم أعد أذكر منها غير ما يصلح للبكاء

**

أعذرني صديقي،

لن أجيب على أسئلتك

فهي تتطلب حياة مضمونة

وما تبقّى لي من العمر

ليسَ أكثرَ من نفثة دخان سيكارة

ربما عثرتِ الحربُ على أرنبٍ أسمنَ مني لتأكله

لكني لم أزل أسمع من تجاويف عظامي

أصواتُ استغاثة

***

شعر / ليث الصندوق

..................

(*) حسن العاني ( 1943 – 2024 ) روائي وقاص، وواحد من أبرز الإعلاميين العراقيين

هذهِ الاصابعُ مخلوقة

لإبتكارِ الأَشياءِ بأسمائِها

والتفاصيلِ الساحرةِ والحرة

ونحتِ الطينِ والحنينِ

وتشكيلِ القصائدِ والتراتيلِ

والأَشرعةِ والسوناتات

حتى نطيرَ بلا اجنحة

ونمشي بلا عكازاتْ

ولا مُمرضاتٍ ولا ساحراتْ

ولاعاشقاتٍ ولاعُشّاقٍ

وهميينَ ومُزيَّفين

ومرضى أَصابع

وقلوبٍ وعيونْ

وهُم دائماً يدَّعونْ

الحبَّ النورانيَّ

والشغفَ الخالصَ

والشوقَ " المُسَلْفَن"

والفروسيةَ والكبرياءْ

*

هذهِ الاصابعُ

هيَ الحكيمةُ والكريمة

والشفيفةُ والرهيفةْ

والأَنيقةَ والرقيقةْ

وهُنَّ حارساتُ الجسدْ

وشاعراتُ الأَبَـدْ

ورسولاتُ الكشفِ

والنَزْفِ والحَدْسِ

والخلاصِ الأَخـيـرْ

***

سعد جاسم

 

قبلة الشمس

الأفياءُ هناك والظلالُ...

وهنا الشمسُ والضياءُ

أدرْتُ وجهي

حدقتُ فيها

لم تطرفْ عيناي

تَلَقَّيتُ هديتي

قبلةَ الشمسِ

*

عيناي على سعتهما

نافذتان

مشرعتان

نحو الشمسِ

تنيران ظلامَ القلبِ

فلو صَعرتُ الخدَ

لن أرى أبداً

في عتمةِ قلبي

وجه اللهِ

***

صفعة وجه، عدوان على الله

طائشة

تلك الصفعة على الوجهِ

آثمة

وقحة

عمود محرقة

وجسد برئ  يحترق

*

حمقاء ..

وغبية

تلك الصفعة

إقتحمتْ هيكلاً قدسياً

عمَّ صداها

أرجاء السموات

صوتها فرقعة  رعودٍ

ورَنَّةُ  تمردٍ

*

حذارِ..

ألا تعلم أنك

إن تماديتَ

ستلطمُ وجه الله

***

ضدان لا يجتمعان

عن أي إيمان تبحثُ !

بين جدرانِ معبد خربٍ

كفاكَ جنوناً وعبثا

هاكَ.. مُدْ يدكَ

خُذْ قُرنفلةً بيضاء

تقطرُ دماً

وأُمنيةً كاذبةً

بسعةِ أوهامكَ

*

هدأة الليل

تطلق الذكريات

من أعنتها

أصواتا

صاخبة

أو تنزلها

على الظهر العاري

سياطا

لاهبة

*

أتبكي ساجداً

بين يدي رحمةِ إله

تتوسله أن يهبك

يوما آخرا جديدا

أتُفكرُ به

وأنتَ مسهداً

دونَ أن تقشعر روحك

برعشةِ

تنسلُ اليكَ غفلةً

أتمنيتُها

سكرةً

نشوةً

أبديةً

لا تنتهي

أم أنها

ثمرة  فاسدة

*

قيلَ لكَ

إختلسْ نظرةً

إقتطفْ عشبةَ الخلودِ

تلك التي تمناها ملكُ أورك

ستنالُ بها سرَالأبديةِ

أهكذا ستوهمُ نفسكَ

كرةً آخرى

*

أطفل أنتَ

لم تزل معلقاً

بسرةِ الكونِ!

نطفةٌ  قُذفتْ

في جحيمِ العالمِ

أم أنتَ

ومضةُ حلمٍ إختفى

*

الأرضُ التي تَطأُها

لنْ تزيدَ  قامتك

شبراً

ولنْ تَنبهرَ بأساطيركَ

سحراَ

والجبالُ العظيمةُ

لن تعمرَ بخربشاتك

على لوح الحياةِ

دهراً

*

لن تضئَ  السماواتُ

بحكمتِكَ

ولن تحتفي الأمسياتُ

بدفء احاديثكَ

لأنها هذيانات محمومٍ

ولنْ تموتَ الأشجارُ

عطشاً

لأنك ضَمِئتَ

ولن تنتحر الفراشاتُ

حزناً

على قناديلِكَ المطفآتِ

*

الطرق التي قطعتها طويلةً

لكنها بدت في النهايةِ

خط نمال اسودٍ

أنهيته أخيراً

بنقطةِ صغيرةٍ

في إخر سطرٍ

ينتهي بونيمِ ذبابٍ.

***

صالح البياتي

 

لم أتربّعْ يوماً إلاّ على عرشِ اليائس من كلِّ مقامٍ ومقال. أسمِّي قولي صمتاً، وفِعالي شعاعَ نفسي على نفسي. أتصدّع من تناسلِ المُحبَطينَ حولي جياعاً وتائهينَ ومنتحرين.

ذاتي في مراياهُمْ تَتقعّرُ وتَتحدّب. مِرآتي تأبى النَّظرَ إليْ، تَهوى مُفارقتي سِنين، ثمَّ تعودُ لتراني، لَعلَّني نَجحْتُ في مُطابقةِ المقامِ الأغبرِ بالمقالِ الناصع. لعلَّني حاصرتُ مُفردةَ المُحبَطينَ في قاموسِ الأحلام . لَعلَّني أرْشدتُ الجّياعَ إلى فِردوسٍ ليسَ من كلمات. وواصلتُ التائهينَ بقوافلَ الداعينَ إلى الخلاص، وأرسلتُ للمُنتحرينَ حَمائمَ النَّجاة.

عادتِ المرآةُ وكأنَّها لم تَعُدْ، لأنَّني لمْ أنْجَحْ ولم أُحاصِرْ ولم أُرشِدْ ولم أواصِلْ ولم أرسِلْ، لذلك تَوَّجَتْني مرآتي على عرشِ اليأسِ في سِلم حياتي وحُروبِها .

***

شعر: باقر صاحب

هنا

تقترب السماء أكثر

الهضاب تلقي بأنظارها

الى الأعلى

يدنو العناق

ينهمر بغزارة

مطر من العواطف

تتدفق انهار الشوق

في طريقها الى حضن دافئ

تنشد قصائد

بألوان العشق

تفتح الى السماء نافذة

تشرق عليها انوار سرمدية

تطل الروح على مدى

يتمدد

على مسالك الافق

ليبلغ الاقاصي

من نواحي الحلم

ويمضي الحالمون

في مسيرتهم…

نحو الحرية

***

عباس علي مراد

أزيد من ثلاثة اشهروطبيبته غائبة عن عيادتها حتى هاتفها الخاص يرن ولا ترد ..

بعد أن يئس من لقائها من اجل فحص دوري إثر أعراض بدأت تنتابه آلاما في صدره ارسل اليها رسالة على الواتساب:

"قلق لغيابك وقد حاولت التواصل معك دون جدوى، أشكو أعراضا مقلقة، هل تنصحينني بطبيب أزوره "..

بعد عشردقائق أتى ردها: " نلتقي بعد نصف ساعة في العيادة .."

انخلع قلبه لما رآها، وجه شاحب برزت عظامه كأن صاحبته تعاني جوعا وفقرا، أو مرضا خطيرا، عيون غاصت في وقبها، وهزال فظيع يلف جسدا ألفه بضا نضر المحيا ..

استغراق في وجوم استغرابا مما يرى، تسلُّه الطبيبة من انذهاله:

ـ أدخل بسرعة ..

يرتمى على أول أريكة تصادفه، متقطع الانفاس، ألف وسواس خناس يحفر في صدره ..

"من حول أنثى بشوش ضحوك بوجه كالقمرضياء وجمالا الى شبه هيكل عظمي بلا روح؟ "

من عينيها أتى الرد دفاقا كأمطار مارس ..

ـ هل تدري ما دفعني الى لقائك ؟ قبس من ثقة أجاهد على ألا يضيع مني بعد أن صارت الحياة حربا تصر على ان نتحمل مسؤولية مصيرنا ، وألا نثق حد الغباء بكل من يلوك لنا عسلا كونه يتفهم حياتنا ويشفق على الظروف التي ولدتنا بلا اختيار منا.. إحساسي بإنسانية أستشعرها فيك هي ايماني بأن ظني مازال يقاوم كفري ببقية مبادئ تتحرك في دواخلي ، أعاند حقيقتي حتى لا تموت كما ماتت قيم غيرها ..

حاول ان يبلع ريقه فوجد حلقه حصرما و شوكا من قتاد ضاعف من آلام صدره .. بادرته بحبة دواء تناولها قبل أن يشرع في إعادة استخراج كلماته وكانه يقتلعها بكلاب من بين شفتيه:

ـ ما بك دكتورة؟ أية علة قد حولتك الى هيكل ذاوٍ وجسم منهوك ؟..

مد كفيه اليها يتلمس يديها المعروقتين، عنهما غابت طراوة ورقة كم تحسسها حين كان يجد نفسه بين يديها على سريرالفحص، لم تمانع، فقد تركت يديها تستريحان بين راحتيه وكأنها تبحث عن أثر من حنان مفقود؛ بين دموعها قالت:

ـ احتقرني اللئيم، أذلني بعد أن رفعت كل حدوده فوق عالمه الضحل الحقير، لعب عليَّ دور الضحية و استغل ثقتي به فزور عني توكيلا وسطا على كل مدخراتي ثم فر هاربا الى حيث لا أدري ..

ـ دكتورة، استكيني، يلزم أن تهدئي حتى أستوعب كل ما تقولين، أنت بسمعتك وقدراتك تستطيعين استرجاع كل ما ضاع ..المال ولا الابدان دكتورة ..

لها ترتفع حشرجة يضمها الى صدره ويتوسلها أن تهدأ، قنينة ماء كانت فوق طاولة صغيرة ، يفتحها، يبلل يسراه ويمسح بها على وجهها، يصمت ليفسح لها مجالا للهدوء قبل أن تتابع حكيها ..

ـ بلغت السادسة ابتدائي وأنا لا اعرف من أسرتي الا جدي وجدتي،  في كنفهما قد تربيت بعد ان مات أبوي اثرزلزال في منطقة الحوز. هذا ما كان يملأعقلي وبه كنت واثقة، أعيش في أمن وأمان، بل غرة أومن بما حولي ..

استدعتني صديقة ذات يوم عطلة الى بيتها لنراجع معا واساعدها على حل بعض التمارين الرياضية، حين قدمتني لأمها اثارتني حركة من هذه تبدت كأنها احتقار لي، وقبل أن أخرج من بيت صديقتي استغربت من سلوك ثانٍ صدر عن نفس المرأة حيث كانت وراء بنتها تحثها بالقول:

ـ سدي الباب وادخلي، الم تجدي غير اللقيطات تصاحبينهن ؟ !!..

احسست غصة حارقة وندم شديد على قبول دعوة صديقتي ..

عدت الى بيتي وانا اتلظى على ناركاوية حتى أعرف خلفيات ما سمعت بعد أن انتهكت أم صديقتي كل انسجام وتوازن بيني وبين وجودي ..

جدتي استشاطت غضبا وقالت:

ماذا يمكن أن ننتظر من عاهرة ساقطة كل سكان الحي يعرفون اصلها وفصلها .

جدي حوقل واكتفى بالقول:

حسبنا الله ونعم الوكيل ..

توقفت علاقتي بصديقتي لكن أغلب تلميذات المدرسة جعلن مني عنصرا نتنا وعني قد ابتعدن ..

مع الأيام أصررت على معرفة الحقيقة ..

"في هذا العمى والجهل لن أعيش"..

 امتنعت عن الذهاب الى المدرسة امتناعي عن الاكل والشرب، هددت بالانتحار.. جدتي قبل وفاتها بأيام أطلعتني على الحقيقة كوني مجرد طفلة وجدني زوجها في لفات من خرق بباب مسجد الحي ..

ـ"أنا من ربيت وسهرت ـ حبيبتي ـ علمت وشكلت حياتك، هل قصرت يوما في حقك أو تقاعست في واجب نحوك ؟..تحملين لقب جدك بثبوتات لا لبس فيها ولا خوف من مستقبل ..

جدي كان بي رحيما، عاملني بكل ما يشرح الصدر ويخفف من معاناة القهر التي صارت تلازمني، أخذني الى طبيب نفسي خوفا علي من مضاعفات قد تأتي على تفوقي المدرسي ومستقبل حياتي وما كان يحرص على أن أحققه كرغبة تعايشه ولها يرجو ..

استطاع الطبيب بعد عدة جلسات أن يعيد الي اطمئناني النفسي، وتمكنت من استرجاع قدرة التحكم في حركاتي وانتباهي، تجاوزت لحظات عصيبة بأن ارتفعت الى سمو من النفس وثقة بواقعي كحب يخرج من نفسي واليها يعود ..

وبصراحة فقد شرعت مع توالي الشهور والأعوام استعيد قدراتي الدراسية فحصلت على البكالوريا بتفوق وانتميت الى كلية الطب حيث تعرفت على زوجي وهو تونسي الجنسية ..

كان تاريخ حياة زوجي أحسن من تاريخي نصاعة فقد تربى في ميتم بعد أن فقد أبويه في مظاهرات عمالية ـ هكذا ادعى ـ ثم تكفل به مغربي كان شريكا لأبيه، كانا معا يفتحان معملا لخياطة الألبسة العصرية ، بعد انتخابات في تونس وجد كفيل زوجي نفسه محاصرا بديكتاتورية جديدة شرعت تهيمن على الحياة التونسية وبعد تحريض من دولة حاقدة على المغرب خشي كفيله على نفسه ورزقه وعلى الطفل الذي يرعاه ففضل العودة الى وطنه وفيه تابع زوجي دراسته الثانوية ثم العليا في كلية الطب..

ولأن حياتنا من تقليعة واحدة فقد وثقت به ثقة عمياء.. ربما لانه كان بالحياة خبير أكثر مني، فما كان يحكيه عن مقالب دار الأيتام مكنه بحيل ما كان يداري به حقيقته ..أو ربما أنا من تعاميت وصدقت أكثر من كذبة ثم سامحت بعد تكرار خياناته مع عينة من مريضات كن لا يغبن عن المستشفى العمومي الذي بدا فيه حياته العملية قبل أن يلتحق بعيادتي ..

تزوجنا كما أراد بلا حفل ولا ضجة أفراح وفتحنا معا عيادة واحدة بما تركه جدي وصية في اسمي ثم ما لبثنا ان افترقنا بحجة توسيع مشروعنا، اقنعني بعدها ان يكتب كل منا توكيلا للاخرللتصرف المرن.

أخطاء ارتكبتها مغمضة العينين مسحورة بلسانه مغيبة بدهائه الثعلبي ..

من أربعة أشهر ودعني بحجة السفر الى البرازيل لحضور إحدى المؤتمرات ، بعد غياب دام خمسة أيام بلا رسالة ولاهاتف قلقت الى ان وصلتني رسالة على الوات ساب:

"أنت طالق، سيقوم محام بإتمام الإجراءات "

بحث عن بطائقي البنكية وشواهدي وكل اثر لي فلم أجد الا الغبار،  بعد هاتف لادارة بنكي ادركت الكارثة التي حلت بي .. متى حول كل ما املك الى حسابه الخاص ؟ .. وكيف ؟ ..ومن ساعده على ذلك ؟..

من يومها وانا وحيدة في البيت لا أجد ما اسد به الرمق، لا اصحو الا لأغيب من غبن وحسرة ندم على غباء هو ثقتي الزائدة فيه ..

من جديد تنتكس عللي فيتفجر صدري من الخوف وعدم الشعور بالأمان منذ حادثة الطفولة، وأن ما كنت أخفيه من جروح اصلي ومن أكون عن مجتمع لا يرحم، وما كنت ارتديه مع الناس، لم يكن غير قناع لم أكن أستريح منه الا مع ياسر زوجي الذي برع في تخديري حين كنت أجد نفسي معه، وما فكرت يوما أن إعصارجراح الخيانة قد تعصف بي من ناحيته. كيف تمرد ووأد كل حب حملته اليه وكل تضحية بادرت بها لأسعده حتى أجعل منه رجلا يملك ثقة غيره وشهرة بين زملاء مهنتنا ؟..

كم من عين شامتة لم اعرها انتباها وكم من نظرة تحذير واجهتني بها مساعدة في العيادة وبها لم اهتم ولم أحترس.. أنا بثقتي الزائدة وغبائي الأسود قد جنيت على نفسي ..

مرة أخرى تهتز، يخنقها النحيب فيضمها الى صدره، يبلل وجهها بماء الى أن تستكين قليلا ..

يصر على ان ترافقه الى مطعم رغم اعتراضها، غايته مباشرة اتصال مع غيرها اتصالا يحقق لها بعض التوازن بلا خوف مما صار يباغثها من الناس ..

بعد الغذاء صاحبها الى مكتب الوكيل العام حيث قدمت شكاية بزوجها بناء على ما تعرفه عنه من معلومات .. تنبه الوكيل العام ان الاسم الذي قدمته اليه لم تكن هي الأولى التي تعلن عنه خلال هذا الشهر، فقد ورد في محضر قبلها عن السرقة والتعدي على أحد الأصول..

شرعت تستقبل الزبائن في عيادتها، كان يساعدها بكل ما يستطيعه من قوة وعزم ومثابرة ، رغم إحساسه بأنها كثيرا ما كانت تحاول الهروب منه .. يحس ألمها، جروح ما تعانيه وما استعادته من طفولتها ومن زوج وهبته كل شيء فخان ثقتها، يدرك أنها صارت تقيس تعاطفه معها بما يقدمه لها من مساعدة، حذرة مما قد يأتي، تدقق في كل ما يتلفظ به ومن كل وثيقة تتسلمها منه ..

كان همه أن يحسسها أنها محبوبة ومرغوبة لذاتها لا لانتمائها المهني ولا الى أصولها، وحب الغير اليها لا يعفيها من حزم وتمحيص وانتباه ..

انتدب لها إحدى قريباته أنثى يتيمة، كمؤنس لها ورفيقة، فانشغلت الطبيبة بتدريبها ليلا بما يجب عمله نهارا في العيادة، صارتا معا صديقتين كلاهما قد وجدت ضالتها في الأخرى ..

كان يصر على أن تستعيد حقها من بسمات منها قد ضاعت وأن تستعيد بناء مدماك حياتها كونها قادرة على إعادة تحقيق ماتريد من أهداف بلا مساعدة من أحد فما تتسلح به من علم وراحة نفسية يوفرلها أسبابها، وطموح هو نجاحها في بناء ثقة تعتمد فيها على دراستها وخبراتها كونها قادرة رغم ماض من رماد وما صادفها من فشل أن تعيد بناء حياتها في استقلالية تنمي سعادتها كانسان قادر ان يتكيف مع كل وضع جديد ..

من مساعدتها اليتيمة كانت تلتقط وبدقة كل شيء عن ماضي رجل تحول من زبون عاد الى فاعل مؤثر في حياتها، استطاعت من المساعدة أن تتعرف على خصوصيات عائلة زبونها، عن وفائه لزوجته التي توفيت من خمسة أعوام ويرفض ان يرى لها في البيت بديلا ..

صارت لا تختار أوقات راحتها الا وهو معها وكأن راحتها النفسية أمست مقرونة بوجوده معها ..

قالت له يوما:

ـ فيك قد اكتشفت حكمة، قدرة التمرد على واقع جامد وتحويله الى جديد متحرك ..

تبسم من قولها وقال:

ـ الحياة لا تبتغي الجمود وغايتنا فيها أن نصل جوهر وجودنا ولا يتم هذا الا بالعمل والحركة والتغير المستمر ..هكذا يبني الانسان أناه ..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

ونحن أحياء نحب الورود

نسعى إليها

نقطفها

أو نبتاعها طاقات نزيّن بها بيوتنا

وحين نموت نجدها تهرع إلينا

تنتثر على نعوشنا

ثمّ تنمو أسراب منها على القبور

هي تلك المعادلة الأبدية التي لانستطيع منها فكاكا

نسعى إلى شئ في حياتنا

ويتعقّبنا ذلك الشئ نفسه عند الموت

*

الحبّ أعمى

في يوم لم يخطر ببال

أغمض الحبّ عينيه

واسترخى على العشب بقيلولة

فجاء النسر الشرير

ونقر عينيه

أصبح الحب أعمى

لم يكن أمامه إلا أن يقطع أغصان الأشجار

ينحت منها سهاما

يطلقها خبط عشواء

لعلّ واحدا منها يصيب ذات يوم النسر الكريه

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

الشّوارعُ مُوحشةٌ دونَ خُطى

كانت بيوتُ الحالمينَ بهيّة

أينَ أطفالُها المَرحون؟

الآنَ هي عاريةٌ كالفَجر

مُخضّبةٌ أسرارُها بالنجيع

الزّمانُ يتهدّجُ في الخرائب

طوفان يطغى فيأتي بأحلامِ الورد4064 هاشم تايه

أنتَ وَقفُ الله

اليمُّ يجيءُ هادِراً بالشهداء

شاهدةٌ أحجارُكِ وشهيدة

صفصافٌ يُغالبُ الدّمع

منْ يُخضّبُ طفلتَها قبل هديرِ الموج

بينما القيامةُ تتزيّا

يَفدُ أعداءكِ الى مفرقِ النسيم

وجهاً لوجهٍ فلنبدأُ من عَتبةِ الصفر

الأصولُ تتجرّدُ فجأةً

اذ يَتوسّدُ الكلامُ صمتَنا في النَّشيج

رُوحكِ وَقفُ الله

صفصافكِ يَعلو ياكعبةَ المُدن

في صحارى المشرقِ يلوذُ التَّمني

على شقائها تَنوحُ جلعاد

ليتهُ يَفعلُها نبوخذُ مرّةً ثالثة

لقد حَبِلتْ أنثى الهولوكوست

مِراراً بجراثيمِ الثأر

لاينقطعُ من شهقاتهِ نشيدُ البَحر

آثاركِ منهوبةً تلصفُ تحتَ حوافر الوقت

الحقيقةُ

ساطعةً

توقظُ

العالم

***

الشاعر عادل مردان

.................... 

تخطيطات الرسام هاشم تايه

بـغـدادُ هـادئـةٌ

عـلى غـيـر عـادتـِها كـلَّ خـمـيـس !

مـا خـطـبُـكِ أيـتـهـا الـمـديـنـةُ الـصـاخـبـة ؟

لا حـزن فـي كـلِّ تـفـاصـيـلـي الـمـنعـشـة ..

أنـا امـرأةٌ مـن الـورد

تـحـاورُ قـمـيـصًـا مـن الـبـرتـقـال  ..

تُـسـبـغُ عـلـى جـيـدِهـا الـمـرمـري

عِـقـدًا مـن الـمـرجـان  ..

تُـغـنّـي شـامـتُـهـا للأجـيـال الـتـي خـرجَـتْ

مـن حـروبٍ عـبـثـيـة !

*

فَـراشـةٌ حَـلَّـقـتْ حـول خُـصُـلاتِ شـعـري

ومـسـبـحـةٌ تـنـزلـقُ خَـرزاتُـهـا بـيـن أصـابـعِـك :

كـيـفَ الـتـقـيـا عـلـى طـاولـةٍ

قـلـبُـهـا كـان مـن خـشـب

فـصـار مـن شـهـد !

*

قـبُـلاتُـكَ الـتـي طـافـتْ عـلـى أنـامـلـي

صـنـعـتُ مـنـهـا أجـنـحـتـي ..

مـاذا لـو ظـفـرَتُ بـك الان ؟

حـتـمـًا سـتـدورُ الأرضُ بـعـكـسِ  مـسـيـرتِـهـا ..

والـشـمـسُ سـتـحـتـارُ مـن أيـن تـشـرق !

حُـبُّـكَ نـعـمـةٌ عـلـيـهـا أنْ تـكـتـمـلَ

لـتـغـدوَ بـغـدادُ أجـمـلَ بـصـخـبِـنـا

***

سمرقند الجابري

طفولة

تزهر..

تذبل

فتغدو الطفولة كأوراق الخريف.

*

سحابة

نحلِّق..

نحدِّق

لنسقط كسحابة حزينة.

*

مساءات

كل المساءات تشكيني حزناٌ... أسىً.

فأواسي المساءات،

نرقب الصبح.

*

وسادة

تهمس.

تصرخ،

فتنأى الرقدةُ.

*

جدار

تكبر

وتسمو

كجدار، يصبح خيط الوصالْ.

*

وعود

تنتفي

تسقط،

فنسقط خانة الندم.

*

مرآة

تطمس المحيا

خفايا

تُخفي الحقيقة.

*

وظيفة

تمضي اللحظات..

نُسرق.

لتبقى الوظيفة.

*

مكاشفة

يسقط القناع،

تسطع النوايا.

نكتشف حوليات الخداع.

*

شعاع

ينزع الأمل

كالسنا،

وفي لحظة، نشتاق قبس الشعاع.

*

أشعار

تنضج القصيدة

وتسمو

تضحك.. ذا لغو الكلام.

*

سنوات

نشيخ

تتداول البسمة والدمعة،

ونبقى حرّاس الحزينة.

*

كراسات

ترقب اللمسة

شعاع الرموش

تُطوى كماضٍ أليم.

*

مطر

ينسل عبر خدّي غمامة.. كدمعة.

فتسمو الرمشة

الرقدة.

*

رموش

تغني قصيد الانشطار

تغنّي..

فينسلُّ الأمل.

*

امرأة

أفرغت خزّان أنوثتها..

ما نالت سهام الرجال.

لتبقى حضيض امرأة.

*

عاصفة

نركب العاصفة

تعصف..

فَيَصِل سوى منْ يزهد.

*

محمول

تهاتفْ

يرنّ... يرنّ

فتبقى خارج التغطية العاطفية.

*

ألوان

تتشاكل في لوعة

نمعن النظر،

فنغدو أسرى المقام المنمّق.

***

شعر: عبد الحكيم البقريني/ المغرب

كصورتي الغائبة أنت

وَ كصوتي المتناثر حكايا

وفراشات ذكرى

وفوانيس أحلامٍ تنوسُ من وراءِ الغيب ....

آنَ نختتمُ أنباء الفجر

بقبلةٍ فوق التراب المُدمّى

وآن نختتمُ أنباء الليل

بالدّمِ المُسْتباحْ

فَسجيّةُ الحجر المُتفاني في صراخهِ

وتشظّيهِ المُقدّس،

تُثيرُ رغبتي في التكاثُر الضوئي

باتجاه عتم الغيب و المستحيل

لأرى سَناكَ الزاهِر في رياحين

أمواجي القادمة من بحار الحريّة! ...

*

كَمْ ... وكمْ نصعَدُ فينا

وإلى كلَينا

لندخلَ مهرجان القمر الطفوليَّ

الذي فينا

والذي عجنّاهُ في كِلتا يدينا

من ماء الحبَّ

وتُرابِ الحريّةِ

ثمّ خَبزْناهُ بِنارِ الحرْبِ

فأثْمَرَ كصرْخةِ وليدٍ

قادمٍ من كهوفِ الغيب! ....

*

مالِشفاهِ الوطن،

لاتقرأُ سورةَ الفرحِ القادم

عبر أسلاكِ النّورِ الإلهيّة ؟! ...

هل هو شريانُ الغضب

تسيلُ دماؤهُ في طرقاتٍ

أحجارُها الليل

ونسائمُها الإنعتاقُ من الليل؟! ...

لكأنّ الليلَ شبحٌ

لايغفو إلاّ على أحلامه الحمراء! ...

*

لِمَنْ نُخبِّئُ أسرار شفاهنا

ولماذا نلوكُ أعشابها

ومتى تفوحُ أرواحنا المدمّاة برياحين الصّباح

وكيف نمحو بشفاهنا

ما حرّفَتْهُ قواميس الطغاةْ ؟

وكيف نجتلي سوادَ محاصيلهم

إذ خبّؤوها بانكسارات بقائهم المستحيل

على قلوبنا

وماذا نُضَمِّدُ من مواقف

وشروخِ كلماتٍ متقاطعةٍ

وغير قابلة للوصل إلاّ ...

بَحبال دمائنا / المَشانِق؟!! ....

*

كَمْ .... وكَم

تختبئُ فينا السُّحُبُ

وكأنّنا الأفق القريب ؟...

ومن بياض نفوسنا ،

تصحو نوافذ الغد

وعلى أنفاس شموعنا ،

ينتحِبُ الليل

وفي زوايا أوراقنا المسكونةِ بالنّور،

تشتعِلُ الإيقوناتُ

وتنفخُ الملائكة قصائد المحبّةِ

على حِبْرنا المُقدّسْ

ويزعَمُ الاسفنجُ البحريُّ

أنّهُ أطْعَمَنا قطراتِ عسل الكلام ! ....

*

فيا صديقي ...

عِمْتَ شِعْراً

وبَحْراً منَ الضّادْ

فأنْتَ دفتر الغد

احتَبَسْتُ في زواياهُ

لأتحرّر من زفراتي المندثرة ! ....

*

وحينَ كنْتُ في كفِّ الأمَل جنّيةً،

أصْبَحْتَني وردةَ ضوءٍ،

وأَمْسَيْتَني أميرةً للغجر!..

**

والبركانُ/ الغيابُ

سؤالٌ يلتهمنا

ويحرقُ الصوتَ والصورة

وأجِنَّةَ المَشاعِرْ ! ....

*

ولِسنديانة الحزْنِ رَمَقُ

لاتَشيخُ أوراقُه في غاباتنا

وللوَجَعِ المَسْحور مَنازِلٌ تدخُلُنا

فتصيرُ صحارانا نوافذ من حديدٍ

وأفلاكنا شتاتاً

وبقاؤنا سراباً

وهذياننا حاضراً

ومستقبلنا نبضاً من فتنة الرجوع ! ....

*

كلّما أتيتُ إلينا

عُدْتُ

وأفرغْتُ مابِجُعبتي

من فَراشاتٍ

وخواتم سحريّة

وأسماكٍ

ودمىً

وأساوِر

وكلّما أزْهرَتْ كلماتنا

وهواء أنفاسنا

وتراب أنسجتنا

وماء أحلامنا الملونة،

تساءلْتُ :

كيفَ أنفثُ في سفنِ أمانيَّ

رياح الحكمةِ و الجمالْ ! ...

**

يا صديقي ..... يا كلّ أنبياء الأرْضِ

أعوذُ بدمكَ المُلْتَحِمِ بأحلامِ

صراطِ مجدِنا المُسْتقيم

وكنوز أشرعتنا المُضاءةِ

في نوّارةِ الغيب القريب،

مِن شانئكَ الأبْتَر! ....

أعوذُ بسلسبيلِ خُطاكَ

المزروعة بسيوف النَار

وبِنارِكَ المُتّقِدةِ بشجرةِ زيتونٍ

مِن هَمَزاتِ صُنّاعِ "هُبَل"

فَوقَ أنوار " الأقصى" ! ...

وأعوذُ بأرواحِ اللحظاتِ المُلْتَهِبةِ

إذ تغفو على وهْمٍ انكسارٍ

لنْ تَصْدُق رؤياه! ....

فللأرْضِ عافيةٌ

تسير كبرهانٍ من وهْج الحقّ

المُتَبرِّئ من زعْم السّادة اللا أبرار...

وللأرضِ ثورةٌ تغضَبُ

وتذرِفُ ودْقَها

ولُجَّها وجحيمها

لتُعيد روح أنفاسها

لِمَن زرعَ روحهُ

في جذورها

**

غضبٌ على غضَبٍ ...

ولَصانِعِ الوجود أنشودةٌ

يوماً ... ستنشُرُ شذاها

فوق أضرحةِ الصَّباحاتِ

المُتَفجِّرّةِ بالغضبْ! ....

ويوماً ....

سنعودُ إلينا ... عبْرَنا

يا صديقي ...

عِمْتَ جنَّةَ من ثوبِ الحريّة

وعِمْتَ حريّةً من عَبَقِ الأنبياء

ألْهِمْني أجوبةً لخرائط قلبي

الذي أدْمَتْهُ مِدْيَةُ السّؤالْ !! ..

**

يا صديقي ..

ياوردة روحي الصّاحية

في نزيف قلب الكون ..

دعني أسْري إليكَ من غربِ الضّباب،

إلى شرقِ الإباء ..

أيُّها الفجر المضيءُ في شراييني ،

شراشف الليل السوداء،

تثقبها نجوم عينيكَ السّاهِرة،

على مسافةِ قنبلةٍ

وزيتونةٍ

وقبلة ٍ

وتخترِق الدّماءُ طهارة ربيعكَ الزاهِر

بصلواتِ النصر القادمة !...

كَم أحبُّكَ ترتيلةً لِوطَنٍ ،

كَثُر فيه الجَّراد،

ومازلتَ أنتَ باقٍ تكتَسِحُ الوباءْ ..

كَم أباركُ التبشيرةَ العُليا لأصداء الفرح،

حين يجيءُ محمّلاً بأنفاسِ النّدى

على ساعدَيكَ وأنفاسك الضّوئية ! ..

هيّا افتَرشْ أجنحة الحياة هنا .. اليوم .. غداً

والعام الذي يأتي

كالغيم المحمّل بالأسرار الجامحة!..

**

كَم أحبُّكَ حينَ تسري قمراً في دمي

لأرى بأمِّ أحلامي المُرتَقبة،

عصفَكَ الجريء وخطْوَ روحكَ

نحو سماء المجد الأبدي!..

**

يا صديقي ...

ارتديتُكَ مَطراً وجمْراً ودماً

نَسَجْتُكَ منّي فيكَ شالاً أبيَضَ

يكسر الريح

ويهزم جبروت أشباح الخراب الفانية ..

سينطفئون ... سينطفئون ...

وسيذوبون كالثلوج الرّخوة المعجونةِ بالطين،

وتبقى شعلة روحكَ صاحيةً

ليخرج البنفسجُ من تراتيل جرحكَ المرتسِم

على جدران صمْتِكَ المَهيبْ...

**

ها لحظتي الأولى تكاثَرتْ فيها ذرى أرواحنا

المشرئبة بشموع الملائكة ..

أتبوأُ نبضي حين أقتفي سوسنات نبوَّتكَ

المتنامية في أصابع التراب..

فَراشَتُكَ اللامرئيةُ أنا ... أنتَ . .

**

أنتَ أنا .. نحنُ

حين نصيرُ ناراً تحرُق أبصار الشياطين إذْ تسيلُ

دماؤهم من عفَن خراب أيديهم وأرجلهم ..

*

تبّتْ يد الغُزاة .. إلى جحيمهم المُرتَقَب

فليحفروا ضيم رمْسِهم بأحرف ميّتةٍ

تَبَّت أنوفُ الشياطينِ المعفَّرة

بدماء الملائكة الراحلين إلى قلب الله ..

تَبَّ سِفْرُ خِزيهم القادم

وهو يدفن أوراقه السوداء في بياض الطفولة ..

تَبَّ الجدارُ ،

تخسفه الحقيقة العلوية لقدسية الوطنْ..

***

شِعر: إباء اسماعيل

 

كم بليد هذا العالم

بارواحه  الشريرة الساد ية

التي ملت من دوران الارض

فصارت تسفك الدماء

وتزرع الخراب والدمار

والابادة الجماعية

2

هذا العالم المنافق

والساكت والمتواطىء

يصرخ:  كفى

لما سمع عن مقتل سبعة من مواطنيه

ولم  ينبس ببنت شفة

عن مذبحة اربعين الف شهيد من آهالي غزة

3

يحدث كثيرا

ان ينام الليل

في حضن القمر

رغم انف النجوم

4

ويحدث أيضا

ان ينام الحكام العرب

في حضن الصهاينة

رغم انف الامة

5

الكل يعيش

في عتمة كاملة

لا احد يتجرأ اشعال شمعة واحدة

خوفا من الخفافيش الصهيونية النازية

6

في العالم العربي الملجم

لا احد يهتم

الكل يطمح في الخلود

وقبل ان يستيقظ الاموات

يغرسون نبتة على قبر الجندي المجهول

7

في ليلة شديدة السواد

الضمائر الغائبة

تتجول على كرسي متحرك

في زريبة جامعة الدول العربية

8

يا ليتني امتلك دار نشر

وآلة كاتبة ودواة وأقلام

ورفوف مكتبة بلا غبار

ومحبرة من مداد بحر شديد الملوحة

لانجز كتبا عن احلام الزعماء العرب

وعن المعسكرات الكثيرة

لجيش عديم الفائدة

9

ثمة جبناء مدججين

بالاسلحة والعتاد

يبيعون في سوق الخرداوات

اعراضهم وشرفهم

وأوسمتهم ونياشينهم

طالما تراكمت على رفوف الثكنات

10

طائرة ورقية

فشلت في الاقلاع

نفدت بطاريات لزر المظلة

فزلقت في عش الدبابير

في ممر معتم

وخيم الصمت الرهيب

وتكممت الافواه

واسودت وجوه المنافقين

11

دبابة صهيونية

خرجت من مراحيض "الكنيست"

فارتعدت فرائس المطبعين

حتى أغمي عليهم

اطباء علم النفس

الآن منهمكون في انعاشهم

12

هل مازال في الامة نيام؟

ارشدوهم الى مقبرة للاطفال

لقد ضاعت منهم خريطة المقبرة

هل حقا عندنا حكام عرب

أم دمى من سلالة الخشب؟

13

لم يعد للحياة طعم

ولا وقت لجني الزيتون

واقتناء الصدريات المضادة لأطفال غزة

والضغط على زناد بندقية

ليس لنا جنود ولا آليات حربية

وغالبا ما نختبئ وراء الظل في قن الدجاج

حتى تميل الشمس الى الغروب

14

كم بليد هذا العالم

سبعة مليارات نسمة

وشردمة من اللقطاء

يسمون انفسهم "اسرائيل"

يصولون ويجولون

ويحكمون العرب والعجم

والعالم باسره

***

بن يونس ماجن

اجلس ها هنا  مفكرا بغزالة شريدة

وبعندليب جريح بلا ماوى وبمرايا

البرق الريح والمطر وعاكسا على مرايا

روحي روعة الحب والنجوم والقمر

ومن ثم  ادلف الى شجرة الحياة

لاقطف منها بعضا من ثمار الامل

والحكمة وبعضا من ازاهير الصدق

والحقيقة  محدقا  في مرايا الروح وفي

ينابيع المحبة مطلقا احصنة

امالي واحلامي وامنياتي

لتطلق صهيلها

الكرستالي

المضي  بين دوالي

كرمة احلامي وذكرياتي الجميلة مغنية

للنرجس الجميل

للبنفسج وللشجر .

***

سالم الياس مدالو

 

كان جالسا، متكئا على عربته المتآكلة. نظراته حزينة وغامضة، يتابع بغير اهتمام كل داخل الى السوق وخارج منه. ابتسامة تظهر وتختفي. يحمي رجليه بحذاء لونه باهت ويحمل آثار الزمن. عربة فارغة تنتظر من يطلبها لحمل أكياس من الخضر والفواكه واللحوم. تعود ابن خديجة، هكذا ينادون عليه في السوق. يفتخر كثيرا بهذا اللقب. يقول دائما لمن يستهزئون من اسمه:" لولا أمي خديجة، لكنت من الأموات. اسمها على راسي." الانتظار طويلا، فأغلب من يلج السوق يتوفرون على سيارات فيلعنهم في سره ويعتبرهم من الأثرياء الذين يفوتون عليه فرص الشغل. فينتظر لساعات حتى يأتي رزقه. هكذا تقول له أمه "رزقك موجود ولن يأخذه لك أحد".

كانت الشمس في ذلك اليوم حارقة تستوطن المكان، تئن تحت وطئتها الأجساد، تحرك ابن خديجة من مكانه، وهو يجر عربته، وكلام أمه الذي لا يفارقه، " في الحركة بركة". غير المكان، ربما يطلبه أحدهم لنقل مشترياته من السوق التي تكون عادة ثقيلة ولا يستحمل أصحابها حملها الى منازلهم. أكيد هناك من لا يتوفرون على سيارات، خصوصا إذا كانت امرأة تحمل آثار الزمن على ملامحها. وماهي الا بعض دقائق حتى سمع أحدا ينادي عليه. علت وجهه فرحة العمر، وعادت الابتسامة التي هجرته هذا الصباح. فالتفت بسرعة كبيرة كغريق تلاعبت به الأمواج، وظل يصارعها حتى وطأت قدماه في غفلة منه الشاطئ. كانت هناك سيدة، تحمل قفتين مملوءتين ولا تستطيع أن تتقدم خطوة بكل سهولة. جرى نحوها، وكلام أمه يحتل كل جوارحه، ويظلل عليه كطائر يحمي صغاره من هجوم الأطفال عليه. حمل كل مشترياتها بهمة، ولم يفكر حتى أنه يحدد المبلغ الذي ستؤديه له. أعطته العنوان، لأنها لا تستطيع مجاراته في جريه. قالت له" لما تصل الى البيت، انتظرني." سريع الحركة، دفع العربة أمامه واخترق الشارع الطويل الذي لا ينام من ضجيج السيارات وأصوات الباعة. انطلق كالريح، لا يلوي على شيء. كأنه حصل على كنز ولا يرغب أن يشاركه فيه أحد.

ابتعد كثيرا عن السيدة، كانت تلوح له بيديها كأنها تقول له، لا تسرع بهذا الشكل. ابتلعتها الأمواج البشرية، اختفى واختفت العربة. وصل الى العنوان وكله ابتهاج ورضى، فهو ابن المدينة ويعرفها حيا، حيا. ولم يفكر لحظة أن ذلك الإحساس النادر في حياته، سيتحول الى كابوس ربما لن يخرج منه. اتكأ على الحائط وهو يتصبب عرقا في انتظار صاحبة القفتين. كانت بينهما مسافة طويلة، جلس يلهث كأنه كان في سباق طويل. أثناء انتظاره، لفت نظره وجود لحم ودجاج بالعربة. هاجمه كلام غريب لم يرغب أن يسمعه. تردد ثم عاد الهاجس يلح عليه ويقول له" ماذا سيحصل لو أخذت دجاجة لنفسك. السيدة لن تنتبه في تلك اللحظة وان انتبهت ستقول لها ربما سقطت أثناء جريك بالعربة" ثم فرك عينيه وحاول طرد ذلك الصوت الذي يستحوذ على تفكيره. قام وأخذ المكان ذهابا وإيابا والسيدة لم تصل بعد. ثم حول نظراته نحو العربة من جديد، ثم نحو اللحم والدجاج ثم نحو جيوبه الفارغة الا من بعض الدريهمات. فقرر من جديد" لقد نسيت طعم اللحم. أكيد ستفرح أمي. والسيدة بإمكانها شراء دجاجة أخرى." حاول اقناع نفسه ولم يتردد لحظة خصوصا لما ظهرت السيدة وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة شديدة. وربما تلعن اللحظة التي قررت فيها ان تطلب منه حمل مشترياتها. كانت تتصبب عرقا، صرخت في وجهه، وقالت له" قلت لك اسبقني على العنوان لكن لا تختفي من أمامي." اخذت حاجياتها وأخذ فلوسه وذهب بالسرعة التي جاء بها. لكن هذه المرة، خوفا من أن تكتشف سرقته لها. وهو في طريقه الى البيت، صوت جديد يسيطر على تفكيره" ما قمت به يعتبر سرقة...." حاول الهروب منه بالاختفاء بين ضجيج السيارات وأصوات الباعة.

دخل الحي ليلا، ولج بيته وهو يحمل الفرحة والقلق بين ضلوعه، والدجاجة خلف ظهره، حتى لا يراها أحد من الجيران ويزاحمونه في أكلها. فجيرانه مثله، تصاحبوا مع الفقر حتى صار جزءا من حياتهم اليومية. وبيوتهم مفتوحة على بعض. نادرا، ما تستوطن حيهم رائحة أكل تمتزج فيها رائحة المرق مع اللحم. حتى ان حصل، تكون من النوادر ويظلوا يحكون عن لذتها ومذاقها مدة. وضع الدجاجة أمام أمه وقال لها " اليوم سنأكل كما يأكل أصحاب السيارات." ابتسمت وقالت" الحمد لله ياولدي. نحن أحسن من غيرنا." لم يفهم سبب هذه القناعة عند أمه، منذ صغره، وهو شاهد على فقرها المصاحب لها كمرض لعين. ومع ذلك، دائما مبتسمة وراضية. أخذ مكانا في الغرفة التي يتقاسمها مع والدته واستسلم للنوم. عاد في اليوم الموالي الى السوق، وجلس في مكانه واتكأ على عربته ربما يكون حظه سعيدا هذا الصباح. لكن خطر له خاطر، ماذا سيحصل لو مرت السيدة التي سرقها بالأمس وتعرفت عليه؟ ما ان استقر هذا السؤال في رأسه حتى انتفض كالديك المجروح، والتفت يمينا ويسارا كأنه يبحث عن شيء مفقود منه. غير المكان، واتجه للباب الخلفي للسوق، قائلا لنفسه" هذه الجهة لا يستعملها الناس كثيرا" فاستراح وحاول طرد ذلك الصوت اللعين الذي غير له حياته. بالأمس، كان سعيدا وفرحا بما حصل عليه وأكله. واليوم، أصبحت الأسئلة تنهش جسمه وعقله دون سابق انذار. ما ان ارتاحت نفسه للمكان واتكأ على عربته الشاهدة على كل جولاته وانتصاراته وخيباته، حتى قام مفزوعا وكل مفاصله ترتعد، كانت يد أحد الحمالين، ممن يسكنون المكان مثله ويطلبون رزقهم صباح مساء، سلم عليه وقال له "ليس من عادتك يا ابن خديجة المجيء الى هنا. وأنت تعلم أن القليل من الناس يمرون من هنا." تردد كثيرا في الإجابة، مسح وجهه كأنه يستيقظ من نوم عميق. همست له فكرة بأن يحكي له ما فعله ربما يساعده. لكنه توقف عن البوح في اللحظة الأخيرة خوفا من نتيجة لا تحمد عقباها. قال له دون أن ينظر اليه "أريد أن أرتاح قليلا ثم سأعود الى مكاني المعهود." فجلس الى جانبه، واتكأ على عربته مثله وقال له " عندك الحق يا صاحبي، الواحد منا يظل طول النهار في الانتظار، وان حدث وطلبك أحدهم، يرمي اليك ببعض الدراهم كأنك تطلب صدقة. "

انتبه الى كلامه. لم يفكر يوما بهذه الطريقة، كان صوت أمه الذي يدعوه الى الحمد صباح مساء يستوطن تفكيره، رغم محاولاته الفاشلة في طرده. كأنها كانت الشرارة التي ستشعل عقله وكل حواسه ويتكلم دون رقابة. التفت اليه وهو كله حماس وقال له "كلامك صحيح يا أخي، بعض الدريهمات لا تساوي حتى العرق الذي يتصبب منك طول الطريق." وسأله بسرعة شديدة:" ألا تنظر الى ما تحمله من خضر ولحم وأنت في طريقك الى بيوتهم؟" أجابه بكل عفوية: "مرارا وتكرارا، ودائما كنت أسأل نفسي، لماذا لا أستطيع أن أكون مثلهم؟" وهنا كانت فرصته الوحيدة للبوح. فقال له" هل حاولت مرة أن تسرق شيئا من مشترياتهم...؟" لم يدرك قصده، ضحك ووضع رجل على رجل وقال له " الحقيقة يا صاحبي، لم تخطر ببالي مثل هذه الفكرة، لكنها تبقى فكرة ممتازة. انهم يشترون ما آكله أنا في شهور. حتى اللحم نسيت مذاقه. ليس عيبا ان نتقاسم معهم بعضا من مشترياتهم دون علمهم." وسأله بعينين جاحظتين كأنه يكتشف حقيقة كانت غائبة عنه:" لكن ألا تعتبر سرقة؟" قام يتهيأ للذهاب وقال له مع ابتسامة الرضى والثقة:" وعندما يرمون اليك ببعض الدريهمات، أليست هده سرقة لعرقك؟"

كلام كبير يسمعه لأول مرة، لا يستطيع عقله الصغير ادراكه. عقله الذي لم يتم تعليمه بعد اختفاء والده وصبر والدته وقصر اليد. فهو لم يفكر بتلك الطريقة يوما. فكان يفرح بتلك الدريهمات ويعتبرها رزقا جديدا، ربما كلام أمه عن الرضى والصبر كان حاجزا منيعا عنده ضد كل هذه الأفكار التي كانت تشوش على دماغه. وفي نفس الآن، لم يفهم سلوكه الذي دفعه الى سرقة الدجاجة. أول مرة يقوم بهذا الفعل الخارج عن تربيته. اختلطت الأمور في رأسه، هل ما فعله لا يعتبر سرقة هل هو ثمن عرقه الذي لا يؤدى عنه؟ أسئلة انهالت بتتابع على دماغه البسيط كانهيار أحجار مفاجئة من فوق جبل.

ترك السوق وعاد الى بيته الصغير النائم في الطرف الآخر من المدينة، كطفل صغير فقد والديه. وجد والدته، المرأة الطاعنة في السن والتي لا تفارقها ابتسامة الرضى، تلهث وهي تجر سطلا من الماء. فحتى الماء غير متوفر لديهم، فهي تطلب مساعدة أبناء جيرانها لكي يجلبونه لها. لم يعجبه منظرها، دخل بعنف وترك عربته عند الباب، وارتمى على تلك الحصيرة التي يتناوب عليها هو ووالدته وخبأ وجهه بين يديه. انتبهت اليه وقالت له بكل عفوية: " مالك يا ولدي؟ لماذا عدت باكرا من السوق؟ " كأن سؤالها أشعل النار التي كانت نائمة بين ضلوعه وقال لها: "هل السرقة حرام يا أمي؟" وتابع دون أن ينتظر جوابها:" انظري الى حالك، ألا تعتبرين أن صحتك سرقت منك بسبب هذه العيشة؟" دون أن تلتفت اليه وهي منهمكة في غسل بعض الكؤوس بكل بطء حتى لا تضيع قطرة ماء، فجلبه يتطلب مجهودا كبيرا. فقالت له" السرقة حرام يا ولدي. اياك والسرقة."

أجابها بكل عنف رغم أنه لم يكن يقصد:" أظل طول النهار أحمل للناس حاجياتهم من السوق الى سكناهم، وأحيانا أمشي كيلومترات وتتورم رجلاي ولا أسمح لنفسي بالاستراحة وفي الأخير يرمون لي بعض الدريهمات. ألا تعتبرين هذا سرقة؟". وأضاف والحزن يسكن نظراته:" وأنت، حياتك كلها في خدمة البيوت ولا تتوفرين على الماء؟ أليست هذه سرقة لحياتك؟".

جلست الى جانبه ومسحت على رأسه واحتضنته، وقالت له" يا ولدي، تلك الدريهمات فيها البركة. حالنا أحسن ..."

وانتفض وأكمل جملتها التي سكنت كيانه كله ولا يستطيع أن يلفظها من حياته، وقال لها وهو يغادر البيت" حالنا أحسن من غيرنا، حفظتها حتى صارت جزءا مني". وهنا لم يعد يتحكم في كلامه أضاف: هل تعلمين يا أمي بأن دجاجة الأمس، كانت مسروقة؟" نظرت اليه بشكل عادي، ولم تجبه. كانت عينيها تحملان حنانا ممزوجا بالقسوة. علا صوته من جديد وقال لها:" لقد سرقت يا أمي." قالت بصوت خافت وهي تحاول أن تداري غضبها:" أعلم ذلك يا ولدي." اختلطت عليه الأمور مرة أخرى، وتاه بين الأمس واليوم، لم ترغب أن تقول له أنها تعلم أن الجوع كافر، وأنها كانت لياليها تقصف بالبرد والشتاء وكانت تحمله على ظهرها وتمضي في الحقول، منذ طلوع الشمس الى غروبها. لم ترغب أن تقول له أنها سرقت يوما، بعدما اختفى والده وعلا صراخه وهو بعد في شهوره الأولى من شدة الجوع.  فخرج كالطائر المجروح، عينان ممزوجتان بالدم والدموع، رأس يغلي كالبركان، لا يعلم أين يذهب ولعن زميله الذي التقاه صباحا وأشعل فتيل حرب داخلية تكاد تأكل كل كيانه. كانت دعوات الرضى التي تمطره بها والدته كل صباح، كافية من أن تجعل يومه بسيطا ومرتاحا من دون أسئلة توجع الرأس وتجلب الصداع.

خرج ولم يجد عربته التي ركنها قرب البيت. صرخ كالمجنون "لقد سرقت يا أمي، ضاعت العربة." وانطلق يجري ويندب حظه في الشارع ويصرخ بأعلى صوته "لقد سرقوني...لقد سرقوني.""

***

أمينة شرادي

 

 

بيضاءُ

بياض الثلج في يومٍ صيفي

وبطعمِ الملاحمِ

في الخرافات،

بنكهةِ المعسولِ

في سيرة ذي يزن.

أحبها

كقصيدة لم تولد بعد

ولن تولد أبدا،

أعشقها

كوطن.

لأجل عينيها

لستُ أبالي

بما قد أكابده من محن.

تعوَّدنا

تمجيد الشمس

حدّ دوخة الكؤوسِ

وتوهّج المعنى

في ديدن رعايةِ السّنن،

تعوّدنا ذلك

مُغالبَة

ضدّا في السَّوادِ

وتلطيفاً

لأجواء الشَّجن.

نترنّمُ بألوانِ الحياةِ

على كلِّ حالٍ،

لفصولنا

حرائقُ الشِّعر التي لا تنتهي

يشهدُ الرمادُ

على هروبنا الحالمِ

من وإلى فراديس الشِّعر

موغلة في أرواحنا

بحجم ما نحمل بين الجوانحِ

للصاحبة والتُّرابِ

من جنون عشقٍ

مُلهمٍ

سُلوانَ خطوبِ الزَّمن.

***

أحمد الشيخاوي - شاعر من المغرب

 

حلقة من قصة: المدينة الغافية في احضان البوسفور..

أدركَ في صباح ذلك اليوم الماطر، إن المطر سيمنعه من الخروج، ولكن كانت مزنة عابرة زخت ماءها ثم راحت تبتعد عن تلك الضاحية القريبة من مركز مدينة اسطنبول، بعدها جفت الارض وبدأت خيوط الشمس تطل برأسها الأصفر عبر السحب البيضاء المتقطعة، فيما كانت النوارس تحلق مجاميع فوق السطوح القرميدية القديمة وساحة الميدان التي تغص بالحمام.

قرر أن يجلس في المقهى المطل على الساحة، وفضل الجلوس خلف اللوح الزجاجي لكي ينعم بدفئ الشمس ويتحاشى الهواء البارد القادم من جهة البحر، وضجيج بعض الاطفال الذين يصرخون بقوة على بعضهم البعض ثم ينتهي صراخهم بالعراك في ما بينهم، وليس من المعروف، ربما هم أولاد شوارع صغار، الأمر الذي حدى ببواب الفندق المجاور إبعادهم  لكي لا يعطوا انطباعاً سيئاً لمن يريد الإستعلام السياحي.

جاءت القهوة المكللة بزبد الحليب مع قطعة من الحلوى.. وكان قد اختار الجلوس في ركن المقهى بجانب جدار اخضر، ليس مطلياً بالصبغ إنما بزروعات قد تم تشكيلها باسلوب لم يكن معهوداً، وهو عبارة عن لباد اسود سميك فيه جيوب مملؤة بالتراب ومزروعة بعدد متنوع من نباتات الظل والزهور الصغيرة،  تلك التي تنبت بين الصخور وهي تطل برؤوسها الجميلة من بين اخضرار اللوحة الزاهية خليط  من الالوان الأخضر والبنفسجي والاحمر والأحمر الأرجواني ودرجات اللون الأخضر إلى حد الإنبهار.. هذه هي اللوحة الطبيعية التي خلقها الله سبحانه واوحى للإنسان كي يشكلها في ذهنه كمثل هذه المعلقة الرائعة، يسقيها بالتنقيط البسيط الهادئ المبرمج من أعلى اللوحة حتى اسفلها في شكل حاضنة بلاستيكية تتجمع فيها بقايا المياه الزائدة دون ان يحس بها احد او يسمع لها خرير، ويتم تصريفها حيث يريدونها أن تصب.

أحبَ هو اسطنبولْ.. هذه المدينة الغافية في حضن الماء.. وحين غادر المقهى، عزم على ان يسير حيث يمتد الشارع النازل نحو البحر، وكان شارع طويل محفوف بالبيوت القديمة وبالأشجار.. وحين بلغ المنعطف النهائي للشارع، رآه حاداً عندها فضل هبوط السلالم الحجرية نحو الشارع الذي يقع على خاصرته اليمنى سور حجري قديم يحيط بالمدينة القديمة المطلة على البحر.

جلس على صخرة بجانب السور الذي تتدلى من بين حجارته الزهور البرية ونباتات الظل.. أمعن النظر في السور وبفتحات النوافذ العارية من كل شيء وهي ذات اقواس كثيرة متراصة على امتداد السور الذي يتحدث عن زمن سحيق عاشته مدينة اسطنبول  التي انجبت الشاعر الكبير "ناظم حكمت" والروائي "أورهان باموك"، كاتب رواية (أولاد جودت بك)، أما " أحمد راسم " فقد كان في زاويته الصحفية يدون كل شيء عن هذه المدينة المزدحمة الصاخبة، خاصة بعد سقوط الإمبراطورية وأفول نفوذها. وبعد أن ترك الماضي على حاله يبكي الضياع، انصرف يتأمل هذه المدينة، التي تغفو في احضان البوسفور، هادئة وديعة تجر خلفها إرثاً تاريخياً ثقيلاً.

أحبَ هو اسطنبول، كما هي مدينة يسمع في ازقتها ليلاً اصوات، ربما سكارى، ويتخيل ترنحهم، وباعة الشوارع خلال النهار بعضهم يروج لبضاعته، والبعض الآخر صامت يحدق في الأرض تحيطه حانات وخانات، فيما يبدو الآخرون مشغولون باعمالهم اليومية.. وكان يراقب سيدة بدينة تجلس في ركن مطعم مقابل وامامها مكونات طعام تعمل بخفة متناهية، وهو يراقب عملها من وراء الزجاج وهي تضع الحشو وتدحرج العجينة ثم تضعها جانباً.. وحين أكمل فطوره وغادر المطعم كانت السيدة مستمرة في حشو (الدولمه) و (الكبة الحلبيه) وغيرها من المحشيات دون كلل أو ملل، حتى خيل له وهو يراقبها صباح ذلك اليوم وكأنها ماكنة آلية تحظر اطباقاً عديدة من مكونات متعددة في آن واحد، فيما هي تقضم شيئاً وتلوكه ويبدو عليها عدم الإكتراث من هذا العمل الممل.

كان الجو غائماً إلا من بعض الغيوم المتراكضة التي ينبعث من خلالها ضوء باهت.. أدرك اقتراب الظهيرة، والناس يتوجهون نحو المطاعم التي يعج بها الشارع.. بعضهم يفضل الوجبات السريعة ويمضي مسرعاً وهو يلتهم الشيء الذي بين يديه، فيما يرغب آخرون الجلوس بهدوء للاستمتاع بوجبة ساخنة، فالسرعة غالباً ما تجلب المتاعب.. وقع نظره على مطعم صيني في اسفل الشارع، وحين نزل سلالم الشارع الحجرية، استقبلته نادلة صينية بوجهها المستدير وعينيها الظاحكتين وابتسامة ترحاب متواضعة.. هكذا هم الصينيون، متواضعون دائماً ويعملون بصمت.. جاء إلى ذهنه أنه قرأ مرة في مجلة المختار الحوار الذي دار بين الزعيم الصيني الراحل " ماوتسي تونغ " ووزير الخارجية الأمريكي الراحل " هنري كيسنجر" في زمن ولآية الرئيس "نيكسون"، حين سأله هنري : متى تسترجعون (هونك كونك) ؟، وكانت الإجابة قاطعة تحمل التواضع والحكمة والسخرية في آن واحد، ( لا تقلق ياعزيزي ستعود حتى لو بعد مائة عام ). !!

وكان هذا الزعيم يستند في إجابته على مقولة الفيلسوف الصيني الحكيم "كونفوشيوس"، (لا تنتقم بل انتظر، على حافة النهر، ربما تمر جثة عدوك).!!، هكذا وضع " ماو تسي تونغ" وزير الخارجية الأمريكي "هنري كيسنجر" في جحره كجرذ صهيوني ساذج.

كان الطعام الصيني شهياً، وحين انتهى من طعامه، شعر وكأنه لم يأكل شيئاً.. إنها وجبة تبعث على الراحة والدفئ.

***

د. جودت العاني

5 / 3 / 2024

 

استقر وسط العربة الخالية من المسافرين بعد أن جلس قرب احد النوافذ ولما تحرك القطار بدأت البيوت والساحات والشوارع والحدائق والجداول والبنايات الكبرى تتراجع إلى الخلف بطيئا فأخذ يتأمل ملامحها كأنه يراها لأول مرة ثم مالبثت ان تسارعت حركتها وفقدت ملامحها ولما توسط القطار الفيافي بدأ يدندن بأغاني حفظها في مراحل عمره الذي لازال في الثلاثينات لكن اغنية واحدة هي التي فرضت نفسها ورددها أكثر من مرة وعند توقف القطار في أول محطة بعد انطلاقته الأولى شاركته العربة امرأة جلست في الجانب الثاني منها واحكمت لف جسمها بعباءتها السوداء واشاحت بوجهها للجهة الثانية وانشغلت بهاتفها الخلوي

. اغمض عينيه وحاول النوم لكنه لم يفلح وبعد مرور دقائق طويلة نسى ان هناك شريك في طرف العربة الثاني فدندن باغنيته المفضلة..

(أريدك بالحلم خطار مر بيه عشگ أخضر)

فالتفتت اليه مبتسمة وتركت مكانها وجلست خلفه بعد القاء التحية وبعد عبارات مقتضبة سألته بشكل مباشر..

. هل انت عائد إلى بيتك او ذاهب لزيارة صديق؟

. لا هذا ولا ذاك إنما ارتبطت بصداقة مع شخص في الفضاء الأزرق وها انا الان ذاهب للقاءه الأول

. وكيف تتعرف عليه؟

. حددنا مكان وزمن واتفقنا على اغنية ينطق بها أحدنا فيعرف الثاني هو المقصود

. هل تحمل معك تسجيل للأغنية؟

. نعم

. ممكن اسمعها الان؟

. اسف لا هذا أمر حميمي بيني وبين شخص آخر

. ثم توالت اسئلتها واستمر باجوبته المبتورة غير المجدية حتى أيقنت انه لم يكن بمستوى الطموح ولايملك الثقافة والألفة المطلوبة وتركته وعادت إلى مكانها وعند وصول القطار لمحطته الأخيرة وقفت في باب العربة واخرجت هاتفها الخلوي واستدارت لتصبح معه وجها لوجه وابتسمت وسألته..

أليس هذه هي الأغنية التي اتفقنا عليها وصدح صوت المطربة..

(انا قلبي دليلي)

فأصيب بصدمة ونهض ليخبرها لكنها لوحت له بيدها مودعة وابتلعها زحام المسافرين.

***

قصة قصيرة

بقلم: راضي المترفي

 

دُبٌّ رَمــتــهُ غــرائــبُ الأقــدارِ

لــيــحوزَ كــرمًا مُــفعَمًا بــثمارِ

*

فــيهِ الـعناقيدُ الــشهيَّةُ والـجَنى

مــا قــد يُــثيرُ غــريزةَ الــمَكّارِ

*

قــد حــرَّكتْ ذِئــبًا هزيلًا جائعًا

عــانى من الويلاتِ بعدَ حصارِ

*

بــدأَ  الــتَّحرُّكَ كــي ينالَ مُرادَهُ

ويــصيبَ قسمًا من خراجِ الدارِ

*

ولــديهِ ألــفُ وســيلةٍ وطــريقةٍ

يــبتزُّ خــوفَ الأحــمقِ المِهْذارِ

*

وكــلاهُــمــا يــتــقرَّبانِ تَــزلُّــفًا

يــتــبادلانِ رســائــلَ الأخــبــارِ

*

والــدبُّ مــسرورٌ لــيوهِمَ رَبْعَهُ

فـيُــصَفِّقوا لــلــفارسِ الــمغوارِ

*

بَــسَــمَاتُهُ يـخـفي بــها خــيباتِهِ

مُــتــظاهرًا بــالــعزِّ والإكــبــارِ

*

وهـناكَ فــوقَ التلِّ يجلِسُ ثعلبٌ

ويــراقــبُ الأحــداثَ بــالمنظارِ

*

فـيخاطبُ الــدبَّ البسيطَ محذِّرًا

كــي لا يــكونَ ضــحيةً لــلجارِ

*

يـادبُّ دَعْــكَ مــن السياسةِ إنَّها

حِــكرٌ عــلى الــنُّجباءِ والشُّطَّارِ

*

يــادبُّ دعــكَ مــن الذئابِ فإنَّهم

رَهْــطٌ مــن الأَنجاسِ والأشرارِ

*

إنَّ الذئابَ وإنْ ظننتَ وضوحَهمْ

بــحرٌ  عــميقٌ غامضُ الأسرارِ

*

فــيهِ  مــن الحيتانِ كلُّ مضرَّسٍ

تــرويضُهُ صَــعْبٌ على البحَّارِ

*

لا  يــقهرُ الــحيتانَ غيرُ مُجرَّبٍ

قـــد  قــلَّــعَ الأنــيابَ بــالأسفارِ

*

مازالَ يُصغي للشيوخِ ونُصحِهمْ

ويــخافُ مَــكْرَ الــساكنِ الغدَّارِ

*

وتــظنُّ  نَفسَكَ قد غدُوتَ مُحنَّكًا

جَــلْدًا عــلى الأهوالِ والأخطارِ

*

نــمْ  عِــندَ أُمِّكَ يا غلامُ فلمْ تزلْ

طــيرًا صــغيرًا أصــفرَ المنقارِ

*

بَشَرٌ على ظهرِ السفينةِ قد غدتْ

أرواحُــهــمْ مــرهــونةً بــقــرارِ

*

يــخشَونَ  نــزوةَ ســادرٍ متهوِّرٍ

تُــلْقِي بِــهمْ كــنُشَارَةٍ فــي النارِ

*

هُــمْ ســادةٌ رُغْــمَ الــلئامِ أعــزةٌ

مــا هُــمْ مــن الأنــعامِ والأبقارِ

***

عــبد الناصر عــليوي الــعبيدي

 

بين هنا وهُناك...

أتَمسَّكُ بجذْعِ شجرةٍ

أبحثُ عن رقَائقِ الشَّمس

عطراً لزهور غربتِي

يَثْملُ أنفاس الكون.

في بلادي يشحُّ العطر

ويُغتصبُ الورد

وتُغتال الطفولة

والبسمةُ في الزنزانة

ودماءٌ ودموع

وحريقٌ يلتهمُ الماء

زمجرةُ رصاص

تقضُّ مضاجعَ أحلامي

جُرحي ما زالَ يتيمْاً

أَحْلمُ بوطنٍ لا ينتحِرُ

هَلْ من وطنٍ يتبنّاني؟

أَين مِنِّي أنت ...؟

وأين أَنا منك؟

أبكيكَ ياسمينةً .... ياسمينةً

أنَا لا أَبْكِي حَنينِي..

بل أَبْكِي

اِنْكسارَ الزَّيزفونِ

على ريق ضِفَافِك

أناجي غفران

الضُّوءِ في عينيك

واختيالَ المَراسي

على رموشك

آهٍ .. شَرايينُك تشتعلُ وَفاءً

آهٍ.. زَهراتُك تَحْترقْ

أسمعُ أَحلامَها المُستَغِيثَة

أَرى دُخانَها كثيفًا

أَتَرقَّبُ انْبعاثَ العَنقاءْ

وشُروقَ الشَّمسِ

لأَملأَ الخوابِيَ من ذهبها

أُعَتِّقُ ياسمينَ الشَّام فيها

كي ترفُلَ نَحلاتُ الحرِّيَّة

على أَجْنحَتها

أبْنِي سُلَّمًا أَخضرَ

مُطرَّزاً بحروفٍ

لا تعرفُ الاِنْتِحار

عُدْ يا زمنَ السُّكَّر أبْكَر

أَحْملُ لصباحَاتِكَ

تحيَّةَ الشَّوقِ والصَّعتَر

***

سلوى فرح - كنـدا

 

وحيداً أُحصي

دَقَّاتِ الزَّمن الرَّتيبةِ

والصَّبرُ يتمَلْمَلُ

وصرخةُ الخَلَاصِ

على مهلٍ تَنضُجُ

ونيرانُ اشتياقاتي

أجيجٌ يَتَّقِدُ

*

سواقي الحُلُمِ تَجُفُّ

وأنا مازلت هناك

في أرضٍ غَبراء أَحرُثُ

بين أضلُعي سيلٌ جارفٌ

وسُدودُ الرُّوحِ واهنةٌ

فأين المَفَرُ

من زوابِع إِعصارٍ

لاَ يُبْقِي وَلا يَذَرُ

*

تائِهاً شارِداً

أتاني الطَّيفُ

يَنوحُ رَذاذاَ

ويَرتَعِشُ

باهتَ الألوانِ

مثلَ أمطارِ نيسان

يَحملُ بين جَنَباتِه

رِسالةً عتيقةً

وبقايا ذِكرى

وآثارَ طَعنَةٍ

*

تَجَرَّعَ مِن خَمرتي

حتَّى فاضت الكُؤوسُ دَمعاً

*

حَدَّثني عن انتحارِ الجَداوِلِ

في البِحارِ القَصيِّةِ

وعن بَصيصِ ضَوءٍ

كان شَمساً

ذات مرَّة

وعن وردةٍ يانعةٍ

قَتلَتْها الخَيبةُ

وعن جاريةٍ حَسناء

اِغتَصبوها ألافَ المَرَّاتِ

ثم نّصَّبُوها

أميرَةً

في زَنازينِ الشَّهوةِ

*

جاءَ المَساءُ مُهرولاً

ولَفَظَ الطَّيفُ

ألوانَهُ الأخيرةِ

وعلى جِدرانِ ذاكِرتي

أبقى لي أريجَ وَردةٍ

اِغتالَتْها رِماحُ الخَيبةِ

في البِلادِ البعيدةِ

***

جورج مسعود عازار

ستوكهولم السويد

الحقولُ والينابيع

السواقي والبساتين

والنعناعُ والبنفسج

الأَنهارُ والسنابلُ

العنبرُ وعيونُ الماء

ونخلُ بلادِ البياضِ

والسوادِ والرافدينْ

الأُمَهاتُ والأُطيفال

الجدّاتُ الحنوناتْ

الشيوخُ البسطاءْ

والفتيانُ الفقراءْ

الصبايا العاشقات

والعشّاقُ الصابرونَ

على الظُلمِ والظلامِ

والفاقةِ والضيمِ

كوابيسُ ليالي الحصاراتِ

والأوبئةِ والفجائعِ

وخسائرِ الأزمنةِ السودْ

كُلُّها يا إلٰهي كُلُّها

أُصيبتْ بالذبولِ

والإختناقِ المُرِّ

شهقةً شهقةً

وصيحةً صيحةً

حدَّ طلوعِ الأَرواحِ

وصعودِ الأَنفاسِ الأَخيرة

*

كُلُّ هذا قَدْ حدثَ

ذاتَ كابوسٍ نهاريٍّ أسود

حيثُ أَنَّ الهواءَ تَسمَّمَ

وماءَ اللهِ تلوَّثَ

بمستنقعاتِ الكراهيةِ السوداءْ

وسخامِ الضغائنِ والحروبِ

وثالثِ أوكسيدِ الخراب

***

سعد جاسم

2024 - 5 -5

في نصوص اليوم