نصوص أدبية

نصوص أدبية

منسيون

في الرمال المتحركة

تنزلق أقدامهم

في هوة النسيان

يرحلون

يغرقون

حرموا من أمانيهم

جردوا من ذكرياتهم

منسيون في الحياة

منسيون في المماة

لا أسماء لهم

لا عناوين

لا شواهد فوق قبورهم

على إيقاع معاناتهم

تغلق الستارة

وينتهي المشهد.

**

شتات

وجوه هائمة على غير هدى

الرياح تجري كما لا تشتهي سفن أحلامها

سراب

هاربٌ…

شاردٌ…

بين المشارق والمغارب

السماء ملبدة بالخوف

برق ورعد الوجع

شتاء من المرارة

ينزل دون رحمة

شتات السنوات ينبت فوق النواصي

عروق اليأس تتراءى

ناصعة فوق المحايٍ

تذبل الوجوه

و

ت

ت

و

ا

ر

ى

في العدم

**

مسافات

يجري

يلملم اللحظات المتساقطة

فوق المسافات المنهكة

الوقت قربان على مذيح النسيان

ينزع حذاءه المتعب

ويرقد خلف الأضواء المطفأة

يحلم بالسكون

***

عباس علي مراد

(التلويح الأخير)

بماذا يفكر المرء قبل تنفيذ حكم إعدامه بساعات، بمعجزةٍ إلهية تتم عن طريق رفاق الدرب الطويل؟

كيف وهم من أحكموا الطوق حول رقبتي مؤتمَرين، يهللون من فرط الانفعال بسلامة المرور من فوق حبل السلطة المتأرجح وفق هواه، ولو إلى حين، من صعق غضبه فوق الرؤوس المحنية بتضرع متحشرج في الحناجر، استلب مني آخر ما تبقى من عنفوان لدى حضوري أول اجتماع حزبي في بيت أحد الذين سبقوني إلى هنا، ربما في ذات الزنزانة المظلمة التي يعف عنها الهواء، أمضينا جلَ أعمارنا من أجل أن نستطيع استنشاقه بحرية أحلامنا الفتية التي كانت توجهنا كريحٍ عاتية تود بعثرة كل شيء، تحطيم واقعنا المتوارث جيلًا بعد جيل لإعادة لملمته وبنائه من جديد، دخلنا سجونَ ومعتقلات عهود مختلفة، ستنصهر تباعًا في عهد (الزعيم) الجديد، المرحلة المقبلة ستكون أكثر خضوعًا له، له وحده، ونحن من جملة الأسباب التي مهدت لذلك؟

لم يعد التفكير في هذا مهم الآن، وأنا أقبع في ضيق الزنزانة الخانقة، حيث يستباح كل شيء، الماضي بكل تداعياته ومستقبل أعرف أني لن أبصر منه ومضًا، لكنهما يظلان يقتاتان على دقائق وثوانِ الحاضر المنفرط من عقد الزمن رويداً رويدا، يستبقان الأنفاس المتبقية لديَ في هذه الدنيا.

أسمع خطا الموت العسكرية مع وقع جزم الحراس الثقيلة في الأروقة الضيقة، أراها في قسمات وجوههم الشبحية التي تطل عليّ بين الحين والآخر، يخَلِفون صدى قهقهات متشفية لا أدرك لها سببًا ولا معنى محددا، ربما ما كان أحدهم يتصوَر أن يقف إزائي مثل هذا الموقف، عندما كانت الأضواء مسلَطة نحوي وهم يجوبون هذه الجحور رواحًا ومجيئًا.

أم أنهم كلما رؤوا أحدنا في التلفاز بأبهى حلة، يتكلم بما تؤهله مكانته الرفيعة في الحزب والدولة عن الانجازات المتحققة للجماهير المنتظِرة منذ عقود شروق الشمس بين أكفنا الصلبة، كانوا يضمرون شيئًا من السخرية نحونا، يراهنون أنفسهم على الأسرع منا في الوصول إلى قبضاتهم العملاقة، وربما لولا الخوف الكامن في صدورهم المنتفخة لكان الرهان فيما بينهم بالنقود.

يعلو الهتاف، ويتناهى إلى مسمعي، كلما صادف مرور (القائد) قريبًا من باب الزنزانة، برفقة واحد ممن يتحفزون لإعلان الولاء المطلق، وهو يستعد لتسلُم المسدس الذي سيطلق رصاصة أو أكثر ـ حسب أوامر السيد المهاب ـ صوب جسد رفيق سابق، بعد اعتلائه منصة الإعدام، موثوق اليدين إلى عمود أو أصفاد مثبتة بحائط ملطخ بالدماء خلفه، ربما يده ترتجف قليلًا، رمشات عصبية تشاكس عينيه، تهدج أنفاس يقتنص قفصه الصدري، لكنه يثابر بفرض سطوة تامة على كل خلجة منتفضة في جسده، ثم يسارع بالإطلاق تحت نير النظرات الصارمة من قبَل الرئيس وحراسه المستعدين لتلقي غمزة عين ربما، إشارة إلى رشق المنفِذ والمحكوم، فاغر العينين، بالرصاص في ذات اللحظة التي تضج القاعة بترديد شعار الحزب الذي هدر بعلو صخب الشباب في كل ساحة وميدان من قبل.

صورة لا تنفك عن مزاحمة آلاف الصور المتضاربة داخل رأسي، تتجاوزها جميعًا لتمثل في الواجهة، تترصد فجيعة زوجتي وهي تضم رعب وارتجاف الأطفال أمام البزات العسكرية لدى تسليمهم اللحد، دون السماح لعلو صرخة وجع أو نشيج فقدان، يأمرون بالكف عن اللطم والإسراع في مواراة الجثة الثرى، وربما طالبوا بإعلان البراءة مني، علَهم ينالون الصفح الجميل من لدنَ سيادته، هذا إن لم يلقوا بالجثمان في الخلاء، ومن ثم يرقبون من بعيد تصارع الغربان والضباع والذئاب على نهش ما تبقى من وليمة القيادة، حتى الوصية هم من أجبروني على كتابتها، طلبتُ من امرأتي الثكلى في مضمونها تربية أولادنا على ذات الأفكار التي جمعتنا، وأن تنزع عن أوردتهم سموم إرث الخيانة التي ربما تلاحقهم بقية أعمارهم…

أسَتتلوها عليهم والدمع يخضِب كلماتي، وعيونهم المرتعدة تحوم حولها مثل نوارس صغيرة يلطمها الموج في عتو طغيانه، أوَ سوف يفقهون شيئًا من ذلك الخطاب، بل من كل ما يخسف الأرض بهم!

كنتُ أتمنى أن أكتب لهم عن أمور شتى، بأكبر قدر ممكن من التركيز، ورغم ذلك قد تبدو لهم مشتتة، مبعثرة، فلا يفهمونها إلا بعد سنوات وسنوات، وقد لا يفهمونها أبدًا، كما أدركتُ أني لا أفهم أشياءً أكثر وأنا على عتبات الموت، ظننت فيما سبق أني أستوعبها جيدًا، وقد حددتُ غايتي ورسمت طريقي، فما معنى أن يعيش الإنسان بلا قضية سامية، يحيا من أجلها أو يموت دفاعًا عنها، وأنا دافعت يا أولادي قدر المستطاع، وما تسمح لي قيود السلطة والنفوذ السطوة، والله الذي سيقبض روحي بعد وقت يأخذ بالتضاؤل يشهد على ما أقول.

أعرف أني لم أخلِف لكم شيئًا سوى اسم ربما سيظل يطاردكم كلعنة لا قدرة لكم على الفكاك منها، ستلاحق ظلالكم في كثير من الأماكن، وتفرض عليكم موقف الدفاع أمام الكثير من العيون المرتابة والمشكِكة بانتمائكم إلى وطن تلفع بالخذلان والركوع لهيبة القائد.

قيمٌ عظيمة تفتح وعينا عليها ستجدونها مستلَبة من عقولكم الصافية، ومن قبل أن تدركوا للدنيا معنى سوى الصمت الذي بدأ يتلَبسني.

وأنا هنا في ظلمتي هذه أبصر نموكم سنة تلو الأخرى، والذكريات الأليمة وشومٌ تكبر معكم، تجنح بأفكاركم وأمانيكم أينما وليتم وجوهكم، تسلب ما تستطيع من بهجة لدى كل مرحلة من أعماركم، وإن تغيرت الظروف وحدث ما تعودنا حدوثه في بلادنا المثَخَنة بنزيف الثورات الدامية، فلربما تثور فيكم كل حمم الكبت والقهر، ومن ثم تتضاحكون وتبكون طويلًا طويلا، ولكن كيف لكم استرجاع السنوات المنزوية في جحور الخوف.

عذرًا يا دموعي المنسابة فوق خديّ دون إرادة مني، رغم إصراري ألا أظهر أمامهم ضعفاً أو استعطافا، فأنا أعرف أن (سيادته) يحب تذلل ضحاياه أمامه حتى اللحظة الأخيرة، وعذرًا منكم لأني فرضت عليكم اختياراتي، التي لا أدري مكانتها لديكم، وما يمكن أن يجول في خواطركم بشأنها، كم تمنيت أن تكون لكم حياة ومستقبلًا بمنأى عن جنوح السلطة، وفلك مزاياها أيضًا، كما يفعل البعض، متقاضين ثمن النضال، متقاسمين غنائم الثورة التي اجتاحتني مع أولى نسائم الشباب، بما يشبه بحلم عاشق لم يخبَر حبائل الهوى من قبل.

هاهي شمعتي توشك على الانطفاء وحضني مشتاق لضمكم بقوة تختلج الضلوع، فيما بوابة الزنزانة تفتح بزمجرة نابحة في وجهي المحتقن بغيظ آلاف الكلمات التي أود بصقها في الوجوه الشيطانية، كلمات قد تعين رأسي على عدم الانحناء حتى بعد الإجهاز على حياتي، كما كنتُ وكما أريدكم دومًا أن تكونوا.

***

احمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

(مَجنونُ لَيلَى كمَجنونِ عَبْلَة!)

- إِذا ما أَفَضْتَ إلى ما تُرِيْدُ،

فطَقْسُ المَآتِمِ في النَّارِ عِيْدُ

ووَجْهُ الرَّمادِ يُبَرْعِمُ شَمْسًا

لِيَشْرَبَ ثَلْجَ اللَّيالِيْ الوَقُوْدُ

ونَسْجُ العَناكِبِ، حَوْلَ النُّبُوَّةِ،

يَعْلُوْ شِراعًا، وبَحْرًا يَمِيْدُ!

**

لِتَنْزِلْ مَشِيْئَتُكَ المُشْتَهاةُ:

بِحُبٍّ حُرُوْبٌ/

بِوَعْدٍ وَعِيْدُ!

ونارٌ بِنُورٍ/

بِدُوْدَةِ قَزٍّ لِتَنْهَلَّ دُوْدٌ

لِتَهْتَزَّ دُوْدُ!

يَمُوْتُ المَماتُ،

وما إِنْ تَمُوْتُ؛

لِعِزْرِيْلَ فيها رَصِيْدٌ يَزِيْدُ!

**

- أَجَلْ،

إِنْ تَنَزَّلَ ما أَشْتَهِيْهِ،

فصُبُّوا بِصَدْرِيْ لَظًى، ثُمَّ كِيْدُوا

وبِيْعُوا سَماواتِ حُلْمِيْ بِسُوْقٍ قَدِيْمٍ،

سَيُوْرِقُ سُوْقِيْ الجَدِيْدُ

فسِيَّان حَشْرٌ تَعِيْسٌ كهَذا،

إِذا ما يُقاسُ، وحَشْرٌ سَعِيْدُ!

**

يُغَنِّي مَجانِيْنُ (لَيْلَى) لِلَيْلَى،

قَصِيدًا حَكِيْمًا، فمَنْ يَستَفِيْدُ؟:

- إِذا كانَ قَلْبُكِ صَخْرًا،

فقَلْبِي انْبِجاسُ اليَنابِيْعِ،

وهْوَ حَدِيْدُ

وإِنْ كانَ حُسْنُكِ بِكْرَ المرايا

فعِشْقِيَ في كُلِّ طَرْفٍ وَلِيْدُ

كأَنيْ بِعِطْرِكِ طُوْفانُ دِفْءٍ

وبَرْدِيَ مِنْ فُلْكِ (نُوْحٍ) طَرِيْدُ

كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ قَلُّوا كَثِيْرًا

لأَنكِ فِيَّ الكَثِيْرُ الوَحِيْدُ

كجَنَّةِ عَدْنٍ، ونارِ جَحِيْمٍ،

حَوَيْتِ المَعانِي،

فطِبْ يا شَهِيْدُ!

**

يُغَنِّي مَجانِيْنُ (عَبْلَةَ) (عَبْسًا)

عَواصِفَ رَعْدٍ؛ لِتَصْحُو (ثَمُوْدُ):

- إِذا غَنَّتِ الطَّيْرُ حُرِّيَّةً،

لَمْ تَزَلْ لِلقُيُوْدِ تُغَنِّي العَبِيْدُ

يَخُوْضُ الطَّحالِبَ في القاعِ أَنفٌ

ورِجْلِي على أَلْفِ أَنفٍ تَشِيْدُ

لِكُلٍّ جَوادٌ بِـ(حِطِّيْنَ):

ذا لِـ(صَلاحٍ)،

وذاكَ امْتَطَتْهُ اليَهُوْدُ!

**

أَلا تَرَيانِ نُسُوْرَ الشَّواهِقِ

إِذْ مِنْ لَهاةِ الشُّمُوْسِ تَصِيْدُ؟

وكَيْفَ تُحَلِّقُ،

رِيْشًا ورُوْحًا،

ولَيْسَ لَها في ذُراها حُدُوْدُ؟

أَلا تَرَيانِ شِفاهَ الأَقاحِي

سَمَتْ لِشِفاهِ الحَيَا إِذْ تَجُوْدُ

تُعِيْدُ بِناءَ الأَجِنَّةِ شِعْرًا

عَتِيْدًا،

عَتِيْقًا، لِمَنْ يَسْتَعِيْدُ؟

**

- فماذا أَقُوْلُ؟

ورَأْسِيْ الجُنُوْنانِ:

طارِفُ عِشْقٍ، وفَخْرٌ تَلِيْدُ!

يَدًا بِيَدِ الوَجْدِ أَسْرِيْ إِليها/

إِلينا،

يَرِفُّ بُراقِيْ القَصِيْدُ

وعَبْرَ ابْتِساماتِها،

الأُرْجُوَانُ يُؤَرِّجُ مِعْراجَ لَيْلٍ يَقُوْدُ

إلى حَيْثُ آياتِ طِفْلٍ

بِكَفَّيْهِ أَزْهَى نُجُوْمِ السَّماءِ سُجُوْدُ

كلَدْغَةِ أَفْعَى بنَبْضِي،

الحُمَيَّا تُواصِلُ شَمْسَ النُّهَى إذْ تَذُوْدُ!

**

وما أَشْبَهَ الخَتْمَ بِالبَدْءِ،

قَوْلًا وفِعْلًا!

لِكَيْلا يَفِيْضَ النَّشِيْدُ:

- إِذا ما أَفَضْتَ إلى ما تُرِيْدُ

فطَقْسُ المَآتِمِ في النَّارِ عِيْدُ

… … … … … … …

… … … … … … …

- وإما انْتَهَيْتَ لِما لا تُرِيْدُ

فبِيْضُ الوُجُوْهِ بِعِيْدِكَ سُوْدُ!

*  *  *

أَقُوْلُ-

وقَلْبِي على كُلِّ قَلْبٍ

بِنَبْضِ الضَّحايا ارْتَقَتْهُ البُنُوْدُ

وأَكْبَرُ تارِيْخِ كِذْبٍ كِذابًا

كِتابٌ بِتارِيْخِ ما لا يُفِيْدُ

يَظَلُّ يُعِيْدُ اجتِرارَ الأَمانِي

يَظُنُّ زَمانَ (الفِطَحْلِ) يَعُوْدُ!-:

**

إذا ما المَنايا هَجَرْنَكَ طِفْلًا،

لَسَوْفَ يُوافِيْكَ مِنْها الوُفُودُ

ككَأْسَيْنِ عُمْرُكَ،

مَوْتٌ غَبُوْقٌ،

ومَوْتُكَ هذا الصَّبُوْحُ الجَدِيْدُ

ستَشْرَبُ كِلْتَيهِما،

أو ستَصْحُو بِواحِدَةٍ مِنهُما لا تَحِيْدُ

فَهَيِّـئْ لِرَأْسِكَ بَيْنَ الوَسائدِ

نَوْمًا يُؤَرَّقُ مِنْهُ الخُلُوْدُ!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

يليق بك كيد الغياب

وضمة هجر تتلاشى..

كغمام هارب....؟؟!!

فتطل شآبيب شجن ضليـــــــل

يفوح من غمد الود قيظ عاشــــــــــق..!!

وعند مهب حلم ثَمل ليل عينيــــــــك

ينساب بقايا صمتك نسمات عليــــــــل..!!

تُرى من يبدد أسى الاشتياق بأمس دموعي ..؟؟

وتنهدات الفراق تئد يمام الوجد ....؟!

فحين إنهمار شحيح اللقاء

يتفتت كهرمان لوعتي خفق نحــــــيل

فما لغيم تموز أن يمطر ببرق مزاجه ..!؟

وشهوة السحاب هزيم شاحب ..!؟

فيأوى أثير الفؤاد لسحنات الذبول

فلي من ملامح غيابك نزر غزير..!!!

تشدوها قوارير نفسي بوجع كليــــــــل

فالتترجل روح الحنين لصهوة الغروب

ويتجرع كأس التوق مرارة شارب

وأن صافحك سماح همسي ..!!!!!!

فلي من عصارة العُتبى خمرة عذر..!!

كي تلملم بتلات رضاي

من زعفران الخاطر..!!!!

قبل أن أستسيغ رحيق الجفا

ويستنبـــــت شطأه

فرات رحيــــــــل

***

إنعام كمونة

28/5 /2023

ليسَ لي

أنا المُبَلّلُ بالأخطاءِ

سوى أن أعلّقَ نفسي

على حبلِ الغسيلِ

كي أجفَّ

*

كم من اللآليءِ الثمينةِ

كانت بحوزتِكَ

وكنتَ حينَها

تجهلُ قيمةَ ما تملكُ

فبدّدتَها جميعاً من دونِ تدبُّر

فوا أسفاه !

*

سأنامُ ملءَ جفونيَ

في السُنبلة

وأغدو رغيفاً

تقرأُ الأفواهُ عليهِ

البسملة

*

يرتفعُ المنطادُ عالياً

تقتربُ منه غيمة

يقولُ لها،

مرحى بكِ رفيقةَ سفرٍ

تقولُ : ليس الأمرُ مثلما تظنُّ

فأنا على موعدٍ

مع أرضٍ عطشى

*

أُطلِقُ في سمائِكِ

حمامةَ بيكاسو

وأنتِ ترفعينَ بوجهي

صليبَكِ المعقوف

*

أقَفُ على شأفةِ الهاوية

أرقبُ دفترَ العمرِ

تتطايرُ أوراقُهُ

ورقةً فورقة

كم أنا في توقٍ

لكي أنطلقَ بجناحينِ

مثلما تفعلُ يرقة

*

تنتشي الشجرةُ

وثصلُ إلى حدِّ الثمالةِ

بما حازتهُ من زقزقات

لكن ، وبمجرّدِ أن

يحطَّ عليها غراب

تطيرُ النشوةُ سريعاً

*

كأسُكِ مترعةٌ

وكأسي فارغة

لا خدشَ في أيّامِكِ

وجُرحي نابغة

*

وقفت الفتاةُ البدينةُ

أمامَ المونيكان

تأمّلت رشاقتَها

وخَصرَها النحيلَ

فكّرت أن تسألَها

عن النظامِ الغذائيّ

الذي تتّبِعُهُ

*

تُزهِرُ في مخيِّلتِنا

وجوهُ أحبتِنا الراحلينَ

تنثرُ الدِفءَ

في صقيِعِ أيّامِنا

وتتركُ في القلبِ

لوعة

***

أحمد الحلي

كان الضجر واضحا على زوجها، الذي كان بالكاد يكتم سخطه وشكواه وتذمره من الحياة، التي باتت تسير عرجاء في المنزل، بعد ان طالت فترة رقودها على فراش المرض، لأسباب غير معروفة وغير واضحة والذي بات من الصعب تشخيصها، ومعرفة أعراضها خصوصا بعد ظهور البقع الزرقاء على جسدها، وارتفاع كبير في درجة حرارتها وبشكل ملحوظ، بالإضافة الى الشحوب الذي كان واضحا على وجهها، والذي ظنت في بادئ الأمر بأنها وعكة صحية ستزول ولا تستحق كل هذا القلق .

كان ايمانها بالأدعية والمعالجة بالطرق الروحانية كبيرا، ربما بسبب نشأتها المنغلقة وحياتها البسيطة، لذا استعانت في بادئ الامر، بالمعالجين الروحانيين لاعتقادها، بأنها ستشفى وتتخلص من هذه الألآم. تنبئ لها هؤلاء وقالوا بأن مرضها آت من العالم السفلي، وان علاجها سيقتصر على حجابا ستحمله تحت ثيابها، مكتوبا بالزعفران الاصفر وماء الورد المختوم تحت النجوم، وهكذا وبكل قناعة حملت الحجاب، ولاسيما وانه سيبرئ جسدها ويذهب بالمرض بعيدا عنها لكن لم يتغير شيء، وكأن الطلاسم قد فقدت قوتها . لكونها مازالت تطلق أهات الالم، وحالتها تسير من سيء الى أسوأ بل وتفاقمت كثيرا، كانت تبكي خلسة وتكفكف دموعها كي لا تظهر ضعفها أمام زوجها الذي نظر اليها وحدثها قائلا: لم يعد الوضع يحتمل أكثر صحتك في تراجع عليك بمراجعة الطبيب فورا البيت بدء ينهار وأنا بصراحة بحاجة لزوجة قوية .

لجأت أخيرا بعد كلام زوجها و الحاح من اولادها واقاربها ايضا الى مراجعة الاطباء، لم يكن من السهل تشخيص حالتها لان اعراضها كانت محيرة، لكن بعد فحوصات وتحاليل دقيقة، تبين انها تعاني من انخفاض كبير في كريات الدم البيضاء، التي سببت لها نقص حاد في المناعة، مما جعلها تتهاوى سريعا وتمرض امام اي نزله برد او زكام قد تتعرض له، لذلك اوصاها الطبيب بالعزلة واخذ الاحتياطات اللازمة، من تعقيم ولبس الكفوف والكمامات كي تتجنب العدوى أيضا لحين التشاف. اثرت تلك العزلة على علاقتها مع زوجها، وخلقت فجوة عميقة بينهما، واصبحت تتحاشى أي جدال بينهما لئلا يتسبب لها باي بمشكلة رغم انها كانت تتوقع الحب والاهتمام، لكنه على العكس، بدء يبتعد عنها فلم يعد يحتمل حياته مع امرأة تفوح من فمها رائحة كريهة، ومن جسدها رائحة المعقمات التي ملئت البيت وحولته أشبه بمستشفى، لعقت جراحها بصمت وتبتلت بالدعاء من الله ان يرزقها العافية ويشفيها .

وفي احدى الليالي ارتفعت حرارتها حتى شعرت بان روحها قد استلت من جسدها، فقد رأت حلما عجيبا وتمثل لها وبشكل حقيقي ثعبانا كبيرا اسودا برأس كبير وعيون صفراء مخيفة ... كان لسانه يتلوى بسرعة فائقة مخترقا نابية الطويلين البارزين، اقترب منها و حراشفه السوداء منتصبة تلمع وكأنه يود ابتلاعها. كانت تبكي بشدة وهلع وتتوسله ان لا يقتلها، تسارعت ضربات قلبها، حين أقترب منها أكثر براسه الكبير .

قائلا لها: بصوت اجش مخيف لا تخافي انا سيد الأفاعي " العربيد " الكبير، جئت اليك لكي اخلصك مما انت فيه بقدرة الله، لا تخافي يا امرأة سوف اسحب السم من جسدك واخلصك منه، ستشفين ولن اسبب لك الأذى . لكنها كانت مرعوبة ولا تصدق كل هذا الذي يحصل وتمنت لو ان هذا الكابوس ينتهي، نظرت في عين العربيد الاسود متوسلة له بصمت، كان ينظر اليها بهدوء، مرت الدقائق ثقيلة عليها، وهو يقول لها مدي يدك اليسرى اريني اياها. ثم اقترب بهدوء وهو ينظر في عينيها، شعرت بانها اصبحت مستسلمة له، ولا تستطيع فعل أي شيء لإيقافه، مدت يدها في استسلام عجيب، ففتح فمه الكبير ثم أطبق فكيه على يدها حتى شعرت بوخز انيابه وهي تخترق يدها مصحوبة بحراره كبيرة، سببت لها ألما فصرخت بصوت عال، على أثره فزع أبنائها وزوجها الذين هرعوا اليها ليروها تمسك بيدها وهي تقف منتصبة في وسط فراشها وتشير الى ثقبين في يدها سال منهما الدم.

***

نضال البدري - بغداد / العراق

المراةُ التي وقفتَ طويلا تنتظرُها

أصبحت محضَ ذكرى

سئمتْ ترددَك

واختارتْ لها طريقا آخر

*

كتتَ قلقا من نتوء في فؤادكَ

شرّقتَ وغرّبتَ

اضعتَ سنينا طوالا

تبحثُ عن علتكَ

امسِ

فجأةً

عرفتُ أن قلبكَ صحيحٌ

حين طرقتْ بابَهُ

امراةٌ

عاد الى طبيعتهِ

رفرفَ عاليا

ثم حلقَ في السماءِ

*

في الحبِّ

تتساوى الكفّتانِ

وحين يغيبُ

تغدو الحياةُ

شريعةَ غابٍ

*

مشتاقٌ لكِ

مثلُ شاعرٍ

أضلَّ طريقَ القصيدةِ

فاتكأ على عصاه

وغنّى

"طريقُ القصيدةِ

يبدأ من المرأةِ"

أين انثاي التي افتقدتها

تحطُّ في عوالمي

وتطير.

*

بعد عقدينِ

تذكرتُ

ان الوردةَ التي قدمتها

لحبيبتي

قد اينعتْ

قبل أوانها

داعبها الندى

فسقطتْ

*

المرأةُ التي وعدتْك باللقاء

حملتْ نهاراتِها

وغابتْ خلفَ ظلالِ الوعودِ

***

د. جاسم الخالدي

يَا عَيْنُ دَمْعُكِ صَــعْـبُ

فَاِبْكِي أصَابَـكِ هُـدْبُ

*

مَنْ قَدْ حَمَاكِ رَمَــــاكِ

* فَـلَا يُفِـيـدُكِ عَــتْـبُ

*

إِنَّ الْوَدُودَ تَـجَــافَـى

كَمْ كانَ يُسْـلِيـهِ قُــرْبُ

*

أَصْبَحْتُ ذَاكَ اللَّــــدُودَ

فِيَّ اَلْمَخَالِبُ نَــشْـبُ

*

وَقَالَ : قِـيـلَ وَقَــالُـوا

وَكَمْ تَـحَـدّثَ صَحْـبُ

*

كُلُّ الذّنُوبِ اِدَّعَوْهَا عَــلَيْـــكَ، لَـمْ يَـبْــقَ ذَنْـبُ

*

هَذِي السُّيُوفُ وَسُلّتْ

وَاَلسَّهْمُ نَحْوَكَ صَـوْبُ

*

هَيْهَاتَ يُجْدِي الْـوَفَــاءُ

لَا شَيْءَ فِيكَ يُـحَـــبُّ

*

إِلّا شِـوَاءَكَ لَـحْـــــمًا

ومَضغُ لَـحمِك عَــــذْبُ

*

! فَليَشْرَبُـوا مِنْ دِمائي

مَرْحَى لَهُمْ ذَاكَ نَخْـبُ

***

سُوف عبيد ـ تونس

في دجى الليل

تتقابل أرواحنا وتتسامر

كنجمة وقمر

أنا هنا ..

وأنت هناك

كل يسبح في فلك

أحتضن

من يشاركني روحي

وأهمس

أيها المشاغب

يا طفل روحي المدلل

كأنك من الكوثر

ومن نور السماء

ور بما أكثر..

***

راغدة السمان - أستراليا

كان مسؤول الامضاءات يوقع بعض عقود الازدياد حين طرقت عليه الباب طالبة تميل الى النحافة لكن بأنوثة لا تخفى، يلف وجهها شحوب تَحدَّته ملاحة وجه واتساع عينين ناعستين..

نصف بسمة باهتة تسبق طلبها:

ـ من خمسة أيام، طلبت عقود ازدياد، مرتان وأحد الكتاب يردني، مرة ادعى أن الآلة الالكترونية عاطلة، ومرة إنك لم تكن موجودا لتوقيعها، هل استطيع تسلمها الآن؟

فتح المسؤول ملفا أمامه بعد أن طلب اسمها، تصفح أوراقه ثم قطب وجهه وحرك حاجبيه دليل الا وثيقة باسم الطالبة في الملف ..

القلق البادي على محياها جعل المسؤول يدعوها للجلوس ثم يبادر بالخروج الى المكتب رقم 3 الذي يتسلم طلبات العقود ..

عاد المسؤول وهو يتحسر على أنه لم يجد ما طلبت ملتمسا منها رقم وتاريخ الحالة المدنية ليجدد لها الطلب بنفسه ..

تهدل وجهها بحمرة مشوبة بشحوب طفيف فوقفت وغصة حنق تضرب صدرها:

ـ كنت أعرف أنه لن ينجزها لاني شتمته حين حاول أن يحدثني في غير ما جئت من أجله، ورغم اعتذاره وادعائه أني فهمته خطأ فقد كانت عيونه تتوسل شيئا آخر ..أنا متيقنة أنه تعمد إهمال طلبي لسبب هو وحده من يعرفه ..

تبسم المسؤول في وجهها وقال بهدوء لايخلو من حزم :

ـ أظنك واهمة آنسة كوثر !! ..مع احترامي وتقديري لك فسعيد رجل مثقف واع، بشواهد عليا، خلوق، وهو معنا هنا في فترة تدريبية ..

اتسعت ضحكته ثم تابع وكانه يريد أن يكسر غضبها ..

ـ نحن نلقب سعيد بعين القط لان كل من يحدق فيه يتوهم غير ما يقصده .. قالها بلباقة وبسمتة تمتد فتملأ وجهه محاولا تخفيف أثر الغضب عليها..

أخرج سعيد سجل العقود الرئيسي، أنجزنسختين وأتى بهما للرئيس لتوقيعهما دون أن ينسى تحية كوثر بتقدير وبسمة مهذبة تعبرعن احترامه لها.. قدم الرئيس النسختين لصاحبتهما مجددا اعتذاره عما بدر من سعيد مؤكدا أنه لم يقصد التماطل في طلبها ..

وهي تنزل من سلم الإدارة داهمها تفكير أشبه بتأنيب غير مزاجها:

ـ الكاتب سعيد لم يكن عنيفا معها، ولا عاملها بقلة احترام سوى أنه قال لها:

"يبدوأني أعرفك، ألست ابنة السيد عبد الصبورالتاجرالمشهور؟

ثم صار يطري جمالها وعيناه تفترسان قدها بإعجاب ..

تجاهلت كلامه كما هي عادتها في تجاهل أي حديث زائد مع أي رجل، فما يتحرك في دواخلها من نفور من طفولتها نحو الرجل مذ ضبطت زوج خالتها يحاول ممارسة شذوذه الجنسي عليها اثناء نومها لم يهدا له في صدرها إعصار من خوف واحتراس، فصارت نظراتها الى الرجال نظرات ازدراء ونفور، ما انفك يتلون في دواخلها متحولا مع بلوغها الى وسواس احتياجي هي نفسها تجهل له تعليلا، ومذ ماتت أمها قمطها ميل طاغ الى احتياج الحنان والاحتواء الذي فقدته ورغبة في رقة تطويها لفيفا بلاحد ولانهاية من أنثى مثلها، وكلام الكاتب سعيد شكلت مع عيونه اليها ما توهمته تحرشا وعنفا كأنه سهام تدميها، قد تتقبله من أنثى مثلها لكن من رجل فهو اتجاه ممنوع..

بعد يومين وجدت كوثرأن سعيدا يقتفي أثرها، لم تعره اهتماما مادام لم يكلمها أو يضايقها بقلة احترام .. أسبوع وهو يلازمها باقتفاء اثر من باب بيتها الى باب الثانوية ..

"هل يدرس خطواتي أم يريد أن يتجسس على كل من يصاحبني؟ .."

" مغرور إن هو توهمني طيعة كأي فتاة تخضع لقوة رجل وسطوته؟"

عمق سعيد معرفته بفتاته، فالى جانب كونها من أسرة ميسورة وتتابع دراستها في السنة الثالثة ثانوي، فقد فقدت أمها من ثلاث سنوات ثم تزوج أبوها براضية، أنثى مطلقة لم يدم زواجها بطليقها أكثر من ستة اشهر، ويحكي بعض المبلغين أن راضية زوجة الأب ما طلبت الطلاق الا لأنها كانت مجبرة على الزواج بغير رضاها كصفقة عقدها أبوها مع رجل من السلطة فاق الخمسين من عمره، لكنها اكتشفت في الزوج سلوكات لا ترضى عنها كمسلمة ملتزمة، في حين قال آخرون غيرهذا ..وما أكثر ما يحكي الناس إن صدقا وإن كذبا !! ..

حاول سعيد أن ينبش على مزيد من أخبار راضية فلم يفلح.. أهل الحي لا يعرفون عنها أكثر من أنها امرأة قلما تخرج من بيتها واذا خرجت فهي مكفنة في خرق حجابها الأسود وتضع نظارات سوداء تخفي بها حركة عينيها..

كان سعيد لا يرتاح لهذا النوع من النساء ويحذره، فكثيرا ما وقف بحكم فترة التدريب التي قضاها في الدائرة وفي مراكز أخرى أن مظهرهن لا يدل على حقيقتهن، وأن الواحدة منهن قد تخلع سواد اللباس المظهري كلما ظهرت لها مصلحة فتضيع منها سيادتها على نفسها وعلى جسدها، وما وضع النظارات السوداء الا إخفاء لمشاعرقد تفضحها العيون قبل العقول ..

طيلة سنة ونصف وسعيد لم يتوقف عن متابعة كوثر، تخف أحيانا، وتتزايد أخرى، فقد كان يمر شهر بعد آخر ولايظهر له أثر، وما أن تتيقن أنها ارتاحت من متابعته حتى ينبعث خلفها كأنه خرج من قمقم أو كطائرالفينيق الذي ينبعث من رماده دون كلمة منه أو سلوك قد يحركها بردة فعل ..

حين نجحت في البكالوريا وصلتها هدية عن طريق البريد عبارة عن خميسة في كفها قلب ذهبي في سلسلة موقعة باسم سعيد .. أدركت أنه هو من أرسلها فلم تعره انتباها ..

اقبل أبو كوثرذات مساء وهو يحمل لبنته بشرى أن أحد أصدقائه كلمه عنها كزوجة لابنه المحامي .. اندهشت كوثر ومن عيون زوجة أبيها اطلت نظرات غضب صامتة كأنها صفعات استغرقتها بضحكة صفراء:

ـ ومن هذا العاشق المتيم الذي لازال يخطب بنتا عن طريق أبيه دون أن تعطيه البنت الضوء الأخضر؟

هرقت عيونها في عيون كوثر وقالت بغير قليل من سخرية حارقة:

هل تعرفينه كوثر؟ لماذا أخفيته عنا؟

أحست كوثر كأنها في ورطة نزلت عليها كالقدر وكأنها أتت منكرا جعل زوجة أبيها تسيء الظن بها، فما يربطهما من علاقة متينة أكبر من أن تخفي كوثر حدثا كهذا عنها ..

ـ لا اعرفه والله، بل لا أعرف أي شاب آخر فانا أركز على دراستي .. أبدا لن أوافق على أي زواج قبل أن أنال شهادتي العليا ..

ذريعة تسترت بها كوثر تخفي خوفها وحقيقة ما يعتمل في أعماقها من ذهانية وهي تواجه رغبة أبيها، ثم غضب زوجته وغيرتها الطاغية والتي تبدت من منخرين وقد نبضا ككير الحداد وصفرة غطت وجهها كأن ملك الموت على وشك أن يقبض روحها ..

لم تكن ردة الأب غير الصمت المطبق فهو أمام قرار زوجته وبنته لا يملك غير الاستسلام وهو طبعه حتى في علاقته الحميمية مع زوجته التي صارت تضايقه بسلوكات لا تناسب سنه ووقاره الى درجة الملل من خيالاتها وأحلامها الجنسية والتي لن يستطيع تلبيتها لبلوغه عمرا تجاوز قدراته وهو ما فتح الطريق مشرعة أمام زوجته، تهجر سريره، وترتاح الى غرفة ابنته، فتنام معها على سرير واحد ؛ وأمام هذا التفاهم مع ابنته، تقاربهما وتواددهما، اصطبرالأب مركزا على تجارته واعماله خصوصا بعد أن داهمه مرض السكري وعملية جراحية أجراها على البروستات..

حين دخلت راضية زوجة الاب الى البيت كانت كوثر في السنة الأولى ثانوي، فتاة متوسطة الطول، خجولة بابتسامة مثيرة تحرك لسان زوجة أبيها برغبة تحسسها جفافا ولهفة لالتهام شفاه كوثرالندية كما كانت عيناها تلمع بإعجاب وإثارة لم تغب عن انتباه كوثر، اعجاب برشاقتها وسمنتها المعتدلة قبل أن تهزل قليلا والتي اصبغت عليها اثارة من بهاء..

استطاعت زوجة الأب بخبرة وقوة شخصية أن تتغلغل في حياة كوثر فتعوضها إحساسها باليتم، كثلمة اتسعت بتحرش زوج خالتها، وتئد من أعماقها كل نظرة مسبقة وسلبية قد تكون حملتها عنها كزوجة أب وأن تجعلها في عيون أبيها أميرة يلزم ترضيتها بما تريد ..

ـ هي بنتك الوحيدة، ليس مهما أن تتقرب منها فهذه مهمتي كعوض عن أمها، أحبها وأتمنى أن أحقق سعادة وجودها لكن عليك حمايتها بما تريد من لباس يحسسها بحضورك كأب في حياتها كما لوكانت أمها على قيد الحياة وبسخاء مادي يرفع رأسها بعز ويبعدها عن التطلع لأي رجل غيرك قبل أن تنهي دراستها ..

كلام راضية كان حقا تسعى من ورائه الى باطل وحدها تعرف سره: عشقها لكوثر والظهور أمامها بمظهر الأم المدافعة عن بنتها دون أن تنسى نفسها من نصيب مادي غادق من قبل الأب وثقة عمياء من قبل البنت ..

وجدت راضية متعتها ولذتها وهي تتعمد الفرار من الزوج، مفضلة أحضان بنته، وقد أدركت بخبرتها حالة من الدونية تجتاح كوثر، وحاجتها الى شخص آخر من نفس جنسها أقوى وأقدر على حمياتها وهو الفراغ الذي خلفه موت أمها في نفسها التي كانت تعتمد عليها في كل شيء، ولم تستطع خالتها تعويضه بعد حادثة زوجها كما انتبهت راضية الى رغبات كوثر الجنسية والتي تخفيها ولا تظهر الا من خلال ما تمارسه على وسادتها كلما وجدت نفسها وحيدة..

صارت راضية تغرق كوثر بالقبل واللمسات مستغلة طفرة الشبق لديها، وفي نفس الوقت وحتى تنمي ميولاتها المثلية فيها تذم الرجال وتعاليهم بفطرتهم الإلهية كما يدعون، يستغلون جسد الأنثى بفوقية تسلطية وجشع وتحقير..

"إن قوة المرأة لم تعد في رجل يحميها وانما في سعادة تحققها لنفسها برغبتها واختيارها وميولها وبالطريقة التي تصير فيها هي المتحكمة في من يطفئ عطشها ويلبي رغباتها .."

صارت كوثر تثق بزوجة أبيها ثقة عمياء ترتاح للمساتها وتتناغم باحتضانها واليها تحن باهتياج ولقبلاتها برغبة واشتياق وإن لم تتوضح لكوثر من حركات راضية خلفيات أخرى كانت هذه تبنيها بمهارة وإتقان يتجلى اثرها في عيون كوثر الناعستين وفي عناقات ضاغطة الى أن أحست كوثر مرة بهزة انتبهت لها راضية فقالت:

"هل أعجبك؟ لك المتعة "..

ثم صارا يتبدلان القبل بنهم..

حركت كوثر رأسها بخجل، استغلت راضية التخدير الذي أصاب كوثر فصارت تهمس لها بكلمات العشق تارة وتارة تلعق وجهها بلسانها وبه تثيرمناطق حساسة من جسمها ..

ذابت مع الأيام شخصية كوثر في زوجة أبيها وصارت تطيعها لا تطيق عنها بعدا، حتى وهي في معهدها كانت تشرد فتطبق عليها التخيلات لاترتاح الا حين تعود الى البيت فتعانق راضية وتتوسد صدرها وقد تماس جسداهما باحتكاك ..

حاول سعيد أن يعرف السبب الذي جعل كوثر ترفضه فهو شاب أنيق، صادق، يقدر المسؤولية وينتظره مستقبل في مهنته كمحامي، كم من فتاة تمنت أن يكون من نصيبها، لكنه تعلق بكوثر مذ كان متمرنا في الدائرة وقد تعمد أن يماطلها في تسليم عقد الازدياد كمقدمة لمحاولة ربط علاقة شريفة كاي رجل وامرأة يحاولان بداية حياتهما بتعارف شكلي .. وهو ما أدركه رئيس مكتب الدائرة وشجعه عليه حين رأى كوثر..

خرجت كوثر ذات مساء من المعهد فوجدت سعيدا في الانتظار، لم يكتف باقتفاء أثرها كعادته بل تقدم منها بكل أدب وثقة، ملتمسا منها لحظة من وقتها للحديث معها .. اهتزت كوثر من سلوك سعيد الراقي منتشية بعطره الرجولي وقد حسسها بخدر غيب عنها فعلة زوج خالتها عن بالها وماخلفته من أثر في نفسها فوافقت بعد تردد هو خوفها من زوجة أبيها، غيرة راضية الحارقة والتي تجاوز هيامها بكوثر كل حدود العقل والعلاقات الإنسانية السليمة ..

لم يقل لها سعيد لماذا رفضتني كزوج؟ لكنه بادرها بما يزيل كل شك في نفسها نحوه:

ـ أولا أعتذر عن زلتي، اول يوم رأيتك فيه شدني كشاب من أصول عريقة أصلك ونسبك، ثم قدك وجمالك وسحر تبدى لي من عينيك الناعستين، ثانيا أنا لست قلقا أو متسرعا في أمر قيل فيه " زواج ليلة تدبيره عام" لهذا لن افرض عليك التوقف عن الدراسة، فثقافتي وثقتي بنفسي يوثقان رغبتي في أن تكون شريكة عمري ذات مكانة علمية لانها فخر لي، فالثقافة خبرة حياة تضيف لجو الأسرة تفاهما وتعايشا ويسرا، والمرأة المثقفة قوة على تشكيل نفسية أبنائها بما يؤهلهم لطلب العلم والمعرفة ..

الحق ما صرح به سعيد وقد أولت كوثر أقواله كموازنة صادقة بين حياتهما لو ارتبطا، لكن هناك الخندق الفاصل بينهما: ميولاتها، رغباتها الخاصة التي ولدتها زوجة أبيها في نفسها، او هي الحقيقة التي فجرتها راضية بكشف، فكوثر أبدا لم تحس منذ مراهقتها برغبة الى زميل أو أي رجل قد يحتويها يإثارة وانتباه كما كانت تحتوي صديقاتها اللواتي كن يتهافتن على وسامة الطلاب في الثانوية وقد أطلقوا عليها "كوثركاوبوي"

هي لا تستطيع أن تسعد سعيد أو تهبه ما تهبه أنثى لرجل وهي تحمل في عقلها تجربة زوجة أبيها وما عانته مع الزوج الأول بعد أن عرف بميولاتها فعنفها وضربها ولم يطلقها الا بعد قدر من مال تسلمه من أبيها كرشوة بوعد حتى لا يشهر بها فيجني على سمعته ومستقبل ابنته، ثم اليوم مع أبيها اذ لولاها وما يراه الأب من تعلق بينها وبين زوجته لكان أبوها قد تحرر من راضية بطلاق خصوصا وقد اكتشف ان حجابها ما هو الا مظهر كاذب تريد أن تموه به على غيرها ممن لا يعايشها ويعرف حقيقتها كامرأة مهملة له ولعبادتها اهمالها لبيتها وما تعوده مع المرحومة أم كوثر ..ولو عرف ما بينهما لقتلهما معا متوهما تخلفه تمسكا بقيم أصيلة ..

فكرت مليا وسعيد يترقب منها ردا ..

ـ "يلزم أن أكون صريحة معه، فقد يجد ذريعة تدفعه لتقدير ميولاتي فيمتلك حسا لتحقيق رغبتنا معا فأقدر انسانيته وثقافته أو يكون كأي رجل آخر يلعن ويكره ثم يشهر فينشر رغبتي على حبال المكفرين الناقمين على رغبات الناس.كيفما كان الامر فلن أخشى اية ردة فعل، هي حياتي وأنا صاحبتها..

استجمعت كوثر كل شجاعتها وماداخلها من قوة شحذ من زوجة أبيها ثم قالت:

ـأكذب لوقلت أنك لم تحرك في نفسي بأناقتك، بأدبك وأخلاقك وبمستقبلك مشاعر قد تروق لأية فتاة غيري، لكن وحتى لا أكتمك حقيقة، وربما أظلمك فلست ـ ربما ـ من تصلح لك، فتوجهاتي هي غير ما تطمح اليه أنت كرجل يعشق أنثى، فلا تحاول أن تبني أملا قد ينكسر وقد تئده ميولاتي التي قد لا أجدها فيك كرجل ..

أرجوك إياك أن تركب موجة كراهيتي أو تتوهمني مريضة نفسيا، فأنا لا اختلف عن أي أنثى سوية الا فيما أريد ولا أريد، وأنا سعيدة بما أنا فيه حتى لا تفسر أموري بما لا يرضيني كإنسانة ..

فلقت رمانتها، وبشجاعة أسقطت حباتها الحمراء بلا رهبة أو احتراس، تفرست فيه قليلا تترقب ردا منه، ثم قامت ..

مدت يدها للسلام عليه فأمسك يده .. تبسمت، حدقت فيه طويلا ثم استدارت وكلها لهفة الى أن تعود الى البيت لتعانق من عشقتها وفيها تموت .. راضية زوجة أبيها !!..

" رجل يمسك يده خوفا من السلام علي كانني مجذومة، كيف أثق به لو قبلت به زوجا وفرضت تحكما لا كما يريده هو وانما كما أصل به الى ذروة رغبتي..؟..

وأنثى تنتظرني لهفى، أنا في عيونها وصدرها حياتها

وسعادة كينونتها..

هي ذي هيمنة الذكورة، لن تزول الا اذا غير الرجل مفهوم المرأة لديه كما تعوده وتربى عليه، وكما يسعى بكل الحيل والافتراءات أن يمتد في أزمنته القادمة ..هيهات !! .. "..

ظل سعيد في مكانه واجما يستحوذ عليه تفكير عميق ..ما أشد كثافة العلاقات الجنسية بعمقها، بتشعبها وعدم القدرة على اختصارها في وجهة نظر فريدة ..

فكر سعيد في جلسة مع أبيها يبلغه خطر ما وصلت اليه كوثر لكنه تراجع، فكل حل لن يكون الا مزيدا من حطب ونار قد تأتي على كل شيء.. أليس ما استغرب له في كوثر وما بلغته وصرحت به جهرا وبتلقائية هو رغبتها وتمردها على نواميس الطبيعة، وهو التحرر الذي بدأت تتسع له المنابر الإعلامية بنقاش؟ لم يعد جديدا فقد لعلع في حاضرنا بعد أن اكتسبت المرأة فسحة من حرية وجرأة على التعبيرعن ذاتها بلا خوف من متابعة أوعقاب.. وخلفها أكثر من صوت مؤيد فتح السبيل لمتعتها والتنفيس عن عاطفتها والحفاظ على ما يحرص عليه الرجل بزهو وهو يفتق بكارة عفتها اذا ما فكرت في ربط مصيرها بمصيره ..

أبدا لن يسعى في تسليط عقاب عليها ككائن إنساني تريد برغبتها إرضاء جسدها واشباع ميولاتها بما تراه يحرك وجدانها وأحاسيسها بلا ريب من أسرة أو خوف من شك في عفتها !!..

نهض وفي مسامعه تطن عبارة كوثر:

ـ لا تتوهمني مريضة نفسيا فأنا لا اختلف عن أي أنثى سوية الا فيما أريد ولا أريد ..

لكن ما شغل سعيد بتفكير: مع من تمارس كوثر رغبتها؟

***

محمد الدرقاوي ـ المغر ب

قبل أن تنمو للتعاسة أجنحةٌ ومناقير

كان لوطننا جناحان باتساع السعادة

يحمل عليهما أمماً بكامل خطاياها للسماء

هناك تتبادلُ الأدوار مع الملائكة والشياطين

وتتخذُ من الشُهب أحجارَ دينمو

تُرى كيف تضاءَلتَ أيها الوطن

حتى غَدَوتَ حسرةَ ندمٍ

في مواقد الشامتين؟

كيف انتهيتَ سُجّادةً يتيمة

يسلتُ اللصوصُ خيوطها

ليرفوا بها ذِمَمَهم المهترئة

لا مأوى لك سوى المرض

لا أهلَ لك سوى الذين طردتهم أيام عزّك

من جيوبك الدافئة

أشجارُكَ المصدورة مطرودة خوفَ العدوى

من رياض الأطفال

أنهارُكَ المهشّمة الأضلاع تسعى على عكازات

تهربُ كاللصوص

من المستقبل الذي جرّفتَ أساساتِهِ بالاتهامات

ولكن لماذا الهرب؟

فالماساتُ التي كانت تُرقّعُ جلدَكَ

تحوّلَ وميضُها إلى أرصدةٍ في بطون الغرباء

لا عناقيدَ تُغرقُ الشوارعَ بأمواج من الكريستال

لا سُحبَ تثغو إيذاناً بموعد الحَلْب

تصرخُ بفمٍ مغلقٌ بمزاليجَ وأقفال

لكن هل صراخُكَ من الجوع؟

أم من الندم على أبنائكَ الذين أكلتهم؟

**

تُرى ماذا جنى أبناؤكَ

لتسحق في أعينهم السعادة بقدميك الموحلتين؟

وماذا جنتِ السعادة

لتُهشّمَ أجنحتها عل أحجار الجروف؟

هل بخّرَ دفئُها نفطَكَ في الآبار؟

أم أصابَ بردُها نخيلَكَ بالتهاب اللوزتين؟

لقد كانت بارّةً بك وبقططك اليتيمة

ولم تطالب تُجار العاديات بالربح

عن بيع أسنانك اللبنية

ليست السعادة هي التي احتلبتِ المِحَن

بل أنتَ الذي شَرَّعْتَ لأبنائِكَ

إتخاذَ أضراسِ الغرباء وسائد

كان بمقدور أعنابِكَ أن تُرجيءَ الربيعَ

إلى أن تنمو لليعاسيب إبرُ اللدغ

كان بمقدور أيامِكَ

أن تتحوّطَ للذكريات من الكسر

فتُدعّمها بالنسيان

لماذا لم تُغلق أبوابَك عندما سمعتَ خفخفةَ الضِباع؟

لماذا لم تحقن ثمارَكَ بعَقّارٍ مضادٍ للاكتئاب؟

فاتَ أوآن الندم

وما عادت مصحّاتُ الأمل

تستوعب المزيدَ من الحالمين

***

شعر: ليث الصندوق

بَدْرٌ تَجَلَّى كَالْبِنَاءِ الشَّاهِقِ

فَأَحَالَ فِكْرِي لِلصَّدِيقِ الصَّادِقِ

*

هُوَ بَلْسَمٌ يَأْسُو الْجِرَاحَ بِحِكْمَةٍ

وَرَوِيَّةٍ وَجَمَالِ حُبٍّ دَافِقِ

*

يَا تَوْأَمِي يَا وَرْدَةً مِعْطَاءَةً

يَا نَسْمَةً أَوْحَتْ بِفَضْلِ الْخَالِقِ

*

أَلْقَاكَ تَنْزَاحُ الْهُمُومُ وَتَخْتَفِي

وَتَخَافُ بَأْسَكَ كَالْهِزَبْرِ الصَّاعِقِ

**

يَا فَجْرَ أَيَّامِي إِذَا طَالَ الدُّجَى

أُلْفِيكَ تَبْدُو كَالضِّيَاءِ الْوَاثِقِ

*

فَأَرَى السَّعَادَةَ بَعْدَ هَمٍّ مُهْلِكٍ

وَأَرَى التَّكَيُّفَ بَعْدَ قَيْظٍ حَارِقِ

*

وَأَرَى النَّعِيمَ يَهِلُّ فِي جَنَّاتِهِ

يَبْدُو لِقَلْبِي كَالْمَلَاكِ النَّاطِقِ

*

إِنَّ الصَّدِيقَ وَفَاؤُهُ مُتَحَقِّقٌ

فِي ذَا الزَّمَانِ كَالِاخْتِرَاعِ الْخَارِقِ

**

أَغَلَى مِنَ الْمَاسِ الصَّدِيقُ وَلَا أَرَى

إِلَّاهُ عَوْناً كَالنَّخِيلِ السَّامِقِ

*

فِي النُّصْحِ أَسْمَعُهُ بِقَلْبٍ خَاشِعٍ

مُتَبَتِّلٍ قَدْ عَافَ مَكْرَ مُنَافِقِ

*

نِعْمَ الصَّدِيقُ يُغِيثُنِي فِي مِحْنَتِي

يَغْزُو بَلَائِي بِالضِّياءِ الْفَالِقِ

*

وَيَظَلُّ يَرْعَانِي حَنُوناً قَاطِعاً

دَرْبَ الْمَكَارِمِ بِالْوَفَاءِ اللَّائِقِ

**

مَا هَمَّهُ الْإِيذَاءُ يَلْحَقُهُ إِذَا

جَلَبَ الْمَنَافِعَ لِي بِقَلْبٍ خَافِقِ

*

وَأَرَاهُ يُنْصِتُ عِنْدَمَا أَحْكِي لَهُ

مَا هَمَّنِي مِثْلَ الشَّرِيفِ الْعَاتِقِ

*

يُجْلِي الْنَّوَائِبَ إِنْ يَزُرْنِي طَيْفُهَا

وَيَظَلُّ يَعْدُو كَالْجَوَادِ اللَّاحِقِ

*

إِنْ تَلْقَهُ بَيْنَ الصِّحَابِ مُطَوِّفاً

لَا تُلْفِهِ إِلَّا بِفَضْلٍ سَابِقِ

***

أ. د. محسن عبد المعطي.. شاعر مصري

(ان أجيالا من البشر يغمرها مد الزمن، ولكنه يترك ملامحها الخاصة ثابتة أبدا ابدا)... وليم بليك

يتحرك الزمن يتلوى مثل أفعى

تخطط لابتلاع يمامة لاذت صغارها بين جناحيها

كاد الحزن ان يقتلها رغم لون صمتها وعبث قدرها...

وانتظار صغارها لشربة ماء وحبات قمح

الريح تعبث بعشها من كل حدب وصوب ..

هجرت الثعالب جحورها لتقتنص لحظة غفلتها

رويدا رويدا تزحف اليمامة

وتحرث الارض باحثة عن حبات قمح منسية

بين صخور قاسية...؟

انقبض قلبها كأن هاجسا يجعلها مرتعبة وخائفة ....

توقفت حركة جناحيها.. وغاصت روحها في أعماق الارض

لكنها ما زالت تتململ تتفحص بعينيها المندهشتين عنهم

ترتجف من البرد أو ربما من قسوة تلك الصخور....

ثمة فرصة للنجاة من تلك المخلوقات التي تطاردها

وتسرق لقمة عيشها....!!

وقبل ان تفكر بالنجاة تأكد لها أنها مخلوقات غرائبية مصنوعة فتساءلت مع نفسها...متى ستؤمم صناعة تلك المخلوقات...؟..

ولكن تبقى رؤوسهم مشرئبة نحوها...

يتفحصونها ويدرسون كل صغيرة وكبيرة بشأنها....

من أجل ان تكتفي بحبة قمح واحدة دون ان تفكر ببيادر قمحهم

الذي تفوق على قمح يوسف (ع).....

وعليها ايضا ان لا تفكر بالزمن الذي يتلوى من أجلهم...

***

شعر: سنية عبد عون رشو

رَقَدّْتُ في مَضّْجَعي مُضْطَرباً مِنْ هُمُومِ الضَّريْبَة.

فنَهَضّْتُ صَباحَاً مِنْ فَزَعي نَهضَةً عَجيْبَة.

صَحِبْتُ حِمَاري (أَبا الحَيرانِ) صُحْبَةً رَقيْقَة.

وَ تَوَجَهْنَا إِلى دَائِرَةِ العِقَارِ لِنُنْجِزَ المُعَامَلَةَ الرَّهيْبَة.

وَصَلّْنَا إِلى دَائِرَةِ العِقَارِ؛ وكانَتْ حُلَّتَها أَنيْقَة.             

قَالَ لي حِمَاري (أَبو الحَيْرانِ):

يَا (ابْنَ سُنْبَه) أَبْشِر خَيراً، فالدَّائِرَةُ بَهيَّةٌ مُريْحَةٌ فَسِيْحَة.

دَخَلنَا لدائِرَةِ العِقَارِ، ووَجَّهَنَا المُوَظَّفُ بِأَخْلاقِ رَفِيْعَة.  

ذَهَبنَا إِلى الشُبَّاكِ المقّْصُودِ بِصُورَةٍ صَحيْحَة. 

قَدَّمْتُ المُعامَلَةَ مِنَ الشُبَّاكِ؛ وإِذابصَوّْتٍ يُنَادِي بنَبّْرَةٍ عَنيْفَة.

إِنْتَظِرْ دَوّْرَكَ؛ وسَأُنادِي باسْمِكَ بَعّْدَ فَتّْرَةٍ وَجيْزَة.

وَ أَردَفَ القَوْلَ بجُمّْلَةٍ بيِّنَةٍ قَصِيْرَة:

أَيُها النَّاسُ؛احْتِرامُ النِّظَامِ صِفَةٌ حَمِيّْدَة. 

تَراجَعّْتُ بخَوّْفٍ مِن تِلكَ الصَّرخَةِ السَّخِيْفَة.  

وَ قُلّْتُ مُتَمَلِقاً:

إِي واللهِ؛ النِّظَامُ صِفَةُ الشُّعوبِ الرَّاقِيَةِ السَعيْدَة. 

وَ انتَظَرتُ عِدَّةَ سَاعَاتٍ مَرَّتْ عَلَيْنَا بنَوّْبَةٍ  بَطيْئَة. 

بَعّْدَها نَادَى المُنادِي؛ أَنْ احْضَرْ إِلى الشُبَّاكِ بِسُرعَةٍ سَريْعَة.

أَجِبْتُ... نَعَمْ.. نَعَمْ يا سَيّدِي؛ أَنا صَاحِبُ المُعَامَلَةِ العَويْصَة.

قَالَ بِصَوّْتٍ سَاخِرٍ تَمْلَؤُهُ لَهْجَةُ اسْتِخّْفَافٍ حَقِيْرَة.

إِمسّكْ أَورَاقَكَ، فَدَارُكَ مَحْجُوزَةٌ للحُكومَةِ الرَّشيْدَة.

قُلّْتُ لحِمَاري (أَبَا الحَيْرَانِ):

يَا (أَبَا الحَيْرَانِ) أَدّْرِكْني إِنَّها مُصِيْبَة. 

قَالَ لي (أَبو الحَيْرانِ) ضَاحِكاً، إِنَّهُمّ سَيَقِطُّونَكَ قَطَّةً فَظيْعَة.

قُلْتُ:

يَا (أَبَا الحَيْرانِ) ومَا العَمَلُ ؟. قَدّْ مَسَني الضُرُّ وأَنْتَ مُجيْرَه.

قالَ لي (أَبو الحَيْرانِ):

إِهدَأْ يا ابنَ سُنْبَه؛ فَكُلُّ كَسّْرٍ ولَهُ جَبِيْرَة.

اذْهَبّْ للمُوَظَفِ؛ وقُلّْ لَهُ قَوّْلاً فيْهِ رجاءً وحِيْلَة.

فَلَعَلَّ في الأَمّْرِ مَخْرَجاً ووَسِيْلَة.

ذَهَبْتُ الى المُوظَّفِ وأَنا بارتِبَاكٍ وحَالَةٍ كَسِيْفَة.

قُلْتُ:

يَا سَيّْدِي ومَا المَخْرَجُ مِنْ قَضِيَّتي الفَريْدَة.

قَالَ لي مُسْتَهزِئاً:

قَضِيَّتُكَ لا يَحِلُّها؛ إِلاّ أُخّْوَةَ يُوسُفَ وأُمُّهُمُ النَّجيْبَة.

لَمّْ أَفهَمْ مِنْهُ مَقّْصَدَهُ؛ ولَمّْ أَعْرِفّْ مَا يُريْدَه !.

رَجَعّْتُ إِلى حِمَاري رَجْعَةً بَائِسَةً ثَقِيْلَة. 

قُلْتُ يَا عَزيْزي يَا (أَبَا الحَيْرانِ): 

فَسِرّْ لي قَوْلَهُمْ؛ فَأَنا سَأَمُوتُ مِنْ شِدَّةِ الهَمِّ مِيْتَةً غَريْبَة. 

تَبَسَّمَ (أَبو الحَيْرانِ)، وقَالْ:

إِهْدَأْ يا ابْنَ سُنْبَه، فَحُلُولُ الأَمرِ بَسِيْطَة !. 

إِنَّ القَوّْمَ يُريْدُونَ مِنّْكَ اثْنَى عَشَرَ وَرَقَةَ دُوْلارٍ، وتَنْتَهيْ مُعَامَلَتُكَ الكَئِيْبَة.

قُلْتُ:

يَا أَبَا (الحَيْرانِ):

وَ كَيّْفَ السَبيّْلُ لإِفْهامِهِمّْ؛ ومَا هيَ الوَسِيْلَة ؟.

قَالَ أَبو (الحَيْرانِ):

ضَعّْهَا بَيّْنَ طَيَّاتِ أَوراقِكَ وقَدِّمْهَا وقُلّْ:

إِنَّ عِدَّةَ أُخْوَةُ يُوسُفٍ بَيْنَ أَيَادِيْكَ الجَليْلَة.

وَ لمّْا فَعَلْتُ ذَلكَ، تَبَسَّمَ الموَظَّفُ بوَجّْهي بَسّْمَةً عَريْضَة.

ثُمَّ قَالَ لي:

بَخٍ... بَخٍ لكَ مِنْ رَجُلٍ كَريْمَ النَّفْسِ قَويَّ العَزيْمَة.

الآنْ حَصّْحَصَ الحَقُ؛ وأُنْجِزَتَ مُعَامَلَتُكَ مَع الحُكُومَةِ بصُوّْرَةٍ أَكيْدَة.

خَتَمَ أَوْراقَ مُعَامَلتي بأَختَامٍ عَدِيْدَة.

وَ قَالَ لِيْ:

تَعَلَّمْ أَيُها الحَاجُّ شِعَارَ الدَّوائِرِ المَحْمُودَةِ الحَمِيْدَة: 

إِدّْفَعّْ... تَربَحّْ... سَتَنَالُ مَا تُريْدَه !.

خَرَجّْتُ مِنْ دَائِرَةِ العِقَارِ، وحِمَاري يَهْتِفُ بِنَبْرَةٍ وَئيْدَةٍ بَريْئَة:

إِدفَعّْ... تَربَحّْ؛ عَاشَتْ دَوّْلَتُنَا العَجِيّْبَةُ النَّجِيْبَة.

إِدفَعّْ... تَربَحّْ؛ عَاشَتْ دَوّْلَتُنَا العَجِيّْبَةُ النَّجِيْبَة.

***

مُحَمَّد جَواد سُنْبَه

مبعثرة أيامي كأشياء طفل أرعن.. أو كشظايا مرآة متكسرة.. أراني أسف الأرصفة متسكعا أزقة مظلمة مكبات النفايات هي العامل المشترك فيها.. أووه لقد نسيت والمشردين أمثالي يقبعون الى جانب تلك الحاويات ظنا منهم أنها منتجعات ترفيهية يسامرون شياطين الزندقة الذين تفشت سيرهم وصاروا على شكل بشر.. لا أحفل بكل ذلك !! المهم أني امسك بما تبقى من زجاجة الخمر التي حصلت عليها ملقاة على جانب الطريق.. أُسرع في خطاي لربما رغب فيها من القاها.. ما ان أدخل الزقاق حتى ألثم فم الزجاجة كأنه حلمة ثدي أمي التي لم ترضعني، لكني أتخيل ذلك أمتصها حتى اشعر بأنها تدفعني الى الوراء بعد ان جف ضرعها كما هي ايامي التي أعيش.. فأنا ومنذ متى لا ادري كيف دارت عجلة الزمن وحولتني الى متشرد يجوب الطرقات؟!! ما ان يأتي شيطان الليل متبخترا وهو يتطلع الينا نحن المشردين القابعين في تلك الأزقة او تحت الجسور أو حتى المقابر.. عادة ما اسير بعيدا عنه أحاول ان استدل طريقي بالضياء الذي ينبعث من تلك الأعمدة الخافتة التي تشبه أضوية باب الكنيسة التي أمر من امامها كونها في الطريق المؤدي الى مكان حاويتي التي اقبع الى جانبها.. في مرات ارى القسيس وهو يغلق الباب بعد انتهاء المراسيم أو ربما ليسرق نظرة ليرى هل هو آمن في بيت الرب؟ فبعد ان اختلفت معايير الإيمان عند الناس والشياطين تمسك بزمام الأمور لم يفلح الإيمان في المخافة من العقاب.. دون سابق إنذار رايته يدنو من حافة درجات باب الكنيسة قائلا:

- عمت مساءا بني العزيز

- أخذت ألتلفت حولي ثم اشرت بأصبعي إلى نفسي مستغربا!! هل تعنيني أنا؟؟؟

- نعم أنت.. كيف حالك يا بني؟؟ إن بيت الرب يناديك

- فرددت بإستغراب أشد!! ما لي والرب اصلا فما بالك في بيته، يبدو انك يا هذا تقصد غيري إليك عني ودعني امضي الى سبيلي

- أنتظر للحظة.. ألست أنت ماكغواير؟؟

- ما اشد دهشتني من أين له ان يعرف اسمي!!؟ فأجبت نعم أنا هو

- إذن أنت المقصود.. منذ فترة وانا ارقبك تقريبا في نفس وقت اغلاق باب الكنيسة مساء تأتي من نفس الطريق.. أجدك تقف لِلحظات أمام الباب تتطلع وتشخص فيها ثم تمضي، لا اعلم لماذا تفعل ذلك؟؟ لا اخفيك كنت أتوجس خيفة منك، لكن وبعد أن جائتني في المنام السيدة  وليس لمرة واحدة بل ثلاث مرات تقول لي أدعو ماكغواير الى بيت الرب إنه إنسان صالح.. بداية تجاهلت الامر فأنا لا اعرف من يكون ماكغواير هذا الذي تدعونني ان اتحدث إليه، حتى استخبرت منها عنك وقد وصفتك بدقة شديدة  ولفتت انتباهِ الى الوقت الذي تمر فيه امام الكنيسة كذلك وقوفك امامها..

- توقف يا هذا إني لا افهم ما قلت!؟ ومن هي السيدة التي تدعونني الى بيت الرب أهي تعرفني من قبل؟؟

- بني يبدو ان بذرتك مباركة فالسيدة لا تدعو أيا كان.. إني أقصد السيدة العذراء ولا اعلم لم انت بالذات! فأنا واقسم إني لم أحظى بشرف رؤيتها منذ أن تسلمت زمام إدارة هذه الكنيسة او أثناء خدمتي في كنائس أخرى.. إن حظي قد ابتسم لي واستطعت ان أراها لكن حظك اسعد فقد دعتك بالاسم .. يعني ذلك ان لك عندها حظوة

- ايها الرجل الى الآن لم تفهم أو أني انا الذي لا يفهم مالذي يدور!! بالتأكيد أنك واهم.. فأنا لا اعرف بيت الرب او حتى الرب نفسه الذي تقدسه فما بالك بالسيدة العذراء، قضيت عمري أتلاطم مع امواج الزمن الذي حطم كل الصواري التي كانت تمسك بأشرعة الأمل والطموح الذي كان يحدوني كإنسان، لم أؤمن قط برب او ابن رب أو ايا من تلك الآلهة التي يعبدها الناس، فأنا أعبد من يطعمني ويجعلني أشعر بإنسانيتي، هيا ادخل بيت ربك  ودعني الى ربي الذي اعرف..

ابتعد مكغواير وهو يتمتم يا لك من رجل دين ماكر.. بتلك الاشياء استطعتم ان تسيطروا على عقول السذج والمغفلين من الناس.. السيدة العذراء تدعوك يا لها من حيلة!!؟ فمن اكون حتى تدعوني!؟ والى ماذا الى بيت الرب؟!!! الييت الذي لم يرعى القائمين عليه بالعناية بوالدي حين مات وبوالدتي التي لحقته بعد ان كانت من المواظبين على الصلاة وتقديم القرابين والاعمال التي تقدمها خدمة للرب وبيته.. ماتت ولم يكن للبيت او الرب اي يد في مراسيم دفنها..  ذهبت خدماتها وصلاتها سدى.. حتى المشردين لم يحظوا بالعناية من الكنيسة او الرب الذي يقبع فيها إلا لأغراض خافية..

أخرج زجاجة الخمر التي ابتاعها بعد ان استجدى ثمنها من عابري سبيل.. ينظر إليها والى الشطيرة التي اراد ان يحتفل بأكلها وهو يترع من خمر تلك الزجاجة، شعر بقشعريرة غير اعتيادية الى جانب نسيم هواء بارد جعله يغشى عليه فرأى والدته وقد حفها الضياء من كل جانب وهي تبتسم إليه قائلة:

حبيبي مكغواير إني بخير بني وسعيدة.. اقسم لك أني اعيش بسعادة وانا هنا مع الكثير من رعايا السيدة العذراء هيا تعال حيث تدعوك، اترك ما انت فيه أعدك في الغد ستجد من يغير حياتك شرط ان تكون من ابناء الرب.. إني بإنتظارك

خرج عن غشيته منتفضا وهو يصرخ.. أي جنون يركبني اللحظة!! تطلع الى الزجاجة مستغربا يقول إني لم اسكر بعد، يبدو اني اشعر بالجنون أخرج رأسه نظر الى زاويتي الزقاق لم يكن هناك سوى حشرجات وكلاب تبحث عن ما يسد رمقها، عاد حيث كان.. ليكن يا أمي ما تقولين لكني الآن اريد اعيش لحظة الاحتفاء برؤيتك بخير أتمنى لوالدي المثل..

في ضحى اليوم التالي سار الى المكان الذي اعتاد ان يستجدي المارة فيه.. فوجد ذلك القسيس الذي ما ان رآه حتى اتجه إليه مستقبلا إياه.. قائلا:

أتمنى ان تكون بخير هذا النهار بني ماكغواير.. هيا تعال معي الى داخل الكنيسة اتمنى ان تجد ما يطمئنك ويريح نفسك..

- اسمع يا سيد لربما ما قلته بالامس وما سمعته ورايت من والدتي يعني بعض الشيء لي، لكني لست ممن يطيق ان يجثو على ركبتيه طالبا الغفران من خطايا ما كانت لو كان الرب الذي تعبد قد أتاح لي فرص العيش الكريم كما غيري من البشر.. لا تحدثني عن الإيمان او الاختبار، إني يا هذا قد امتلئت من ترهات ما كنت اسمعه ممن هم على شاكلتك، هيا ابتعد عد الى صومعتك وخذ بكل ما تريد الى حيث تريد.. دعني اعيش حياتي واعبد الرب الذي اعرف، ذاك الذي يراني أتلحف الى جوار حاوية النفايات وهو لا يحرك ساكنا، إرتضيته ربا مهملا كسولا وأرتضاني أن اكون من عبيد الأزقة الذين يتطلعون الى عطايا بشر يدخلون بيته لكن ما ان يخرجون حتى يعيثوا فسادا ويزدادون شرورا.. لا تقنعني فأنا أعرف الرب الذي تدعونني إليه، إنه رب صلب ودق جسده بالمسامير ولم يحاول إنقاذ نفسه.. ترى ماذا يمكنه ان يفعل لي؟!! أما تلك السيدة التي تقول عنها فلابد أنها شعرت بمعاناة، ارادت مني مجازاة لما قامت به والدتي ان تقدم المساعدة عن طريقك او عن طريق بيت الرب.. يا هذا كل بيوت الرب ماعادت آمنة بعد ان تسلطت الارباب البشرية وراحت تبني قصورا افخم من بيوت الرب، فهناك من يعبدهم ويبجلهم أكثر من الرب الذي تعبد إنهم بإختصار يا هذا عبيد الحاجة وعبيد المال.. هيا عد من حيث أتيت فأنا وربك طرقنا لا تلتقي ابدا حتى لو مدت السيدة العذراء يدها للمساعدة إنه زمن أرباب الشياطين.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي  

بعض من سيرة أخي الخطاط أسعد

العتبة التاسعة: ثلاث

اللغز في البرنامج التلفزيوني يقول:

شخص ما أبدع خط الثلث

سافر في عمره ثلاث سفرات

تقلّد الوزارة ثلاث دفعات

خدم ثلاثة خلفاء

دفن بعد موته ثلاث مرات

وضاعف الثلاثة بستة أقلام

من هو؟

الفصل التاسع: أنا وإمام الجامع

بقينا في دور نواب الضباط شهرا، كانت قريبة من المعسكر وكان دوامي في الجيش يبدأ من الثامنة وينتهي الساعة الثالثة.أخط أو أذهب إلى الشواخص التالفة أخط أرقامها وعلاماتها، أو ألقي محاضرة للمجموعات القادمة الجديدة، بعد شهر شكرت سيادة العقيد إذ أجّرت بيتا يسكنه أهلي في الحلة مسافة أقل من ساعة بالسيارة عن المعسكر.فأصبحت أستفيق الساعة الخامسة فجرا لئلا تفوتني الحافلات.

وخلال ترددي اليومي على الحلة للمبيت عند أهلي عرفت الأمام الشيخ محمد حيدر(8 ) يبدو أن أبي الذي اهتم بالدين عرف هذا الأمام ووطد علاقته به كثيرا.

أصبح الشيح صديقا لي وارتحت لأخلاقه كثيرا.

تواضع

علم

هدوء

فأحيا في وجداني أن أصبح شيخا من شيوخ الدين.آمل أن يكون لدي جامع أأم فيه المصلين فأواصل تقليدا مشهورا منذ عهد جدنا الأعلى ( الشيخ حبيب بن مظاهر)ف شباب.كان أخي الأكبر في الخارج وهوايته الأدب والشعر

وأخي الأوسط يهتم بالعمل والوظيفة

إذن سأرث جديّ: البعيد حبيب وجدي الشيح عسكر

كانت تلك الفكرة تراودني قبل لقائي بالشيخ الإمام محمد حيدر وازدادت بعد لقائي إيّاه، وقد أعجب بخطي فطلب مني أن أخط ديوانه الشعري والذي لفت نظري أن كتب قصيدة كأنه يرثي بها نفسه.

أو

يتحدث عن الموت

على الستين أشرفت الحياة وكم مثلي وقد كانوا فماتوا

كتبت شعره بأكثر من خط الرقعة الفارسي ,.. الثلث وكان يتابع الديوان بعدي ويشكو لوالدي أنني بعض الأحيان أنسى النقاط.زويبدو شعره وسطا نابعا من إحساسه وقد رثى والدي يوم قتلوه

أبا اسعد ياليتني قبل موقفي أهنيك لا أرثيك في ألف موقف

ولم أتوقع بعد سنوات من كتابتي القصيدة وعودتنا إلى البصرة أن الشيخ الإمام ضاق صدرا حين رآى الجيش العراقي ينسحب من الكويت وأن طائرات الأباشي راحت تحصدهم بعد أن أمنوهم، فخرج يقود انتفاضة الحلةّ

يقال إنهم فرموه في فرامة لحم بعد أن أسروه

لكن

بقيت قصيدتان له في ذهني لم يمحما الزمن: قصيدة يرثي بها والدي الذي قتل قبله في البصرة

قصيدته التي رثى بها نفسه التي كتبتها مع قصائده الأخرى بخط

العتبة التاسعة: الدائرة

الدائرة الكون تتحوّل إلى شكل آخر

نستطيع أن نتنفس في زمن السلم

كانت الكوفة عاصمة للخلافة لكنك جعلت الكون كله يتبعها

حرفها خطها المنحني الدائري الذي يتشكّل من الكون الدائريّ

راقبته

فحوّلته إلى مستقيم هكذا فعلت

لقد رحت أراقبك وقت السلم والحرب

الفصل التاسع: عرس وعزاء

غمرتنا فرحة عارمة بإعلان وقف الحرب

دامت النشوة لعدة أشهر، أما أنا فقد علت وجهي بعض علامات الاستغراب.لم يعد من الجبهة من عمل معي لبضعة أيام، أو بضعة أشهر، وأشد ما يضايقني أن شريف نفسه اختفى، ربما نقل إلى فوج آخر لعله استشهد، ومن حسن حظنا نحن الجنود إن رائحة محزن الموتى انقطعت.

الجثث توقفت

استهلكتني نشوة الفرح وقد صدمني مصرع أبي، لقد عاد إلى البصرة كي يمهد الطريق لرجوعنا استيقظ الفجر قاصدا المسجد، وجدهم يتربصون به.. فأرجعوه جثة هامدة.أشاعوا أن سيارة صدمته في حين كانت هناك آثار طلقة في جسده.

أقمنا له عزاء في الحلة.يوما واحدا إجازة من الموقع لمجلس عزاء استثنائي في عرس عارم ابتهاجا بالسلام وقف معي الشيح محمد حيدر يستقبل المعزين.

حين عدت إلى المعسكر عرفت من شريكي في غرفة التوجيه السياسي أنّ العقيد النبيل أدهام انتقل إلى أحد الألوية وحل محلّه عقيد آخر.هناك من يهمس أن العقيد الجديد لا يحب إلا نفسه، ولا يمنح إجازات ولا يأمل كلّ من يعمل معه بامتيازات، تركت الغرفة إلى الشواخص فأدمت خطوطها وكشطت صدأها واعتنيت بعلاماتها، وحين عدت كان لابد أن أمر بغرفته، كنت أحمل سطلا وفرشاة وإسفنجة وبعض أدوات الخط.وجدته يحدّق في لوحة غرفته.نقلت الأدوات بيدي اليسرى المصابةوأديت التحية.فأشار إليّ يستدعيني:

تعال ماهذا؟كانت إصبعه تشير إلى كلمة ناعمة جهة الزاوية اليسرى للوحة التي تحمل عنوان (الآمر) أجبت بكل ثقة:

سيدي هذا اسم خطاط اللوحة وليد الأعظمي( 9)، فقال بتهكم:

ملعون الوالدين شنو صانع صاروخ .والتفت إليّ: حكّه ثم واصل وعليك أن تبقي على العناوين فقط وتحك أي اسم لأي خطاط وبعد أن تنتهي تعال إلي مرة أخرى

بعد ساعة رجعت إلى مكتبه، فقال

هل انتهيت؟

نعم .

سلك التلفون أريدك تصبغه .

كان السلك يمتدّ من غرفة الآمر إلى التقسيم مسافة كيلومتر ولعل العمل فيه يستغرق ساعات فعدت إليه بعد فترة قصيرة عندئذ سألني بانفعال:

ها هل هناك من شئ؟

تمّ صبغ السلك سيدي.

معقول؟

نعم.

كيف؟

لقد غمست الاسفنجة التي معي بوعاء الصبغ ومشيت مع امتداد السلك إلى التقسيم!

راح ذهني ينساق مع ظنّ سابق كوّنه عنه جنود الموقع وعن المحال والمكافآت فلم أكن أتوقع أي شئ سوى قوله لي

هيا انصرف إلى عملك!

العقبة العاشرة

الرحلة: بغداد فارس شيراز الروم بغداد

حملتَ لقب الشيرازي

بدأت كاتبا بسيطا في بغداد

ثم توليت خراج بعض أعمال فارس

ثمّ قدمت إلى بغداد

ثمّ نفيت إلى شيراز

وقد تكون سافرت إلى الروم لتكتب كتاب الصلح

فهل تسمع مني كيف رحلت ليستقرّ بي المقام بعدئذ في مدينة السندباد!

الفصل العاشر: 116

انتهت الحرب عام 1988 وفي يوم ما من أيّام 1989 صدر أمر إلى الموقع بالتوجه في فرضيّة مدة ثلاثة أيام إلى السليمانيّة.كان مقر اللواء 116 في جبل يدعى زمنكاو.هناك وقفت على أطلال مكتب الحزب الشيوعي.رأيت بعض اللوحات والكتابات، وصورة قديمة في المكتب على الجدار للمثلة ناهدة الرماح.قال الجندي الذي معي فبي غرفة التوجية: ربما كانت هنا معهم.

فرد آخر من غرفة المخابرات:

لعلها لم تكن معهم بل كانوا يستخدمون الصورة للعادة السرية.مررنا بمنطقة سنكلو بنكلو ثمّ عدنا إلى دوكان، وحالما وصلنا نزل الجنود وبقية الضباط إلى المدينة وبقيت وحدي في قلم اللواء

كنت متعبا

وشعرت ببعض الألم في يدي اليسرى مكان البرغيين اللذين يثبتان يدي

فجأة

سمعت إشارة الهاتف كان على الطرف الآخر اللواء الركن عبد المجيد .بادرته أني وحدي في مكتب قلم السرية إذا نزل الجميع إلى المدينة يستطلعون.أمرني أن أحرر مادمت في قلم اللواء نماذج من إجازات لجميع منتسبي اللواء بأمر من الجهات العليا

قلت: سيدي النماذج لا تكفي

رد بخشونة ظاهرة: إنها أوامر عليا أخلقوا نماذج

بحثت

فتشت

عثرت بين الاوراق على ورق (ستينسل).. استفدت من جهاز الرونيو في قلم الفوج.. أصبح لديّ ما يشبه مطبعة رونيو يدوية أما الحبر فقد جهزته من صبغ الأحذية علامة التمساح.. خلطته بالنفط

وهكذا تمت النماذج

1600 إجازة عملتها لمنتسبي اللواء 116

كان آمر اللواء يتمعن في نماذج الإجازات .

يتأمل

ويستدعيني

ألم تقل ليس هناك من حبر ولا نماذج

النماذج سهلة ياسيدي عملتها من الستنسيل

وكيف دبرت الحبر

خامرني زهو مثل الذي حدث لي يوم صبغت سلك التلفون الطويل بالإسفنجة في دقائق:

أجلك الله سيدي عثرت في قلم اللواء على صبغ أحذية ماركة التمساح فخلطته بالنفط وكتبت النماذج

عندئذ ضرب المنضدة بقبضته وانتفض مهتاجا:

ابن الكلب !هذه طريقة لاتعرفها إلا احزاب المعارضة والعصاة لابدّ أنك عملت معهم

لم يفهم أني خطاط ولا بدّ أن تكون لي خبرة في التعامل مع الحبر بل يستمع إليّ

لتذهب في إجازة الآن مع الجميع حسب الأوامر العليا .وحين تعود في اليوم الثامن أقدمك لمجلس تحيق

كانت أقسى إجازة قضيتها مع أهلي.

فرح

وقلق

وحين عدت في اليوم الثامن تغيّر كل شئ جاءت أوامر القيادة العليا بحل اللواء 116

ويبدو أنهم أرادوا أن يحلوا اللواء فمنحوا جميع منتسبيه إجازة أسبوع

فتنفست الصعداء

***

رواية قصيرة

د. قصي الشيخ عسكر

غيّرني حبُّك غيّرني

أثقلني راحَ يزلزلني

وبدأت أثورْ

لأمزقَ ماضي أوراقي

ويزيدُ الحزنُ بأعماقي

فأعودُ لتيهي

وضياعي

وشجونٍ زادت

أوجاعي

كي تطغى ثورةُ أشواقي

فالقادمُ من عمري

الباقي

يحتاجُ كثيرْ

أحتاجُ حياةً ورديةْ

ولحبِّ امرأةٍ شرقيّةْ

تسكرني خمرةُ عينيها

ذات العينين العسليّةْ

وضفائرُ شعرٍ غجريّةْ

فأصير أميرْ

فتغيّر طبعي وطباعي

وتشبُّ النارَ بأضلاعي

كالنار بكيرْ

تأتي بسحائبَ صيفيًَة

تقلّبُ أشواكي البريّة

لحقولِ زهورْ

تحدثُ زلزالاً بحياتي

تضعُ القنديلَ بمشكاتي

فتزولُ العتمةُ من ذاتي

ويفيضُ النّورْ

لتُعيدَ لليلي

أحلاماً

وتزيدُ لعمري

أياماً

قد كانت عندي أوهاماً

ومحال تصيرْ

غيرني حبُّك سيدتي

لأكونَ جديدْ

أنسى آلامي أحزاني

أنسى التعقيدْ

حبُّك قد أصبحَ معجزةً

قلبي المحزون غدا فرحاً

أصبحت سعيدْ

من أين أتيتِ بهذا السّحرِ …

وهذا التأثيرْ....!

قدري أن أهوى ساحرةً

ويظلُّ بها قلبي مسحورْ

معجزةٌ لم تتكررْ في

الماضي المأثورْ

معجزةٌ لن تتكرر في

الزمنِ المنظورْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

اليوم سوف أجرجر قلمي بمحاذاة ظل فرح يتمدد شيئاً فشيء بجانبي...

سوف أحاول أن أتجاوز شيء من تلك المنعطفات الملتوية والمعتمة التي أدخلت فيها بكامل قواي الورقية..

أكتب عن تلك التفاصيل التي لم يقدر لنا أن نعيشها يوماً كتلك المقاعد الخشبية الواسعة تحت شجر البلوط، والإبحار في زورق صغير يحملنا معه إلى الضفة المجاورة بهدوء موج، و مقاهي عتيقة لم نزورها يوماً بقدر زيارتها هي لنا في أحلامنا وكتاباتنا..

قد تصلك هذه السطور في مواعيد مختلفة وشعور مختلف ومواسم مختلفة ولكنني أكتبها اليوم بحتظار حرف صيفي مشمس لا كتلك الأحرف الضبابية التي تشبه إمتلاء الأرض بغزارة مطر وبرد..

أحس في بعض الأحيان بأن بيني وبين الكلمات نسباً وقرابة ما حين أحاول أن أخرج من بين تلك السطور ما يشبه ملامحي القديمة ورهافة شعوري الخاطف..

ليس سهلاً أن تسمع صوت قلمك يسير بثقل ويغوص في تربه الورق يجر شعورك لا كلماتك..

إننا معقودون بسلك رفيع وهمي في تخاطبنا وإن إنقطع فلربما تتناثر تلك الأحاديث وتهوي في غياهب الصمت.. وإننا معتادون على سماع الصوت المبعث من أعماقنا و أكثر من ذلك بكثير إننا متوحدون بذواتنا عندما يغلبنا الحنين....

هل تسمع تلك الأصوات الآتية من الغابة أو من خلف النوافذ المفتوحة وكأنها تعيدنا إلى أول الشروق وأول دقائق الحياة...

أقول كل هذه الأشياء لأنني أردت أن أخرج من رتابت رسائلي ما أعتدت أن أقوله وإنني أفرغ من ذاكرتي ذبذبات حديث علق في ذهن الورق الأبيض.

***

مريم الشكيلية /سلطنة عُمان....

لم يكن لدي ما أنفقه على نفسي بعد أن فصلت من العمل وحتى السكن ممكن ان يسترد مني بين لحظة وأخرى بسبب عائديته للمؤسسة التي استغنت عن خدماتي فسرت متسكعا بين الأزقة والشوارع لا الوي على شيء حتى قادتني قدماي إلى أزقة الحي الذي تتوسطه محطة القطار الكبرى وهناك ضعت في زحام الخارجين من المحطة والداخلين إليها وثرثراتهم التي كانت بلغات مختلفة ولهجات شتى وطرحت علي عشرات الأسئلة من دون ان أملك جوابا لسؤال منها غير سائر بلا هدى ولا غاية أو هدف والمتحكم في مسيري قدماي وليس رأسي مثل ماتعود الكثيرون وبعد اجتياز المحطة والدروب المؤدية إليها وتلاشي الضجيج الناتج عن العابرين وجدت نفسي على مشارف حي يبدو أنه من أحياء الأغنياء بسبب ضخامة وجمال البيوت واتساع المناطق الخضراء وسعة الشوارع ونظافتها وعدم لعب الصبية الكرة فيها إضافة للانارة التي تشعرك انك في حفل حكومي باذخ وجاست أقدامي الشوارع والأرصفة حيث كانت كل النوافذ مضاءة ببذخ ولم اسمع في هذا التجوال المجنون شجار أزواج أو توسلات أمهات بصغارهن من أجل ان ينهوا لعبهم في الشوارع ، بعد وقت لا اعرف مداه دلفت الى شارع عريض آخر وبعدما سرت أكثر من مئة خطوة لاح أمامي بيت واسع مضاء بالنشرات الضوئية والنيونات الملونة وتصدح منه موسيقى صاخبة وتلجه زرافات من البشر نساء ورجال بابهى حلل وعطور متباينة تداهم المتجه نحو هذا البيت وعندما أصبحت قريبا من الباب ترجلت مجموعة من ثلاثة سيارات فحاصرني زحامهم وادخولني معهم البيت ممسوكا بيد امرأة خمسينية بدوت كابنها وبعد الترحيب وجمال الاستقبال وقفت تلك المرأة أمامي كقائد صلب يشرح لجنوده كيف يهاجمون العدو وقالت بلغة صافية ..

(اختر مكانك واستمتع بوقتك واحرص على اختيار اجمل الصبايا لمراقصتك ولا تاكل كثيرا عند العشاء)

ثم ابتسمت لي ولوحت بيدها وانضمت لمجموعتها. 

جلست وحيدا على مائدة ليس بعيدا عنها ومررت بنظري على جميع الفتيات بنظرة فاحصة فلم تروق لي الا صبية كانت تجلس قريبا منها وترتدي ثوبا يتيح لها الحركة

. اتسعت حلقة الرقص وشارك فيها الشبان والكهول وراقصت تلك المرأة كهل اشيب من غير مجموعتها ذا صوت اجش وابتسامة ساحرة وحضور طاغي ولاحت مني التفاتة فرايت تلك الصبية تجلس وحيدة فتشجعت وسرت الى حيث هي ودعوتها للرقص فوثبت كانها غزال مذعور ووضعت يدها بيدي وسرنا باختيال نحو حلبة الرقص وعندما تحركت رقصا اذهلتني بخفة حركاتها قبل أن تلفت نظر الآخرين وكنت وانا اراقص الصبية ابحث بعيني عن تلك المرأة فوجدتها ترنو لنا بعين محب شفيق وعند انتهاء الرقصة صفق لنا الجميع اعجابا واسموني رفيق (الحلوة) .

ورغم اني لم اذق الا القليل من الطعام في نهار ذلك اليوم الا اني التزمت بوصايا تلك المرأة الصارمة على مائدة العشاء رغم أن الصبية الحت علي وقربت لي بعض الاصناف البعيدة عني نسبيا مع ان المرأة حاولت غض الطرف في بعض الأحيان. 

بعد العشاء وتقديم الهدايا بدأ المحتفلين بالمغادرة وخرجت انا مع من دخلت معهم ممسكا بيد الصبية بحياء وعند الباب لحق بنا الكهل الاشيب وامسك بيدي واستوقف المرأة وتكلم معها عن موعد لحفل عائلي بعد أيام مشددا على حضوري مع رفيقتي (الحلوة) كما ناداها فوعدته المرأة خيرا ودس في يدي بطاقة (كارت) فيه عنوان البيت ومكتب العمل وارقام هواتفه مؤكدا على زيارته .

عند الباب طلبت مني المرأة الصعود في سيارتها فامتثلت لامرها من دون كلام وفي بيتها حصل مالم يكن في الحسبان ولم تلفظني الجنة خارج اسوارها الا بعد تكرار خطيئة جدي الأول. 

***

قصة قصيرة

راضي المترفي

     هي أرضي الأولى..

أشكالي..

وحبيبات العمر الممتدّ المتوازي الأضلاع

ما بين الماضي، والحاضر..

هي تسمو..

حالة عشق.. ذكرى

بل معنى، المعنى

مازالتْ.. وستبقى

تمشي في النبض معي

تترجّل، تتجوّل في طرقات الأيّام

تحمل بين خلايا جلدتها

نكهة كلّ السنوات

"وإذا الصبح تنفّس "

هي في أدعيتي

في قاع العمر..

وأفق الصلوات ْ

مازالتْ تترك لي

أكثر من عنوان

كي أستبدل..

عنوان الحزنِ بأرغفةٍ

من غرّة ضوء

بساتين الخير.. صبح..مساء

مازالتْ هي

مأوى الفقراء

هي جذع الروح،

وأضلاع الصدر..

عناقيد الشعر..

وباب الحلم، لكلّ الشعراء

**

ما زلتُ أرى فيها

والدتي..وأبي.. اخواني

وأرى – موسى – جاري

يحمل صندوق التمر

على الرأس.. على الظهر

وأرى زوجته

تصنع دبساً في ساعات الفجر

وتصلّي

تحمد.. تشكر ربّ الخلقِ

على هذا الرزقِ...

ما زلتُ أرى عمرانْ

في شارعنا الممتدّ

من النخل.. إلى النخل،

بوجهٍ يمسح

فيه دموع الأطفال الفقراء

يأتي في الصبح، يجرّ العربة

ليبيع علينا بعض الحلقوم ْ

ويهزّ إلينا

جذع السدرة

كي يسّاقط

منها النبق (البمباوي)

ويجفّ رفيف العين، بهذا اليومْ

**

ما زلتَ أرى قريتنا

تتحدّثُ في أعلى صوتْ

وتسافر

بين جذور الماءْ

وتعانق أجنحة الوجدانْ

وتطلّ على أبواب

الصبح بعافيةٍ

وتحلّق فيها الأغصانْ

هي سيّدتي

رغم ما مرّ.. وما كانْ

تبقى أحلى

من كلّ مكان ْ

مسروراً

سأعود اليها

أمشي

فوق قناطرها.. وبساتين العنب.. الرمانْ

أمشي.. وحدي

لا يعرفني الإعياءْ

أفتحُ في الروح سماءْ

كي أكتب عن هذي- الحمزة -

قريتنا .. باللغة العربية

من جبل العطر، وكنز الكلمات

أروع أغنيّة..

كي تولد، قرب النهر

عناقيد الصرف بسفر النور

**

كي أرسم بيتاً

في ظلّ البيت

ليمرّ عليها قلبي

قبل الموتْ

***

حامد عبد الصمد البصري

..............

* اشارة: الحمزة: قرية الشاعر في قضاء أبي الخصيب – في البصرة

حين تطلين من برجك العاجي

تحيط بك العصافير

*

نحن الأرضيين

نهيم بالملائكة

لأنها لا تعرف التمني

*

غائبة أنت

ثمة سحابة

توحي بهطولك

*

بعد الشوط الأخير من الليل

تداهمني الأحلام

أتأبط حقيبتي

فتهرب من يدي

*

كم انت انيقة

كلماتك في أذني

صدى لاغنية يتيمة

لشاعر منسي

*

كثيرا ما افكر في قلبي

كيف ينبض، انت في الضفة الاخرى

*

اتعكز عليك،

ثمة حياة اخرى

وثمة ليالي سهاد

تسرع نبض قلبي

*

المراة التي طرقت قلبي قبل ثلاثة عقود

لازالت محتفظة بنضارتها

تمسك مزلاج القلب

ولا تدخل

*

اكتب، لا ادري بأي الكلمات

تكتمل القصيدة

القصيدة امراة عاصفة

لا سبيل لايقافها

***

د. جاسم الخالدي 

تضحك تاره وتصرخ مرة تاره فرحا بالفوز، كان غنجها وصوت ضحكاتها يلهب تحدي الذين يلاعبونها ويعزز رغبة كل واحد منهم في ان يتفوق عليها ويفوز باللعبة. ساعات المساء بالنسبة إليه تسير ببطء شديد على أمل ان تبدأ اللعبة وتترجل تلك الحسناء من على صهوة جوادها وتحادثه، أصبح منساقا اليها ويساندها ويحميها وكأنها في قتال وسباق حقيقين، فليست الاصابع وحدها التي تحرك جسد الدمية في اللعبة بل كانت المشاعر ايضا. كانت أكثر الفتيات جرأة ولها روح مرحة جعلتها تتميز عن الأخريات. شعر بالغيرة في احدى المرات وازداد توتره عندما سمعها تتحدث مع أحد المشاركين معهم وقرر ان يتقرب اليها ويحادثها ايضا، من يدري فربما سيحظى بالقرب منها.

تذرعا كذبا وأخبرها انه متوعك قليلا ولا يشعر برغبة في الدخول معهم الى اللعبة لكنها طلبت منه وبإلحاح ان يلعب هذه المرة من اجلها، وافق دون تردد اذا كان كذلك سألعب، وتبادل معها حديثا كان طويلا بعض الشي حول امور شتى، بعد نهاية اللعبة اتفقا على ان يتبادلان ارقام هواتفهما من اجل ان يطمئن احدهما على الاخر لانهما اصبحا اصدقاء، هكذا هي البداية كما يبدو في كل العلاقات، اصبح مشدودا لحديثها وتحدث معها عن حياته واستطرد في الحديث عن وحدته فلأشيء غير الانهماك في العمل برفقة والده ثم الدخول الى اللعبة، هذه اللعبة التي يعشقها واخذت الكثير من وقته وماله، واصبح مدمنا عليها لاسيما مع وجودها معه، بعد الاسبوع الاول لحديثهما قالت له علينا ان نتوقف عن الاستمرار بهذا الحديث لأنه مغامرة لا تود الخوض فيها لكونها امرأة على مشارف الاربعين من العمر، شعر بحزن كبير وظن بانها ستفعل ذلك حتما وذكر لها بانه لا يظن بان العمر يمكن ان يكون عائقا بينهما وعادت لكي تذكر له بان اسمها الحقيقي لم يكن سوزان واستوعب الامر على مضض، وقال لها الاسماء ليست مهمة قطعا مهما يكن اسمك فانت الاقرب الي الان ولكنها اصرت على انه يجب ان يعرف اسمها الحقيقي .قال لها مادامت صادقة معي فلم لا نلتقي لكنها رفضت وعللت الأمر انشغالاتها العائلية وامور اخرى تمنعها منها القيود المجتمعية ولكنه سهل عليها الامر واقنعها ان اللقاء يمكن ان يكون في مطعم داخل أحد المولات اذ انه يرغب بشراء عطر مميز ويريدها ان تشاركه في اختياره.

كان اللقاء الاول حافل بالمفاجآت فقد رآه مجموعة من اصحابه برفقتها وكذلك صديقة والدته الا انه لم يهتم لأنه كان ينظر اليها بشغف ويتحدث اليها بأجمل الكلام وقلبه يخفق. نظراته وكلامه الجميل كسرت جرأتها. الانثى القوية يغلبها الخجل وتضعف امام نظرات هذا الرجل الجريء. كان منبهرا بجسدها ورائحة عطرها الباريسي، عندما جلسا معا بادرته بالقول بأنها منفصلة، وأخبرها هو ايضا انه يعمل مع والد في ادارة شركته التجارية في استيراد وتصدير الاغذية ويدخن الاركيلة فقط، أخبرته هي ايضا تدخنها، شعر بارتياح معها لم يشعر به من قبل وطلب منها ان يجلسوا لكي يستمتعا بطعم الاركيلة بينما يتحدثان قبل ان يتناولان طعامهما، عرض عليها أثناء تدخينهما ان يلعب معها فقط وانه سيكافئها عن كل فوز فوافقت وقالت له سوف تخسر قال لها سأكون مسرورا بذلك.

لم يمض اول يوم حتى اضاء هاتفها بوصول رصيد شحن لها بأعلى فئة، شعرت بأن هناك انعطافة كبيرة ستحدث في حياتها، لكنها مازالت مجهولة المعالم وسط ما اعتادت عليه في جلسات الليل وضحكات الشباب ونبرات أصواتهم الساخرة المتربصين المتسمرين خلف شاشات حواسيبهم وهواتفهم حتى اللحظات الاولى للفجر.

أصبح يغازلها ويتعمق بالحديث عن مفاتنها و ردت عليه بانها امرأة كبيرة في السن ولكنه لم يسمعها وردد لا يهمني ذلك، شعرت انه يجاملها ففي النهاية هو يفكر فيها كرجل والغريزة هي التي تتحدث الآن. شعرت بانه يستخدم جراته كثيرا للحديث معها حول تفاصيل المرأة وخفايا مشاعرها المكبوتة وحاولت تغيير الحديث وذكرت له أنها تعيش الان في شقة مؤجرة ومعها والدتها المسنة، أخبرها بأنه يرغب لها ان يلتقي بوالدتها، ردت عليه وهي تجامله اهلا بك فرد عليها بسرعة بأنه سيحضر مساء الغد ويجلب معه العشاء لكي لا تتعب في اعداده فوافقت شريطة ان لا يتكرر هذا الامر.

في مساء اليوم التالي حضر متأنقا بعد ان ركن سيارته الفارهة في الشارع المقابل للعمارة التي تسكن فيها وحمل العشاء معه ورائحة عطره تملا المكان واتصل بها واخبرها ان تفتح الباب وتنتظره عندما راته نظرت اليه طويلا بإعجاب، شاب جميل ووسيم وانيق يستحق الاعجاب حقا ومن عائلة غنية ويحضر لها الحي الشعبي البسيط، انها مغامرة فعلا ستقول انه من أقاربها الأغنياء عندما تسأل عن ذلك، دخل الى الشقة التي تملأ ارجائها رائحة الاركيلة ووجد امرأة مسنة تضع شالا ابيض على راسها تجلس على الاريكة نهضت وسلمت عليه وهي تتفحصه من الاعلى الى الاسفل ولفت نظرها لمعان حذائه الاسود وعطره، قالت لامها ها هو الشاب التي حدثتك عنه وهي مبتسمة، ثم أخذت منه العشاء وذهبت الى المطبخ وهي تقول البيت بيتك خذ راحتك .

صمت مطبق خيم على المكان بينما كانت الأم تحدث نفسها عن شكل العلاقة التي يمكن ان تربط ابنتها بصبي في عمر هذا الشاب فهو بنظرها صبي ليس الا. بعد ان تناولوا عشائهم الذي جلبه من احد المطاعم الفاخرة تأخر الوقت كثيرا وهم يتحدثون في عن كل شيء من الامراض المزمنة التي تعاني منها والدتها الى وضع السوق الحالي وطرق التجارة وتكفل بعدها بمصاريف علاج والدتها وتعهد ايضا بدفع إيجار الشقة، عروض لا يمكن ان تأتي الا في الخيال جعلت منهن نساء في غاية السعادة وطلبت منه المرأة المسنة ان يبيت الليلة معهم لان الوقت قد تأخر ووافق بعد تمنع كاذب بينما بقيت تنظر اليه بغنج، قالت له ستنام هنا في الصالة ونحن في الغرفة وهي تضحك واعدت له فراشا وذهبت الى الغرفة التي تركت بابها مفتوحا واطفئت ضوء الصالة لأنه قال لها إنه لا يحب الضوء، بعد ساعة تقريبا وعندما كان مضطجعا على ظهره شعر بتسللها الى فراشه بملابس نوم فضفاضة،احتضنها وقبلها من رقبتها ومن شفتها السفلى وهي تغمض عينيها مستسلمة لهذه اللحظات من الخدر اللذيذ وهمس في اذنها أنت المرأة الوحيدة التي عشقت فردت عليه وانت الوحيد الذي يجعلني اشعر باني امرأة وأنثى حقيقية .

ذلك جعله يشعر بتعلق كبير بها، فبعد اربعة أشهر من علاقتهما أصبح مولعا بها ويقضي معظم الوقت بقربها، اخذ يتردد يوميا عليها حتى ظن الجيران بأنه أحد اقاربها واندفع محاولا بسط سطوته عليها كرجل في حياتها طالبا منها ان تغير رقم هاتفها باخر جديد، وابدى استعداده للعيش معها وطلب في احدى المرات الزواج منها لكنها امتنعت وهي تدرك بأن فارق العمر سيحول دون استمرار هذا الارتباط. وان تعلقه بها مجرد نزوة واستدركت وهي تحدث نفسها (لا تصدمك النهايات التي خطت ملامحها مسبقا)

واستخدامها لمساحيق التجميل وأحمر الشفاه بدأ يخفي الكثير من رونق وجهها لكن تلك المساحيق والثياب المثيرة هي التي جعلته يتعلق بها كطفل. المساحيق التي اعتادت ان تلون بها وجهها لكي تثير الرجال الذين مروا بحياتها وغادروها بهدوء مازالت باقية.

أصبح يرافقها كظلها ويضيق عليها الخناق. وبمرور الأيام صارت الحياة معه جحيما حقيقا لا يحتمل بالنسبة لها، طلبت منه في أحد لقاءاتهما ان يضع كل خيالاته وأوهامه عن الحب وغيره جانبا وان يعود كل شيء الى ما كان عليه وينهي هذه العلاقة التي أصبحت ثقيلة. اصاب وجهه الشحوب وتقدم نحوها مبديا عدم اكتراثه بالموضوع، طالبا منها ان تعيد له كل النقود التي صرفها عليها وعلى والدتها، وأخبرها بانه يعلم بان لها علاقات كثيرة مع رجال غيره.

فكر بعد ذلك في نسيانها وحدث نفسه قائلا: ما فائدة تعقبها ورصد كل تحركاتها، وهي من طلبت منه ان ينهي هذه العلاقة، لكن ارادته قد خانته واشتعلت فيه مشاعر الغيرة الممزوجة بالغضب، سوف لن يدعها ترسم خطوط النهاية وحدها لاسيما وانه لم يستطع ان يكبح شوقه الى جسدها وانفاسها الحارة أكثر من هذا الوقت وطلب منها عندما اتصل بها ان يلتقي بها للمرة الاخيرة لكي يودعها وانه لن يجبرها على ابقاء علاقتهما.

تفاجأت بلحيته السوداء وشعره المنفوش وخطوط الارق السوداء المحيطة بعينيه المتعبتين رغم توهجهما، نظر اليها باستسلام وهو يقول: بانه لا يستطيع العيش بدونها، وأنها بالنسبة له رمز للحياة والعالم الذي يحلم به، لكنها نظرت اليه دون اكتراث او مراعاة لمشاعره وهي تعدل شعرها الاسود الطويل، في تلك الليلة كانت تلبس ثوبا احمرا خفيفا، قالت له لا فائدة من توسلاتك انتهى كل شيء. ابحث لك عن امرأة تناسب عمرك. طلب منها ان تمنحه فرصة اخرى ووعدها بانه لن يضايقها كالسابق، رفضت توسلاته واطلقت ضحكة عالية، مشيرة براسها بالرفض اعتدل بوقفته وشرايين رقبته المستديرة تنبض بقوة مع انفاسه المتلاحقة وتقدم نحوها قائلا، انت امرأة تافهة،سأنهي كل هذه التفاهات اليوم، لست سوى عاهرة، عاهرة تريد المزيد من الرجال لكي تشبع نزواتها القذرة، فقالت له بنوبة غضب لست سوى قواد صغير،انت تافه وحقير ايضا وانت تتوسل ثم ضحكت بهستيرية واضحة بينما كادت عيناه تخرج من محجريهما لغضبه ولم ير سوى الشال الذي تضع على رقبتها لكي يلفه على رقبتها بقوة عظيمة لا يعرف من اين حضرت لكي تسقط على الارض وعيناها مفتوحة على اتساعها وهي تدفعه بيديها وقدميها بكل ماوتت من قوة وتحاول الافلات من قبضته التي منعت وصول الهواء اليها، لا يعرف كم استمر الوقت حتى خمدت حركاتها وتوقف جسدها عن الحركة وقلبها عن النبض ولكنه كان جاثما على صدرها وهو ينظر الى وجهها الجميل، بدت مثيرة على هذه الحال، تلمس ثديها الايمن الذي كان دافئا ثم قبلها، يا الهي كانت جميلة جدا ومثيرة وهي صامتة ومستسلمة ليديه التي تعبث بجسدها، لم يستطع ان يقاوم رغبته في ان يكمل كل شيء، عليه ان يستغل حرارة جسدها العظيمة هذه قبل ان تبرد، خلع ملابسه كلها وفعل ما كان يفعله معها قبل ان تتحول الى جثة، لم يفكر باي شيء اخر، العالم خارج جدران هذه الشقة لم يكن يعنيه، حتى عندما حضرت الام العجوز وراته على هذه الحال، لم يسمع كيف دخلت او كيف صرخت او كيف تجمع الجيران كان منتشينا فقط وصامتا ومذهولا .

***

نضال البدري - بغداد / العراق

يد العبث حزمت خصر الريح

بجدائل أنوثة خسرت كل رهاناتها

بين قدم الصمت وكعب الانهيار

عيون الانتظار مخمورة

ترقب انبلاج الليل

لتغادر ابراج الحذر

تنضم الى قافلة ضياع

قضت العمر في عد النمل

الداخل والخارج من مغارة المجهول

الداخل مفقود.. والخارج مجنون

اشجار الفوضى القت بظلالها

على اطراف الكون

بارت المعاني في زوايا الصمت

ما عادت تروي ظمأ العطاشى

المؤرقين على حواشي الورق

هي ايام نتداولها

من ساءه ملتقى.. سره فايس..

العيون مع الفلك تدور

حول مثلث الموت تدور

مثلث منه ولاشك

تقوم قيامة النائمين

على ازرار الكيبورد

هي مرآة واحدة تعكسنا

من السراب الى السراب

تدفعنا للامتثال جميعا

لالاعيب الفرح

الملون بفسيفساء الغدر

الحاكم على اللاشعور بالانجراف الجميل

حتى اخر نقطة في اللاوعي .. واللاعودة

***

مالكة حبرشيد

الفصلان (13) و(14) من رواية:

غابات الإسمنت

***

الفصل (13)

العودة إلى السجن

جاءت إليّ النقيب لكي تصحبني ثانية إلى السجن، الحقيقة أنني كنت مشتاقة إليها، في السجن تلاشى مكياجي الذي كان لا بد منه ليراني به الكبير مسؤول الأمن، ليقدّر في المستقبل على أساسه حجم المسؤوليات، أنتِ رائعة.. قالت النقيب التي جعلتني أجلس خلفها في السيارة، ثم استطردت:

هذه عبارة الكبير بحقك، يمكن أن تعدّي ذلك وساما، وستكون لكِ حسب تلميحاته مهمّة كبيرة بحجم جمالكِ.

ـ تريدين الحقيقة لقد خشيت أن يندفع نحوي.

ـ أووه.. هؤلاء أناس مسلكيون، لا يفكرون بمثل هذه الأمور، الجمال والجنس، يرونه ضمن عملهم الوظيفي أداة فقط، لا تخافي وأنا معكِ.

واندفعتT بلهفة عارمة:

- هل تفهّم سبب سجني؟

-  طبعا، أنت تتعاملين مع رجال يحبون المرأة القوية والجميلة، التي لقوتها وجمالها تكسر شوكة خصومهم.

توقفنا عند مصرف شهير، وقبل أن نغادر السيارة لوّحت لي ببطاقة، قالت إنها بطاقتي الجديدة باسمي الجديد حين أخرج من السجن.. أنسى أني "إنعام"، اسمي "ميساء"، ستفتح لي بهذا الاسم حسابا, أعيش حياة جديدة لا قلق فيها ولا خوف.

وبعد أن أنهينا الإجراءات ذهبنا إلى البيت، وحالما دخلنا احتضنتني وعيناها تترقرقان بالدموع، وضعت أنفها بين نهديّ وراحت تتنفس، كانت في غاية الرقة والحنان، تشعر أنها هي التي خلقت مني إنسانا آخر, هكذا قرأتُ عينيها، وبهذه الصورة استجمعت في فكري ذاكرتها.

التفتت إليّ وهي تمرّر أصبعها على شفتي:

ـ جائعة حبيبتي؟

ـ اسكتي لقد شبعت، هناك أرقى الطعام.

ـ لكنه ليس أفضل من طعامي.

ـ طبعا، هل تحبين أن أطبخ لكِ؟

ـ لاأريد أن أتعبكِ.

ـ أووه لا تقولي ذلك، تعبك راحة.

ـ اسمعي، علينا أن نستيقظ غدا قبل ساعة، لكي لا يدركنا الوقت، يجب علينا الاستحمام لتزيلي هذا المكياج من وجهكِ وترتّبي شعركِ، فليس من المعقول أن تذهبي إلى السجن قادمة من المحقق وأنت بكل هذه الروعة!

كانت أمسية رائعة، وفي الفجر استيقظنا مبكرتين لنستحمّ، وبدل أن أضع على وجهي قليلا من المكياج، مرّرت على وجنتي بعض ما تحويه عبوة صغيرة، فخالط وجهي شحوب وبدا عليه الإرهاق، ثم وضعت تحت عيني اليمنى بودرة زرقاء، فلاحت زرقة بدت كما لو أن كفّا غليظة واجهتني بصفعة، فتركت آثارها على وجهي الذي بدا متعبا، فضحكتْ وضحكتُ.. ارتديتُ ملابس السجن في السيارة وقيدتْ يدي، ثمّ اتجهنا إلى السجن، فاستقبلتني السجينات بالأحضان، وعلى وجوهنَّ أسف لما تعرضت له؛ لكن لم يجرؤنَ على أن يعقبن بأية كلمة، ولم أجد مديحة، فعرفتُ أنها انتدبت لمهمّة مثلي في اليوم الذي وصلت فيه.

اقتربتْ منّي نجاح، لاح في عينيها عتب، أسف.. هكذا خُيل إليّ، ولا أدري لماذا لم أجرؤ على النظر بشكل مباشر بعينيها، قالت:

شعرتُ بفراغ كبير في فترة غيابكِ.

- هل آذتكِ إحدى السجينات؟

- لا، أبدًا.. لكني اشتقتُ لكِ، فأنتِ الوحيدة التي تسمعني وتفهمني حين أفضفض لها.

- لا عليكِ، سأرتاح قليلًا ثم أستمع لكِ، يبدو أن في جعبتكِ الكثير.

- حلم يا إنعام، حلم غريب عجيب.

ما جدوى الأحلام والأصفاد بأيدينا؟ وحبل الماضي ملتفّ حول رقابنا، ومن نحبّهم خذلونا، حتى الطبيعة خذلتني ونأت بي إلى عالم لم يخطر على بالي يومًا بأني سأدلفه وأبقى قابعة فيه وأسيرته.

- إنعام.. هل تسمعينني؟

انتبهت على صوت نجاح:

- نعم.. معكِ، تعالي نجلس على سريري، هيّا قصّي رؤياكِ.

- كأني في لحظة غياب عن الواقع، رأيت نفسي أعيش في بيت من مرجان، والبيت يضمّه وطن كبير حدوده أشجار الكرز، والنخل والبرتقال، وحقول من شجيرات أزهار النرجس.

وكان لي أخوة؛ ما يقارب عشرين أخًا، وثماني أخوات، وكان لي زوج وخمسة أبناء، ورأيت جارتي صباح وصديقتها عطاء، وفجأة اختفت الشمس وحلّق فوق رؤوسنا سرب غربان سود، حتى تتالت أسراب وأسراب، وظهر فجأة ثعبان كبير، ثم شعرتُ باختناق من رائحة دخان وغبار، وسمعتُ صوتًا أشبه بانفجار قنبلة أو شيء من هذا القبيل.

حاولتT الركض والهرب وكأني أبحث عن قدميّ ولم أرهما؛ لكني كنتُ أركض، أردتُ أن أصل إلى الجسر الذي يؤدي إلى طرف المدينة الآخر؛ لكن الجسر ابتلعه النهر وابتلع معه جميع من ذكرت!

- ها، انتهى الحلم؟

- استيقظت مذعورة، "ريقي ناشف" وقلبي ينبض بسرعة عالية، إنه حلم سيء، غربان وثعبان..

- إنها أضغاث أحلام عزيزتي، ربما نمتِ جائعة، أو أنك كنت تفكرين بوضعكِ أكثر من اللازم، وأكيد أن هذه القضبان وهذا المكان، والظلم يجعلنا نحلم بأسوأ من ذلك.

تذكرتُ أحداثًا بعيدة، أبعد من حزن مجرتنا الكونية، وتخيلت كيف من الممكن أن تنقلب الأحلام إلى نبوءة، أو نذير شؤم ربما، لمحتُ سرب رعب في عينّي نجاح وهي تقصُ عليّ حلمها، حالها يقول الفرح سراب، والحرية خيال.

لا ترى من حولها سوى جدران رمادية، مليئة بتواقيع ورسومات لعيون باكية، حروف وأرقام، وسقف يتدلى منه زنجير معلّق في نهايته مصباح بضوءٍ خافت.

نجاح رأتْ ما هو أبعد من الغرفة الموحشة، والحلم المرعب، رأت أيضًا مجهولا موحشًا يحيط بها وينتظرها.

- سأطلب من الحارسة أن تسمح لك لتأخذي حمّامّا دافئًا، هذا سيمنحكِ الشعور بالراحة.

كانت ترتجف:

- انظري إنعام، هل ترين هذه التعرجات الغريبة على كفّي يدي؟ بل تغطي جسدي بأكمله رغم أني لم أبلغ سن العجز!

شعرتُ بالخوف عليها، بالخوف الشديد، تفحصتُ قلبها، هو الآخر، كان ينزف خوفًا، فأخذتُ رأسها ووضعته على كتفي، وطلبتُ منها أن تغمض عينيها:

- غادري كل ما رأيته بكل التفاصيل المؤلمة، انسي، ستكونين بخير.

النساء المقهورات قويّات، لهذا هنّ أثمنُ من أن يحدد لهنّ الآخر قيمة.

وتساءلتُ: هل الأحلام في السجون خطايا؟

ما أعرفه الآن، أني بانتظار مهمة أخرى، حتى خشيت أن أحلم حلمًا مزعجا تلك الليلة.

***

الفصل (14): المهمّة الأولى

الآن بدأتْ مهمّتي الأولى.

وظيفتي الجديدة.

بعد وصول مديحة من التحقيق مثلما شاع بين السجينات، الأمر الذي أكّده ظهور آثار لطخات زرقاء على وجهها، كنتُ أشعر بفراغ لغيابها، لا يسدّه شيء، حتى انهماكي في التدريب على الحلاقة التي بدأتُ أجيدها إجادة تامّة، وحالما وصلتْ مديحة، استدعتني الحارسة وهي تقول:

ـ تقول السيدة النقيب هناك تحقيق آخر في القسم السياسي، وهي تنتظركِ الآن بالخارج.

وحالما جلستُ في المقعد الخلفي مكبّلة اليدين حتى اندفعتُ:

ـ هل عملتِ بيديكِ اللطخات لمديحة؟

ـ لا أبدًا.. استلمتها منهم على ما هي عليه.

شعرتُ أني انهار، فنظرتْ إليّ نظرة ذات دلالة بالمرآة، راحت تركّز على المهمة الأولى التي أنيطت بي.

عليّ أن أثبت كفاءتي؛ أنا السجينة الموظفة.

المعلومات التي بين يديّ، أنّ السيد رئيس غرفة التجارة، وهو منصب رفيع، بيديه الاستيراد والتصدير وغرفة تجارة البلد، تربطه معرفة بالسيدة النقيب مسؤولة السجن، عرفت أنه مغرم بالنساء، على الرغم من أنه متزوج من اثنتين، واحدة منهما أجنبية.

نقطة ضعفه النساء، وكل خصوصياته من أوراق رسمية ومعاملات خاصة، موجودة في بيت ثالث يزوره بين حين وآخر، مما يتيح له معاشرة النساء اللاتي يشكّلن نقطة ضعفه، ولكون السيدة النقيب استدرجته وأخبرته أنها يمكن أن تجعل سجينة خارقة الجمال تأتي إليه بضعة أيام، لكي لا يكون عرضة للشبهات، فقد رحب بالفكرة، وازداد لهفة حين رآى صورتي بالمكياج والشعر المستعار والبدلة الأنيقة، سيمنح مديرة بيته إجازة فأحلّ أنا بدلها.

عمل جديد أمارسه وأنا في السجن.

في الحسبان أنّي أبيع جسدي، أتقزّز من فكرة أن أكون مع رجل وإن كان زوجي، وأتخيل أن تكون حبيبتي مع رجل فلا أغار؛ لكن النار تبدأ تحرق صدري حين أظنّ مجرّد ظنّ أنها تمارس مع امرأة!

لكنّي أعمل مثل رجال المخابرات، فأنسى أني مع رجل.

أصرفُ الخدم والطباخ في المساء لينفرد بي السيد، هناك في السقف كاميرا خفية، يمكنني من زاوية ما أن أميل إليها قرب الحافة، فتتضح معالمه وهو عار عند التسجيل، معي علبة فيها قلم أحمر شفاه، لا يميزه أحد من أقلام أخرى في حقيبتي، حالما يبلغ به السكر ويغرق في النوم، أخرج القلم وأفتحه أمام أنفه، فيبقى نائما أكثر من ثلاث ساعات، عندها أغتنم الفرصة، فأفتح أدراج مكتبه وملفاته وخزانات ملابسه فأصور أي شيء.

هناك أيضًا أمامي على المنضدة بعض الصور له، ومنها صورة واضحة بابتسامة تعلو وجهه يتضح فيها فراغ بين سنّين؛ لكنه فراغ غير قبيح.

متوسط الطول.. ممتلئ.

أظنّ الآن أن السيدة النقيب تأكدت من أنّ البيت شديد الحراسة من الخارج، فلا مجال للهرب لكي تجعله يثق بها، وسوف تعاود إرسال الجميلات إليه من السجن بصورة سرّية لا يعرفها أحد.

بذلك يتحاشى الفضوليين والفضائح، وقد وعدها أنه سيثني عليها عند المسؤولين، وتعّهد أيضًا أن يمنحني مكافأة ممتازة.

وقد دخلتُ القصر.. راعني مارأيت من أثاث فخم، وإن كنت قد عشت من قبل في بيت زوج ثريّ، في الحقيقة قد لا يختلف هذا القصر كثيرًا عن بيتي السابق، لعله أفضل بقليل، غير أن وجودي في السجن، وتعود عيني على رؤية القضبان وملابس السجينات، جعلاني أرى الأشياء التي تعايشت معها في حياتي السابقة، تبدو جديدة عليّ، كما لو أن عيني لم تقع على شيء مثلها من قبل.

كيف يا ترى يكون بيتا زوجتيه، وبأية صورة تبدوان؟

هنا حيث باشرت مهمتي، وجدتُ أرضية المطبخ من المرمر، والجدران من الآجُرّ اللماع.. فرن حديث وعاملة جميلة، ومساعدات، وكان الشيف – وهوعربيّ - الرجل الوحيد في المجموعة، حاول أن يتقرب لي بحدود ووجدته يتردد، وكان لا بدّ من أن أبدو السيدة المطاعة، كنت بكامل زينتي وأناقتي، لا أبالغ إن قلت إنني بدوت الأجمل، ومنذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها المنزل، سألت الطبّاخة عن أكلة السيد المفضّلة، أجاب الشيف بأنه يفضلّ مرقة البامياء باللحم مع طبق رز أبيض، والدجاج المشوي مع الرز بالمكسرّات والزبيب.

هل هو نهم أم مجرد رغبة؟ شكّي تحول إلى احتجاج، قلت للشيف: لم أسألك يا معلم!

آسف.. أجاب ونظرَ إليّ نظرة كلها تودد أو رغبة مخفية، فالجميع بدوا مندهشين لهيبتي وجمالي، ثم توجهت إلى الصالة حيث قابلت الخادمتين، أبدو بشخصية قوية فيها بعض الليونة، لا يراودني خوف.. السلطة معي، لست سجينة بل موظفة في أهمّ جهاز بالبلد، أنا واحدة من مجموعة تجعل الناس يعيشون بأمان، مجموعة بأيديها أرواح المسؤولين وموظفي الحكومة، ذلك الهاجس سيظل يرافقني الى الأبد أو يجب أن يظلّ.

لم أرَ السيد بعد.

جلست في الصالة الفخمة بعد أن صرفت عمّال المطبخ والخادمتين، انتظرت دقائق، فسمعت خطوات على السلّم والتفتُّ فرأيته، لا يختلف شكله بالواقع عما رأيته بالصور، نهضتُ أفتعل ابتسامة فيها بعض الخَفَر، لم تكن مفتعلة؛ لكنه الحياء الذي يجتاح أية امرأة في مواقف كهذه.

اجلسي..

قال وقد انصرف إلى خزانة وأخرج مشروبًا ما ومسح الكأس جيدًا:

ـ الكثيرون يفضّلون الويسكي؛ لكنني مغرم بالبراندي.

وجلس ليسألني:

ـ أي شيء؟

ـ شكرًا لك.. لقد أكلت وشربت في المطبخ.

ـ ألا تشربين كأسًا؟

ـ لم أجرّب هذا من قبل.

ـ براحتك..

كرع كأسه بعجالة، ثم ملأ كأسا آخر وكرعه، وجعل يتلذذ ببعض الجوز وحبات الفستق.

وأظن أنه تخلى عن الإلحاح عليّ، لأن السيدة النقيب حذّرته من ألا يجبرني على أي مشروب لا أحبه، أو أن يستفسر عني وعن جريمتي؛ إذ أخبرتني أنها قالت له إني سجنت بسبب تهريب آثار.

بدأتُ أضع ساقا على ساق، وقد تركتُ فتحة الجلابية تكشف عن ركبتي:

ـ ميساء اسم جميل حقًا.

ـ شكرًا.

ـ الأفضل أن نصعد أليس كذلك؟

ـ كما تحب.

وضع ذراعه على كتفي، وبدأنا بالصعود ودخلنا غرفة نومه، أدار جهاز التسجيل على موسيقى هادئة، وجلس على حافة السرير، كان يكرع بنهم، سألته:

ـ هذا بيتك ؟ لم تتزوج؟

تجاهلتُ ما أعرفه، أو هكذا عليّ أن أفعل :

فضحكَ وقال وهو يمسح فمه بذراعه وراح صوته يتهدّج:

ـ لي بيتان وزوجتان.. لكنكِ شيء مختلف، أنتِ أجمل منهما، وأنا أحب أن أحصل على الأشياء الجميلة بتعبي، وليس بالطريقة السهلة كما هي الحال في الزواج! الزواج وظيفة نحن مجبرون عليها؛ على أية حال حين تنتهي مدتكِ، أستطيع أن أجد لكِ عملًا هنا في البيت، أو في أي مكان.

ـ شكرًا لك يا سيدي.

بدأتُ أتعرّى.. القرف دفعني إلى أن أتجرد من ملابسي بسرعة، مشهد الدم خطرَ بذهني، قالت لي السيدة النقيب: حبيبتي، والله لو فعلتِ مع امرأة لقتلتكِ، بعض الرجال التافهين لا يهتمون أن تفعل زوجاتهم ذلك مع نساء؛ لكنهم يعدّونه عارًا إن كان مع رجل، أنا بالضبط أفعل العكس.

لكن ذلك لا يمحو القرف من نفسي والغثيان.

...... رحتُ أتصور عوالم أخرى لأهرب من قرفي، ألوذ بمشهد الدم والمسدس بيدي، أتذكّر ذلك المشهد لأنسى هذا المشهد الذي أنا فيه ، ولا أنسى أن يتلاحق لهاثي ليظنني انسجمت معه.

أمثّل، قد أجيد التمثيل.

أقنع نفسي باللهاث الكاذب، والحركة المفتعلة، أني يمكن أن أكون ممثلة ناجحة.

........ حتى سكن وغلبه السكر ويده لا تزال فوق صدري، فأزحتها برفق وسمعت بعد لحظات شخيره، فلففت نفسي بثوبي وخطوت مسرعة إلى المنضدة حيث حقيبة يدي، ففتحت علبة المكياج واستخرجت القلم، رجعتُ بحذر إلى الفراش ورششت على أنفه، رشّة واحدة تنيمه ساعات، ثم تأهبت لعملي.

لا أحد سوى الحارس عند البوابة، والحرّاس الذين يراقبون في الخارج، ذهبت إلى المكتب فصورت الأوراق في الدرج، وإلى غرفة ملابسه فصورت أوراقا في جيوبه، صورت كل مكان ورجعت إلى الغرفة فصورته عاريا.

كانت شخصية النقيب تمنحني الاطمئنان والأمان، في هذه اللحظة شعرت أني أحبها وإني أنتقم فيقلّ نفوري.

أنتقم لنفسي من الخيانة. أشفي غليلي من دون أن أقترف جريمة قتل.

والقانون نفسه يحميني، فإذا ما تعثرت وجد لي ألف عذر وعذر.

أسبوع كامل أقضيه هنا، أحقق فيه كل يوم لي انتقاما جديدا، وزادني ثقة بنفسي أني رحتُ أضع كل ورقة وأي مستند أصوّره في مكانه، ولا أشك أنه سيستفيق ليعمل العمل نفسه معي مرة أخرى هذه الليلة، فارتحت للخاطر وعدت جنبه في الفراش.

في الصباح تركته نائما، استيقظت مبكرة قبل وصول طاقم المطبخ والعاملتين، رحت أراقب عن بعد وأوجّه كلا منهم إلى عمله، لا أدري هل يعرفون أنني محظية فيهابونني، أم تنقصهم المعلومات، كلماتي معهم مقتضبة وإشاراتي أوامر.

الشيف العربي حاول أن يتقرّب مني ويتودد إلي أكثر من غيره، قرأت رغبة مكبوتة في عينيه؛ لكنه لايجرؤ، لأن جمالي يبعث فيه هيبة أكثر من رغبة؛ ومركزي بصفتي مديرة المنزل في هذه الأيام يجعله أكثر حذرا، فيكتفي عن التودد بالكلام، بالتوسل، بالنظرة، وحين كنت في المطبخ جاءت الخادمة من الصالة لتقول لي إن السيد يطلبني، فذهبت وعدت أبلّغ الخدم أوامره، السيد خرج ولن يأتي للغداء، ليكن العشاء (قوزي)، هذا كل شيء، ثم قبيل الظهيرة دخلتْ عليّ وأنا في الصالة السيدة النقيب، وقفت.. فتابعها الجميع باهتمام، سألتني: أنتِ مدبرة المنزل المؤقتة؟

ـ نعم.

ـ السيدة ميساء القاضي.

ـ أجل.

ـ هل من الممكن أن أطّلع على هويتك؟

ـ خيرا!

ـ مجرد إجراء روتيني لتسجيلك.. أنت تعملين مؤقتا في منزل السيد رئيس غرفة التجارة المعني بالاستيراد والتصدير.

ـ إنها في الغرفة مع حقيبة ملابسي.

ـ لو سمحت.

تبعتني، وفي الغرفة سألتني بصوت منخفض:

ـ كل شيء تمام؟

ـ نعم.

ـ قلم أحمر الشفاه.

سلّمتها القلم، فأعطتني آخر، وأوصتني أن أنتبه، سألتها: هل تأتين غدًا؟

ـ كلا.

ثم علا صوتها وسط الصالة:

حسنا ربما يقرر السيد رئيس غرفة التجارة إيجاد عمل دائم لكِ، أظنكِ تقدّرين المسؤولية.

كنّا نجيد دورينا كأروع ممثلتين،عرفتها من قبل ممثلة رائعة، يوم عتّمت على علاقتي بها ، حين راحت تدعو إلى بيتها بحجة الخدمة مديحة وبعض السجينات، ولم أكتشف نفسي ممثلة إلا مع السيد رئيس غرفة التجارة.

في الليلة الثانية حدث ما كان في الأولى، ومع اقترابه منّي بدأت أغرق في ذكرى مشهد الدم، صرخت وتأوهت من الألم والقرف، فظنّني منسجمة معه، وزادني قرفًا...............

وهمس بأذني وهو في غاية الانفعال:

ـ ذلك ما لا تفهمانه، ربما الأولى تظنه حراما؛ لكن الثانية لِمَ ترفض!

وقبل أن يغفو قال: سأضطر الليلة القادمة إلى أن أغيب عند إحدى زوجتي.

دفعني فضول:

ـ الأولى أم الثانية؟

ـ الأولى.

ستكونين وحدكِ وسأعود بعد غد، لا أدري.. هناك، الحياة مملة باردة؛ لكن عليّ أن أذهب إليها.

تجرأت بسؤال آخر:

ـ ألا تسألانك عن غيابك؟

ـ أووه.. أنا لست هنا، بل إنّي في عمل سري، أو مهمة بمدينة أخرى، ثم لمَ تسألان، كل واحدة منهما لها قصر وخدم، سفر وحياة بذخ، لو سألت لقطعت لسانها.

وحين غفا رششت على أنفه من البخاخ، وخرجتُ أصور لعلني أعثر على وثائق جديدة.

لم أبال بالوقت، وأعرف أن الحرّاس يحومون خارج البيت، هناك كاميرا تنقل حركات الخارح في غرفة النوم، أما الصالة والغرف الأخرى، فتخلو من أية مراقبة، ولولا معرفة جهاز المخابرات بالأمر، لما كلفوني بالتصوير، قد يكون الجهاز نفسه قام بتأثيث البيت، وركّب أجهزته من خلال بنّاء يعمل لمصلحتهم.

في المكتب كانت الكاميرا التي تنقل خطوات الشارع مفتوحة؛ لكنه حين يمارس معي يطفئ كاميرا المراقبة، وأظنني تصرفت تصرفا حكيما حين أنهيت عملي بشكل متقن خلال الأيام الثلاثة الأولى، أما في الليلة الرابعة فقد ادّعيت أن الدورة الشهرية حلّت، فكفّ عني، قال إنه في الليالي القادمة سيذهب ليبيت عند زوجتيه ويعود إلى منزل الضيافة في النهار مع ضيوف أجانب، فكلّفت الشيف العربي بعمل الطعام وأشرفت كأنني مديرة منزل حقيقية على كل ما قام به.

عندما جاء الضيوف رافقت العمال إلى الصالة، فوقع بصري على رجل وامرأة أجنبيين، كان الرجل أبيض أحمر الشعر، والمرأة بيضاء طويلة القامة ذات شعر أشقر، كانوا يتحدثون على المائدة بلغة إنجليزية؛ لكنني توقعت أن هناك صفقة تجارية، وفي المساء كنت وحدي، فاغتنمت الفرصة ودخلت المكتب، لا أدري لمَ راودني هاجس خوف، ربما لأنني وحدي.

كنت أشعر بالأمان معه، وإن كان غائبا من سكر ومخدرا، فتحت الدرج، فوقع بصري على وثائق جديدة باللغة الإنكليزية، فصوّرتها وعدت إلى غرفتي، وقد شعرت بالندم لأنني لم أتمكن من تصوير الأجنبيين، وفي اليوم التالي جاء ثلاثة ضيوف أجانب، وقد سهّل عليّ مهمتي أن الثالث كان مترجما يتحدث اللغة العربية بلكنة واضحة، غير أنه متمكن من اللغة؛ كانوا من ألمانيا.

أمرتُ العاملتين أن تدخلا قبلي بعربة المشروبات، ووقفت في زاوية خلف الباب كأنني أراقب العاملتين من دون أن يراني أحد، أخرجت قلم أحمر الشفاه كأنني أعدّل منظري، مررت القلم على شفتي في الوقت نفسه ضغطت على نقطة ما أسفله، لم يراودني خوف، بل شعرت بالفخر، واستشفيت من الحديث أنه كان عن تصدير سلع ما إلى بلد صديق لبلدنا بوساطته، على أن لا تتعامل الدولة الصديقة مع شركة غير تلك الشركة لعقد من الزمن، وله مقابل ذلك عشرة بالمائة من الجانبين، وستمر البضائع ببلدنا، كون العلاقة بين الدولة الصديقة وألمانيا متوترة، أما فيما يخص بلدنا فقد راح السيد رئيس غرفة التجارة يتحدث عن سلعة أخرى ونسبة من الأرباح لمدة خمس سنوات.

اتفقوا على أن يوقعوا عقد الصفقة صباح الغد في وزارة التجارة، وتعهد بأن يراجع النصوص الليلة قبل أن يوقعها غدًا، هذه فرصتي؛ لكن هل يبيت عند إحدى زوجاته؟عليّ أن أتصرف بحكمة.

لو قرأت الغيب لما ادعيت أن الدم غزاني، ومثلما توقعت عاد وقت الغروب، عرفت أنه ترك الأوراق في المكتب، وأنني لن أستطيع الدخول بوجود خدم البيت، هذا المنزل للعهر وعمل الصفقات، وظيفتي أن أنقل للسيدة الضابط ما بداخله.

حين عاد، كان البيت خاليا من العاملات والطباخ، دخل المكتب، فانتظرت لحظات ثم طرقت الباب فسمعت صوته يناديني:

ـ هل من شيء؟

ـ أتحبّ أن أعدّ لك كأسا؟

ـ سأنهي مطالعة الأوراق وأشرب كأسًا أو كأسين وأرقد، ففي الصباح لديّ مؤتمر.

بقيت أنتظر، ثم ذهبت إلى غرفتي وغيرت ملابسي، ارتديت قميصا ورديا شفافا، تأنقت وتعطّرت وبالغت في إظهار أنوثتي، ورجعت إلى غرفته، ووجدته يشرب:

ـ قد تحتاجني؟

تطلع فيّ وقال مبتسمًا:

ـ لكن....

ـ لم أرد أن أكذب عليك، في البدء خيل إلي ذلك، ثم تيقنت أنه لا شيء.

بقي صامتا برهة وقال وهو يجذبني إليه:

ـ حقا الصدق شيء جميل، يبدو أنكِ مظلومة.

هذه المرّة وجدته ترك الأوراق على المنضدة.

كنتُ في غاية السعادة بعد قرف اللقاء، وكانت حبيبتي النقيب فرحة بإنجازي وقد استقبلتني عند باب القصر في المساء، لم تدخل ووعدتني أن نخرج غدًا إلى المصرف، لتدخل المبلغ الذي جاءني في مظروف من السيد رئيس غرفة التجارة في حسابي.

قضيت ليلة معها وكنت أشعر بالفخر، قبّلتها وسألتها:

ـ ألا تشعرين بالغيرة لأنني كنت مع رجل؟

ـ لو حدث ذلك مع أخرى لقتلتكِ.

ـ وماذا بعد؟

ـ أضع رصاصة في رأسك وأخرى في رأسي.

ـ اطمئني لن أخونكِ، محال، فأنت لي الوجود كله!

فنفثتْ الهواء بعمق وعقبّت:

ـ لا تظني أنكِ جاسوسة أومخبرة.. أنتِ مثلما نقول رجل أمن، سيدة أمن، وقد جعلتِ شعبة الأمن الوطني تطّلع على أسرار كثيرة، غير العري، سيفاجئون السيد رئيس غرفة التجارة بها حين يشعرون أنهم لا بد من أن يزيحوه.

فضحكتُ وقلت: السيد رئيس غرفة التجارة!

ـ الوقح يعقد صفقات لدول أخرى بأرباح من الطرفين.

ـ هل تظنين أنه سيطلبني مرة أخرى؟

ـ هذا ممكن إن كانت مديرية الأمن بحاجة ماسّة إلى ذهابك، هذا عمل أمني يقرره السيد كبير الدائرة.

وفي صباح اليوم التالي صحبتني إلى المصرف، ثم عدنا إلى البيت، فتركتني حتى رجعت من العمل، وكنّا دائما نقضي ليلة ساخنة إلى أن يطلّ الفجر، فتعود بي مكبلة إلى السجن.

***

ذكرى لعيبي – قاصة / ألمانيا

مـا مـرَّ طـيـفُك فــي كـوى أحــداقي

إلّا وشــــبَّ الــنـارَ فـــي الـخـفـاقِ

*

وتـلاطـمَتْ أمــوجُ بـحـرِ مواجـعي

هــــــدّارةً بــالــلـيـلِ و الإشــــراقِ

*

نـهرٌ مـن الآهـاتِ يـجري فـي دمي

وحــرارةُ الــتـنّـورِ فـي الأعــمـاقِ

*

وجيادُ عشقي في الضلوعِ حبـيسةٌ

وصهـيـلُها كـالـرّعـدِ فـي الآفـــاقِ

*

جـاشَـتْ كـمـا الـبركانُ في غـليانِـه

مــن ذا يــقـاومُ ثـــورةً الأشـــواقِ

*

فـبَـكتْ حروفي  مِثـلَ جـرحٍ نـازفٍ

يـنـسـابُ آهــــاتٍ عــلــى الأوراقِ

*

فـتـضـمّختْ حُـمْرًا بـلونِ  نـجـيعِها

وتــنـاثـرَتْ وردًا عــلــى الـعـشّـاقِ

*

هـلّا شَـمَـمتِ مع الـصباحِ أريـجَها

ولَـمَـسْـت فـيـها لـهـفةَ  الـمـشتاقِ

*

أمْ أنَّ طــغـيـانَ الــصـدودِ يــردُّهـا

لـتـعــودَ  مـتـعبـةً  مــن  الإخــفاقِ

*

فَـصَلِـي مُـحِبًّا قـد تَعَنّى في الهـوى

والــوصــلُ لــلعـشّـاقِ كـالـتـريـاقِ

*

قـد هـدهُ الـترحالُ فـي دربِ الـهوى

والـنـفسُ قــد عـانـتْ مـن الإرهـاق

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

بكل حروف الهوى اللائقه ْ

سأروي لكم قصتي العابقه ْ:

*

أنا ما استطعت ُالمنام.َ..ولم ْ

أذُقْ راحة ً.. ليلتي  السابقه ْ

وســــامرت ُما عِشْته ُبرهـة ً

نهاراً...وكانت له ُذائقه ْ

*

فأحسست ُأنه ُبالقُرب مني

أَحَاطَنيْ بالنظرة ِالناطقه ْ!

*

خَطَــــــا طَيْفه ُلعناقي هنا...

سَبَقْتُ  أنا الخطوة اللاحقه ْ!

*

عَرَفْت ُبأني أَليــــــق ُبهِ

لأني ورب الهوى صــــــادقه ْ

*

وأني أراهُ  بِوجدِ فؤادي

مــلاكاً زكياً بكل ثقه ْ

*

وأنهُ روحي... عليل الهوى

حياتي به ِ.. وله ُعاشقه ْ !!

***

محمدثابت السُّمَيْعي

منذ استمع إلى اسمها أيام كان طفلًا صغيًرا مهجرًا ابن مهجر، حتى بلغ أواسط الستينيات من عمره، وهو يفكّر فيها، وكان كلّما سمع اسمها أصابته رعدة وعاودته أمنية الوصول إليها. كما كان كلّما سمع كلمة ذكّرته بها يرنو إلى البعيد البعيد ويشدّ على قبضة يده قائلًا: سأصل إليها ذات يوم. وقد بقيت أيامه تجري على هذا النحو إلى أن زاره ملك الموت، أو خُيّل إليه أنه زاره، في إحدى الليالي، ونادى عليها.. فهتف من أعماق نفسه مناديًا إياها: زقفونة. فردّد الصدى: زقفونة. عندها فقط، فهم أنه لم يعد أمامه متسع من الوقت، وأن عليه أن يتوجّه صوبها وأن يدخل إلى ربوعها الحالمة. زقفونته كانت مدينة الحلم الجميل، كانت أشبه ما تكون بفرس ترفع أذنيها وتنطلق انطلاقة سهم نحو هدف محدّد.. هو وحده مَن يعرفه..

في تلك الليلة نام ولم ينم، قضى الليلة بين نوم ويقظة.. بعد غفوة قصيرة، دهمته قبل صياح الديك.. استيقظ. توجّه إلى أقصى مدينته. توقف هناك. بعد قليل جاءت ترانزيت توقّع توقفها بالقرب منه. صعد درجاتها الثلاث. دون أن ينطق بأية كلمة، شعور غريب قاده لأن يأخذ مجلسه هناك.. بالقرب من السائقة العجوز:

-كم عليّ أن أدفع؟ سألها.

-نصف ليرة. ردّت.

انطلقت الترانزيت تطوي الارض طيًا وعندما أطلّت على مدينته الموعودة سألته السائقة العجوز عمّا يريد فعله، فلم يحر جوابًا، فعادت تسأله عمّا إذا كان يريد أن يترجّل في بوابة المدينة. وعندما لاحظت أنه يغرق في غيوم صمته، فسّرت له قائلة إنه إذا ما ترجّل في مدخل المدينة فانه سيجد حاجزًا فاصلًا يشهر فيه الجنود والحراس أسلحتهم في وجهه ويمنعونه من الدخول. أما إذا رافقها إلى الشرق هناك حيث تقوم إحدى ضواحي زقفونة، فإن بإمكانه أن يعود معها إلى المدينة وأن تمكنه بالتالي من الدخول إليها. هزّ رأسه موافقًا على مرافقتها وانطلقت السيارة تشقّ الليل.

عندما أطلّت على مشارف الضاحية المقصودة لوت اتجاهها في طريق العودة، وحينما رأت السائقة العجوز علامات التساؤل تفترش وجهه، طمأنته قائلة ستدخل المدينة.. يعني ستدخلها. غير أن ما حدث اختلف فقد توقفت الترانزيت بعد سفرتها المديدة عند أحد الاسوار العالية، وغمزت له السائقة موحية.. لقد وصلنا. نزل من السيّارة ووضع يده على جيبه. استخرج نصف ليرة ونفحها إياه. تناولته ووضعته في جيب فستانها، وأولاها ظهرها. قبل أن يختفي وجدها تركض وراءه وهي تطالبه بالنصف الثاني. فَهِمَ من هتافها له أن تهريبها له عبر الضاحية يستحق نصف ليرة إضافية، غير أنه لم يتوقف.. هرب منها راكضًا نحو المدينة.

بقي يركض ويركض ويركض، وكان كلّما بحث عن ثغرة يدخل منها إلى زقفوتنه، ارتفعت الاسوار. أخيرًا دخل إلى باحة بيت اعتقد أنها ستدخله إلى المدينة، ما إن دخلها حتى ظهر له رجل أقرع مسنّ وخلفه امرأة مسنّة تُحكم ربط منديلها على رأسها. سأله الرجل ماذا تريد؟ أريد أن أدخل المدينة. ضحك الاثنان الرجل وزوجته، مرددين بسخرية أريد أن أدخل المدينة. لماذا تتضاحكان سألهما.. فسألاه، من أين أنت. سألهما وهل هذا مهمًّا؟ عاد الاثنان إلى تضاحكهما، وهما يرددان يبدو أنه من المدينة المتاخمة. غمز له الرجل وزوجته ان الحق بنا. وأخذ الرجل ووراءه زوجته ووراءهما يصعدون سلّمًا عاليًا. كان مركونا على الجدار الفاصل. أخيرًا بلغا قمة الجدار. ابتسم الزوجان، فيما أطل هو على مدينة السحر، الحلم والجمال. كيف أصل إليها؟ الآن ستعرف. تناول الرجل الاقرع المُسنّ حبلًا كان مركونًا هناك. وقال له بهذا الحبل ستصل. لست أول الحالمين. لقد أوصلنا سابقين لك وسوف نوصل لاحقين. أرسل نظرة إلى أسفل الجدار فرأي هناك بقايا عظام، أصابته حالة من الهلع إلا أنه تماسك. وسألهما في محاولة منه للتهرّب: كم تريدان مقابل مساعدتكما هذه؟ نريد بندقتين. ردّت المرأة المُسنّة هذه المرّة وتابعت تقول بندقة لي وأخرى له.. وأشارت إلى زوجها. عندها ابتدأ في النزول من على السلم العالي درجة إثر درجة. ضحك الاثنان.. ألا تريد أن تصل إلى المدينة ذنبك على جنبك. إذا لم يكن بإمكانك دفع بندقة. بإمكاننا التفاوض. اصطنع عدم الاستماع. حتى وصل أسفل السُلّم.

ركض حول السور في محاولة منه لإيجاد ثغرة، وكان كلّما سمع انسياب المياه في الداخل شعر أنه قريب من جنّة أحلامه.. وجنته الموعودة. وكان كلّما اعترضته شجرة أو صخرة تمكّن من تخطيها. كان مصمّمًا على الوصول مهما كلّف الامر وارتفع الثمن. لم يعد في العمر بقدر ما مضى. وعليّ أن أصل حتى لو كان وصولي في اليوم الاخير من عمري.

اندفع بقوة حلمة مقرّرًا أنه لا تراجع، وكان يستمدّ قوّته من قرارٍ شعارُه إما حياة وإما موت، إما أن أصل وإما أن أموت، وكان كلّما تقدم يشعر أنه يُضحى أقرب مِن حلمه. ألم يقولوا مَن سار على الدرب وصل؟ وأنت سوف تصل أيها العجوز. ستصل.. عليك فقط أن تواصل.. وتابع الركض. إلى أن شعر بقدمه تتوقّف على أرض تميد. أرسل نظره إلى البعيد ليرى مدينته الموعودة قريبة منه.. لكن بينه وبينها للأسف.. هوة سحيقة.. لا قرار لها.

***

قصة: ناجي ظاهر

....................

* زقفونه..؟

لأبي العلاء المعرى بيت مشهور يصعب فهمه بغير شرح . يقول:

ستِّ إن أعياك أمري فاحمليني زقفونه

وحين سئل المعري وما زقفونه يا أبا العلاء قال:

أن يحمل الإنسان إنسانًا آخر خلفًا لخلف . أو ظهرًا لظهر ويمشى . الحامل يمشى إلى الأمام أما المحمول فوجهه إلى الأمام ولكنه يمشى إلى الخلف. .

* زقف: التقط / تاج العروس

قطع حبال غربته وعاد للوطن لكنه لم يجد فرقا كبيرا إذ لم يتذكره من كان يعيش معهم ويشاركهم الوطن والألم فقرر دفن ذكرياته والتعامل مع الوطن كغربة من نوع مختلف يشق فيها طريق جديد لحياته على أن لا يكون في هذا الطريق من عرفوه أمس وانكروه اليوم فاتخذ له أسما مستعارا ولقبا لا يدل على أنه من سكنة هذا المكان رغم أن ملامحه ولكنته تكاد تفضحه احيانا ومارس أكثر من عمل حتى استقر في عمله الأخير وعرف بالتزامه وانضباطه وحسن معاملته.

في احد الصباحات لم يكن هناك زخم من المراجعين للدائرة وكان مذياعه الصغير يشدو بأغنية تتحدث عن الغياب والنسيان ومرور السنين الطويلة على ذلك فاخذ يدندن مع الاغنية مستذكرا تلك المرأة التي أحبها بكل صدق وإخلاص لكن تهمة (معاداة الثورة) حالت بينه وبين الاقتران بها ودفعته تلك التهمة للهروب تحت جنح الليل الى المنافي القصية حتى سرقت تلك المنافي ومدن الغربة اجمل سنوات عمره من دون أن يتفقده أحد أو يعرف هو شيئا عن امه وأخته المعاقة بدنيا فانحدرت دمعة حرى على خده من دون أن يعترضها أو يمنعها من الانحدار على صفحة خده الذي سالت عليه قبلها آلاف الدموع من دون أن يحلم بمن يربت على كتفه ويكفكف دموعه.

. بعد انتهاء الاغنية طلب لنفسه شايا وأشعل سيجارته وسرح بأفكاره بعيدا مع المجهول الذي لا يعرف ماذا يخفي له ثم ألقى نظرة على السجلات التي امامه وبدأ بترتيبها فحملت اليه مسامعه سلام بصوت أنثى مرتجف فرفع راسه للاعلى ورد السلام مردفا معه بكلمة.. نعم

فأخبرته ان لها هنا معاملة وأوراق راتب تقاعدي تخص زوجها المتوفي بحادث إرهابي وأنها تروم اكمالها وتطلب مساعدته في ذلك فسالها عن تاريخ التسليم واسم الشهيد ثم طلب منها الجلوس على الكرسي القريب منه.

. فتح الملف وقرأ اسم المتوفي وبقية أعضاء الأسرة لكن اسم الزوجة كان أشبه بقنبلة موقوتة تنفجر في راسه اعاده مرتين وثلاثة بينه وبين نفسه ثم سألها عن علاقتها بالمتوفي فأخبرته انها زوجته فسالها عن اسمها فكان مطابقا لما موجود في الأوراق الرسمية فوضع الأوراق جانبا وتفرس في وجهها لكنه لم يصل إلى تلك الصورة المحفورة في خياله.

. طلب شايا له ولها واستماحها عذرا بأنه سيدردش معها قليلا بعيدا عن المرحوم وأوراقه التقاعدية فانتفضت في وجهه ووبخته وقالت بصوت مسموع..

كلكم هكذا تعرقلون سير معاملات رواتب الأيتام وتشغلون انفسكم بمساومة الأرامل على اجسادهن فإذا كنتم لا تعرفون الحياء ولا تخشوا ان يحصل لنساءكم مثل ما حصل لنا فخافوا الله الواحد القهار فرد عليها بصوت خفيض محرج.. اتقي الله انا لست منهم لكن بيني وبينك حساب طويلا ان كنت فعلا فلانة التي فارقتها منذ ربع قرن.

سالته..

انت من؟ وما هو نوع حسابك معي مع اني أجزم اني لم ارك  في حياتي

. ان كنت فعلا فلانة فأنا فلان الذي احبك بإخلاص ودافع عن حبه لك من دون جدوى وبعد زواجك ترك البلد ولم تنسه اياك كل سنين الغربة ومدنها.

. ايعقل انت فلان؟ ولا يوجد فيك شيئا من الماضي يدل عليك.. اين الوسامة وبريق العينين والامل والإصرار؟

. لا تنسي انك أيضا أخذت منك الحياة الكثير وغيرت ملامحك حتى لم استدل عليك ولولا الاسم الموجود في الأوراق لما راودني ولو شك بسيط انك فلانة.

طيب تعال نستذكر الايام علنا نتأكد كل من صحة كلام الآخر

. نعم لكن بعد أن اكمل ما يتعلق بي بخصوص معاملتك

. جاست كل ذكرياتها من أيام المدرسة حتى يوم رفضه أهلها فلم تجد في الحاضر أمامها من الماضي غير ثقته بنفسه ومع أنه لم يكمل النصف الأول من اربعينات عمره الا انه يبدو كم قفز فوق الستين لكنها اخيرا اقتنعت انه هو من رقص له قلبها يوم كان فتيا وربما تحتاج إلى جلسة طويلة معه.

. اكمل اوراقها في القسم الذي يعمل فيه واعادها لها وتمنى عليها ان تتفرغ يوما لانها الوحيدة التي يمكن أن لا تتنكر له وتشترك مع بذكريات جميلة.

. اكملت معاملتها واستلمت الراتب التقاعدي وشكرت له وقفته معها فابتسم وأخبرها انها لن تكون ماضي مهما طال العمر.

. التقيا أكثر من مرة في أماكن عامة وزارها في بيتها وزارته ولما وجد أن الوضع مناسب عرض عليها الزواج فوافقت مبدئيا لكنها طلبت منه مهلة لترتيب وضعها ودام التواصل بينهما حتى أخبرته باكتمال الأمور من أجل زواجهما وتم ذلك سريعا مشترطة ان لا يسجل الزواج رسميا في دوائر الحكومة لكي تحتفظ بالراتب التقاعدي وفي ليلة الزواج اخبرها وهو بفرح ظاهر انه اليوم أنهى غربته وعاد إلى وطنه.

***

قصة قصيرة

راضي المترفي

مُوَلَّهٌ بِحُبِّكْ

هَوَاكِ يُشَطِّرُنِي وَقَلْبِي مُوَلَّهٌ

لِحُبِّكِ يَا نُورَ الْجِنَانِ يَعُودُ

*

وَحُبُّكِ كَالْأَمْوَاجِ نَارٌ وَجَنَّةٌ

فَإِمَّا غَرِيقٌ أَوْ هَوَاكِ يَجُودُ

*

أَقُصُّ عَلَى الْأَيَّامِ سِفْرًا مِنَ الْهَوَى

يُجَاوِبُ هَمْسِي فِي الْمَحَبَّةِ عُودُ

*

وَعَزْفٌ عَلَى الْجِيتَارِ يُلْهِبُ حُبَّنَا

تُنَادِي عَلَيْهِ وَجْنَةٌ وَخُدُودُ

*

أَهِلُّ بِنُوري فِي الْغَرَامِ وَطَلْعَتِي

يُتَابِعُهَا فِي الْعَاشِقِينَ عَدِيدُ

*

مُعَلَّقَةُ الْجِيتَارِ حَازَتْ مَدِيحَهُمْ

وَيَحْمِي حِمَاهَا فِي الْغَرَامِ جُنُودُ

*

أُحَاوِلُ أَنْ أَحْظَى بِحُبِّكِ حُلْوَتِي

وَيَشْقَى بِحُبِّي لَائِمٌ وَحَسُودُ

***

شعر. أ. د. محسن عبد المعطي.. مصر

1- التمثال  ــــــــــــــ

ماذا افعلُ

لو كان التمثالْ

يتحدث عن سيرة صاحبه

أأقولُ لكم

ماذا قالْ ................؟

**

2- وجع ــــــــــــ

مازالتْ جيكور

تتذكر صورته الأولى

كان البدرُ .. بدشداشته البيضاء

يمشي

بين (بويب) وبين البيتْ

مثل حكاية حبّ

عن حزنٍ... مسرورْ

يمشي

ويدور... يدورْ

يتعثر في خطوتهِ

فيمدّ يداً

يتحسّس بعض الآلام:

ويصيح بأعلى صوتْ

ماما ...ماما

فتهبّ الجّدة مذعورة

ولدي

ولدي

يصح

يسمعُ جدّته يا ولدي ل اتخف الآنْ أنت صغير.. ولطيفْ

لن تأتي في دربكَ

خضرة (أم الليف) هي نائمة في البستان

وتخافُ تراتيلي

تخفْ الآن لا

لا تسقط ْ في النهر

أنت الأجمل

أنت الكنز الشعرْ -

تأخذه بالرأفة

بين رفيف الأغصانْ

وتعود الى البيتْ

_ نم يا ولدي نم

يا بدر هنا نم

احلمْ..

احلمْ...

يا ولدي...

لا تحلمْ الا في اجمل عمر أو أسعد وقتْ ....!

**

3- أحزان باب سليمان ــــــــــــــــــــــــــــــ

مازال السيابْ بالضوء الطالع

من باب سليمانْ

يحمل بين يديه سلالاً

من التمر

ورزمة اوراق (شبه كتاب)

منتظراً صاحبه سعدي

سيطلّ عليه

ويقرأ مرثية

لقرى ، كل حدائقها

ومباهجها

غارقة

في بئر النسيانْ

**

4- هامش ضائع ــــــــــــــــــــــ

مازال السيابْ

يمشي في طرقات تنبع ذاكرة

ويغني للفقراء

و وراء الليل النائمِ

كان على هامشهِ

يغلق باباً

يفتح شباكاً في بابْ

– يتذكر ..

ينسى .. يتذكر ثانية

ويغيب

وراء ظلال الماضي الملتفّ

بأزهار ذابلة

وتهاويل اساطير العشق الممنوع

في عبء الدرب الممتدّ وحيداً

– يتلّفتُ –

كم سنة سقطت ..؟

يتماسك ..ينطقُ باللغة العربية سأطلّ على الزمن القادم في شكل آخر

لا يدري الشعراءْ-

يستبدل وقفته

بالسير بأمطار .. وغيومْ

يدرك صوتاً عن بُعدٍ..

(تصفعه الريح الريح):

سترى وجهك في قطرة

يدرك صوتاً ثانية

جيكور هي المأوى

بين مرافئ وحدته

يعرف سرّ المشي على القدمين

المشية بصمات العينين

كانت تمريناً

لكتاب لم يفتحْ

ينشر عطراً بخشوع، لقصائد غربته

في كل مكان

**

5 - وفيقة

مازال السيابُ

حزيناً

في جيكورْ

يجلسُ في الدرب

وحيداً ..في وهج الرؤيا

ورذاذ الشعر على الشفتين

يسأل أين ..؟

يتذكرّ وجه وفيقة

ينظر للشباك - لابد لها ...!-

يتذكر..

يرسم كل ملامحها

يتأوّه

يبكي

ويضلّ طريقه ..!

**

6- اخت السياب

كان اسمها حياة

حديثها جميل

وقلبها

يشعّ بالحبّ النبيل

في زرقة الأفقِ

تصلّي للسماءْ

وتقرأ الفاتحة

لشاعر عبر مسافات الأسى

قد نضجت ثماره

وانتشرتْ زكية

من قلبه الرائحة

.......

كان أسمها حياة

لكنها

على مشارف الرحيل ..!

تحلم بانبلاجة الصباح

شوقاً

الى البدر الذي

يلمّ اشتات المنى

في صحفٍ هناك

وقد ترن في خلايا

روحه قصيدة

فوق تراب المقبرة

في لغة جديدة ....

.....!

كان اسمها حياة

تمشي بلا ارتباك

لكنها

تبحث عن رماد حلم

قد مضى

وظل في الف صدى

يفتح في صمت الحزانى العاشقين

توهّج الضياء

...................

حياة .. يا حياة

سيابنا مات

كوني كما شئتِ

وباركي الرحيلْ

مازال في الأصلابْ

سرّ الهوى

يولد ... لا يموتْ

لا تحزني حياة ... يا حياة

ها أنت ترحلين

نحو ذرى المجهول

في ليلة

تزحف للسراب

والريح في كل الجهات

تئنّ في أبعادها:

قد ماتتِ الحياة ...!

***

شعر: حامد عبد الصمد البصري

شاعر عراقي صدرت له خمس عشرة مجموعة شعرية وكتبت عنه أطاريه ورسائل جامعية وكتبت عنه دراسات وبحوث شاعر من أبي الخصيب

لم يستطع أن يغفر لها تفريطها برؤيته، بسبب مسلسل يُعرض في رمضان. ثم قرّر فجأة أنها لا تناسبه.

إنها نرجسية، وسطحية. لم تقرأ كتابا يوما، ذوقها في سماع الأغاني بدا له سوقيّا.

لم يستطع النوم في تلك الليلة. كيف يُعقل أنها دخلت إلى قلبه، بتلك السرعة والقوة، وهي على ما هي عليه من ضحالة فكرية.

مع إنبلاج الصباح، بذاك السطوع، كان قد سطع معه قراره المهم بإبعادها عن حياته (فلتذهب هي ومسلسلاتها الرمضانية إلى الجحيم، وأغانيها ذات الإيقاع السريع الصاخب، وفوضويتها المقيتة).

نام مطمئنا بعد أن حزم أمره تماما.

لم يصحُ إلّا في الساعة الحادية عشرة صباحا، حيث رنّ هاتفه القريب من سريره. كان قد نسي جعله على الوضع الصامت.

ظهر إسمها يومض على شاشة الهاتف (ريام تتصل بك). تذكر قراره، وتذكر مسلسلات رمضان، وعناوينها المتزاحمة في حديثها، عرف جيدا إنهما لو التقيا، فسوف تحكي له ما حدث في قصص المسلسلات، فضلا عن إنها ستخبره بحماس عن شكل الممثلة الفلانية، وأعمال الممثل الفلاني.

تغافل عن نبضات قلبه المتسارعة، وهو ينصت لصوتها، ثم جمع أطراف شجاعته معتذرا عن لقاءها. عندما أغلق الهاتف كان حزينا، لكن نشوة الإنتصار على قلبه كانت مرضية تماما لروحه.

‏فيما بعد فعل كل شيء بسأم. وتمنى أن تتصل به مرة أخرى، مذكرا نفسه بنكهة الشاي الذي  تعدّه ولذة أطباق الحلويات القادرة على بث السعادة، وهي تقدمها له مع ابتسامة كبيرة(تبا كان بوسعي تحمّل سخافة جميع الأعمال الدرامية الرمضانية من أجل عينيها السوداوين ورموشها الكثيفة، وضحكتها ويديها الفنانتين، حتى طريقة تفكيرها الطفولية، وسذاجتها كان بالإمكان التغاضي عنها).

‏لم يصدق عينيه وهو يقرا على شاشة هاتفه ذي الرنين الهاديء( ريام تتصل بك).

‏تصنّع البرود وهو يقول(الو)

‏-عزيزي انا أعد الآن كعكة كبيرة، إنها بكريما الكاكاو، أحتاج إلى البيض حالا.

‏سكت لبضع لحظات، ثم قال بتصنّع:

‏- حسنا.

‏وهو يخرج من البيت باتجاه السوق، خالجه شعور بالحيرة والغضب( كلا .. ينبغي فسخ هذه الخطوبة ..إنها بليدة جدا، أو ربما ماكرة).

‏في منزلها، كان عليه أن يجامل مبتسما أمّها، التي ستحدثه هي أيضا عن شهر رمضان، ومسلسلاته، وعن تعبها في المطبخ، ثم عليه أن يضحك راضيا مع أخيها الصغير ويقبّله مكرها على خدّه، ويتبادل معه قذف الكرات، وعندما يأتي والدها للسلام عليه، سيكون من الحتمي الدخول في نقاش جاد حول أزمة المياه ونظام الإنتخابات الجديد، وعلاقة العراق بتركيا وإيران، وأخيرا يحط رحاله مع تداعيات حرب روسيا على أوكرانيا.

‏وقبل أن يخرج بقليل، تأتي ريام، بثوبها الطفولي القصير وشعرها المجعد وابتسامتها الكبيرة، وهي تقدم الصينية، وفيها كوب شاي وطبق حلوى وقد تناهى إلى أسماعهم صوت المؤذن بالتكبير.

‏باردته بانفعال:

‏- هل رأيت ما حصل في مسلسل الإنتقام؟

‏-ماذا حصل؟ هل مات البطل؟

‏- كلا لم يمت. لكن البطلة مصابة بالسرطان.

‏- تبا ! هل ستموت ؟

‏-لا اعرف.. لو ماتت فسوف لن أتابع مسلسلا بعد اليوم.

‏(تمنيتُ حينها أن يكون المؤلف من ذلك النوع الناضج الذي يقتل أبطاله)

‏تناول الكعكة، وشرب الشاي بشغف كبير، وهو يصغي بملل ولا مبالاة إلى أحداث مسلسلها المفضل، عازما على أخذ قرار جديد في الغد.

(... مثل الجفافي...)

تعلمت ان تروض نفسها. تحسب خطواتها المرتجفة، كلماتها المترددة، حركة شفتيها الجافتين، مكياجها الخفيف لاخفاء شحوب وجهها، لون الكحل تحت عيونها الوجلة، طريقة جلوسها الى الكرسي أيضا...

ـ ابنتي، عيون الناس لا ترحم وأنتِ ...

ما أن اجتازت باب القاعة الرئيسي، حتى هاجمتها وواجهتها الاضوية المشعة، اللافتات الملونة، البالونات في صدر القاعة مع باقات الورد البلاستيكي وابتسامات نساء ورجال التشريفات الذين صاحبوها خطوة خطوة وهي تتجه نحو مكانها في مقدمة الصفوف. شعرت أن ظهرها النحيل تخترقه عشرات الازواج من الأعين المتفحصة لكل شيء فيها وتتابع خطواتها. رجال ونساء مجهولين لها، لكنهم يعرفونها جيدا. بعضا منهم قابلته في مناسبات سابقة، ربما تحدثت معهم، ربما شدوا على اصابعها النحيفة المرتجفة، حدقوا في عينيها الذابلتين الوجلتين وسمعت كلماتهم المعادة التي يقولونها دائما بصوت خافت، بتلك النبرة التي صارت تؤلمها. تعرف ان كثيرين ربما حتى نسوا اسمها، وحتى ان عرفوه فهم يتجاهلونه، لم تعد بالنسبة لهم سوى:

ـ ارملة الشهيد!

طلقات كاتم الصوت الجبان، التي تسللت تحت الظلام في غفلة عن يقظة حبيبها الذي عرف بين اصحابه بأنتباهته وذكائه، رسمت مسار حياتها الجديد تحت عنوان في بدايته كان مبهرا ومشرفا، لكنه يوما بعد اخر صار ثقيلا جدا:

ـ أرملة الشهيد!

سنوات وهي تتحرك داخل هذا الأطار المعقد. في البدء كانت تتفاخر به كثيرا، لكن ما ان راح الاخرون يدفعونها اليه، مستغلين حبها ووفاءها لحبيبها، حتى صارت تضيق منهم. في كل مناسبة، في كل حدث يرن هاتفها المحمول الذي صار الجميع يعرفون رقمه:

ـ ...، ولأحياء هذه المناسبة قلنا ان من المفيد ان تشارك ارملة الشهيد لذا اتصلنا بك ونعتقد ان ...

صارت تعرف متى يستدعونها ومتى يتذكرونها. تعتقد انهم يضعون اسمها في نفس القائمة لتهيئة قماش اللافتات والبالونات والورد الاصطناعي. اذكياء في استغلال حبها ووفائها لحبيبها. تنتهي الاحتفالات الصاخبة ليعودوا الى زوجاتهم واطفالهم وصخبهم وتعود الى غرفتها حيث صورته المأطرة بالاسود لترى وجهه النحيل وعينيه الواسعتين تلومناها بأستمرار. حبيبها سبق الجميع في رؤياه لهذه الايام، وكأنه يستشف أيامها القادمة:

ـ لا أريد لنبرة الشفقة ان تحيط بك وبحياتك.

قالها وكانت قد مرت بضعة اسابيع على اغتيال أحد أصحابه المقربين. ظل لايام حزينا مهموما، يجلس الى النافذة القريبة يحدق الى الفضاء البعيد وعيناه تلمعان بالدمع. وقف عند باب الحمام بجسده النحيل، يفرك بالمنشفة شعر رأسه الكث، ثم فجأة ناداها بنبرات كانت تخشاها، اذ طالما ما سمعت منه أراء حازمة وواضحة يقولها بتلك النبرة التي تلازمه بعد تفكير عميق:

ـ حبيبيتي، اتعرفين بماذا كنت أفكر وانا تحت رشاش الماء؟

من أين لها ان تعرف أي رؤيا خطرت له هناك وهو يتطهر من غبار وتعب نهارات العمل المضني في المستشفى، وفي رأسه وروحه تتفاعل افكار حية واحلام نضرة لحياة جديدة للبلاد لما بعد سقوط صنم الديكتاتورية؟

ـ الظلاميون لن يتوقفوا عن محاولاتهم لقتلنا، فنحن من نقف بوجه مشاريعهم الظلامية، وأعرف ان اسمي، مثل كثيرين، على لائحتهم ...

وارتمت على صدره المبتل، فاحتواها بذراعيه الحانيتين والقويتين، ورفع باطراف اصابعه وجهها، لثم شفتها وواصل:

ـ لو ... اقول لو نجحوا ...

وغامت عيناها وشهقت:

ـ كيف لي بالحياة من دونك؟

ابعدها عنه قليلا، ولكنه لم يفلتها من بين ذراعيه:

ـ بالضبط هذا ما اريد قوله لك يا حبيبتي، علينا ان نقول لهم بشكل فعلي ان حياتنا لن تتوقف، وعليك ان تواصلي الحياة لا تجعليهم ينتصرون علينا بمفخخاتهم وبرصاصات غدرهم، فالحياة لا تتوقف عند موت رجل او امراة!

كيف لها ان تكون قوية مثله، وهو يحلم بالمستقبل البعيد؟

ـ نحن لا نعمل لحاضر قريب، نحن نعمل لمستقبل ربما لن نراه، لاجيال يجب ان لا تعاني مثلما عانت اجيالنا!

كيف لها، ان تخرج من إطار حبها له، وتتفهم حبه للناس والحياة:

ـ نذرنا نفسنا لفكرة سامية، وعلينا ان نكون مخلصين لسمو هذه المباديء وليس لذواتنا!

كيف لها ان تكون مثلما يريد حبيبها والاخرين يطوقونها بأسمه ويستفزون حبه لها ووفاءها له. لم تعد عندهم اكثر من كونها:

ـ ارملة الشهيد!

في الاحتفالات، المناسبات، المهرجانات والاجتماعات، لها كرسي محجوز دائما، في الصفوف الاولى، ما ان تصل حتى تسمع الهمس بنبرات خافتة:

ـ وصلت ارملة الشهيد!

ـ افسحوا الطريق لارملة الشهيد!

ـ هات نسخة من البرنامج لارملة الشهيد!

ـ ..... !

دائما هي هناك، في الصفوف الاولى، خافضة العينين، شاحبة الوجه، مكللة بالسواد، تتخاطفها عدسات المصورين، الى جانب القادة وجلاس الكراسي الامامية بربطات عنقهم البراقة وكروشهم المندلقة، صورها تظهر احيانا في الصحف وبخط عريض يكتبون تحتها:

ـ ارملة الشهيد!

اذ تمر بين صفوف الناس، ينحنى لها بعض الواقفين احتراما بصدق ومحبة، ترتفع الايدي تحييها، ابتسامات تفترش الوجوه، وتسمع الهمس والاعين تشير لها خفية:

ـ ارملة الشهيد!

امها وعمتها وزوجة خالها، وكأنهن متفقات:

ـ ابنتي، انت عاقلة وذكية، انت ارملة شهيد كان اسمه يهز جبال كردستان، انتبهي الى نفسك، عيون الناس لا ترحم، فأنتبهي الى ...!

صارت تخاف صوتها، صارت تخاف الوقوف الى المرآة لتتملى وجهها وجسدها الناحل، لم تعد تبال للتجاعيد التي صارت تظهر تحت عينيها، لم تقرب طلاء الاظافر من سنين، في خزانتها تتكدس ألبسة من لون واحد، ملابسها الداخلية وقمصانها وثيابها من لون واحد. الاسود ولا لون غيره. أختها التي تشابهها في القياسات ولم تتزوج بعد، لم تعد تشتري لنفسها اي ثياب بلون اسود، ففي خزانتها تجد كل ما تريده، فالاسود هو عالمها. اختفت الاغاني والموسيقى من سماء روحها، لم يبق سوى صدى لاغان سمعتها يوما وطربت لها، واهتزت لها شغاف قلبها ...

(ثاري البنات اشكال .... !)

هز منديله، ضرب الارض بقدمه فتطاير التراب فأشاح القريبين منه وجوههم واشرأبت برقبتها من خلف كتف اختها تنظر الى قامته الناحلة، وعينيه تلاحقانها وعيون امها تفيض بنظرة فرح غامضة. سنين طويلة، لم تقرب المذياع لترفع صوته بأغان طالما سمعتها واياه. كان يملأ لها حياتها، لم تستطع بعد غيابه ان تتصور انه يمكن لرجل غيره ان يملأ غيابه في حياتها. تقدم العديدين لخطبتها، اعتذرت للجميع. شعرت بالقرف من اللذين فهمت انهم يريدون الزواج من "ارملة الشهيد". لم تعد تعرف من عالم الرجال سوى التحايا والايماءات. يوم ان صافحهها أحدهم بحرارة، همست عمتها:

ـ لم اطلتِ الوقوف معه؟

ـ كان من اصحاب زوجي!

ـ لكن هذا الرجل بالذات يوجد عنه قصص كثيرة مع النساء و ...

ـ وهل تظنين يا عمتي أني سأكون في قائمة نسائه بمجرد ان رددت عليه تحيته وسألته عن زوجته واطفاله؟

صارت تخشى ان تصافح من لا تعرفهم، ترى في العيون مشاعر القلق والتضامن والشفقة، ويوم صافحها أحدهم وضغط باصابعه على باطن كفها ظلت لايام ترتجف. ماذا كان يريد منها؟ ماذا كان يقصد بتلك الاشارة؟ هل كان ذلك عفويا؟ ام انه كان متقصدا؟ وماذا كان يريد؟ لم تعد تعرف من عالم الرجال شيئا؟ بل وتكاد تنسى نفسها وجسدها. حين يقبلها اقاربها وناسها على وجنتيها او جبينها كانت تشعر بحمى تلتهب تحت جلدها. صار جلدها يتحسس لكل فعل خارجي. اختها انتبهت الى ان وقت اغتسالها واستحمامها صار قصيرا على غير عادة النساء. صارت تخشى الانفراد بجسدها الناحل. اذ تنام ليلا صارت تضع ذراعها تحت الوسادة. كان حبيبيها قد انتبه الى طريقتها في النوم وهي تضع كفيها بين ساقيها المضمومتين، فأبتسم مشاكسا بشكل فاجأها:

ـ اتحمين شيئا هناك؟

كان الرجل الاول في حياتها. من سبقوه لم تجعلهم يقتربون منها كثيرا لتعرف منهم شيئا من عالم الرجال كما تسمع من صاحباتها وقريباتها وقصصهن. ابن الجيران الذي لاحقها طويلا، اذ شعر بأنها تستهويه راح يقذف لها رسائل ملفوفة بحجر، واكتشفت انه يكتب لها كلمات اغاني من الافلام الهندية التي يدمن مشاهدتها، فكفت عن متابعته عبر الحائط المشترك بين بيتيهما. حبيبها كان اول رجل تلامس اصابعه جسدها تحت ثيابها. تزوجا عن اعجاب متبادل سرعان ما تحول الى حب متكافيء. سمعت عنه كثيرا من اقرباء لها، عن ايام وجوده في الجبل ومقارعته للنظام الديكتاتوري. ابوها كان يعتبره بطلا لا يتكرر:

ـ هذا رجل لا يوجد مثيل لشجاعته، يأخذ طعامه من فم الاسد!

يوم حضرت زواج بنت عمتها كان هناك. مر بقربهما حين قالت اختها بصوت سمعه:

ـ أهذا هو؟

والتفت والتقت عيناهما وأبتسم، فلم تستطع الا ان ترد بأبتسامه. لم يكن يكبرها كثيرا كما قالت عمتها.  نحول جسده يجعله يبدو أصغر سنا. في الحفل تطايرت الاغاني والدبكات، لمحته كيف طرب كثيرا لاغنية صارت لاحقا تتردد كثيرا في بيتهما المشترك:

ـ  (ثاري البنات اشكال مثل الجفافي

بيهن تخون بساع وبيهن توافي).

لوح بمنديله وهو يدبك، يبدو ان كونه طبيبا بين المقاتلين، لم يمنعه من تعلم الدبكة جيدا. قيل لها انه كان يحضر المعارك كطبيب وكمقاتل. وصفوه بالجرأة التي لمستها وهو يرمقها عدة مرات بنظرات متفحصة، فأصلحت من منديلها على كتفيها، لمحت امها وعمتها يتابعن نظراته اليها. بعد أيام جاءتها اخته واختلت بها طويلا وجعلتها تغط بالعرق وهي تسمعها كلامه. بعد اسبوع لم تتفاجأ حين اخبرتها امها بقدوم بعض وجهاء المدينة لخطبتها له. ليلة الزفاف لم يقربها وتركها يومين ترتب قلقها. كان يقدر خجلها وارتباكها، وحين انتهى كل شيء، وهي تشهق كأنها تغوص في ماء عميق، أطلق ضحكة مجلجلة:

ـ (ثاري البنات أشكال..!)

كل هذا صار حلما. حلما مرّ وانتهى وصار بعيدا. تشعر احيانا بنظرات شبقة تتطاير من أعين رجال يصادفونها، فترثي لهم ولحالها.  لم تستطع ان تكون وفية لوصية حبيبها، ان تواصل حياتها مثلما كان يريد، ان تعشق من جديد وتحب من جديد وان ترقص وتغني وتشهق وتغرق في مياه عميقة مع رجل غيره. حياتها توقفت حالما انطلقت رصاصات الغدر التي سلبت منها كل ملابسها ومناديلها الملونة والمزخرفة، طلاء اظافرها، ملابسها الداخلية الملونة، ثيابها القصيرة وتنانيرها المزخرفة بالدانتيلا، اغانيها والاشعار وطعم القبل وسر الشهيق.

يوما، وجدت نفسها لوحدها امام خزانة ملابس اختها فأرتدت دون وعي منها وعلى عجل أحد فساتين أختها الملونة. في المرآة اكتشفت نحول جسدها، تهدل نهديها، وتغضن جلدها. واجهتها أمراة ثانية لا تشبهها، لا تعرفها، امراة صارت تختفي خلف اسم اخر، جمالها بارع، لكنه خاص جدا، أمراة رقص قلبها يوما على ايقاع اغنية بعيدة ...

ــ (ثاري البنات اشكال مثل الجفافي!)

***

قصة قصيرة

يوسف أبو الفوز - هلسنكي

31 آب 2012

رواية قصيرة

بعض من سيرة أخي الخطاط أسعد

***

العتبة السادسة: السجن يسبق

السجن قبل أيّ عذاب

أظنك لم تكن محقّا حين اخترت الوزارة

أنت فنان، موهبتك أكبر من أيّ منصب وإن يكن عصرنا لا يراك من ذوي المواهب

فاخرج مادمت اخترت الوزارة أخرج - بعد أن عشت مرفها- متخفيا

بعدة صور:

مرة بهيئة رجل أعجمي

ومرة بشكل شحاذ

وأخرى تصبح امرأة منقبة

وثالثة

ورابعة

ومازال أمير الأمراء محمد بن رائق يطاردك حتى أودعك السجن

الفصل السادس: أنا وسيادة العقيد

هشام محمد مجيد حمادي

العقيد هشام... اسم محفور في ذاكرتي

بعد سنة من اعتكافي في البيت دخلت العسكريّة وكانت الحرب قد اندلعت

كنت خلال تلك السنة أمارس هوايتي: الخط بيدي اليمنى السليمة أطرد رتابة الزمن وفي الجندية تشكلت لجنة طبية فأقرّت عوقي

وعند أطراف مدينة البصرة وسط الصحراء في مركز الدريهمية (6) عشت مع المتدربين.. أيام لابد منها..

في بداية حياتك العسكرية سواء أنت سليم أم معاق يقذف بك مع من يتدربون على السلاح. كنت أمارس الخط وسيادة العقيد آمر المركز يعجب بي وإذ حل عيد الجيش سأل بعض الحنود والمراتب الآخرى عمن بستطيع أن يلقي كلمة بالمناسبة ، فتطوعت. كنت من قبل سمعت عن جدي الشيخ عسكر (7) كيف دخل الجيش وانتقل مع الفوج إلى بنجوين.. فأعجب بي سيادة العقيد وجعلني خطاط المركز ومسؤولا في الرقابة والإعلام.. وفي اليوم ذاته جاءنا وفد عسكري. يتحدّث عن الحرب والشجاعة والجبهة الشرقيّة وحالما انتهى الرمز الكبير من مهمته، وفُتِح باب النقاش استأذن جندي ساذج أو يبدو ساذجا ونهض يوجّه كلامه إلى الضيف الرمز الكبير كان يستشهد بقول الرمز الأكبر السيد الرئيس: سيدي العميد الرئيس صدام حسين حفظه الله يقول العراقي بعشرة فرس مجوس، ومادمنا كذلك نحتاج إلى طعام كاف وهو لا يكفينا يذهب أحسنه إلى المراتب العليا

عمّ سكوت واستحسن الضباط شجاعة الجندي، هي الحرب والساكت عن الحق شيطان أخرس، ولا بدّ أن يكون هناك طعام يكفي جنديا يعادل عشرة من جنود العدوّ، ولم أقرأ شيئا على وجه سيادة العقيد هشام

ملامح طيبة

ابتسامة استحسان

هزّة رأس خفيفة

همسة مع الضيف الرمز

كأن الأمر انتهى بهذه الصورة

أمّا عند التدريب اليومي للرمي الحقيقي فلم ينته حلم الطعام بعد

العميد يقف مع كل صلية يرشقها الجنود المتدرّبون على شواخص خططتُ رموزها وأشكالها بيدي السليمة:

يراقب

ينظر بطرف عين

أحيانا يوجّه بندقيته فوق رأس الجنود

وفي إحدى الرميات رأينا الجندي الذي اعترض على الطعام يسبح بدمه.. رصاصة اخترقت رأسه: رصاصة خاطئة

ظلت طريقها

هل قتله العقيد انتقاما لاعتراضه؟...

جاءت كلمة لجنة التحقيق التي شكلتها الفرقة: أن العقيد هشام صوّب البندقيه في الهواء فاصدمت الرصاصة ببقايا حجر انفلق من صخرة عُدّت هدفا للرمي فغيرت الرصاصة اتجاهها لتصيب الجندي...

شعرت بنوع من الفزع والقرف

لقد اعجبت بالعقيد هشام ثمّ بعد الحادث لم أعد أميّز بين الحقد والكراهية فأنا نفسي تعرضت لمجلس تحقيق

مع ذلك بقيت أستند إلى سيادة العقيد القاتل البرئ

إذ بعد ختام الرمي جاء نقيب إلى مركز التدريب وقرأ بعض الأسماء.. كان اسمي من بين هؤلاء الذين يتوجهون بسيارات الشحن إلى الجبهة. بعضهم يقفز من شاحنات (سكاينا) المكشوفة منتصف الطريق متسللا إلى أهله، وبعض الأكراد يغادرون نحو كردستان.. كانت الحرب في بدايتها والجيش العراقي دخل عبادان وااندفع في أراضي إيران. من بقبض عليه هاربا يعاد ويسجن بضعة أيام. ولم يكن قانون إعدام الهارب من الجبهة قد صدر بعد.. وقد اغتنمت عند الفجر كثافة الضباب ففي تلك الأيام فاجأ البصرة ضباب كثيف ساعة الفجر خنق الأنفاس صعدت السيارة بعد أن قرأ النقيب اسمي وتسللت ثانية إلى مقر السريّة.

لم يعد الضابط الذي رافق الحافلة

لكن اللغط حولي ظهر بشكل يثير الريبة حين بقيت نسخة من أسماء المدعوين إلى القتال في مكتب الفوج فتشكلت لجنة تحقيق يرأسها ملازم أول استدعاني

قلت بين الخوف والشك:

سيدي أنا لا أعرف الرمي لا أقدر أن أمسك البندقية بكلتا يديّ... يدي الييسرى العاطلة بدرجة كبيرة

أنت غير مسلح؟

نعم

لكن قد يحتاجونك في خطوط القتال لأعمال خفيفة. تنقل بريدا ترسل طعاما...

فقلت وقد رأيت ليونته:

أنا مستنعد لذلك مستعد لأي أمر عسكري حتى لو كنت لا أقدر على الرمي لكنّ السيد العقيد استدعاني إلى السرية معه ولا أستطيع المغادرة إلا بإذنه

فهزّ الملازم الأول رأسه وصفن لحظات وأمرني بالخروج على أمل أن يستدعيني في وقت آخر

ولم أسمع أيّ خبر بعد!

العتبة السابعة: صحيفة ضاعت

أتدري لم ستدعاك خليفة المسلمين؟

ستكتب للدولة تصبح موظفا..

ستة دنانير كل شهر

ولك أجر على سفرك ورفقتك للوفود

وستسافر مع الوفد لتكتب بيدك الذهبية بنود معاهدة سلام بيننا وبين الروم

ولم تدر أن تلك المعاهدة التي تكتبها ستبهر الروم بخطها البهي الجميل

تحفة فنية سحرتهم فوضعوها في مكان عال في كنيستهم المقدسة

ولم تدر لسوء حظك أن محمدا الفاتح سيمزق تحتفتك الجميلة حين دخل القسطنطينية

الفصل السابع: الرحلة إلى الصويرة

بعد فترة الدريهمية نقلني العقيد هشام إلى مركز تدريب الصويرة هناك عملت في مقر التوجيه السياسي في معسكر الكوت الذي بدا أشبه بقلعة مغلقة كبيرة، غرفة التوجيه السياسي

تجاورها غرفة المخابرات، بين الغرفتين من الخلف برميل كبير ناره دائمة التوقد، على حسب الأوامر، نلقي فيه أوراقا مهمة ووثائق تبقى تخص المعسكر وحده.

هل أسميها النار الأبدية التي تلتهم الأوراق؟

ثمّة عن مسافة غير بعيدة غرفة تتجمع فيها جثامين الشهداء القادمة من المعركة قبل أن تبعث إلى ذويهم، كانت الروائح الكريهة تصدر عن الغرفة وتزداد أو تنقص مع شدة الريح وخفوتها.

غثيان

نفور

اشمئزاز

وليس بالإمكان أن يبدو ذلك على وجه أيّ منا

كان العقيد (أدهم محمود شكر). آمر المعسكر يقال إنه في الأصل نائب ضابط اقتحم قصر عبد الرحمن عارف يوم الانقلاب فَرُقِّيَ إلى رتبة عقيد

ربما أصدق أو لا إن العقيد أدهم. طيب القلب إلى حدّ بعيد دائما يقف في صفّ الجندي لا الضابط يُؤمن بمقولة اخترعها لنفسه أو اختُرِعَتْ له إنّ الجنديّ لا حول له ولا قوّة

وربما لا أصدّق أني في قسم الإعلام.. التوجيه السياسي

والذي يثير في نفسي الريبة أكثر أن (شريف عبد الحالق) الجندي المسؤول في المخابرات حيث غرفته جنب غرفتي يحب عبد الكريم قاسم ويمدحه على الرغم من أنّه من أهل الأعظميّة

كنت أخط وأعمل في الرقابة العسكرية

أنا من مواليد 1959 ولا أتذكر عهد غبد الكريم

قلت ذلك لكي أتحاشاه فقد يكون افتعل الموضوع ليستدرجني:

أنا أيضا ولدت عام 1959 وسمعت من أبي عن عبد الكريم قاسم

طيب أنت من الأعظمية يا شريف والمعروف عنهم أنهم لا يحبونه

أبي كان كذلك لايحبه لكن في أحد الأيام وقف أمام دكانه كان في سوق السراي الوقت فجر والباب ثقيل انحنى على الباب ليرفعه فساعده رجل من الشارع وعندما التفت ليشكره وجده عبد الكريم منذ ذلك اليوم تحول كرهه إلى حب.

بين مصدق ومكذب. شاك.. كأني في ريب أمام أسطورة وددت لو كان وقت الفجر حينها ضباب مثل ضباب ساعدني ذات يوم على التسلل من الشاحنة قلت بتساؤل:

ما الذي ذكرك الآن بتلك الحكاية؟

إنها الحرب..

تسللت روائح جديدة إلى أنوفنا من مستودع جثث الشهداء فتحاملنا على أنفسنا من غير امتعاض.

قلت: الرحمة لهم

وواصل:

الحرب ذكرتني عبد الكريم قاسم كاد يدخل في حرب مع إيران وجعلهم يتراجعون والرئيس صدام حقق أمنية سلفه فدخل الحرب!

عجبت من هذه الحكاية الغريبة التي أثارت تساؤلي وفضولي وجعلتني أشكّ كثيرا في نية الجندي شريف. أو سلامة عقله.. الحكومة خلال الحرب لاتحاسب على ذكر الجمهوريين الأوائل فالإعلام مشغول الآن بالحرب والتنظيم الديني الجديد الذي وضعته الدولة في حسابها بعد ثورة إيران والحرب.. لقد أكملت كلمتي أو المحاضرة التي ألقيها على حشد من الجنود القادمين إلى المعسكر من مراكز التدريب

كنت أتهيّؤ لكتابة بعض رؤوس الأقلام لكلمة عن الجيش سوف ألقيها على بعض الجنود الجدد. استفدت من بعض الكتب العسكرية المهملة فوق رفّ خشبيّ، قبل أن اغادر اقتحم (شريف عبد الخالق) غرفتي وحين تأكد من خلو المكان أخرج ورقة كان قد أخفاها في جيبه.

ماذا عندك؟

الآن وصل البريد إلى غرفتنا.

ليس عندي وقت فالسيد آمر المعسكر نفسه سيشرف على أول لقاء لي مع الجنود الجدد.

اسمع هل عندك أخ معارض في الخارج؟

نعم

ذهول

صدمة

غيبوبة

مصيبة

لا أدري

لا وقت لدي للتفكير

عندي أخ يعمل في المغرب في التدريس بعقد عمل بعث لنا صورة منه قبل الحرب

كان عليك أن تخبرهم بذلك قبل أن ينسبوك إلى العمل في التوجيه السياسي.

بسط أمامي الكتاب فقرأت المصيبة التي تنذر بالويل.. الإشارة الموجزة تقول أن لي أخا مجرما هاربا يعمل مع المعارضة في الخارج فكيف ينتسب جندي مثلي لشعبة التوجيه السياسي

وكان الخوف يدبّ في صدري وعروقي ويزداد مثل تلك الروائح الكريهة التي تنبثق من غرفة الموتى:

مالعمل أنجدني؟

لاتخف.. اكتب إلى مسؤلك الآن فورا.... أنك في التوجيه السياسي وإن لك أخا يعمل في الخارج

وبسرعة البرق رحت أخطّ على ورقة ما أملاه عليّ الخوف وتذكرت كما لو أني عثرت على طوق نجاة:

أظن أخي بعث لنا بصورة من عقد العمل

الآن لا تضيع الوقت اذهب للضابط

خرجت إلى غرفة الضابط مسؤولي المباشر وقدمت له الطلب ثم عدت إلى الغرفة ألتقط أنفاسي التي تهدجت لا بسبب الروائح الكريهة الهابة من غرفة الموتى الشهداء بل من القلق. لقد اطمأنت نفسي قليلا ، إن رفضوا وجودي فسوف يبعثوني إلى المطبخ هنا في المعسكر أو لمطبخ معسكر آخر.

وعلى الرغم من القلق وبعض الخوف فقد ألقيت محاضرتي عن الجيش والالتزام واحترام الضباط. كان العقيد أدهم يقف عن بعد ويستمع ، وحالما انفض الجنود، بعث مراسله إليّ فدخلت عليه ووقفت بكل احترام، رفع رأسه إليّ علت وجهه ابتسامة وقال:

رائعة محاضرتك.

سيدي أنا لي أصل في الجيش فقد كان جدّي أوّل إمام فيه زمن تشكيل لواء موسى الكاظم وعندنا في البيت صورتان قديمتان له.

أنت من البصرة؟

نعم من التنومة وقد تركت أهلي هناك ولا أعرف هل نزحوا إلى مكان آخر أم مازالوا في البيت.

فهز رأسه وقال:

عشرة أيام إجازة ليأتوا معك وليسكنوا في بيت من البيوت الخاصة بالنواب الضباط حتى تجدوا بيتا في المدينة

شكرا ياسيدي لفضلك لكن لدي شئ أود أن أقوله لسيادتك

نعم؟

أنا لدي أخ يعمل في المغرب في مجال التعليم.

هل أخبرت مسؤولك

نعم

مادام يعمل بعقد عمل فهذا أمر طبيعي

عندئذ تنفست الصعداء

وخرجت

وحين عدت بعد عشرة أيام ومعي أهلي أبي وأمي

وأختاي

وأخي الأوسط

ومعي أيضا صورة لعقد عمل أجراه أخي مع وزارة التعليم المغربية وبعثه لنا لنطمئن عليه، لكنّي حسبت من قبلُ حساب ضابط مخابرات المعسكر الملازم الأول (وداع عبد علي) الذي له اليد الطولى في المعسكر وقد صدق حدسي فقد استدعاني وسألني عن أخي فأجبته أني كتبت بالأمر إلى ضابط السرية المسؤول عني وإن معي صورة من عقد عمل أخي في المغرب

حقا

أنقذني الأعظمي الجندي شريف عبد الخالق

فلم أعد أشك فيه.

العتبة الثامنة: موت

ياسيدي

أنت هارب

يطمئنك أمير الأمراء محمد بن رائق

يمكن أن تلتمس سماحة الخليفة

وطيبته

وعفوه

وقد حصلت لك على كل ذلك

أنت الفنان الأكثر شهرة في دار الخلافة التي تمتد من الصين إلى المجيط

قلمك

وفنك

إبداعك وصيتك

ثمّ

ذهبت تسعى لتكون حرا

تطلق يديك في كل مكان وقتما تشاء

فدخلت دهليزا تعمدوا أن يعمّه الظلام

فلا تدري فيه أين تسير

وفاجؤوك

داهموك في الظلام

وقادوك إلى حتفك

الفصل الثامن: حياة

قد يقتل الضجرَ شريطٌ لأغنية ما وربما أغنية فاضحة

أغاني أم كلثوم

عبد الحليم حافظ

فريد الأطرش

وردة الجزائرية.. ياس خضر.. الهدل.. طالعة من بيت أبوها.. سيرة الحب...

شريط غناء بذئ بصوت يوسف عمر عن العاهرات واللمجي والقوادة

كان كل جندي قبل أن يساق إلى القتال يترك ماجلبه من أشرطة في الغرفة لعلها تجعله ينسى ولو دقائق روائح جثث من ماتوا وقد يرثي لنا الهواء فيغير بضع ساعات مسيره باتجاه آخر غير مكان غرفتنا.

لم أكن أرغب في الغناء لكني كنت مضطرا إلى أن أجلس ساعات لأفحص كل شريط فأسمع مافيه كي أتاكّد مما فيه

ولو كنت قادرا على الرمي لاستدعيتُ إلى الجبهة بعد شهر أو شهرين من عملي في التوجيه السياسي، هي سيرة من كان قبلي، ولا مفرّ منها إلا أن تنتهي الحرب وهو احتمال بعيد، وقد أجد نفسي الوحيد الذي لم يترك شريطا في الصندوق الجاثم على الدكة عن اليمين من رف الكتب!

وفي لحظة تأمل وسكون. جاءتني إحدى مفارز الفرقة بشاب نحيف.. عيناه تحومان في المكان مثل أرنب تطارده كلاب مسعورة... كان أفراد المفارز التي تعترض الطرقات وتفتش العابرين على الطريق السريع وفي الطرق الفرعية من أنشط وأشرس الجنود. مُنِحوا صلاحيات واسعة ، كان يحق لهم بحجة الحرب تنفيذ حكم الإعدام بأيّ فرد يشكون فيه..

يقلب عينيه وينظر إلى الأرض

ينظر إلي يتطلع إلى جدران الغرفة مرعوبا ثم تهبط عيناه إلى حذائه

رمى العريف الكيس على المنضدة وقال بخشونة وصلف

استلم إفحص الأشرطة. أي شريط فيه شبهة يعدم صاحبه ، ثم مسك جندي آخر الشاب المرعوب من ذراعه إلى نقطة الحراسة. أمرهم أن يلقووه في الحجز حتى أفرغ من سماع الأشرطة. فتحت الكيس وإذا بي أجد خمسة عشر شريطا عليها أسماء أم كلثوم... فريد الأطرش ناظم الغزالي.. فاضل عواد.. فحصت على عجالة أكثر من عشرة أشرطة. كان الجندي المساعد لي في دورة تدريبية وأحتاج وحدي إلى وقت.. خمسة عشر شريطا تعني جلوسي أمام جهاز التسجيل يوما كاملا. تبدو أنها أغان ولفتت في لحظة التأمّل تلك أشرطة أربعة خط عليها كلمة منوعات، وفي أعلى كلّ شريط نقطة سوداء خافتة لا تلفت النظر. دسست أحدها في جهاز التسجيل فكانت المفاجأة

صوت رجل دين عراقي هارب إلى إيران

استمعت دقائق..

ووضعت الشريط الآخر ففوجئت بصوت مغن عراقي شيوعي يترنم بأغان شيوعية

الشريط الثالث كان لمجموعة مغنين يسارية تتخذ من سورية مقرا لها

الرابع حديث ابن الرافدين باللهجة العامية العراقية **من إذاعة إسرائيل

هل صاحب تلك الأشرطة مجنون؟

أهو من المعارضة. أم مجرد مغامر يحمل معه هلاكه فلا تدري أهو من جماعة سورية أم شيوعي أم متدين.

يهودي؟

أراه أقرب للمعتوه

الإصغاء إلى إذاعتي طهران ودمشق جريمة يُعاقب عليها زمن الحرب بالموت فكيف بمارق يتجول بأشرطة تناهض الدولة ؟

هاي هيه القصة اتفضلوا اسمعوها.. ابن الرافدين... لاح لي أن الشاب الذي لم أعرف اسمه كان يقرأ موته في غرفتي.. مصيبة أقف عاجزا أمامها ولو كان معي الجندي الآخر لما قدرت على أن أفعل شيئا.. جمعت الأشرطة المشبوهة، ولففتها في كيس قديم.. ثمّ خرجت إلى المحرقة ذات النار الأزلية

كأني لص

أتلفت

لم يرني أحد

ألسنة النار اشتعلت بالاشرطة

لاكتها مثل أفعى تبتلع فأرا

تنفست الصعداء وعدت إلى الغرفة، لم تكن وقتها روائح موت تنبثق.. فقد تكون حاوية الموت خاوية تنتظر جثثا أخرى.. قصدت كدس الأشرطة التي تركها الجنود الذاهبون إلى الجبهة.. استللت أربعة بدل التي أحرقتها، ومن الغريب أن أحد الأشرطة كان أغنية اللمبجي(البذيئة) ليوسف عمر حملت الأشرطة إلى الضابط المسؤول. وكنت أنطق كأني أزيح ثقلا عن صدري:

سيدي فحصت الأشرطة كلها أغاني ماعدا شريطا واحدا إباحيا بذيئا للمغني يوسف عمر ترددت.. اللمبجي

هز الضابط رأسه ونادى على الموقوف فحضر مع الحارس.

اقرأ ثانية الموت بعينية

الوجه الأصفر

العينان الغائرتان

سحنة موت تحوم على جبينه

قال الضابط كما لو كان ينهر كلبا:

طاح حظك إخوتك في الجبهة يستشهدون في سبيل الوطن وأنت تسمع أغاني فاسقة؟

ظل الشاب ساكتا. لا يدري بماذا يجيب كأنه لم يفهم ، فتح الكيس وسألني:

أين هو الشريط الفاسق؟

أشرت إليه، فقد حفظته وسمعته عدة مرات أنا وجنود سبقوني ورحلوا:

خذ الشريط إلى المحرقة، ثم إلى الشاب:

استلم أيها العار أشرطتك ولا ترني وجهك. !

***

رواية قصيرة

د. قصي الشيخ عسكر

فوق الجسر

أنا وحبيبتي ديانا والمطر

تبتلع أعيننا النوارس والمراكب

أنا وحبيبتي ديانا

موجتان من الفضة

تختزلان الضوء والموسيقى

بينما العالم يجر ضحاياه الجدد

باتجاه الأقاليم  البعيدة

السماء تفاحة زرقاء

ملطخة بالدم

السحرة يجلبون القمر من البرية

أجلب كنوزا نادرة

من عينيك الحلوتين

قلبك نورس سكران

ويدي رصاصة طائشة

حبيبتي ديانا

لم يبق أحد في القلعة

ذهبوا جميعا باتجاه المحيط

مخلفين حفرا عميقة من النوستالجيا

أصواتا تبني أعشاشها في شجر المخيلة

أنا حزين جدا يا ديانا

لأن الموت يناديني

من أعلى التلة

حيث شجرات الصنوبر مسكونة

بالعتمة وبوم الدوق الكبير

حيث الفراغ

يحمل مسدسا أشيبا

ويهدد الحشود

أنا وحبيبتي ديانا والمطر

فوق الجسر

حيث تمطر الهواجس

على مدار اليوم

ننتظر سقوط ملاك

من درب التبانة

ننتظر سلما طويلا من النواقيس

ننتظر أن يفتح باب الله الأعظم

ننتظر مسكنا آمنا  في قلب الأبدية

الصلاة والمحبة والسلام.

***

فتحي مهذب - تونس

الفصل (12) من رواية: غابات الإسمنت

كنت مرهقة متعبة، على الرغم من ذلك ينبغي عليّ أن أواصل التمرين، جاءني شخص آخر ملثّم اقتادني إلى غرفة فسيحة، فيها عدد من الدمى المنفوخة من المطاط الصلب... لنساء ورجال، أكثر من عشر دمى، وجدتُ الوقت الكافي لعدّها قبل أن ينطق الحارس، بالضبط إحدى عشرة دمية بحجم الآدميين، قال إنه درس في المساج، وعليّ أن أقلّده فيما يفعل من دون مقاطعة أو سؤال.

أحرّك يدي.

أنثني بجسدي.

أطوّع أناملي.

التقطَ دمية رجل وأقلبها على البطن، راح يدلّك منطقة الكتفين، أصابعه تلتم وتنبسط، تنقبض دقائق طويلة ثم تنبسط أسفل الكتف وتدور وأنا أقلده، نزل إلى الظهر كان يؤدي عمله باحتراف عال، ذكرّني بمحل مساج في مدينتي لسيدة زرتها يوم كنت متزوجة، بعدئذ هبط إلى أسفل الركبتين، استمر وقتا بالمساج حتى تحرّكت أنامله إلى باطن القدمين، عندئذ راح يتحدّث بإسهاب:

علينا أن نعرف فوائد الطب الصيني التي يُغرم بها الناس، هنا في هذه النقطة الأمعاء، هناك عند الأعلى الدماغ، وتحت إلى اليمين القلب، ثم العين وفي اليسار الأعصاب، في باطن الرجل تكمن كل نقاط الجسم، كنتُ أستند إلى ركبتيّ وأتابعه باهتمام، ثم نهض من أمام الدمية وبدأ يتعرّى، أخذني الشّكّ بعيدًا، وتنفّستُ الصعداء عندما رأيته يُبقي على قطعة تستر عورته.

أكاد أراه عاريا أمامي وإن لم يتعر تماما.

أقرف منه.

لا أهتم بجسده إطلاقا.

يمكن أن أقول إنني تحررت من عقدة الرجل ...

وضع وسادة تحت صدره، وحثنّي بصوت حاد يخلو من صرامة، باشري طريقة المساج معي، بدأتُ بكتفيه رحت أدلكهما بأربعة أنامل والسبابة، بقيت أدلّك وأقرأ ساعة الحائط، ثم طلب منّي أن أهبط إلى ظهره، كانت أناملي تسرح تحت عصعصه، شعرتُ ببعض التعب وقرأت الساعة من جديد، فوجدتني قضيت عشر دقائق، وقبل أن أتوقف بعض الوقت ألتقط أنفاسي، قال:

الآن عضلتا الساقين، لا شيء غير أناملي وحركة يدي، وبعد عشرين دقيقة، فوجئتُ به ينقلب على ظهره ويطلب مني أن أتعامل مع باطن قدميه.

سألني أن أدلّك عضلة القلب والكبد والرئتين، بعضها نسيته، فذكرّني به بصوت حازم جاد، فعلت الأمر مع القدمين كلتيهما، وعندما انتهيت توقفت والخدر يدّب بأناملي وعضدي، حينذاك نهض وارتدى ملابسه وقال بصوته الرزن الجاد:

يمكنكِ أن ترتاحي نصف ساعة، هذه الدمى أمامك، استمري في عمل مساج لكل واحدة منها، وأمامك على الطاولة خريطة الطب الصيني، احفظيها جيدا ولا تتوقفي عن العمل حتى آتي إليك من جديد.

أنهى عبارته وخرج، وكانت أمامي مجموعة من الدمى تنتظر، وعيناي تقعان عليها تارة، وتارة أخرى على ورقة فوق منضدة قريبة تنتظر أن تدلف في ذاكرتي، وقد دخلت وبقيت معي وسوف تظلّ حتى آخر العمر.

في الوقت نفسه بدأت أتحرك نحو الجثث الهامدة أمامي، بالإبهام والأصابع الأربع، أدلّك براحة اليد اليمنى وباليسرى أدعك.

تسرب الهواء من دمية لأمرأة، فنحيتها جانبا، وانصرفت إلى الدمى الأخريات بالسبابة والإبهام، وأنا أطالع القدمين والخارطة أمامي؛ أعمل وألتقط أنفاسي، أحدّث نفسي: هل ينقذني العمل بعد أن أخرج من السجن؟ حتى جاءني صوت بعد ساعات:

توقفي.

فرحت، التقطت أنفاسي، ولم يمر وقت طويل حتى وضعوني في غرفة ذات سرير مريح، وملابس للنوم نظيفة، قدموا لي عشاءً فاخرًا؛ كبابا وفخذ دجاجة وفاكهة وعصيرا، فالتهمت الطعام بشغف ونمت تلك الليلة نوما هادئا، واستيقظت عند الصباح على يد تهزّني، فرفعتُ رأسي فرأيت مقنّعا، أدركتُ من نبرة صوته أنه حارس آخر، تناولت فطوري في الغرفة ذاتها، تلذذتُ بجبنة ومربى وقطع من التوست المحمّص، وارتحت لكأس شاي ساخن.

بعد الانتهاء من تناول وجبة الفطور، قادني الملثّم إلى غرفة وجدتُ فيها بعض النساء المقنعات.

لا أدري إن كن من سجون أخرى، خمس مقنعات وأنا سادستهن، أمامنا لوحة... درس جديد بعد التجربتين السابقتين، دخل رجل أنيق لا يلبس قناعا، ذو وجه طويل، نحيف... يسرّح شعره إلى جانب اليمين، عيناه تختفيان تحت نظارة قاتمة سوداء.

ـ عليكن أيتها المتدربات أن تنهضن.

خامرني شعور لذيذ، متدربات ولسنا سجينات!

نهضنا... وأردف: حين آمركن تنفذنّ وتقلن نعم سيدي.

فصحنا بصوت واحد وفق ما أمرنا به فقال: حسنًا جلوس.

جلسنا فتقدم نحونا وسألنا، كانت يده تقبض على بطاقات مربعة، سلمني بطاقة، فقرأت فيها الرقم 25؛

كل واحدة تحمل رقمها، ولن يتغير إلا بأمر أو طلب من صاحبة الرقم لأسباب معقولة، ولعلكن تسألن كيف يكون السبب معقولا؟ أقول يمكن أن يبعث الرقم في نفس حاملته عدم الراحة، أو تشاؤما مثلما يتشاءم بعض الاشخاص من رقم ما.

هذا سبب غير معقول، نحن لا نعرف التفاؤل والتشاؤم، بل تجنب الخطأ، لأنّ عملنا لا يستند قط إلى العواطف، تذكرن هذه المقولة جيدا، وتذكّرن كل كلمة أقولها.

ثم توقف لحظة وقال:

درسنا اليوم النظارة، بعدها امتحان الذاكرة... وطلب منا أن نستدير فتنظر إحدانا إلى الأخرى ثمّ سأل: الرقم 37 من ينظر إليك؟ فردَّ صوت ناعم: نظرت إليّ 25 وحولت عني نظرها، سألني: أي من الأرقام نظر إليك؟ فقلت كان الرقم 55 و69، وطلب منّا أن ننظر ونحول نظرنا ونجيب بلغة الأرقام، بعدها استدرنا نحو اللوحة على الحائط، استطرد في ملاحظته:

رأيتن كيف أن الأقنعة لم تمنع تشخيصكن للعيون؟ عرفتن النظرات، افرضن أن الأرقام وجوه وأن لا قناع؛ لكن حين يرتدي الشخص نظارة سوداء قاتمة، فإن نظراته ستكون محجوبة، ولن يتبين للآخرين إلى أي اتجاه ينظر، لهذا السبب يرتدي مرافقو الرؤساء والملوك والأشخاص المهمون نظارات قاتمة، إنهم يستطيعون أن ينظروا بجميع الاتجاهات دون أن يعرف أحد إلى أين ينظرون، كأن المساحة مفتوحة أمامهم.

بعد ذلك رفع من درج أمامه مجموعة أوراق وضعها أمامنا... أخبار وجمل وألغاز، نظرت فيها وانتبهت إلى عبارته:

اقرأن هذه الأخبار جيدا، تمعّنّ فيها، وسأعود إليكنّ بعد ربع ساعة، تذكّرن، الكلام ممنوع.

خرج ولم تحاول أي منا الحديث مع الأخرى، رحت أطالع...

أول كومبيوتر في العالم اخترعته ألمانيا كان يحتل عمارة بثلاثة طوابق. إذا راقبت السوق ورأيت الناس يتهافتون في بلد ما على التفاح أكثر من أية فاكهة وبلدك ينتجها... فيمكنك أن تبعث بالخبر إلى بلدك، ذلك هو التجسس الاقتصادي. فينيسيا مدينة على الماء. لماذا يلبس القضاة والمحلفون في كل المحاكم الملابس السوداء؟ كان هناك اتحاد بين دائرة الأمن في زمن الإمبراطوريات ومهنة البريد.  أين أقيمت أول بطولة لكأس العالم في كرة القدم؟ خمسون لغزا قرأناها من ضمنها مجموعتا أرقام 668990 و 9753124، لا أدري لم زجّوا بهذين الرقمين ضمن الخمسين سؤالا، ولا أظنّ أنهما حقيقيان؛ لكنهما لفتا نظري إلى درجة أنني حفظتهما، وحينما عاد ليجمع الأوراق منّا، وضع على طاولاتنا أوراقا بيضاء وأقلاما قال:

أمامكنّ ربع ساعة للإجابة، الحد الأدنى هو أن تتذكر الممتحنة عشرين نقطة من النقاط الخمسين .. عشرون كافية، إن العمل المخابراتي يعتمد على الذاكرة بالدرجة الأولى ... سأعود بعد ربع ساعة.

كانا الرقمان الغريبان أول ما كتبته قبل أن أنساهما، تذكرت أكثر من عشرين سؤالا... وربما أجابت الأخريات مثلي أو أكثر، وحين عاد وجدنا نكتب؛ لكنه جمع الأوراق ووضعها على المنضدة... التفت إلينا وقال: لا تقلقن، مجرد امتحان للذاكرة ، نظر في الأوراق ورقة ورقة وهتف فينا مشجعا:

عظيم جدًا، ما زالت ذاكرة كل منكن في أوج سطوعها، والأجمل أنكن كلكن حفظتن عن ظهر قلب الرقمين ... هذا ممتاز، هل من سؤال؟ صمتنا كلنا فهز رأسه وقال:

حسنٌ إذن، استيعاب تام ، اليوم انتهينا، ويمكنكن الانصراف، فدخل رجال ملثمون اقتادوا كلا منا إلى غرفتها.

بعد ذلك توالت التمارين، طرائق جديدة سريعة لخطف أوراق مهمة من جيوب أشخاص ، تقرب للكلاب البوليسية المدربة، لفّ رَجل مخابرات يدي اليسرى بخشبة وأصدر أمرا لكلب يترقب من بعيد فانطلق نحوي، وأخذ يدي بين أسنانه حتى جاء الرجل نفسه، فتركني الكلب.

طرائق جديدة في استخدام الكامرات الصغيرة، وأقلام للتخدير تشبه أقلام أحمر الشفاه،  ووعدونا بدورات أخرى نتابع فيها دروسنا لكي نكون نساء مخابرات، لا أعرف إن كانت الأخريات سجينات مثلي، فلم ترَ أي منّا وجه صاحبتها قطّ؛ لكن غلب على ظني ذلك.

كنت سعيدة حقا بهذه الدورة، على الرغم من أنها كانت متعبة، لأنها أبعدتني عن أجواء السجن، فقط كنت أفتقد صديقتي مديحة.

***

ذكرى لعيبي

خبرني قلبي

أن للحب مناسك

وأن للقلوب مفاتيح

وأن للعناق أطياف

تحوم حولي...

وفي فجر كل يوم

تحتضن عروقي

ونبض شرياني....فأسجد طوعا

في محراب حبك

مع الساجدين

مبتهلة....وما الروح

بلا حب

إلا شبح باهت

مدفون في بدن...

منك الوجود

يا سّر الوجود

بابك سر الخلود...

مدد....مدد....

من غير عدد

***

راغدة السمان

عِنّْدَمَا كانَتْ لِسُلّْطَةِ الظُلّْمِ سَطّْوَةٌ عَظيْمَة.

كانَتْ تُراقِبُني مُراقَبَةً شَدِيْدَةً لَئيْمَة.

لأَنَّي لَمْ أَنسَجِمْ مَعَ أَفْكَارِ النِّظَامِ السَّقيْمَة.

فقَررتُ أَنْ أَهرُبَ مِنْ مَديْنَتي الجَميْلَة.

حَتَّى أَتَّقيَ شَرَّ رِجَالِ الأَمّْنِ مِنْ كُلِّ تُهْمَةٍ عَليْلَة.

فَهَرَبْتُ مِنْها بلَيّْلَةٍ مُظّْلِمَةٍ كَئيْبَةٍ هَضِيْمَة.

مُتَسَلِّلاً تَحْتَ جُنْحِ الظَّلامِ، وكأَنَّني مُجّْتَرحٌ لجَريْمَة.

وَ مَرَّتْ سِنيْنُ العُمّْرِ؛ تَطّْوي جِراحَاتِ الحُزّْنِ الأَليْمَة.

وَ بَعّْدَمَا انْقَشَعَ الظَّلامُ؛ وانهَزَمَ نِظَامُ الجَوّْرِ شَرَّ هَزيْمَة.

قَرَّرتُ أَنْ أَبيْعَ دَاري، وأَشْتَري دَاراً في مَديْنَتي القَديْمَة.

وَ لمَّا بِعّْتُ دَاري؛ أَرسَلوْني إِلى دَائِرَةِ الضَّريْبَة.

لأُحْضِرَ لَهُمّْ بَراءَةً لِذِمَّتي؛ مِنْ كُلِّ دَيّْنٍ لدَوّْلَتِنَا المَجيْدَة.

قُلّْتُ لحِمَاري:

يَا أَبا (الحَيْرانِ)؛ هَيءْ نَفّْسَكَ غداً سَنُراجِعُ دَائِرَةَ الضَّريْبَة.

قَالَ لي حِماَري (أَبو الحَيْرانِ):

يا ابنَ سُنْبَه؛ أَبْشِرْ... سَتَكونُ سَفرَتُنَا بَعَوّْنِ اللهِ سَعيْدَة.

قُلْتُ يَا (أَبا الحَيْرانِ)؛ مَنْ يَصحَبُكَ؛ فَالخَيْرُ رَبيْبَه.

وَصَلّْنَا إِلى دَائِرَةِ الضَّريْبَةِ، بَعدَ سَفّْرَةٍ عَصِيْبَة.

دَخَلّْتُ عَلى مُوَظَفِ الضَّريْبَةِ؛ وقَدَّمْتُ لَهُ أَوّْراقَ مُعَامَلَتي الحَبيْبَة.

قَلَّبَ الأَوّْراقَ، ضَرَبَ على مَفاتِيْحِ الحَاسُوبِ ضَرَباتٍ عَجيْبَة .

نَظَرَ مُحَدِّقاً بشَاشَةِ الحَاسُوبِ وقَالّْ:

مَعلومَاتٍ عَنّْكَ كَثيرَةٍ غَزيْرَة!.

قُلّْتُ يَاسَيّدي؛ أَنا مُتَقَاعِدٌ بَعدَ خِدّْمَةٍ جَليْلَة.

وَ لا مُلْكَ لي؛ إِلاّ تِلّْكَ الدَّارِ الوَحيْدَة.

قَالَ مُؤَنِّباً بِنَبْرَةٍ قَويَّةٍ شَديْدَة!.

وَ تِجَارَتُكّْ... تَظُنُها بَعيْدَةٌ عَنّْ عيُونِنَا الرَّقِيّْبَة؟.

استَوّْرَدْتَ أَنواعَ السَّياراتِ؛ وقَائِمَةً مِنْ البَضَائِعِ النَّفيْسَة؟.

اذّْهَبّْ.... واحْضِرْ لَنا بَراءَةَ ذِمَّتِكَ السَّليْمَة.

مِنْ وزارَةِ الصِناعَةِ والزِراعَةِ ودائِرَةِ  الخَزيْنَة.

قَالَ ليْ حِمَارِي (أَبو الحَيْرانِ) بِهَمّْسٍ وخِيْفَة:

دُسَّ لَهُ بَيّْنَ أَوراقِ المُعامَلَةِ؛ وَرَقَةَ دُوْلارٍ ذَاتِ المِئَةِ؛ إِنَّها مَحْبُوبَةٌ حَبيْبَة.

قُلتُ:

أَخْشَى أَنْ يَقُولَ لي هَذهِ رَشّْوةً مُريْبَة؟.

قَالَ لي حِمَارِي (أَبو الحَيْرانِ):

كَلّا... إِنَّهُ سَيَفْرَحُ وتَغْمُرُهُ نَشْوَةٌ طَريْفَة!.

وَضَعّْتُ المَقّْسُوْمَ بَيْنَ الأَوْراقِ السَّقِيْمَة.

وَ قَدَّمْتُها بَيْنَ أَيَادِي الموظَّفِ اللطيْفَة.

وَ لَمَّا رَأْى المُوَظَفُ مَا في دَاخِلِ المُعَامَلَةَ الرتيْبَة.

زَمّْجَرَ بوَجّْهي وقَالَ لي بِلَهْجَةٍ مُرْعِبَةٍ مُخيْفَة:

إِمّْسِكّْ أَوراقَكَ بالخَمّْسَةِ؛ ولتَكُنْ أَفكارُكَ حَصيْفَة.

وَ على الفَوّْرِ بادَرَني حِمَاري (أَبو الحَيْرانِ) قَائِلاً:

إِنَّهُ يُريْدُ مِنّْكَ خَمّْسَةَ أَوْراقٍ مِنَ الدُّولاراتِ الرَّهيْبَة.

قُلْتُ:

للهِ دَرُّكَ يَا (أَبَا الحَيْرانِ)؛ لِفِطْنَتِكَ الشَّديْدَة.

و لمّا اكمَلّْنَا تِلْكَ المُهِمَّةَ العَصيْبَة.

ابتَسَمَ الموَظَفُ؛ ونَظَرَ إِليَّ نَظّْرَةً خَفيْفَة.

وَ خَتَمَ الأَوْراقَ بِلَطافَةٍ وأَناقَةٍ رَشيْقَةٍ رَفيْفَة.

وَ قالَ باحْترامٍ وبِلهْجَةٍ مُتَمَلِقَةٍ ظَريْفَة.

إِذْهَبّْ أَيُّها الحَاجُّ رَاشِداً؛ إِلى مُوظَفَةِ التَدّْقِيقِ القَريْبَة.

ذَهَبّْتُ إِليّْها باسْتِحْيَاءٍ تَمّْلَؤهُ رِيْبَةً لَهيْبَة ؛

كانَتْ امْرأَةً شَمّْطاءَ سَميْنَةً؛ ذَاتِ سِحنَةٍ لَئيْمَةٍ خَبيْثَة.

قَدَّمْتُ إِليّها بِخَوّْفٍ؛ أَوْرَاقَ مُعَامَلَتي التَّعيْسَة.

قَلَّبَتْ الأَوْراقَ وكأَنَّها إِنْسَانَةٌ كَفيْفَة.

مُبْدِيَةً عَدَمِ اهتِمَامِها بمُعَامَلَتي الفَقيْرَة الذَّلِيْلَة.

و ضَرَبَتْ على مَفَاتيْحِ الحَاسُوبٍ العَتيْقَةِ اللعيْنَة.

شَزَرَتْني بنَظّْرَةٍ؛ أَشْعَرَتْنِي بِخَوّْفٍ وجَعَلَتْني بِحَيْرَة.

ثُمَّ قَالَتْ:

سِنِيْنٌ طَويْلَةٌ وأَنْتَ تَعْمَلُ خَارِجَ ضَوابِطِ الضَّريْبَة.

قُلّْتُ:

يَا سَيّدَتِي... أَنَا مُوَظَّفٌ وإِلى التَقَاعُدِ أَحَالَتْني الحُكُومَةُ الحَكيْمَة!.

قَالَتْ:

إِنَّكَ مُسْتَثّْمِرٌ؛ تَكَرَرَ اسْمُكَ في الحَاسُوبِ مَرَّاتٍ عَديْدَة.

وَ مُعَامَلَتُكَ لا تُروَّجُ إِلاّ بقوَّةِ أَصْحَابِ الكَهْفِ العَتيْدَة.

إِلتَفَتُ إِلى حِمَارِي وأَنَا حَيْرانُ؛ وقُلْتُ لَهُ وكأَنَني في نَائِبَةٍ كَئيْدَة:

يَا (أَبَا الحَيْرانِ)؛ وَضِحّْ لي مَعَانِيَ القَصِيْدَة.

قَالَ لي حِمَارِي مُبْتَسِمَاً:

إِنَّها تُريدُ مِنْكَ سَبْعَةَ أَوْراقٍ مِن الدُّوْلاراتِ المُفيْدَةْ.

و أَردَفَ حِمَارِي قَائِلاً:

إِدْفَعّْ تَربَحْ... إِنَّهُ شِعَارُ المَرحَلَةِ الجَديْدَة.

إِدّْفَعّْ... تَربَحّْ... سَتَنَالُ مَا تُريْدَه!.

حَوّْلَقّْتُ بِقَوّْلي، ثُمَّ وَضَعّْتُ بَيْنَ الأَوْراقِ سَبْعَةً خُضّْرٍ كَريْمَة.

قُلّْتُ لَها: تَفَضَّلي يَا سَيّدَتِي؛ إِليّكِ مُعَامَلَتي العَقيْمَة.

قَلَّبَتّْ الأَوْرَاقَ عَلى عَجَلٍ؛ فَرَأَتْ المَقْسُوْمَ بِنَظّْرَةٍ حَديْدَة.

قَالَتّْ مُبْتَسِمَةً بابتِسَامَةٍ مُفْرِحَةٍ بَهيْجَة:

لا تَثّْريْبَ عَليّْكَ؛

لقَدّْ تَشابَهَتْ الأَسْمَاءُ عَلى الحَاسُوبِ؛ فَذَاكِرَتُهُ عَتيْقَةً بَلِيْدَة.

خَتَمَتّْ على الأَوراقِ، ثُمَّ خَتَمَتْ خَتّْمَةً أَخِيْرَة.

وَ قَالَتْ:

إِذْهَبّْ راضِيَاً مَرضِيّْاً؛ لِدائِرَةِ العِقَارِ فَهيَ لَنا رَبيّْبَةً مُجيْبَة.

قُلْتُ:

سَلَّمَ اللهُ الضَّريْبَةَ؛ مِن كُلِّ سُوءٍ ونَائِبَةٍ سَلِيّْبَة.

خَرَجّْتُ مِنْ دَائِرَةِ الضَّريبَةِ، وحِمَاري يَهْتِفُ بِنَبْرَةٍ وَئيْدَةٍ بَريْئَة:

إِدفَعّْ... تَربَحّْ ؛ عَاشَتْ دَوّْلَتُنَا العَجِيّْبَةُ النَّجِيْبَة.

إِدفَعّْ... تَربَحّْ ؛ عَاشَتْ دَوّْلَتُنَا العَجِيّْبَةُ النَّجِيْبَة.

***

مُحَمَّد جَواد سُنْبَه

كما لو أَنني

أُحلِّقُ وحيداً

في سماواتِ

البلادِ المُقْفَلَةْ

*

كما لو أَنَّ نسراً متوحشاً

يطاردُني باللهبِ والنعيق

ناوياً إِختطافَ اجنحتي

خشيةَ أَنْ أُنافسَهُ

على كنوزِ السماءْ

*

وكما لو أَنني أمسكتُ بالثريا

ولمْ أعُدْ أَكترثُ

لكلِّ ماهو أرضيٍّ

لأنَّ الأرضَ أَصبحتْ ضيقةً

وملوّثة وليستْ حنوناً علينا

ولا رحيمةً بنا

كما لو أَننا لمْ نعدْ

نحنُ ابناؤها اليتامى

والمشردونَ وعابرو الطرقاتْ والقاراتْ

والمرميونَ كلُّ واحدٍ تحتَ نجمةٍ

وكلُّ واحدٍ غارقٌ

في بحرِ الأحلامِ

والاوهامِ والأُمنياتِ

وفخاخِ الخديعةِ

والخساراتِ والفجائعِ السودِ

مثل عباءاتِ أُمهاتِنا الممزقاتِ

من الوريدِ الى النشيجْ

ودائماً يصحْنَ بالعراقِ:

اللهُ عليكَ ياواهبَ البترولِ

والدموعِ والمطرْ

وسلاماً عليكَ

يا عينَ العسلِ والماءْ

فكُنْ مُطمئناً لأَننا

إذا أَردْتَ نُشعلُ القلوبْ

ونبذلُ الدماءْ

حتى تَظَلَّ أَنتَ

سيدَ الاشياءْ

والعارفَ بالأَسماءْ

وتبقى ناصعَ الصفاتْ

ومانحَ الحياةْ

للطيرِ والحَيَوانْ

والبشرِ الظمآنْ

وتبقى أَنتَ طيّباً

وطاهراً ...

مثلَ ضميرِ الفراتْ

***

سعد جاسم

2023-3-27

برْحاءُ ضَمَّتْنا إلى برحاء ِ

ومعيشةٌ..

بنا تستبدُّ بأضنك ِالإشياء ِ!

*

وتُلينُ جانبها

لمن عاثوا بنا

واستغفلوا أيامنا

وتقاسموها شطارةً

واستفحلوا.. بتجارة ٍسوداء ِ!

*

وتفارقوا بتوافق ٍ

ولكاعة ٍ..

ووضاعة ِ الرُّخَصَاء ِ

*

كلٌّ يُزايدُ باِسْمِنا

ويزيد في أوجاعنا

ويذر ملحاً

كي ينامُ

ولاتــنامُ من اللهيب ِبلادنا!؟

وتظل  دامية الرؤوس تَشُقُّنا

ونظل نخبطُ بعضنا

ليعضنا

ويقودنا

نحو المتاهة ِ

أتفه الأجراء ِ!

*

بَرْحَاءُ آلام ٍ

وإيلام ٍ

وأسقام ٍ

بما لا ينتهي…!

هل تنتهي؟

ونعيش يوماً

فسحة  الأمراء ِ!

***

محمد ثابت السميعي

أبعاد ثلاثية لشجرة تختفي وراء الظل

تحت ظل الشجرة

تلعب الفتاة بالحبل

2

السنجاب يبحث عن فستق

في الاوراق الميتة

3

استند الشاعر على عمود الظل

والقى قصائده المملة جدا

4

منذ بدء الخليقة والشمس تتهرب من الظل

ولكن دون جدوى

5

الظل المتعب في موسم الصيف

يتوسد اغصان الشجرة البهية

6

الشمس تتجعد عند الحر

والظل يرتوي من شظايا الغروب

7

الخريف يعزف الحانا حزينة

والظل عند الحرور يداعب اوراق الشجر

8

على غصن شاهق تغطيه ظلال شاردة

ثمة عش يتأرجح في مهب الريح

9

في ليلة عاصفة

قمر يتدلى من غصن شجرة يابسة

10

ثمة ثقيل الظل

لا يقوى على رفع اشعة الشمس

11

ظل تكوم بالندى

وفراشات عطشى تحوم حوله

12

الطفل تحت ظل الشجرة

تنزلق من يديه بالونة

13

كلب حراسة

يتابع بلهف عناكب تعلو سقف الظل

14

هناك قرب الظلال المفروشة بضوء الشمس

الثعالب تبتهج برقصة الارانب الوديعة

15

متى سمحت له الشمس

يبالغ الظل في امتداده

16

امام خيوط الشمس

الظل يتباهى بفيئه

17

الحطاب يتغزل بجذع الشجرة

ويراودها عن نفسها

18

القيظ يستحم في الظل

ويفرد خيوطه على زوايا الشجرة المتعبة

19

يغتاظ الظل

عندما يتوسل الحطاب الى فروع الشجرة طمعا في وقود للدفء

20

وحدها الشجرة

شاهدة على لصوص الخشب

***

بن يونس ماجن

في نصوص اليوم