نصوص أدبية

نصوص أدبية

لو كان الحبُّ بحجم الوَعدْ

وكحجم هداياكِ

والوردْ

وكجَرْيِ الدّمعِ

وعُمر اللّيلِ

وسرِّ الغَيمِ

ونارِ البُعدْ

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ...

**

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ

وكَطَعمِ القُبلةِ فوق الخَدْ

وكَلمعِ البَرقِ

وَجَرفِ الشَّوقِ

ودفءَ الضّمّةِ لحظةَ بردْ

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ

وَكجمر اللّوعةِ لحظةَ حُبْ

كَهَمسِ الرّوحِ وخَفْقِ القلبْ

لو كان كما عند لقاءٍ

يضربُنا الرّعدْ

ما كنتِ بَكَيتِ الأيّامَا

واللّيلُ طواها الأحلامَا

مِنْ قَبلِ الغَدْ...

ما كان سَيَكوينا نَدَمٌ

وَسَتَحْرِقُنا نيرانُ الوَجْدْ

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ...

**

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ

وَكَسِحرِ الرّمشِ

وَبَوحِ النّهدْ

وَكَرحْلَةِ حُبٍّ تمشيها

ما فوقَ الجَسَدِ الملهوفِ

شَفَتي واليَدْ

آهٍ يا قاتلتي منكِ

لو كانَ الحبُّ بحجمِ الوَعدْ

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

في كل صباح، تصل نسرين الى موقف الحافلات قبل الجميع، لا لأنها على عجل، بل لأنها اعتادت أن تسبق الزمن بخطوة، وكأنها تبحث عن لحظة صافية قبل زحام اليوم.

تركب الحافلة رقم 18، وتتجه مباشرة الى مقعدها الثابت، قرب النافذة. من هناك تراقب الحياة وهي تمضي خارج الزجاج، مشاهد صامتة تتكرر دون ان تصيبها بالملل. بل كانت ترتاح لذلك التكرار.

خمسة أعوام مرت على غياب زوجها، دون موت مؤكد، ولا خبر. حرب أخذته ولم تعده.

في البداية، كانت تتشبث بالأمل، ثم صارت تتشبث بالصمت، ومن ثم اعتادت على انتظار لا يحمل رجعة.

ذات صباح بارد، حين كانت تتابع بعينها ما وراء زجاج النافذة، صعد رجل في خريف العمر الى الحافلة. مظهره بسيط، كان يحمل ملامح رجل أنهكته الحياة دون أن تهزمه.

جلس امامها، لم ينظر اليها، بل الى الخارج.

في البداية لم تنتبه اليه الا كغريب جديد، لكنها لاحظت وبدافع الفضول انه لا ينظر الى الركاب، ولا مهتماَ بما يجري داخل الحافلة، بل ينظر بصمت الى خارج الحافلة.

مر اسبوع، ثم آخر، والرجل يظهر دائماَ في التوقيت ذاته .

لم يتكلما، ولكن لم يعد بالنسبة اليها غريباَ كما كان. كان هناك شيء بينهما، شيء لا يُرى ولا يفسر.

و ذات يوم، حين توقفت الحافلة فجأة، تمايل جسداهما في اتجاه واحد، وتلاقى نظرهما في ومضة خاطفة. نظرة واحدة فقط، لكنها كانت مثل نسمة ناعمة مرت على صفحة ماء راكد.

كانا يتحدثان بين حين وآخر وفي كل يوم بلغة تفهما القلوب، دون كلمات.

حل الشتاء، وتحولت الأحاديث من العيون الى صمت مشترك له مذاق غريب، صمت يقال فيه ما لا يقال.

صارت الحافلة بالنسبة لها موعداَ يومياَ، مع احتمال جديد، مع شخص يعيد ترتيب أنفاسها.

في أحد الصباحات، صعدت لتجده جالساَ يسبقها. حين جلست التفت نحوها وقال لاول مرة بصوت خفيض: - " الحافلة بدونك تصبح باردة ".

كانت جملة عادية، لكنها أربكت نبضها، وأحست بشيء يتحرك في صدرها، شيء يشبه الحياة.

في صباح آخر، أخرج من معطفه ورقة صغيرة، طويت بعناية، ومدها اليها بصمت.

فتحتها بتردد وقرأت: " أنا لا أعرفك، لكن قلبي يذكرك ".

ارتبكت، لم ترد. لكنها احتفظت بالورقة، كمن يخفي شيئاَ ممنوعاَ.

مضت الأيام، وبدأت الأبتسامة تزور عينيها في الصباح،  وأصبح للأيام نكهة أخرى.

صار يحمل غصن ياسمين أحياناَ ويضعه قرب مقعدها دون أن يتكلم. وصارت حين تنزل من الحافلة، تشعر بأن شيئاَ خفيفاَ يتبعها.. كالحنين، أو الود دون موعد.

 غاب عن الحافلة يوماَ. شعرت بأرتجافة باردة، كأن الغياب يعيد نفسه من جديد. جلست مكانها، لكن العالم بات باهتاَ، شيء ما قد فُقد.

في اليوم التالي، انتظرته، ولم يأت. وفي الثالث، صعد فجأة من باب الحافلة الخلفي، اقترب منها وهمس: " اردتُ أن أراك حين لا تتوقعينني، لأتأكد أنك تنتظرينني فعلاَ ".

كانت الكلمات مثل الدفء يفكك طبقات الجليد. ابتسمت. لم تتكلم.

مرت أيام، وذات صباح، كانت الحافلة تقترب من محطتها الأخيرة، كان هو واقفاَ عند الباب، يحمل غصن ياسمين، مده نحوها بهدوء، بلا وعود، ولكن بشيء من الأطمئنان.

شعرت أن قلبها يطرق صدرها. نهظت ببطء وسارت نحوه، وخرجت معه. لم يكن ذلك نزولاَ من الحافلة، بل صعوداَ الى شيء جديد، ربما الى بداية تأخرت. وادركت ان الحب لا يعود كما كان، بل يعود أجمل مما كان.

***

قصة قصيرة: د. مامند محمد قادر

شاعر وقاص عراقي كوردي

 

تعانق نسيمات الصباح خصلات شعرها الأشيب الذي يحمل قصصا من ماضيها الذي لا تود ان تبوح به لأقرب الناس اليها.

كعادتها تجلس قبالة باب الدار فربما يزورها أحدهم تنتظر دون ملل مرتمية فوق كرسيها الخشبي المتهالك تحت شجيرة الياسمين. وبعد ان يخذلها الانتظار تعود الى غرفتها صامتة تجر أطراف شالها الأخضر بلون أمانيها.. وهمسات الحنين تسكن أضلاعها.

تمسك ست وداد قلما ودفترا وتكتب بسرية تامة دون ان تسمح لأحداهن ان تعرف شيئا عن مذكراتها أو ربما تكتب قصة حياتها في دفتر كأنه سجل مدرسي لونه يميل للرمادي الغامق انه يذكرها بسجلاتها المدرسية قبل احالتها على التقاعد.

عشرون عاما واسمها يتصدر لوائح مديرية التربية كأفضل مديرة مدرسة في تلك المدينة اضافة لكونها ربة أسرة وأم لثلاثة أبناء ذكور. وها هم اليوم رجال ملتحون.

أستشهد زوجها في حرب الثمان سنوات. ولن يثنيها هذا عن دورها كأم مكافحة في بيتها ومربية ناجحة في مدرستها.

متوسطة القامة ومكتنزة قليلا لكن ملامحها تنبؤ بما كانت تتمتع به من جمال في سالف أيامها. وما زالت شديدة الاهتمام بملبسها واناقتها التي عرفت عنها دائما الست وداد.

الظروف وضعتها هنا رغما عنها. وهي تتأبط سجلها وصندوق يحمل كل ذكرياتها وسرها الذي لا يعرفه سواها. كانت تكتب رسائلها التي لا ترسل، ولا زالت تتذكر صوته حين قال لها: ان ضاعت الأيام فلا تدعي الحب ان يضيع.. انتظريني سأعود، لكنه لم يعد وبقيت هي كما وعدته تنتظر.. وكل ما تملكه هو صوته في آخر لقاء ونظرة طويلة بدرت منه قالت كل شيء وكأنه تنبأ لفراقهم الأبدي. لم تنسَ ذلك اليوم ولكن عقلها الباطن يرفض مسألة موته في جبهة القتال وضياع جثته بين الوديان. ولتبقى تنتظر من لا يعود.

كان الجميع يحترمون رغبتها في الانعزال والصمت الذي ينهش عزلتها.. وحنينها الجارف لأبنائها الثلاثة الذين ربتهم بدور الأم والأب. لقد انشغلوا عنها تماما. لم يزرها أحدهم منذ أمد بعيد وكل ما تبقى منهم ورقة معلقة فوق جدار سريرها: اتصلي بنا عند الضرورة.

اثنتان كن يشاطرنها سكن غرفتها في دار المسنين

كانت احداهن مولعة بمتابعة المسلسلات من خلال جهاز التلفاز في قاعة الدار.وكانت تتفاعل بشدة مع احداث القصص وتذرف دموعها من اجل البطل أو البطلة.. لذا يكون تواجدها نادرا.

اما السيدة الثانية فكانت تشغل جلّ وقتها بقراءة الكف لبقية النزيلات وهي شديدة التعلق بهذه الهواية. لكنها ثرثارة قليلا

سألتها ذات مساء لماذا لم تتزوجي بعده.. ؟؟ تضحك الست وداد بهدوء وهي تقول: انا متزوجة من الانتظار.. وفاء لزوجي فربما يعود لي ذات يوم.

اذن وماذا تكتبين ولمن.. ؟؟

أخذت الست وداد شهيقا طويلا ثم الزفير بعده وببطء ايضا.

ثم قالت: أكتب له.. ربما يقرأه ان عاد ويشعر انني كنت هنا وكنت اتذكره ولن انساه يوما واني بقيت أحبه رغم كل هذا الغياب. انه لا يكذب حين قال لي انتظريني..

كانت الأيام في دار المسنين تمر ببطء ولوعة. والوقت لا يقاس هناك بالساعات والأيام بل بعدد مرات شهيقها وزفيرها وبعدد زيارات ابناءها التي لم تتحقق أبدا.

وذات ليلة تموزية شديدة الحرارة شعرت الست وداد بدوار شديد مع ارتفاع درجة حرارة جسدها وعدم تقبلها لوجبة العشاء وكذلك لوجبة فطورها الصباحي في اليوم التالي. وهذه الحالة لا تشبه نشاطها اليومي المعتاد، نقلت على أثرها للمشفى.

طلب منها الطبيب ان لا تغادر المشفى تحسبا لأي عارض.

ولكن في اليوم الثاني ازدادت حالتها سوء وأخذت تهذي مع ارتفاع شديد بدرجة حرارة جسدها.وقبل ان تغمض عينيها طلبت من الممرضة ان تحتفظ بدفترها وتعطيه لولدها البكر ان حضر.

اتصلت مسؤولة الدار على رقم ولدها البكر. وقد تأخر كثيرا في الحضور للمشفى لكنه جاء أخيرا ليستلم جثتها مسجاة داخل ثلاجة المشفى.

بقي المقعد الخشبي خاليا في دار المسنين والدفتر بين يدي ولدها البكر والياسمين مازال يتساقط بصمت فوق شاهدة قبرها كأنه يعرف تماما ان هنا يرقد قلب أحب بصمت ورحل بصمت.

تنقل ولدها البكر بين صفحات الدفتر ليجد رسائلها الموجهة له ولأخويه. كتبتها بحنان الأم ولوعة المشتاق.

.. أثارت شجونه هذه العبارة في أول ورقة بالدفتر وأول سطر فيها أولادي: سامحوني ان أثقلت عليكم في طفولتكم فقد كنت أما وحيدة ومرتبكة ومسؤوليتكم كانت ثقيلة فوق أكتافي.. ربما كنتم تكرهون عصبيتي أحيانا. لكنني أحبكم يا أغلى الناس.

تساقطت دموعه فوق السطور.. لكنها تساقطت في الوقت الخطأ

***

قصة قصيرة: سنية عبد عون رشو

1 / 6 / 2025

 

مُـسـتَـنـفِـرًا شـوقَ الـضـريـرِ الـى الـضـيـاءِ:

نـهـضـتُ قـبـلَ صـيـاحِ دِيـكِ الـفـجـرِ

يَـمَّـمـتُ الـخـطـى نـحـو الـرصـافـةِ

حـيـثُ مِـعـراجـي الـى مـقـهـى "رضـا عـلـوانَ"(1)

أسـرى بـيْ فـؤادٌ نـبـضُـهُ مـاءٌ ونـارْ

**

شَـمَّـرتُ عـن مُـقـلـي أفـتـشُ فـي الـوجـوهِ

الـوقـتُ مـن حَـجَـرٍ

أحَـشِّـمُ سـاعـتـي أنْ تـسـتـحِـثَّ خـطـى عـقـاربِـهـا

لِـيَـنـتَـصِـفَ الـنـهـارْ

**

فـأريـحَ ظـهـري

مـن صـخـورِ الانتظار

**

بـمـجـيء "إيـنـانـا"(2)

لِـتـنـسـجَ لـيْ

قـمـيـصـاً مـن زهـورِ الـجـلّـنـارْ

**

لِـيـعـودَ ثـانـيـةً كـمـا فـي الأمـسِ " أنـكـيـدو "..

يـعـودُ فـتـىً يُـسـامِـرُ فـي الـدجـى الـبـدرَ الـتـمـامَ

ويـقـتـفـي أثـرَ الـغـزالـةِ فـي الـنـهـارْ

**

الـوقـتُ مـن جـمـرٍ

ومـا بـيـنـي وبـيـن الـنـهـرِ وادٍ غـيـر ذي زرعٍ(3)

أحَـشِّـمُ وردةَ الـكـرَزِ الـخـرافـيِّ الـنـدى

أنْ تـسـتـقـي لـلـسـومـريِّ الـجـائِـعِ الـعـطـشـانِ

كـأسـًا مـن زفـيـرِ الـزعـفـرانِ

وصـحـنَ ريـحـانٍ

وظِـلّاً لـلـغـريـب الـسـومـريِّ الـجـائـعِ الـعـطـشـانِ

يـبـحـثُ عـن مـلاذٍ فـي الـقـفـارْ

**

ويُـطـيـلُ تـحـديـقـًا بـنـهـر أنـوثـةٍ

فـي لـوحـةٍ زيـتـيَّـةٍ قُـزَحـيَّـةِ الألـوانِ

فـي وسَـطَ الـجِـدارْ

**

الـوقـتُ مـن صـابٍ (4)

ومـا بـيـنـي وبـيـن الـشـهـدِ بـعـضُ خُـطـىً

أقـلُّ مـن الـمـسـافـةِ بـيـن خـاتـمـهـا وزيـقِ قـمـيـصِـهـا (5)

أو

بـيـن مِـعـصـمِـهـا الـطـريِّ كـمـا الـسـفـرجَـلُ

والـسـوارْ

**

الـوقـتُ مـن ٍ شــوكٍ كـبـاديـةِ الـسـمـاوةِ

قـائـظٌ..

وأنـا حـبـيـسُ الـوجـدِ

شـيـخٌ طـاعـنٌ فـي الـعـشـقِ

فـي مقـهـى " رضـا عـلـوانَ "

يـرقـبُ هـدهـدَ الـبـشـرى يُـطِـلُّ عـلـيـهِ بـالـنـبـإ الـيـقـيـنِ

لـيـدخُـلَ الـفـردوسَ طِـفـلاً جـاوزَ الـسـبـعـيـنَ

فـي كـهـفِ الـصـبـابـةِ لا يـزورُ

ولا يُـزارْ

**

لِـتُـعـيـدَ تـرتـيـبَ الـحـكـايـا " شـهـرزادُ "

فـيـسـتـحـيـلُ الـسـومـريُّ الـى الـمـؤرَّقِ

" شـهـريـارْ "

**

جــاء الـضـحـى

والـمـوعـدُ الـورديُّ مُـنـتـصـفَ الـنـهـارْ

**

الـوقـتُ مـن سَـمـكٍ وخُـبـزٍ عـنـدَ دجـلـةَ

كـيـفَ مَـرَّ الـوقـتُ عـصـفـورًا رأى نـسـرًا

فـطـارْ ؟

**

يـمَّـمـتُ وجـهـي نـحـو بـيـتـي فـي الـسـمـاوةِ

عـدتُ شـيـخـًا جـاوز الـسـبـعـيـنَ

مُـنـطـفـئ الـخـطـى

وحـدي

أُنـادِمُ ذكـريـاتـي

لا أزورُ ولا أُزارْ

***

يحيى السماوي

بغداد / الجمعة 20/6/2025

.........................

(1) مقهى رضا علوان: إحدى مقاهي بغداد الشهيرة، تشتهر بتقديم أنواع القهوة، غالبية مرتاديها من الأدباء والفنانين.

(2) أينانا: إلهة الحب والجمال والخصوبة والجنس والحرب والعدالة في ملحمة كلكامش

(2) (3) إشارة الى قوله تعالى في سورة إبراهيم: ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم..)

(4) الصاب: نوع من النباتات المزهرة عصيرها شديد المرارة.

(5) الزيق: ياقة القميص أو ما يحيط العنق من الثوب.

ما زِلْتَ تَهوي

كَأَنَّكَ تَعتَنِقُ فَراغاً يُشبِهُكَ

تُرَبِّتُ على لَهفَةٍ

خانَهَا الضَّوءُ

فَأَورَقَتْ في حَطَبِ العارِ

هَل أَنتَ

مَن جَرَّدَ المَجازَ مِن أَقمِشَتِهِ!

وَرَاقَصَ الحُرُوفَ على مَائِدَةٍ مِن زَيفٍ؟

هَل وَثِقتَ بِوَجهِ اللُّغَةِ

حَتَّى غَدَرَتْ بِكَ

في مُنتَصَفِ الاِنكِشَافِ؟

أَنا الَّتي

لَم تَنعَطِفْ في رِيحِكَ

لَم تَستَجْدِ ظِلاً

أَنا الَّتي تُحاكِي السَّمَاءَ

وَلا تُبَالِي بِمَا يُقَالُ

مِن أَينَ لَكَ

أَن تَمسَّ الجِهَاتِ كُلَّهَا

وَلا تَسقُطَ؟

مِن أَينَ لِفَمِكَ هَذَا

أَن يَقطُرَ صِدقاً

في قَفَصٍ لا يَرَى غَيرَ ذَاتِهِ؟

حِينَ جِئتَ

كُنتَ تَحمِلُ صَدىً

نَسِيتَ أَن تَخلُقَ لَهُ صَوتاً

كُنتُ أَنا:

الَّتي نَفَضَت الرَّملَ عَن صَمِيمِ المَعنَى

وَلَم تَكتُبْكَ

كَفَى

فَأَنا الحَرفُ الَّذي لا يُعَادُ

صَوتِي كَسرٌ لا يُرَدُّ

وَجَمرٌ مُشتَعِلٌ

لَهِيبِي لا يَنحَنِي أَمَامَ ظِلٍّ لا يُرَى

وَيَحمِلُ مِنَ الصَّمتِ رَنِينَ الأَبَدِ

مَا عَلَا فِيَّ

لَهَبٌ لا يُسأَلُ عَن وَجعِهِ

وَلا يُروَى بِحَكَايا الوَدَاعِ

أَمَّا اللِّقَاءُ

فَهُوَ طَيفٌ رَحَلَ قَبلَ أَن يُولَدَ

***

مرشدة جاويش

 

قالتْ: تَأخَّر، قلتُ: يأتي

لا تَقلقي، يا أُمَّ بيتي

*

قالتْ: أما زالَ الرجاءُ؟

أما سمعتَ نَشيجَ صَوت

*

قالتْ: أما آنَ الرُّجوعُ؟

أما أتى في لَيلِ صمتي؟

*

قالتْ: مضى، والريحُ تُطفئ

شمعةً في ركنِ كبتِ

*

قلتُ: الغيابُ وإن تطاول

لا يُغيِّرُ لون سمتي

*

قالتْ: أراهُ إذا جلسنا

فوقَ رَحلِ الحزنِ يأتي

*

قلتُ: العيونُ تراهُ شوقًا

في المدى، في كلِّ لفتِ

*

قالتْ: أُداري الدمعَ لكنْ

يُنذرُ الآهاتِ صمتي

*

قلتُ: المعادُ يضمنا

في دهشةٍ قد تُحي سكتي

*

قالتْ: ولكنّي فقَدتُ

النبضَ من صمتي ولفتي

*

قلتُ: الحبيبُ، وإن تَوارى

لم يَغب عن فجر سبت

*

قالتْ: دَعوتُ اللهَ لَيلًا

أن يَرد الموت موتي

*

قلتُ: اصبري، فالرُّوحُ لا

تَفنى،ستنبضُ بعد صَّمتِ

*

قالتْ: أحنُّ إلى خُطاهُ

كأنَّهُ في باب بيتي

*

قالتْ: فقل لي هل ترى

ام في ليالي الصبر عنتي

*

قلتُ: "الخُطى، إن طالَ دربٌ،

يَبلغُ الوادي بثَبتِ

***

د. جاسم الخالدي

في الساعة الخامسة صباحاً رنٌ الهاتف، كان رقماً لا يعرفه، وصوتاً بلا ملامح.

- السيد كريم؟

- نعم، من المتحدث؟

- تم اختيارك، انت البديل.

- عن من؟

- ستعرف حين تبدأ.

ثم انقطع الخط.

في الساعة السابعة وُضعت امام باب شقته حقيبة، بداخلها /

* مفتاح

* بطاقة هوية باسم (رائد كمال)

* ورقة كُتب عليها:

برنامج اليوم /

06:47 - الاستيقاظ

07:15 - فنجان قهوة

08:00 - الخروج بصمت

08:35 - الجلوس على المقعد السادس في الحديقة العامة

09:00 - الأبتسام للكلب رقم 4

لم يفهم، لكنه نفذ.

في اليوم الاول، مشى كما طُلب منه، لم يحدث شيء.

في اليوم الثاني، تكرر كل شيء بنفس الطريقة، بنفس الاشخاص، ونفس الكلب.

كلب بني صغير، يعبر الحديقة، يقترب من المقعد السادس، ثم ينظر اليه لثانية ويمضي.

في اليوم الثالث، سمع رجلين يتحدثان خلفه:

- هل هذا هو البديل الجديد؟

- يبدو انه التزم جيداً.

- أفضل من الذي قبله، ذلك الذي كان يسأل كثيراً.

اراد ان يلتفت اليهما، لكن جسده لم يتحرك. لم يعرف لماذا.

مرت الايام...

الورقة تجدد كل صباح، الجدول يصبح اطول:

* زيارة قصيرة لمحل النظارات دون شراء شيء.

* ترك مظروف فارغ على مقعد خشبي.

* النظر الى المرآة لمدة 40 دقيقة.

في احد الايام، حاول ان يسأل المرأة في مقهى صغير عن شيء، فأبتسمت وقالت:

البديل لا يتحدث الُا اذا طُلب منه.

ثم في صباح احد الايام، جلس على المقعد السادس كعادته، فوجد رجلاً يجلس هناك قبله. يشبهه كثيراً، يرتدي نفس المعطف، ويحمل نفس الورقة.

قال الرجل دون ان ينظر اليه:

- لقد كنتَ جيداً.

- من انت؟

- انا البديل الجديد.

و قبل ان يرد، رن هاتفه، نفس الرقم، نفس الصوت:

- شكراً. لقد تم استبدالك.

- لكن، من كنتُ؟

- لا احد، فقط بديل.

عاد الى شقته، فوجد الباب لا يُفتح بالمفتاح. والبطاقة لا تطابق صورته. وجهه في المرآة بدا غريباً.

حاول الاتصال باي شخص، فلم يجد رقمه مسجلاً في أي مكان.

و في المساء، جلس في الحديقة، على المقعد السادس، راقب مرور الكلاب، دون ان يعرف ايها كان رقم 4.

***

قصة قصيرة: د. مامند محمد قادر

 شاعر وقاص عراقي كوردي

 

هذه أول سطوري أكتبها لك بعد صيامي الكتابي منذ قرابة ثلاثين يوماً منذ آخر رسالة بعثتها لك.. لا تتخيل من أين أحدثك الآن؟ أحاول أن أرسل لك أكثر من الكلمات وأعمق من أبجدية اللغة.. أحاول أن أجعلك تسير معي في هذه الطريق الفاصل بين الشمال والجنوب، وأن أنقل لك بمداد قلم كيف تكتب هذه الأفواج العائدة ملحمة تاريخية لا تتسع لوصفها سطور... أنا الآن أسير مع الألف العائدين من منتصف قطاع غزة وجنوبه إلى الشمال عبر شارع صلاح الدين لا تتصور هذا النهر العائد من الناس أحاول أن ألصق تعابير وجوههم ونبض حديثهم على شفافية الورق الأبيض، وأرسله لك.. سوف أسرد لك هذه التفاصيل الكثيرة التي أعيشها مع هذه الجموع في رسالتي التالية، ورغم كل شيء لا تزال متشبثة بالأرض والتراب والضوء....

أعلم ما الذي ترغب أن تسألني عنه الآن، وأكاد أجزم بأنك أمطرت رسائلك به، وهو ماذا بقي لي هنا؟، وهل سوف ألملم ما بقي لي من أشلاء نفسي، وأبحث لي عن وطن؟

لن أنتظر حتى أصل إلى بيتي إن كان لا يزال هناك حتى أجيبك فأنا الآن أكتب لك، ونحن نسير منذ الشروق الأول للشمس، وحتى الآن...

كل شيء يقول لي: ماذا بقي لك هنا بعد أن سكت صوت الحياة؟! بعد أن شاخت ملامح وجهي تحت سماء مدينة مندثرة ماذا بقي لي هنا؟! ماذا سوف أفعل في وطن بعد أن إنطفئ فيه كل شيء، وإنحنى ظهري بين جدرانه..

حتى إنني سمعت طنين من خلف المحيط يقول لي: سوف أجد لك وطن آخر فقط أحمل حقيبتك وغادر....

من أين لي بحقيبة تتسع لجواز سفري وذكرياتي وبيتي وسنوات عمري؟! إنني لا أريد أرض برفاهية عيش لا تشبه أرضي ولا سماء صافية زرقاء غير سماء مدينتي الملبدة بغيم ودخان كما يعتقد الآخرون، وإنما أريد أن أكمل ما بقي لي من عمر في وطن يعكس ملامحي، وهويتي، ودمي...

أتوسد بيتي وعطري برائحة تراب.

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان.....

في ليلة شتوية باردة، حيث تتلألأ أضواء سوق عيد الميلاد وسط صقيع الزمن، قرأت آنّا في أحد مواقع التواصل الاجتماعي خبراً مفجعاً: "وفاة عازف الكمان الذي وُجد متجمّداً تحت ضوء القمر والثلوج. كان اسمه أورلوف مولر، خريج جامعة برلين للفنون عام ١٩٦٢، وعازف كمان موهوب في ألمانيا الشرقية. تألّق في فرقة الإذاعة، ثم في أوركسترا الفلهارموني الوطنية. عندما عُيّن في عمر الخامسة والأربعين مدرّساً للموسيقى في قرية قرب ليبزغ، التقى بآنّا هوفمان…".

كانت آنّا فتاةً رقيقة، بشرتها بيضاء وعيناها زرقاوان تحملان براءةً تخفي روحاً متمرّدة. كان صوتها ساحراً، والغناء شغفها الحقيقي، فُتِن بها أورلوف، فشجّعها ووضع بين يديها ألحانه الرقيقة... "هناك صدقٌ في صوتكِ، آنّا، صدقٌ لا يُعلّم؛ لكنه حقيقي كضوء الفجر. هل تعرفين أن الصوت أحيانا يكون أبلغ من أيّ فكرةٍ نحاول التعبير عنها؟"، قال أورلوف وهو ينظر إليها بعينين تحملان ثقل سنوات من الإبداع المكبوت. أجابت آنّا بخجل، "لكنني ما زلت أتعلم، وأخطئ كثيراً.". ابتسم أورلوف بحنان وقال: "الأخطاء هي التي تمنح النغمة صدقها. الصوت الذي يفتنّ بكماله يُنسى، أما الصوت الذي يلامس القلب فيبقى."

كان يرى فيها أكثر من مغنيةٍ؛ كانت ملهمته وحبيبته. "آنّا، عندما تغنين، يخرج لحنٌ يتسلل إلى أعماق الروح؛ لا تدعي أحداً يسرق منكِ هذا النور... الفنّ هو نافذة الروح على الحرية".  في تلك اللحظة، لم يكونا مجرّد معلّم وتلميذة؛ كان هناك شيءٌ يشبه الوعد بأن شيئاً جميلًا سيولد من هذا اللقاء.

صار اسم آنّا مرتبطاً باسم أورلوف في المهرجانات والإذاعات المحلية، بل أصبح اسمها مشهوراً، واكتفى أورلوف بنجاحها الذي يحمل صدى ألحانه. في مهرجانٍ وطنيٍّ بتمويلٍ حزبيّ، طُلب من موسيقيي الدولة تلحين نشيد الافتتاح. رآها أورلوف فرصةً لآنّا، فصنع لحناً أوركسترالياً مهيباً، غنّته آنّا ببراعة، انتشر النشيد في الإذاعات والمقاطعات الأخرى؛ لكن في تلك الأيام الرمادية، حيث كانت السلطة تراقب كلّ شيء، جاء مندوبٌ حكوميٌّ ليأخذ الأغنية. "اللحن اختير ليُعزف في مؤتمر الحزب أمام قادة الدول الصديقة، والأغنية ستُصبح جزءاً من الأوركسترا الوطنية؛ سيتمّ تسجيلها رسمياً، لكن بصوت مغنّيةٍ أخرى. إنه أمرٌ مهمٌّ للوطن.". الكلمات كانت جافةً كرمادٍ يتساقط بلا وزن؛ لكنها تركت أثراً ثقيلاً على أورلوف. شعر بخيبةٍ مريرة: “لحني صار شعاراً لهم، دعايةً للحزب. أما أنا، فلست سوى شبح".  قالت له بهمساتٍ ممزوجةٍ بالمرارة والألم: "كيف يُمكن لقلوبنا أن تخفق في زمنٍ يخضع فيه الإبداع للأوامر؟"، ابتلع أورلوف مرارته: “هذا نظامهم، آنّا. نحن مجرّد أدوات، لا أسماء.” ردّت آنّا بحدة: “كيف يأخذون لحنك ويتركوننا في الظل؟ صوتي هو الذي جعل النشيد يعيش!”.  تلك اللحظات كانت بمثابة بذرة تمرّدٍ في قلب آنّا، بذرة طالما نادت بالحقّ في الوجود والتعبير... " لن أبقى أداةً! سأغنّي للعالم، سأكون آنّا التي يعرفها الجميع!". لم تجد آنّا مفرّاً من قيود النظام حين بدأت أنفاس الحرية تهمس بطرق الخروج إلى العالم. "الغرب ليس كما تظنين. سيأخذون صوتك؛ لكنّهم لن يروا آنّا، الإنسانة... التي أحبّها." قال لها أورلوف حين صارحته بقرا رها. "أفضل أن أخسر صوتي وأنا أحاول، على أن أبقى سجينةً هنا. سأجعل العالم يسمعني"، ردّت آنّا بعناد.

 سلكت طرقاً خطرةً نحو ألمانيا الغربية، تأمل في عالمٍ يتغنى بالحرية ويزداد فيه بريق الإبداع. رافقها أورلوف مقهوراً، تركا وراءهما كلّ ما يعرفانه، حاملين القليل من المال والكثير من الأحلام المثقلة بالوجع. كان الانتقال إلى ألمانيا الغربية أشبه بالقفز في هاويةٍ مجهولةٍ، أخطرها هو الخوف من إعادتهما إلى ألمانيا الشرقية، وتسليمهما لجهاز الشرطة السرية؛ لكنّ الحلم كان أكثر توهّجاً من كل الحسابات الأخرى.

في الأشهر الأولى، عملا ما بوسعهما للبقاء واقفين على أقدامهما؛ كان أورلوف يعزف في الشوارع وفي زوايا الأسواق، يأمل أن يلتفت أحدٌ ما إلى موهبته. أما آنّا، فقد حاولت الحصول على فرصٍ لأداء أغانيها، لكنها لم تكن تملك سوى صوتها ونغماته النقيّة، في عالمٍ يبحث عن الأسماء الكبيرة والإبهار.

بعد أشهرٍ من الرفض والإحباط، تلقّت عرضاً من أحد المتعهدين الصاعدين لتوقيع عقدٍ يتيح لها تسجيل أغنيةٍ جديدة؛ لكنّ الشروط كانت ثقيلة؛ كلمات الأغنية اختيرت بعناية لتكون "رائجة"، ولحنها كان بعيداً عن الألحان التي اعتادت عليها. في الشقّة الصغيرة المليئة بالنوتات المبعثرة، ينظر إليها أورلوف بصمت للحظات، ثم يتحدث بصوت هادئ: "آنا، العالم سيطلب منكِ دائماً أن تغيّري لونكِ. إذا كنتِ تؤمنين أن هذا هو المدخل للطريق، فلا بأس... لكن لا تنسي من أين بدأنا."

لاقت الأغنية رواجاً.  وقّعت آنّا عقداً، مع المتعهد، للغناء في مطعمٍ شهير. توقيع العقد كان لحظةً مزدوجة؛ بدا وكأنه انتصارٌ بعد شهورٍ من الفقر والتهميش، لكنه، أيضاً، كان بدايةً لفصلٍ جديدٍ من التحديات الداخلية. كان أورلوف وآنّا يعتمدان على بعضهما في مواجهة عالمٍ يبدو لامعاً من الخارج؛ لكن، بدآ يشعران بأنه، في داخله، باردٌ، ومزدحمٌ بالأضواء التي تحجب الدفء الإنساني؛ آنّا تغني تحت دائرة الضوء، بينما جلس أورلوف في الخلفية، يرافقها على كمانه؛ يضع لها ألحاناً لأغنياتٍ جديدة، ويراقب، بصمتٍ، وهي تزداد شهرةً، متسائلًا عما إذا كانت هذه هي الحرية التي سعيا إليها. كانت ألحانه تناسب الأمسيات الهادئة في نهاية الأسبوع، بعد أن يكون (الزبائن) قد ارتاحوا وشبعوا وانتشوا. حقّقا نجاحاً جيداً، وصار للمطعم روادٌ جدد، يأتون من أجل عشاءٍ هادئٍ على أنغام أغنياتهما.

بدأت آنّا تنال الشهرة، وبدأت الصحافة تكتب عن "المطربة الهاربة من قيود الاستبداد الشيوعي"، والعقود تتوالى عليها. غير أن الشهرة لم تكن بالبساطة التي تخيلتها؛ فقد تحوّلت موهبتها، التي كانت تمثّل رمزاً للحرية، إلى سلعة تُستنزف لملاحقة الأرباح؛ زخم الجدول المرهق وفقدانها السيطرة على اختياراتها الموسيقية جعلاها تشعر وكأنها تُستهلك يوماً بعد يوم

أما أورلوف، الذي رأى آنّا تتغير أمام عينيه، فقد اختلطت مشاعره بين الفخر بما حققته والحزن لما فقدته. لقد تحوّل صوتها العذب، الذي أسر قلبه يوماً، إلى أداةٍ لتحقيق مكاسب مادية، بينما ألحانه القديمة بدأت تضيع وسط ضجيج الإيقاعات الحديثة والآلات الإلكترونية. بدا له أنّ الزمن قد تجاوزه هو وكمانه القديم، وهما مجمّدان على كرسيهما خلف آنّا، وأصبح وجودهما نشازاً وسط صالات المطاعم الفاخرة وقاعات الحفلات المزدحمة. صارحها ذات ليلة، بينما كانا يجلسان بعد حفلٍ كبير: "ألحاني كتبتها لروحك، آنّا، لا لتُغنّى في الملاهي وأمام السكارى؛ هذا ليس فننا الحقيقي.”. ردّت عليه، غير منتبهةٍ لرعشة التعب التي تسلّلت إلى صوته: “الفنّ يتغير، أورلوف. ألحانك رائعة، لكنها جزء من الماضي. العالم اليوم يبحث عن الحيوية، عن الإيقاع!”. تملّكته موجةٌ من الحزن واليأس، وقال بصوتٍ يحمل مرارةً خفية: "كنتُ أؤمن أنّ الفنّ هو النور الذي يُبقي الإنسان صامداً في وجه هذا العالم القاسي؛ لكنك أصبحت تلهثين وراء الأضواء، بدل أن تصنعيها... متى أصبحتِ جزءاً من هذا السوق؟". رمى سؤاله ولم ينتظر إجابةً. عمّ صمتٌ ثقيل للحظة، آنّا تدرك عمق سؤاله وصدق المشاعر التي تنبثق عنه؛ لكنها، بين مشاعرها وطموح الشهرة المُغري، اختارت طريقها؛ ردّت، دون أن تلتفت إليه: "كيف نحافظ على صدق صوتنا في زمنٍ لا يُقدّر الإبداع إلا بمقاييس الربح؟". هدوء صوتها وملامح وجهها أثار في أورلوف رعشة قلقٍ غامضة، كأنه أدرك فجأةً أنها أصبحت بعيدةً تماماً، امرأةً ناضجةً في عالمٍ لا يعرفه. وبينما كان يراقبها بصمت، تساءل في نفسه: "متى تغيّرت كلّ هذا التغيير؟". كان هذا آخر ما فكّر فيه، تحت مظلّةٍ من صمتٍ ثقيل، وسكونٍ طاغٍ.

تبدّلت الأحوال مع سقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا، مما فتح المجال لاستقطاب الفرق والمغنيات من الشرق. أسّست آنّا فرقةً صغيرةً ضمّت عازف جيتار كهربائي وعازف إيقاعات، بالإضافة إلى عازف كيبورد شاب يحمل وشماً كبيراً على ذراعه وحلقاً في أذنه اليسرى، شخصية ذات حضورٍ قويّ بين جيل الشباب. سرعان ما أصبح له تأثيرٌ كبيرٌ على اختيارات آنّا وقراراتها، حيث تولّى إدارة عقودٍ مربحةٍ لها مع ملاهٍ فاخرة، دون اكتراثٍ لاعتراضات أورلوف وتحذيراته.

في إحدى الليالي، بينما كان أورلوف يجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ قديم، قرب النافذة، يعزف بهدوءٍ على كمانه، جاءت آنّا مبكّراً لتخبره أنها ستنتقل للعيش في شقّةٍ أوسع، وأنها ستترك له الشقة ليعيش فيها، مؤكّدةً أنها ستتكفل بدفع الإيجار وتكاليف المرافق، كنوعٍ من الشكر والامتنان للشخص الذي كان ركيزة نجاحها.

توقف أورلوف عن العزف، ونظر إليها طويلاً، سألها، وهو يضع الكمان على ذراعه كأنه يحتضنه: "هل تشعرين أنكِ ما زلتِ أنتِ، آنّا؟"، جلست آنّا بصمت لثوانٍ طويلة، وقد صدمها سؤاله المفاجئ، قالت وهي تنظر إلى يديه على الكمان: "لا أعرف. أحيانا أشعر وكأنني أعيش حياةً ليست لي؛ لكنني أملك شيئاً على الأقل.". اقترب منها، يتحدث بنبرة أكثر دفئاً: "لكن ما تملكينه ليس حقيقيّاً، آنّا؛ إنه وهم... أتعلمين، عندما كنا في الشرق، كنتُ أرى نفسي جزءاً من شيءٍ أكبر. ربما لم يكن مثاليّاً؛ لكنني كنت أشعر أن الموسيقى كانت تخدم الناس، تمنحهم شيئاً يتشبثون به وسط كل ذلك البؤس."

خلعت آنّا حلقها ووضعته على الطاولة، قالت بشرود: "تخدم الناس؟ كلّ لحنٍ عزفته هناك كان يُستخدم لتجميل صورة نظامٍ لا يهتمّ إلا بالبقاء. لم يكن هناك مكان للفرد، أورلوف. كنتَ مجرّد ترسٍ في آلة ضخمة.". نظرت إليه بهدوء، وسألته: "هل تفضّل أن يعو ذلك الزمان؟". تنهّد أورلوف، وهو ينظر إلى الكمان: "لا، لا أريد أن يعود؛ لكنني أريد أن أجد مكاناً لا أضطر فيه للاختيار بين أن أكون ترساً في آلة، أو سلعةً في سوق. أريد أن أكون إنسانًا، فقط إنسانًا."

كانت كلماته الأخيرة كأنها جدار سميك، وضع حدّاً لكل كلماتٍ بعدها. صمتت آنّا، بين الضحك والبكاء. طالت برهة الصمت، وصار الكلام عصيّاً. أيقن أنه فقد آنّا للأبد. "استثمري في روحكِ آنّا، لا في زخم الأضواء الزائفة!"، قال دو ن أن ينظر إليها، حمَل كمانه وغادر بهدوء.

عاد يجول الشوارع، يعزف للمارة، يكتفي بما يُلقونه في وعائه. كان يعزف حبه القديم، وخيبته المزدوجة.  كان كمانه يبكي جحود دولةٍ وجحود امرأة.

أما آنّا، فقد أصبحت مطربة بوب شهيرة برفقة عازف الكيبورد الذي جرّه طموحه إلى أرض الشهرة والفرص. رحلت آنّا إلى أمريكا مع عازف الكيبورد؛ لكن سرعان ما تحطّمت أحلامها، ولم يجد صوتها مكاناً وسط مؤسسات الشهرة المتوحّشة، فانتهت تغني في باراتٍ رخيصة، وتحوّلت إلى مدمنة كحول ومدخّنة شرهة، بعد أن تخلى عنها عازف الكيبورد الشاب..

في ليلته الأخيرة، عزف أورلوف في ساحة بيتهوفن حتى سكنت الشوارع. لم يتوقف كمانه، يروي قصة موهبةٍ سُرقت، وحبٍ ضاع؛ غطاه الثلج، وصمت قلبه، تاركاً لحنه الأخير يتردد في الصقيع.

عندما قرأت آنّا الخبر في الصحيفة، شعرت بأن شيئًا ثميناً انكسر داخلها؛ قالت وكأنها تخاطب صورة وجهه، "لقد كنت دائمًا تقول إن الفن مثل الكمان، أوتاره حساسة، إذا لم تُشدّ بالشكل الصحيح، فقد تتقطّع… وأظنني شددت عليك أكثر مما تحتمله روحك الحساسة."

وقفت تحت ضوء القمر الذي كان ينعكس على الجدران المتجمدة، وغنّت اللحن كما غنّته أول مرة؛ بلا إضافات، بلا زخرفة، فقط صوتها وروحها. لم تُغنِ لجمهورٍ أو من أجل الشهرة، بل غنّت لذكرى أورلوف ولتُعيد لنفسها حريتها؛ وبينما كان صوتها يعلو وسط الهدوء البارد، أدركت أنّ الحرّية ليست مكاناً أو وعداً خارجياً؛ إنها فهم عميق للنغمة التي تسكن قلب الإنسان.

***

قصة: منذر فالح الغزالي

Wachtberg, 20.06.2025

أنت تُقصيهِ وهْوَ يُقصيكَ حتّى

جاءَ من يُقصيْ الشّعبَ والأحزابا

*

كم فريقٍ أقصى أخاهُ وأقصا

هُ بقُدسٍ أقصاهُ للكونِ طابا

*

فأتى منْ أقصى البلادِ قصِيٌّ

معْهُ أمسَوا في دارِهمْ أغْرابا

*

يسكنونَ النّسيانَ والدّهرُ أيدٍ

لا تُمدُّ إنْ تُنسَ إلا حِرابا

*

ما لهُم ْمن أمواهِهم غيرُ كدْرٍ

يدفعونَ الشّقا لقاهُ شرابا

*

ومن الأرضِ أينَما ذهَبوا غيـ

ر قبورٍ إنْ تبْدُ نالوا عِقابا

*

ما لهمْ من عهدٍ مضى غيرُ رسمٍ

لا يَزيدُ الغريبَ إلا اغْترابا

*

و مِنَ الآتِ لو أتى غير شكٍّ

مستحيلٍ قبلَ الوقوعِ تُرابا

*

ما لهُمْ في ما قدّسوا غير ركْعا

تٍ بظهرٍ إنْ يعبُروا الأبوابا

*

و مِنَ الذّكرِ والهُدى غير شرحٍ

معْهُ يُمسي الفرعونُ للدّينِ بابا

*

ما لهُمْ من أيّامهِمْ غير سبتٍ

ورجاهُمْ ألّا يطيلَ الغِيابا

*

و مِنَ الصوتِ صمتُهُ دون واهٍ

منهُ يُجري عند القصيِّ اللُّعابا

*

و مِنَ الصّمتِ صوْتهُ شرطَ ألّا

يَسْتفزَّ عندَ القصيِّ ارتِيابا

*

فتقبَّلْ أخاكَ في القدسِ يا ابن الـ

القدسِ في قدسٍ بالتّشَرذُمِ شابا

*

وتَفَهَّمْهُ من يمينٍ أتى أمْ

منْ شمالٍ ما دامَ يرْجو الصَّوابا

*

وتَوَدَّدْهُ مائلًا لعليٍ

كانَ أم للصدّيقِ والْجُمْ عِتابا

*

إنّ قدسًا تزورهُ اليوم ماءً

إنْ توانيْتَ قد تجِدْهُ سَرابا

*

إنّ قدسًا أمسى بلا أُمّةٍ يحـ

تاجُ ذا اليومِ منكَ حتّى التُّرابا

*

إنّ قدسًا من دونهِ أنتَ لن تُصـ

ـبحَ أنتَ يحتاجُ منكَ الجَوابا

***

أسامة محمد صالح زامل

لَا لَمْ يَجِئْ أَحَدْ

لَمْ يَجِئْ اَلْوَالِدُ وَالْأُمُّ،

أَوْ اَلْبِنْتُ أَوْ اَلْوَلَدْ

فِي اَلْبَرِّ،

أَوْ فِي اَلْبَحْرِ،

أَوْ فِي اَلْجَوِّ

أَوْ فِي اَلنَّوْمِ، أَوْ فِي اَلصَّحْوِ

لَا. . .،

لَا لَمْ يَجِئْ أَحَدْ

فَهَلْ يَظَلُّونَ إِلَى اَلْأَبَدْ

مُذَوَّبِينَ فِي اَلزِّحَامِ،

غَائِبِينَ، لَا نَرَى

لِأَيِّ وَاحِدٍ مِنْ بَيْنِهِمْ جَسَدْ

يُثِيرُنَا مَشْهَدُهُمْ

وَكُلُّهُمْ

سَلَاسِلٌ تَرْبُطُهُمْ

يَسْتَبْدِلُونَ سِلْسِلَةْ بِسِلْسِلَةْ

وَكُلُّهَا سَلَاسِلٌ مُجَلْجِلَةْ

**

لَا لَمْ يَصِلْ أَحَدْ

لَمْ يَصِلُوا

وَنَحْنُ نَسْأَلُ

هَلْ يَصِلُونَ اَلْيَوْمَ، أَوْ غَدًا

أَوْ بَعْدَ غَدْ

هَلْ تَبْلُغُ اَلْعَائِلَةُ اَلْمُكَبَّلَةْ

أَحْلَامَهَا اَلْمُؤَجَّلَةْ؟

أَمْ أَنَّهَا

ضَاعَتْ وَضَاعَ ذِكْرُهَا

وَلَمْ تُعَدْ هُنَاكَ مَسْأَلَةْ

تَشْغَلُهَا

مُذْ غَدَتْ اَلسِّنِينُ قَاحِلَةْ؟

**

لَا لَمْ يَجِئْ أَحَدْ

لَا لَمْ يَجِئْ

مَا يُفْرِحُ اَلرُّوحَ أَوْ اَلْجَسَدْ

فَهَلْ سَتَأْتِي وَحْدهَا

كَاشِفَةً لَعَمْرِي اَلْحَزِينِ سِرَّهَا

فَتَعْبَقُ اَلْوُرُودُ لِلْأَبَدْ؟

***

خالد الحلي

 

للكلاب حقّهُم في النُباح

إذا أكرهتموهُم على الصمتِ لم يعودوا كلاباً

بل سلاحفَ مسخّرةً للحراسة الليلية

ما داموا قد وِلِدوا بسبطانات في حناجرهم

فمن حقّهم أن ينقلوا حروبهم إلى مهاجِعكُم

لماذا تُهدّدونهم

بجعل أفواههم مخازن للكراسي المحطّمة

والأحذية العتيقة

هل تُريدونهم أن يُهدهدوا أطفالَكُم ليناموا؟

إذا كنتم تكرهون الكلاب

لماذا تتحوّلون إلى أشباههم

عندما تختصمون بينكم؟

ما دمتم تنامون في خزّانات الملابس

فلا تتذمروا من رائحة النفثالين

**

للكلاب حقهم في النباح

فلا تجعلوا الميكرفونات حِكراً على البلابل

لو كانت البلابلُ أهلاً للميكرفونات دون الكلاب

لماذا إذن لا تُطلقون البلابلَ من أقفاصها؟

وتُزودونها ببنادقَ لحراسة بيوتكم؟

أرجوكم

ألزمنُ ليس في صالحكم

لن يمرّ وقتٌ طويلٌ

حتى تجدوا أحفادَكم خدَماً في أوجار الكلاب

فتحوّطوا لأيام الذل

لا تجرحوا كرامتَهم بالنظر إليهم من الأعلى

متذرعين بعدم تزييتِ مفاصلكم

أرفعوهم إلى مستوى عيونكم

ودعوا مياهَ نظراتِكم تمتزجْ بوحولِ نظراتِهم

أنقلوا أهاليكم للنوم في الخرائب

واسمحوا للكلاب النوم في أسِرّتهم

أطعموا أطفالكم من القمامة

وأرضعوا الجِراء من حليب رضّاعاتهم

فالكلابُ مثلكم

يتبوّلون

ويتغوّطون

ويُطفئونَ شموعَ القمر بدِلاءٍ ملآى بالدموع

إذا لم تمنحوهم اليومَ حقّ النباح

فغداً سيحرمونكم من حق الإنجاب

وإذا ما اتخذتم الصداع ذريعة

لحرمانهم من الميكرفونات

فغداً، حين يجتاح قرادُهُم الحدائقَ العامة

وتَستبدلُ الأنهارُ مياهَها العذبة بلعابِهم الدبق

سيحوّلون ثقوبَ أجسادكم إلى ميكرفونات

***

شعر / ليث الصندوق

 

لا شيء يثنيني عن النسيان

ما زال يسكن مقلتي وجناني

*

ما زال يسكن بيننا بمحبة

وينام منتشيًا بظلّ حناني

*

وعلى شغاف الباب تجلس أمه

ويفور قدر الشوق في الهجران

*

وتعود غرفته وتسال هل أتى

ام أنه في مجلس الجيران

*

ويطلّ من طيفِ المساءِ ملوّحًا

كالعطرِ يسري في دمي وكياني

*

وأنا أُخبّئ خيبتي في صمتهِ

وأمدّ أشواقي إلى عنواني

*

فكأنّ قلبي كلّما ناديته

عاد الغيابُ يردّهُ بثوانِ

*

يا شوق قلبي كيف حالك بعده

نار على نار على نيران

*

وتمرّ بي ذكراه في وجعي كما

مرت على قلب الظمي أحزاني

*

في كلّ ركنٍ كنتُ أسمع خطوَهُ

وأراهُ بين دفاتري وبياني

*

ويلومني صحبي على فرط الأسى

وانا اداري الفقد بالكتمان

*

وإذا بكيتُ، بكيتُ من وجع الحوى

لا من وداعٍ أو جفاء زمانِ

*

لكنّهُ ظلّ الحضورِ بمهجتي

يأبى الغيابَ، كأنّهُ عنواني

***

د. جاسم الخالدي

هرطقةٌ،

تلك التي تسللت من بين ضلوعي ذات مساء،

حين كنت أُقلّبُ في الكتب القديمة

وأبحث عن اسمي في هوامش الأنبياء.

*

هرطقةٌ،

حين قلتُ،

السماء ليست دائمًا زرقاء،

وأنَّ اللغة العربية تنصلت من جناحيها، الضاد والظاء .

*

كنتُ طفلة حين ارتكبت أولى خطايا الوعي،

حين سألت أبي،

لماذا لا يصلي الصخر؟

ولماذا يموت الضوء في نهاية كل مغيب؟

*

ضحك، وقال،

تلك مجرد هرطقة.

فصمتُّ،

لكنني كتبتُ السؤال في نخاعي الشوكي،

وتركتُه ينمو مثل وردةٍ مبللةٍ في زمن الجفاف.

*

كبرتُ،

وصار في داخلي مسرح من أصوات متعارضة،

كل فكرةٍ لها لسانان،

وكل إيمانٍ له ظلٌ مرتجف،

وكل "يقين" له أبوابٌ خلفية،

تنفذ منها رياح الشك.

*

قلتُ لليل:

لستَ ظلامًا… أنت مرآة الضوء الخائف.

فصفق لي الليل،

وصار صديقي.

*

قالوا: تلك هرطقة.

قلتُ،

بل فُسحة بين التفسير والسكوت،

بين السجود والوقوف منتصبًا في وجه الحكاية.

*

تلك التي سميتموها هرطقة،

هي التي علمتني أن أسمع الموسيقى في بكاء النافذة،

وأن أقرأ الحروف في طيران النمل،

وأن أرى وجهي الحقيقي في عيون الغيم.

*

تلك التي نفيتموها خارج مدينة المعنى،

هي التي أنقذتني من الغرق في بحيرة التكرار،

وجعلت من لساني شجرةً تنبت فصولًا جديدة

و لا تخضع لمواقيت الفقهاء.

*

في كل ليلة،

أفتح كتابًا لم يُكتب بعد،

أقرأ بصوت مبحوح،

"وكان الإنسان فكرةً مشتبهًا بها"،

فترتعش النجوم،

وتنطفئ شموع المنطق.

*

أكتب على جدران الوقت،

أن الهاربين من القطيع

ليسوا ذئابًا،

بل أحيانًا… قديسين تعبوا من الرتابة.

*

هرطقة؟

نعم.

لكنها ليست خيانةً للحق،

بل حُبٌّ للبحث عنه،

ولو تحت حطام المسلمات.

*

أنا ابنةُ الريح،

وصديقة النار،

وتلميذة الظلال،

أتهجى الخلق من جديد،

وأعيد ترتيب الأبجدية كي تنطقني كما أشاء.

وإن أحرقوني بنيران الفتوى،

سأقوم رمادًا ناطقًا،

وأُلقّن الرمادَ كيف يصير نجمًا.

*

فلتلعنني المجامع،

ولتُقصني الكتب،

ولتغلق في وجهي المعابد،

لكنني،

سأظلّ أكتب،

وأكتب،

وأكتب…

أن تلك التي سموها هرطقة،

هي ببساطة، حقيقةٌ خجولة… تنتظر أن يُؤمن بها أحد.

***

مجيدة محمدي - تونس

في الميدانْ

لستُ أريدُكِ في الميدانْ

أكثرَ من حُزمةِ ألوانْ

أكثرَ من تغريدةِ شَوقٍ

تتلوّى ما بين ضلوعي

تحرقُني شَبَقًا يتمنّى

أنْ يعصِفَ فينا الطّوفانْ

في الميدانْ

لستُ أريدُكِ في الميدانْ

أكثرَ من أنثى إنسانْ

تأكُلُني

تشربُ إحساسي

تُمطرني

مطرًا عطشانْ

تزرعُني زَهْرًا لا ينسى

رَغمَ جمالِهِ

واستسلامِهِ لحظةَ وُدٍّ

واستبسالهِ لحظةَ صدٍّ

أنّي.. أنّكِ..

في الميدانْ.

**

في الميدانْ

كوني خيلًا تصهلُ حُبًّا

كوني أخذًا كوني رَدًّا

كوني فوقَ بلادي جُندًا

احتلّي أرضي وسمائي

كوني البدرَ يشقُّ مَسائي

خلِّ خريفي زهْرَ ربيعٍ

صُبّي صيفَكِ فوقَ شتائي

كوني شيئًا لن يتكرّرْ

شَفَةً تحرقُ.. نهدًا يزأرْ...

في الميدانْ

هُبّي نارًا

تطلعُ من جوفِ الحِرمانْ

ثوري شوقًا

موجي شَبَقًا

كوني امرأةً كالبركانْ.

**

في الميدان

لا يبقى منّا إلّانا

يبحث كلٌّ منّا فينا

عن عاصفةٍ

تضرب أعماقَ الوجدانْ

لا يبقى منّا إلّانا

فينا يكتملُ الإثنانْ

**

في الميدانْ

بوحُ الصّدقِ

ودفقُ العشقِ

نسيانٌ يمحو نسيانْ

في الميدانْ

كوني أَلَقًا

كوني حُلمًا

يُزهرُ من عُمقِ الوجدانْ.

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

روحُــكَ تَلاشـتْ عن مَهـدِ مائـي

وتَبخَّـرت بُحيـرَةُ ذاكِـرَتي...

يا مَنْ كُنتَ أميرَ فاكهتي

لقـد حـلَّ الخَريـفُ برحيلِ الجلنار

خَفَـتَ فانـوسُ العِشـق

وأَطفأتُ قَمرَ أيلول

حتى نَبضُـكَ تَجمَّـدَ في عُنُقِـي

وخَبـا بَخـورُ أَنفاسِـي..

الشَّـوقُ غادرَ شُـرفَةَ أَحلامِـي

فَلا سِحـرُكَ يَغْوينـي وكرزُ شَفتيـكَ

دون حَلاوَة..

صَنـوبَرُكَ باهِـتٌ أصفرُ

سئمتُ الـدُّروبَ إلى صـدرِكَ

وفي القِفـار دَفَنـتُ أَشعـارَكَ

وأَضعـتُ مَفاتيـحَ قَلبكَ

بَصماتُـكَ تائهةٌ إلى ساقِيـةِ الريـح ِ

أَتـدري.. هَمَساتُكَ الباردةُ

التَهمَتـها نِيرانُ صَحوَتي؟

ألمَـحُ  طيفَـكَ

عنـد أَعتـابِ مَساماتِي

لن تَعبُـرَ ضِفـافَ البَنَفسَـج

أَكاليـلُ النـورِ لا تُزهِـرُ إلاَّ في الضَّـوء

لَمْلِمْ أوراقَكَ العاريَة وارْحَلْ

أنا لا أُتقِـنُ دَورَ الجـاريةِ

وأنتَ فنَّـانٌ في تَقليـدِ السَلاطيـنِ...

ماذا لو أَهدَيتَنـي القَصـائدَ المُطـرَّزةَ بالحَريرِ

وذاتـي تَنتَـحِرْ؟

ماذا لو طَوّقتَنـيْ بالَلآلـئ وشَهقاتِـيَ تُحتَضَـر؟

سأدعُكَ حتَّى آخرِ عهدي

وتراً يَتيماً في سيمفونِيَّـةِ المـوتِ

أَنت لا تُحسـنُ العَـومَ في بحـرِ المُستَحيـل

ولا التَّحليـقَ فوق الثُلـوجِ

فَلتَبـقَ أَسيـرَ الجَليـدِ

***

سلوى فرح - كندا

 

يسير الأعمى بخطىً سليمةٍ

متأبطاً عصاه

التي لا يذكر كيف أصبحت رفيقته

هي صولجان حكمه الضائع

مازال يسير وفق حدسه الغريب…

نحو حانة النسيان

واثقًا بخطوات صديقته

بوصلةٌ عصاه

مطرزة بضوابط

التوقيت مثل مطلع الفجر

مقبضها خصر امرأة خيالية

شده الشوق إليها

مازالت تؤرق همهمته

التي تشبه نوح الحمائم في المساء

وكأن خيطاً من بصيص يتلمس من خلاله

نعومة شعرها بيديه الذابلتين

يتأرجح كالبندول بين عقله والجنون

استقام عود ذاكرته وانحنى عود ظهره

فتاه عن سبل المرسى المأمول

سيغلق النادل ابواب الحانة

ويجف ما تبقى من كأسه الفارغة

كأخر قبلة تغلغلت في ثغرها

يبحث في بحبوحة البدايات

التي انتهت قبيل اكتمال الأغنيات

تثاقلت قدماه في وحشة المجهول

من يبصر اسير العيون

من يزيل الغبار عن عزلته القاسية

من يزيل اشواك الماضي وأحجار المأساة

التي تهيمن على درب ضالته

يرحل النهار يجيء الليل

وينسج عتمته بشرايين

الظلام المتدفق في الأقاصي

آآآه أين تتجة سهام العاشق الأعمى

لا إمرأةً يأوي إلى كهفها

لا حانةً تفتح أبوابها

في نهاية المطاف

يبقى السؤال المعلق دائمًا

في عنق الدروب

إلى أين يسير هذا العاشق الأعمى!!!

***

باقر الموسوي

في ظهيرة احد أيام أواخر شهر أيار، جلس الطفل على تلة خالية من الاشجار تغطيها بقايا حشائش الربيع المتيبسة، مديراً ظهره الى المدينة الميتة التي يتكرر فيها كل شيء بلا حياة. شرع بيديه الصغيرتين بصنع طائرة ورقية من ورقة كبيرة، وقام برسم خارطة وطن على جناحي الطائرة، وطناً لم يعش فيه قط، ولكن احتفظ بتفاصيله الدقيقة التي تمنَاها في مخيلته، رسم فيها قرية تنام مبكرا في أرجوحة من الهدوء وتصحو على زقزقة العصافير، ورسم فيها بيوتاً، ودروبا، وجداولا، ووزَع عليها الواناً تشبه حنينه وأحلامه الطفولية، لوَن التراب، لوَن السماء الصافية التي طالما حلم بها في ليالي الغربة. لم تكن الطائرة مجرد لعبة، بل كانت له سفينة تحمل في أشرعتها صفقات أجنحة الطيور ووشوشة فراشات مهاجرة وخفقات قلبه الصغير. رفع الطائرة نحو السماء والرياح تلعب برفق بأوراقها الرقيقة. بدأت الطائرة تصعد، تصعد في عمق السماء اللامتناهية، ومع كل ارتفاع كانت خطوط الخارطة تتلاشى وتتبدد بين الغيوم. كان يتابعها بعينيه المبللتين وهي تختفي عن الأنظار، شعر وكأنً وطنه يغادره. ظل واقفاً في صمت عميق، تتلاطم في ذهنه موجات الذكريات، وجه الجد المليء بالحكايات، ابتسامة الأم التي كانت تشبه دفء الشمس، ضحكات وصيحات الاصدقاء وهم يركضون في الأزقة الضيقة التي لم تعد موجودة. كانت الوجوه ترتسم أمامه كلوحات محاطة بضباب الفقدان والغياب. في تلك اللحظة شعر بثقل الغربة يعصر كيانه. وطن لم يُفقد من الأرض فحسب، بل من الذاكرة ومن الروح. حدَق صامتاً في السماء متمنياً أن تعود الطائرة يوماً ما حاملة وطنه، وطن لا تتغيب عن أرضه الشمس ولا تتلاشى فيه الوجوه.

***

قصة قصيرة: د. مامند محمد قادر

* شاعر وقاص عراقي كوردي

 

أَبَىَ (الــــدولارُ) إلا أنْ يَـدُورا

على مَنْ شاءَ مِنْهُــــنَّ الفُجُورا

*

ثَـــــلاثٌ ليس يَطهُــــرْنَ بحالٍ

وإنْ قَـــــــــدَّمْنَ للـــه النُّـذُورا

*

ثـــــلاثٌ خَــصَّـــهُنَّ بالتِفَــــاتٍ

ونَـــــادَاهُنَّ بالعربيّ: (بُـــورَا)!

*

فَرَشنَ لهُ (المَصَارِفَ) و(الخفايا)

وأَصْلَحّــنَ الأسِــرَّةَ والبَخُــورا

*

وأَشْرَعْنَ الصُّـــدور لتحتـــويهِ

ويَحْــــلُبُهنَّ(ثَيْـبًا) أو (بُكُـورا)!

*

وحَضَّرْنَ (الإباحـَ  ـةَ) دون (يـاءِ)

لِيُظْهِرْنْ المكـــارِمَ... والسُرُورا!

*

وأمْكَـرَهُــــنَّ أهْــدَتْـهُ (فَضَـــاءً)

فـــأعْــرَبَ عن سَفَالَـتِها كَفُورا!

*

وأَفْرَطْـــــنَ بنِخْبِ العارِ صرْفًا

وفَـــــرَّطْــــنَ بأَنْفَسِهَا حُضُـورا

*

بِعَيْنيْ مـــارَأَتْ رُخْصًـــا كهــذا

ولن تَذْرِفَ على (سَــقَطٍ) دُهُورا!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

دعوا المفاخِرَ يا أعرابُ للعَجَمِ

فقد تفشّى بكم شوقٌ الى الصَنَمِ

*

شوقٌ قديمٌ طغى فيكم وأرجعَكم

للجاهليّةِ رغْمَ البونِ والقِدَمِ

*

كأنَّ إيمانَكم رملٌ بقاحلةٍ

والريحُ تذرو رمالَ القَفْرِ للعَدَمِ

*

قُلْ للصديقِ الذي ساءَتْهُ قافِيتي

لو كانَ أنصفَ لَمْ يَعْذلْ وَلَمْ يَلُمِ

*

شاهتْ هُوِيّتُنا ياصاحبي وَبَدا

صوتُ العُروبةِ جُرْحاً غائراً بِدَمي

*

قد أستعيرُ بذيءَ القولِ من لُغتي

لكنّما خَصْلةُ الإنصافِ من شِيَمي

*

لسْتُ الغَشومَ ولكنْ جاشَ بي غضبٌ

خوفاً على أمّتي من لُعْبةِ الأمَمِ

*

حيثُ الركونُ الى سفّاحِ غزّتنا

ياصاحِ منقصةٌ مذمومةُ الذّمَمِ

*

والشامتونَ بِقتْلى أهْلِ قِبْلَتِنا

يُلْقونَ أرواحَهُمْ في حالِكِ الظُلَمِ

*

هَبْ أنّهم أخطأوا يوماً سياسَتَهمْ

فاغفرْ كما غَفَروا بالفِعْلِ والكَلِمِ

*

واشْكُرْ فقد بذلوا أزكى الدماءِ فِدىً

كُرْمى لِغزّةَ والأيتامِ والحَرَمِ

*

قد نامَ قادَتُنا عن شَرِّ مذبَحةٍ

وباتَ مُرشدُهمْ سهرانَ لم يَنَمِ

*

هل ذا جزاءُ الذي يفدي قضيّتَنا

بالنفسِ أُضْحِيةً من دونما نَدَمِ ؟

*

ياناكرينَ جميلَ القومِ ويلكموا

مِمّا تخطُّ يَدُ التاريخِ بالقلمِ

*

فَذَرْ خصومةَ مَنْ هَبّوا لِنَجْدَتِنا

واحْذرْ فجوراً وَحاذرْ زَلّةَ القَدَمِ

*

وادعوا لَهُمْ ربّكَ الأعلى مُؤازَرَةً

وأن يُسدّدَ صاروخاً غداةَ رُمي

*

ياصادقَ الوعدِ شِعري صادقٌ ويَدي

تومي تفسّرُ ما معنى دعاءِ فمي

*

عَظّوا النواجِذَ يا أعرابُ واختبئوا

بينَ الجحورِ بلا توقٍ إلى القِمَمِ

*

عبادةُ البُرْجِ في دُنيا الخليجِ هوىً

وفي الكِنانَةِ يعلو عابِدُ الهَرَمِ

*

لا تزعجوا عربَ الأقطارِ إذ رَقدوا

فالنفطُ ينبعُ من خمّارةِ الرِمَمِ

*

قد صامَ حاضرهم عن كلِّ منقبةٍ

صومَ الصحارى عَنِ الأمطارِ والدِيَمِ

*

داستْ مناقِبَكمْ أقدامُ قاتِلِكُمْ

حتى تَشوّهَ معنى الجودِ والكَرَمِ

*

فالمالُ يُغْدَقُ للخنزيرِ مكرُمةً

والجوعُ يُرْدي صِغاراً من ذوي الرَحِمِ

***

مصطفى علي

 

في محطاتنا الأخيرة

نجلس على ركام كلماتٍ لم تُقتل

نرتّق نسيج الندم بخيوط من دموعٍ جفّت

رسائلُ بلا توقيع

وصمتٌ يشلّ ذاكرتنا

أرجوحة معلّقة بين شبح الشكّ وهم اليقين.

*

كم قصيدة تئنّ

معلقة على حافة سطرٍ غادر

تسكن دفاتر مهترئة

تنتظر قارئاً صار بعيداً كأفقٍ احترق

*

نفتح نوافذ القلب على هزيمة حكاية

نسرق عبيرها من بقايا زمنٍ نسيناه:

زهرة ماتت قبل أن تُقطف

وفنجان يحترق بدفء غياب لم يُودّع

وصوتٌ تألم في دهاليز الغياب

لم يُكتب له الوصول.

*

رهانٌ على حب بلا أفق

عُلق في عنق الزمن كتعويذة باهتة

فانكسر بين أصابعنا

كما تنكسر المرآة على وجه لم يعد لنا.

*

لم نخسرهم

بل خسرنا ذواتنا التي كانت تكتبهم بلهفةٍ لا نعرفها الآن

لم يخدعنا أحد

بل صدقنا وهم الخلود في علاقاتٍ

رُسِمت بحبرٍ سري، ثم محيت بيد القدر العابثة.

*

أنا التي عبرت الأزمنة على أقدام الرسائل

وتسلّقت طرقاً موصدة بأملٍ أبكم .

أعود اليوم

لا لأبكي صفحاتٍ انهارت

بل لأعطيها اسماً أخيراً:

"الحكمة المؤجلة".

*

الخسارة، يا صديقي

لا تُشفى إلا حين نصيرها

حين نتحول إلى مرآتها

ونمضي… لا عودة.

***

بقلم فاطمة عبد الله

ينتظرني كل يوم

يخبئ حبات من ضوء

في جيب المعطف

يبتاع لي وردة

يهمس لبتلاتها

بتميمة الأبد

يقطع المسافة

على عجل المشتاق

فتلبيه كل الطرقات

لا تشغله مدائن أخرى

أو حسناوات

يترفع عن غزل النجمات

هو لا يتأخر

يعرفني

أحن إليه

وأن القلب

محتاج لحفنة ضوء

وأن الروح

عالقة في عطر الوردة

يعرفني حبيبته

يعرفني

كيف أطرز من أشواقي

قصيدة

وأحرر من لفتات حنيني

أسراب فراش

وأعلق شالًا من شغف الخدين

على خصر الوقت

وأنا أحدثه عن فرح آتي

يعرفني

من ليلة ميلادي

وحتى وقت مماتي

حبيبي الليل ...

***

أريج محمد

15/06/2025

ربما كنتَ تظنني نهرًا،

مجرد نهرٍ يجري،

يتبع الشمس بقلبه،

ويغازل القمر عند البلوغ،

ينساب طوعًا،

يسقي الأرض،

ثم يعود كل ليلةٍ

إلى ضفتيه كطفلٍ مطيع.

*

لكني تعبتُ من العطاء بلا وجهة،

من الجريان الأبدي،

من أن أكون مرآةً

تعكس بريق السماء

دون أن تدرك عمق ظلمتها.

*

لن أكون نهرًا،

فالنهر مقيدٌ بمساره،

وأنا أريد أن أختار طريقي،

أن أتحرر،

أن أعيد تشكيل ذاتي،

سأصبح غيمةً

تحلق فوق الجبال،

ترسم ظلها على السهول،

وتهطل حيثما أريد،

لا حيث يُملَى عليّ.

*

سأكون غيمةً

لكن الغيم هشٌّ،

يتلاشى عند أول شعاع،

وأنا أريد أن أبقى،

ثابتةً رغم الرياح.

*

ربما أكون شجرة،

رغم أن جذورها عميقة،

لا تسير نحو أحلامها.

ثابتة تراقب مرور الفصول،

وأنا أريد أن أتغير،

أن أغني للريح،

أن أرقص مع السنابل،

أن أكون حرةً،

كأول قطرةٍ

تحررت من حضن النبع.

*

سأكون شمسًا،

تبعث الدفء في القلوب،

لكنها بعيدة، وحيدة،

تحترق لتضيء.

أريد أن أضيء دون أن أفنى.

لا، لستُ شمسًا،

ولا نجمةً،

تزين الليل وتلهم العشاق،

قد تسقط عندما تُرهقها السماء.

وأنا لا أريد أن أسقط،

بل أريد أن أرتفع كما السماء.

ولا حتى ظلًا،

يتبع النور،

يعيش في حضوره،

ولا يملك ذاته.

أنا أرفض أن أكون تابعًا،

أريد أن أكون النور.

*

لن أكون أرضًا،

تحمل أثقال العالم،

وتنبت الحياة من أحشائها،

لكنها تُداس كل يوم،

دون أن تُسأل عن وجعها.

*

أريد أن أكون سماءً،

عاليةً وحرة،

تُرى ولا تُمس،

تمنح فقط عندما تختار.

*

أريد أن أكون إنسانًا،

يخطئ وينهض،

يحمل روحه بيديه،

يتعلم كيف يكون شمسًا لنفسه،

وظلًا لذاته،

يزرع في قلبه شجرةً،

وينام تحتها عندما يتعب.

*

لن أكون نهرًا،

ولا غيمةً،

ولا شمسًا،

ولا نجمةً،

ولا شجرةً،

ولا ظلًا،

ولا أرضًا.

*

سأكون امرأةً تُعيد صياغة الحكاية،

امرأةً اختارت أن تكون البداية والنهاية.

سأكون الحياة ذاتها،

بدون قيدٍ،

وبدون نهاياتٍ متفق عليها.

***

ريما آل كلزلي

 

في قلب ارض منسية، تمتد بلدة صغيرة، ملتفة حول محطة قطا عظيمة مشيدة من الحجارة وصمت عتيق، منذ أجيال والناس في البلدة ينتظرون القطار، لا احد رآه، ولا احد سمع هديره، ومع ذلك، لم يفقدوا الأيمان بأنه سيأتي ذات صباح، أو ربما ذات مساء، ليأخذهم الى حيث الحياة كما يجب أن تكون، لا كما أجبروا على عيشها،كل شيء في البلدة يدور حول هذه الفكرة:

ألحلاق يسأل زبائنه متى تظنون انَ القطار سيصل؟

المدرسون يعلمون الاطفال كيف يحزمون حقائبهم استعدادا للرحيل،

و الشيوخ يتحدثون عنه كما يتحدث المتدينون عن يوم الخلاص،

و في كل فجر يعلو صوت العم احمد، مدير المحطة، عبر مكبر الصوت المهتريء:

" السادة المسافرين،. القطار القادم الى بلدتنا سيصل في اي لحظة، الرجاء الوقوف خلف الخط الأصفر "

فيبتسم الناس، ويقفون للحظات، ثم يعودون الى حياتهم مثلما ييئس المرء من أمنية لم تتحقق لها،

لكن ذات يوم جاء شاب غريب الى البلدة، كان اسمه رشيد، بعينين مليئتين بالشك وخطى لا تعرف الرهبة، سأل رجلاَ مسناَ عند المحطة:

- " منذ متى تنتظرون القطار؟"

أجابه العجوز، وهوينظر نحو الأفق:

- منذ ولادة الصمت، ومنذ ان وعدونا أن ننقل،

قال رشيد بحدة:

- " وهل جاء؟"

اجابه العجوز بأبتسامة راضية:

- " ليس بعد، لكنه سيأتي، الأمر مسألة وقت،"

لكن الوقت في البلدة لم يكن يقاس بالساعات، بل بالأمل،

لم يكن رشيد مؤمنا بالموضوع، راح ينبش في السجلات القديمة، يتقضى الأحاديث النفسية، يحلل الخرائط والاصوات والأوهام، فلم يجد أثرا لحركة القطار، فصرخ في الساحة الرئيسية:

-" ايها الناس! انتم لا تنتظرون قطارا، بل تهربون من مواجهة وجودكم هنا، بلا جهة، بلا نهاية، بلا بداية، القطار لن يجيء، لكن لم يرد عليه احد. لم يكن في أعينهم غضب، بل شفقة،

في اليوم التالي، وجد نفسه وحيدا في المحطة، لا مارة، لا الاطفال، فحمل حقيبته ومشى، سار على القضبان الصامتة، قضبان لا تفضي الى شيء سوى البعيد، السماء فوقه كانت بلا لون، والريح لا تحمل سوى صدى قديم، لكن ظل يسير، وفي ليلة لا قمر فيها، بينما هو في منتصف صحراء الزمن، سمع شيئا،

صفارة بعيدة وضعيفة، غائمة كالحلم، لكنها كانت هناك،

توقف، هل هذا هو القطار؟! أم انَ قلبه بعد طول انكار، بدأ يشتاق للأيمان بشيء، بأي شيء؟ لم يعرف، لكنه ابتسم، وواصل السير نحو الصوت.

***

قصة قصيرة

د. مامند محمد قادر - شاعر وقاص عراقي كوردي

 

في أحد الأيام، انتشر خبرٌ مفاجئ هزّ أركان القرية: البلدية قررت قطع الشجرة! قالوا إنها شجرة عجوز، متآكلة الجذوع، وخطرها يزداد مع مرور الزمن. نزل القرار كالصاعقة، لم يصدق أحد أن رمز الحب والذكريات سيختفي هكذا فجأة.

في قلب الحديقة العامة لقريتنا الصغيرة، كانت تقف شجرة سنديان عجوز، أنتفخ بطنها وتحول لجذع عريض حمل أسرار كثيرة، بعضها حفرت بأسماء العشاق. احتوت الجميع كانت تحنو عليهم بأغصانها المترامية، التي ظللت المقاعد الخشبية المتناثرة حولها. كانت تقف هناك منذ عشرات السنين، حتى قالوا أنها شهدت الحرب العالمية الأولى، وعاصرت الأجيال المتعاقبة، وشهدت لحظات الفرح والحزن، واللقاءات الأولى والوداعات الأخيرة.

كان العشاق يجلسون تحتها، يتبادلون العهود والرسائل المكتوبة على أوراقها المتساقطة، بينما الأطفال يستلقونها ويسرقون من أغصانها القوية لحظاتٍ من المغامرة. كبار السن كانوا يأتون إليها، يسندون ظهورهم على جذعها، تستل اوجاعهم، وتسترجع ذكريات خطّها الزمن فوق لحائها العتيق.

اجتمع أهل القرية في الساحة، كبارًا وصغارًا، يهمسون بغضب، يتساءلون عن سبب هذا القرار الظالم. وقف شيخ طاعن في السن أمام الحشد، عصاه ترتجف بين يديه، وقال بصوت مبحوح: "هذه الشجرة رأت أكثر مما رأينا، وحفظت أكثر مما نسيتم… كيف يمكن أن تزيلوها. لكن ذلك لم يلغ قرار البلدية من أزالتها، ولا التراجع عنه، حتى جاء عمال البلدية بمناشيرهم، وكأنهم يقطعون رأس أفعى... فجأة حدثت معجزة صغيرة، جعلتهم يتراجعون الى الخلف مندهشين … كما لو أن الشجرة رفضت الرحيل، اهتزت أغصانها، تفتحت لها براعم صغيرة بين أغصانها اليابسة، وأزهرت ورقة خضراء وسط الذكريات المحفورة على جذعها. اندهش الجميع، وكأن الشجرة أرادت أن تقول لهم: "ما زال فيّ حياة!"

تراجعت البلدية عن قرارها، ليس فقط احترامًا لأهل القرية، بل لأن الطبيعة نفسها قالت كلمتها. بدلاً من إزالتها، قرروا أن يحيطوها بسياج خشبي، ووضعوا عند جذعها لوحة كتبوا عليها: هنا تنمو الذكريات، كما تنمو الاشجار، وكما ينمو الحب.. لا يمكن اقتلاعها بأمر من رئيس البلدية.

ومنذ ذلك اليوم، أصبحت الشجرة رمزًا للوفاء، وزارها الناس من كل مكان، يعلقون على أغصانها أمنياتهم، ويروون تحت ظلها قصصهم، ويهمسون لها بأحلامهم، وهي… تهزّ أوراقها كأنها تعدهم بأن تحفظها إلى الأبد.

***

نضال البدري

احتلّيني شبرًا شبرا

واجري فوقَ ضُلوعي مُهرا

مَطَرًا كوني

بردًا كوني

برقًا.. رعدًا

صيفًا.. حَرّا

احتلّيني لا تَتَوانَي

ظلّي فوق بِلادي غيمًا

يحملُ في أحلامِهِ شمسي

يجلدُني لو أكسلُ يومًا

في حبّكِ

يجلدُني قَهرا

يمحو من أحزاني يأسي

يطرحُ بعضي

يجمعُ بعضي

يسألني ألوان الحبِّ

تَحملها سُفُني تتشكّلُ

في أعماقِ هُيامي بَحرا

**

احتلّيني.. يا فاتنتي

احتلّيني لحظةَ عشقٍ

تَطلَعُ من ظُلُماتي زَهرا

احتلّيني بعضَ ربيعٍ

احتلّيني لحظةَ وُدٍّ

ساعةَ وصلٍ..

يومًا... شهرا..

**

احتلّيني دونَ قيودٍ

ظلّي في أحشائي جَمرا

كوني حَرفًا في كرّاسي

يشربُ من أحزاني شِعرا

كوني عُمرًا يَروي شغفي

يُمطرُ في أيّامي عُمرا

كوني قمرًا يسقي شمسي

كوني لَهَـــبًا في أحشائي

يُشعِلُ بردَ فؤادي شوقًا

يَعصرُ لَوْمَ هُيامي خمرا

**

احتلّيني

احتلّيني شبرًا شبرا

احتلّيني دونَ قيودٍ

لا تتواني

لن أقبلَ في ذلك عُذرا

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

(بأيِّ ذنبٍ قُتِلتْ)؟

مَثَلٌ في دورةِ ثيرانِ الطاحونِ

يستعصي وُدّا

خَبٌّ في جمرِ حوافيرِ الخيلِ ومَدٌّ إسرافُ

وملاعبُ ضيزى تقسيما

حالتْ كافوراً لونا

وَرَماً في عينِ التالي نَعْشا

رَحَلتْ دارَ الضوءُ سِلاحاً فتّاكا

صاحَ الجنُّ الراكبُ شرّاً إرفعْ فوق اللجّة سقفا

يضربُ في إقلاعِ الفوُضى كفّا

يقدحُ في الظُلمةِ بَرْقاً ذَبْحا

كيفَ الضبعُ أماتَ النجما

أطفأَ في الصورةِ قنديلا

حَزِمتْ حاجاتِ وَداعي آهٍ ما أقسى ما أقسى!

صرخَ الظلُّ الجاثمُ خلفَ المصباحِ وأعلى صوتا

يَئِستْ جَرَحتْ صُلبَ التكوينِ الراسمِ حظّا

قالتْ إمّا هذا أو هذا ...

الدارُ طنينُ فراغِ نعوشِ الموتى

الشاهدُ بصمةُ إبهامٍ مجهولِ

غَرَزتِ كفّاً أسودَ في جلبابِ الصدرِ

قَتَلتْ نَفْسا ..

سَقَطتْ في اللُجةِ أقمارُ

ماتتْ ... غابَ السهمُ الجبّارُ.

***

عدنان الظاهر

13 حزيران 2025

ثلاث قصص قصيرة

 أولا- ظلال الشجرة..

امام داره شجرة وافرة الاوراق وأغصانها تملؤها العصافير صباحا وتكتظ بها مساءاً قبل الغروب بالضجيج في منتصف النهار حيث الشمس عمودية عند الظهيرة هناك ظلال وفيرة يجلس عندها رجل عجوز فقير يستظل ويبعد عنه وهج الشمس المحرقة.. والشجرة في الطريق العام بعيدة تماماً عن باب البيت المقابل لها.

فتح صاحب البيت باب داره ورأى الرجل ممددا تحت الظلال:

وضع كفه على كتفه وحثه على النهض:

إستيقظ ايها الرجل..

فتح عينيه وقال: ماذا تريد؟

لماذا انت نائم امام بيتي؟

أنا نائم ليس في بيتك.. ألا تراني أنام تحت الشجرة في الطريق العام.. والشجرة هي شجرة شارع، فلماذا توقضني بهذه الطريقة السمجة؟

إنها ليست شجرة شارع، الشجرة زرعتها بنفسي وهي ملكي.

أجابه: أنا نائم في ظلال الشجرة،

ولكن الظلال ملكي..

اجابه: الشجرة ملكك ولكن الظلال ليس ملك احد..

كلا، لولا الشجرة التي هي ملكي ما كان هناك ظلال.. انت تجاوزت على حقوقي حين استحوذت على ظلال شجرتي، وما عليك إلا الرحيل..!!

***

ثانياً- القبو والنافذة..

هبط السلم، وكان يعد درجاته عدا حيث بلغت ثلاثة عشر درجة.. وحين وصل بلاط القبو نظر الى السقف وكان عاليا تتوسط جداره الأمامي نافذة من خشب زجاجها متسخ بالغبار، والنور ينبعث منها مغبرا.

سأل نفسه: لماذا أنا هنا في هذا القبو؟

وإجاب همساً: يا لهذا التساؤل السخيف، ثم ضحك في سره على نفسه وأضاف: ولكن لا بأس سأجيب:

وكانت إجابته مشبعة بضحكة مكتومه في صدره.. شعر بالخجل من نفسه ونزل درجات السلم الخشبية ليرى الضوء كيف يكون ويرى السقف ايضا.. وكان صدره يضج بالضحك من هذا السؤال الساذج:

ترى السقف ونور النافذة، وماذا بعد؟

أجاب نفسه: لا أدري وهو يضحك..

إذن، عليك أن تسكت.. لا القبو مريح وهو يبعث على الاختناق ولا الخارج نقي يبعث على الارتياح لكثرة الغبار والصخب والذباب.. ألا ترى كيف يدور ويتحرك المستنقع في الخارج وهو يحمل اطنانا من المخلفات والشوائب، إنه يطفح ولا ملاذ من ذلك سوى القبو، وماعليك إلا أن تتحمل الجو الخانق، فإن بقيت في القبو عليك أن تتأقلم وإن فتحت النافذة تدفقت عليك اسراب الذباب والبعوض واكوام من الغبار.

ابقى على حالك ايها المتصوف.. الخارج لانهائي ليس له من قرار وهو دائما مصدرا للجذب، طالما تتحكم فيه ثلاثة (الثرثرة والفضول والإبتذال) وما وراء هذا الثلاثي هي السقطة المروعة، ألم تدرك أن الخارج هو مستنقع يموج بالهراء.. حافظ على أناك..!!

***

ثالثاً- السقوط في الفوضى:

قرر الخروج، بعد ان تعبت عيناه من عتمة القبو التي عاثت فسادا عشوائيا بعيدا عن الضوء لكنه كان يدرك ان الضوء لا يتركه على حاله إنما يتركه في عتمة قد تطول لساعات وهو يخشى ان تستمر ومع ذلك قرر متحديا الخروج الى الضوء مهما كلف الامر من نتائج.. صعد بضعة درجات سمنتية انتهت بباحة هي بمثابة مكان للجلوس والاسترخاء بالقرب من نافذة زجاجها ملطخ بغبار الخارج واحيانا ضبابه الكثيف عند الفجر.

رن جرس الهاتف وكان الضوء الباهت يتسلل عبر النافذة المتسخة بالضباب الموحل..

هل سمعت الخبر؟

أي خبر ؟

الامطار تغرق الشوارع ودخلت سيولها البيوت ممتزجة بمياه ثقيلة.

فهمت.. تلك الإنسدادات التي تطفح على كل شيء.

أجابه: المياه اراها عبر النافذة سيولا ورائحتها لا تطاق.

لماذا لا تغلق النافذة ؟

لم يرد عليه وظل صامتا.

انقطع الخط..

لا خط حين تعصف الرياح وتتقطع الأسلاك ويبدأ رذاذ المطر ينثر غرينه على كل شيء.

همس في داخله يتسائل:

لماذا ترد على الهاتف أيها الأبله، ألم أقل لك ان الخارج يطفح بالفوضى المشبعة بالغبار.. انظر الى الخارج حتى نافذتك التي ترى من خلالها الاشياء وهي متسخة، فلماذا لا تمسح عنها تلك الاوحال لترى العالم كما هو ؟

أنت تقول هذا ؟

عجيب امرك.. هل الخارج خالٍ من الاوساخ والغبار؟ هل هو شفاف وزجاج نافذتك متسخ هل هذا كل شيء؟ وهل تقصد أن الحاجز الحقيقي هو زجاج النافذة المتسخ بالغبار والضباب وقطرات المطر التي تسيح ؟

حتى لو مسحت الزجاج فإن الخارج يظل موحلا بالفوضى التي لن تنتهي..

وأضاف: سأمسح النافذة ألف مرة وحين اطل منها على الخارج لا ارى غير مستنقع الفوضى العارمة.. هل فهمت ؟

وتسائل مع نفسه: ماذا ستفعل، هل ستغلق النافذة؟

وما الفائدة، ستظل الصورة الكالحة كما هي والحاجز يظل كما هو متسخاً ما دام الخارج يعج بالغبار والفوضى والضباب.

سمع مواء قطة صغيرة تحت النافذة، إنها جميلة ربما تكون جائعة.. سأفتح لها الباب لتدخل واحملها الى اعلى السلم الخشبي.. ولكن هي من مخلفات الخارج.. دعنا من هذا الهراء انها صغيرة وجائعة، هبط السلم فتح الباب دخلت مسرعة تتمسح بذيلها ساقاه النحيلان، حملها وقدم لها قطعة من الخبز مغمسة بالزبدة، اكلتها بشهية بعدها قفزت فوق السرير المجاور للنافذة وسارع باغلاق النافذة خوفا عليها من السقوط في الفوضى ليس ذلك فحسب، الغبار والضجيج والجوع.. كيف يمكن ان يتحمل الصغار ذلك؟ صغار العصافير والطيور وغيرهم.. الخارج شاسع ومغبر ويموج كالمستنقع الموبوء بالطفيليات والجراثيم والفوضى، ألا ترونها أمواج عارمة وصاخبة ولن تنتهي.!!

***

د. جودت صالح

11/ حزيران 2025

 

أو من يهتمّ بالتّاريخ الحقيقيّ للقهوة في اَلْبُنْدُقِيَّةُ

في "فينيسيا"، مطرُ أكتوبر،

يوقظ حنينًا فاتنًا،

كأنّه كُتب خصّيصًا للشّعراء التّائهين،

الذّين لا يسألون عن الطّرق الواضحة،

بل عن أثر شعورٍ أفلت أو سيفلت منهم،

في لحظات عشقٍ هجين،

وُلدت لتُجهض قبل أن تستهلّ.

*

أمام فندق "سانتا كيارا"،

يبدو كلّ شيءٍ مؤقّتًا:

الزّمن، الحقائب، الملامح، الإيماءات،

والقصائد التّي لم و لن تُكتب.

المدينة العائمة تستيقظ ببطء،

كأنّها لا تزال تتردّد: هل كانت حلمًا أم أثرًا؟

*

شعراءٌ مجهولون،

يمرّون بخفّةٍ في الضباب،

أحذيتهم مبتلّة،

ونظراتهم معلّقة في القنوات،

في عينيها الصّقليّتين،

في شعرها الأسود الجنوبيّ

الذّي كانت تداعبه الرّياح الشّماليّة

على أدراج مدخل محطة "سانتا لوتشيا".

*

باعة المظلّات الغرباء

يتسلّلون كعصافير بلّلها اللّيل،

ينادون بلغاتٍ مكسّرة،

ويعرضون مظلاتهم على سياحٍ يائسين،

حرمهم المطر من التقاط مئات " السيلفي "،

كأنّ "فينيسيا"، لم تكن تستحقّ كلّ هذا العناء،

ما لم تُعلّق بابتسامةٍ مصطنعة على حساب "إنستغرام" مزدحم بالتّفاهة و اللّؤم.

*

الجنادل المهجورة،

تئنّ تحت وطأة الماء والزّمن،

وأقواس الجسر قرب “البيازيتا” تلمع بلؤلؤية حزينة،

برج جرس "سان ماركو " يذوب في الضّباب.

لكنّ المطر، كما يفعل دائمًا،

أوقف الزمن،

أمام كوبٍ لم يُطلب بعد .

*

"صباح الخير يا سيدي! Bienvenuto!

هذا أقدم مقهى في العالم!"

يعلنها النّادل المتأنّق بحماسٍ إيطاليّ مثير،

يضع " الكابوتشينو " بجوار مسودّة عن تاريخ القهوة.

لكنّ "الكابوتشينو" لم تكن الغاية،

بل هدنة مع المطر،

ومقعدٌ يطلّ على لحظة لا تصلح للعرض،

بل للهروب نحوما تبقّى في قاع الكوب،

الرَّغْوَةُ أَوَّلًا،ثمْ الحنين المشاكس.

ويبقى الكوب فارغًا إلاّ من رغوةِ الذّكرياتِ،

و هذه الخواطرالمغتربة التّي وُلِدت،

في "كافيه فلوريان" العتيق.

***

نزار فاروق هِرْمَاسْ

شارلتسفيل -جامعة فيرجينيا

البندقيّة،21 أكتوبر،2024

ما أقسى أن يُفرض عليك الانتظار في غرفة الانتظار، وما أمرّه حين يتحول إلى قدرٍ معلّق في عنقك، لا فكاك منه ولا مفرّ. ليس ذلك الانتظار العابر الذي تتجاوزه بهاتفٍ ذكي أو بنظرة إلى الساعة، بل الانتظار الذي يعتقل الزمن ويثقل الأنفاس، فيجعل من كل دقيقة نصلًا ينغرس ببطء في لحم الروح. هو ذاك الانتظار الذي لا يمنحك رفاهية الانهيار، بل يعلّقك على حافة السقوط، فلا تسقط، ولا تُشفى.

لأيامٍ مرّت، كان النوم لا يزورني إلا خلسة، كضيفٍ عابرٍ يستحي الإقامة. ساعات قصيرة واهنة، تتسلل خلالها غفوات مبتورة، تلتقط أنفاسي من حافة التعب، ثم تتركني فريسة لليلٍ بلا ملامح. كنت أتوسل الراحة، أرجو هدنة من هذا الصراع المستمر بين الجسد والعقل، بين الألم والأمل. لكنني، رغم كل شيء، كنت أتهرب من العيادات، كأن الذهاب إليها اعترافٌ بالعجز، أو استسلامٌ لما لا أحب أن أسمّيه مرضًا. كنت أهرب من وجوهٍ جامدة، من أسئلةٍ متكررة، ومن ذلك الصمت البارد الذي يخيم على غرف الانتظار، كأنما هو إعلان مبكر للموت البطيء.

كنت أضحك في داخلي، على سذاجة الأمل، حين ظننت أن مضاعفة جرعة المسكنات قد تُقنع الألم بالتراجع. كنت أرجو، بصمتٍ خافت، أن يُغلق الجسد أبواب الألم ساعة واحدة فقط، ساعة واحدة، لأتنفس، لأنام، لأتذكّر أنني ما زلت حيًّا. لكن، وكأن الأمنيات لا تُمنح إلا للمتعافين، وجدتني في النهاية أُذعن، لا خنوعًا، بل قبولًا بما لا يُطاق. قررت أن أذهب، لا ببشاشة وجه، بل بثقل الخطى وأملٍ مشكوكٍ في استحقاقه.

وصلت إلى العيادة قبل أن تُفتح أبوابها. وقفت صفوف المرضى تمتد كظل طويل لحزنٍ لا يُرى، وجوه شاحبة، أكتاف منحنية، عيون ذابلة تستند إلى أملٍ واهٍ كجدار مائل. وقفتُ بينهم، لا كغريب، بل كواحدٍ من هذا الطابور الإنساني المنهك، كأن الوجع جمعنا تحت سقفٍ واحد دون أن نعرف بعضنا.

وما إن فُتح الباب، حتى انسابت الخطى إلى الداخل، كلٌّ يحمل وجعه في صمته، ويأمل أن يُرى، أن يُسمع، أن يُعامل ككائنٍ بشري لا كرقمٍ في سجلٍّ أو ملف.

تقدمت إلى ممرضة الاستقبال، تلك التي حفظت اسمي من كثرة ترددي، لكنها كانت لا تحفظ شيئًا من أوجاعي. نظرت إليّ كمن يتفحص طردًا وصل عن طريق الخطأ، وسألتني، بصوتٍ رتيب خالٍ من الحياة، مجموعة الأسئلة ذاتها، وكأنها تقرأ من ورقة لا تتغير، لا تنصت لإجابة، ولا تكترث لمعنى. أجبتها، بصوتٍ تكسوه بقايا رجاء، وبعينين أثقلتهما السهرات الموجعة، لكن كل ما لمحتُه في عينيها كان فتورًا باردًا، كأنما تعبت هي الأخرى من الإصغاء، أو لعلها لم تحاول أصلًا.

قلتُ لها، بهدوءٍ يغلّفه الألم:

ــ أحتاج لرؤية الطبيب. لم آتِ لنزهة. الألم ساقني إليكم، وأنا مسجَّلٌ هنا. إنها حالة طارئة... طارئة بما يكفي لأن تُفهَم.

رفعت بصرها عن الشاشة وقالت، دون أن ترمش حتى:

ــ ليس لديك موعد اليوم، والطبيب يريد أن يُنهي دوامه مبكرًا.

ابتلعت كلماتها كما يُبتلع الماء المالح؛ لا يُروي ولا يُنسى. ثم، وبصوتٍ يجلله الهدوء والحزم الصامت، قلت:

ــ له الحق أن يستريح، وله أن يغادر متى شاء، ولكن لي، أنا المريض، حقي في أن أُسمع، أن أُرى. لم أطلب امتيازًا، بل فرصة للنجاة. وسأنتظر هنا، بكل وقتي وصبري وألمي وكرامتي، لأنني لم أعد أملك خيارًا آخر.

جلستُ على أقرب مقعد، لا منكسَرًا، بل مرفوع الرأس، أحمل في داخلي كرامةً جريحة، وأخفي وجعي تحت قشرة من الصبر باتت تتهشم من ثقل ما تحمل. كنتُ أعلم أنني مجرد وجه في زحام، مجرد رقم في نظام لا وقت لديه للإنسان، لكنني كنت أيضًا إنسانًا، له اسم، وله ألم، وله الحق أن يُنصَت إليه.

نظرت إليّ الممرضة، نظرة سريعة، وفي عينيها بريق يشبه التردد، كأنها كانت تقيس حجم إصراري، لتقرر ما إن كانت ستقاومه أو تستسلم له. وبعد لحظة صامتة امتدت بعمر الوجع، قالت:

ــ انتظر... سأُبلِغ الطبيب.

لم أبتسم، لم أفرح، بل شعرت فقط أنني انتصرت، لا عليها، بل على الانكسار. جلست هناك، وسط ضجيج الحركات والأنفاس، أراقب وجوهًا جديدة تدخل وتُستقبل بلا تردد، وكأن ما قيل لي قبل لحظات لم يكن سوى قناع هش لرفضٍ خالٍ من الانسانية، او لربما لأني احمل اسما عربيا!

عندها أدركت يقينًا لا يُناقش: أن من لا يسعى لنيل حقه يُمحى، ويُهمّش، ويُقصى بصمت. وأن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع بشجاعةٍ هادئة وصبرٍ ناطق لا يصمت حين يُطلب منه الصمت.

كنتُ مزيجًا من الألم والرجاء، من الضعف والصلابة، أتنفس بصعوبة، لكنني لم أنهزم. ولم أكن أطلب سوى لحظة إنسانية... لحظة يُقال لي فيها: "أنت لست وحدك."

مضى الوقت بثقلٍ خانق، كأن عقارب الساعة تئنّ. العيادة تضجّ بأصوات ووجوه، لكنها بدت لي فراغًا مكتوم الأنفاس. وحده الألم ظلّ واضحًا، يقرع أضلعي كما لو أنه يُذكّرني بسبب وجودي وانتظاري هنا، في هذا المكان الذي لم يعد يليق بالحياة.

ثم، أخيرًا، فُتح الباب الداخلي، وخرجت الممرضة بإيماءة سريعة:

ــ تفضل، الطبيب سيقابلك الآن.

نهضت، لا بعجلة، بل بخطى رزينة، كأنني أعبر إلى قدرٍ جديد. دخلت الغرفة كمن يدخل ساحة مساءلة، لا عيادة مداواة. رأيت الطبيب خلف مكتبه، يقلب الملفات كمن يبحث عن حجةٍ للتجاهل. رفع بصره، لمحني، ثم أشار إلى الكرسي.

قال، بنبرة خالية من الدفء:

ــ لم يكن لديك موعدًا... هل تشعر أن حالتك طارئة؟

نظرت في عينيه وقلت، بهدوء رجل أنهكه الصمت:

ــ هناك آلام لا تُقاس بحرارة، ولا تُرى في تحليل، ولا تُقرأ في رسم قلب. هناك وجعٌ يسكنك كطيفٍ لا يغادر، ينهشك من الداخل دون أن يترك أثرًا على جلدك. أنا لا أطلب فضلًا، بل أهرب من قاعٍ آخذ في الانهيار.

سكت الطبيب لبرهة، ثم قال للممرضة:

ــ أعدّي له الفحوصات اللازمة، وسأبدأ بالفحص.

لم أشكره. لم أحتج إلى شكر. فقط أومأت برأسي، لأنني كنت أعلم أنني في تلك اللحظة لم أُعامَل كرقم، بل كإنسان له وجع، وله اسم.

خرجت من العيادة لا بشفاء، ولكن بنفسٍ أخف، بشعورٍ أنني لم أُهزم. كان الألم لا يزال في قدمي، لكن روحي كانت واقفة، شامخة. كنت أعرف الآن أن الصمت لا يُجدي، وأن الكرامة تستحق أن يُقاتَل من أجلها، حتى في أبسط تفاصيل الحياة.

ربما لم يتغير شيء في الخارج. لكن شيئًا في داخلي ترسّخ: أن الإنسان لا يُرى إلا إذا أصرّ على أن يكون مرئيًّا، ولا يُسمع إلا إذا تمسّك بحقه في أن يُصغى إليه.

وذلك، في زمن التبلّد، انتصار لا يُستهان به.

**

سعاد الراعي

14.06.2025

 

لماذا عندما الحدباءُ تُذكَرْ

وجوهُ القومِ تُصبحُ لا تُفسَّرْ

*

فهذا بالشرابِ يغُصُّ غصّاً

وذلكَ صدرُهُ يغلي كمِجْمَرْ

*

ألَا موتوا بغيظِكُمُ فإنّا

بذكرِ منارةِ الحدباءِ نسكَرْ

*

وما هُدِمَتْ ولكنْ مثلَ عيسى

قد اشتَبَهتْ عليكم في المُصوَّرْ

*

نراها وردةً مالتْ بريحٍ

وشوكاً سوفَ يُبصرُها المُحقَّرْ

*

وما بُنِيَتْ بأحجارٍ ولكنْ

لقد بُنِيَتْ منَ المجدِ المُعمَّرْ

*

لها درَجٌ كما الحَلَزُونِ إمَّا

صَعِدْتَ عليهِ صارَ الكونُ أصغرْ

*

وأعلى من ذُراها وهْيَ تسمو

نداءٌ صادحٌ (أللهُ أكبرْ)

*

وسائحةٍ تقولُ: أرى مناراً

ولا سفُنٌ ولا بحرٌ فيُمْخَرْ

*

فقلتُ: دماءُ أهليها بحارٌ

ولكنْ ليسَ كلُّ الناسِ تُبصِرْ

*

لقد أكلوا النباتَ لفرطِ جوعٍ

وأنتم تقرعونَ كؤوسَ مَيْسِرْ

*

يُكفِّنُ في الصباحِ أخٌ أخاهُ

وعندَ الليلِ قبرُهما سيُحفَرْ

*

حدادُ الكونِ أجمعِهِ عليهم

وعينُ الشمسِ تُغضي ثُمَّ تُمطِرْ

*

قبورُهُمُ شواهدُها زهورٌ

منَ البَيْبُونِ والآسِ المُعطَّرْ

*

ودُورُهُمُ وإنْ هُدِمَتْ عليهم

جنانٌ كلُّ ما فيهنَّ أخضرْ

*

حكاياتٌ سمِعْناها ستبقى

من الأجدادِ للأحفادِ تُذكَرْ

*

سلامٌ أرضَ مَوْصِلِنا سلامٌ

ولا زالتْ كُرومُ الدمعِ تُعصَرْ

*

فدجلةُ كانَ نهراً ذا أُجاجٍ

إلى أنْ مرَّ فيكِ فصارَ سُكَّرْ

*

وقبلَكِ لم يكنْ أبداً ربيعٌ

إلى أن قلتِ: يا غيمي تكسَّرْ

*

ويا أحلى النساءِ تحلُّ شَعْراً

فأقصى الأرضِ بالنَّفَحَاتِ يُغمَرْ

*

سِوارُكِ ليسَ من ذهبٍ مُصفَّىً

ولكنْ من مدارِ الشمسِ يُضفَرْ

*

وليلُكِ يا ضياعَ العُمرِ إمّا

هدرناهُ بنومٍ ليسَ نسهَرْ

*

كأنّكِ في شَمالِ الأرضِ تاجٌ

تُطاولُهُ الصقورُ وما تبعثَرْ

*

أتاها أمسِ نادِرْشاهُ يغزو

وحاصرَها فخابَ وقد تقهقرْ

*

رأى أهلوكِ عندَ السُّورِ صَدْعاً

فصارُوا هم دروعاً ليسَ تُدْحَرْ

*

سلامُ اللهِ يا أرضاً إذا ما

تشاكى أيمنٌ لبَّاهُ أيسرْ

*

ودجلةُ مثلُ ضيفٍ مرَّ فيها

فأعجبَهُ المُقامُ وقد تحسَّرْ

*

وقالَ لنفسِهِ: لو أنَّ ربّي

براني وردةً فيها فأظفَرْ

*

ولكنْ ظلَّ يجري ثُمَّ يجري

وتتبعُهُ الضفافُ وقد تحدَّرْ

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

أَيَا سَرَاباً

تَجَلَّى لِي كَغَيْمٍ

قُبَيْلَ هَمْسِ السَّدِيمِ

الْغَائِرِ فِي الْعُمْقِ

كُنْتَ رَهِينَ الْوَجَعِ

الْقَاسِي

تُقَبِّضُ بَيْنَ يَدَيْكَ

أَصْدَاءَ الْأَنِينِ

الْمَبْحُوحِ

وَنَرْجِسَةً مِنْ شَظَفِ

السَّحَابِ الْعَقِيمِ

وَلِلسَّمْعِ تَرَامَى أَثِيرُكَ نَادِباً

يَنْقُرُ خَوَافِيَ الرُّوحِ

بِمَرَارَةٍ

فَرَاحَتْ أَوْصَالِيَ

تَسْتَنْشِقُ لُهَاثَكَ الْمُتَوَهِّجَ

تَسْتَشِفُّ فِيهِ

شَفَقَكَ الْبَعِيدَ

لِمَ ارْتَكَبْتَ التَّمَادِيَ

حِينَ اسْتَحْكَمَ

قُرْبِي إِلَيْكَ؟

وَلَمْلَمْتُ مَا بَعْثَرَهُ

عَبَثُكَ الْمَكْلُومُ؟

لِمَ أَحْرَقْتَ

فَيْضَ الْوِجْدَانِ

وَأَلْقَيْتَ بِي فِي مَهَبِّ

الْهَاوِيَةِ الصَّمَّاءِ؟

أَيَا غَائِرَ الْوَعْدِ

هَلْ أَنْتَ سِرٌّ خَانَ كُلَّ مَكْمَنِ؟

وَكَيْفَ أَدْرَكْتَ نَزْفَ الرُّوحِ

فِي صَدْرٍ

أَوْ مَثْوَى لِبَقَايَا مِنْ هَوَاءٍ؟

كَيْفَ هَانَ عَلَيْكَ

وَعْدٌ

كَأَنَّهُ خَيْطُ الضَّوْءِ

فِي عَتمَةِ الْبَاطِنِ؟

لِمَ اسْتَبَحْتَ صَبْرِيَ

وَوَدَعْتَ خُطُوَاتِي

تَهْوِي إِلَى بَرَزَخِ

الشَّوْكِ الْمُمِيتِ؟

لَنْ أَغْفِرَ...

فَلَمْ تَعُدْ جِرَاحُ الْوَجْدِ

تَنْزِفُ غَضّاً

بَلْ جَفَّتْ قُرُوحاً

سَمّاً عَلَى جَسَدِ الرُّوحِ

وَلَنْ أُرْثِيَ

لِعَاشِقٍ تَهَاوَى

خَرِسَتْ حَوَاسُّهُ

عَنْ رُؤْيَةِ خَطَايَاهُ

أَنَا مُتَبَرِّئَةٌ

مِنْ كُلِّ نَبْضٍ لِاسْمِكَ

قَدْ حَرَّرْتُ مَوَاجِعِيَ الْخَفِيَّةَ

مِنْ حِبَالِ رَمَادِكَ

فَلَا عَوْدَةَ

أَيُّهَا الْوَهْمُ الْجَائِرُ

بِيَأْسِ الْعَدَمِ الْمُخِيفِ

قَدْ سَقَطَ سِتَارُ الشَّفَقِ

الْأَخِيرُ

فَلَا وُجُودَ لِي بِكَ

بَعْدَ الْآنَ

وَمَا مِنْ نَزْفٍ سِوَى صَمْتٍ تَبَدَّى!

***

مرشدة جاويش

 

دخل المبنى كما يدخل الناس، عاديا ً، يحمل سيرة ذاتية ومظلة، استقبله موظف صامت اشار بحركة رأسه الى المصعد، وقال: " الطابق الخمسون، المقابلة هناك ". ابتسم، شكر الرجل، دخل المصعد، ضغظ الزر، بدأ الصعود. في الطابق العاشر، دخلت امراة بزي أنيق. نظرت اليه مبتسمة وقالت: " انا في الطريق للطابق العشرين. اجابها بلطف: انا متوجه للطابق الخمسين. لم يتوقف المصعد في الطابق العشرين، ولا في الثلاثين. الأزرار التي ضغطها لم تضيء، والشاشات الرقمية تعثرت وأظهرت أرقاماً غير مفهومة. مرت ساعات، ثم أيام. ولبرهة لاحظ أنَ المصعد قد امتلأ بناس آخرين.

-  عجوز ذات انف معقوف، تنظر اليه بصمت وبنظرة عميقة وكأنها تعرفه من قبل.

-  طفل صغير يحمل طائرة ورقية مصنوعة من ورق خفيف، يحاول اللعب في مساحة ضيقة.

-  شاعر يجلس على الارض، يكتب كلمات غامضة على جدران المصعد بحبر ازرق.

-  رجل يهمس صلوات بلغات لا يفهمها احد.

-  امراة تغني أغانيها بصوت خافت تملؤه الحزن.

مع مرور الوقت تحوَل المصعد الى عالم صغير، حيث ولدت طقوس خاصة، وتشكلت طوائف، ونُظِمت جداول لأوقات الاكل والنوم. الأمل اصبح شيئاً معدوماً، والخوف مخيم على الجميع. محاولات كسر الباب كانت كثيرة، لكن جميعها باءت بالفشل. سأل احدهم الرجل في لحظة يأس: " الى اين انت ذاهب ؟"، اجابه بجدية: " للمقابلة، في الطابق الخمسين." ضحك الآخر طويلاً، ثم اشار الى سقف المصعد وقال: " هذا هو الطابق، كل ما فوقك ظل." مع كل يوم، بدأ الرجل يفقد احساسه بالزمن، نسي اسمه، نسي لماذا صعد في البداية. في يوم ما، استيقظ ليجد في المرآة الصغيرة انَ وجهه اصبح غريباً، مجرد ظل بلا هوية. في لحظة صمت عميق، فهم شيئاً بديهياً: المصعد لم يكن مجرد وسيلة للوصول الى طابق ما، بل كان عالماً بحد ذاته، رحلة لا نهاية لها من الانتظار. ابتسم الرجل، لم يعد يهمه من هو، او الى اين يتجه، لكن الذي تيقن منه هو انه حبيس مصعد لا ينزل ولا يتوقف ابداً.

***

قصة قصيرة: د. مامند محمد قادر

* شاعر وقاص عراقي كوردي

 

كانت تستغرب حالها، وكم الوحشة التي انتابتها من بعد آخر رسالة بينهما. كيف ذلك؟ من أين أتت كل هذه الألفة؟ هل لأنها شعرت أنها تتحدث إلى روح تفهمها؟ تتحدث ذات لغتها تلك المفتوحة على المدى!

مارست مهامها اليومية في ضجر واضح، وبين مهمة وأخرى كانت تسافر عبر خطوات مترددة إلى هاتفها المحمول تتفقد الرسائل. كان سفرًا نحو المجهول. ماذا إن لم تكن هناك واحدة؟ وإن كانت، هل ستترك كل ما يحيط بها وتنغمس راغبة في عذوبة لغته؟ تصل إلى المحطة فتجدها فارغة، تزداد ضجرًا، وتبدأ تحادث نفسها: "ربما انشغل، ربما أخذته الرواية التي يعمل عليها، أو الأكيد إنه ليس مهتمًا. نعم، هو كذلك. أنا مجرد غريبة عنه، لا تفاصيل بيننا."

عادت لمن حولها، تحادث ابنتها قليلًا، تطل من الشرفة للحظات. وكما هي العادة، تلمح ابتسامة بلهاء تطل من وجه ذلك الرجل الذي يمتلك محل الموبيليا أسفل بنايتها، ولكنه يعتمد الجلوس على الجانب الآخر يترقب ظهورها. لكنها اليوم، وعلى غير العادة، قررت أن تكسر تجاهلها له وتنظر في عينيه مباشرة. وفعلت! حتى ارتبك الرجل وسارع بمغادرة مكانه.

فانتقلت الابتسامة البلهاء إلى شفتيها، ثم تبعتها ضحكة على حال الرجل وكيف قام بتفسير نظرتها التي اخترقت ترقبه وجعلته يفر. ربما هو سعيد الآن، ينظر إلى وجهه البائس في واحدة من مرايا المحل ويقول أخيرًا: "حنّ قلب الفرسة وشافتني." استغرق هذا الحدث السخيف دقائق معدودة، اتبعتها بساعة أمضتها أمام شاشة التلفاز في محاولة للهرب. وهي بين شرود وتصنّع للبرود، ولكنه بطريقة ما كان يحدث ضجيجًا هائلًا في عقلها. ذلك الغائب كان لحوحًا في الحضور.

حان وقت القهوة وطقسها أن تبدو في أجمل حالاتها. شرعت في ذلك مباشرة: انتقت بيجامة باللون الأزرق، دلفت إلى الحمام، رفعت شعرها للأعلى. وقفت عارية لثوانٍ أمام المرآة، ولكنها اقتربت منها أكثر حتى كادت تلتصق بها. كانت لا ترى جسدها، بل تنظر داخل عينيها، تحدق في انعكاسهما. لم ترَ شيئًا مختلفًا. ذات البحر الذي يتوارى خلف مرآتها، وهي واقفة إلى جواره تمد قدمها في خفة تلامس موجاته ومن ثم تسحبها.

رأت بوضوح كم كانت وحيدة، وحيدة لدرجة أنها وقعت في غياب رجل خرج في لحظة جموح من متاهات اللغة.

***

أريج محمد

 

في ذلك النهار كان امام البيت الواطئ السطح الذي يرفرف على قمته علم تمزقت أطرافه. طلع عازف البوق من بين الحشائش التي ترتعش عند حدود البستان وجعل هيكله يظهر شيئا فشيئا. ظهر شعره الأشعث أولا ثم الأزرار النحاسية التي تلتمع على كتافيات سترته الخاكي وذراعاه وهما تختلطان بالعشب. بينهما يضئ البوق الذهبي اللون وهالة من انعكاس الشمس تتراقص على الأرض المنحدرة الى الطريق الترابي أمام البيت. التفتَ الى الوراء حيث المروج التي داست مسالكها قدماه وهو يعزف ملقيا ظله من القناطر على صفحات المياه تحت سطوع الشمس. مضى سرب الأطفال الذي تبعه بعيدا بعد انْ توقف عن العزف لدى اقترابه من البيت.

تردد لفترة غير قصيرة في التقدم موجها عينيه صوب مظلة الباب التي تبرز قليلا. عليها غزالة بوضع القعود، حشي جلدها بالقش الذي اندلق من شق في بطنها على حافة المظلة. في موقع العينين فجوتان لوزيتان. يتفرع احد قرنيها الى ثلاثة فروع. لم يفطن الى وقفته الغريبة حيث بدت كتفاه وكأنهما تستديران الى أمر غير مؤكد. ظهرت فتاة سمراء ذات ثوب اسود. اندفعت أول الأمر عبر فتحة الباب. تراجعت خلف الستارة المعلقة على حبل بين جداري المدخل. اتخذت من الستارة عباءة. لم يظهر سوى الوجه

الذي علاه مزيج من الاستفهام والخفر. تراجع حامل البوق في شبه تعثر:

ــ توهمت انه بيت آخر..

ــ جئت تسأل عنه إذنْ؟

ــ هذا هو البوق..

ــ ولكنه مات. جاءوا به من الجبهة..

ــ ماذا تقولين؟ آه.. هكذا فجأة !

ــ انه ليس هنا..

ــ إنّ ما فات قد فات.. معذرة..

كانت عيناها مسبلتين. لعلها لم تكن تصغي اليه. أخيرا ارتعشت شفتاها..

ــ أنا نفسي في قفص. وليس لي ان أصل السوق.. هل تبيع أقمشة؟

ــ كلا..

ــ تعاويذ؟

ــ كلا.. ليس عندي سوى هذا البوق..

ــ من المؤكد انك تستعمله في الأعراس..

ــ أعراس؟ أية أعراس؟ انه يسلي الروح ويسكن الأعصاب..

ــ أتعرف زوجي؟

ــ كان رفيق طفولتي..

ــ لم اركَ في محلتنا..

ــ آه.. ربما. النساء لا يخرجنَ إلا نادرا..

ــ هل أنتَ قارع الطبل في رمضان؟

ــ نادرا ما كنت كذلك..

تراجعت قليلا. الشحوب يعلو وجهها، إمَا لأن الوجه في وضع يسمح بمرور الضوء عبر صفحتي خديها ــ يظهر ذلك من الأخدود الذي يبتدئ من تحت صدغها مارا بوجنتها ــ او لسواد ثوبها اضافة لقتامة مدخل البيت. فكر حامل البوق في وحدته وهو يعزف بدون كلل او التفات لتساؤل العابرين، وكأنه قدم من اللا مكان وقد أخذت أخباره تنتشر في هذه المدينة الصغيرة. الا ان الناس لم يعرفوا الكثير عن هذا المخلوق الذي كان الحنين يقطر من بوقه. قال بعضهم انه شوهد لأول وهلة عندما قدم على فرس بلون الحليب ولم يكن يحمل بوقا او أي شيء من هذا القبيل في حين كذبهم آخرون قائلين ان هذا الأمر مجرد مبالغة فهو ليس أكثر من صعلوك متشرد اعتاد ان يبيع الكتب في عربة بسوق المدينة في حين ذكر غيرهم انه كان يرفض نداء الذين يستوقفونه طالبين ان يعزف لهم لقاء بعض النقود، ورفض أيضا عروضا من عازفي فرقة الأعراس للانضمام اليهم وأجاب في كبرياء: ــ انا لا اعزف غير لغة العشب والأقحوان !

كان حامل البوق يرى في الليل او في النهار وهو يعزف لوحدته مجتازا الطرقات. يلف المدينة الصمت وتستكين الريح وتصغي النساء خلف الشبابيك للنحيب الآتي من الفوهة النحاسية. وهن ينتظرن بدون كلل، متوحدات في ظلام الغرف مع كسرات من الخبز والشاي وقد نسين منذ زمن بعيد وقع قطرات المطر على الوجوه. في الصباح يجده المارة نائما في حديقة مكتب البريد حيث ينام الشحاذون متوسدا الأعشاب محتضنا البوق الذي تجمدت على صفحته قطرات الندى كما لو أنها دموع البارحة.

لم يسبق لي وأنْ حدّثت أحدا عن نفسي. في إمكان أي واحد ان يمسك بوقا ثم يخرج به الى الشوارع منشدا للحزن والبهجة. في البداية لم يكن البوق يعني لديّ اكثر من كونه آلة. توهمت انني لم اكنْ حزينا وما كنت اعبأ بأن أضيف الى السعادة شيئا. كثيرا ما صدمني صوت ارتطام البوق الأجوف بخشب المنضدة وأنا القيه عليها. لقد كنت انفخ في الفراغ. كنت أوغل في الوحشة.. الصحراء.. الصحراء.. انه الزمن الذي يمضي غير آبه لخسائرنا. قررت انْ أجرب يومي. سرت طيلة النهار في الحقول معانقا أصوات تساقط الأوراق على الأرض وأزيز النحل والأحجار التي يكتشف فيما بعد أنها ظلال طيور. هكذا بدأ الأمر. ليس إلا العزف لهذا الربيع وذاك الذبول. عنّ لي يومها ان أستريح قليلا. كان يوما لا ينسى. توقفت عن العزف. ركضت بأقصى ما استطيع في غابة العشب ثم استلقيت على الأرض وأنا الهث. لقد كنت أحمق ويائسا ومبتهجا بدون حدود. قطفت زهرة بيضاء الأوراق ودسستها في فوهة البوق وطفقت انفخ والأوراق تتهافت كالريش على صفحة ماء الجدول فكان يأخذها بعيدا. خلعت ثيابي وانحدرت معانقا مياهه. في الماء اكتشفت ان يومي كاذب ولكنه مليء بالحياة. أجل.. حياة بلا قيود. كنت خائفا من هذا الاندفاع. ما أصعب البدايات ! يجب التطهر جيدا من الآثام.. هل هذا ممكن؟ إنني اعزف حقا.. ولكن هذا لا يكفي. سأتوقف منذ اليوم عن العزف لنفسي وحسب.. العصافير لا تفعل ذلك حينما تسقسق. إنها تدرك بغريزتها ان هناك من يصغي إليها.. الوحشة تسقط أمطارا لا مناص من السير تحت وابلها، تلك الزهور التي تزدهر في القلب وتذوي.. الوحشة في كل مكان. في البساتين المهجورة إلاّ من الملح والعاقول.. في المدينة حيث الأضواء والحلي المتحجرة خلف الزجاج ودويّ الآلات ثم الصمت بغتة في الليل. مَن ْ اذن يغني للمدينة التي توشك روحها على الاندثار؟ المدينة التي أضاعت أعيادها واتشحت بثياب الحداد؟ المدينة التي خرّبت ألف مرة ومرّة؟! من الذي يستخلص الدموع من المحار، من يعزف للجنود في المحطات والعائدين من الجبهة والذين لم يعودوا، للشحاذين وللشهداء والنساء الوحيدات في البيوت؟!

يحلّ الصمت من جديد. يلتمع الضوء في عيني الفتاة. تمرّ عربة يجرها حصان هزيل مثيرة تراب الطريق، يسعل حامل البوق متراجعا:

ــ لم ألاحظ غزالتكم هذه جيدا..

يتراجع القهقرى بنصف خطوة. الفتاة ماضية في رفع رأسها محاولة ان ترى الغزالة ولكنها لا تستطيع اما بسبب المظلة او لانبهار عينيها بضوء الشمس وقد بان حامل البوق أطول منها قامة لأنه كذلك أصلا ولأنه في مكان أعلى، وصارت قمة رأسها أعلى من حافة كتفه. أخفضت رأسها:

ــ حسبتكَ تتحدث عن غزالة حقيقية..

ــ انها غزالة على اية حال..

ــ هل تحزن الغزالة والأسماك والطيور والبيوت؟ كان عندي زوج من البلابل.. حين رحل الذكر ماتت الأنثى كمدا.. اجبني ايها الرجل..

ــ لا تحسبي ان للقلب قدرة على ذلك.. انما البشر مختلفون.. حين يفقد الأنسان عزيزا عليه يستعيده بشكل ذكرى او يحتفظ له في القلب بركن.. ثم يفتح شبّاكا على يوم جديد..

ــ كلا.. هذا لن يكون.. هذا قلب من ورق..

ــ أوراق الأشجار الساقطة لن تعود الى الأغصان.. الماضي عزيز علينا ولكنه لن يعود..

مسحت الفتاة وجهها بكفيها وكأنها تنهض توا من النوم:

ــ ماذا تريد أيها العازف؟ سأحدثك عن أوقاتي اذن.. ربما يمكن للهم ان يزول.. لحظات ثم بعود.. انني اخرج.. ليس أبعد من المخبز.. اليوم ماذا؟ الخميس أم الجمعة؟ البارحة وقفت في غرفتي امام خزانة الثياب.. أخرجت ثيابي كلها وأنا اشدهّا الى صدري وأملأ رثتيّ بروائح تصعد الى رأسي فأتذكر صباحات اتفقنا صدفة على ان نبتهج فيها.. كان ذلك في السابق.. حين كان الخوف يملأ قلبي لتأخره في الجبهة.. كنت اخرج الحلي.. لقد كنت اعرف انها خاصة بالفرح لكنها لا تهبه.. لا ادري ما أصابني في الأيام الأخيرة.. البارحة استيقظت.. عند منتصف الليل ثم اغمضت عيني من جديد.. ليس لكي احلم.. انني افقد التآلف.. رحل وتركني لوحدتي !

ــ ليت البهجة شيء امسكه.. ليتني منحتكِ بوقي..

ــ كيف.. أتمنح ما أنت بحاجة اليه؟

ــ يمكن لاثنين انْ يكونا بحاجة الى شيء واحد..

قالت في صوت خافت: ــ لا أريدك ان تغضب.. انت تعرف قيمة القلب الحقيقي.. انه لا يعشق مرتين !

افلت الرجل البوق من يده. انحنى ليلتقطه وهو يقول في اجلال:

ــ انني افهم ذلك ايها السيدة الوقور.. معذرة.. لابد ان الرجل يختلف عن المرأة.. ولكنني سأمر من هنا كل يوم.. ارجو ان لا يسيئك ذلك..

ــ أنا أعرفك منذ زمن طويل.. لم اشأ انْ اخبرك بذلك.. لتمرّ من هنا كل يوم.. ولتكنْ انتَ امتحانا لقلبي..

همس متسائلا:

ــ ما الذي افعله الليلة او بعد سنين من حياتي..؟

ــ انني لا أسمعك.. بم تغمغم.. أأنت شاعر؟

ــ آن لي ان انصرف.. ولتعلمي يا وفية القلب ان ذكراه محفوظة عندي

ايضا.. وسأعزف لكليكما بنفس الدفق الذي امنحه حين اعزف لوحدتي.. مع السلامة.

استدار حامل البوق مبتعدا. تسلق الربوة التي تمتد عند حافة البستان كحاجز. أغلقتِ الفتاة الباب بهيكلها النحيف وتراجعت الى الداخل ببطء. أدنى هو البوق من فمه. رفع فوهته صوب الفضاء. اتجهت أصابعه الى مفاتيح العزف.. توغل في الأعشاب مالئا الجو بالنغمات.

***

قصة: محمد سهيل احمد

إنْ لم تسُدْها سادها مُتكبرٌ

لا يبتغي خيرًا ولا إحسانا

*

أدبًا وعلْما عزّةً وكرامةً

مالًا وباسًا يردعُ العُدوانا

*

وصِناعةً وزراعةً وتجارةً

وثقافةً تُرْنِي لها الأكوانا

*

يا ناسكًا هجرَ الحياة لجهلِه

الأخْرى وما تحتاجُهُ أثْمانا

*

متناسيًا أنّ الدّنى شرطٌ لآ

ـخرةٍ بها لا تظْلمُ الإنسانا

*

لا تعجبَنَّ غدًا إذا قالتْ لكَ

الأُخرى: لأنتَ أقلُّهم إيْمانا

*

يا نائمًا خصَّ الحياةَ بنومِه

والنّومُ سِلْمٌ يعبرُ الأبْدانا

*

ليُهَدِّمَ الأرواحَ والأذواقَ والـ

أحلامَ والإبداعَ والوِجْدانا

*

من دونِها الأحوالَ والأعمالَ والـ

عُمرانَ والبُنيانَ و البُلدانا

*

حتّى تصيرَ لمن يُقدِّمُها إذا

قامَ النيامُ لخصْمِها قُربانا

*

إذ ذاكَ يُمسي الموتُ أدنى سِلعةٍ

في سوقِ موتٍ ينشُدُ الأكْفانا

*

يا لاهيًا خسِرَ الحياةَ بلهوِه

واللّهوُ داءٌ يُخسِرُ الأوزانا

*

من طالهُ طالَ النُّهى منهُ وما

بينَ الضّلوعِ مُخلِّفًا أعْفانا

*

أرأيتَ ميْتًا سائرًا دونَ الذي

ألهاهُ لنْ تلقىْ لهُ عُنوانا

*

هيهاتَ مهما سِرتَ أنْ تلقاهُ

إلّا في بلادٍ تقْرأُ القُرآنا

*

تغْدو بأمرِ أميرِها سوقًا لها

شدَّ الزّناةُ رحالَهم ألْوانا

*

يا ساذجًا عدِمَ الحياةَ بتركِه

عِلْمَ الدُّنى لخِصامِها كسْلانا

*

مُتَقبّلًا رايَ العبيدِ بأنّهمْ

سبَقوا الشّعوبَ بعقلِهِمْ ما كانا

*

وبأنّ واجِدَها اصْطفاهُم سادةً

وعَلى الورَى أنْ يُبديَ الإذْعانا

*

مُسْتلقيًا فوقَ البحارِ مُسيّرًا

نحو الغروبِ ومُوصِلًا أطْنانا

*

مُسْتعمِلًا أثمانَها ليقرَّ عرْ

شٌ قد أقرَّ بدارِكَ الطُّغيانا

*

ومُثَـــبِّتًا في قلبِك المُنهارِ للـ

أغرابِ من خوفٍ بكَ الأركانا

*

مُسْتَكْفِيا بالنّزرِ مِن أثمانِها

لِتُعدَّ فيمنْ عمَّروا الأوْطانا !

*

واللهِ لوْ أخْليْتَ قلبكَ والنُّهىْ

من كلِّ رايٍ بثَّهُ منْ مانا

*

لأَعَدْتَهُم لزمانِهمْ لجِذورِهِمْ

خَدَمًا لمَن في الأرضِ بلْ عُبْدانا

*

ولَسُدْتَها دونَ الورىْ أرضًا سَما

والعدلُ أزمانًا تليْ أزمانا

*

يا خائنًا خانَ الحياةَ بميلهِ

لمَنَ اصْطفىْ خِصمُها سُلطانا

*

حِرصًا عليهِ لا عليْها ظنُّه

أنّ الحياةَ تكافيءُ الوُغدانا

*

حتّى تُعلِّمَه بأنّ مثالَهُ

في دينِها توصيفُهُ: قدْ خانا

*

بِمَنِ اشْترى صحبًا ستُنزِلُ حكمَها

الدّنيا بِمَن والى العدا خوّانا

*

يلقونَهُ من برجِها وبأمرِها

سقْطًا فيرجعَ للثّرى صغْرانا

***

أسامة محمد صالح زامل

 

هوتْ حدباءُ لكنْ في دماها

حكاياتٌ تُعيدُ لنا مداها

*

ترابُكِ لم يكنْ موتًا عقيمًا

ولكنْ بذرةٌ تحيي سناها

*

على أيدي رجالٍ من حديدٍ

تسامى العزمُ فانتصبتْ رؤاها

*

أعادوا للسماءِ سنامَ نورٍ

وكانَ الليلُ يُحسدُ في علاها

*

كأنَّ الريحَ تبكيها هبوبا

كأنَّ الشمسَ تلبسُها ضياها

*

لقد صارت لنا الحدباء رمزا

لعزمٍ لا يلينُ إذا غشاها

*

إذا مرَّتْ جيوشُ الغدرِ يومًا

تهدُّ الطودَ، زادتْ من ذراها

*

رأيناها كما الأمواجُ تُلقي

على شمِّ الحياةِ بنا شذاها

*

تقولُ: الموصلية حينَ نادتْ

على الأبناء ذودوا عن ثراها

*

دمائي في المآذنِ نبضُ قلبي

وشمسي لا يغيّبها جُناها

*

أنا التاريخُ في عينيكِ حيٌّ

وفي روحِ الكرامةِ لي بقاها

*

سأبقى ما بقيتم في ثباتٍ

لأروي المجدَ إنْ عزَّتْ خطاها.

*

دموع الأمِّ عندَ النحر سالت

تقولُ: إلى السماءِ علا سناها

*

أراها في صغاري حينَ قاموا

وشادوا المجدَ من عزمٍ بناها

*

وفي أيدي الكرامِ رأيتُ ضوءًا

يضيءُ الليلَ إنْ طالتْ خطاها

*

فلا خوفٌ على أرضٍ تنادتْ

جحافلُها لتَبني ما دهاها

*

وإنْ هدمتْ يدُ الطغيانِ طودًا

فهذي الأرضُ تنهضُ من أذاها

*

فيا حدباءُ، يا روحَ البرايا

ستبقينَ السماءَ على عُلاها

*

هنا بغدادُ تنظرُ في ثباتٍ

إلى اختٍ يعانقها لواها

*

وهذي الموصلُ العظمى تنادي

أما آنَ الأوانُ لِمنْ فداها؟"

*

بَنَتْكَ الروحُ من شرفٍ عريقٍ

وصاغَ المجدُ في عزمٍ رُباها

*

لأنكِ في ضميرِ الكونِ صرحٌ

يدوِّي في القلوبِ وفي مداها

*

فكمْ من طامسٍ قدْ رامَ وجهاً

فعادَ النورُ يزهو في ذراها

*

دماءُ الأرضِ نادتْ من قريبٍ

وقالتْ: لن يُكمَّ الظلمُ فاها

*

فهذي الموصلُ العظمى أبتْ أنْ

يُدَنِّسَ تربها طاغٍ أتاها

*

ستبقى شاهداً، عهداً جديداً

لأنَّ العزَّ يأبى من عداها

*

فيا حدباءُ، يا أرضاً تفدّى

ويا رمزَ الحضارةِ في رُباها

*

سيرفعُ شعبُكِ الصرحَ انتصاراً

ويرسمُ في السما عزاً وجاها

*

فلو عادَ الخرابُ هنا لحينٍ

تعودينَ الشموخَ إلى ذُراها

***

د. جاسم الخالدي

حين تحترق البسمة في شَفَتي،

تَـنْـثال مواسم الحصاد في ذاكرتي،

وأطياف الرفاق تُسرع حثيثة صوب مُهجتي..

بين انسلاخ الأوقات المُتْـرعة على الآتــي،

وانسداد الأفـق عند مُنتهى الأمــل..!!

آه .. كم يلزمنا من عُمُـر كي نستسيغ هذا الألــم

الممتد إلى كل النهايات..

وكم نحتاج من قلم كي نرسم

عَـبرات الحب على جبين هذا الوطن..!!

وطن يسكُنُنا ونسكنه رغم المحن،

ورغم ما تفاعـل فينا من وجع،

ومن جشعٍ ومن وَلـع..

رغم الألم الساكن فينا،

ورغم هذا الجرح الغائر فينا.

نرقُبُ انفلات الأوقـات،

وانصراف العيون الجاحظة إلى ملاحقة الأحداث،

وتَهَـدُّمِ ما تبقى من أطلال،

كانت تُشعل الأشواق فينا،

وتُلهب الحنينَ المتجذر فينا عبرالسنين..

بينما الغيمات تمضي حسيرة حثيثة

صوب الحقول البعيدة،

وصوب الأحـلام البعيدة ..

آه.. كم كان الحلم حُـلُمــا،

وكم كانت الأمنيات حَـبلى بألوان الحياة

وأصوات الحنيـن..

حين كان الصّبية يُعيدون ترتيب الحكايـة

قبل صِيــاح الدّيـك،

وقبل سُكوت شهرزاد عن الكلام..

لكن نور الصباح،

سَـجّـر الأمكنـة واستدرج الساعات الهاربة،

وأَنْــذَر بقدوم ربيع من جوف الهجير،

يُنْضِجُ فينا نـزق الرّيـادة،

وعُـنْفُـوان القـيّـادة والسّيـادة..

ويُرتِّـبُ في دَمنا

مَواسـم الحصاد وطقوس الـولادة.

***

محمد المهدي

المغرب ـ تاوريرت - 18 أبريل 2025

 

طاولتُ مرورَ الوقتِ وأنهكتُ الثقلينِ ضياعا

لو مرّتْ مرَّ العلقمُ في دربِ الماشين عرايا

وَلَهٌ يتكرّرُ ماءً في عينِ المرآةِ لِتُطلِقَ آهاتِ سرابِ

لا يُسفرُ صبحٌ إلاّ وغرابُ التفريقِ يمدُّ جناحا

يهوى أنْ يبصُرَ في وادي التسليمِ حَماما

يلعبُ طاساتِ الضربِ على رأسِ الجاهلِ والمجهولِ قياسا

يسألُ هل تندسُّ الرؤيا بأحافير رؤوسِ التنجيمِ

لا يبصرُ أبعدَ من حافرِ ثُقبٍ في عين النجمِ

ليدُقَّ المسمارَ الفضيَّ وينعى أهلا

حاولتُ الصُغرى طاولتُ الأخرى حتّى

جاوزتُ البابَ العالي فَتْحا

لم أعثرْ خطّاً في نجمٍ يهوي أو شمّاً في وشمِ

عانى ما عانى ختمُ الطينِ المشوي

لينيرَ الشمسَ دروباً من نارِ الشمعِ

ما كفَّ الأكمامَ ولا ألغى لُغْماً في صكَّ الشيطانِ

ما قالَ البينُ لتحليقِ وباءِ الغربانِ

لا تحزنْ إنْ مالَ الربّانُ وجفّتْ أحداقُ الرُهبانِ

أنهكني جسُّ البرقِ عواميدَ لُغاتِ الأوتارِ

وحبستُ الأنفاسَ مخافةَ أنْ يطغى مفتاحٌ في قفلِ الخلاّنِ

رُحماكِ أطلّي ....

الفُرقةُ لو مدَّ البومُ لسانَ الغربانِ.

***

د. عدنان الظاهر

10.6.2025

 

قِفَا.. فالجـــوعُ يَدفـــعُ بالأُلوفِ

لهــــــــاوية التدافُــــعِ والهلاكِ

*

قِفَا.. فالجوعُ يأكلُ نِصْفَ شَعْبٍ

ويَفْتِكُ بالبقيــــــةِ في اشْتِباكِ

*

وتَمتدُّ المَهـــــــــــالِك راصِداتٍ

لها وَجْــهٌ مُلَطَّـــــــــخُ بانْسِفَاكِ

*

وتَمتدُّ (الطناجِر) مُنْهَكَــــــــاتٍ

تُصَارِعُ للبقــــــــاءِ..  ولابـواكي

*

ومَنْ يَشْهَدْ نِـــــداءَاتٍ.. ودمعاً

وأبنيـــــةً تموتُ.. بلا حِــــرَاكِ

*

سَتُدْرِكــــــــهُ.. بيومٍ لامَنَــاصَ

لــــهُ مِنْـــهُ بِخِــــزيٍ.. وانْتِهاكِ!

*

ومَنْ لَبَّــــى ولَاقَى الموتَ عِزًّا

لِنُصْـــرَةَ أهْـــلِهِ مِثْلَ المَـــلاكِ

*

تَلَقَّـــاها بحــظٍ وافِـــرٍ.. أَحنَى

رِقابَ الكُفْرِ قســـرًا كي يَراكِ:

*

على قدميكِ تبتسمينَ دَهـــرًا

تَؤُمِّينَ الحيـــــــاةَ على هواكِ

*

ومَنْ خَذَلــــوكِ وابتلعوا لِسانًا

وغَضُّــوا (عَرْشَهُمْ) عما دَهاكِ

*

يَعيشونَ انْبِطَــاحًا في تَبَــــاهٍ

لِيَنْتَعِشَ اقتِصادَ الـ(اِحْتِكاكِ)!

*

فما طــارَتْ شَرَارَةُ دون قَـدْحٍ

ولا قـامتْ قيامـــــةُ بالسِوَاكِ

*

وهل نامتْ بِعَيْنِ العُـرْبِ أُسْدٌ

سوى جُـــبْنٍ مُقِيـــمٍ باحتِبَاكِ!

*

قفــا.. فالجوعُ حَرْبٌ- إن أَرَدّتُمْ -

فخوضوهــا بِشَـجْبٍ واعْتِلاكِ

*

ولا تَقِفُوا حَيــــارى إنْ مَنَعْتُمْ

عن الجــوعى معونات الفِكَاكِ!

*

متى كُنتُمْ لها سَـنَدًا وعَـــوْنًا

لتهنـأ بالحيــــاة بلاعِــــــرَاكِ!

*

قفا..  فالجوعُ يَلْعَنكُمْ ويدعو

عليكمْ بالمجاعَةِ.. و(الشَّاْبَاكِ)!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

في نصوص اليوم