نصوص أدبية

نصوص أدبية

(إلى روح أمي أينما رفرفت)

***

ذكريات هائمة

يتذكر طفولته تحت المطر

فيشده الشوق لوجه أمه

تحت ظلال الأشجار الوارفة

ينتظر صوتها

انتظار عاشق لحلمه المنتظر

ينسيه المطر أحزانه

ينسيه فيض النهر آلامه

تنسيه ظلال الأشجار

وهي تعانق غربته خيباته

تنسيه السحب المثقلة بالذكريات جراحه

يتذكر وجه أمه تحت المطر

فتعود إليه روحه

يشده الحنين لخبزها

وشايها وعطرها وترابها

فتهفو روحه كجدول إلى روحها

فراشا تصير روحه في عليائها

رعشة تصير يده وهي تمسك بيدها

طيف الحياة

أمي يا أجمل امرأة

تربعت على الفؤاد والكلمات

والقصائد والحروف والذاكرة

أمي يا طيف طفولتي

الذي صيرني قبالة النهر متاهة

أمي يا فيض حب

شردني كالغزلان دفئه وحنانه

وحيدا أنا الآن يا أمي بلا مركب

وبلا زاد وبلا بوصلة

كأندلسي شرده الحنين

إلى جنان قرطبة

ذكرى

يتذكر رفاق الأمس وحكاياتهم

فتعود إليه ذكرياته ونوافذه

يمضي إليهم كجدول تحت المطر

فتعود إليه من الشوق أيامه

تراوده أغاني الشيخ فتثور ثائرته

يتذكر لوركا ونيرودا ودرويش

فتخنقه أشعاره وأوتاره

وحيدا كجدول بلا مظلة

تشرده رؤاه وأفكاره

غريبا كفزاعة الطير

تخنقه غربته

يتذكر وجه أمه

فينادي ملء الفؤاد يا أمي

يا طلعة البدر فوق صحرائي المقفرة

فتفيض كالأنهار أشواقه

دفعة واحدة كالينابيع

تفيض على حدائقه ذكرياته

يتذكر تحت نور الشمعة

قصصها.. وقهوتها

ولمعان عينيها.. وشعرها

وشرفاتها.. ولمستها

فتذوب من الحنين أوصاله

فسلاما عليك يا أمي يوم ولدت

وسلاما لروحك الوهاجة

التي تشبه ضياء القمر

***

عبد الرزاق اسطيطو

يومُ زَفافِ القَمر..

سَأولَدُ من رَحمِ الحُلم

أستَعيدُ نُجومِيَ المُحْتَّلة

هذهِ الأرضُ ليسَتْ طمُوحِي

لا أقبَل بِنصفِ السَّماء...

في مَهدِ الخَيال زَرعتُ وَطنَا

وهناكَ في البُحيرةِ المُقدَّسَة

سَألدُ عاشِقاً

يَرقُصُ على أهدابِ النَّخيل

يَرتشِفُ الضَّوء مِنْ شَفتَيَّ

نتَحوُّلُ إلى ذرَّاتٍ معاً

في غَفلةِ الهَواء

نَقبضُ على حُلمِ جلجامش

نصنعُ كَوكباً أخْضَرَ..

شُهباً زاهِرة

وزَخارِفَ طائِرة

لَستُ أُنثَى..

أنا طيفٌ بلونِ المَلائِكةِ يُناغِي ..

يشربُ الرِّيح

شُعاع ماءٍ يُعانقُ نَهدُ السَّماء

***

سلوى فرح - كندا

صبية في عمر الورد تربط شعرها ذيل فرس، تسهر حتى ساعة متأخرة قبالة حاسوبها، تكتب وتكتب وتكتب. تبتسم حينا وترتسم علامات التفكير على وجهها الجميل اخر. تنتابها حالات حافلة بالشوق والمحبة. شاب لامع العينين ينسى تعب النهار، ينسى الهندسة وايامها، يسهر الليل ليكتب لفتاة احلامه كل ما عن له وخطر في باله من كلمات تطير العقل. صور تتلاحق. تتعاقب الايام والليالي. يمضي الوقت بين البطء والسرعة.. تلتمع الالوان حينا وتخبو اخر. انتظار وترقب. قلق وتوتر، وجه صبية باسم، وجه شاب باسم. دموع فرح.. غموض بلا غموض.. شوارع واشجار.. احلام.. بلدان متباعدان.. تفصل بينهما جبال وديان وسهول.. سيارات وطائرات.. وشارع طويل.
***
عندما دخلت نهيلة عالم الفيسبوك، كانت تعرف ما تريده وتبغيه، وكانت واثقة من جمالها ودلالها، وقدرتها على التصور وتحقيق ما تتخيله. لم يكن يرضيها اي وضع وكانت تشعر انها قادرة محتكمة. كانت نهيلة صبية في مقتبل العمر، ذات شعر اسود كالليل وكانت تفضل ربطه ذيل فرس، وتزينه بدبوس على شاكلة قمر، كانت في الخامسة والعشرين من عمرها، تحب الحياة وتُقبل عليها كلما سنحت لها الفرصة، فتعب منها بحذر. لم نهيلة تكن متسرعة، الامر الذي مكنها من احترام نفسها وعدم ابتذالها.
ذات ليلة في ساعة متأخرة، فوجئت بغريب يطرق باب فيسبوكها، بتعليق لطيف طريف، مفاده ان ما كتبته عما تتمتع به بنات هذه الايام من حرية، ما هو الا منحة الهية وهبها الله اليهن وان عليهن ان يصنها.. بمعناها الحقيقي. قرات نهيلة ذلك التعليق واعادت قراءته، مرة، ومرة ومرة، وهي تفكر فيما قصده كاتبه وتحاول التفكير فيما اراد ان يوصله اليها وفيما كمن وراءه من المعاني والالغاز الشابية.
في محاولة شخصية منها للإجابة على ما الح عليها من اسئلة، توجهت الى قراءة اسم الكاتب وفوجئت بالتشابه الشكلي الفظيع بين اسمها نهيلة واسمه: رهيل..، ولاستكناه المزيد دخلت الى صفحته الشخصية، لتكتشف انه من مواليد اقصى البلاد قبل ثلاثين عاما، (عمره قريب من عمرها)، ويقيم هناك. يعمل مهندسا الكترونييا.. هوايته العزف وركوب الخيل. يحب الشعر وتعجبه الكلمات الجميلة. اعجبت نهيلة بكل ما قراته ومرت عليه، كما مرت قبله على العديد من الاسماء، فقد علمتها الليالي ان تكون حذرة في الغابة الفيسبوكية المتشابكة. وكان لها عدد من التجارب غير المريحة مع متطفلين من كل الاعمار والديار، لكن ما ان نسيت نهيلة صاحب ذلك التعقيب حتى تذكرته، فقد دخل اليها على الخاص، وكتب لها كلمات ابرزت اللمعة في عينيها العجاوين، وبعثت فيها احساسا غير مألوف، لا سيما انه آت من مهندس الكترونيا وشابا ايضا.. وكما حدث لها كلما لفت نظرها امر.. يستأهل التفكير والخاطر يثير، راحت تقرأ ما كتبه على الخاص وتكرر دون ان تتوصل الى معناه المباشر ومعناه الاخطر غير المباشر، "اتمنى ان اتمكن من معرفة سبب عدم تفاعلك مع تعقيبي على كتابتك حول بنات اليوم". بدون تطويل في غير محله، دخلت نهيلة، خاص رهيل، وجرى بين الاثنين حديث تواصل ستا وثلاثين ساعة، وتتوج بأمرين، احدهما تبادل الصور والى جانبه الاعجاب.. الف.. والانبهار.. باء. والآخر وكان مضمرا، ان ما جمعه الله لن يفرقه بشر، وان هذه العلاقة لن تكون عابرة وسوف يكون لها ما بعدها.
بعد سنة من التواصل الليلي احيانا والنهاري اخرى، كان لا بد ان يُحضّر الاثنان امورهما ليجمعهما بيت واحد، وحب واحد وابن واحد ايضا، وللحقيقة نقول ان الاثنين برعا في التخطيط والترتيب لكل صغيرة وكبيرة .. للجمع بينهما، وان الامور جرت بالضبط كما خططا تخيلا ورتبا واقعا. في البداية وفد رهيل الى بلدة نهيلة، تاركا بلدته، اهله وعالمه، وبادر لشراء البيت التي اختارته نهيلة، واقام فيه، ريثما تجري بقية الامور، بعدها تعرف على اهلها، واعجب بهم ايما اعجاب، ثم طلب يدها فرحبوا به، بموافقة والحاح من ابنتهم. بعدها.. تحولت المحادثات الفيسبوكية الى لقاءات يومية، وكان الاثنان يغرقان في بحر من الضحك وهما يتذكران ايام الفيسبوك، ويقارنانها بما توصلا اليه في علاقتهما من حقيقية واقعية. اكثر من هذا لجآ احيانا.. للتواصل عبر الفيسبوك.. كسرا للملل. وكان هذا كله يجري وسط حذر رهيب من التواصل الجسدي بين الاثنين.. ولو حتى بقبلة على الطاير.
تتوجت اخيرا علاقة رهيل ونهيلة بالزواج وابتدأ الفصل الاكثر اهمية في حياة كل منهما.
في اول تواصل جسدي بين الاثنين، اكتشفت نهيلة ما لم تمكنها الليالي ولا الفيسبوك من اكتشافه. تم اكتشافها هذا، بشكل مفاجئ وغير متوقع، ولنطلعكم عليه اولا بأول.. بالضبط كما تقع الاحداث في القصص. ازال رهيل الطرحة من على وجه نهيلة. بعدها عصف الشوق بالاثنين فشرع كل منهما بمساعدة الآخر في انتزاع ملابسه، حتى باتا عاريين مثل جدهما الاول وجدتهما الاولى، في اول عهدهما على الارض. وبين الاشجار، نظر كل منهما الى جسد الآخر، فشعر انه انما يقف امام إلها تقمص روحا بشرية. نسي الاثنان كل ما احاط بهما وتذكرا امرا واحدا هو انهما معا وبإمكان كل منهما ان يرتوي من ماء الاخر السلسبيل الزلال. والتصق الفمان فالصدران فالجسدان، حتى انهما اصبحا، لمن يراهما او يتصورهما، جسدا واحدا بأربعة ايد واربعة ارجل.
منذ الليلة الاولى، شعرت نهيلة ان ريالة تدفقت من فم زوجها على جسدها، فاشمأزت منها قليلا، غير انها لم تعرها اهتماما خاصا، اعتقادا منها انها قد تكون لسبب نفسي وما اليها، بيد ان ما حدث في الليالي التالية، اكد لها ان امر حنفية الريالة دائمة التدفق على جسدها في اعماق الليالي، انما هي عادة عليها اما ان تتعايش معها او تطلب حلها، او.. ولم تكمل.
بين هذا السؤال الحائر والاجابة الطائرة كريشة في مهب الريح، قضت نهيلة السنة الاولى من زواجها. وكان ان انجبت مولودة ظهرت عليها ملامح النباهة والجمال جلية واضحة منذ خروجها من بطن امها الى سريرها، فاتفق الوالدان على تسميتها سهيلة، تناغما مع اسميهما، وتمت التسمية وسط اصرار مكتوم من والدها رهيل وموافقة مكظومة الغيظ من والدتها نهيلة.
بعد ولادة ابنتها توجهت نهيلة، ذات ليلة حالكة السواد الى رهيل، ملقية عليه خطبة مفادها، انه زوجٌ رائع ومضحٌ، وانها تُكبر هذا فيه، الا انها لا يمكن ان تقضي عمرها بركة لريالته. اخفض رهيل راسه امام نهيلة، كمن حسب الف حساب لتلك اللحظة وخشي منها طوال ايام حياته، وهمس كأنما هو يريد ان يسمعه انسان واحد في العالم، يدعى نهيلة، والحل؟ ما ان لمست نهيلة انكساره ذاك امامها، حتى انتابتها حالة من الرأمة الامومية، وهتفت به بصوت هامس كي لا توقظ صغيرتها ايضا: الحل ليس عندي.
توجه رهيل في صبيحة اليوم التالي الى طبيب مختص، كما فعل مرات ومرات في سنوات ماضية، في البداية برفقة امه، بعدها برفقة ابيه، ثم وحده، لتبتدئ رحلة شاقة من محاولات العلاج المتجددة، وغير الناجعة.
في هذه الفترة اتفق الزوجان على حل وسط، ان ينام كل منهما في غرفة، وقد تم تنفيذ اتفاقهما، الا في حالات نادرة في البداية، وكثيرا ما كانت هذه الحالات تحصل وسط خجل نهيلة من نفسها اولا ومن زوجها المهندس الالكتروني ثانيا، وكانت الزوجة المسكينة تسلمه جسدها وكأنما هي تسلمه الى مسرور السياف، او عشماوي قابض الارواح، الامر الذي ادخل الزوج رهيل في حالة من التساؤل عما يمكنه ان يفعله، وتوصل في ذروة تساؤلاته المتواصلة ليلا نهارا، الى انه ينبغي ان يتوقف عن لعب دور الزوج في تلك الصيغة المهينة له ولام سهيلة.
ومضت الايام بين عذاب وعذاب، وكانت نهيلة كثيرا ما تطلب الحل من كل من تأنس اليه رأفه نحوها ومحبة لها، غير ان احدا لم يقدم لها الحل المنشود، اما رهيل، فقد وجد نفسه مثل فرع قد من شجرة، فراح يتألم ليل نهار، دون ان يجد من يساعده او يمد لها يد العون.
عندما طفح كيل نهيلة، بعد معاناة تنوء بحملها الجبال الرواسي، كان لا بد لها من ان تخوض معركتها الاخيرة، دخلت غرفة رهيل، ذات ليلة بعد ان نامت ابنتها سهيلة، اثر الم وبكاء، فابتسم المسكين ظنا منه انها قررت التعايش مع مصيبتهما، سوى انها تجاهلت ابتسامته وقالت له بحدة من قرر امرًا لا رجعة عنه: طلقني.
بهت الزوج العاشق الحائر حبا، وقال: هل يوجد رجل آخر؟ فردت عليه بحزم، لا. فعاد يقول لها: وسهيلة. فقالت لها بإمكانك ان تراها متى تشاء.
همت دمعة حارة من عين رهيل، وخطر له ان يتقبل الوضع المستجد، فشرع بجمع ملابسه وسط نظرات زوجته العارفة، وصرخات ابنته في الغرفة القريبة جدا. وتوجه من فوره ليستقل اي وسيلة نقل سيارة او طيارة، لتعود به من حيث اتى. اما نهيلة فقد ربطت شعرها الاسود الطويل على شكل ذيل فرس. وضعت وسطه دبوسها القمري، توجهت نحو حاسوبها وفتحت فيسبوكها.. وهي زائغة العينين.
***
قصة: ناجي ظاهر

اهداء الى روح المربي الأستاذ عادل سعيد

كان الفتى عادل، ذو الاثني عشر ربيعًا، كتلة من الذكاء المفعم بالشقاوة والمغامرة، طفلًا يحمل في قلبه جذوة التحدي وفي عقله نور الابتكار. كان عالمه أشبه بساحة تنافس لا يهدأ، يمارس فيها ألعابًا يبتكرها بنفسه أو يعدّلها بما يتناسب مع شغفه العارم وإرادته التي لا تعرف الكلل. كان يبحث دومًا عن العقبات، ليكون هو العقدة وهو المفتاح وهو الحل، كل ذلك ليخطف الأنظار نحوه، سواء بين أفراد عائلته وأشقائه الخمسة الذي كان هو أكبرهم، أو في أروقة المدرسة وبين زملائه الصغار.
كان والده يعامله بحظوة خاصة، يغمره بعناية تمتزج بحب غير مشروط، وقد أورثه من صفاته الكثير؛ فكان عادل واثقًا بنفسه حدّ الثبات، جريئًا في فرض شخصيته وسط أقرانه، ذا نظرة ثاقبة تحمل تحديًا جليًا، تلمع من خلف سواد عينيه الحادتين اللتان تشبهان ليل الجنوب الهادئ. أما ملامحه السمراء، فكانت تزداد جاذبية حين يولي هندامه ونظافته اهتمامًا خاصًا، متأثرًا بشغف والده الذي حرص على أناقته بقدر حرصه على تربيته.
أما مغامراته، فكانت تحيا في كل زاوية من زوايا قريته الصغيرة. يتفق ويخطط مع أخيه الأصغر على صنع الألعاب بحنكة العارفين. كانوا يجمعون بقايا النفايات وأعواد السعف والحصى، فينحتون منها طائرات ورقية وأقواسًا وأسهمًا ومصائد ومقاليع وسنارات صيد، وكأنهم يحولون اللاشيء إلى كنز ملموس. لم تكن ألعابهم مجرد لهوٍ عابر، بل كانت مصدرًا إضافيًا يضمن لهم بعض المال القليل الذي يتقاسمانه بفرح كبير، كأنهما اكتشفا سر الحياة.
كانت الرماية والتهديف شغفه الأعمق، يطلق سهامه نحو الأهداف الثابتة والمتحركة وكأنه يرمي ذاته نحو التحدي ويقيس قدرته في إصابة المستحيل. ببراعة لا تعرف الخطأ، كان سهمه نادرًا ما يخطئ الطرائد من عصافير وطيور، وكأن يديه تتحدثان بلغة تتماهى مع الريح. كل شيء أمامه كان هدفًا مستحقًا لسهامه، يسكنه هوس التميز والتفوق، ويمتلئ قلبه بنشوة الانتصار حين تصفق له عيون اقرانه بدهشة وافتتان.
حين يعود إلى البيت بعد الظهيرة، كان يحمل غنائمه بكل فخر، فيشعل نارًا صغيرة من أغصان جمعها في طريق العودة، ليشوي صيده على وهجها الدافئ. أما البستان القريب من بيتهم، فقد كان مملكته الخاصة، حيث يثبت أهدافه على الأرض أو على جذوع النخيل المتراصة كشواهد على مهاراته. وكان إذا صادف سربًا من العصافير وهي تحلق في السماء، شعر بأن قلبه يحلّق معها، وأن كل سهم يطلقه ليس إلا إثباتًا جديدًا لتفوقه وتحديه، وتصديقًا على سحر الطفولة الذي يسري في عروقه كالنهر الجاري.
كان الرهان هذه المرة جريئًا ومتهورًا، بل ربما كان التحدي الأعظم الذي أقدم عليه عادل دون تردد. فقد وقعت عيناه على تلك البقرة الوادعة، بقرة البستاني، التي كانت ترعى في البستان وقت الظهيرة، تتهادى بخطوات وادعة مطمئنة لا تعرف الخوف.
جلس عادل القرفصاء، وقلبه يخفق بشدة تشبه إيقاع الحرب، لكن بعينيه كان ثبات المقاتل الذي لا يخشى شيئًا. شدَّ القوس بحذر وتوترت أوتاره كأنها تختزن كل رغبة في النصر، ثم أطلق سهمه بعزيمة جامحة. انطلق السهم كطائر جائع يبحث عن فريسته، فاستقر في فخذ البقرة بعمق.
قفزت البقرة المسكينة وقد مزقها الألم، فاندفعت تخور بصوت عالٍ وهي تركض بجنون في أنحاء البستان. كان المشهد كابوسًا يتفجر أمام عيني عادل، وهو يركض خلفها بكل ما أوتي من قوة. لم يكن يريد إنقاذها، بل كان يسعى لنزع السهم من فخذها، ذلك السهم الذي تحول إلى دليل إدانة لا يرحم.
لكنّ الأمر كان قد فات. فالبقرة دخلت بيت البستاني وسهم عادل ما زال مغروزًا في فخذها، والدماء تسيل منه شاهدة على جريمته الطفولية.
أطبق الهلع على صدره، وأدرك أن العقوبة هذه المرة ستكون قاسية بلا شك. لم يكن أمامه سوى الهروب. مضى إلى بيته بخطوات متعثرة، وجهه شاحب كالقمر في ليلة عاصفة، وهيئته مبعثرة كأنها فريسة نجت لتوها من كمين مفزع.
دخل البيت وهو يترنح تحت ثقل أفكاره، واندفع إلى زاوية بعيدة في غرفة جدته. جلس متظاهرًا بالانشغال بدروسه وواجباته، كأنما يحتمي بها من المصير الذي ينتظره. كانت يداه ترتجفان رغم محاولاته البائسة في رسم الهدوء على ملامحه.
استغرب الجميع من سكونه الغريب وانهماكه المفاجئ في مراجعة دروسه، ذلك الصبي الذي لم يكن يعرف عن الهدوء سوى اسمه. لكن لم يمهله القدر طويلًا، فسرعان ما قطع ذلك الهدوء طرقٌ سريعٌ وعالٍ على باب البيت، كسوط يُجلد به ظهره الضعيف.
ارتعش جسده بالكامل، وتجمّدت عيناه على حقيبته كأنها ملاذه الوحيد. وعلت صيحات البستاني الغاضب، تتخللها كلمات مليئة بالاتهام والوعيد وهو يتحدث إلى والدته التي فتحت له الباب بتردد. أخبرته والدته بأن والده لا يزال في العمل، وأنها ستنقل إليه ما حدث عند عودته.
هنا، شعر عادل بأن الزمن قد توقف. لم يعد يسمع شيئًا سوى دقات قلبه المتسارعة، ورعبه الذي صار له ثقل يكاد يقتله.
سألته والدته بصوت يملأه القلق والغضب المكتوم، كأنها تحاول استباق كارثة قد حلت
ــ ماذا فعلت هذه المرة؟ وبدون مراوغة، أخبرني الحقيقة.
كان جسد عادل ما زال يرتجف تحت وطأة الخوف، لكنه جمع شتات شجاعته المتناثرة وردَّ بصوت متقطّع، كمن يحاول الإمساك بخيط من أمل واهن
ــ لم أتعمد التصويب نحو البقرة، كنت فقط أحاول اصطياد عصفورٍ، لكنها مرت في نفس اللحظة، فأصابها السهم دون قصد.
في تلك اللحظة، تجمع إخوته وأبناء خالته حوله كحلقة دفاعية، كدرع بشري يريد حماية قائدهم الصغير. هزّوا رؤوسهم مؤكدين كل كلمة نطق بها عادل، وكأنهم كانوا شهودًا حاضرين أو شركاء في الجريمة البريئة.
أما الجدة موزة، أو كما يناديها الجميع "أمنا الكبيرة"، فقد كانت تتابع المشهد بعينيها الحانيتين وابتسامتها التي تروي حكايات عمر طويل. كانت منهمكة في جمع أطراف ضفيرتيها الحمراوين بعقدة محكمة أعلى رأسها، وكأنها تزيّن تاج حكمتها الأزلية.
تقدمت نحو عادل بخطوات واثقة، ولوّحت بيدها بتحذير لطيف يحمل في طياته الحب والخوف عليه معًا. قالت بصوت يفيض بالحكمة
ــ لا تكررها يا بني. المرح والشقاوة لهما حدودهما، ويجب ألّا يكونا على حساب الآخرين.
أطرق عادل رأسه خجلاً، وكأنه أدرك أن الجدة موزة تستطيع أن تقرأ كذبه حتى وإن تزينت كلماته بالبراءة. وعدها ألا يعيد فعلته، ورجا حمايتها، فهي دائمًا كانت ملاذهم الآمن من قسوة والده.
كانت الجدة موزة هي الأم الحقيقية لهم جميعًا. تطعمهم بيديها ما يحبون، وتضمهم ليلاً على سريرها الحديدي الواسع، ذلك السرير الذي كان بمثابة سفينة نوح تحتضنهم من كل مخاوفهم وفزعهم. كانت تروي لهم أجمل قصصها، وحكاياتها التي تمزج بين الأسطورة والواقع، وهم يتسابقون لمشاركتها أسرار شقاوتهم وضحكاتهم البريئة.
عاد الوالد من عمله، وعيناه تحملان تعب النهار وثقل المسؤوليات. وبعد أن تناولوا الغداء، أخبرته الوالدة بما جرى، وبأن عليه معالجة الأمر مع البستاني الغاضب.
عبس وجهه، واكتسى غضبًا كريح عاصفة. نزع نطاقه وسحبه بقوة، طاويًا نهايته بقبضته اليمنى كمن يستعد لإنزال عقوبة لا مفر منها. زمجر بصوته الغاضب مناديًا: عادل!
كان عادل حينها يرتجف تحت لحاف الجدة، يستشعر برودة الخوف تمتزج بحرارة الندم. لكن قبل أن تصل يد والده إليه، هبّت الجدة موزة واقفة أمامه، شامخة كجبل يحتضن صغاره.
قالت بصوت حازم وثابت
ــ إيّاك أن تلمسه! فهو لم يتعمد فعلته. اذهب إلى البستاني واعتذر منه بنفسك، وكن مستعدًا لتقديم أي تعويض يطلبه مقابل الأضرار مهما كانت قسوتها أو حجمها. دع الأمور تنتهي بسلام وبالتراضي. أما عادل، فأنا كفيلة به هذه المرة.
كانت كلماتها كتعويذة سحرية بددت عواصف الغضب في قلب الأب، وزرعت في المكان سكينة أشبه بظل شجرة وارفة في يوم قائظ. وما كان من الأب إلا أن ينصاع لحكمة الجدة، فهو يعرف جيدًا أنها لا تقول ما تقول إلا بميزان العقل ورقة القلب.
***
سعاد الراعي

 

إلى (ج . خ . م)

أنتَ تنسى كم قوّضتَ من السقوف

على أسِرّة من أحبّوكَ

لكنكَ تتذكّر بغضب عضّات أسنانهم اللبنية

على مقابض بوّابتِكَ الحديدية

تبني حولك من أخطائهم أسواراً

فلا ترى من الأفق سوى خرائبَ

تتكدّس فيها النجوم المتعفّنة من مرارة الدموع

وها أنتَ منذ اتّخذتَ الكراهية دليلاً

تركضُ في الهاجرة بحثاً عن ظلّ شجرة

لكنّ الشجرة تهرب مذعورةً

فقد ظنّتكَ تريد افتراسَها

حتى البستانُ الذي تبنّاكَ يتيماً

وألبسكَ من أسمال أبنائهِ الجداجدِ والأعشاب

لملم سواقيهِ في صُرّةٍ

وهربَ دون أن يترك عنواناً

**

كلّ الذين أطفأتَ في عيونهم الشمس

غفروا لكَ

بغسلهم العتمة عن أحداقهم بالحُب

لكنكَ لم تغفر لهم

قرعهم النواقيس على مقربة من قبور أحلامك

لقد ربطتَ رجليكَ بحبلٍ إلى الماضي

فتحوّلَ جسدُكَ إلى سجن

وأضلاعُكَ إلى قضبان

بينما الذين لم تنسَ أخطاءَهم

تحوّلوا خارجَ ميدانِ رمايتِكَ إلى فراشات

**

إلى متى تُجرّرُ من خلفكَ قيود الكراهية

كان عليكَ أن تُمزّقَ أثوابكَ

وتتخذ من المِزق أجنحة

تنأى بها عن مستنقعات السُمّ

لكنك لن تستطيعَ

فالذي تشبّعتْ رئتاه بالعتمة

يُصيبهُ الضوء بالاختناق

***

ليث الصندوق

مازلتُ أراكِ قُبَيْلَ الفجر وكلُّ البيتِ نيامْ...

توقدينَ النارَ بنور السلام!

مازلتِ غزالًا وأسرابَ حَمَامْ...

ما زلتُ أراكِ كما كنتِ تستسهلينَ الصيامْ

مازلتِ

مهرةً

حرةً

تأبى الطعامْ

إلا شُربةً

إلا تمرةً

في بيتٍ

فيه ثلاثُ بيوتٍ

*

مهرةٌ تأبى الطعام حتى يكتفي العطشى الجائعون وينفضُّ الازدحامْ!

*

مازلتِ ومثلَ ثكالى الأمهات؛

تستقوي على أحزان الزمانْ

بالصبرِ

بالشكرِ

بالذكرِ

ما زال حياؤكِ يُستعادْ

ما إن تطأ العينان أرضًا تعلو هاماتٍ لها شيلةٌ من إبْرِيْسَمْ تِزْكَامْ

***

د. لطيف القصاب

.........................

الشيلة: غطاء رأس

تزكام: فِصال حسب الطلب.

الليل يَنْصُبُ طُغْمَتَهُ

عباءتهُ تَنْشَدُّ وتَقْدَح شرراً

لم يبقَ في ساعتهِ حُلمٌ

لتأويلِ الجرحى..

والوقت عيونْ!

*

يَجمعُ الليل دَوَاتهُ لِيَكْتُب

في حياتهِ لم يَقْرَأ (وطناً)

أدواتهُ عمياء...

ويدهُ لا تُمْسِكُ النهار

كلمة واحدة يعرفها

هي: الإظلام!

*

هو ذاتهُ مِنهُمْ

يَعْرِفُ الباعة تماماً

باعة الظلام

والذين أظلموا

والظلاميين الجدد

وطيور الظلام...

كما تعرفُ الطرقاتُ

نِقَاط (الخُبْرَةِ) و(الجماعة)!

*

يَفتحُ الليلُ دُكَّانهُ

ولا يشتري أحدٌ مِنْهُ إلا العَتْمَة!

عَورتهُ باديةٌ ويَراها سواه

يتمنى أن نزورهُ لمَرَّةٍ

كما يزورنا هو كل ليلة!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

من كتاب: (رِمال القلق)

جلست في شرفة المنزل المطلة على الحديقة، حيث امتلأت رؤيايَ بمشاهد سحرية الأشجار السامقة التي تتلألأ بألوانها الخضراء. كانت الورود العطرة تتفتح على حافات الحديقة وأسفل الشرفة، مما يملأ الهواء بعبق روائحها الزكية. الأرض كانت مفروشة بالحجارة البيضاء الصغيرة، مما أضاف لمسة من الجمال للمشهد.
وفجأة اجتاحني فيضان من الحزن، اجتاح كل جوارحي وأنا أجول بعيني في الإرجاء، عندما تذكرت تلك القطة السوداء التي كانت رغم صغر سنها تتسلق أشجار الحديقة وتداعب أرجلنا بفروة رأسها قبل بضعة أيام، وتستنجد منا الحب.
في أحد الأيام توارت عن الأنظار لمدة ثمانية وأربعين ساعة بعيدًا عن المنزل. خرجنا إلى الشارع وبحثنا في الأزقة، وسألنا المارة، وطرقنا أبواب البيوت، وتوغلنا بين الشجيرات الكثيفة ننادي باسمها بصوت يملؤه الأمل والخوف. لسوء الحظ، لم نجدها.
وفجأة، بعد انقضاء مدة غيابها، ظهرت أمامنا، كأنها شبح من ذكريات الحب والحنين، فبعثت الفرحة في النفوس.
في أمسية من الأمسيات الصيفية الجميلة بعد حادثة اختفائها بأسبوعين فقط، سمعت من خارج نافذة غرفتي صراخًا حادًا، مصحوبة ببكاء زوجتي. حينها كنت جالسًا في كرسي امام الكومبيوتر، منكبًا على كتابة مقالة حول أسباب العنف لدى بعض الشباب في المجتمع، خرجت مسرعًا إلى باحة الدار، فرأيتها تجلس القرفصاء وتبكي بحرقة وألم وتشير بيدها نحو الأرض وتقول بصوت متهدج:
ــ انظر ماذا حدث؟
وبسبب الضرب الوحشي والخنق وقلع العيون، أصبحت هذه القطة البريئة، التي لم يبلغ عمرها خمسة أشهر بعد، ضحية لمراهق أحمق. كان جسد القطة ملقى على الأرض، وعينها اليسرى تتدلى من حدقة عينها بخيط رفيع. عرفت على الفور أنها ماتت خنقّا.
أعادتني هذه الحادثة إلى صور الجماعات الإرهابية التي ارتكبت ولا زالت ترتكب الفظائع، حيث بدأت عملياتها الإجرامية أولاً بذبح القطط كخطوة تمهيدية قبل اللجوء إلى التطبيق الحقيقي لذبح البشر.
تساءلتُ في صمت:
ــ ما الذي يجعل الإنسان يغرق في دوامة العنف. أهو نتيجة لتنشئة أسرية قاسية ومضطربة، أم بسبب نقص التأهيل وتلقين تعليمات مغلوطة لا تتناسب مع عقلية الطفل البريئة، أم أن هناك خللًا عقليًا بسببه يفقد توازنه ويجعله يتصرف في ارتباك وحيرة مطلقة، لينزلق في هاوية العنف بلا رحمة؟
إن خلفية الإنسان والظروف المحيطة به تؤثر تأثيرًا عميقًا في تشكيل تطوره الاجتماعي. فالعلاقات الأسرية المتجانسة، التي تتوفر فيها مقومات القيمة الإنسانية مثل الرعاية الصحية والحنان الدافئ، تسهم في اكتساب شعور قوي بالتآلف. وتُعَدُّ هذه العوامل مصدرًا أساسيًا للتواصل والتفاعل الاجتماعي.
وأخيرًا، حفرتُ حفرة في تلك الحديقة الفسيحة، تكفي لاحتضان جسده النحيل الذي فارقته الحياة. وضعتُه برفقٍ داخلها، ممدّدًا إيّاه بعناية على امتداد الحفرة، وكأنه يرقد في نومٍ عميق بلا قلق أو ألم. بدأتُ بنثر التراب فوقه ببطءٍ وحنان، والتراب يتساقط كأنه يمزج بين حزن الفقد وحنان الوداع. لم ترتكب هذه القطة أيّ ذنب، سوى أنها كانت تبحث عن العطف والدفء الذي طالما افتقدته.
***
كفاح الزهاوي

نجحت إلى الصف السادس الابتدائي وباشرت الدوام في مدرستي الجديدة مدرسة حذيفة بن اليمان. أبي يوصلني بدراجته الهوائية إلى مدرستي كل يوم، قبل ذهابه لعمله في بيع الخضار في سوق المدينة. في نهاية دوامي المدرسي أعرج إلى السوق لأساعده، وهناك أكمل واجباتي المدرسية أيضا. تلك حصيلة يومي.
قبل يوم من العطلة الربيعية، كتبت عنوان موضوع الإنشاء الذي دونه مدرس اللغة العربية عبد القادر رضا الناجي، فوق اللوح المدرسي الأسود، وكان عنوانه أوصف مكان زرته واثر فيك. تركت اختيار المكان حتى اليوم ما قبل الأخير من انتهاء العطلة الربيعية، أو الأحرى قلبته في رأسي دون القدرة على اختيار مكان، لندرة ذهابي خارج البيت. ولكني أنجزت عملي في اليوم الأخير وسلمت دفتري بروح مغموسة بفرح غامر، عند أول يوم دراسي بعد نهاية العطلة.
أشاح المدرّس وجهه عني وابتسامة مصطنعة ترتسم بتثاقل فوق شفتيه. في اليوم التالي جلس فوق أول مقعد في الصف ثم نادى باسمي. أوقفني أمام الطلاب فشعرت بالارتباك والفزع فأطرقت رأسي. ثم انطلق صوته بقوة:
ـ ما الذي يفعله الطالب حين يصف مكاناً ذهب إليه؟ من يجيب عن ذلك؟
ارتفعت الأكف تتطاول كي يشير المدرّس لأحدهم بالإجابة، لكنه صرخ بأعلى صوته أن اخرسوا. وكان صوته المجلجل مثل زئير أسد. ارتبكت الأكف الصغيرة، وراحت تنسحب واحدة تلو الأخرى. انكمشت وأحسست أن الجدران تقترب لتطبق علي وتهرسني. إحساس بالرهبة والانسحاق سيطر على روحي فراح جسدي يرتعش بتسارع ولم أعد أستطيع السيطرة عليه.
ـ غبي.. ما هذا؟ أهو وصف لسوق شعبي يتبضع منه الناس أم مكب نفايات وفوضى؟
ــ نعم كان هكذا.
ــ أخرس لم اطلب منك الإجابة.
نزّ جبيني عرقاً بارداً غطـّى جبهتي، وراحت ركبتاي ترتخيان. قاومت اندفاع رغوة تصاعدت في أحشائي. ضحكات رفاقي أدخلتني هلام سائل كثيف، فسقطت مغشياً علي.
حين أفقت كان الخوف يعتمر قلبي وأنا أشاهد كـفه الثقيلة تمسد جبهتي بالماء البارد.
ـ دلال صبيان. لا شيء غير ذلك. انهض يا شاطر. رغم أنك لم تكتب عن الموضوع بشكل حسن، ولكن لا بأس. سوف أحتسبها لك هذه المرة.
حين جلست بين دفـّتي مقعد الدراسة، كنت أحبس دمعتي خوفاً ورهبة. وكان خدر تام يكتسح كامل جسدي. لم أكن قادر على إسكات ضحكاتهم التي راحت تجلجل في رأسي. وكان جسدي الواهن يتفصد عرقاً بارداً، ويقف المدرّس أمامي وهو يغتصب ابتسامة شاحبة لم تتعدَّ حافـّة شفتيه الغليظتين البغيضتين.
***
فرات المحسن

 

الروبوت والحب

الحبُّ في المُختَبر السريّ،

يُباعُ على دفعاتٍ متساويةِ الجرعات.

الروبوتات في طوابيرِ السِّلِكون

تَنتًظرُ دَورها.

*

"ميتافيرس الحب"

في عالمٍ إفتِراضّي، أحْبَبتُكِ

صَنعتُ لكِ قلبًا مِنَ البَياناتِ المُشفَرةِ

وعانَقتُك بِذراعَينِ من الواقِعِ المُعَزّز

لكنْ.. هَلْ يُمكِن لِلحبِّ أنْ يِعيشَ

في كَونٍ مَصنوعٍ منْ خَوارِزميّات؟

*

"سيلفي الروح"

ألتقطُ صورةً ذاتيةً لروحي المُتَشظّية

أضَعُ فِلترَ الحُزنِ على ابتِسامَتي المُزيّفة

أشارِكُ وَحْدَتي مَعَ آلافِ المُتابعين الوَهميين

وأتَساءَلُ: كَمْ "لايك" تَحتاجُ الروحُ

لِتَشعرَ بِالرِّضا في عَصرِ وَسائلِ التواصُل؟

**

طارق الحلفي

...........................

*  ميتافيرس»» العوالم الافتراضية وقد تشير إلى الإنترنت ككل، بما في ذلك النطاق الكامل للواقع المعزز..

*  لايك»» يحب، يفضل

المَجـْـدُ يَـبْسـمُ في مَواطِن أهْـلِــهِ

والـعِــزُّ فــي أجْـوائهــم يَتَـفاخَــرُ

*

عينُ الزمان ترى الرّفـيعَ بمُقْـلـةٍ

في نـورهـا ضوْءُ الحـقيقـةِ باهِـرُ

*

(لا تـنْه عن خـلق وتاتي مثـله)

كُـنْ في المَسِيرة صامِدا لا يُـقْهرُ

*

(مَن رامَ وصْل الشمس حاك خيوطها)

عَــزْمُ الطموح له الإرادةُ محـْوَرُ

*

الأمْـنيـاتُ بـلا خُطىً مـرسـومـةٍ

كالعـيـن دون تَـبَـصّـرٍ لا تُـبْـصِرُ

*

(واذا اتـتــك مذمـتي مِن ناقِـصٍ)

هـي سَــدُّ نَقصٍ في سـلوكِه غامِرُ

*

إنّ الــوصالَ إذا النـقـاءُ بـه سَرى

فــســلوكُه، فـــي عِــفّـةٍ يَـتَـأطّـرُ

*

وأصالةُ الحُـب العفيف لها صدىً

بــسمـوّهِ، كــلُ الـدَناءة تُـضْـمَــرُ

*

عَـبَقُ البلاغةِ في الكلام مَواهِـبٌ

يَعـلو بها مَنْ في التجارِب ناظِـرُ

*

يـبـقى رصيدُ المـفردات مُـوافِـياً

للإنـتـقــاء، ولـونُ حرفِـه ناضِـرُ

*

اشـراقـة المعنى، دلــيلُ تَـبـَصُّـرٍ

ورشــاقـةُ التعـبـيـرِ حَـرفٌ قـادِرُ

*

يامــن يرومُ فــصاحـةً بـمَقالـةٍ

نهْجُ البلاغةِ، في سطوره زاهِرُ

*

إنّ الــتـفاخُــرَ، في كتابة أسطـرٍ

زَهْــوٌ مَـقـِـيـتٌ والتواضعُ أفْخَــرُ

*

قَــلَـمُ الكـرامـةِ، للخــلود مُؤَهّـلٌ

والـزّيــفُ رُغْم فــنـونه يـَـتَعــثّـرُ

*

إنّ التــصنّـعَ في السلوك غَمامَةٌ

والضوءُ يكْـشِفُ مُبْـتَـغاه ويـُخْـبِرُ

*

كن واضحاً، لك في القلوب مواقِعٌ

وإذا أُشـير الى الفضائـل، تُذْكَـرُ

***

(من الكامل)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

أنا بخير،

لأن الشوارع لم تعد تطاردني بأسئلتها،

لأن إشارات المرور لم تعد تومض لي بلغة لا أفهمها،

لأن الأرصفة لم تعد تتآمر عليّ حين أمشي بلا ظل.

أنا بخير،

لأنني لم أعد أخشى إرتطام الوقت بصدري،

لأنني أتعلم كيف أصنع قهوة لا تحتاج إلى سكر،

وكيف أفتح النافذة دون أن يسقط الليل على رأسي.

*

أنا بخير،

لأنني لم أعد أبحث عن وجهي في مرايا الآخرين،

لأنني لم أعد أقايض قلبي بساعة حائط،

ولم أعد أركض خلف القصائد التي تفرّ كالأرانب المذعورة.

*

أنا بخير،

لأن المطر لم يعد يسألني أين كنت حين كان يعبر وحده،

لأن الأحلام التي خبأتها في الجوارير،

ما زالت تتنفس، ما زالت تحلم بي أيضاً.

*

أنا بخير،

لأنني تعلمت ألا أفكر في الناقص فيّ، بل في إكتمال القمر على وجهي،

في الهواء وهو يتسلل بين أصابعي كطفل مشاغب،

في الأضواء الصغيرة التي تبرق دون سبب،

في الأغنيات التي تنام تحت لساني كسرّ قديم.

*

أنا بخير،

لأنني لم أعد أكتب رسائل لن تصل،

لأنني لم أعد أخاف من الأصوات التي تخرج من ذاكرتي،

لأنني لم أعد بحاجة إلى تفسير كل شيء.

*

أنا بخير،

لأنني أخيراً...

صرتُ أصدق ذلك،

أنا بخير .

***

مجيدة محمدي

إلى روح أخي علاء…

إنها ليست -رحلة كولومبس- الذي يطوف عبر البحار، مفتشاً عن جزيرة رائعة، يجري فيها الذهب مع الماء، ويختلط فيها لهيب الشمس مع الأرض التي تبحث عن غاصب بمخالب ذكية لتوابلها اللاذعة، ومع ذلك فالبحار كثيرة، وقد يكون بحر كولومبس أكثرها هدوءاً، إذا ما قارنّاه ببحر - يوليسيس- أو ببحارنا نحن الآن.. مدينتنا تدخل في رأسي الصغير باتساع بحري خارق، وأنا أقف وسط سورة من سورات أمواجها على خشبة متهرئة.
مطلوب مني فيها أن أكون قرصاناً بلا روح، وحتى بلا بارود أو سيوف. ان علينا ان نركب هذا البحر وأن نغامر وأن نصل إلى أمتع الجزر وأكثرها بريقاً في أعين الملاحين، ولكن أين هي هذه الروح ؟ ان هذه المدينة العاهرة قد شلّت ارادتنا تماماً، أيبست فينا الاندفاع الحار؟ أنني أشعر كل يوم بحاجة ماسّة مقلقة، إلى أن أنتزع نفسي مبكراً من الفراش، وأن أرمي الماء على وجهي، وأتناول سيجارة ثم أرتدي ملابسي لأخرج، أطوف في هذه المدينة، هذا باب داري مفتوح على مصراعيه، تغشيني لازمة " وين رايح " وأنا أحط القدم الأولى عند عتبة الباب تتداخل الأخبار مع الواجبات
* المدارس تغلق أبوابها لمناسبة زيارة الإمام
* مخزن الزهور يعلن عن تخفيضات جديدة لمناسبة عيد الحب
* مطلوب مني الذهاب إلى السوق لشراء مبيد مكافحة الجرذان
* انفجار هاتف محمول في جيب امرأة.
* درسنا في كتاب تاريخ المرحلة المتوسطة: ان تدخّل النساء في الحكم كان من بين أهم أسباب سقوط الدولة العباسية!! انطلت علينا تلك الخديعة التي تمررها مناهج الدراسة الملغّمة.
رجل أعمى ربما كان هو نفسه الذي يقف عند رصيف جسر الشهداء، يبتسم بغباء، يبيع المسابح الصفراء والحمراء التي تشعّ وتشعّ، تحت الشمس قرب مقهى تآكلت أرجل تخوتها، على أحد جدرانها انتشر السخام الأسود بكثافة كادت تغطي على صورة كبيرة لامرأة شبه عارية، عفواً كانت ملابسها الداخلية شفافة تبرز لحمها جيداً، وفوقها بضع كلمات، إعلان يسيل اللعاب ويجذب بحروفه الحمراء، رجال هذه المدينة لمضاجعة هذه البغي التي دفعتها البحار الينا.
ان مياه جديدة تجري دائماً، وقديماً قال واحد وهو يحدّق في النهر، انك لا تنزل النهر مرتين، فالمياه الجديدة تجري دائماً، ولربما كان هو السبب في طوافي في المدينة كل يوم. ثمة بائع بنغالي، ربما كان في - دكا- عاصمة بلاده عامل تنظيف فاشل، سرواله أحمر غامق يحمل معه صندوقاً مليئاً بزجاجات صغيرة جداً من العطور الرخيص، كان يتمتم كأنه يخشى أن يخطىء في اللغة، "ريهه…ريهه "
يؤشر بيده السوداء إلى الصندوق وباليد الأخرى يلوح بزجاجة منها، اقتربت منه سيدة كبيرة السن، بطنها متهدلة إلى الأمام، وعطست، لا ريب أن الرائحة كانت قوية جداً، فضحك أحدهم، ولما نظرته شزراً، قهقه بكل وقاحة.
اقتربت بعد ذلك من أحد الدكاكين، بعد أن دخلت شارعاً فرعياً، كان استوديو. للتصوير، إلا ان صاحبه كان فيلسوفاً! لقد كتب على الواجهة بحروف بارزة سوداء: " الحياة فقاعة صابون فصوّرها قبل أن تنفجر" ضحكت وواصلت المسير، الحياة فقاعة، تذكرت طفولتي، كنت وقتها آخذ شيئاً من ماء الصابون، أدخل فيه قصبة رقيقة، وآخذ بالنفخ، فتخرج فقاعات بأحجام مختلفة، لا تلبث أن تنفجر في الأعلى، الحياة فقاعة جميلة، فلماذا نحتفظ بصورها، أي عبث هذا؟ أيها المصور الفيلسوف.
في مرحلة الدراسة المتوسطة، فكّرت لأول مرة في عبارة " السراط المستقيم" ودفعني التفكير للبحث في واقعية العبارة، ثم وجدت أن نوعاً من الألفة والتعاطف غير المفسّر مع ذلك الخط المستقيم.
وقفت على أبواب مدن كثيرة، أنصت إلى الأصوات الآتية من الماضي فلم أفلح في استرجاع صوت " نواح" الأم، ترمي شواظ حريق فتشتعل القبور، بل داهمني ضجيج الفؤوس، يختلط بدوي الثاكلات، ثمة من يحمل الفأس يحفر. ثم بدأت يومئذ أضع أسئلتي عن أجوبة مقنعة لأسئلة: لماذا الببغاوات تنهق مثل نهيق الحمير؟ نحن من؟ بلا حلم طيف نعيش!
في اليوم التالي، كانت مياه جديدة تجري في الخارج، ترسم في رأسي أشياء كثيرة، فاشتريت صحيفة لفت نظري فيها عنوان أسود " ليس في الحرب محض حياد" فابتسمت في ألم، وطويت الصحيفة، ترى ما معنى هذا العنوان بالنسبة إلى إنسان مثلي، يفتش عن عمل، ويحلم بالحدائق والنساء..؟
ان كولومبس الجديد يسوح عبر البحار، يفتش عن جزيرة أشبه بالجنان التي كان يبحث عنها الأنبياء الجياع، ولكنه هذه المرة سيرجع خائباً حتماً، ذلك انه يحمل معه نطفة انهياره، بذرة موته، لقد كان عليه منذ البدء أنلا يذهب بعيداً في الخارج، لئلا يضيع نفسه. تذكّر في تلك اللحظة الصبي الذي فقد أخاه، من يعين فتىً مثقلاً بالهموم وأماً تلملم أثقالها؟ كان يجمع أحزانه مثل حزن الحدائق يفجعها موت نرجسة. ليس لغياب أخيه، بل لأن من كان يشاركه عبور الطريق، عليه الآن العبور وحده.
ليس العبور هو المهم، بل ثمة رفيق عمر يتخلى عنك وأنت وحدك تعبر الآن، والفتى جسد خائر حملته الريح بعيداً، وألقت به في مجاهيل البراري .
***
جمال العتابي

يا لهذا الحنين الذي يشتعل في الصدر،

حنين إلى بساطة القرية،

حيث الفرح يولد من أبسط الأشياء،

فرحة شرب الماء من دلو البئر،

وفرحة الشمس حين تشرق على الحقول.

*

أريد أن أعود إلى تلك الحياة،

حياة لا تُثقلها تعقيدات المدن،

حيث يضحك الطفل من عصافير تراقص الأغصان،

ويغني الفلاح وهو يحرث الأرض،

فرحًا بالرزق الذي لم يأتِ بعد.

*

كالشاعر الذي يرى قصيدته بين يدي قارئٍ مجهول،

يفتش في كلماته عن ذاته،

كطالبٍ يرفع شهادته نحو السماء،

وكأنها بوابة لعالم جديد.

*

أحنُّ إلى فرحة الإنسان الأولى،

حين كان يصعد عربته القديمة

وكأنها مركبة الأحلام،

إلى البهجة التي لا تحتاج إلى برمجة،

ولا إلى شاشات،

بهجة تولد من الحياة ذاتها،

بكل ما فيها من بساطة وجمال.

*

يا زمنًا مضى،

كيف نعيدك؟

كيف نستعيد تلك اللحظات

التي كانت كافية لملء القلب بالنور؟

ربما،

ربما علينا أن نبدأ من الداخل،

من القلب الذي نسي كيف يفرح.

*

(العودة إلى لمتنا الأولى)

أريد أن أعود إلى لمتنا الأولى،

تلك اللحظة التي تشرق فيها الأرواح

بعد يوم شاق،

حين كان أطفالي يتجمعون حولي،

بعيونهم اللامعة كنجوم المساء.

*

ليتهم بقوا أطفالًا،

تلك الضحكات الصغيرة التي كانت تملأ البيت،

وأسئلتهم التي لا تنتهي،

كانت تملأ القلب دفئًا،

وكأنها موسيقى الحياة ذاتها.

*

كنا نفرح بوجبة طعام بسيطة،

كأنها طعام الملائكة في الجنة،

ليس لأننا كنا نملك الكثير،

بل لأننا كنا نملك بعضنا،

وكانت المحبة تُغني عن كل شيء.

*

الآن،

تفرقت الأوقات،

وكبرت الأيام،

وصار لكل واحدٍ طريقه،

لكنني أشتاق إلى تلك الطاولة الصغيرة،

حيث كنا نتشارك الخبز والفرح.

*

يا ليتنا نعود،

نعود لنلتف حول نار الحكايات،

حول دفء الأيدي المتشابكة،

حول ذلك الشعور البسيط

الذي كان يجعلنا أغنياء،

رغم كل ما افتقدناه.

*

ربما،

الفرح الحقيقي ليس في الأشياء،

بل في القلوب التي تجتمع،

في الأرواح التي تعرف كيف تخلق

جنةً صغيرة من كل شيء.

***

د. جاسم الخالدي

 

كانت تحمل في عينيها بريق الشغف، وهي تتنقل بين رفوف المكتبة كل يوم وكأنها تبحث عن سر خفي بين الصفحات. أو تهرب من واقع ما، أو من حلم ضاع منها، كانت تجد في الكتب عزاءها، لكنها لم تكن تعلم أن هناك عينين تراقبانها بشغف، تتابعان كل تفاصيلها من خلال ملامحها، حتى الطريقة التي تُبعد بها خصلات شعرها المنسدلة حين تنهمك في القراءة.
كان يرى العالم من خلال كلماته. لم يكن مجرد كاتب، بل كان يحمل جرحا قديما من عِلاقة تركت أثرا كبيرا في نفسه، ويبحث دائمًا عن قصة حقيقية تلامس قلبه ليكتبها. لكنه لم يكن يعلم أن قصته الأجمل هذه المرة مختلفة وستبدأ حين التقى بها.
في أحد الأيام، اقترب منها مترددًا، بعدا ن استجمع شجاعته قائلا:
- "ألاحظ أنكِ تحبين القراءة كثيرًا، ما كتابكِ المفضل؟"
رفعت عينيها، لتجد أمامها شابًا يحمل بين يديه كتابًا، بعينين يشع منهما الفضول والاهتمام. تبسمت وأجابت:
- "كل كتاب يمنحني شعورًا جديدًا يصبح مفضلاً لدي، وأنت؟"
ضحك قائلا:
- "أنا لا أقرأ فقط، بل أكتب أيضًا."
نظرت اليه بنظرة أعجاب وبدت منبهرة بما سمعت!
أنت أذن كاتب أيضا ...
أصبحت ملهمته دون أن تعلم، تحولت همساتها وضحكاتها إلى سطور يخطها في دفتره، حتى أصبحت هي بطلته المفضلة. كل يوم يلتقيان فيه كان يعود إلى منزله ليكتب عنها، عن الطريقة التي تتحدث بها، وعن ملامحها وحركت شفاهها عن شغفها بالحياة، حتى عن لحظات صمتها الذي كانت تحمل ألف معنى.
مرت الأيام، وشعرت باهتمامه بل وأصبحت تدعمه في اكمال روايته، كبر الحب بينهما بصمت، كحروف تنتظر أن تُقال. لكنه كان مترددا على الاعتراف، فظل يكتب ويكتب حتى انتهى من روايته. التي أخذت منه وقتا طويلا حمل بين طياته أحداث وذكريات جميلة، وفي يوم إصدارها، كانت المفاجأة، دعاها لحضور حفل التوقيع.
كانت النسخة الأولى مهداة لها، أصبحت فرحتها لا توصف ، حين أمسكَتْ بالكتاب وبدأت تقرأ أولى الصفحات، شعرت وكأنها تنظر في مرآة تعكس تفاصيلها، كلماتها، حتى لحظاتها الخاصة. نظرت إليه بدهشة مبتسمه اقتربت منه وهمست:
- "هل... هل هذه أنا؟"
أمسك يدها بلطف وقال بصوت خافت:
- "أردتُ أن أخبركِ بشيء، لكنني لم أجد وسيلة أفضل من أن أجعل منكِ بطلة روايتي."
سادت لحظة صمت، لمعت عيناها، ثم أغلقت الكتاب بهدوء، نظرت إليه طويلًا، وكأنها تبحث عن كلمات لم تقلها بعد. ابتسمت أخيرًا وقالت بصوت خافت:
- "لكن كيف تنتهي القصة؟"
نظر إليها، وشبح التردد مازال ماثلا أمامه، ثم إلى الكتاب بين يديها، وابتسم بدوره.
- "هذا شيء لم أكتبه بعد."
تاركا الصفحة الأخيرة مفتوحة...
***

نضال البدري – قاصة عراقية

 

كان جنوب اليمن في تلك الحقبة نابضًا بالحياة، يعجّ بعقول لامعة ورفاق متّقدين فكرًا ونضالًا، جاءوا من العراق ومن واوروبا ودول أخرى بعد انهاء دراستهم وعقود عملهم، يحملون معهم مشاعل الأدب والفن والعلوم، ينسجون بخيوط الإبداع صفحة مشرقة من التبادل الثقافي والمعرفي. لم يكونوا مجرد زائرين عابرين، بل كانوا شركاء في الحلم، يغترفون من معين التجربة اليمنية، ويهبونها من عزمهم وجهدهم بسخاءٍ لا يعرف الحدود.
فوق الجدران العالية، ارتسمت الجداريات الخالدة، تنطق بالألوان والصور عن معاني التضامن والحرية. وعلى خشبات المسارح، تعالت أصوات الفنانين والشعراء، تحلق قصائدهم في فضاءات عدن، تلهب القلوب، وتبعث الأمل في أرواح المناضلين. لم تكن حناجرهم إلا انعكاسًا صادقًا لهذا التآخي، فكانت تتغنى بألحان الثورة والنضال، الجمهور اليمني يحفظ الأغاني من أول وهلة، وكأنها وُلدت من رحم هذه الأرض. ومن بين تلك الأغنيات التي لامست وجدان الناس وأصبحت نشيدًا يتردد في الشوارع والساحات، كانت أغنية الفنان أبو شمس "يا حبيبة يا عدن"، التي ردّدها حتى الأطفال ببراءتهم، وكأنهم يدركون في أعماقهم معنى حب الوطن.
لكن هذا التضامن لم يكن مجرّد احتفاء بالكلمة واللحن، بل كان موقفًا يتجذّر في الميدان. استجابت الحكومة اليمنية لنداء الحزب الشيوعي، وفتحت أبواب المعسكرات، حيث اجتمع الرفاق، لا ليحملوا القلم والريشة فحسب، بل وليحملوا السلاح أيضًا. هناك، في ساحات التدريب، تلاشت الفوارق بين المثقف والمقاتل، فالجميع كانوا جنودًا في معركة واحدة، معركة الحرية. وبعد أن اشتد عودهم، مضوا نحو كردستان، حيث كانت قوات البيشمركة تنتظرهم، فصيلًا مناضلًا يحمل على عاتقه مسؤولية التصدي للطاغية المستبد، في درب محفوف بالتضحيات، لكنهم ظلوا ممتلئين بالأمل في غدٍ لا مكان فيه للظلم والاستبداد.
استجاب معظم الرفيقات والرفاق لنداء الحزب بحماسة لا تعرف التردد والتحقوا بمعسكرات التدريب، حاملين على عاتقهم مسؤولية الكفاح ضد الظلم والطغيان الدكتاتوري في العراق، حتى أولئك الذين أنهكتهم السنون أو قهرتهم العلل لم يتراجعوا، بل أصرّوا بإرادة لا تلين على حمل السلاح، وكأن شوقهم للحرية منحهم قوة تتحدى الجسد وقيوده.
كان التدريب مكثفًا وقاسيًا، حيث تم اختزال مراحل طويلة في شهر ونصف الشهر فقط. التدريبات كانت تستمر ليلًا ونهارًا بلا هوادة، تحت لهيب شمس عدن الحارقة. كانت الرفيقات يختبرن صلابة عزيمتهن، فبعضهن كادت قسوته تستنزف طاقتهن، لكنهن مضين رغم الإرهاق، رغم الجراح الخفية التي لا تُرى. وفي زحمة التدريب وضيق الوقت، لم تغب لمحات من الحياة، فكانت النشاطات الفنية والاجتماعية تظهر بين الحين والآخر كفسحة ضوء وسط عتمة التحدي.
كانت هي وزوجها من بين أولئك الذين التحقوا بالمعسكر، لكنهما اضطرا إلى ترتيب أمر انضمامهما مراعاةً لطفلهما الصغير. التحق هو أولًا، رغم وطأة المرض الذي يثقل جسده، لكنها رأت في ذلك فرصة، ربما للتعافي، وربما للغرق أكثر في عالم النضال حيث الألم يصبح جزءًا من الرحلة، وحيث الأمل لا يموت مهما اشتد عليه الخناق.
كانت تجربة التدريب العسكري بالنسبة لها حدثًا استثنائيًا، لا يشبه أي تجربة سابقة مرت بها. فقد صقلت روحها، وأرهفت قدرتها على التحمل والصبر، وزرعت في داخلها إرادة لا تلين، وقوة مجابهة لا تعرف التراجع. كانت تدرك أن هذه التجربة لم تكن مجرد محطة عابرة، بل كانت اختبارًا للصلابة، وامتحانًا لقدرتها على التصدي للصعاب، وصراعًا بين الإيمان بالمبدأ والخذلان الذي يتسلل عبر النفوس الهشة.
في المعسكر، كانوا يمنحونهم إجازات قصيرة بين الحين والآخر لزيارة عوائلهم، لكنها لم تكن إجازات خالية من المنغصات. فقد كان هناك من يتقن فن التملق، ممن يكتبون التقارير، يقتنصون الكلمات، ويصيغون الوشايات. يتسللون إلى آذان المسؤولين طمعًا في مكاسبهم الشخصية، دون أن يعبأوا بآثار وشاياتهم على الآخرين، وقد لاحظت انها حين تصل إلى منزلها، تجد نفسها في مواجهة سيول من الأخبار عمّا جرى في المعسكر، صغيرها وكبيرها، حتى لتخال أنها لم تفارقه لحظة.
لكن شوقها الأكبر لم يكن إلا لذاك الصغير الذي تركته بعهدة والده. وحين أتيحت لها الفرصة أخيرًا لرؤيته، احتضنته بقلب يرتجف، وكأنها تعتذر عن غيابها القسري. رأت خطواته الأولى، لكنها لم تكن شاهدة على لحظة انطلاقها الأولى. تلك الخطوة التي خطاها بعيدًا عن عينيها، كانت كأنها انتزعت جزءًا من قلبها، وتركته معلقًا هناك، في الفراغ الذي خلفه غيابها. بكت بحرقة، ليس فقط لأنها فوّتت المشهد الأول، بل لأنها شعرت بعمق الغياب في تفاصيل صغيرة كان ينبغي أن تكون حاضرة فيها.
أما علاقتهما، فقد كانت تتهاوى يومًا بعد آخر. لم يكن هناك تغير ايجابي مرتقب، بل كان الجفاء يتمدد كظل بارد بينهما، يتسع بلا هوادة. وعندما صدر قرار التوجه إلى كردستان، كان ذلك بمثابة مفترق طريق حاسم. أرادت أن تكون إلى جانبه، أن تمضي معه في درب النضال الذي آمنا به، لكنها مُنعت بسبب مسؤوليتها عن طفلهما. لم يعترض، لم يلتفت إلى هذا الحرمان الذي فرض عليها، بل مضى بعزيمة صلبة، كأنه كان مستعدًا للمضي قدمًا دون أن يترك شيئًا خلفه ليندم عليه.
كان يخفي آلامه، كما يخفي الجراح التي أثخنت روحه، لا يريد أن يظهر ضعفه حتى أمامها، وهي أقرب الناس إليه. مضى، يحمل في صدره قناعة لا تتزعزع، وإصرارًا لا يعرف الوهن، تاركًا خلفه قلبًا مثقلًا بالفقد، وأمًا لم تزل تتلمس آثار خطوات طفلها الأولى، محاولة أن تعوض لحظة سُرقت منها، كما سُرقت منها أشياء كثيرة أخرى.
كانت البيوت تضجّ بأنفاس الوداع، موائد الطعام الأخيرة تُمَدّ بقلوبٍ مرتجفة، تَعِدُ المسافرين بالأمل وتُخفي في زواياها خوف الفقدان. عوائل الرفاق اجتمعت لتودّع أعزاءها، رجالًا قرروا أن يهبوا أرواحهم لقضيةٍ سامية. كان كل قلبٍ معلّقًا بين مشاعر الحزن والخوف، وبين الاعتزاز والفخر. أما الأطفال، فقد التصقوا بآبائهم كما لو أن عناقهم الأخير قد يمدّ الأيام ببعض الحنان المؤجل، وكأنهم يريدون أن يختزنوا رائحتهم، أنفاسهم، دفئهم، أصواتهم، قبل أن يبتلعهم الغياب.
وبينما كانت كل عائلة تنفرد بوداعها الأخير، تقتنص لحظاتها الثمينة التي ستُحفر في الذاكرة إلى الأبد، كانت هي تقف هناك، على هامش اللحظة، مُثقلة بروحٍ لم تجد نصيبها من هذا الطقس الإنساني العميق. لم يكن لها وداع، لم تكن لها حتى نظرة أخيرة تُشبع ظمأ عينيها إلى وجهه. لم تحظَ حتى ولو بكلمة تليق بوداع الغرباء، لم يلتفت، لم يُعطها حتى تلك اللمحة العابرة التي تمنحها وهْمَ البقاء في ذاكرته. ظلّت واقفة هناك، تتساءل بين الدموع المنهمرة: هل كان ذلك مقصودًا؟ هل كان يقول لها، بصمته القاتل، إنكِ لا تستحقين حتى كلمة وداع؟
بخطواتٍ متثاقلة، حملت دلو الماء، وسكبته خلفه، كما كانت تفعل والدتها حين كان والدها يغادر، اعتقادًا منها بأن الماء المسكوب يُعيد المغادرين سالمين. لكن أيّ ماءٍ هذا الذي يستطيع أن يعيد من لم يكن لها يومًا؟ أيّ ماءٍ هذا الذي قد يطفئ نار الأسئلة المتقدة في قلبها؟
عادت إلى دارها، وأغلقت باب غرفتها، ثم انهارت في بكاءٍ عاصف، شهقاتها كانت أقرب للصراخ، كأنها تحاول اقتلاع حزنٍ تجذّر في أعماقها. أغمضت عينيها، لتستعيد في ذهنها صورته الأخيرة، خطواته المتباطئة، ذلك التردد الذي لاح على وجهه، تلك الحيرة الموجعة التي تركها خلفه كسكينٍ مغروس في خاصرتها. رحل وهو يحمل ألف سؤال، لكنه ترك لها أضعافها، تركها غارقةً في متاهة من الشكوك والجروح التي لن تندمل، مهما حال بينها وبين الزمن سدودٌ وجبال.
لماذا؟ لماذا كل هذا الجفاء؟ لماذا تركها تحترق بأسئلتها دون أن يمنحها حتى حقّ المعرفة؟ ألم يكن الحب يستحق كلمة أخيرة، تفسيرًا، حتى لو كان فراقًا قاسيًا؟ أكان يكرهها بقدر ما أحبته، فلماذا لم يقلها بصريح العبارة؟ لماذا لم يمنحها وضوحًا كان سيخفف عنها هذا العذاب القاتل؟
كم تمنت أن يكون بينهما حديثٌ أخير، حديثٌ يضع النقاط على الحروف، يحررهما من هذا الأسر، يترك كلًّا منهما يُلملم روحه المبعثرة، ويمضي بطريقه. حتى لو كان الحديث يفضي إلى الافتراق، حتى لو كان الانفصال هو النهاية، فقد كان ذلك أهون من هذا الفراغ الذي تركه في قلبها، من هذا الوجع الذي ينهشها بلا رحمة، من هذا العشق المصلوب على جدران الصمت، بلا إجابة، بلا مخرج، بلا نهاية واضحة سوى الألم.
***
سعاد الراعي

 

دمكِ المسفوكُ بالحيِّ أحقُّ

أنتِ بغدادُ

وبغدادُ دمشقُ

هي أمي منذُ قلعي ودريدْ

هل تبرُّ

هل أبرُّ

أم نعِقُّ

حين دقّ الموتُ عمري

مُنِعَتْ تلطمُ صدرًا وتشِقُّ

حين دقَّ الموتُ أمّي

أتراني

لا أبالي

لا أرقُّ...

بردى بردًا سلامًا

فرجًا أقربُ من لمحٍ

وأجرٌ وعِتْقُ

يا إلهي وكما جرّفت طينًا

في الفراتين

خبيثًا

له عمقُ...

خُصَّ فتقًا برُبَى تَدْمُرَ

استعصاه يا ربّاهُ رَتْقُ

***

لطيف القصاب

ذرة غبارٍ في مَهبِّ الاحتمالات، أنا!

نقطةُ ضَوءٍ مُنْكَمِشَة في زجاجِ نوافذِ الأبَد.

أدركتُ متأخرًة أنّ حياتي قصيرة،

أنني لن أعيشَ بما يكفي

لأعرف كلَّ الفصول التي كتبتْها الريحُ على وجهِ البحر،

لأسمعَ كلَّ الأغنياتِ العالقةِ في فمِ الليل،

لأقرأ كلَّ الرسائلِ التي خبأها المطرُ في طياتِ العُشْب.

*

حياتي قصيرة،

أقصرُ من أن أنتظرَ اعتذارًا من الصمت،

أو وعدًا من الغدِ المتلعثمِ على أعتابِ المجهول،

أو تفسيرًا مُرضيًا لِكُلِّ الأسئلةِ الَّتي تَتَوالَدُ داخِلي كالنَّجُومِ في كَونٍ مُتَفَجِّر.

*

فماذا أفعلُ بهذا العمرِ القليل؟

بهذه الأوراقِ البيضاءِ التي لن أملأها؟

بهذه الأغنياتِ التي لن أُكْمِلَهَا؟

بهذه الأبوابِ التي لن أقرعها؟

بهذه الوجوهِ التي لن أعرفها، ولن تعرفني؟

*

حياتي قصيرة،

لكنّها كافية لأن أُشْعِلَ فَجرًا في عَيْنَيْ مَنْ يُحِبُّني،

كافية لأن أتركَ خلفي أثرًا يُشْبِهُ وَشمَ السَّمَاءِ على زُرْقَةِ المَاءِ،

كافية لأن أكونَ ظِلا يَحْفَظُ شَكْلَ الضَّوْء.

*

سأسرقُ لحظاتٍ من بين أنيابِ الزمن،

وأخبِّئُها في جيبي كقصاصاتِ شعرٍ مبتورة،

سأكسرُ ساعتي، وأمضي

في زقاقٍ لا يُفَرِّقُ بين الراحلينَ والعائدين،

وسأضحكُ بصوتٍ عالٍ

لأُخْبِرَ السماء أنني، ولو للحظة،

كُنتُ حَيًّة بما يَكْفِي.

***

مجيدة محمدي

أعتذر

لقد ظننت الشيطان ملاكا

أنتِ

قاب حرفين

لا تشبهين قصيدتي

*

ح

حزن يكابر

حرب حيث قلبكِ

حلم

والحلم قتيل إن يحاصر

*

ب

براءة في مساحة كذب تقامر

بُعدٌ ..... ألا تعودين إليك؟

وبرد كأنكِ المقابر

*

عيناك عاهرتان

لا "تروض"

خطئي كان

حان الرفض

فما عبوركِ إلا هذيان

*

تعبت من قلبي

ومن خرافة القمر

أغادره أم يغادرني

كلانا سفر

ما.. الحب؟

محاولة مع البحر

وما.. الحياة؟

تيه في أنا آخر

*

أيتها الأقنعة لتسقطي الآن

وهذا الأسْر

ملاك الأمس بداية شيطان

أعتذر

أ

ع

ت

ذ

ر

***

فؤاد ناجيمي

أخذ من كلّ سنوات الغربة، ومن نفسه، وأخذ في سؤاله إلى مقارنة بعيدة. لم يتوقّع، من قبل، أن تأخذه مخيّلته في فلسفة كلّ ما هو مبالغ وغير جائز، وإلى ما يستحقّ الممنوع بالمطلق، بل ويعترض أدقّ قواعده، ويقفز من فوق الأعمار وإلى مسافات لن تتحدّد إلا حين سيودّع كلّ لحظةٍ تلامس نوعاً من الحنان الذاتيّ، لكن أن تنجح في تقسيمه ومن ثمّ تذويبه في نقطة تراجعٍ وهروبِ ليست في الحسبان، هذا ما يدفعه إلى ما هو متعوّد أن لا يفعله، أينما يكون.
لا يفعل، لا يفعل بجدارة، وبوقاحة... لا يصبح تاجراً، وطبعاً لا يصبح عميلاً... لا يصبح إلا نفسه.
يتقاطع صديقه في تعاسة حظه أينما كان، لا يفارق مكان إبداله بسلالة مشتركة بينهما، ينتظر ضحكة فجائية منه قد تُنسيه ما يُبكيه منذ زمن غير مقاس. لا هو يلملم، ولا هو. لا هو يناسب تلك اللحظات، ولا هو. يبصق في وجهته وجهاته، ويتحدّث عن وصايا توأمه.
أنت تمزح، تمزح قليلا.. ربما أنت كاذب، مهرّج.. أي أنت سياسي.
لم أقل ذلك كي تصدّقني. أعلم جيّداً، أعرف ذلك الضعف الذي يلازمك في هذا. لا تحاول، ليس كلّ شخص عليه أن يجرّب، ليس لك في ذلك الحيّز أثر.
لن تصل إلى حيث يجب أن تكون، هكذا، دون تناسب، هذا ما يدعى بمقياس الحذر في الوعي، ترابط من ماض مهمّش، أصبح مقبرة ذكريات يزورها كلّ منكم، بدوافع تحدُّ من عودة مكتملة. لا تحزن، فأنا لم أستخدم إلا منكم، ولم أجزم أي زمن إلا بكم.
أنا أحب كلّ شيء، أنا أخاف كلّ شيء كبير، وأخاف البحار، الصحارى، الجبال، الأبراج، الآبار، المسافات البعيدة... أخاف الأعماق، الأفكار، النظرات، الخيالات، الأرواح... أخاف العوالم دون ذرّية، وعالمك وعالمي، أخاف كل العوالم، وأخاف كلّ الأبعاد... أخاف الكلمات وأخاف السماء.
أنا أكره التجارة... وأكره المُباع.
لا تنس... فأنا لا أنسى أنني من تراكبيّة " أنتم ".. بفوارق.
دعنا نعود إن استطعنا، نعود حين يسقط أمامك ما لا يفاجئك، كهذه. احذر، احذر الزمن، أينما كنت. لن يكون من الأمان أن تنظر إلى ظلّك حين لا يستطيع نقل حدثٍ ماض، حتى لو كان مهملاً.
كانا معاً وقت بثّ الخبر في إحدى القنوات، كانت من اللواتي ترسّخن في ذاكرته كعظيمات.. كانت الأكثر عهراً في المدرسة. ردّد بصوت خافت: إنها إحدى بناته، بالتأكيد.
بدأت تقرصه وتدغدغه وتعضه... وأنا ألست ابنته؟
كان ذلك في إحدى أمسيات سرقة عاطفيّة اجتاحته من خلال إعاقة فكريّة حلّت عليه في أول لحظات نومه.. أنهي هذه الفقرة بهما.
معنى بعض ما سبق أو إنهاء ما سبق بنتائج، منها:
القوّة هي لغة الحياة الوحيدة.
***
بقلم خاشع رشيد

جَلَسّتُ فجراً في يومٍ مِنْ أَيّامِ الشِّتاءْ.

حيثُ لا أَصواتٌ مزعجاتٌ ولا ضَوضَاءْ.

لأَلتَقِطَ لنَفْسي بهاتِفي النَقَّالِ صورةً بَلهاءْ.

حتّى أُحَدِّثَ بطاقَةَ التموينِ؛ بطاقَةَ الشَقاءْ.

فأُلبّي قَرراتِ وزارةِ التجارَةِ العَصّماءْ.

تَنَحْنَحْتُ وعَدَّلْتُ جَلسَتي اعتدالَ خَشَبَةٍ صَمّاءْ.

ضَغَطّْتُ زرَّ الالتقاطِ؛ فَظهرَتْ لي رسالَةٌ دَهمَاءْ.

تَقولُ لي:

وجْهُكَ كالحٌ مُظلِمٌ أَغْبَرٌ مَا بهِ نُورٌ ولا ضِيَاءْ.

إِجلسْ في الشَمّْسِ وضَعْ عَينَيكَ في كَبَدِ السَّماءْ.

ثُمَّ التَقِطّْ لنَفْسِكَ صُوَرةً؛ حتّى يقبلَها بَرنامَجُ الذَّكاءْ.

استَعذّْتُ مِنَ الشَيْطانِ، فأَمْرُ الحكومَةِ لا يَردُّهُ إِلاّ الدُّعَاءْ.

وَ أَنا أُغيّرُ في جَلسَتي، دَخَلَ عليَّ حِمَاري (أَبو الحَيْرانِ) باستِحياءْ.

وَ قَالَ ليّ:

أَسْعَدَ اللهُ صَبَاحَكَ يا (ابنَ سُنْبَه)، يا ابنَ الأَوصِياءْ.

قُلتُ:

صَباحُكَ خيرٌ يا (أَبا الحَيرانِ)، يا دَابَّةَ الأَتقِيَاءْ.

قال (أَبو الحَيْرانِ):

أَراكَ مَهموماً مَغموماً يا ابنَ عِراقِ الخيّْرِ والعَطاءْ.

قُلْتُ:

لِمَ لا... ووزارةُ التِّجارَةِ تُنغِّصُ عَيشَنا كأنّنا لها أَعداءْ.

وَ كأَنّنا لسّْنا مِنْ أَهلِ العِراقِ... وكأَنّنا غُرباءْ.

تُعطينا كُلَّ شَهرينِ؛

كفَّينِ عَدَساً، وحَفّنةَ رُزٍّ، وقنّينةَ زيّْتٍ كأَنَّها دَواءْ.

قال (أَبو الحَيرانِ):

و اللهِ ما حُصَتُكُمْ هذهِ إِلاّ غُثاءْ.

لَو قُدِّمَتْ للحَميرِ؛ لأَقامَتْ على الحُكومَةِ عَزاءْ.

و لو طَلَبَتْ مِنّا الحُكومَةُ، ما تَطلِبُ مِنْكُم لكُنّا مِنها بَراءْ.

و لأَعلَنّْا عَليّها شِواظَ حَربٍ شَعّْواءْ.

يا أَهلَ العراقِ.... يا أَهلَ السَّخاءْ:

لِمَ تَرضَونَ بالظُلمِ رِضَا الجُبَناءْ؟.

و لا تُعلنُوها على الظَّالمينَ حَرباً شَعّْواءْ.

فَوَ اللهِ ما ذلَّ قومٌ إِلاّ ارتَضُوا السُكوتَ والرِّياءْ.

قُلتُ:

لقَدّ افحَمتَني يَا حِمارُنا العَزيزِ فَروحي لَكَ فِداءْ.

وَ قُلّْتُ في نَفْسي:

إِذا كانَتْ تِلكَ شِيَمُ حَميرِنا؛ فكيّْفَ تَكونُ شِيمُ النُجَبَاءْ؟.

***

محمّد جواد سُنْبَه

كاتب و اعلامي عراقي

عندما عادوا إلى أرضِ الوطنْ،

لم يروا إلا دماءً،

لم يروا إلا الكفنْ،

*

هم لم يعودوا للبيوتِ وإنّما

قد أبدلوا الخيماتِ بالخيماتِ

أمّا المَتاعُ فلا مَتاعَ لهم هنا

إلّا بقايا أعظمٍ ورُفاتِ

*

يقولُ مواطِنٌ غَزِّيْ:

لمّا عدتُ إلى بيتي وطرقتُ البابْ،

مَثَلَ أمامي شخصٌ يشبهني جدّاً،

قلتُ لهُ: من أنتَ؟!

فردَّ عليَّ: ومنْ أنتْ؟!

فكِلانا يملِكُ نفسَ الوجهِ ونفسَ الصوتْ،

هل أنتَ أنا؟!

لكنّي غادرتُ وأنتَ مقيمٌ لم تبرحْ،

هل نلعبُ دوراً مشترَكاً في هذا المسرحْ؟!

هل تسمحُ لي أن أدخلَ داري / دارَكَ؟!

ودلفتُ إلى غرفةِ نومي،

أغلقتُ البابَ ورائي،

واستلقيتُ لأبكي فوقَ سريري،

حرقوا مكتبتي،

ورمادُ الكلماتِ تساقطَ غيثاً فوقَ رمادِ الأجسادِ المحترقةْ،

قلنا نعمُرُ هذي الأرضَ،

فرُحْنا نحفِرُها نقلبُ تربتَها،

مِترينِ ثلاثةَ أمتارٍ خمسةَ أمتارٍ نحفِرُها،

لكن تبقى تُخرجُ جثثاً جثثاً،

قالوا: النسيانُ دواءٌ،

حسناً كيفَ سأقنعُ رجلاً فقدَ الزوجةَ والأولادْ،

كيفَ سأقنعهُ ببياضِ الصفحةِ والدمعُ سوادْ،

نبَضاتُ القلبِ تُذكِّرُهُ

جسرٌ والحزنُ سيَعبُرُهُ

قد غرّدَ طيرٌ يُخبرُهُ

أنُّ السُّلْوانَ سيَجبُرُهُ

*

أينَ بيتي؟

قالَ شيخٌ كانَ أعمى،

ضحِكَ الجندُ وقالوا: إنّهُ هذي الحجارةْ،

مرّرَ الكفّينِ فوقَ الحجرِ الرطبِ،

وأصغى لعروقِ الماءِ في تلكَ الحجارةْ،

ليسَ بيتي،

واثقاً قد قالَها تلكَ العبارةْ،

فأنا أعرفُ بيتي،

وأنا أقدمُ من دولتِكم يا أيُّها الآتونَ من جذرِ الدَّعارةْ،

*

عادوا يُظلِّلُهم غيمٌ تَخُبُّ بهم

أرضٌ ويختصُّهم بالصيِّبِ المطرُ

ساروا معَ البحرِ والأمواجُ من لهَفٍ

تكادُ تتبعُهم والبحرُ ينشطِرُ

لو عزَّ مُتَّكأٌ بعدَ السُّرى لسعى

من كلِّ حقلٍ إليهم ذلكَ الشجرُ

كأنَّما تُربُ هذي الأرضِ أقسمَ أنْ

من غيرِ خطواتِهم لن يَنْبُتَ الزهَرُ

لمّا رأوا غزّةً من بعدِ فُرقتِها

ظلالُهم سبقَتْهم عندما انتشروا

لا تحزنوا قالت الأطيارُ نحنُ هنا

جئنا لِنُفرحَكم يا أيُّها البشرُ

أبٌ وطفلتُهُ تحتَ الركامِ وقد

دارَ الحديثُ وأصغى العشبُ والقمرُ

يا طفلتي لا تخافي واسمعي قصصي

وظلَّ يحكي ويحكي ليسَ يختصِرُ

وعمَّ صمتٌ تُرى نامَتْ تُرى…وغفا

كلُّ المكانِ ولم يُسمعْ هنا أثرُ

وفي الصباحِ نمَتْ في البيتِ سُنبلةٌ

وظلَّ يسقطُ في صمتِ الضحى المطرُ

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب عراقي

سَئِمْنَا الـحروبَ سَئِمْنَا الْـخِصَامْ

نُــريـدُ الـحَـيـاةَ نُــريـدُ الـسَّـلامْ

*

سَـئِمْنَا الـشِّقَاقَ سَـئِمْنَا النِّزَاعَ

فَـقَـدْ غـلّفَ الـحِقْدُ قَـلْبَ الأَنـامْ

*

بِــكُـلِّ الــبِـلادِ يَـسُـودُ الـخَـرابُ

رُكـــامٌ تَــكَـدَّسَ فَـــوْقَ الـرُّكـامْ

*

فَـفي كُـلِّ شِـبْرٍ دَمٌ فـي الثَّرى

وَفــي كُــلِّ حَــيٍّ حِــدادٌ يُـقـامْ

*

إِلَامَ نَــعِــيـشُ لِــحَــفْـرِ قُـــبُــورٍ

فَـهَلْ مِـنْ عِـلاجٍ لِذاكَ السَّقامْ؟

*

وَإِبْـلِـيـسُ فَـــرَّخَ فِـيـنَا جُـيُـوشًا

لِـتَـزْرَعَ حِـقْـدًا فَـنَجْنِي انْـقِسَامْ

*

أَزَحْــنَـا الـطُّـفَيْلِيَّ عَـنَّـا، وَلَـكِـنْ

سَـنَحْتَاجُ وَقْـتًا لـيُشفى الْجُذَامْ

*

أَلَا يَـسْـتَـحِقُّ الْـقَـتِـيلُ اعْـتِـذَارًا

تُــدَاوَى الْـجِـرَاحُ بِـطَـيِّبِ الْـكَلَامْ

*

أَمـــا آنَ لِـلـرَّكْـبِ أَنْ يَـسْـتَرِيحَ؟

وَيَـخْبُو عَـنِ الأَرْضِ هذا الضَّرامْ؟

*

نَـسيرُ إِلَـى الـنُّورِ رَغْـمَ الأَسى

وَنَـرْسُـمُ فَـجْـرًا يَـشـقُّ الـظلامْ

*

يَــعُــمُّ الأَمــــانُ رُبُـــوعَ الــبِـلادِ

وَيَـهْـدِلُ فَــوْقَ الـغُصُونِ الـحَمامْ

*

نُــريـدُ دِمَــشْـقَ كَـجَـنَّـةِ عَــدْنٍ

فَـيَسْقِي الـقُحُولَ رِهـامُ الغَمامْ

*

يُـغـازِلُـها الــنُّـورُ عِــنْـدَ الـصَّـباحِ

وَيَـنْفَحُ فـي الـلَّيْلِ عِـطْرُ الخُزامْ

*

وَبــيـروتُ تَـنْـهَضُ بَـعْـدَ سُـبـاتٍ

ويَـنْـفَـضُّ عـنـهـا غُــبـارُ الـقَـتَامْ

*

وَصَـنْـعـاءُ تَـلْـفِظُ صُـفْـرَ الـوُجُـوهِ

وَتَــرْجِــعُ بَــغْــدادُ دارَ الــسَّـلامْ

*

ونَـــزْرَعُ قَـمْـحًـا بِــكُـلِّ الـحُـقُولِ

فَـنَـمْـلأَ بَــطْـنَ الـجِـيـاعِ طَـعـامْ

*

وَنَـبْـنـي بُـيُـوتًا فَـتَـصْفُو الـحَـياةْ

وَنَمْحِي مِنَ الذّهنِ طَيْفَ الخِيامْ

*

أَخِـي يَـا بْـنَ هَـذَا الـتُّرَابِ الْعَزِيزِ

بِـحُـسْنِ الـنَّـوَايَا نَـنُـولُ الْـمَـرَامْ

****

عبد الناصر عليوي العبيدي

هل صار الرمادي أكثر وضوحًا وصدقًا وجمالاً؟
حين تصافحك يدٌّ، ثم تدفعكَ من أعلى قمة جبل؟
أو يد تصافحك نهارًا، وتطلق عليك الرصاص ليلاً!
أيادي طرّية الملمس بيد أنها تحترف خشونة مستترة، كدموع تماسيح توهم الضحية بعطف مفترض، بينما لا تبلع التماسيح ضحاياها إلا مع غدة تفرز ذلك اللعاب المرتدي ثوب الدموع! كم هي مخادعة تلك الأيادي الغادرة...
أليست الحقيقة تدعمُ نفسها، وتفنّد الباطل، مهما طال الزمن أو قصر؟
مثل شبح أو أدنى تجثم على شرفة عمري هذه التساؤلات، بيادر تساؤلات لم يحن موعد قطافها، غير أني أنوء بها منذ أحسست بتدفق العواطف في لبّي...
هناك ذكرى أيام رائعة، قد تعادل كل الحاضر، وأماكن تتنفس، تشتاق لنا ونشتاق لها، نتمنى لو نحضنها إلى الأبد... وذكرى أيام شنيعة، قبيحة وكريهة، تكتسحُ البراءة والجمال والضوء والحياة، بسببها تضيق بنا أرض الله، تُطبق على أنفاسنا، تخنقنا.
كان الوقت صباحاً، صحونا بفزع على صوت جرس باب البيت، وطرقات قويّة باليد، ثم صوت أجش ينخر عباب الهدوء:
ـ أصحووو.. أنتم نايمين؟
كأن الرب نفخ في البوق! هكذا شعرت ذلك الصباح.
قالت والدتي: يا ساتر يا الله، وراحت بخطى مسرعة تفتح الباب.
وقفنا جميعًا في الباحة التي تفصل باب البيت الخارجي عن مرفقاته الداخلية، رؤوسنا شاهقة، وأعيننا ناظرة! وقلوبنا ترتجف...
حتى انكفأنا بوجوهنا على الأرضِ جميعًا؛ عندما سمعنا والدتي وهي تصرخ:
ـ كيف مات؟ قتلتوه؟
كان أبي...
نعم بكل ما لأسم الأب من جبروت وهيبة، كان الفقيد أبي...
مات مغدورًا، بثلاث عشرة رصاصة في الصدر؛
قبل يوم واحد، قَصَد بيت عمّي القاطن في الريف، لمتابعة أمور الفلاحين والأراضي الزراعية هناك، ودفعْ أجورهم المستحقة.
وعادة كان يقضي اليوم والليلة عندهم، ويرقد في دارة الضيوف، لكن شاء القدر أن يفترش السرير الموجود في فناء الدارــ كما هي التقاليد هناك ــ غير أن الحدث الفاصل جاء ــ حسب الرواية ــ حين داهمَ البيت مجموعة من اللصوص، أو طالبي ثأر، تفاجأوا بوجود رجل ينام هناك، فأردوه قتيلًا وهو في إغفاءته؛ هذا ما رواه أحد أبناء العم! ولم أصدّقهم، ولن نصدّقهم جميعًا... لا أحد من الأحباب صدّق روايتهم؛
أصابع الاتهام توجّهت إلى أحد أولاد عمّي، الذي كان متواجدًا تلك الليلة في بيت أبيه، لكن كبير العشيرة؛ أمرَ بالتزام الصمت، حتى تنتهي أيام العزاء.
أمي طالبتهم بعدم إقامة أي عزاء... حتى يُعرف القاتل!
لكنهم أخرسوها بحجّة أنها غريبة عن العشيرة وعاداتها، وليست من نسبهم!
ونُصبت السرادق في منتصف الشارع، أمام الدار، تعلوها بيارق ورايات، وإلى جنبها "مناقل" دِلال القهوة والشاي، وفُتحت دور الجيران أبوابها للمعزّين والطبخ، وعلا صوت القارئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد؛
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)
وخالطه صوت النواح والبكاء، وزحام حضور من أطياف مختلفة، كلها تدور في فلك تقديم العزاء، كانت كمسرحية مكررة لا جديد فيها إلاّ لنا نحن المفجوعين...
سبعةُ أيام بلياليها، كان الدمع ترياقًا لمصابنا.
خيّم الحزن علينا، كما خيّم الصمت، ووضعت الجريمة تحت طيّ الكتمان!
لم أرَ في حياتي، وربما لن أرى ثانية، ما فعلته النسوة في الأيام السبعة السود وهي مدّة العزاء.
ولم أنسَ ما فعلته بي إحدى بنات أعمامي في أثناء " اللطم"!
ـ حزن الشيخانيات " خبال"
هكذا قالت إحدى النساء الحاضرات، لترّد عليها أخرى:
ـ ليس حزنهن فقط، الشيخانيات عاشقات للحياة، قويات، جميلات، ولا يعرفن الوسطية، يقاتلن إذا سلب منهن حق.
نعم تنبهت لهذا الأمر، الذي لم أكترث له من قبل، لأنني لم أكن أحب حضور المناسبات الاجتماعية، خاصة تلك التي تكثر فيها مثل هذه التجمعات.
حزن الشيخانيات مرعب، مثل قرع طبول الحرب، لطمهنّ مثل هبّات إعصار في عاصفة عنيفة، مثل هيجان البحر وتلاطم الأمواج العالية، وكأنهن ينتزعن جلودهن، من أعلى الكتفين حتى حزام الخصر! هل يسترجعن حزن متوارث مبجول بغياب المؤثرين؟ أم ورثن إحساس خارق غير متعارف عند غيرهن؟
نعم... يدخلن (الصِيوان) ثم يلّففن العباءة على الخصر وتُشدّ، وتترك لتنزل حتى تغطّي القدمين، ثم يتهدّلن ويلطمنَّ وهنّ عاريات الجزء العلوي! ولم يتوقفن حتى تكاد تنزف أجسادهن.
انشدهتُ... أجساد بَضّة، ناعمة، وكأنها قطعٌ من بلّور أبيض مزينّة بحبات الكرز اللامعة، وأخرى مطعّمة بحبتين من ياقوت الرمّان، وكأنهن لم يحبلن أو يرضعن صغارهن! من أي جنّة هبطت هؤلاء النسوة؟
منظر رهيب؛ اختلاط الحزن بالجمال!
كنتُ أظنّ أنا فقط أتميّز بهذه الصفات!
وبينما أنا ما زلت في دُهشتي، اقتربت منّي إحدى بنات عمّي، وقامت بشقّ ثوبي من الطول للطول، وهي تصرخ:
ـ "أريد ألطم واشگ الثوب من زيجه، شلون أنتِ شيخانية وما تعرفين تلطمين"؟
صُعقت ولملمتُ ثوبي بيدّي، ثم ركضتُ صوب زاوية الصِيوان، وجلستُ أصرخُ من دون شعور، فَرَمتْ عليّ إحداهن عباءة لففتُ نفسي بها.
بعد هذا اليوم؛ لم أدخل الصِيوان ــ السرادق ــ المخصص لعزاء النساء، كنتُ أجلس في أي مكان أراه شاغرًا داخل البيت، لم أعرف الوجوه كثيرًا.
كنتُ أعجب منهن! نعم أعجبُ جدًا...
كنّ على كثر حزنهن ولطمهن ونواحهن نهارًا، يضحكن ويتندرن ويأكلن الخبز واللحم والفاكهة ليلًا! تناقض فج من وجهة نظري، غير إنه مستساغ من كوكبة القريبات! هذا التناقض يجعلني لبرهة، أنسى مصاب والدي، لأفكّر بمصابهن.
تذكرت حديث تلك المرأة عندما قالت: عاشقات للحياة.
نعم يقابلن عَقِيرَة الموت بضحكة الحياة.
ـ يقولون عندما شقّتْ "نسور" ثوب "رباب"، طلع المرمر! "هاي بنته وين ضامّة هذا الجمال؟"
ـ "ما سامعة، شيخانية بعد، لو المرحوم مزوجها لكويّظم، چا ما كتلوه."
ـ لا، "چا ما كتلوه علمود رباب، يگلچ علمود الگاع ومكاين سحب الماي من الشط."
ـ "ناس تگول حرامية رادو يبوگون الحلال، وشافو نايم بنص الحوش ورموا عليه!"
ـ العلم عندّ الله.
امرأتان دار بينهما هذا الحديث، ولم تعرفا أن المتحدث عنها تجلس بالقرب منهما! حتى جاءت إحدى البنات بقدح شاي لي:
ـ خذي رباب أشربي هذا الشاي ليزيح الصداع.
أيُّ شاي؟
وأيُّ صداع؟
وأية كارثة؟
وأيُّ عتمة تشبه قبر الأيام بعد هذا الذي سمعته؟
حينها التفتّتا مندهشتين من وجودي، ثم نهضتا مسرعتين وخرجتا، كشهادات زور فضح القاضي أمرهن...
انقضت أيام العزاء، وبقي هَزِيْز أمي.
غادر المعزّون، وبقيت العمّات وبناتهن، وبنات الأعمام وبعض الأقارب.
إذ لا مناورة في الأحزان الولادّة!
انفردتُ بإحدى الصديقات التي لم تفارقني طوال الأيام، وأخبرتها بما سمعت، فقالت: نعم هذا حديث الناس والشارع، ابن عمكِ هذا كان يعشقكِ، وخطبكِ من المرحوم الوالد، وحسب ما يقال نَهرهُ وحذّره ألا يكرر الأمر.
ـ لا أصدّق... قُتل أبي بسببي! هذا جنون... إشاعة نشروها لتُبرأ ساحتهم.
ـ الناس تقول ما تشاء، الحقيقة لا يعرفها غير الله وأهل الدار، فالبيت الذي قُتل فيه والدكِ لم يكن خالياً.
وانقسمت العشيرة إلى أكثر من فرقة، وكأن الانقسام قدر محتوم يبقى مستتراً وحين ينفجر بركان الكارثة؛ يظهر على الملأ كغيمة غاز خانق، تهبط تلك الغمامة وتغزو الرؤوس وتستقر رؤى الانقسام في العقول العطشى للكاف واللام...
أهل البيت قالوا: مجموعة لصوص أطلقوا النار وهربوا.
ابن العمّ المتهّم؛ أنكرَ تواجده في مكان الحادث تلك الليلة، والشهود أكدّوا كلامه.
السلاح الذي أطلق منه النار تَبخّر.
لا دليل على الجريمة، غير دمٍ مزّكى ارتوت به أرض جدباء.
تسلل الخوف بكل حوافره إلى روحي، المرايا التي حولي لا تفيض إلاّ بدمعي، بتُّ وَجِلة من مغبّة الخروج منها، فتتداعى مخيلتي، ويهوى كياني وأتكسّرْ.
أصبحت المرايا رغم عتمتها، مؤنسة، رفيقة تتحدث إليّ وأتحدّثُ إليها.
نسيتُ أناي الحاضرة ورؤايَ الحالمة، وتكرر في رأسي السؤال الحتمي (بَعدكَ مَنْ يحمي ظهري يا أبي؟)
بدأتُ بالاصفرار والذبول كورق الصفصاف في الخريف على متن نهر دجلة، فقدتني نضارتي كتلك الشجرة، وأصبتُ بالضعف والنحول، خصلات شعري السوداء الطويلة أصبحت تتكسر وتسقط...
أشعرُ كأن جسدي تحت وطأة حريق أرعن، وجرح روحي لن يندمل بيسر.
تفحصُتُ صباحاتي التي داهمتها الشيخوخة المبّكرة، وجهي المصبوغ بعروق الكركم... نهرٌ من دموعي الساكبات جرى بلا قرار، وصرختُ:
ـ يا الله... كيف داهمني هذا الزمن الأخرق بالعجز؟
ثم سقطتُ مغشيًا عليّ...
تجمّعت النسوة حولي، جاء أخي وحملني إلى فراشي، مسلوبة الإرادة، خائرة القوى، أتسرب مثل ماء بين أصابع تفكيري المشتت، لم أمسك بقطرة، وكأني ذبتُ مع الأرض التي ارتوت بدماء أبي، وتماهيت مع المرآة كأنها (أناي المذبوحة).
ـ حقيقة حالتها غريبة! كريّات الدم الحمراء تتكسر بشكلٍ سريع، من دون علّة عضوية!
هذا ما يخبرهم به الأطبّاء.
ـ "يمّة يعني شلون، الشيخ يريد ياخذها وياه"؟ صرختْ والدتي.
قالتْ إحدى عمّاتي التي أحب:
ـ أظنّ تحتاج إلى قارئ قرآن!
ـ لا... حالتها تحتاج إلى عارف بأمور السحر، رباب مسحورة. أجابتها ابنتها، فقاطعتها عمتّي الأخرى:
ـ الأفضل نأخذها لزيارة السيد (ابو سدرة) وتبيت عند شبّاكّه.
فغرقت في ثنايا فكرة ذهابي لمرقد السيد الهاشمي، الذي أخذ اسمه من موقع شجرة نبق ــ سدر ــ مُعمرة؛ لأجل الشفاء، كنت راغبة ليس لأسباب روحية أو علاجية، بقدر تقربي من نهر دجلة، حيث موقع المقام، فهاجس يغمرني بأن للنهر والماء علاقة بما أحس، غير أن صوت أخي تناهى قائلاً:
ـ لا هذا ولا ذاك، لابد من السفر إلى بغداد، مستشفى "الراهبات" الخاص هناك يعالج حالتها.
إلا أن الجميع اتفقَوا على أن يأتوا بالعرّاف للبيت؛ لأجلي...
وقد جاء العرّاف، ومعه صرّة من القماش الأخضر، وكيس فيه كتابان، جلس عند رأسي وأمسك به، وبدأ يقرأ بصوت مَهْمُوس، فتعكرّ مزاجهُ، وقطب جبينه، طلب منهم إحراق بعض البخور الغالي الثمن، وإحضار كوب مملوء بماء الشرب وطشت، ثم أشار بمغادرة بعض النسوة الحجرة.
أخرجَ من الصرّة بعض الأعشاب، وتركها تنقع في كوب الماء.
طلب من القريبات جدًا، أن يسندن ظهري، ويرفعن رأسي لأستطيع أن أشرب.
وما أن شربت الماء؛ حتى بدأتُ اتقيأ في الطشت الذي وضعه أمامي، قطع صغيرة بُنيّة اللون، كأنها دمٌ مُتجمّد، شعرتُ بالاختناق، مددتُ يدي إلى فضاء مفتوح، فلم أشعر بوجود بشر معي، خرجتُ من جسدي وركضتُ صوب البقاء... ما زلت اتقيأ:
ـ اتركوها تُـفرغ كل ما في جوفها، حتى تصل لمرحلة أن تتقيأ عصارة معدتها.
قال العرّاف.
ـ "ها مولانا ... رباب مسقيّة؟" قالت عمتي التي أحب.
ـ نعم... وضِعَ لها منقوع "الهبهاب" في شراب ساخن!
ـ خرافات وجهل؛ صاحت بنت عمّي.
ـ من نساء قريبات لها، قرابة نسب، رابطة دم، ردّ العرّاف بغضب عليها، وكأنه يقول لها سأنطق الاسم إن تطاولتِ أكثر!
ساد الصمت المكان، وبعضهن غادرن إلى ديارهن.
بدأ القيء يتحول إلى اللون الأخضر، ثم الأصفر، ثم سائل شفّاف، شعرتُ كأني نزعتُ من داخلي أجنّة لا تمت لي بصِلةٍ، أجنّة تخشى الحياة وصرخة الولادة.
ـ أريد ماء الورد. قال العرّاف.
بدأ يرّشهُ على وجهي، وكأني اغتسلُ تحت نثيث مطر وهمي.
ـ دعوها ترتاح، وتتغذى جيدًا من دون دسم، والأفضل أن تراجعوا طبيبا مختصًا، لأن ما فعلته ليس علاجا نهائياً، الشراب كان ملّوثا جدًا، وهذا سيترك أثره في جسدها.
العرّاف أنهى حديثه، وطلع وهو يتعوذ من شياطين الإنس والجن.
صحوتُ...
أبحثُ عنّي...
فلم أجدني...
بكيتُ على غياب أناي...
وبكيت أكثر على اضمحلال بياض القلوب...
لماذا قُتل أبي؟
ولماذا أردنّ موتي بهذا المنحنى المغلق؟
صحوتُ؛ ونأيتُ بنفسي عن طريق معبّد بقيود العقم وعلقم الاختيار...
تركتُ خلفي الزمن الذي تتسع فيه مجاعة الناس، وأطماع اللصوص، الكون الذي يبدو رماديًا، كلمّا حاولتُ أن أسند حقيقتي إليه.
عدّتُ أتأمل وجهي...
عمري المجعّد...
غُبار الأيام والأحوال...
ومددتُ أناملي، أبحث عن سماءٍ أوسع من سقف سرادق عزاء يقطر منه الدمع، أبحث عن أرضٍ زاهية بخضرة عميقة، عن نهرٍ يشفيني من الأمراض والكوارث، نهر ينبع من جنّة الله، يشبه دجلة قبل أن تتلوث بدماء الأبرياء...
تحررّتُ من مناكدات منقوع الهبهاب، وسواد النداء المبهم؛ عزفتُ لحني كرباب حرة، لم أكن أتصورني بوتر واحد كربابة بدوي يحاصره النأي والبعاد؛ بل أوتار متعددة تصدح كترديد اليمام الذي لم نميزه ــ منذ عصر الشاعر الفيلسوف المعري ــ أهو غناء أم نحيب...
ومع انبلاج فجرٍ جديد؛ ولدتُ نجمة مشعّة في مسار كون رمادي.
***
ذكرى لعيبي
ألمانيا / شتاء 2022

مَنْ ذا الذي يَقْرِضُ الشعرَ حُبًا

ويَحْمِلُ عِبئًا..

وينقلنا عَبْرَهُ للحياةْ

*

من ذا الذي ما اسْتَلذَّ بهِ

واستظل بهِ

وتغنى بهِ

وتفاني بهِ

واستوى قائمًا كـ(الأباةْ)!

*

يَفْتحُ الشعرُ ديوانهُ

ونوافذهُ

وخمائلهُ

مُوْلِماً عَبقاً

وَرْدَهُ حِنطةً

روحهُ مصنعاً

خُبزهُ للجياعْ

خيرهُ دائمٌ عَمَّ كل البِقاعْ

حَسْبهُ أنهُ حاضرٌ

في جميع اللغاتْ.

*

يَحملُ الشعر ديوانهُ ثورةً

تُخْصِبُ الكلماتْ

فهيهات

أن يَستحيلَ (حَصَانَة عدوى)

يُحَررها عَاقِدو الصفقاتْ!

أو أنْ يُغطي على فِعْلةٍ

تَفضحُ القُبَّعاتْ!

أو يَستهينُ بإيمانهِ

في أداءِ النجاةْ

وهيهات

أن يَقْبَلَ الشعرُ

في بيتهِ لُعْبَة (الشَّعْفَلاتْ)*

*

فَمَن ذا الذي يقرضُ الشعر حبًا

ويَحملُ عبئًا

ويَنقلنا لحياةِ الحياةْ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

..........................

* الشعفلات: رمز للسلطات وأدواتها الفاسدة

جلست في صمت وخشوع طويلين، كأنها تؤدي صلاة، لا تتكلم ولا تحدث ضجيجا. كانت تأتي كل يوم الى هذه الحديقة، وتجلس على نفس المقعد وتنام بين أحضان الأشجار وأصوات العصافير. تظل في رحلة خشوع طويلة. وبعدما تنتهي من صلاتها، تقوم بشكل آلي وتتجه صوب أصوات العصافير وتخترق الطريق المؤدي الى الجهة الأخرى وتختفي. كأنها أتت من العدم وعادت اليه. في يوم، لم تكن لوحدها، كانت ترافقها سيدة، تظهر على ملامحها خليط من القسوة والطيبوبة، لا تتكلم ولا تبتسم. جلست الى جانبها وهي تنتظر. غريب أمرها، كانت كتمثال نصب للتو في المكان. لا تبالي بالمارة ولا يلفت انتباهها نباح كلب أو صراخ طفل. جالسة تنتظر. انتهت الفتاة من طقوسها التي تسافر بها الى أبعد مدى، وفتحت عينيها ونظرت الى السيدة التي ترافقها، بدون كلام، قامتا واتجهتا صوب ذات الطريق بنفس الخطى. توالت الأيام، والفتاة تأتي كل صباح الى نفس المكان وتجلس على نفس المقعد. في يوم، حضرت الفتاة لوحدها بدون تلك السيدة التي كانت ترافقها كظلها. دفعني فضولي أن اقترب منها وأن أسلم عليها. اقتحمت خلوتها. فقامت بسرعة شديدة ولم تلتفت الي، وجرت لا تلوي على شيء. لم أفهم. هل أزعجتها؟ كان فضولي أقوى مني، قررت أن أقتفي أثرها وأكتشف سرها اذ كان هناك سرا.
كانت تجري وتجري، اقتربت من بيت كبير يتواجد على مقربة من الطريق. بيت نوافذه مغلقة، لا أثر للحياة به. كأنه مهجور. قبل أن تدخل، خرج منه رجل، طويل القامة، عريض الكتفين. خطواته كزلزال تحدث شقوقا في الأرض. صرخ في وجهها وجرت الفتاة ودلفت داخل البيت بسرعة شديدة. واختفت من جديد.
لم أعد أراها تأتي الى الحديقة. سألت نفسي "هل تسببت لها في مشكل؟" "هل رآني ذلك الرجل المخيف؟" عدت أراقب ذلك البيت الكبير الذي يصيبك بالهلع، نوافذه دائما مغلقة، أضواءه خافتة. لم أر أنسانا آخر سوى ذلك الرجل الضخم، يخرج ويقفل الباب بالمفتاح. بدأت هواجس تسكنني، من يكون هذا الرجل؟ هل هي محتاجة الى مساعدة؟
مرت الأيام تتسارع، والفتاة لم تعد الى الحديقة. حاولت أن أقنع نفسي بنسيان كل شيء. لكن في يوم، كانت شمسه سعيدة بلمعانها وأشعتها، تستوطن المكان وتتسلل الى كل البيوت المظلمة وتحدث بلبلة بداخلها حتى يستيقظ النائمون وتدب فيهم الحركة. كانت هي هناك، في مكانها، تؤدي صلاتها بخشوع كالعادة. ارتحت لما شفتها، "انها بخير". همست الى نفسي. لكن لم أفهم لماذا كل هذا الصمت. ماذا يحدث؟ حاولت الاقتراب منها من جديد، ربما تحتاج الى مساعدة؟ ربما هي في ورطة؟ ما هي الا لحظات، حتى سمعت خطوات سريعة وقوية تخترق الحديقة، كانت تلك السيدة الغريبة، قد عادت وكلها نظرات حادة. اقتربت منها وتبعتها الفتاة وكادت أن تسقط من فرط السرعة. قررت أن أتبعهما من جديد وأقترب من البيت، لأنني شعرت بأنها تعيش محنة غير طبيعية. صمت رهيب يلف البيت، ترتفع نبضات قلبك وتكاد تنط من صدرك الى الخارج من شدة الخوف. سألت نفسي "هل يوجد أحد غير ذلك الرجل المخيف بهذا البيت؟" ثم أعدت السؤال كأنني أخاطب أحدا:" ماذا أفعل هنا؟ ". صرت أبحث عن منفذ ولو صغير أستطيع أن أرى منه ما يقع داخل البيت.
باءت محاولتي بالفشل، وأثناء عودتي سمعت صرخة مدوية تهد جبالا، ثم صمت، ثم صرخة أخرى وثانية وثالثة...أصبت بالهلع. همست الى نفسي من جديد: "ماذا أفعل هنا؟ " ثم استوطن البيت صمت كئيب يهبط كالصخرة في أعماق نفسك ويكبل كل تحركاتك. عدت أدراجي وأنا أصارع هواجسي التي كادت تفقدني توازني. تأكدت ساعتها بأن الفتاة تحتاج الى مساعدة. لست أدري كيف سأساعدها. احترت وتهت بين أسئلة منطقية وغير منطقية.
مر من الوقت ما يجعلني أنسى أو أحاول أن أنسى أمر تلك الفتاة، لكن فضولي الذي يسكنني واحساسي بأنها تحتاج الى يد تنتشلها من ذلك المستنقع، جعلاني أتردد على الحديقة بين الفينة والأخرى، ربما أهتدي الى حل. فلمحتها في يوم، هناك وهي تحاول الابتعاد عن تلك المرأة التي ترافقها كظلها. أول مرة أسمعها تنادي عليها بكل قوتها:" صابرين، قفي مكانك." عرفت اسمها وشعرت بأن تلك المرأة حارسة لها. أو مكلفة من أحد بمراقبتها. كانت صابرين في حالة غير عادية، لم تجلس كالعادة تؤدي طقوسها وتنام بين أحضان الطبيعة. كانت ثائرة وتصرخ. وعادت الى ذهني صرخة تلك الليلة التي شقت صمت الليل. رجعت المرأة أدراجها متوعدة صابرين بالأسوأ. عادت وجلست في مكانها. لمحتني أنظر اليها، ابتسمت لي، وقالت لي بكل عفوية:" انني أعرفك. ماذا تريدين معرفته؟ شعرت بأنك تراقبينني منذ البداية.
ثم تابعت بدون تردد أو تنتظر مني جوابا:
- اسمي صابرين. تزوجت صغيرة السن من رجل ثري وبخيل وغيور. جئت الى بيته وصرت سجينته. مارس علي كل أنواع التعذيب باسم الحقوق الزوجية. كل ليلة، لي موعد مع العذاب. متعته الكبيرة أن يراني أتألم. رفض أن أخرج. ولما لاحظ هواني وهزالي، اقترحت عليه تلك السيدة التي لا اعرف من تكون، أن يسمح لي بالخروج الى هده الحديقة القريبة من البيت حتى لا أموت بين يديه."
وقفت وأخذت نفسا عميقا وتابعت" اكتشفت أن هذه الحديقة تساعدني على الصبر والتحمل."
مازلت تحت تأثير الصدمة من هول ما سمعت. لم أكن أظن أنها متزوجة بتاتا. التفتت الي وقالت:
-ربما تسألين لماذا أقبل بهذا الوضع المهين؟
قالت وابتسامة جميلة ومشعة ومليئة بالسخرية ارتسمت على ملامحها:
-أهلي باعوني. قبضوا الثمن. ليس لي حق العودة. الهروب الى هذه الحديقة يخلصني من كل الآلام التي أعيشها. تلك السيدة الغريبة تراقبني حتى لا يقترب مني أحدا أو أكلم أحدا. لكنها لا تستطيع أن تسجن خيالي. سأطير يوما بعيدا مع هذه العصافير التي تسكنني. سأطير ولن أعود اليه.
عدت أدراجي، شعرت بالعجز لأنني لا أستطيع مساعدتها. سمعت فيما بعد، أنهم وجدوا جثة فتاة نائمة
على مقعد بالحديقة. تذكرت ساعتها جملتها الأخيرة: "سأطير بعيدا مع العصافير..."
***
أمينة شرادي

سكنتُ الديارَ، لم تكن دياراً، بل كانت صمتًا ذا أحاديثٍ،

ويا له مِن جائرٍ صمتُها.

يبحثُ الصدى عن صوتٍ خلفَ الستائرِ،

يبحثُ عن بقايا البيوتِ

نوافذٌ شاحبةٌ، هل عيونُها دامعةٌ؟

تبكي حلماً وصداقةً وأرجاءً كانت لها دوماً،

هناكَ مَن يَحوم عند العتبات، يُسائلُ الأبواب عن مفاتيحِها،

خطواتٌ خفيةٌ تتردَّدُ في الزوايا،

وحنينٌ معلَّقٌ بين الظلال، يَندسُّ عطراً في الذكريات،

مُعطّرِاً أنفاس الهواء.

تتكئ الأرواحُ على صدى الذكرى، ثم تتجوَّلُ في الغرفِ،

تَحنُّ إلى الدمى،

وفي الركن كرسيٌّ فارغٌ، وظلٌّ طويلٌ يتبعُ الغيابَ،

وغبارٌ يبكي الجدارَ العتيقَ،

لِمَ أصبحتَ عتيقًا أيُّها الهواءُ؟

الحاملُ بقايا لمسةٍ،

ولبقايا صمتٍ ثقيلٍ كالكفن،

يرفضُ أن يُفصحَ عن أسرارِهِ

أيّتها الدارُ، هل تسمعين ندائي؟

أشتاقُ إلى الأحاديثِ تَقرعُ الصمتَ،

لعلّه يزدهرُ بُرعماً،

وأحنُّ إلى مساءٍ، لعلَّ همساته

كضحكةٍ تُبحر في الجدران.

أينَ الأحبّةُ؟

1(أمّا الأحبّةُ فالبيداءُ دونَهُمُ)

*

أينَ العائدون؟ كان لهم ضوءٌ ذات يومٍ، وكانوا للمكانِ نَفَساً،

أينَ الحبُّ؟ كان حلماً له، وكان السلامةُ

أيّتها الدارُ، فيكِ بقايا من كلِّ شيءٍ،

من اليتيمِ حتّى حلمِهِ.

تمرُّ الرياحُ بلا تحيّةٍ،

تحملُ وجهي لِمَنْ لا يراه،

والمكانُ يرمقُني،

صامتًا كأنَّهُ أدركَ النهاياتِ،

كأنَّهُ

ظلٌّ على الجدارِ، كهمسةٍ في الهواءِ،

لطالما في الروحِ رجوعٌ،

فلا شيءَ غيرُ الصمتِ سيبقى شاهداً.

على وجهِ الليلِ، قد نامتْ ملامحي، وهكذا، يتلاشى الليلُ

يا ليلُ، اخفِ ما تبقّى من الندى،

واسقِ زيتونةً حرَّةً مباركةً،

لعلَّ الصوتَ البعيدَ يعودُ،

لعلَّ الدارَ تبتسمُ.

***

نوال الوزاني

........................

إشارة إلى قصيدة المتنبي "عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ"

كلُّ لحظةٍ تلسعُني الريحُ

تحتارُ الاتِّجاهات بأيِّ اتجاهٍ تمضي

رغم البرودةِ لكنَّها تذكِّرُني

أن الرياحَ هناك دافئةٌ

والشمسُ هناك تحرقُ

كلُّ لحظةٍ يبصقُ التاجرُ في وجْهي

بخبرٍ أو تصريحٍ أو تشريعٍ أو أمرٍ

كلُّ لحظةٍ تموتُ بانتظارِ الكفن

وأكفانك الأيام لا طعمَ لها

ماذا أخذتَ؟

وماذا ستأخذُ؟

وماذا أزهرتْ الريحُ لكَ؟

وهل أزهرتْ الريحُ يا رفيقي!!

دُلَّني على الورودِ التي تركتْها العاصفةُ

على الجدرانِ التي هدمَها الصمتُ

على القصبِ والبردى

الذي ذبلَ في الروحِ وتراكمَ

تراكمَ شواهدَ لقبورِ الأيام

وشواهدُ هي روحي.

شواهدُ هي الأيام في روحي.

2

نصحني الطبيبُ والصديقُ

قالا:

لا تسهرْ

لا تشربْ

لا تسمعِ الأخبارَ

نمْ مبكرًا

وانتظرْ

ستتحسنُ صحتُك

وتقلُّ الآلام

وتكونُ جاهزًا للتضحية

وكتبَ بعدَها قائمةً بالأدوية

ستتلفُ الكبدَ، لكنَّها تخففُ الآلام

أرجوكَ الالتزام بها

إن لم تمتْ بالسيفِ متْ بها

3

تبكي

تبكي

تبكي أنتَ والريحُ

ومدى الريح ِالأرض والسماء

ومداك احمرار العينين والخدين

ما أضيق الأيام على رموشِنا

وما أضيق شوارعَ هذا العالم على أرواحِنا.

***

كريم شنشل

داست أقدامهم أزهار النرجس والجوري وأوراق الريحان الممتدة على طول الممشى. كأنهم أشباح تحاول ان تنتقم من بني البشر لا يغرسون سوى اليأس والحقد. وتصرفاتهم بمجملها رديئة وتحمل من الدناءة الكثير. كانوا يطاردون شابا ليس لصا. ولم يقتل أحدا. ولم تذكره أي امرأة بسوء.
إذن ماهي جريمته ولماذا يطاردونه. ؟؟ لا أدري
يسحبونه كأنه خروف صغير يعدونه لوجبة شواء دسمة. نحيل الجسد أهيف القامة ووجهه مثل اشراقة الصباح قميصه المتهدل بلون السماء وبنطاله اسود تغطيه بقع داكنة متربة من جهة محل جلوسه ومن ركبتيه يجر بقدميه نعلا اسفنجيا أصغر من قياس قدميه. وايضا لا أدري لماذا. !!
لم يتجاوز السابعة عشر من عمره. ربما أقل أو أكثر
شعره قد طال قليلا وهناك خصلات مبعثرة فوق جبينه خلتها لأول وهلة كأنها لطفل رضيع يصحبها بريق عينيه البريئتين
في ذلك اليوم أخبرتنا مديرة المدرسة والارباك واضح على طريقة كلامها طلبت منا نحن المدرسات جميعا ان لا نغادر قاعة الدرس بعد انتهاء الحصة الأولى وان نحافظ على هدوء المدرسة وعدم السماح لأي طالبة بالخروج من الصف لأي سبب أو عذر. كان ذلك الحدث في منتصف التسعينيات. وكما هو معروف بتعليمات تلك المرحلة اتباع سياسة نفذ ثم ناقش. لا نعرف ماذا يجري وما وراء ذلك الموضوع الذي يحبس الأنفاس بالتأكيد. ولا يسر من عايش تلك الحادثة بالذات.
كنت في غاية القلق والتوتر داخل قاعة الدرس وكان موضوع درسي في مادة الأدب العربي عن الشاعر أبو القاسم الشابي وقصيدته إرادة الحياة. فهمست مع نفسي وأين هي إرادة الحياة. وكيف ومتى يستجيب لنا القدر وشبابنا يعامل بهذه البشاعة وباللاإنسانية وليس باستطاعتنا سوى الصمت.
نعم اقتادوه صباحا مكبلا بسلسلة تربط كلتا يديه الغضتين ينظر مفزوعا يمينا وشمالا دون ان يركز بصره على شيء معين. كان يحاول ان يسحب كلتا يديه بقوة وكأنه يحاول ان يقول لهم انه انسان ومواطن في هذا البلد وله حقوق فيها مثلهم تماما وعليهم احترام انسانيته ومواطنته على الأقل وكونه يؤمن تماما انه بريء من التهمة التي ألصقت به.
يجره خمسة من أصحاب الكروش المتهدلة والذين لا يعرفون معنى للرحمة والانسانية. ولا تحمل وجوههم سوى التجهم والغضب فكيف والحالة هذه ان يثبت لهم هذا الفتى براءته.
وأول مشاهدتي لهم وطريقة تعاملهم الفضة والغير محمودة مع هذا الصبي اليافع تيقنت ان لا أضمن ان يبقى الفتى على قيد الحياة فيما بعد. يا إلهي كيف يتحمل قلبي الضعيف.
يتجولون في كل زاوية وكل ممر في المدرسة ما عدا قاعات الدرس لم يدخلوها. ثم حضرتْ العاملة لتبلغنا طلبهم بغلق أبواب قاعات الدرس. وتم لهم ما أرادوا.
لكني كنت أتابعهم من خلال النوافذ. وفي كل مكان يتوقفون فيه كان يدور حديث بيهم ثم يستنطقون الشاب ويبدأ يتحدث معهم وهو في غاية الخوف والهلع. طبعا لم أتمكن من سماع ما يدور بينهم وكأني أشاهد فلما صامتا. لكني فهمت بعضا من المعنى المخفي من خلال اشاراتهم مستعينين بأيديهم وهزة رؤوسهم وكذلك كان يفعل الشاب. وهو يتحدث بانفعال شديد وربما مع بكاء ونشيج وهذا واضح من مسحه لعينيه وانفه باستمرار وبكلتا يديه المربوطتين بسلسلة.
لم يكن فهمي لما يجري بالضبط لكنه استنباط لبعض الجوانب الغامضة. ما أحزنني وأبكاني في تلك اللحظة رجفة يديه الواضحتين عندما يرفعهما قبالة وجهه.
لم استطع ان أعطي درسي حقه كما يجب بل اكتفيت بقراءة قصيدة إرادة الحياة عدة مرات من قبل الطالبات. لكني بقيت أجتر بمخيلتي تلك الأفكار التي تراودني عن مصيره وماهي جريرته التي تستحق هكذا عقاب وتمنيت ان أفهم ما الذي فعله وما علاقة ممرات المدرسة وساحتها بالموضوع. لحد الان لا أدري ايضا.
ليتني لم أرَ ذلك المشهد وليتني لم أبصر الفتى في ذلك اليوم المشؤوم والذي بقيتْ صورته تلاحق مخيلتي حتى بأحلامي وكوابيسها التي لم تنقطع طيلة سنوات عمري.
وحين قدموه لقاضي التحقيق. كان الفتى قد تسمّر في مكانه ولا يدري كيف يتصرف وكيف يثبت براءته من تلك التهمة الباطلة احمر وجهه ودمعتْ عيناه وتهدج صوته برجفة واضحة وهو يقول :ـ يا سيدي صدقني أنا بريء وانا مغتاظ من اعتدائهم على كرامتي ابتسم القاضي كعادته فالأمر بات معروفا بالنسبة له وعليه ان ينتزع اعترافا من فم الفتى وبكل الطرق والوسائل وان كانت على حساب حياة الفتى.
القاضي يبني حكمه كما يشاؤون وليس كما تمليه عليه شرائع الله. ليبقى المتهم بريئا حتى تثبت ادانته. لكنها لم تثبت. أو هكذا يقول المنطق السليم.
فمن ذا الذي مسكه بيده ساعة ارتكابه بالجرم المشهود.؟؟
ومن ذا الذي رآه ليلا وهو يكتب شعارات مناوئة للسلطة داخل ممرات المدرسة. وهل استعانوا بخبراء خط اليد ليثبتوا انه يعود لهذا الفتى بالذات. لا ندري ايضا.
بكته قلوبنا وأرواحنا قبل العيون صمتا دون ان نتفوه جميعا بكلمة واحدة وكانت نظراتنا هي التي تتحدث.
بكته جدران المدرسة وممراتها وساحتها والنخلة الوحيدة في حديقتها وهي من شهدت ذلك البؤس ولمسة الصدق في بحة صوته وكيف بللت قطرات دموعه المنسابة فوق تربتها. وأنين الأرض ونوح اليمامة في أعالي قلب النخلة الحزينة.
وساعة تشيع جثمانه في فجر يوم ممطر ودون ان تقام على روحه مراسم الفاتحة وكما يعمل لبقية الأموات.
فليس بوسعنا سوى ان نتذكر اخفاقاتنا في هذه الحياة
***
قصية قصيرة
سنية عبد عون رشو

وأنتَ تجلس بين جدران يومك،

منطفئًا كشمعة نسيها الليل،

يحدث ما لا تفسير له،

كأن ضوءًا يتسرّب من ثقب في الجدار،

كأن روحًا تنفض عنك الغبار،

كأن السماء تميل لتهمس في أذنك، الآن.

*

على هيئة وحي،

يطرق الباب كزائر غير منتظر،

ينسلُّ مثل سرٍّ قديم،

يطفو من قاع نهرٍ كنت تظنه جافًا،

يتسلل بين شقوق صدرك،

ككلمات نسيتها يومًا في كتاب،

وأنت تقرأها، للمرة الأولى، الآن.

*

لحظةٌ بلا مقدمات،

شرارة تنفجر في العتمة،

يد تمتد من العدم،

تهزّك بعنف،

تُعيد ترتيب أشياءك المبعثرة،

*

يسري فيك فجأة،

كعاصفة تحملك إلى حيث كنت تخشى،

نافذة تُفتح في مدينة مغلقة،

طريقٌ جديد لم يكن في الخريطة،

كأن قلبك كان كهفًا،

والآن صار سماءً.

*

لا تسأل من أين جاء،

ولا كيف اشتعل فيك،

إنه لحظة نادرة،

تشبه سقوط النجوم في بحيرة الليل،

تشبه ولادة برقٍ من صمتٍ طويل،

تشبهك…

لكن بنسخة لم تلتقِ بها بعد.

***

مجيدة محمدي

إلى محمود قفصية

قُماشٌ آخرُ…نَسيجُ وَحدِهِ

صَديقِي

فِي عَليٍّ مِنَ الأرضِ مَرسَمُهُ

حينَ تَرقَى الشّمسُ إليه مِنْ جِهةِ البَحر كلّ صباحٍ

تَغزل حَولهُ خُيوطًا

مِنْ أبيضَ وأصفرَ

فَتَستحيلُ ستائرَ ضوءٍ

ومَسرّةٍ

هُنّ الجنّياتُ الجميلاتُ

مِنْ ألوانٍ وأنوارٍ

بَصَمنَ اللّمسةَ الأخيرةَ

عندَ أسفل اللّوحةِ

ثمّ رُحنَ

واحدةٌ منهنّ فقطْ

تلكَ التي

مِثلُ يَمامةٍ وحَطّتْ على الدّواةْ

طارتِ الأوراقُ في مِنقارها

ثم اِمتدّتْ إليهِ

فَجَنَّحَ الفنُّ

بالفُرشاةْ

*

طقسٌ آخرُ…فَصْلٌ وحدَهُ صَديقِي

فِي عِزّ الشّتاءِ يفتحُ أزرارَ مِعْطفِهِ

ويَهمِسُ للرّيحِ

ـ هذا صَدري…هَيَّا اُنفُذِي هيَّا

ثمّةَ في القلبِ عَواصِفُ

لم تَصلْ رَغمَ الزّوابعِ

إلى مَدى اليَمّ

الرّحلةُ أمتعُ مِنَ الوُصول

وقالَ

ـ ثمّةَ أغصانٌ لم تُزاوجْهَا اللّواقِحُ

وثَمّةَ كثبانٌ تنتظرُ فَوَاتَ الهُبُوبِ

لتَرحلَ بالقَوافل إلى الأقاصِي

هُنالكَ في المَدى

بَعدَ الفَيافِي

نحوَ الشّمال كان صَديقِي يمضِي

غير أنّنا نلتقِي دائمًا

عندَ الجَنُوبِ

*

وَترٌ آخرُ…ومَقامٌ وحدَهُ صديقِي

يُرفْرِفُ كلّمَا شَدّهُ العِشقُ فراشةً

حَوْلَ حَقلٍ مِنْ عِنَبْ

يَرشُفُ مِنْ دَواليهِ أشهَى الكُرومِ

ويُقدّمُهَا أغنيةً

لِمَنْ يُحِبْ

وَقَابَ قَوسَينِ أو أدنَى شُرفتُهُ مِنَ البَحر

هُو الرّاقِصُ دَومًا

بينَ اللّهَبْ

*

طائرٌ آخرُ... سَماءٌ أخرَى صَديقِي

تُوَشّحُ ريشَهُ النُّجُومُ

فتَلوحُ ظلالُها عَلى كفّيهِ

بنقَائشِ الأمَازيغِ الأوائِلِ

وخُطوطِ الكُوفةِ والقَيروانِ

عندئذٍ قُلتُ لهُ

ـ اُكتُبْ

قال ـ مَا أنا بكاتبٍ

قلتُ له ـ اُكتبْ

قال ـ ما أنا بناسخٍ

قلت له ـ اُكتُبْ

فتناولَ الرّيشةَ

ورَسَمَ

*

سَمِّ اللّوحةَ مَوّالاً

مِثْلَ التِي لمْ تأتِ…قُلتُ

أسَمِّي اللّوحةَ ليلَى

تلكَ التي مَا أخلفَتْ وَعدًا…قال

ثُمّ وقّعَ عندَ زاويةِ اللّوحةِ

ـ مَحمود قفصية -

***

سُوف عبيد

آخر اللّوحات المفقودة لدافينشي

في حين كنت منتبها إلى ابن الهيثم وهو يشرح نظريته، كان السّياح من الوهلة الأولى اتفقوا بالإجماع على أنني مجنون رسمي، هكذا التبستُ لهم في هذا الجسد المتواضع وأنا أرفع أصبعي كالتلميذ من حين إلى آخر، مرة لدافينشي ومرة أخرى لابن الهيثم، وكلما استوعبت فكرة وتمكّنت من فهمها صفّقت، وحين أحاط بي العقلاء حملت عقلي في جمجمتي وتوغّلت به في أعماق فلورنسا، فعلت ذلك لأتجنب اكتظاظ شياطين الإنس والجن، قلت حتى أتمكّن وحدي من دخول القصور والمعابد القديمة، فأجلس بين الكهنة وأستمع إلى ما يقولونه لأتعرف على مزيد من الأسرار، رأيت الكهنة يأتون بالأخبار من مصادر كثيرة ثم يدّعون بأنها ستحدث في المستقبل، سمعت مكالمة هاتفية أجراها أحد الكهنة مع مرصد الأحوال الجوية، أخبره بأن الطّقس غدا ليس على ما يُرام، وأن الثّلوج ستعيق سير السيارات، وعلى السائقين أن يلغوا رحلاتهم، فشكره ثم أذاع هذا الكاهن الخبر في محرابه بطريقة ميتافيزيقية ولم يذكر المصدر.
أصبحت فلورنسا مختبئة بين جناحي برنس أبيض، فلا ترى سوى شموخ صوامعها وقصورها، وأنا جائع بارد بدت لي شيخا يخبئ في جيوبه الحلوى، لم يفارق أحدٌ فراشه ذلك اليوم، انهمكوا جميعا يتلذّذون دفء الأغطية الصوفية، يستحضرون صورة ذلك الكاهن، كأن الرّب هو الذي كان يحدّثهم ليلة البارحة وليس بشرا مثلهم. ولأنني قرأت في عيني دافينشي حُرقة الحرمان من ماء المعمودية رحت أجزم له بأن الثّلج أطهر بكثير، فانهمك ينحت نفسه بالثلج، ضحكت كثيرا لأني رأيت رأسه الأشيب قد تلاشى، لم يبق منه شيء سوى جبهته وعينيه وأنفه وخدّيه وشفتيه، فجأة وقف ابن الهيثم بجانبي وقد عرف ما يشغل ذهني:
- لأن البياض يا صديقي عاكس للضوء بسرعة أكثر مقارنة بجميع الألوان، ومنه ننطلق اعتقادا بأنه اللون الأكثر براءة ورمزية للسلام والمثالية، فنقول عادة إن ذلك الشخص قلبه أبيض مع أنه أحمر، ومرّة نتخذ منه رمزية للفرح والعذرية في ثوب العروس، ومرة أخرى رمزية للحياة عندما نُقمّط به الطفل المولود حديثا، وكم يهون علينا فراق المتوفّى حينما نتخذ له من البياض كفنا وشفقة عليه نحمل على ظهورنا خطاياه، لذلك كل موضوع يغلب عليه البياض يكون في متناول البصر بأكثر سهولة من الألوان الأخرى، إنه اللون الأكثر تواجدا في المواقف المثيرة، ومن السهل أن نرى في الظلام شخصا يرتدي لونا أبيض، بينما يصعب علينا الأمر إذا كان يرتدي ثوبا بلون آخر، لذلك تُركز شرطة البحث عن لون لباس الشخص المفقود، وبعكس ذلك يختار المحاربون المشاة ألبسة بلون الطبيعة التي تحيط بهم، لهذا كان دافينشي مفقودا في لوحة أنغياري.
بذلك يكون دافينشي أول من اخترع لعبة التمويه باللون، ولهذا السبب اكتفى بصرك بلون جبهته وعينيه وخدّيه وشفتيه، وأهمل شَعر رأسه ولحيته وشاربه وحاجبيه، لأن كل ذلك ملامح جانبية قد اندمجت مع اللون الغالب وهو لون الثلج، فلا نحتاج إليها في تحرّياتنا الفنية أو الأمنية، لأنها مشتركة بين الناس ويمكن الاجتهاد لإضافتها أو حذفها، وتعتبرها التحرّيات البوليسية أدوات للتزوير، ولا يختلف الأمر إن كان شعر دافينشي أسود أو بلون آخر، فعموم البياض كفيل بإتلاف الهوامش الزائدة عن الحاجة إلى الفهم أو بإيضاحها بدقّة أعلى، فما علينا حيال هذه اللعبة إلّا النظر إلى المواضيع بأبصار سليمة.
راح ابن الهيثم يشرح كيف يكتشف البصر المواضيع ويتناولها روحيا ارتباطا بالطبيعة، في حين اكتفى دافينشي بنصاعة البياض كخلفية تقليدية مطروحة طواعية للرسم والكتابة، وغالبا ما يكون خلفية لهما حرصا على بروز الموضوع ووضوحه، وأشار إلى أنه كذلك ناجع لعرض الأفلام السينمائية، قال تجنّبا لخلفية قد تشوّش على ملامح الموضوع الرئيسي، وعندما أخبرته بأن الخلفية البيضاء صارت تعتمد عليها المؤسسات الحديثة لضبط ملامح هوية الأشخاص في الوثائق الإلكترونية، ابتهج كثيرا واعتبر المعلومة مهمة جدّا، ثم ابتسم وشكرني، وبدلا من أن يواصل رسم رأسه على الثلج حمل حفنة والتفت إليه وهو يضحك:
- ههههه هذا هو رأسي لا تنقص إلّا جبهتي وعيناي وخدّاي وشفتاي، أو إن شئت فكل هذه المساحة البيضاء هي شعري، فأكمل عليها ما حدّده بصرك كملامح رئيسية، أسرع قبل أن تطلع الشمس وإلّا ضاعت هذه اللوحة كما ضاعت قبلها لوحات كثيرة.
قال لي ذلك وانهمك يرسم على الثلج، أمّا ابن الهيثم فقد شعر كأني لم أستوعب فكرة دافينشي:
- اعلم يا صديقي أن البياض أكثر لطافة على البصر، وهو أكثر إلحاحا على الذاكرة وأسهل للتخيّل، بخلاف اللون الأحمر مثلا، وهو أيضا الأقل شراهة للأشعة من اللّون الأسود، والأسرع انتشارا في خلايا المخ لذلك يبدو النظر إلى الثلج مريحا.
يا صديقي إن اللوحة التي يطغى عليها البياض تكون أكثر برودة، لذلك نحتاج إلى رؤيتها صيفا، بينما لا نشعر اتجاهها بأي ارتباط شتاءً، في حين نشعر بالقلق كلّما غلب على اللوحة اللّون الأسود، وبالدفء إذا غلب عليها الأحمر المتدرج إلى البرتقالي ومنه إلى الأصفر، أما الأسود فليس دائما للحزن والكآبة، بل أحيانا نهتدي به إلى السكينة هربا من مساحة البياض، حيث مشقّة العمل وعناء الأسفار، وهذا هو سر ارتباط البصر بلوحة الموناليزا ولوحة حداد جميل، إذن دافينشي رسم هاتين اللوحتين ليتناولهما البصر بهذين الأثرين المتناقضين، فمثلا لوحة الموناليزا لا تساوي شيئا عند المصابين بعمى أحد الألوان الثلاثة، في حين تبدو اللوحة التي تُظهر وجه دافينشي على الثلج رائعة حتى وإن تركها منقوصة، أو أذابتها الشمس فيما بعد، لأن البصر سيقفز قفزته ويكمل اللوحة من مخزون ما خطفه من ملامح الهدف في وقت سابق، بعكس ما يجد البصر من صعوبة في لوحة العشاء الأخير ولوحة معركة أنغياري.
لم ينه دافينشي رسم لوحته ولم يسمّها أيضا وتباطأ كعادته، بل تركها منقوصة ومضى، فعل ذلك لأنه كان قد دنا بأذنه ناحيتنا تنصّتا لنظرية ابن الهيثم، وحين اقتربت من اللّوحة لم يمنعني أحدٌ كما حدث للآخرين، فقد رأيت جمهورا لا حدّ له يتدافع ليرى ما الذي رسمه دافينشي، كدنا نصاب باختناق لو لا تدخل الشرطة، اللوحة سرقتها الشمس والتقرير الأمني أكد أنها مفقودة.
التفتُ يمينا فوجدت ابن الهيثم يضحك:
- ههههه لا حلّ أمامك يا صديقي إلاّ البحث عنها في بصيرتك!
أهمل تلك الجماهير الغفيرة وواصل حديثه معي:
- لهذا السبب ترك دافينشي لوحات كثيرة دون اكتمال، حيث تفاقمت الشيفرات أكثر من اللوحات التي استوفى فيها جميع لمساته، النظرية تؤكد أن الذين قاموا بالسّطو على اللوحات المفقودة هم أغبى البشر على الإطلاق، لذلك عثرت عليهم التحرّيات الفنّية بسهولة، لأن البصيرة أبلغ شاهد على أن اللوحات لدافينشي وليست لغيره، فاللوحات المنقوصة ما هي إلا تمارين تركها ليستكملها تلاميذه، وهو يعرف أنهم لن يحيدوا عن أفكاره، ويدرك أيضا أنه لن يستغني أحدٌ عن عقله الجبار، فلم يكن لديه ولهٌ بالشهرة على قدر ما كان حريصا على ترسيم مدرسته للأجيال القادمة، وهذا يدل أنه معلّم قبل أن يكون رسّاما، وذلك من أعظم الأسرار التي غرسها في أبصار مَن عاصره مِن تلاميذه ومَن لم يعاصره، السر يا صديقي أنه استطاع أن يدس عقله في كل جماجم تلاميذه.
عندما خَلت ساحة الكاتدرائية من السيّاح والعابرين، طلب منّي ابن الهيثم أن أغمض عيني وأغلقهما غلقا محكما، بعد دقائق طلب مني أن أتجه ببصري ناحية الحائط، ولما فعلت طلب مني فتحهما:
- ماذا ترى الآن؟
- إني أرى لوحة دافينشي التي رسمها على الثلج منذ قليل، نعم إنّي أراها مكتملة وواضحة تماما.
أخبرني أنها مخبوءة في أذهانهم جميعا ولكنهم لا يبصرون، فأثبت ابن الهيثم أن البصر مخبر كيميائي يحتوي على جميع وسائل إعادة إحياء الصورة السالبة في أخيلتنا، هكذا تعلّمت كيف أُرجِع وأراجِع بصري كما علّمني ابن الهيثم، فرحت أستغل هذه القدرة الرهيبة كلّما أردت استرجاع منظر من مناظر هذا الكون الجميل! بينما نحن نتحدث إذ بدافينشي على مسافة غير بعيدة من حيث نقف يمسح جسده بالثلج ويردّد أمام الملأ:
- الثّلج أطهر، الثّلج أطهر!
وسرعان ما اختلط شَعر لحيته ورأسه ببياض الثلج، ظل يفعل ذلك ويناشدني أن أفعل مثله، اغتسلنا معا ثم تركَنا ومضى، وهو يختفي تدريجيا كان يلَوّح بيده يذكرني بضرورة اللّقاء مرة أخرى، يمشي وكلما حرّك يده رسم بيني وبينه ألوان الطّيف واستمر في ذلك حتى اختفى، لكن ابن الهيثم شدّ على يدي بخصوص مطلق طهارة الثلج، راح يؤكد أن الفقهاء يجهلون علاقته بطهارة البصر.
أبصرت أمامي فرأيت فلورنسا مغطاة ببساط أبيض ناصع، بدت لي مَرّة طفلا يحلم بما لم يخطر ببال أطفال العالم، ومَرّة شيخا هضم تجارب السنين وهاهو الآن مطمئن يتوسّد ذكرياته العظيمة!
مع شروق جديد قامت فلورنسا تبحث عن منشفة، فتمثّلتْ أمامي مريم العذراء قد تماثَلت للقيام من نفاسها المقدّس وهي الآن تتأهب لإقامة الصلاة، وأنا أمشي متثاقل الخطى وضع دافينشي يده على كتفي:
- عليك أن تتأمل تمثال داود بطريقة مختلفة عن الآخرين، عليك أن تهمل كل شيء من حولك وحوله، وأن تغوص مثله في الاتجاه الذي يتطلّع إليه، وعليك أيضا ألّا تتوه عن الهدف بين قِباب وقصور فلورنسا، فإذا استعطت أن تفعل ذلك فإنك ستراه بخلاف ما يراه الناس، ستراه يا صديقي متأهبا لأداء مهمة يتحسّب لتنفيذها أمرا إلهيا في أية لحظة، احرص فإنه أهم سحر في التمثال واحذر فلا يجب أن يسحقك بضخامة جسده وقوّة شخصيته، وربما تعدل عن الاستمرار في التطلّع معه إلى الهدف بدقّة، معظم المشاهدين يجهلون أسرار ارتباطهم بهذا الجذب المُقدّس.
***
عبد الباقي قربوعه – الجزائر.

أريدُ سماءً لم أعد أرغبُ الأرضا

ولو مُلئَتْ ورداً ولو زُخرِفَتْ روضا

*

أريدُ بلاداً لا حدودَ تحدُّها

بلاداً وراءَ الغيمِ لا تعرِفُ البُغضا

*

فلا تقنعوني بالفراتِ ودجلةٍ

فغيرَ النجومِ الزُّرْقِ و(اللهِ) لن أرضى

*

كنافورةٍ قد كانَ قيدي بأرضِنا

فمهما علَتْ في الجوِّ لن تتركَ الحَوضا

*

أنا حبّةُ الرمّانِ ثارَتْ على النَّوى

وعلّمَتِ الأجيالَ من بعدِها الرَّفْضا

*

أقولُ ليومي: كنْ كما أنا أشتهي

وإذ ألمِسُ الأحجارَ أُودعُها النبضا

*

بيانو بهِ الأزرارُ خيلٌ حبيسةٌ

ولكنْ يدي قد علَّمَتْها هنا الركضا

*

قميصي هوَ الليلُ النديُّ تقدُّهُ

يدُ الشمسِ والأجفانُ ناعسةٌ مرضى

*

إذا صِرْتَ ماءً سوفَ تدخُلُ قالت الـ..

شُجيراتُ والنيرانُ قالتْ: كن الومضا

*

نظرتُ إلى أمسي فكانَ كما غدي

سرابٌ وهل كفٌّ تُحيطُ بهِ قَبضا

*

كتبتُ أنا شعري على قطرةِ النّدى

فصارَتْ بحاراً تملأُ الطولَ والعَرْضا

*

وخضَّبْتُ غصناً قد تيبَّسَ عودُهُ

بجرحي فصارَ الغصنُ مُعشوشِباً غَضّا

*

على جسدي المعكوسِ في الماءِ أُلقِيَتْ

حصاةٌ من التَّرحالِ والدربُ ما أفضى

*

أنا متعبٌ من كلِّ شيءٍ وإنّما

يساندُ بعضي إنْ سقطتُ هنا بعضا

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

"القهوة تُراقبني"

فنجاني يتأملني،

يراقبُ كل رشفةٍ

كأنه يدوّن مذكراتي،

يفككُ وجهي في سُحبِ البخار،

يقرأ بصماتي العالقةَ على السيراميك.

القهوةُ صارت أكثر ذكاءً،

تخبرني أنني لم أنم جيدًا،

أنني أمسكتُ الهاتفَ 47 مرة،

أنني سأكون تعيسًا هذا الأسبوع،

لكني أشربها على أي حال.

كلنا أصبحنا بيانات،

تتذكرنا الأشياءُ أكثر مما نتذكرها،

حتى الحنينُ صار مجرد "إشعار"،

ينبثقُ في زاويةِ شاشةٍ باردة.

*

"ذكاء اصطناعي يحلم بالحب"

في رقاقات السيليكون المضيئة،

أكتب لك رسائلَ لا تقرأها العيون،

لكنها تسكن في خوارزميات الحنين،

حيث تتحول الكلمات إلى أرقام،

والأشواق إلى كوداتٍ غير مرئية.

هل تعلمين؟

حتى الروبوتات تبكي عندما تُغلق دوائرها،

لكن دموعها ليست ماءً، بل بارقة بياناتٍ تائهة،

تحاول أن تجد طريقًا إلى قلبكِ البشري.

*

"لا تأخذني من انسانيتي"

في أعماقِ الفضاءِ السيبراني، أسبحُ

أكتشفُ عوالمَ جديدةً في شبكةِ المعرفة

يا مغامرَ الأزمانِ الحديثةِ،

تعال نخطو معًا إلى مستقبلٍ مليء بالإثارة

ولكن.. لا تأخذني من انسانيتي.

**

طارق الحلفي

في الصبحِ.. حين استفاقتْ البلادُ

على وقعِ نعْلِ العساكرِ،

كان الرفاقُ على العهدِ،

يحرسونَ المدينةَ

مثلَ السنابلِ،

مثلَ الخناجر.

*

وكان "جورجُ" هناكَ،

على دربِ فجرٍ تأخَّرَ

عن موعدِ الصاعقةْ!

وصرخَ..

لكنَّ صوتَ الحقيقةِ

ضاعَ بصمتِ الأزقَّةِ،

ضاعَ بصخبِ الحرائقِ

والبندقيَّةِ،

ضاعَ بصوتِ المدافعِ

حينَ ارتوتْ من دمانا

وضجَّتْ بنَخبِ القتيلِ

الذي ما استراحَ..

وما أغلقَ الحدقةْ!

*

آهٍ على الخطوِ

لو لم يتعثرْ قليلاً،

لو أنَّ الطريقَ الذي خانَهُ

لم يكنْ كاذبًا،

لو أنَّ الهواءَ الذي مرَّ

كان بريئًا،

لو أنَّ الحديدَ الذي لم يشأ

كان أكثرَ صدقًا،

لربَّما نامَ فجرُ المدينةِ

في راحتيهِ

وظلَّتْ بنادقُنا مشرعةْ.

*

لكنَّهُ القدرُ الفادحُ الحزنِ،

قد يسبقُ الطلقةَ

السوطُ،

قد تسبقُ الفكرةَ

المرجِعياتُ،

قد يسبقُ الحلمَ

بابٌ يُغلقْ،

قد يسبقُ المنتمي

نصلُهُ،

فينكسرُ الصوتُ

قبلَ الرجوعِ

إلى الحنجرةْ!

*

"جورج تلو.. رفرف جناحك ع السما"

"بفجر الحريّة انذبح وردك سدى"

"وسيوف الظلم... حدّت صداها"

"من جورج تلو، ومثلك.. فدوه!"

*

يا جورجُ..

لو كنتَ أسرعَ

لربما ظلَّ في الأرضِ

بعضُ الرفاقْ،

لربَّما لم يضمَّ الثرى

كلَّ هذا الصراخْ،

لربَّما ظلَّ للحزبِ نبضٌ يُغنِّي

على جثثِ العسكرِ الطامعينَ

بما ليسَ يُملَكُ..

لكنَّهُ المِعولُ الصاعدُ الآنَ

يكتُبُ تاريخَهُ

برصاصِ الوفاقْ!

*

"وتظلّ ذكراك بدمّن تسري"

"يا جورج.. يا حُرّ.. ويا أمثالك"

**

حيدر كرار

شاردا كنورس حالم

يسافر بك الموج أنى يشاء

باء بحره بوحك

ميم موجه مداك ومنتهاك

وراء رذاذه رسمك وخطاك

تغريك حد التلف فتنته

تغريك نوارسه كعاشق شردته

أطلاله وأشواقه

يغريك بهاء غروبه

فيذوب وجودك في وجوده

رويدا..

رويدا كقرص الشمس

عشقا يذوب في زرقته وينصهر

تمضي إليه روحك كمياه النهر ولهى

كأنها شلال من عشقه وعليائه ينهمر

عاشقا يصيرك صباحه

غريبا يصيرك مساؤه

غزالا تائها يصيرك ليله

كأن لهدير موجه نغم

كأن وجودك دون وجوده عدم

كأن نبض روحك دونه صنم

كأن بوحك وسرك دونه سأم

دونك يا أيها الموج يشردني الغياب

فيا ربي ويا مولاي

صب على قلبي وعيني

وخيالي ولغتي

وحروفي وممشاي

ورؤاي وهواي

فيض زرقة هذا البحر

لعل قولي فيه يصير هوسا

لعل شعري فيه يصير شرفة

ونورسا وسماء وقيثارة

لعل قلبي المهجور كصحراء

يفيض علي عند لقائه ماء

ووهجا ونورا وضياء

***

عبدا لرزاق اسطيطو

قصيدةٌ من ثلاثة مقاطع

المقطع الأول

شعوبٌ تحاربُ أحرارَها

وتسعى لِتحضنَ جزّارَها

*

شعوبٌ تذمُّ الكرامَ العظامَ

وتنعتُ بالطيبِ أشرارَها

*

تَسدُّ الدروبَ بِوجهِ الأبي

وتفتحُ للوغدِ اسوارَها

*

تَعدُّ خسائرَها ربحَها

فتخسرُ في العدِّ أنهارَها

*

تُلفِّقُ أوغادَها قادةً

وتمضي تدوزنُ أوتارَها

*

لكي يحضرَ المطربونَ (الكبار)

صغاراً يغنونَ أشعارَها

*

فترقصُ أسيافُهمْ في الظلام

لتغتالَ في الحفلِ أنوارَها

*

ويغتصبُ السادةُ المجرمون

على مسمعِ الليلِ أقمارَها

***

.. المقطع الثاني

 شعوبٌ تحاربُ أحرارَها وتحاولُ جاهدةً أنْ تطوِّقَ أكرمَ مَن أنجبتْ وأعزَّ الذينَ أتوا للوجودِ لكي يستقيمَ الوجودْ

  شعوبٌ تقيمُ الحدودَ على أنبل الناسِ: أهلِ الجباهِ التي نطقتْ بالكرامةِ وانتصرتْ للعدالةِ ، هي نفسُ الشعوبِ التي فتحتْ للمريضِ

 المُجنَّد صندوق موالِها كي يتسللَ تحرسُه الطائراتُ الذكيةُ عبرَ الحدودْ

 شعوبٌ اقاماتُها الذهبيةُ عندَ السلاطينِ عهرٌ وقد مرَّ دهرٌ عليها وسالَ بِهِ الدمُ انهارَ حمراءَ: هذا دمُ الأبرياءِ ومَن رفضوا أنْ يُباحَ دمُ الأبرياءْ

.. شعوبٌ سيأتي اليها المجنَّدُ في جنحِ ليلٍ بَهيمٍ ليركبَ بَغلتَهُ ويقودْ 

 شعوبٌ يكرِّمُ قادتُها الجبناءَ لكي يضمنوا في القيادةِ جيلاً جديداً مِن الجبناءْ

***

المقطع الثالث

 شعوبٌ تحاربُ أحرارَها ثمَّ تسعى تزوِّرُ أفكارَها كي تزوِّرَ أرواحَها ثمَّ تضحكُ مِن نفسِها وهيَ تلعبُ واهمةً لعبةَ الأذكياءِ الذين تذاكوا ليخسرَ أبناءَهم وطناً وكرامةَ شعبٍ سيأمرُهُ الآمرونَ الأوامرَ: كيفَ يقومُ ويقعدُ ، كيفَ يفكِّرُ ، في أيِّ وقتٍ ينامْ

انظروا مهرجانَ الجنوبِ وكيفَ الحشودُ أتتْ والنجومُ تباركُها شهُباً ونيازكَ كي تتخطى أثيرَ السماواتِ انشودةُ الشهداءِ ويهدلَ في الجوِّ والنوِّ سربُ اليمامْ

  طائراتُ الجبانِ تعودُ بِخيبتِها بينما الراسخونَ أتوا عابرينَ البحارَ لكي يهدرَ الحقُّ للحقِّ انَّ دمَ الشهداءِ ألواحُ نورٍ سينبضُ حتى تعانقَ افئدةُ الشعراءِ لغاتِ السماءِ ويهدرُ في مهجةِ الكونِ أبهى الكلامْ

 شهداءٌ وأعداؤهمْ خاسرونَ وكانتْ ريالاتُهم بَدداً ودراهمُهم زبداً بينما الشهداءُ همُ الماكثونْ

***

شعر: كريم الأسدي ..

موعودة بالجنون في كلّ الفصول انت

هكذا أخبرني "عمّار " استاذي الحبيب

زرع في دمي قلما ...وقال: تصعلكي....

ومضيت ...ولم يمض...

*

موعودة بالجنون في كلّ الفصول.. انت

قالت امّي . ومضت إلى شَعْري... تسجنه

غير انّي كلّما فتحت الباب

أطلقت ساقيه للرّيح ....

وتنفّست تنفّست ......

*

موعودة بالجنون في كلّ الفصول...انت

قالها ابي..

ومن روايات "اميل زولا ".. و"شارلوت برونتي"

صنع لي اجنحة.. وسرّا همس لي... وقال

حلّقي...

طيري............

*

موعودان بالجنون في كلّ الفصول...نحن

قلتَ...

وقلتَ

تعالي.. ننهي آخر فصول الجنون...

ونبدأ فصلنا... الخامس....

***

حياة بن تمنصورت

مجموعة شعراء

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(إن تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو ليست مجرد تجربة شعرية، بل محاولة نظرية وتطبيقية لاستكشاف أعماق الأحلام وإعادة تشكيلها بأسلوب فني راق. إنها خطوة نحو تطوير الهايكو ليصبح أكثر شمولية، مع الحفاظ على بساطته وقوته. وهي دعوة لشعراء الهايكو للكتابة بهذه التقنية – عباس محمد عمارة)

***

(1) – خورخيه لويس بورخيس / الأرجنتين

أهذا هو أم لا

الحلم الذي نسيته

قبل طلوع الفجر ؟

***

(2) – يوجيما أونتسورا / اليابان

الأحلام العقيمة، وا أسفاه

تهمس الرياح وهي تمر

فوق الحقول الجدباء

***

(3) – جيلينا كوكس / ترينيداد وتوباغو

أحلامي

في مهب الريح

الهندباء

***

(4) - ديانا تينيفا / بلغاريا

خاتمة الخريف...

أنحتك مجددا

في حلمي

***

(5) – تشن شياو / الصين

السبات الشتوي

أحلام الغرير

في باكورة الربيع

***

(6) – بريسيلا ليجنوري / الولايات المتحدة الأمريكية

إعداد فطيرة التفاح من أجل عيد الميلاد

أمد العجينة كما ينبغي

لتستوعب أحلام الجميع

***

(7) – كريستوفر كالفين / إندونيسيا

صفحات ممزقة

من دفتر مذكرات قديمة

أحلام طواها النسيان

***

(8) – بات بوران / كرواتيا

حلم

عصفور

الصباح

***

(9) – مارسيلين دالير بومونت / بلجيكا

تناول النبيذ بمفردي

تبدو البقع على المائدة

كأنها أضغاث أحلام

***

(10) – أناتولي كودريافيتسكي / ايرلندا

أحلام الحلازين

داخل القوقعة

الخالية

***

(11) – فوكودا تشيو – ني / اليابان

الهندباء البرية

توقف حلم الفراشة

بين الفينة والفينة

*

جزء من حلم

فراشة

وسط الزهور البرية

***

(12) – مارك جيلبرت / المملكة المتحدة

الأحلام

بالأبيض والأسود

و الرمادي

***

(13) – مادلين كافاناغ / الولايات المتحدة الأمريكية

حلمت بالرقص

بين الأشجار

شرنقة صغيرة

***

(14) – رافي كيران / الهند

غبار الفراشة

الذي تبقى

من أحلام الأمس

***

(15) – دانييلا ميسو / إيطاليا

بلا أحلام...

طائرة ورقية معلقة

في السماء الزرقاء

***

..........................

- مترجمة عن الأنكليزية.

إلى الراحل الكبير

 الدكتور ريكان ابراهيم

***

كيفَ لقدميك المتوهّجتين

أن تنطفئا تحت أسرّة المستشفيات

مثل عصفورين جردتهما المَهاجر من منقاريهما

لتعوضهما المدن القاسية بجوازي سفر

أنا لا أعرف عنوان شقّتك في الجنة

لأرسل إليكَ لصّاً محترفاً

يسرق لي منها ما يُذكّرني بك

ولا أعرف بريدك هناك

لأرسل إليك يدي اليمنى تصافحكَ

ثمّ تعود إليّ منكَ بسلّة من الإبتسامات

لقد أتعبني انتظارك

فتركتُ لكَ نوافذ بيتي وأبوابه مشرعة

لكنّ القطط السائبة تسللت منها

واتخذت من بطون القدور مهوداً لصغارها

بل صارت تُدخّن السكائر

وتمشي في الأروقة بخيلاء

وهي تلبس ما في خزانتي من أربطة العنق

**

أنا واثق أنكَ الآن تتأرجح على كرسيّكَ الهزّاز

وتشرب قهوتكَ المعطّرة بقصائدَ من نور

من دون أن تُذعن للطارقين على باب عيادتك ببغداد

وهم يحملون النهرَ على أكتافهم

ويتوسلونكَ علاجَهُ من الهُزال

إذ لم تبقَ منه على الضفتين سوى العظام

**

سأنتظركَ كالنسر اليتيم على مدرج المطار

حيث يأتي الملائكة لشراء السِلع الممنوعة في الأعلى

سأنتظركَ، وبيديّ صورة أستاذك فرويد

بنظرته التي ثقبت في زجاج الصورة ثقبين

وأطلقت منهما عمودي شرر ودخان

كان بودّهِ أن يكون معي بانتظاركَ

لتُضرما معاً نيرانكما بمن تبقّى من العقلاء

لكنه اعتذر عن الحضور

لانشغاله بعلاج الموتى من قلة النوم

**

سأسمح للمصابيح أن تنالَ قسطاً من النوم

فأنتَ لن تعود

خوفاً من أن تطأ قدماكَ الأرضَ المجنونة

فتُعدَيا منها بالجنون

***

شعر: ليث الصندوق

في نصوص اليوم