نصوص أدبية

نصوص أدبية

الى الطبيب العراقي في غزة

***

نَبْعُ الاصالةِ حين يُورقُ غصنُه

تسْــتَــبْـشِــرُ الآمـالُ والاحــلامُ

*

والعـبقــريـةُ إنْ تَــفَـعّـلَ دَوْرُها

فــي الخـير تَسْمو بطِيبِها الأيامُ

*

عَبَقُ الشهامة والعلوم له صَدىً

دومـا بــه الاخلاقُ ليس تُـضامُ

*

(محمدُ ابن الطاهر) الرّمْزالذي

به صَوْبَ توْحِـيد الخُطى إقْـدامُ

*

عَــــزْمٌ وإصرارٌ ، بِـنِيّةِ مؤمنٍ

أن يـُهْـجَـرَ التفريـقُ والاوهـامُ

*

سَــعُـدَ التألقُ، في نقاء مسارِه

ولكـل طِـيـِـبٍ، نَــفْحـَـةٌ ومَقامُ

*

(فرِّق تَسُـد) حَطّمْتَ كلَّ حُروفِه

وبـخــطوة التــوحيد سادَ سَلامُ

*

دامت نواياكَ الأصيلة، رِفْدُها

مِـن مَنْبع الطهْر الأصيل يُـقامُ

*

في غزّة، الإقدامُ عزمُك مُشرِقٌ

عَــزْمٌ، بصِدْقهِ يفخرُ الإعلامُ

*

الخُــلدُ، بَصْمَـتُه لكــل مواقـفٍ

فــيـهــا الــنقـاءُ، يَـمُده الإلهامُ

***

(وزن الكامل)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

فِي شدّةِ الأَلَمِ هاجمتنا السُّهوبُ

ضَاقَتْ خيولنا الظمأ الآتي شرقًا

كيف وقد اِلتأم صبرنا غربًا

تساءلنا عن ذَعْرٍ: هل بُتِّكَتْ أيادينا أم قُطِّعتْ؟

صاحَ جرسُ العبورِ يدوي عجلاً:

جواز السفر، تذاكر الذهابِ، متى الإياب؟

هنا أرضي، زرعي، سمكي

وها هي ذي سلعي

هذا صوتُ بحرِي

يحكي أنين الأهل والأحبابِ.

أين هاتيكَ (المَضْربةُ) إذ تُنادي في الأفق:

من الشاري؟

أسعاري ما عادتْ للتخفيضِ

ما قصة التجديدِ؟

هنا موطنُ الغُزاةِ

سلبوا أحشائي على السَّفحِ البئيسِ

اشتد عليّ ألم الحمّالاتِ

ها خمورٌ ما عادتْ تُسكرُ،

عطورٌ، ملابسٌ، أغطيةٌ

أهي المدينةُ تتأفّفُ حنانَا

مخاطبةً الرغباتِ واللّذاتِ افْتِتَانَا

ألم تكن على وجه العجلِ،

تجرِي بالذوقِ المتغافلِ

تتلصّصُ عيبَ الكبتِ.

*

وفي الدواخلِ تئنُ آهاتي، تقولْ:

(هذا سمكي الطّريِّ

يُشْوَى دخانا على حجارة،

يحترق شحما، يُرمى لحما

يهيم نَفْسًا، يبكي دمعًا...)

ها تحيةٌ تُنادي جُفونَ الواقفِينَ سلامَا

تُكلِّمُ أبواب الحاناتِ، تقارع الجالسين ندامَا

أين مني ساحة البريدِ الخضراءِ المتلألأهْ

وقتَ ابتسامةِ نَافُورَتِهَا الضاحكهْ

إذ تُخاطب الورود الموسميهْ

نغماتٍ قُزاحيهْ

ها هو ذا الرجلُ العسكريُ

يحتفلُ، يغازلُ شَدْوَ الآلةِ النحاسيهْ

وها هي ذي مُهجتي الأندلسيهْ

تتألقُ برموشِهَا الكهرمانيهْ

فستانًا أحمرَ وَوردهْ

تسريحة شعرٍ وَمروحهْ

وقتَ مغازلةِ عازفِ القيثارهْ

أنينَ نغماتِ الدُّجى في استعارهْ

كيف وقد راقص الحظ السعيدَ في انكسارهْ

إبان ختامِ النشوةِ، وقتَ طلوع الفجرِ

غداة اشتكى الوجدُ آهاتٍ حلوهْ

تَسمُو كالفراشةِ العنقاءِ إذ تجوسُ حقولَنا، تقولُ:

ما بقيَ للقلبِ مكانٌ يَسعُ الزِّحامْ

آهٍ أيها العابرونَ على جسدي

ما تقولونْ؟

إنَّا أخرجنا أوراقنا، أخذوا منا أمتعتنا

ها سَبْتَتُنَا تدافعُ عنا، تهاجمُ اللُّصُّوصَ

وطرا، نَحْبا، عُمْرا

تُسافر بالتاريخِ، بالأمجاد، بالبطولاتِ

فداء للزرعِ

فداء للإنسانِ

فداء للأرضِ.

*

من نحن يا هل ترى؟

نحن بنو الإنسانْ

من صلصالٍ كالفخارْ

من عرقٍ وطينٍ كالمِعْمَارْ

سَبْتَتُنَا تتحدثُ أنداءً

في ليالٍ صيفيهْ

ها أهازيجٌ واحتفالاتٌ دينيهْ

لروحِ مريم المجدليهْ

حملوا التجسيدَ المُتَزَعْزِعَ شموعًا

على الآلةِ الحَدْباءِ تقليدًا

مثنى وثلاث ورباعْ

تتعالى مواكبُ البخورِ بكاءً

تتعالى أصداءُ الكمنجاتِ حُزنًا

تقتفي أثرًا، تُمْسِي ربيعًا، تُصلي خريفًا

إيمانا، احتسابا، إجلالاً

للروحِ القُدُسِ، لتصليبِ المسيحِ، لخشوعِ القُدّاسِ

سبتةُ عروسٌ فداها شرفٌ

سبتةُ امرأةٌ مغربيةٌ فداها عزٌ

فسَلوا تاريخَكم، شرفكم، كرامتكم؟

فسلوا خَمائِلكم عن مُروجِ أزهاركم؟

فِي سَبْتَتِنا تسهرُ نجومنا

في سَبْتَتِنا يتغنى ليلنا

في سَبْتَتِنَا يُصلي بدرنا

من نفحِ الطيبِ

من نسيمِ المِسْكِ

من معدنِ العنبرِ.

***

بقلم: د. محمد الشاوي

في قلب البصرة، حيث تحتضن البساتين العامرة؛ تنتصب النخلة العظيمة المعطاء، التي لا تنافسها أي شجرة أخرى بسخائها وطيبتها، تلك العمة الحنون التي لا تبخل بثمرها، مهما قوبلت بالجحود والشقاوة. صامدة، باسقة، تمنح بلا حساب، تُرمى بالحجارة، وتُضرب بالعصي، فتقابل الأذى بفيض عطائها، وكأنها أم رؤوم، تسامح أبناءها الأشقياء وتظل تحنو عليهم، تعلمهم درسًا عميقًا في العطاء والتسامح، مُدركة أنها ستظل تطعمهم وتظلّلهم وترعاهم حتى يصيروا رجالًا حكماء، يحملون في قلوبهم صدى حنانها وصبرها.
في ظهيرة يومٍ من أيام مارس، حيث الشمس تذوب في الأزقة، وحيث تنتهي المدارس، كان طلال، الفتى ذو الثانية عشرة، يعود إلى البيت المزدحم بإخوته وأبناء خالته. لم يكن بينهم فرقٌ او تنافس عدائي، كانوا كأنهم فروعٌ من شجرة واحدة، يلهون، يتآزرون، يقتسمون الضحكات ومغامرات الشقاوة كما لو كانت جزءًا من نسيج طفولتهم الذي لا يعرف الملل.
ذلك اليوم، وبينما هم يلتهمون الغداء بنهم الطفولة ومقالب المزاح، مال طلال على رفاقه هامسًا بحذر، متلفتًا خشية أن تسمعهم آذان الكبار، وعلى رأسهم والده، الذي كانت خيزرانه المجعدة تثير فيهم هيبةً لا تُقاوم:
ـ اليوم سنتسلق أعلى نخلة في البستان، التي على أطراف البستان، إنها مليئة بالطلع.
بسرعة ودراية، وزّع الأدوار كما يليق بالعقل المدبر بينهم:
ـ سأكون المتسلق، أحمد يراقب مدخل البستان تحسبًا لقدوم البستاني، أما علي فسيقف أسفل النخلة لجمع أكواز الطلع التي سأرميها.
وهكذا، انطلقت المغامرة تحت ظلال القيلولة، حين يكون الجميع غارقين في نعاس الظهيرة، وكان البستان ممتدًا في صمتٍ لا يقطعه سوى حفيف النخيل. تسلّق طلال النخلة كما لو أنه وُلد بين أغصانها، يطوّع جذعها الصلب كأنه جزء من كيانه، يمد يده بثقةٍ لانتزاع أكواز الطلع، لكن فجأة... دوّى الصفير من بعيد، إنه إنذار ابن خالته الحارس!
تسارعت دقات قلبه، علم أن البستاني قادم، أراد النزول، لكن الرجل كان أسرع مما توقع. صوته الجهوري اخترق السكون كالسوط:
ـ أيها اللص الصغير!
لوح برمي حجارة نحوه، فزغ طلال، لم يجد ملاذًا إلا السعفات المنتصبة في قلب النخلة. تشبّث بها بقوة، مرتجفًا، متوسدًا اياها كما لو كان يحتضن خصر أمه، وهي الأخرى تلقي عليه أذرعها سعفًا أخضرًا، يلهث بشدة، يكاد يسمع دقات قلبه وهي تضرب جذعها. كأنها شعرت برعبه، همست له بصوتٍ لا تسمعه إلا روحه:
ـ لا تخف يا بني، ابقَ بجانبي، سأحميك، رغم أنك استعجلت قطف ما كان يمكن أن أقدمه لك حين يحين أوانه، أيها الشقي الصغير.
ثم أسبلت عليه سعفها برقةٍ وحنان، تحجبه عن عيون البستاني، تحرسه من إبر سعفها الحادة، كأمّ تخشى أن تُخدش روح طفلها. كان بين أحضانها، يعلم أنها تحبه رغم سرقته اياها، ويعلم أنها ستظل هناك، تعطيه، تغفر له، وتنتظره حتى يكبر ويفهم، وقد يعود إليها لا كمتسلّق، بل كحارسٍ مُحب، يُجزل لها الرعاية، كما أجزلت له الحنان والعطاء يومًا.
ظلّ طلال مطمئنًا يحضن رأسها، مستندًا إليها كأنها درعه الحامي ـ
، بينما كان البستاني يواصل الصراخ، لكن طلال لم يأبه له، فقد أصبح في حماية العمة. همس إليها، كمن يبحث عن مخرج:
ـ وماذا بعد؟ كيف سأتخلص منه؟
جاءه صوتها دافئًا، هادئًا، يفيض حكمة:
ـ فقط كن هادئًا... وسيهدأ هو أيضًا.
وكأن كلماتها كانت تعويذة سحرية، فقد بدأ البستاني يغيّر نبرته، مستبدلًا تهديده برجاءٍ متحفظ:
ـ إذا لم تنزل، سأصعد إليك بنفسي.
ابتسم طلال بمكرٍ طفولي، وردّ بجرأة:
ـ ماذا؟ إذا صعدت إليّ، فسأرمي نفسي من الأعلى، وأقول إنك أنت من دفعني، ستكون أنت المسؤول عمّا سيحدث لي.
ارتبك البستاني، وصار يساومه متوسلًا:
ـ انزل يا بني، أحلف لك بكل المقدسات أني لن أؤذيك، سأدعك تذهب بسلام، أنت من أهل المحلة، واهلك ناسٌ محترمون، وأنت ولد مؤدب وذكي، أرجوك، انزل.
لكن طلال لم يكن ليسلم بسهولة:
ـ مستحيل أن أنزل وأنت في البستان، اذهب إلى بيتك أولًا، وحينها سأنزل.
وقع البستاني في حيرةٍ شديدة، فكر في الأمر، وإن كان ذهابه سيجعل الطفل في خطر! فقد يُحمَّل مسؤولية ما سيحدث له. عاد يتوسل إليه، ثم قال، في محاولةٍ يائسة لإغراء الصبي:
ـ اسمع، سأعطيك ما تريد من أكواز الطلع إن نزلت.
لكن طلال، وقد شمخ رأسه بنبرة تهديديةٍ حاسمة، قال بصرامةٍ توحي بالصدق:
ـ إذا لم تخرج الآن حالًا، فسأرمي بنفسي من النخلة.
ابتسمت النخلة في سرّها، وقد أعجبت بشجاعة ابنها وذكائه، بينما أصيب البستاني بالفزع، وبدأ يسبّ حظه العاثر، يلعن نفسه، ويشتم اليوم الذي ولد فيه، قبل أن يسرع خارجًا من البستان مذعورًا.
حينها، التفت طلال إلى جهة ابن خالته الحارس، وسأله بترقب:
ـ أين البستاني الآن؟
ـ قد خرج للتو.
ـ وإلى أين يتجه؟
ـ إنه يسير نحو بيته.
ـ هل دخل وأغلق الباب؟
ـ نعم، أراه الآن قد دخل بيته وأغلق الباب.
ابتسم طلال، ثم قال بحزم:
ـ راقبه جيدًا حتى أنزل.
حين تأكد من أمان النزول، ودّع طلال عمته النخلة، قبّل رأسها امتنانًا، وحمل في طيات ثوبه غنيمته من أكواز الطلع، نزل بزهو ثم انطلق مسرعًا نحو رفاقه، يقاسمهم فرحة الانتصار، متذوقًا لذة المغامرة مع حلاوة الطلع التي ستُحكى لسنوات طويلة.
**
سعاد الراعي

أو

سيرة ثلاثة قبور

قصّة كولدج:

***

السمفونيّة الأولى

لون بنفسجيّ1

منذ اشتريت قطعة الأرض تلك نظرت إلى نفسي ميتا.

كلّ اسبوع أمر عليها. أقف لحظات أو دقائق أو ساعة أتأمل المكان، وأسمع هدير السيارات. المكان رائع يقع في شارع النروبرو وسط مدينة كوبنهاغن، يحدّثني الدنماركيون أن الشارع لم يكن بمثل هذه الحيوية قبل ثلاثين عاما. من النادر أن ترى فيه أي أجنبيّ، أما الآن فقد انبعثت فيه الحركة والحياة بفضل العرب والقادمين من الشرق. على الرصيف الآخر انتشرت محلات الصاغة والأقمشة ومطاعم الشاورما والفلافل وأنا بطبعي أكره السكون والصمت، وأخاف منهما، أما يوم السبت فتمتد المناضد على طول الرصيف القريب إليّ من الصباح إلى ما بعد الساعة الثالثة ليبيع أصحابها مختلف البضاعة القديمة التي لا يرغبون فيها والحق إن ضوضاء الشارع جذبتني إليها ففكرت أن أجد فيه موطئ قدم هنا على الرصيف أيام السبت أو أكون أحد مالكي المحلات على الرصيف الآخر.

كنت أقف أمام قطعة الأرض تلك أتأمل الشواهد والأشجار وعند بعد قريب من الشارع المكتظ بالسيارات تتهادى إلي أصوات مختلطة لحركة تطرد عني الوحشة ن أما في الليل وحين يقفل الباب الواسع فلما تزل حركة ما وأنوار كثيفة تتسلل من السياج الذي يزيد ارتفاعه عن مترين بقليل.

 هذه المرة قطع علي تأملاتي بستاني المقبرة ذلك الرجل المرح العملاق الذي تعرفت عليه يوم اشتريت قطعة الأرض تلك عشرة ألاف كرونه مبلغ ليس بالقليل لكن ذلك أفضل من أن تدفنني البلدية على نفقتها الخاصة في أي مكان تشاء ثم إنني سوف أدفن هنا وسط المدينة حيث الضجة والأنوار فلا أشعر بالعدم يأكلني.

أنت من المحظوظين فلم تعد هنا من أراضي للبيع بعد هنا في مقبرة اسستانت كركه كورد.

قال عبارته، وقبل أن ينصرف إلى عمله مددت يدي إلى جيبي ونقدته بعض الكرونات وأنا أقولك

فعلا تستطيع أن تبتاع بعض الورود لتزرعها حول القبر وأضفت تذكر أني أحب اللون البنفسجي!

***

السيرة الأولى

القبر الأوّل

عام 1986 عملت في الدنمارك

وقتها ظننت ألّا عودة لي إلى بلدي.

اكتسبت جنسية البلد، وعملت جامع قمامة.. سكنت في نرروبرو قريبا من مقبرة اسستانت كيركه كورد، الحقيقة جمع القمامة ليست شغلتي الأصليّة، فأنا من قبل احترفت مهمة الطبخ واشتغلت في مطاعم عديدة في بلدي، وأتقنت الطعام الغربي الحديث برغر كوتليت، بفتيك... ولم أكن من قبل مع عملي أهتمّ بالحياة والموت وأرسم حياتي تحت الأرض لكنّي بدأت أفكر بالحياة والموت مع عملي الجديد، لعلّه يبدو من الأعمال الساذجة أو الوضيعة، أحيانا أراه مقرفا وأعدّه عملا مؤقتا أهجره حالما أحصل على عمل جديد. وأقرف أكثر إذا تذكّرت أن بيوت الدنماركيين في شارع نيروبرو وسط العاصمة لم تكن بها حمامات إلى عام 1945 فكان ساكن البيت يعملها ثمّ يلفها بكيس ويرميها من الشباك لتهوي على الرصيف.

هكذا حدّثوتي عن حياتهم السابقة القريبة ليلمزوا حسب ظنّي إلى مجتمع الرفاهية الذي يفتخرون به الآن.

أحمد الله على أنّي حصلت على هذه الوظيفة عام 1986 ومن محاسنها على الرّغم من قرفها الظاهر أنّها علمتني أن أفكّر بالموت والقبر.

يمكن أن يكون ذلك حدث فجأة

ويمكن أن تكون المفاجأة فيه أقرب إلى الواقع.

هكذا هي الحياة كلّ شئ يصبح نفاية والأرض نفسها تبدو أكبر مقبرة في الكون. الأفكار السابقة شخصت لي واضحة بعد ليلة عيد الميلاد... يوم أبصرت ثلاثة أصابع مشوّهة في حاوية الأزبال التي تقابل مخزن فوتكس.

أصابع..

ثلاثة... مشوّهة

تجثم أمام عينيّ والدهشة تلعب بخاطري في أن لعبة رأس السنة قطعت أصابع صبيّ وألعابا أخرى سببت حرائق وأذى للآخرين.

قلت مع نفسي: مستقبلي هنا ولست أدري متى أموت. مازلت شابّا غير أن القدر لا يعرف سنّا، ومادت أعمل فبإمكاني أن أشتري قبرا، فلو متّ في شقّتي الصغيرة وحيدا مثل مغترب مات بجلطة، وبقيت جثته داخل الشقًّة ثلاثة أيّام حتى افتقده بعض أصدقائه فاتصلوا بالشركة التي كسرت الباب فوجودوه جالسا على كرسيّ وأمامه فنجان قهوة.

يذكرون أنّ جثّته لم تتعفّن.

أمّا أنا فعلاقاتي قليلة.

كان الزمن غير هذا الزمن.

بلون آخر..

عام 1979 1981

يمكن أم تصل إلى أوروبا بيسر وسهولة. لا أحد يسألك عن تأشيرة الدخول، تختار خطوط النقل التي تعجبك.. في المطار يمنحونك.. الفيزا

اللجوء.. يستقبلك

عالم جديد

وتحصل على عمل يغنيك

جامع قمامة

تغسل الصحون

تعمل في المجاري

تصبغ الجدران

هو الزمن الجميل

إما إذا مت في شقتك فقد تتعفن.. أقول قد...

ولأني التفت إلى قضية الموت أخيرا، فقد تجوّلت في مقبرة أسسستانت كيركه غورد، وتحدثت مع الحارس.. الرجل الطيب الذي يعتني بقبور من ماتوا وقبور من سوف يموتون.. يقول أن هناك بضعة قبور.. ثلاثة أو أربعة، وما عليّ إلّا أن أتعجّل، فالأسعار تزداد في المستقبل:

سألته:

هل لك قبر هنا؟

أجاب بهزّة من رأسه:

لا؟

راودني فضول مضاعف:

في مكان آخر؟

فمط شفتيه، وهزّ كتفيه:

لم أقرر بعد أين أكون!

اقتنعت بجوابه، وتبعته وهو يقودني إلى الأماكن الباقية الخاوية من الجثث، فوقع اختياري على قطعة أرض عند زاوية المقبرة الخلفية:

- هنا

فقال باهتمام:

عليك إذن أن تذهب لمكتب البلدية لتدفع أجر القبر وتعجّل قبل أن يحتلّه أحد غيرك.

فهززت رأسي وقلت:

سأفعل ذلك غدا

زنت أحلم بالبنفسج يحيط قبري.

***

السمفونيّة الثانية

نبتة الحوذان2

في مدينة ما

صحا الناس ذات يوم

ليجدوا أن شواهد القبور

غيرت اماكنها

لتختار أية شاهدة القبر الذي تهواه

عندئذ

قالوا

ربما هو الضجر الخفي دفعها لذلك!

***

السيرة الثانية

القبر الثاني

السمفونيّة الثانية

نبتة الخوذان البرّية2

كنت أقف وحدي هذه المرّة

مكان منعزل في BULWELL

قطعة صغيرة على حجمي

الطول

العرض

القطعة التي تضمّ رفاتي تحمل الرقم K2

لا سيارات، ولا وسائط نقل تمرّ قرب المقبرة سوى السيارات الخاصّة التي يقودها الزّائرون ممن تربطهم علاقة قربى بالموتى.

للمكان رهبة، ولا زهور تحفّ القبور سوى حزمة عند رأس الميت أو مزهريّة صغيرة يضعها الزائر أسفل الشّاهدة.

هناك نباتات برّيّة تنغرز في قبري

حشيش

ونبتة ذات وردة ذهبيّة

وأجمة صغيرة ذات أشواك.

أحمل معي آلة تصوير، التقط صورة للحشائش والنبتة الصفراء، هؤلاء ضيوفي.. للموضع صورة، ، وآمل أن يمرّ أحد لكي أطلب منه أن يلتقط لي صورة عند القبر. تدفعني رغبة حقّا لمعرفة أسماء النباتات التي تحتلّ تربة قيري. الحشيش أعرفه. بقيت النبة الصفراء، ونبتة أخرى ذات أشواك حتّى لو اقتلعتها فإنّها ستعود للظهور بعد فترة قصيرة مثل محارب قديم يغور في الخندق يرتاح ثمّ يطلّ برأسه.

قد أفكّر يوما أن أعرف اسم تلك النبتة

فأراجع القواميس اللغويّة فتقع عيناي على صورتها في قاموس ضخم

وردة الحوذان تجثم على قبري.. ستموت فوق صدري تماما، كلما جذبتها انقطعت فيبقي جذرها في الأرض. الاسم لا يعني لي شيئا. حوذان.. لا أعرفه من قبل أراها في كلّ مكان

لا أقتلعها..

أحبّ ضيافتها....

تتقابلها الشاخصة فيما بعد:

في وقفتي هذه أحلم بفكرة سخيفة تتلاعب مع الموت:

السعي إلى باطن الأرض إذ

لم يكن وصولي إلى بريطانيا عام 1999بالأمر الصعب. إجازتي السنوية أسبوعان.. وجدت في الإعلانات رحلة رخيصة إلى نوتنغهام... وفيها تسمّرت قدماي بالأرض

قلت لا عودة إلى الدنمارك

سحرتني المدينة القديمة، وقلعة روبن هود، والشوارع القديمة الضيقة، تطلّعت في محل غريب الاسم، SLUG&SLAG

كانت هناك لوحة تعلن عن حاجة المحل إلى عامل.، فتجرأت ودخلت، وبمرور الأيام نسيت القرف والقمامة.. لم تعد الدنمارك تخطر ببالي سوى الملامح الجميلة..

البحيرات..

القبّة السماويّة.

حوريّة البحر...

وتجاهلت القبر في مقبرة أسستانت كيركه كورد..

لم أعد بحاجة إليه.. كنت أضحك وأنا أمارس مهنتي بنشاط كلّ يوم.. العمل الروتيني الذي أحبّه.. كوتليت.. بفتيك. . برغر... بتزا أيضا.. أضحك أنّي اشتريت قبرا في الدنمارك لا أسكن فيه.. أبتسم وأردد مع نفسي: الحياة هنا أكثر حيويّة، واللغة، والناس.. ليس من المعقول أن أرجع.. وها هو الزمن يمرّ، فلم لا أجرّب القبر ثانية..

ألحّت عليّ الفكرة، فقصدت مبنى البلديّة، وقفت عند الدّكّة أواجه موظف الاستعلامات:

- بمن أتصل ياسيدي كي أشتري قبرا؟

تطلّع في ملامحي:

-  هل أنت مسلم؟

- نعم.

بحث في الهارد دسك أمامه، واستنسح ورقة قدّمها لي، قال بلطف:

- لديك عناونين وهواتف أربع مراكز إسلامية هنا في نوتنغهام، وأسماء المعنيين في هذه المراكز بالقبور، اتصل بأيّ مركز ترغب.

وظهر أنّ اجراءات شراء قبر في بريطانيا أكثر تعقيدا منها في الدنمارك!

سبابتي تركتُها للمصادفة وحدها فوقع إصبعي على اسم السيد أسرار.. أسفل الورقة..

هذا ماكنت أفعله في المدرسة. أختار المكان الأخير فالصفوف الأولى أراها تحت بصر المعلم. غالبا ما يسأل من يجلسون في الصف الأول ومن لا يعرف يكون هدفا لعصاه التي يشير بها إلى ما يكتب على اللوحة ويهوي بها على راحات الأيدي.

السيد أسرار عضو الرابطة تكفّل بالقبور، أخذتي إلى رقعة داخل مقبرة كبيرة. مساحة تسع مائة قبر.. أشار إلى قبر في شمال المقبرة، وقال هذا قير والد زوجتي، المكان في أطراف المدينة، هناك صمت مطبق لا يشبه صمت مقبرة كوبنهاغن الذي يهبط في الليل، ولا صمت المقاعد الأخيرة وأمانها من عصا المعلّم في المدرسة الابتدائيّة..

حين عبرنا قطعة ال 100 قبر إلى الشمال وقع بصري على المقبرة الكبيرة، وشواخص القبور، وسنديانات الورد أسفل كلّ شاهدة. وقف السيد أسرار، وقال:

- هذه هي مقيرة المسيحيين، وقد أعطونا مساحة تكفي لمائة قبر.. أخرج ورقة من جيبه، دوّن عليها رقما واسما وأضاف: سعر القبور يزداد، وأنصحك أن تشتري الآن. اتصل بالسدة ليز وحدد معها موعدا لتزودك بكل المعلومات وطريقة الدفع.

وكنت بعد هذا اللقاء اسعى للقاء السيدة ليز... عبرت إليها شارع ليف برة، ومع الاستدارة، انحرفت إلى اليسار فاجتزت الممر الواسع، وبدا لي أن هناك طريقا يمتدّ إلى الأمام، وآخر يتفرّع منه. شواهد أسفلها ورد، وصلبان، ولوحة تشير إلى مكان فرقة الإنشاد والمحرقة.

وفقت أمام باب الإدارة..

ضغطت على الرز...

فظهرت بعد لحظات السيدة ليز.. أنيقة في الستين من عمرها ممتلئة الجسد، متوسطة الطول ذات شعر أسود مجعّد. استقبلتني بابتسامة باهتة أو هكذا خلتها.. باهتة لأنّها تلوح من شفتين يبتسمان على بعد خطوات من القبور..

اقتادتني عبر ممر إلى المكتب لأخرج بعدئذ منها وأنا أملك مكانا أبقى فيه 99 عاما

قرن واحد فقط من تاريخ شرائي لا تاريخ موتي، لن أزرع جوانب القبر أو فوقه شأن قبور الدنمارك، أمّا الشاخصة فسيحفر عليها فنان الحفر على الصخر ما أرغب فيه بعد موتي!

عمري الآن خمسون عاما.. وستبقى الشاهدة في الخفاء ما دمت حيّا..

لو عشت 20 سنة فسأبقى في قبري الثاني 70 عاما

أفترض

ثمّ

بعد نصف قرن

قرن لا أعرف ماذا يفعلون بي

يلقون بآخر فوق رفاتي

أو

السيدة ليز تقول: لا نعرف أُذكِّرُكَ أن مبنى الدوار حيث هو الآن للتزلّج على الجليد كان مقبرة في الأساس.. قبل 99 عاما...

الرقم 99 في أوروبا يحتلّ القبور.. والسلع.. 99 بنس سعر علبة الشوكولاتة

6. 99 ربطة العنق

2. 99 سعر علبة المربى

الحذاء

السترة

ولدي أيضا رقم الأرضK2

أنا محظوظ جدّا سأبقى في مكاني تحت الأرض قرنا إلأ عاما أو بضع عام هذا إذا افترضت أنّي أموت في أقرب وقت.

***

السمفونيّة الثالثة

قارئة الشواهد3

لم تكن تحترف الفنجان من قبل...

كانت تصحب أيّ زبون إلى مقبرة المدينة تستعلم منه عن اسم امّه وعمره كما يفعل قارئ الفنجان أو الكف ثم تجعله يلمس بعض شواهد القبور فتخبره عمّا يخصّه من زمن ماكان وما يكون.

تدعي أن زمان الكفّ ولّى والفنجان أمّا مايخبرنا عن الماضي والمستقبل فهو شاهدة القبر وقد صدّقها كثيرون

أمّا قطعة الأرض الخاصة بي فمازالت تنتظر الشاخصة.

***

السيرة الثالثة

القبر الثالث

2003

يهمّني الرقم أعلاه كثيراً

فقد تمكّنت من زيارة أهلي أخيراً

بعد أن يئست

سمعت بسقوط بغداد

وبعد أن اشتريت قبرين

واحد لا أرغب في أن أدلف فيه

والآخر ينتظرني

أول ما فكرت أن أزور قبور اهلي والمدرسة الابتدائية لا تطلع في الصف والمقعد الاخير

ذهبت مع اخي الذي علمت منه ان المدرسة أصبحت جمعية خيرية فاصررت على رؤيتها بشكلها الجديد.

البوابة مغلقة، أمامها يقف حارس في الأربعين من عمره

قلت:

- أتعرف الفرق بين المدرسة والقبر؟

أجاب ضاحكا:

ا- لمدرسة تستقبلنا ونحن صغار، أما القبر فلا يهمّهبأيّ سنّ تكون.

قلت كلامك صحيح بعض الصحة لكن في الحقيقة المدرسة يمكن أن تخرج منها لكنك لا تغادر القبر

استهوته المقارنة، فعقّب:

- الغرب علّمك الفلسفة.

ثمّ

سرنا باتجاه المقبرة...

خيّل إليّ أنّ مدينتي كبرت بشكل مرعب، ولم أصدّق أنّ المقبرة نفسها اتسعت، وامتدّت بشكل يكاد لا ترى له العين نهاية، كنت قد زرتها قبل الهجرة. أودّع صديقا وقريبا، وقد وصلني نعي أبي وأمّي بعد هجرتي بسنوات... سرنا في العمق، وملنا عند مربّع كبيرا المساحة، توقف أخي، فطالعني وسط المربع قبران وشاخصتان

المرحوم....

المرحومة....

قال أخي، بنغمة ذات عمق حزين:

- اشترينا هذه المساحة لتخصّ العائلة

بدأنا نقرأ الفاتحة ولم أرفع عينيّ عن الشاخصتين، غير أنّي انزعجت من تشويه ظاهر أصاب قبر أبي، وكانت فطنة أخي تعقب دهشتي:

- القبر كان مبنيا من المرمر غير أن بعض اللصوص سطوا على المقبرة أيّام الحصار فاقتلعوه، وحين ماتت أمّي بنينا القبر بالطين.

وددت أن أظلّ بصمتي طويلا طويلا، ولم أصبر:

- ألا نعيد ترميمه من جديد؟

- الآن أصبحت المقابر أكثر أمانا في بالي ما تفكّر به وسأنفّذ فكرتي للقبرين يوما ما.

- آمل ألّا يطول الوقت!

واسترقتني نظرة خاطفة إلى بعض الزائرين الذين جاؤوا لموتاهم، فأبصرت سيدة تزيح شجرة عاقول عن قبر ثمّ تسكب سطلا من الماء عليه، فندمت لأنّي كدت أنسى قارئة الشواهد، فالتفتّ إلى أخي:

- هل تتذكّر قارئة الشواهد؟

فصعقته الدهشة:

- ما الذي ذكّرك بها؟ أووه ماتت من زمان.

- رحمها الله.

- مع الأسف لم أدعها لقراءة كفّي فتأخذني إلى إحدى الشواهد!

ردّ أخي مستنكرا:

- لو لم يكن للمكان هيبته لغرقت في الضحك!

في البيت بعد زيارة المقبرة أخذ الحديث طابعا آخر، وردت في ذهن أخي عدّة اقتراحات وجيهة وشاركته الرأي أختي التي تسكن مع زوجها على بعد خطوات من بيت أخي. لم ينسوا خلال الحديث فضلي في مساعدتهم زمن الحوار، لاسيما أنّي لم أكن أعيش على مساعدات البلديّة، وتوفّر لي مال كثير بعد أن عملت في نوتنغهام. اعتدت أن أحفظه في صندوق وديعة الوثائق في المصرف خشية من الضرائب والسراق الذين يداهمون البيوت، وتلخّصت الفكرة التي طرحها أخي في أن أفتتح مطعما في البلد.. مطعم على الكورنيش أقدّم في الأكلات الشرقيّة والغربيّة، مشروع مربح، مادامت نقودي حاضرة.

صفنت

فكرت

سرح بي الخيال قليلا لكنّ صوت أختي انتشلني من غيبوبتي الخفيفة:

- أليس هذا أفضل من أن تموت في الغربة وحدك أنت الآن في الخمسين إلحق نفسك.. إستقرّ وتزوّج... بدلا من أن تموت وحيدا...

ابتسمت ابتسامة باهتة فيها بعض البريق:

- لم تعد الغربة حقيقيّة، انتشر النت، والهواتف النقّالة.. يمكنني أن أعرف ما يجري في أيّة بقعة من العالم وكأنّني أعايش الأحداث، وأقدر أن أتصل بكم كلّ يوم أراكم وترتوني.

قال أخي:

- لن تخسر شيئا جرّب.

وردّت أختي:

- إذا لم يعجبك البلد تستطيع العودة إلى أوروبا.

لا أريد ان افرض نفسي على الاحداث سوى أنّي تركت للقدر نفسه بحلوه ومرّه أن يجري كما هو، كنت بحاجة للتأمّل وحدي، وتعجلت السّهرة أن تنفضّ من حولي سريعا حتّى أرقد على فراشي لأفكّر بالقبر الثالث، كلام أخي معقول، في حالة الدنمارك سعيت لشراء قبر بعد أن دفعتني إليه أصابع مقطوعة مشوّهة في حاوية أزبال، وفعلت الأمر نفسه في بريطانيا ظنّا منّي أنّ الوضع يظلّ كما هو عليه إلى الأبد، أمّا هنا في هذه المدينة التي تركتها قبل عقود فقد وجدت قبرا جاهزا ينتظرني:

المساحة نفسها

الطول

العرض

هو دعاني إليه

أفضّل أن يكون مكاني - إذا متّ - جنب أبي- بحكم كوني الأكبر-، أمّا أمّي فسترقد أختي جنبها، البنات والـأمّهات، وسرح بي الخيال بعيدا... بعيدا.. تساءلت هل كنا نجتمع ثانية لو أنّ أختي هاجرت إلى بلد، وأخي إلى بلد آخر، كيف تتوزّع القبور.

لكنّني

قبل كلّ شئ

وقبل أن أسرح في النوم:

اقتنعت بالفكرة.. قلت بصوت غير خافت:

- نعم لأجرّب لِمَ لا!

***

السمفونيّة الأخيرة

ثراء4

لأبي قبر في بغداد

أختي ماتت في كندا وأخي في سدني

أمي ترقد في كوبنهاغن

وأنا أدفن بعد مديد العمر بلندن

أيّ سحاب

يعبر أيّ بلاد يوما ما

سيصيب لنا قبرا

***

د. قصي الشيخ عسكر

....................

1- هي قصّة قصيرة ترجمتها إلى الإنكليزيّة ونشرتها في مجلّة Poetry الأمريكية وقد اخترتها مع قصة أخرى وشعر مقدمات سمفونيّة لهذه القصّة.

2 - من قصة لمحة لي منشورة

 3- قصّة لمحة لي منشورة

4- من شعر منشور في ديواني (الديوان الرشيق)

كالعادة، يمر صباحاً في الحي الهادئ

يحيي أشجار البلوط

وسياج الورد

وقطة خلف نافذة مطلة

‏صباح الخير، يقول لجوقة التلاميذ

يتفحص المنتظرين عند المحطة في أخر الشارع

الرجل المستعجل ذو الحذاء الرياضي

موظفة البنك ببدلتها السوداء

كلب الهسكي البني والسيدة البولندية

متقاعدة تحاول التنصل من عادة الذهاب الى العمل باكراً

مُدَخّنٌ أنيقٌ يقف جانباً

زوجان بحقيبة سفر واحدة يتحدثان عن بلد دافئ

والستيني النحيف، سائق الحافلة التي وصلت تواً

عبر موقف الدراجات الهوائية

يواصل المشي مطرقاً متأملاً حذائه الطبي المريح

المعطف الرمادي الذي يغطي أسفل ركبتيه

عصاه التي تَنكَأُ ممر المشاة

والأحجار المصفوفة بمهارة، تغريه بمواصلة الخطى

لا يجدُ بُدّاً من قليل الفضول

إذ يشير الى جهة العنوان الصحيحة

لمسنٍّ لم يُعرهُ اهتماماً ويواصل المشي الى الوجهة الخطأ

عرضهُ مساعدة عجوز يزيح الثلج من مدخل بيته

والذي يتجاهله تماماً

استعداده إعطاء دورس مجانية

دون أن يلقى استجابة من الأم

التي تبحث عنمن يساعد ابنتها

تقديم يورو وأربعين سنتاً ليافع انصرف مسرعاً

لم يجد في جيبه عملات معدنية

لشراء بسكويت من ماكنة البيع الآلي، لم يره أصلاً

إبراز بطاقة النقل الشهرية لمفتش التذاكر

الذي تخطاه متجاهلاً في قطار الأنفاق

أو تنبيه راكبة منشغلة بهاتفها الخلوي

ستفوِّت محطتها، لن ترد عليه

أيها الشبح الذي لا يُرى ولا يُسمع

دع قمراً يطير من صدرك دائماً

عِشْ أغنياتك

فأنت من ترك الصالة مضاءة بعد العشاء الأخير

عُد الى مثواك في مقبرة الحي الأنيقة

‏اكنس الأوراق المتساقطة التي تغطي اسمك

لا بأس إن لم تجد باقةً أو شمعةً

لا بأس، فقد عشت مهمشاً مغموراً

وسعيداً هادئاً كما الآن

غداً ستقوم بجولة أخرى

وستصرُّ على أنك حيٌّ متحركٌ

يبذل عطاؤه اللا مرئي

‏لطالما قلتَ لنفسك:

يوماً ما لن تفتقدني المدينة

وجوهها، شوارعها، منتدياتها

سأُبعِدُ المظلة وأترك المطر يُكملُ المعنى

نكتشف كل شيء عن حياتنا في اللحظة الأخيرة

من الصدع يدخل الضوء

من الإغماضة تنبثق الرؤى

الى صدري يعود سرب الكراكي

تتدلى نباتات الشرفة

يبدأ اللحن

على الضباب أفتح النافذة

أضع قلبي على راحتيَّ

واستشرف البدايات الجديدة

***

فارس مطر

 

عمى البصيرةِ إنْ يَغشى لهُ سببُ

للهِ فـيهِ مـع الـطـاغـيـنَ مُـنـقَـلـبُ

*

يرونَ وهو العمى الاحوالَ صالحةً

كما أرادوا وطـوعًا مـثـلما طلـبوا

*

وكمْ تردّى من الطاغينَ في عملٍ

أنّ الـنجاحَ بهِ والـحـالُ يـنـقـلِـبُ

*

عـمى البصيرةِ مـكرُ اللهِ يُـنزِلُهُ

على الطُغاةِ وفـيهِ يـنـتهي الاربُ

*

ظنَّ الـبُـغاةُ بـنو صهـيونَ أنّـهُمُ

فوقَ الـمقاديرِ والاقـدارِ قد رَكِـبوا

*

وأنّـها طوعُ أيـديهمْ غَـدَتْ سِـننٌ

للهِ قـد سـنّها وهــمًا لــهُ جـلـبـوا*

*

فأسـرفوا وبـذا كانت عِمايَتُـهُمْ

ومِنْ سُلافةِ أهـواءٍ لـهُمْ شَـرِبـوا

*

فحالفوا الجِبتَ والطاغوتُ رائدُهُمْ

ما بينَ شـطريْهما للخـسّةِ احـتلبوا

*

للهِ سُــبـحانَهُ أمـرٌ إذا طُـمِـسَـتْ

فيهِ الـبصائرُ تَغريرٌ بـهِ الـعطبُ

*

قدْ آلَ حـقدُ بني صهيونَ غطرسةً

كحاطبِ الليلِ لا يـدرون ما حَطـبوا

*

تـبـقى جرائمُهُمْ تحكي هزائمَهُمْ

والامرُ جاءَ وفيه الويلُ والحَرَبُ

*

والحَينُ حانَ وهذا الوعدُ أكّدَهُ

ربُّ العـبادِ بخِـزيٍّ أيـنما ذهـبوا

*

لا شيء أكبرُ عند الله لو علموا

مِن الكـبائرِ قتلَ النفسِ ما ارتكبوا

*

وزرًا على وزرٍ اعمالٍ لهم سَلَفتْ

واللهُ يـشـهـدُ أنَّ الـحـقَ يُـسـتـلـبُ

*

بـعـالمٍ لـم تعُـدْ للخـيرِ وجـهـتُهُ

شـريعةُ الغابِ ما زالتْ ولا عَجبُ

*

وأنَّ عـالـمـنا يـجـري بـمُـنحَـدرٍ

وقــادةً فـيهِ أوبـاشٌ هُـمُ الـسـبـبُ

*

أرى مـفـاتنَ دنيانا غدتْ فِـتـنًا

ولُـعـبةَ الساسةِ الإرهابُ إنْ لعـبوا

*

وأصبح القتلُ والارهابُ ديدنهمْ

ولا معـايـيـرُ للأخلاقِ فارتكـبـوا

*

ما لا يُقاسُ ويأبى الله ما فعلوا

وهـو الفـسادُ وهذا الوعـدُ يقـتربُ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

الثلاثاء في 25 شباط 2025

........................

* جلبوا: أي اجتمعوا

** الاوباش: السفلة من الناس

لو كان بيدي، لمددت أصابعي عبر مسامات الوقت،

وجمّدت اللحظات التي تسربت كالماء من بين راحتي،

كنتُ سأبني للحنين سدودًا،

وأجعل الذكريات تنحني لي، كسنابل مثقلة بالأمس.

*

لو كان بيدي، لجمعت نجوم الليل في راحتي،

ونثرتها فوق رؤوس العابرين بلا مأوى،

كنتُ سأعيد ترتيب هذا العالم،

بحجم القلب لا بحجم الحدود،

وأعيد رسم خرائط المدن، لا بالحروب، بل بالقصائد.

*

لو كان بيدي، لمحوت آثار الأقدام التي مشت فوق أحلامنا،

وسألت البحر عن وجوه الغرقى،

وأعدتهم واحدًا واحدًا إلى أمهاتهم،

وسألت الريح عن رسائل العشاق التي ضاعت في الزحام،

وسلمتها إلى أصحابها، قبل أن يبللها الفقد.

*

لو كان بيدي، لجعلت المطر يعبر الأزمنة،

يسقي عطش البدايات، ويطفئ حرائق النهايات،

كنت سأجعل الأرض تدور عكس الوقت،

فلا يكبر الأطفال قبل أوان الضحك،

ولا تهرم القلوب قبل أوان الحب.

*

لو كان بيدي، لفتحت نافذة في كل جدار،

وأخرجت الشمس من جيب المعطف الشتوي،

كنتُ سأهندس الموسيقى في صمت المدن،

وأعيد للأرصفة نبض الأقدام التي فقدتها في الغياب.

*

لو كان بيدي، لكسرت عقارب الساعات،

وحررت العصافير من أقفاصها الحجرية،

كنت سأعيد تسمية الأيام،

فلا يكون الإثنين ثقيلًا،

ولا يكون الأحد انتظارًا مريرًا،

ولا يكون الخميس وحيدًا في منتصف الطريق.

*

لو كان بيدي، لمحوت الحدود بين الحروف،

وسمحت للكلمات بأن تهرب من قوالبها الصلبة،

كنتُ سأكتبك قصيدةً بلا نهايات،

وأتركها تسافر مع الريح،

تبحث عن قارئ يصدق أن العالم لم يخلق ليكون بهذه القسوة.

*

لكنني…

لست سوى ظلٍ يمشي بين الاحتمالات،

حلمٌ يخطو بين الممكن والمستحيل،

أدس يدي في جيب القدر، وأبحث…

ولا أجد سوى قبضة من رمل، تتسرب من بين أصابعي.

***

مجيدة محمدي – شاعرة تونسية

إلى حسن، وهو يدشن عامه الخامس، في عالمه الابدي

إليكَ الشوقُ يأخذنِي وأنَّي

قضيتُ العمرَ بعدَكَ بالتمنِّي

*

أتوقُ لقربِكَ الداني ولكنْ

يصدُّ البعدُ أحلامي ويضني

*

رأيتُ الحلمَ في عينيكَ صبحًا

فأضحى الحلمُ وهمًا دونَ ظنِّي

*

وهبتك مهجتي حبًا ونورًا

فأينَ النورُ؟ أين الحُبُّ منِّي؟

*

أما جئتم بشوقٍ فيه دفءٌ

يُداوي القلبَ من جرحِ التجنِّي

*

أيا حلمَ الليالي الموحشاتِ

متى تصحو لتُنهي ليلَ حزني؟

*

فكم قالوا يعودُ مع المساءِ

وكم قالوا سيسري مثلَ مزْنِ

*

أيا أملاً يُبدّدُ كلَّ خوفي

ويُرجعُ طائرَ النجوى يغني

*

أما يكفيكَ أنِّي قد نذرتُ

حياتي في هواكَ بلا تثنِّ

*

فقد أضنى فؤادي فيكَ شوقًا

يُناجي الليلَ في وجدٍ وحزنِ

*

ألا عدتم، فإنَّ القلبَ يشقى

وفيه الشوقُ يصرخُ دونَ وهْنِ

*

كأنك نورُ صبحٍ قد تولّى

وما زالت بقايا الشوقِ تُغنِي

*

فلا طيفٌ يُخفّفُ من لهيبي

ولا رؤيا تُزيلُ الآه عنِّي

*

رحلتَ ولم تزل روحي تناجي

خيالًا ضاعَ في صمتِ وأنٍ

***

د. جاسم الخالدي

روحُــكَ تَلاشـتْ عن مَهـدِ مائـي

وتَبخَّـرت بُحيـرَةُ ذاكِـرَتي...

يا مَنْ كُنتَ أميرَ فاكهتي

لقـد حـلَّ الخَريـفُ برحيلِ البُرتُقـالِ

خَفَـتَ فانـوسُ العِشـق

وأَطفأتُ قَمرَ أيلول

حتى نَبضُـكَ تَجمَّـدَ في عُنُقِـي

وخَبـا بَخـورُ أَنفاسِـي..

الشَّـوقُ غادرَ شُـرفَةَ أَحلامِـي

فَلا سِحـرُكَ يَغْوينـي وكرزُ شَفتيـكَ

دون حَلاوَة..

صَنـوبَرُكَ باهِـتٌ أصفرُ

سئمتُ الـدُّروبَ إلى صـدرِكَ

وفي القِفـار دَفَنـتُ أَشعـارَكَ

وأَضعـتُ مَفاتيـحَ قَلبكَ

بَصماتُـكَ تائهةٌ إلى ساقِيـةِ الريـح ِ

أَتـدري.. هَمَساتُكَ الباردةُ

التَهمَتـها نِيرانُ صَحوَتي؟

ألمَـحُ طيفَـكَ

عنـد أَعتـابِ مَساماتِي

لن تَعبُـرَ ضِفـافَ البَنَفسَـج

أَكاليـلُ النـورِ لا تُزهِـرُ إلاَّ في الضَّـوء

لَمْلِمْ أوراقَكَ العاريَة وارْحَلْ

أنا لا أُتقِـنُ دَورَ الجـاريةِ

وأنتَ فنَّـانٌ في تَقليـدِ السَلاطيـنِ...

ماذا لو أَهدَيتَنـي القَصـائدَ المُطـرَّزةَ بالحَريرِ

وذاتـي تَنتَـحِرْ؟

ماذا لو طَوّقتَنـيْ بالَلآلـئ وشَهقاتِـيَ تُحتَضَـر؟

سأدعُكَ حتَّى آخرِ عهدي

وتراً يَتيماً في سيمفونِيَّـةِ المـوتِ

أَنت لا تُحسـنُ العَـومَ في بحـرِ المُستَحيـل

ولا التَّحليـقَ فوق الثُلـوجِ

فَلتَبـقَ أَسيـرَ الجَليـدِ

***

سلوى فرح - كندا

 

عيونُ الأرقِ

تنام مفتوحة الليل

على آخرهِ ...

بِصَمْتٍ يُشْبِهُ ارتِدادهُ

صدى مَنْفَعَتِهْ!

*

يَسٰحَبُ الأرقُ تصريح التثاؤب

ويَزُجُّ بأربعِ تثاؤباتٍ في غيا

هِبِهِ

خَرَجْنَ في سِلميةٍ

طلبًا لنعاسٍ عُذري الحقوق!

*

يتهَم النومُ الأَرَقَ

بالعمل لدى (عيون خارجية)!

وعقد صفقاتٍ

أَرَقِيَةٍ مشبوهةٍ

لاستهلاك (دِيز بَامْ)

وإدمان العيون عليها!

*

يَسْحَب الأرقُ ذيولَهُ

ويُغادرُ طردياً

مع أول طيارةٍ تهبِطُ أجفانها

وتَحُطُّ رموشها

على العين

في مطار النوم البشري!

***

محمد ثابت السَّمَيْعي - اليمن

 

بياض الفجر بالكاد يحرر نفسه من غبش الليل. مسجد للرب يتلظى بالنار كموقد. السخام غطى باحته بالكامل، وثقوب عميقة رصعت جدرانه، بدت وكأنها أفواه فاغرة، ما زال الدخان يسحب نفسه خارجا منها بتثاقل. نخلة عجفاء بروح مخلوعة يأكلها اللهب. الباب، تتدلى بقاياه قطعة صغيرة من فحم، بالكاد عالقة بالرتاج الحديدي الذي تشبث ملتصقا بالجدار، هذا ما تبقى من بيت قيل انه من بيوت الله.
من هنا مر الجيش الأمريكي، وعن قرب شديد جدا لامس جدران المسجد، لذا أرسل قذائفه وسيل رصاصه، دون عناية. مجمرة نار كانت، هذا ما حدث، فما احتاجت القذائف للدقة، فالهدف واضح وكبير وقريب جدا. كانت تعرف طريقها بحرفة ودهاء، وحركتها موجهة بكتلة واحدة. تومض مشتعلة تحرق وتهرس في طريقها كل شيء وتلهب جوف المسجد وجدرانه. لم يفعلوا ذلك سهوا، فثمة دوافع كثيرة لا يمكن الشك فيها والجدال حولها بعد الذي حدث، ربما كلمة واحدة كانت تكفي لتبرير كل تلك الوقائع. من الجائز أو على الأكثر أن منارته وفي الكثير من الأحيان تبدو مثيرة للريبة وتوحي للكثير من التحدي، أو أن الزخارف فوق جدرانه قد تكون لافتات تحريضية ساخطة، وهناك أشياء خفية تبرر الذي حدث. هكذا اعتقد وتجادل حوله جنود المارينز. ولكن لا مجال للتساؤل مع ما يصدر عن داخل المسجد من ضجيج، ولا وقت للتمييز عمن وبمن وكيف، فلا وقت لإيقاف القرار ومن الصعب تجزئته.
الجوف الذي استعر مثل جحيم كان مدغماً مغلقاً على أسرار وخفايا تبتلعها جدران بناية الرب. منذ زمن مضى لم يعد المكان مأوى للمصلين، هكذا قيل عنه، وليس بإمكان أحد طيلة النهار، ولا حتى في ظلمة الليل، أن يمد بصره ويستطلع ما وراء بابه الموصدة. ليس مباحا معرفة ما يدور في الجوف سوى من أخفى وجهه بلثام. ولكن من أين لهذا المسجد كل ذاك الضجيج وآهات التوجع والأنين المكتوم؟!
في الجوف القهري المجنون ثمة عشرة أجساد متفحمة انتشرت كتماثيل برونزية عتيقة غطاها السخام وموهها الدخان. في الباحة هناك جوار المنبر المهشم ثلاثة جثث متفحمة جاورتها بقايا حديد ملتوٍي لبنادق. في تلك الظهيرة الملتهبة وفي الزاوية البعيدة عند نافذة ألتوت وتهدلت عوارضها الحديدية، كان جسد متكور ما زال يمسك سيفا . ليس للزمن في تلك اللحظة غير أن يفتح عدسته ليخطف تلك اللوحة المفزعة التي رسمها المارينز بجحيم قذائفهم، وعليه إغلاقها بعجالة وإلى الأبد، بعد أن دون في ذاكرته صورة الأجساد المتفحمة.
لا متسع من وقت لدى الجنود الأمريكان لكي يفصحوا عما جرى في الداخل، فالداخل وحدهم من عرف أسراره، ولن يكون هناك مبررا لكشف ما حدث، فكلمة مطاردة الإرهاب كافية جدا لتكميم الأفواه المعترضة المهذارة.
مَنْ جلله الصمت وفطر الحزن قلبه وقعد يلوك وجعه عن قرب ، عجوز جلس القرفصاء عند الزاوية القصية من الشارع، غارق في تفكير مربك. ما انفك ينظر نحو باب المسجد حتى بعد احتراقه. تتحرك عيناه وتدوران ببلاهة في الفضاء، فقد سره أحد الوشاة من اللئام قساة القلوب، قائلا بخفية وحذر من أن يراه ويسمعه الآخرون، أن ابنه الذي اختطف منذ زمن مضى، موجود داخل المسجد، فرابط الرجل هناك مثل معتوه، يسأل نفسه ويجيبها، لعل وعسى والنفوس لا تخلوا من رحمة رب العالمين، وفي بيوت عبادته خاصة، أليس هذه فطرة البشر؟. يا ربي، لم تكن لي مؤونة غير هذا الابن.
لم يسأله الجنود الأمريكان عن سبب وجوده قرب المسجد، ولا عنّ لهم أن يلتفتوا له ليشاهدوا سيل الدمع الهابط بين ساقيتين غائرتين في وجهه المكدود الشاحب.
لم يكن لدى الأمريكان متسعا من الوقت للانشغال بتوافه الأمور، ولا حتى لطمر الجثث المتفحمة أو التحقق من هوياتها، فما جرى لا يتسم في النهاية بأهمية عظيمة، وبيوت الرب لا يمكن أن تكون دائما للعبادة.
***
فرات المحسن

أُرسلت من الـ سفر علي بن منصور ابن القارح

***

وانتَ تغلفكَ رسالةُ الغفرانِ

أخشى عليكَ من جحيمِ النارِ

خذهُ فقط يابنَ المعرةِ

لجنةِ اللهِ ثوبهُ الشفيفُ

*

لا تدنو بهِ للقطرانِ

والسلاسلَ والاصفادِ

دعهُ للحواري والطيورِ والغلمانِ

دعهُ يتنمرْ على قتلةِ الثوارِ

على مضطهدي الجنِ والجانِ

*

يا ابنَ القارحِ ما الذي دعاكَ

تساجلُ ابنَ المعرةِ

لقدْ ساقكَ للتيهِ

للقلقِ والحيرةِ

ارهقكَ بهذا السفرِ

انتَ دخانٌ بينَ الجنةِ والنارِ

*

يا ابنَ القارحِ

اعرفُ أنكَ ستمرُّ باكياً على الحسينِ

وربما تتقلدُ قبعةَ جيفارا

او تجدُ عيونَ سلام عادل

يبعثرها جلادو الجحيمِ

ايُّ خيبةٍ اريدتْ اليكَ

يا صديقَ العدلِ والانصافِ

*

اعتذرُ لفخٍ اوقعتكَ بهِ رسالةُ

الاعمى العظيمِ

ارفعُ يدَ الضراعةِ وانشرها

فوقنا نحنُ المحبينَ لجزالةِ بوحكَ

*

ايها الحلبيُّ ارمِ (دوخلة العمر)

خارجَ مدنِ الموتِ

هذهِ الجموعُ لن يطهرها جحيمٌ

عرضهُ السمواتِ والارضِ

*

يا ابن القارحِ عدْ لقاربِ النجاةِ

انتَ لن تخرجَ من حدودِ النارِ

لو انزلتَ امطارَ اللهِ اجمعها

لقد تعاقدَ ابليسُ على حرقِ العبادِ

بوصايةٍ من اخطاءِ كهنةِ الكذبِ

*

بحمدونةِ الحلبيةِ

او تلكَ المرأةُ زنجيةُ اللونِ

ملكتانِ تطاردانِ عشقكَ الباسقَ

الملكةُ التي انجبتها شجرةُ السفرجلِ

ترسمُ طباعكَ

لا تخاتلُ جمالَ الجنةِ

حتفكَ هنا مرسومٌ انهار َ

اياكَ أنْ تخون َارفعْ الفَ وردةٍ

إنكَ الان في الوادِ المتخمِ بالنساءِ

(ألف عافيةٍ للمؤمنينَ)

*

يا ابنَ القارحِ

تبخترْ بزهوِ الشعرِ

بقصائدَ لا تعرفُ ابوابَ الطغاةِ

لا تسامرُ البطشَ

إني اراكَ تنتصبُ منصةً بعلوِ الجبالِ

تلوحُ لخونةِ الكلمةِ

وتشهرُ قلادةَ نزاهتكَ المختومةِ

من شاعرِ المعرةِ

***

عبد الأمير العبادي

بين هذا وذاك سرقوا منها

خيوط الشمس

سرقوا منها الحكمة والحلم

سرقوا شلال دفء عمرها

سرقوا

أمها وأبيها

سرقوا

ضحكة طفلة وبراءة دموعها

مرغمة هاجرت بعيدا

يبستْ شجيرات دارها العتيق

فسمعتْ آهات جدرانه والاعمدة

واستغاثة جارتها الطيبة

وجدتها التي أضناها المسير

فرافقت روحها نوارس البحر

شهقت الطفلة بحسرتها

وغدت ذكريات طفولتها

تؤلم الزهور والفراشات

التي ودعتها بحنان

وهي تشم عطر ملابسها

ملابس العيد التي لم ترتديها

أبدا

***

سنية عبد عون رشو

جنون الريح

البرد والعاصفة

في السهول

في الجبال

وعلى الشواطيء

والمد والجزر يتفاقم

والكواسج البيض

الهائجة في

اعماق البحار

تطارد اسماك

الزينة الصغيرة

والنوارس والبطاريق

رايتها حزينة حزينة

وجنون الريح

البرد والعاصفة

تمنع الاوزات

العاشقات من الهجرة

الى بحار وبحيرات

احلامها امالها

ورؤاها لكن الهزار

الابيض الجميل

ظل يغرد يغرد يغرد

املا بانبلاج

شعاع قوس قزح

الصباح والشفق

الازرق والمطر

فيا طفلتي العزيزة

ويا طفلتي الحبيبة

اهداي اهداي

وكفكفي دموعك

فالعاصفة ستهدا

ستهدا وسنرى النوارس

والاسماك الصغيرة

والبطاريق فرحة فرحة

بانبلاج شعاع

قوس قزح الصباح

الشفق الازرق

والمطر .

***

سالم الياس مدالو

أشتـــــاقُ فيخذلني صبــري

وأسيــــــرُ إليـــــكِ ولا أدري

*

سيرَ المقرورِ إلـــى نارٍ(1)

سيرَ الظمـــــآنِ إلـــــى نهـــرِ

*

قولي مـــــــا سرّكِ يا امرأة

هــــل أبرأُ مـــــن هــذا السحْرِ

*

يـــا نشوةَ نشـــواتي الكبرى

هــل صحْـوٌ مــــن بعدِ السكرِ

*

يا أعذبَ ما غنيّتُ ويــــــــا

أحلى ما أشدو من شعـــــــرِ

*

أشواقـــي مثلُ فراشـــــاتٍ

لمْ تبرحْ تحلمُ بالزهْــــــــــــرِ

*

أتهرّبُ منـــــكِ علانيـــــــة ً

وأذوبُ هيــــــاما ً فــي السرّ

*

فأنا فـــــــي حبّكِ منشطـــــرٌ

نصفيـنِ.. أعيدي لــي شطري

*

حاولـــــــتُ بأنْ أنســى فإذا

بخيـــالكِ يخطرُ فــي فكـــري

*

يغرينــــــي يملؤنـــي شغفا ً

ويؤجّجُ نــــــارا ً فــي صدْري

*

فأحسُّ بأنّكِ حاضـــــــــرةٌ

أنفاسكِ تلهثُ فــــي نحْـــري

*

والشعْــــرُ الأشقـرُ مُنســدلٌ

كسنابــــــلِ قمحٍ فـي الفجــــر

*

ترميهِ الريحُ على وجهــي

فتفوحُ قواريـــرُ العطــــــــرِ

***

أهواكِ وزورقِ أحلامــــي

يستغــربُ مثلي من امـــــري

*

والريحُ تُجنّ ومن حولــــي

تتلاطمُ أمــــــواجُ البحْـــــــــرِ

*

قلِــقٌ تتسـارعُ فــي صدري

دقّــــــاتُ القلبِ مــــن الذعْــرِ

*

فأنا لم أبحــرْ سيّـــــــــدتي

منْ قبلُ وأجهـــلُ مــــا يجري

*

سأعــــودُ وأنزلُ صاريتي

من حيثُ بدأتُ الــــى البــــــــرّ

*

وسأكتبُ بيتا ً مــــن شعري

وسأنقشــــــهُ فوقَ الصخْــــــــرِ

*

كلّ الأحــــــلامِ إلى أجــــــلٍ

وتموتُ جميعــا ً في الفجْــــــــرِ

***

جميل حسين الســاعدي

...................................

(1) المقرور: من أصابهُ البرد

 

أُرَتِّبُ بَقَايَا طَيْفِكِ حَوْلَ بَاحَةِ خَوْفِي…

مِنْ بَعِيدٍ، أُتَرَقَّبُ حُضُورَكِ مُرتديةً يَأْسِي…

تَقِفِينَ أَمَامِي، تَلُوكِينَ انْتِظَارِي، وَتَقْرَعِينَ أَجْرَاسَ اللهْفَةِ المُعَلَّقَةَ بَيْنَ لَوْعَتِي وَحُلْمِي…

*

أُنَادِيكِ…

فَتَتَدَحْرَجُ كَلِمَاتِي مِثْلَ كُرَاتِ الثَّلْجِ عَلَى أَعْتَابِ حَيْرَتِكِ ..

أَلْمَلِمُهَا عَلَى عَجَلٍ قَبْلَ أَنْ يَذُوبَ حَنِينِي،

أُخَبِّئُهَا بَيْنَ الضُّلُوعِ،

أُطْفِئُ بِهَا لَهِيبَ غُرْبَتِي،

ثُمَّ أَمْضِي صَوْبَ شواطئ صَمْتِكِ،

أَفْتِّشُ بَيْنَ رِمَالِها عَنْ لُغْزِ تَوَجُّسِكِ…

*

أَنَا هُنَا… قَابِعٌ فِي غَابَةِ وُجْدِكِ،

ضَاعَتْ مِنْ يَدِي بُوصَلَةُ حَنِينِكِ،

تُهْتُ وَحِيدًا أَبْحَثُ عَنْ دُرُوبِ قَلْبِكِ،

تَارَةً أَسْقُطُ لَاهِثًا فَوْقَ أَشْوَاكِ انْتِظَارِكِ وَلَوْعَتِكِ،

وَأُخْرَى أَطْفُو كَزَنْبَقَةٍ فِي بُرْكَةِ حُلْمِكِ…

*

أُنَادِيكِ… بِصَوْتٍ مُخْنُوقٍ بِحَبْلِ اليَأْسِ…

أَنَا هُنَا… هَلُمِّي إِلَيَّ…

لَمْ أَعُدْ أَقْوَى عَلَى أَنْ أَسْتِلَّ سِهَامَ البُعْدِ مِنْ جَسَدِي الوَاهِنِ،

المَصْلُوبِ عَلَى وترِ آهاتِكِ…

هَلُمِّي…

فَهَذِهِ وُحُوشُ التِّيهِ تُطَوِّقُنِي،

مُزَمْجِرَةً، تُرِيدُ أَنْ تَنْهَشَ بَقَايَا قَلْبِي،

المُصَفَّدِ بِأَغْلَالِ بعدك …

هَلُمِّي إِلَيَّ، وَلَوْ بِطَيْفِكِ…

فخيمتي هناك ..

أقمتها عند وَاحَةِ صَبْرِكِ،

تُظَلِّلُنِي سحابة شوقٍ لسنى عينيكِ…

و سأظل أُنَادِيك

أَنَا هُنَا… فَهَلْ عَرَفْتِنِي..!؟

***

جواد المدني

ليهنأَ اللّيل

أنَّ عيونكَ تُغمضهُ

سَلِمتْ سويعاتُ الأساورِ

وسَلِمَ الجَسَد

*

كم مرّةً نَبتت أظافركَ ولم تخنكَ؟

ماتت قنابلهم

وما مات هُتافُ الحنجرة

*

ما بين دمٍ راكدٍ ..

ودمٍ يجري يقاومُ

بحرٌ من الظَّنِّ

*

طلبتُ من اللّيل الظّنين

أن يَذرفني دمعةً واحدةً

على وجهِ تأريخٍ مرير

تجري لا تفارقهُ

*

ليهنأَ اللّيل

أنَّ عيونكَ أوقدت وَمضَ القناديلِ

في الشوارعِ والأرصفة

*

أُحبّكَ

وأُحبُّ ليمونكَ الأخضر

أيّها الحقلُ المرير

*

كانتا سرباً من النظراتِ

يسعُ سماءَ الغَد

حماماً زاجلا في رسائلهِ

ساهماً في الوصول

عيناكَ

تسهران ولا وساوس تسهو

*

أردتكَ بلاغةَ رؤيا

لم تقلها القصائدُ في وزنٍ ونثر

من أين مرّت هذه النايات

ولم تترك ترافتنا

على ثقوب الريحِ في نوافذها

*

ثمانون ضربةٍ ونيف

خلف العنقِ لا تكفي

لم يكن جسداً يختنق

سلاماً سلاماً

*

لا حوافر تجدحُ اللّيلَ

ولا شراراتٍ لنهارٍ يرى

***

يقظان الحسيني

تعالي

عانِقي صُراخِي

ودعينا ننتحرْ..

الوقتُ ليلًا

والجميعُ نيامٌ

وإن فاقوا

ليس أمرًا

فهم كحمالةِ الحطبِ

عانقي صُراخِي لنرحلَ

فالعهرُ مآذِنه

والمذلةُ دينٌ

والعبادةُ انبطاحٌ

عانقيني…

الصراخُ نبيٌ

والعناقُ بقايا أملٍ…

ملَّ قلبي حاناتِ الهوى

وكؤوس الندامى ذكرياتٌ

والهزيمةُ تسكرُ في الروحِ،

وبقايا العمر…مرايا

حطَّمها صمتُ الريحِ

بحوافرِ خيلٍ تسابق الزمنِ

صوبَ نهاياتٍ

تحملُ مفاتيحَ التيهِ.

تعالي…

تعالي…

ودعي خلفَكِ الزمانَ

يبحثُ عن أماكنَ له

والعشقُ عن بقايا قُبَل.

***

كريم شنشل 2018

...

تقص علينا زيتونةُ جدي ذاكرة وصاياه: أنةَ.. أنّة، معفرةٌ بأنفاس ريقه المتعفف، يحرث بساتين أحلامه بأمشاط ضلوعهِ لاصطياد فُتات رغيفهِ من مليء جبينه، وهو يمسح بصماتِ عَرَقِه برماد غليون عمره، يعدّ جمراتِ الصبر بيد حبيبته المتلفعة نسغ أيامه، ثم ينفض الغبار عن ضفاف الفرات ببندقية صيد الحكمة المثكلة بطاحونة سنينه، ليغرس على اكتاف دجلة حنطة الحنين، يذرُ هشيم عموده الفقري سمادا لقوت هُويته، ويعتكف حفيظة أرضه بمخاض عبرات الماء، لطالما تزهر ملذات عشقه مواااويل لهفة بظلال رمش الوسن، فيهدهد أوجاع الليالي بمواويل الاشتياق: (دللول يا الوطن يا بني دللول..عدوك بالمهد معلول)*، مُقبّلا رائحة التراب بجرأةِ شجن مبللة بدماء احفاده، حتى تغفو سكرات حنجرته بصوت الأرق، وليطفئ بعض من حواس ذكرياته يشعل سيكارة همومه بذات حلم يحترق، فتارة يهز أقحوانة رأسهِ بلَوعّة دخان قلبهِ المتآسي، وأُخرى يُلقّن فراسة المطر بحُسن التضرع، كي يغسل تجهّم الذبول من وجوه السنابل، هكذا سلاسة أشجان جدي صفصاف عتيق الحزن لا يصدأ لحاءُ فروعه ،كلما تلحّ عليه لوعات الرحيل يدروش نوبات الوجع (بستات)* أُنس تربت على مشاعر الطين بزخات أمل، وحين تهز زيتونة جدي جذوع ذاكرتها الموشومة بحنة أيامه يتساقط علينا رطبُ عمرٍ محدودب الصبا، فتُكلمني غصات الإستفهام باكتواء جواب أجوف الصدوح، ألم يفترش جدي عباءته سبط ولائم ليُلقم الجوع من نخيل الفؤاد؟؟
ألم يشعل أكمام شبابه حطبا ليتوسد الدفء سكينة الضيوف باسهاب الكرم حتى تهزأ أحضان خيمته من هزالة البرد!! فيااا للذة وصايا جدي السائغة المذاق، تزهر بكل ما أوتيت روحه من روافد.
***
إنعام كمونة
.........................
* إقتباس من فولكلور تراثي.
* البستات: نوع من الأغنيات التراثية

مشتاقة أنا إليكْ..

مشتاقة أنا إلى تقاطع السيوف بـيـن ساعديكْ..

مشتاقة أنا إلى تطريز قامتي

بأحلى ما تشظى

من حضارة العصور في بروج مُقـلتيكْ..

مشتاقة ..

أريد أن أسكُـبَ موسيقى أصابعــي

عناقيدا تـمُـوج كالعذارَى في الندى

فوق ضفاف راحتيكْ..

مشتاقة..

أريـد أن أمْـرَحَ ـ دون رجعة ـ

من غير سَـرْج أو لِـجَام عابـرٍ

كالمُهرة البـرّيّـة البلقاءِ ..

أعدو.. ثم أعلو.. ثم أحْلــو حين أغـدو

ديمَـة ً ورديّـة ً

تُطـرّزُ الهواءَ والمدى

بما يفيـض من زُمُــرّدٍ، يضيء كالمجهول

في غيــوم ناظـرَيكْ..

ياطائرَ الفيـروز كَـمْ من خنجـرٍ

سافـرَ في أوردتي

لكنني رفضتُ أن أموتْ

لأنني مشتاقة إليكْ..

مشتاقة..

كأنني رنـينُ وشْـمٍ في حنين عالقٍ

في سِــدْرَة ٍ راعفــة ٍ

يكتب ما لم يَــرْوِه الــرّواةُ

عن خرائط الأحزان والجَــوَى..

مشتاقة..

كأنني قـبيلــةٌ من شُهُـب

تلهث كالأجراس في منزلـق الدمع الذي

يُعشب بالأملاح والتَّــذكار والنّــوَى ..

مشتاقة..

قد يبستْ كل قوافي الجُلّـنَار في فمي

ونجمُ عمــري قد هــوى

لكــنّ قلبي عن دروب الأقحوانْ

ما ضــلّ يوما أو غَــوَى ..

مشتاقة أنا إليكْ ..

منذ مليكُ الحب فوق عرشه استــوَى..

مشتاقة..

تجرحني وسادتي بعشبها..

وهاتفي النقالُ في الدجى يفرّ من يدي مرتجفا

كالقمر المبلل..

مشتاقة..

من شفتي تطيرُ كم لؤلؤةٍ

تسبقني كسرب نوْرَس إلى شُـطآن ذاك الرجل..

أحبّـه في كل ضـدٍّ قد تلاشى طـرَبا في ضدَّه

كأنه عرجون حنظل مسافــرٌ معي

في أفـق من عسـلِ ..

مشتاقة..

تخطَــفني صراحة المرآة من أنوثـتي

مَجَــرّة ًغافلة ً

تزخرفتْ بالشّـُـهْب والرماد والتخـيّــل..

مشتاقة..

وحدي معي يؤنسني ..

يسحبني تنهّــدُ المصباح من دمي

كـوَردة الصّـدَى..

يجرحني نُــوّارُ صدري والندَى

ولـؤلــؤ ُ الأشـواق يجري كالغروب هائما

في شفتي وأنـمُــلي ..

مشتاقة..

تعْـبَثُ في شَعري

أصابعي وأمواجٌ وبَــرّ ٌهائم ٌ

وكم وكم من نجمة نائيـةٍ وجـدولِ ..

يا سيّــدَ المقام كُـلّمَا

خبأتُ كفي في يديك اغْـرَوْرَقـتْ

كالكوكب الورديّ، ثم احترقتْ

كطائر الفينيق، ثم أينعت بأدمع الرماد

بين مَجهل ومَجهل ..

تنثر من وميضها المبحوح عطرا غامضا

مثـلَ رَذاذ الليل عندما

يهيـج نحلـُـه في مذبــح التّـبَـتّـل ..

مشتاقة..

ألقاك في مُنكسَــر القلب الذي

نَحَـتّـهُ من كتب الأطلال موعدا مؤجلا

ومن تكسّـر الرماح بين أضلعي

تلمّـني مثـلَ بقايا من ضباب في دمي..

تـلـقُــطني من نَـبَــق البرق

ومن توهّـج الياقوت في تَحنان كل أصبع ..

مشتاقة..

تـشعلني نوافــذ ٌ

تشهق في أوردتي..

تنثرني على حقول صدرك الصيفيّ

صحوا ماطرا

كــرَشّــة السراب بين حيرتي وأدمعي..

ألقاك في بُــحّة خاتمي الذي

زخرفـتُه بنبضتي.. نمّـقْـتُـه بدمعتي..

زوّقْـتُه بقُبــلة بطيئـةٍ

نازفةٍ بالشّهْـد والنيران والشذى

في أرَقِـي وفي لواعج الرياح الأربعِ ..

ألقاك كم ألقاك

في مآذن النسيانِ .. في صوامع الهجرانِ ..

في تنهد الأشجار والـذُّرَى

ترتّبُ الأقمارَ والبحارَ والدنيا معي ..

ياطائر الفـيـروز كُلّمَا

نقشتَ لي أغنية بريّــة في عنقي

تنهدتْ

معابدُ المَرجان ثم اشتعلتْ

في غرقي

وحينما

تطايرتْ أناملي مع الندي

أقبلتُ مـن كـل كواكـبي عليكْ

أنزفُ كالكمنجــة البيضاء

ما بين يديــكْ..

مشتاقة ..

من فَـرْط ما بكيتُ

أمسَـتْ كلُّ نجمة

في الكون دمعة ًمشتاقة ً إليكْ..

من فرط ما فَـنِـيتُ

كلُّ خانة عسّـلتُها بالصمت

أصبحتْ بقايا نحلــة

ترتاح كالخلود في رحيق وجنتيكْ..

من فرط ما قبّـلتُ

فيك جُـرحيَ المفتوحَ كالرمّـان

كـلُّ قُـبلــة تحوّلتْ

في أرَق الشّـطآن وردةً، وذكرى من دمي

وسُـكّري في شفتيكْ ..

***

د. قـدّور رحــماني

لم تعد لي إلاّ الأطياف البعيدة، كما كان للجاهلي أطلاله. لم أكن اتخيل أن بكلمتين تهددّ حياتي، وترمي بي إلى أقدار أكبر من محنة سحق عظام أسير أعزل، تحت أنظار قائد جبان.

ولم أصدّق؛ أن انتمائي لعشيرتي وتفاخري بها، يلزماني التمسك بتقاليدها، أو الخضوع إلى عاداتها! حتى وإن كانت منافية للحرية والمعقول.

كنتُ أحَسِب أن مستوى تعليمي، وثقافتي، درعان قادران على صد بعض العادات والتقاليد.

مررت بمواقف عديدة صنعتني من جديد، جعلتني اختار نفسي، وأفلت اليد التي لا تأخذ بيدي لملاذات آمنة، مواقف أجبرتني أن لا أعترف بالرابطة التي تتركني أغرق بدمعي وحزني وحدي...

مواقف علمّتني عندما أرحل لن ألتفت وانظر خلفي، وأخرى درّبتني كيف أدرك أن مشاعري وحياتي ثمينة، وبعثرتها جريمة بحق نفسي أولًا، تحصنت على ألا أترك عواطفي مشرعة على لائحة الانتظار؛ بل أدمن أن أعبر عما أأمن به دون مواربة...

كنّا نعيش في مدينة بعيدة عن مسقط رأسي، كذلك بعيدة عن جميع أقاربنا.

أكملتُ مراحل دراستي، وكبرت هناك...

أحببت وتزوجت بمباركة والدّي، من دون مشكلات أو تدّخل القبيلة.

غير أن الأقدار لم تمهلني الكثير، فقد بكر قدر مشؤوم بموت أبي، فراق ترك بصمة حزن ما فتئت أن تجدد مع ألم خيانة زوجي مع أخرى، وترك في صدري ثقوبًا لا تحصى، فرجعتُ إلى غرفتي في بيت أهلي منكسرة، منطفئة.

حدثان كَبْكبا حياتي، وغيّرا مجراها، لا سيما بعد أن وجد الأقارب فرصة تصدر المشهد على حساب أولويتي كسيدة لها بصمة، ويبدو لي أنهم توعدوني كي ينالوا من كبريائي، حينها أصبح أولاد أعمامي يعاودون الزيارة كل فترة تحت غطاء القرابة!

وإن كنت أتوجس ما بين سطور الزيارات، وظهر الغث واضحاً حين عصفتْ غيرتهم المُدعاة، وثارتْ حفيظتهم المكبوتة، تحت غطاء معرفتهم بحدث طلاقي، وخلال إحدى الزيارات، قال كبيرهم:

ـ لا يجوز أن تبقوا في هذه المدينة بعد وفاة عمنّا!

ردّت عليهم والدتي:

ـ طول عمرنا عايشين هنا، تعودنا على الحياة هنا.

ـ كان عمنّا موجودًا، أما الآن؛ فغير مسموح بهذا الأمر.

ـ "مشتاق" موجود، وهو والي البيت بعد أبيه.

ـ "مشتاق" مازال صغيرًا، غير قادر على حمايتكم.

مع تصاعد حدّة الحديث، خرجتُ من غرفتي، حدّقتُ في وجوههم، فلم أرَ ملامح لأية صلة رحم! سلّمتْ وجلست استمع.

سألهُ آخر بابتسامة صفراء:

ـ هذه المطلقة؟

ـ نعم هذه المطلقة.

ألتفتَ إليّ أحدهم وقال بتفحص غير بريء:

ـ أنتِ "غيداء"؟

ـ نعم، أنا "غيداء".

ـ ماذا أصاب أعيُن الرجال، كيف ترك كل هذا الجمال؟

قلت على استحياء: القسمة والنصيب.

بقيّ طوال الوقت "يخزرني"، لمْ يرفع ولا يحرّك عينه من النظر إليّ، مما جعلني أتوجس، فأمرتني أميّ أن أتجه داخلة بعيداً عن غرفة استقبال الضيوف...

بعد مغادرتهم؛ وَبّختني أمي، وقالت جملتها التي لم أنسَها حتى اللحظة:

ـ "الله يستر من الجاي"!

ـ لماذا تقولين هذا؟ ما هو" الجاي" يا أمي؟

ـ "الله يستر بس".

مرَّ أسبوعٌ واحدٌ، وعاد أولاد أعمامي ومعهم عمّي الكبير، وكانت زيارتهم هذه المرّة بإشارة من شيخ القبيلة:

ـ الشيخ يبلغكم السلام، ويقول صار لزامًا انتقالكم إلى مدينتنا.

قالت والدتي: راحتنا هنا، ومعيشتنا هنا كما أخبرتكم سابقًا.

ـ سنقوم بتوفير جميع احتياجاتكم، لا تكسروا كلمته.

نظرتْ أمي إليّ، وإلى أخي، وفي عينيها استسلام لم أعهده، في هذه اللحظة تحرّك في داخلي غول التمرّد:

ـ نحن لا نتحرك من بيتنا؛ ولا نترك مكاننا وجيراننا وعملنا وأصدقاءنا.

قال عمّي:

ـ هذه عاداتنا وتقاليدنا، بقاؤكم هنا دون رجل " عيب "، لا يتناسب مع قيمنا.

ـ عمو... كأنك تتغافل وجود مشتاق؟ "ترا" أخي ثالث كليّة!

ردّ ابن عمّي، الذي خزرني في الزيارة السابقة:

ـ وإذا ثالث كليّة! نعتمد على طالب عوده ليّن؟

إن أردت أن تفعل شيئا مستحيلا، ضع الخوف جانبًا لتشعر بالقوّة اللازمة لفعل ذلك الشيء.

هذا ما فعله أخي. وقال بصوت واضح:

ـ بعد إذنك عمي، أنا رجل البيت، سأفعل ما كان يفعله أبي، أمي وأختي ستعيشان معززتين مكرّمتين، لا أسمح لأحد أن يفرض سيطرته عليهما.

شعرتُ بأمان يشوبه بعض الخوف والقلق، قلق مشروع بمواجهة غير مُنصفة بين أخي قليل الخبرة بالحياة، وبين فصيل (العقارب) عفواً الأقارب، غير أن ثقتي بمشتاق كبيرة؛ لأنه تتلمذ على يدي أبي الذي يجمع بين قيم القبيلة وبين روح التحضر في توافق نادر.

تكررت زيارتهم بحجّة الاطمئنان، حاول "عبد الجبار" التودد والتقرّب، أمسى يختلق الأعذار ليأتي، ويستمع لأخبار العالم ليتحدّث، ويقرأ ليناقش! كان يصطنع الهيبة غير أنه مشخص بنظري كشخص ليس بمستوى المسؤولية ويمثل دور المنقذ بينما يحتاج هو من ينقذه من تخلفه القيمي...

ذات يوم كان مشتاق يتحدث عن طالب معهم، متعصب جدًا لمذهبه، فقاطعه عبد الجبار:

ـ  أترك وجهكَ الحقيقي وما تؤمن به  في البيت، هذا إذا أردت أن تنسجم مع الناس في الخارج!

بهرتني العبارة، وأيقنت صدق تشخيصي له، فطرقت على حديده الساخن بالقول:

ــ هذه الجمل؛ مَن قائلها؟

قال: أنا.

ـ لا.. لا، صدقًا من القائل؟

ـ صحيح أنا لم أكمل دراستي المتوسطة، لكنني أفهم الحياة، وهذه العبارة استنتجتها من تقرّبي منكم، يعني تركت وجه عبد الجبار وفكرهُ في البيت، حتى أستطيع أن أنسجم معكم.

ـ لستَ مجبرًا على هذا.

ـ للأسف عمّي الله يرحمه، لم يعلمكِ كيف تتحدثين مع الرجال!

شعرتُ بخجل، ربما تماديت في الاستهزاء، فاستأذنت، وتركتهم لأنزوي في غرفتي، تذكرتُ موت أبي الذي جعلني منكسرة، وخذلان الرجل الذي أحببت فجعلني منطفئة؛ وبكيت بحرقة سيدة متوجسة من قدر قادم، قدر مخيف غير واضح المعالم، ونمتُ ودمعتي في عيني، وتنهيدة بين تلابيب صدري.

نهضتُ في أول الصباح لألحق عملي، كانا أخي وابن عمي نائمّين في غرفة الضيوف، بينما أمي في المطبخ، تجهّز وجبة الفطور، قبّلتها، شربت نصف قدح من الشاي، ثم هممتُ بالخروج.

وضعتْ يدها على كتفي وقالت:

ـ  ماما غيداء... عبد الجبار خطبكِ البارحة من أخيكِ.

لم أتفاجأ، لأني كنت متيقّـنة من أن هذا سيحدث كتحصيل حاصل لمقدماته من تردد على البيت ورموز في الكلام... فباشرت القول دون تفكير:

ـ قولا له: غيداء لن تتزوج مرةً ثانية؛ مع السلامة أمي، لا أريد أن أتأخر عن الدوام.

لا أنكر أنني شعرت بتوتر، قلق، وكأنني فتحتُ بابًا للمشاكل والعداوة.

كنتُ شاردة الذهن في العمل، حتى سمعتُ زميلتي تناديني بصوت عالٍ، إضافة إلى ضجيج في الخارج:

ـ غيداء.. هيا نخرج من الدائرة، المدير يقول رجال الأمن والاستخبارات محوّطين المنطقة.

ـ لماذا؟ ما الذي حدث؟

ـ حسب ما عرفت يفتّشون عن شباب لديهم تنظيم معارض للحكم الحالي، " التاريخ يعيد نفسه".

ـ حقهم؛ ما عايشين مثل العالم! التاريخ لا يعيد نفسه أبدًا، نحن البشر نخطأ ونلصق الخطأ به.

ـ لا ترفعي صوتك.

ـ لماذا؟ هل تخافين؟

مشكلتنا هذا الخوف؛ فنحن نخاف وأصحاب الكراسي هانئون؛ نحنُ نبكي والطغاة سعداء؛ نحنُ نُضحي ونفقد شبابنا والجبناء يتزاوجون وينجبون ويتكاثرون؛ نحنُ نثور والعملاء يفوزون بالمناصب.

ـ أنتِ لستِ على ما يرام اليوم، هيا بنا "لا تجينه مصيبة من ورا كلامك".

ـ نعم معكِ حق؛ لا تظهر وطنيتك أمام فئة تعدّ حب الوطن " تُهمة"، ولا تكنْ وطنيًا في بلدٍ يتزعمه متهور أرعن.

ـ لستِ طبيعية، حكم وشعارات... يا رب يخلص اليوم على خير.

أنا في قرارة نفسي؛ أيضًا كنتُ أتمنى أن ينتهي هذا اليوم على خير، فلا أعرف ردّة فعل عبد الجبار حين تخبره أمي بقرار رفضي الزواج منه.

وصلتُ إلى البيت، وجدتهم مجتمعين في غرفة الجلوس، صامتين، وكأنهم في مأتم!

ـ أهلا بالدكتورة!

قالها ابن عمّي

ـ مرحبًا... هل سمعتم ما حدث اليوم؟

كانت أمي شاحبة الوجه، وعيناها حمراوان، بينما أخي ساكت.

قال عبد الجبار:

ـ بحكم أني ابن عمكِ، فلا يمكن ولن نوافق أن تتزوجي أي رجل غيري؛ وسنعلن هذا بين القبائل، حتى لا يتجرأ أي رجل غريب ويفكر أن يرتبط بكِ.

لم أصدّق ما سمعته، ولم أستطع أن أنبس بحرف واحد، وكأن الشلل أصاب لساني.

أعرفُ أني أعيش في مجتمع قَبليّ، وبلد تحكمه الأعراف والتقاليد، حتى وأن كان الظاهر غير ذلك، كما أعرف أن الكلمة أصبحت عبارة عن رصاصة حيّة، وقد تنطلق من أقرب فوهة، أو من فوهةِ قريب.

وأصبحت الهواجس والتكهنات رفيقة الآن والأوان.

ماذا يعني؟ هل حلمي بأن أحبّ مرةً أخرى، وأتزوج وأكوّن أسرة بات بعيد المنال؟

من المستحيلات؟

هل أتزوج رجلًا لا أحبّه؟ لا أرغب فيه.

مرّ أسبوع كامل وأنا في هذيان مع نفسي، أخذت إجازة من الدوام، ولم أرغب الخوض في أيّ حديث مع أحد، ألف فكرة وفكرة كانت تتخبط في رأسي.

بعد انقضاء الإجازة؛ باشرتُ عملي، استقبلتني زميلتي:

ـ الحمد لله على السلامة غيداء، كيف صرتِ؟

ـ بخير.

ـ يقولون ابن عمكِ " نهى عليكِ".

ـ من أين أتيتِ بهذا الكلام؟

ـ ألا تعرفين عندنا "رويتر" بالدوام.! والمدينة حوصلتها صغيرة، لا تهضم مثل هذا الخبر.

هنا شعرتُ بلطمة قوية صفعتني، وكأنني طائر صغير في قفصٍ بابه محكم القفل، والمفتاح بيد عبد الجبار!

كنتُ أنظر في عينيها وهي تحدّثني، وخلجاتي تحدّثني أيضًا:

نعم سأستمر بحياتي، عملي، طريقة لبسي وحديثي، صداقاتي؛ لكن سأبقى عَـزباء ما حييت إن لم أتزوج ابن عمّي!

ـ بماذا تفكرين؟ ماذا ستفعلين؟ سألتني زميلتي.

ـ لا أدري... على الأقل حاليًا... لا أدري، لا أقدر أن أفكّر بشكلٍ صحيح.

ـ إياكِ أن تفعلي ما فعلتهُ " شروق"!

ـ لا طبعًا.. الموت ليس حلًا؛

هل الانتحار أسهل الطرق للتخلّص من ضيقٍ يصيبنا؟ هل يرضى الخالق للمخلوق هذا الموت، وفي الحياة متسع للعيش والأمل؟

لا يا عزيزتي، لم أصل إلى مرحلة اليأس ولا الهزيمة، بل أفكّر كيف أسحق تلك الفكرة، وتدمير ذلك الوضع، وأنا واقفة على أقدامي، وبكامل قيافتي الذهنية والنفسية...

وبمرور الوقت سأنسى، وشيئاً فشيئاً وكأنه لم يكن.

ـ أغبطكِ يا غيداء، لا تفعل هذا إلاّ فتاة صاحبة قرار وإرادة قوّية.

ـ وهل قتل النفس أسهل من اتخاذ قرار في البقاء والتحدّي؟ هل يرضى الخالق بهذا الموت المجاني من أجل سلطة ذكورية همجية؟ لن يرضى أكيد.

كنتُ أتحدّث إليها وقراري يزداد عندًا وإصرارا..

رجعتُ إلى البيت، وفي نيّتي فتح الموضوع مع أمي وأخي؛ وفعلت...

بعد أن انتهينا من وجبة الغداء، أخبرتهما أنني أرغب في ترك هذه المدينة، بل البلد بأكمله، والقرار بالنسبة لي بلا عودة، فقط كنت احتاج موافقتهما ورضا أمي.

ليس سهلًا عليهما، ولا عليّ أيضًا، لكن لا خيار أمامي؛

محاولة تغيير وجهة نظر انسان متعنّد.. مثل محاولة إجبار سمكة على التنفس خارج الماء.

نعم أُعتبرتْ " النهوة العشائرية " جريمة، وسُنّ لها قانون في بلدي، لكن مَنْ يعترف به إذا كان التعصّب القبلي سيد الموقف؟

مَنْ يتقرّب من فتاة وهو يعرف أنها "محجوزة" تحت هذا العُرف؟

ومَنْ يمنع الأصبع التي تضغط على الزناد لتتحول إلى جريمة قتل؟

أيُّ فتاة تتجرأ وتسجن أقاربها من أجل أن تتزوج؟

وإن فعلتها... تُرى هل ستعيش فرِحة؟

لهذا لم استمر بالسير في طريق لا أعرف نهايته، أو أعرف أنه يؤدي إلى عتمة.

فغادرتُ الدار، والنخلات والوطن والذكريات... إلى بلادٍ لا تعرفني ولا أعرفها، بيد أني أعرف بأني امرأة واحدة من بين ألف ألف... تعرفُ ما لا يعرفه النهر.

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

خريف 2022

في انْتِظَارَكِ..

في انتظارُكِ .. ياوليةْ

في المطاراتِ...

وفي الحفلاتِ ...

في خُطَبِ الدَنِيَّةْ

في عيون النيلِ...

فى الخُلْجَانِ...

في أرقى النجوم الفندقيةْ

في الجرائدِ ...

والموائدِ ...

في القصور العاهِلية!

*

ألف مرحى

جِئْتِ من (تَكْسَاسِ) تبتاعینَ

فاختاري المطيةْ

بمقاسٍ عربیٍّ

صَنَّٰعَتْهُ الأجنبيةْ:

أي لونٍ لا يُنَاسِبُكِ دَعِيهْ

أي نوعٍ جلْدَهُ أقوى خُذِيهْ

أي زوجٍ

زاد عن رِجْلَيْكِ حَجْمَاً

ذاك مجهول الهويةْ!

*

واسْتَريحي يا (وزيرةْ)

من عناءِ البحثِ...

والتحقيقِ ... والتلفيقِ

في كل جريرةْ

واشربي فنجانكِ المعهود

من نفطٍ .. وبيرة!

*

واسْتَعِدِّي يا وَلِيّةً

إنهم جاؤوا وهاهُمْ

في لسانُ الصَّمْتِ أقوى

من هدير المدفعية!

وأَعِدِّي ما اسْتَطَعْتِ

مِنْ قراراتِ التداولِ

والتَّبَصُّرِ ...والرَّوِيّةْ

(كَعْبُكِ العالي)

سَيُصْدِرُ رَفْسَهُ القاضي:

بالقاءِ التحيةْ !

*

إِنْ تَعُدِّي نِعَمَ (البابا)

فلن تُحْصِينَ

أَذنَابَ (القضيّةْ)!

***

محمد ثابت السَّمَيْعي - اليمن

.......................

* كُتِبَتْ هذه القصيدة أيام (كوندليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة

 

(1)

أزمانُهم أزلٌ يمشي الى أبدٍ

الواقفونَ بجنبِ الحقِّ ما ماتوا

تأبَّدوا ، وقلوبُ الناسِ أبياتُ

*

أَزمانُهم أزلٌ يمشي الى أبدٍ

وصوتُهم ضدَّ صوتِ الظلمِ أصواتُ

*

في كلِّ فردٍ مشى جيشٌ بمشيتِهمْ

وكلُّ جيشٍ بِهِ الوقفاتُ صولاتُ

*

تعمى بَصيرتُهم عن كلِّ مُنحدَرٍ

لأنَّهمْ لبريقِ النجمِ راياتُ

*

الراسخونَ وبَحرُ الغدرِ مضطربٌ

والقاطعونَ رقابَ الموجِ اِنْ فاتوا

*

والراسمونَ على عهدِ الوفاء مدىً

ستستوي فيهِ أحقابٌ وساعاتُ

*

ويستوي فيه مَن راحوا ومَن رجعوا

لأنَّهم في رحابِ الحقِّ قدْ باتوا

*

وقدْ يمرُّ من الأزمانِ أظلمُها

لكنَّهمْ للضميرِ الحيِّ مشكاةُ

***

(2)

لمْ ينتهِ التاريخ

لم ينتهِ التاريخُ اسمُكَ كونُ

تنهيهِ نونٌ ثمَّ تبدأُ نونُ

*

حبرُ البحارِ أتى ليكتبَ قصةً

نجمُ السماءِ تلا، فعمَّ سكونُ

*

هذا هو النبأُ العظيمُ ولمْ يكنْ

موتاً، فألفُ ولادةٍ ستكون

*

أورثتَ همَّاً للذين تغطرسوا

فسرى بِهم فوقَ الجنونِ جنون

*

فزعوا يريدونَ المعونةَ كلَّها

فأتى لهمْ جنبَ السفينِ سفينُ

*

أمّا جيوشُكَ فالشبابُ مِن القُرى

جاءوا، ولكنَّ الحسينَ حسينُ

*

أبديةٌ منحتْ خطاكَ الى الذُرى

مَن قالَ ماتَ وغيبتْهُ منونُ؟

*

ستفيءُ للتاريخِ ملحمةً بِها

تلدُ السنونَ على الدوامِ سنونُ

*

في كلِّ عامٍ دفعةٌ عملاقةٌ

لتعيدَ اسمَكَ أحرفٌ وعيونُ

***

(3)

سيقرأُ الجيلُ بعدَ الجيلِ أسطرَهُ

ما انهارَ، بَلْ أسَّسَ الأبراجَ أدراجا

مهندساً لِحبالِ الضوءِ نسّاجا

*

ما انهارَ، بَلْ نيزكاً نحوَ الفضاءِ مضى

حتى يكونَ على رأسِ الفدى تاجا

*

سيقرأُ الجيلُ بعدَ الجيلِ أسطرَهُ

اسطورةً وصداها البحرُ اِنْ ماجا

*

تُحاكُ مِن غضبِ الأمواجِ صولتُهُ

فتستبيحُ سدوداً ثمَّ أرتاجا

*

موكَّلٌ بِرياحِ الأرضِ يَعصفُها

أنّى يَشاءُ مُغيراتٍ وأسراجا

*

هاجتْ بِيومِهِ أقلامٌ وأفئدةٌ

لكنَّهُ في فؤادِ الروعِ ما هاجا

*

كأنَّهُ خَبرَ الموتَ العظيمَ مدىً

فسارَ فرداً وأرتالاً وأفواجا

***

شعر: كريم الأسدي

اِمْرَأَةٌ حَسْنَاءْ

ذَاتَ صَبَاحٍ صَادَفَهَا نَرْسِيسْ

وَهْيَ تُغَادِرُ مَخْدَعَهَا

بَيْنَ جِبَالٍ مِنْ وَرْدْ

قَالَ لَهَا

أَنْتَ اَلْوَرْدُ، وَعِطْرُ اَلْوَرْدْ

وَأَنَا أَمْضَيْتُ اَلْعُمْرَ تَعِيسْ

خَدَعْتْنِي اَلْأَنْهَارْ

فَغَدَوْتُ أَحْدِّقُ فِي مِرْآتِي

وَأَهِيمُ بِذَاتِي

لَيْلاً وَنَهَارْ

**

اِنْذَهَلَتْ

حَسْنَاءُ اَلْوَرْدِ، وَعَنْهُ اِبْتَعَدَتْ

قَالَتْ بِحَيَاءْ

كُلُّ اَلْأَوْرَادِ لَهَا أَشْوَاكْ

فَابْعُدْ عَنِّي

كَيْ لَا تَجْرَحَ نَفْسَكْ

وَتَبَدِّدَ حُسْنَكْ

وَاتْرُكْنِي

كَيْ لَا تَتَنَشَقَ عِطْرِي

كَيْ لَا أُدْمِنَ وَجْهَكْ

لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَبْكِي

صَارَ يُكَفْكِفُ أَدْمُعَهُ

وَيَقُولُ بِصَوْتٍ مُنْهَكْ

مَا أَتْعَسَ عُمْرِكَ يَا نَرْسِيسْ؟

هَلْ تَبْقَى لَا تَعْشَقُ غَيْرَكْ؟

هَلْ تَبَقَى طُولُ اَلْعُمْرِ تَعِيسْ؟

هَلْ تَبَقَى يَا نَرْسِيسْ؟

***

شعر: خالد الحلّي

 

‏الشارع الذي ينعطفُ يساراً

عند واجهة المتحف

مازالت أشجاره المضيئة تترنم

شال الصوف على كتف امرأة مُسنَّةٍ

حكمة دافئة

الصباح التالي بعد عشية عيد الميلاد

برج الكنيسة القوطية يُعيدُ توازني

الهواء قلق

وأقدامي باردة

‏أفتح النافذة لطرد الشبح الخانق

ولدخول اليوم بكامل أصواته وطيوره

أراقبُ ثعلبَ الحيِّ الذي يخرجُ من فتحة سور الآجُرِّ المتآكل ‏

والذي يكادُ أن يكون أليفاً

قرميدُ سقف البناية المقابلة المُوشَّى بالطحالب لوحةٌ أخّاذة

الفن يشق صدري يزرع فيه السمفونية الخامسة

تتوالدُ الموسيقى

تتناسلُ الآفاق

تتواجدُ الروح

أتناولُ جسدي الخشبي الضئيل من فوق رقعة الشطرنج الرتيبة

أرميه بعيداً نحو غابةٍ لتُعيدَه مُورِقاً

أركُلُ أدوية الصباح

أتحررُ من سطوة العقارب

أطحنُ ساعتي اليدوية الرخيصة

أذيبُ ملابس العمل الأبيض بمحلول حامضي مُرَكَزٍ وأسود

أحذفُ من هاتفي صورة مواعيد الباص الذي يمر كل عشر دقائق

أصفعُ الأيميل العاجل الذي يقضي أن أعمل في عطلة نهاية الاسبوع

أُفعِّلُ خطة ليلة رأس السنة الميلادية التي أُلغيت

أباركُ نسياني شراء دواء الربو قبل بدء العطلة

أصالِحُ نشرة الطقس المُحبطة

أبَيِّضُ مسودةَ القصيدة التي كنت سأحذفها كاملة

آكُلُ بنهم الشوكولاتة والكعك المُحلى

أعتقِلُ عاداتي الصحية بزنزانة منفردة

أُحَيِّي كل هذه الفوضى

أغبِطُ السقوط المفاجئ

أعيدُ الاعتبار لجبهتي المهشمة

أحاوِلُ استعادتي على مسرح الوهم

اؤدي دوريَ الراقص اللا مكترث

المنفلت

الماطر

الهادر

الثري بصمته

الشهيد باخفاقاته

من ظن أن الطيران بالقلب لا بالأجنحة

الخارج عن النص بلا كلمات مسبقة

الراكض

الراكض

رغم توقف قلبه

***

فارس مطر

هدير نهر الحب

يدخل هادئا

الى قلبي

ماسحا عن شغافي

كل ما يتعلق به

من شوك متمرد

وعوسج ملونا رؤاي

بلون الشفق الازرق

مانحا اياي

قوة ونبض

المروج

الينابيع

والحقول

وحين الليل اقتعد

تلة روحي

مغنيا اغنيات

البرق الريح

والمطر

وهدير النهر

يدخل قلبي هادئا

ماسحا لون

التراب

الغبار

والرماد عن

مرايا عيوني

عن مرايا

حلمي الابيض

وعن مرايا شغافي .

***

سالم الياس مدالو

الليلُ ستارٌ نُسدلُهُ

فوق نهارٍ منْ أرَقٍ.

*

أطرقُ نافذةَ نهاري،

البابُ المُغلَقُ منْ غيرِ مفاتيحٍ،

البوّابُ النادلُ يغيبُ،

يظهرُ في ليلٍ داجٍ

منْ غيرِ ثيابْ.

عارٍ عنْ أرديةِ كلامٍ.

*

بابُ الكهفِ سرابٌ،

ثالثُنا القلمُ،

قلمُ الكلماتِ على ورقٍ

لا قلمُ شفاهٍ لا تنبِسْ.

*

ذاكَ البوّابُ يُغازلُني

أنْ أفتحَ كلماتي

لريحٍ صفراءْ،

قلْتُ:

أنا ريحي حمراءُ بلونِ الرايةِ

لا لونِ وجوهِ الأسيادْ.

*

في زمنٍ مرَّ

لم أفتحْ بابي يوماً

لريحِ كنوزِ الأٌقوامْ.

كيفَ أكونُ اليومَ

على اعتابِ الأوهامْ:

وهمِ المارينزِ،

ووهمِ ذيولِ المارينزِ،

ووهمِ عمائمِ شيخِ الخُدّامْ!؟

***

عبد الستار نورعلي

الإثنين 9.4.2018

في بقايا مساءْ

جلستْ غيمة

فوق درب الرياحْ

شربتْ جرعة ً

من الوهم

دارت على نفسها

مرة.. مرّتينْ

فارقتها السكينة ...

غاب الهدوء

وكلّ المسافات، ريّانة بالجراحْ

نظرتْ

– لن أعيد التفاصيل ...

لن يترك الحزن مجلسهُ

كيف أمضي لوحدي...وأينْ

فجأة

في ثنايا التردّد والانحناءْ

ضجّ فيها البكاءْ.....!

2-

غيمة

فرّقتْ بعضها

مثلما تشتهي أنْ تكونْ

لتلامس مهجتها

صفحات الغصونْ

ولها شمس.. تبتكر الصبح

بين سرب غيومٍ من الذكرياتْ

3-

في الصباحْ

غيمةٌ

فزّ فيها المطرْ

نزلتْ

قطرة...

قطراتْ

حلّ فيها الثمرْ

رفعتْ يدها

شكرتْ ربّها

فلقد طاب منها الأثرْ

4-

غيمة

تابعتْ نفسها

في الفضاء

غير أنّ الرياحْ

عاكستها كثيراً

فطارتْ بريشاتها

تحمل الجرح والكبرياءْ

5-

غيمة

لونها الياسمينْ

تملك الشوق للراحلينْ

مرّت الآن في بيتنا

سكبتْ دمعها

في حنينْ

فتهادى

علينا البكاءْ ....!

6-

غيمة

ليس فيها مطرْ

حرّكتها الرياحْ

يمينا.. يسارا

على جمرات المسافة

في قلقٍ

جرجرتْ بعضها

بين أجنحة الطير حاملةً

ألف سرّ يسير إلى أمسهِ

بين غور الترائب غير مباحْ

– أيّ دربٍ سأعبر وحدي-

سألتْ نفسها

ومضتْ تمنح الأفق أسئلةً

دونما ضجّةٍ أو أثرْ....!

7-

غيمة

ظهرتْ فجأة

في السماءْ

فاستدارتْ لها الشمس

في بهجةٍ ... وصفاءْ

- لمَ أنتِ هنا.. يتها الغيمة الطائره..؟

- ههنا جئتُ يا شمسنا

كي نكون معا

في السماوات

نغنّي على مهلٍ

تتوهّج أرواحنا

في دروب المسرّاتِ

أجنحةً... ذهباً

فضةً نادره

ونداء

بها تتألق أنفسنا الشاعره..!

8-

غيمة

وجهها أبيضُ

قلبها أبيضُ

طأطأتْ رأسها

بهدوءٍ على حافة الصمتِ

قد لملمتْ نفسها

كلّ آفاقها تستريح

وتصغي مع الريح

لكلّ التسابيح

فوق شفاه القمرْ

فجأة

صعدتْ روحها

سلّماً

باركتها النجوم

وقالتْ لها:

مرحباً

يا وسائد حلمي الذي يستفيقْ

بين هذا الطريق

وذاك الطريقْ

مرحباً بالندى

المتألق فوق غصون الشجرْ

مرحباً

بك ترتفع الأرضُ

يكبر كلّ البشرْ...!

9-

غيمة

وجهها الرعدُ

والبرقُ

والدهشة المستفيقة بالعاصفه

مرّت الآن في دربنا

تركتْ زمناً

يستريح على ضفة خائفه

-10

غيمة

تبسط الشمس

بوّابة لدخول الأغنية

تمنح الأفقَ

أجنحة الفجر والعافية...!

وتقول إلى الناس:

أهلا بكم

تتهادى النجوم اليكم

وكلّ الثمار لكم دانية ..!

***

شعر: حامد عبد الصمد البصري

الاربعاء لا شيء لازلت عالقة في محطة سطورك؛ وحديثك الذي أعيد قراءة تلك الكلمات كلمة كلمة حتى شعرت بأنني أطفوا على بقعة من ظلال وظل ......

  ظاهرياً كل شيء هادئ وفي داخلي موجة بكاء في ساحة فراغ تتمدد حتى أخمص السطر ....

  أحاول أن أقف على أطراف حديث يقلب حقيقة غيابك إلى أضغاث أحلام....

إلى الجانب الآخر من فرح؛ وعلى رصيف مشتل زهر وضوء ....

 هل كنت تتصور أن يكون لهذا الشتاء جنائز تسير تحت وطأة مطر ودمع؟! .....

 وهل كنت تتصور إن وقع غيابك كوقع العواصف الرعدية حين تجلد نوافذ الورق دون صراخ؟!.....

 لم أتصور أن يأتي اليوم الذي أزرعك على حقل سطر؛ وأنت الذي قلت لي يوماً سوف أجالس حروف كتاباتك حرفاً حرفاً حتى نصل إلى الضفة الأخرى من ذاك التل الأبيض المتوسط ....

  كنت أنتظرك بعد أربعة سطور إلا فجراً.. أردت أن أخذك من ذاك المستنقع الذي أطاح بحلمك... أردت أن اخبرك بأن الأبجدية التي كتبتها يوماً سوف تعيدنا إلى طريق معبدة بالضوء والحلم والدهشة ...

  هل وصلك صوتي وأنا أحدثك عن تلك البقعة من العالم التي غسلت بماء ودم ؟! ....

***

مريم الشكيلية - سلطنة عمان....

 

لوحة فوق الجدار

ابيضًا كان الجدار

وشعاع يهرق الضوء بهاء من خلال النافذة

ونسيم شفه وجد الهبوب

فتثنى مرحًا تحمله

لوعة رقص.. فاستدار

حينها مست ذراعاه بعفو معصميها

نزلت خجلى من اللوحة جذلى

ضرجتها فتنة وارتج صمت

حينما طاش عليها الامر

اختالت طروبا

وتأنت بابتسام محض لحظة..

بأناة..

هي قد مدت ذراعيها اليه

ـ أيدس الرقص ما بين يديّ وسيسأل؟

ابتهالًا: راقصيني

لم يهفهف حولها الا هنيهه

ما احتضنها!

ما اعتصرها!

حينما مست ذراعيه يديها

ومضى يلتاث في الصالة وقتا

منذ.. لا تدري ولكن!

وتلاشى..

.....

.....

دهشة غصت من الضحك

أكاليل الستارة

حينما حركها الريح

وغادر

***

طارق الحلفي

أسير وحدي، راكبًا جوّالتي،

أقطع الطريق نحو الأرض المفتوحة،

حيث النخلُ يحرسُ الفقراء،

وحيث المجانين يحادثون الله دون وسيط.

هناك، في أطراف المدينة،

في البقعة التي يسمّونها "الشبانات"*

أذهبُ لأتأمل،

أفرش نظري على خضرةٍ لم تمسسها يدُ الإسفلت،

أسحبُ نفسًا من سيجارتي،

ثم ألتفتُ،

فإذا بالأطفال يركضون في العراء،

يلعبون كما كنا نفعل ذات زمن،

وحينها…

يسرقني التفكير.

*

ما الذي تغيّر؟

الألعابُ ذاتُها،

لكنَّ اللاعبين يتبدّلون،

كبرنا…

ثم كبرت الحياةُ علينا،

ثم لعبت بنا كما لو كنا دمى،

ثم رحل بعضنا إلى وادي السلام*

والباقون ينتظرون دورهم في قائمةٍ طويلةٍ بلا ترتيب.

*

أتذكّر جدتي،

المرأة التي حرمتها الأقدار من أن تكون أمًّا لأكثر من واحد،

فوهبتها الحربُ لقبَ أمّ الشهيد،

وجلستْ تطرقُ ساقيها بأسى،

تنشدُ مرثيةً جنوبيّةً بصوتٍ موجوع:

"من يومها گلبي ولا طاب"

"ومليت أناطر دگة الباب"

"ثاري الهوا والباب چذاب"

"ردّ النه مو غادين عطاب!"*

*

أتأملها وهي تكرّر الأبيات ذاتها كل ليلة،

كأنها تحاول أن تستعيد صوت ابنها من ظلمة القبر.

*

وأنا؟

أضع يدي على وجنتي،

وأغرق في أسئلتي التي لا تنتهي:

*

ماذا لو منحت المقابرُ يومًا إجازةً للموتى؟

لو عادوا إلينا كما يعود العاملُ بعد نهاية الدوام؟

كيف سيكون شكلُ اللقاء؟

هل سيفزع الأحياء أم يحتضنون الغائبين؟

هل ستبكي الجدّاتُ بفرحٍ أم بخوفٍ من وداعٍ آخر؟

*

ماذا لو تحوّل صراخُ يوم القيامة إلى معزوفة؟

هل سيظلّ الحساب رهيبًا أم يصبح الكون حفلةً أبدية؟

*

ماذا لو قَبِل اللهُ توبةَ إبليس؟

هل ستنهار خطط العذاب؟

هل ستُطوى جهنّمُ كما تطوى الصحفُ بعد انتهاء الأخبار؟

*

ماذا لو وضعوا قنبلة غازٍ مسيلٍ للدموع في يد مَلَك الموت؟

هل سيرجعها كما فعل "أبو علاوي الحلاق"؟

يردّها عليهم ضاحكًا، قائلًا: "خذوها،..

لا حاجة لي بها، الموت يكفيكم!"

*

ماذا لو استبدل الموت الظاهر بالحياة الظاهرة؟

لو لم نرَ القبور، بل رأينا أهلها يتجوّلون بيننا؟

*

ماذا لو لم يكن اللون الأحمر موجودًا؟

هل سيبقى للحبّ عيد؟

أيّ لونٍ سنختار له؟

أم سننسى الحبَّ كما نسي العالم الرحمة؟

*

ماذا لو…

ماذا لو…

ماذا لو…

*

أشعل سيجارة أخرى،

أنفث الأسئلة مع الدخان،

وأعود من "الشبانات"،

كما جئت…

وحيدًا، ممتلئًا بأشياء لن تحصل أبدًا.

***

حيدر كرّار عدنان

.....................

 * الشبانات: منطقة مجاورة لمنطقة الشاعر في كربلاء، يقطنها أناس بسطاء، يعيشون في ظروف متواضعة، تملأ شوارعَها ضحكاتُ الأطفال وهم يلهون ببراءة، وتنبض بالحياة، وسط بساتينها الغنّاء، التي تضفي عليها سحراً خاصّاً.

* وادي السلام: مقبرة مدينة النجف، أكبر مقبرة في العالم

* يذكر الشاعرُ جدته التي أعدمَ النظامُ الفاشيُّ السابق إبنَها، فظلَّتْ تحنُّ اليه حتى يوم رحيلها.

رواية قصيرة

1- رصاصة وماء

أمّا عنّي أنا فأقول بكلّ جرأة ها إنّي أعود من دون خوف

نعم

بعد ربع قرنٍ عدت إلى مكاني الأوّل…

فقد تغيّر شكلي الآن

 تماما.. أصبحت شخصا آخر.

ظهري لم يتقوّس مثلما بدا على أبي مبكرا.. كانت أمي تقول أرفع رأسك دائما ولا تنحنِ. تضايقت في البدء، مع ذلك تجنّبت عيبا خلْقيا بفضل تلك النصيحة. أمّا وجهي فلم يعد كما هو، هناك تجاعيد، وبعض التشوه. من حسن حظّي أنّي كنت أميل برأسي بعيدا عن شلالِ ماء النار الذي أكل بعض خدّي الأيمن. فأضاف مع الزمن تغييرا على وجهي لا يستبينه أحد من الأحياء الذين عاصروني قبل هربي البعيد.

أمّا اسمي فلا يهم.. معي وثائق أخرى، واسم آخر اخترته عن قصد، لينس الناس اسم (جلال الحيّ) لأنّني سبقت الزمن، واسمي الماضي. كنت أعيش بطريقة ذكيّة: حي مع نفسي، وميت بنظر الآخرين. كان لابد من أن يتحوّل - إذا رجع الزمن ثانية - (ميلاد سلامة) إلى (جلال الحيّ) منذ أن فكرت بالعودة إلى البلد من جديد.

ومثلما تغيّرت بسرعة مذهلة، وجدت كل شيء تغير أمامي.

البلد هو وليس بهو.

حاضر وغائب

هناك بعض المعالم بدت مشوشة مثل صورة قديمة.

حسب مفهومي السابق كان المشهد يتداخل في عينيّ بشكل فظيع.. هناك جمال وقبح في الوقت نفسه

نخل اختفى وسدر حل مكانه.

بيوت متواضعة.. عمارات ارتفعت مكانها.

الأمور تسير بالتوازي والأهم عندي ألا أحد يعرفني على الأقل الآن.

اخترقت شوارع جديدة، مناطق ضيقة، مناطق أعرفها على الرّغم من تغيير رهيب لم آلفه من قبل. بضعة أيام مرّت حتّى تأكّدت ألّا أحد يعرفني.. فقد أطلقت لحيتي قبل العودة ببضعة أشهر. أغادر الفندق إلى الشارع، ألف الحارات، أطالع الآخرين بلمحات قصيرة.

المكان ذو القصب الذي قـتلت به، زرته..

وقد خُيِّلَ إليّ أن الكثير من المظاهر شاخت

ومن بينها النهر نفسه.

كنت يوم جرفني الماء جريحا في التاسعة عشرة من عمري، والآن شارفت على منتصف العقد الخامس. يالها من رحلة طويلة أجبرت عليها، ويثير دهشتي العشرات الذين أراهم يهرعون إلى زوارق

المهرّبين ليغادروا ولم يجبرهم أحد مثلي على الهرب...

على النقيض من هؤلاء الهاربين سجلت عودتي الجديدة.

حارتنا القديمة لم يطرأ عليها أيّ تغيير كثير، استوقفت طفلا واجهني عند المنعطف القريب من بيتنا:

- قل لي لو سمحت أتعرف بيت السيد (جليل الحيّ)

أشار الصبيّ إلى بيتنا القديم، وقال:

- ذاك هو البيت يسكنه ابنه (كنان)

أخذتني دهشة مفاجأة.. دهشة أشبه بالصفعة إذ لا أعرف لي أخا اسمه (كنان):

- أليس أخوه (توفيق) معه.

أجاب الصبي بعدم اهتمام:

- سيدلك عليه (كنان).

خطوت كمن راودته جرعة خمر. أظنّ أنني أترنّح. نحو بيتنا القديم. لا أرغب أن يشمت بي أحد، ولا أعرف حين تواريت أنّ لي أخا اسمه (كنان) وقد ظنوني مت وجرفني التيار إلى الخليج فلم تبق لي الكواسج والحيتان من أثر، وقتها كانت أمي في سنّ الخمسين، فكيف أصبح لي أخ....

الحقّ على أبي هو الذي تفرّد بأسمائنا ما عدا أختي زاهية التي اختارت اسمها أمّي موفق.. جلال. أنمار... توفيق سوى أني أكاد أترنح، وتنتشلني فكرة تقول أنّ عليّ أن أحسب حساب المفاجآت..

 وقفت أمام الباب مترددا، وضغطت على زرّ الجرس بيد مرتعشة، فانفرج مصراع الباب وأطلّ عليّ بعد لحظات صبيّ في السادسة عشرة من عمره، هو أخي الذي عرفته قبل قليل ولا يعرفني، فيه من أبي شبه كبير وبعض وسامة أخي (توفيق) وطول أخي الشبيه بي (أنمار الحي).

قتلوا منا واحدا

قتلنا اثنين، فقتلوا منا

ثم منهم ثالث ومنا رابع، وآخر فاستهدفوني في سلسلة الدم.

هناك شخص آخر يسير جنبي هو أخ لا أعرفه.

كنت أسير بجنب النهر، المد عال والتيار جارف، هزني صوت رصاصة وقعت في كتفي، فرميت نفسي في الماء.. لحظتها غطست وجرفني التيار.. اختفيت بين القصب الكثّ.. لم أشعر بالألم إلا بعد دقائق، بقيت أتشبّث بالقصب، وسمعت أحدهم يقول:

- هذه آثار دم على الجرف

ورد الآخر:

إن لم يظهر في أهله، سيكون التيار جرف جثته، وتناهشتها الكواسج.

كنت أنصت بين القصب إلى الذين قتلوني، وقد راودتني شجاعة ألا أعود، لم يبق من عائلتنا إلا أخي (توفيق) الأكبر مني بسنتين، شقيق آخر لي ظهر فجأة.، فمن أين جاء أخي هذا الذي لا يعرفني!

وصلنا إلى منزل فخم، تشرئب من سياجه نخلة وشجرة سدر وثمة تلقي ملكة الليل بأغصانها على قوس الباب، ضغط (كنان)على زر الجرس وحالما انفرج الباب عن صبي في السادسة من عمره، دلف أخي المفترض هو والصبي إلى الداخل وهو يقول لحظة من فضلك، ثم خرج وهو يخاطب أخي:

- ضيفك

 وتركنا وحدنا.

ربع قرن كاملة بيني وبينه...

سنوات تشير إليها شعرات شابت، وتجاعيد في الوجه. وربما بعض تقوّس في الظهر ورثه عن أبي: كيف أبدأ؟

- هل عرفتني؟

حصر ذاكرته إلى البعيد حاول العبور إلى الزمن بلحظات:

- الصوت ليس غريبا عنّي!

فقطعت عليه حيرته، فهمست:

- تماسك أنا أخوك. أنا (جلال)

معجزة ما فب عينية. ريبة.. بين مصدّق ومكذّب، فيستغرب من ميت حي وميت يعود للحياة بعد أن أصبح رميما.. عانقني بحرارة والدموع تكاد تقفز من عينيه:

- غير معقول

- فهمست ثانية وأنا أمسح على رأسه:

- معقول ولا تنس أن تحفظ السر أنا صديق قديم.

2 - أنمار أخي

كأنّما كان كل شيء يعيد نفسه بصيغة أخرى.

أما الذي كان، فلا أنكر على الأقل، مع نفسي أنّي كنت السبب فيه.

أعترف

أنها عبثيتي وحبي لنفسي الذي فطرت عليه.

عنادي

واعتدادي بنفسي

أم

بعض النرجسيّة؟

كان أخي (أنمار) الذي يصغرني بسنة، هو ضحيّة شبهه بي. شاب متزن قليل الكلام، يتعفف عن كثير من الأمور. في اليوم المشؤوم رصدوني، - أعني آلم الفارس، من حقّهم... رصدوني أنا من هتك عرضهم، كما خطر لهم، ونكث بهم، نصبوا لي كمينا ومن سوء حظّه أنّه كان يوم في المكان نفسه...

أنا هو

الناس أنفسهم أخذتهم الدّهشة...

أمي

أبي

إخوتي...

هذا (أنمار)صاحب المكارم الذي يقسم الناس برأسه.. يحلفون به.. يرتكب إثما... يقولون تحت السواهي دواهي، وقد سكتّ..

بلعت ريقي عدة مرات والتزمت الصمت.

أخي (توفيق) ران عليه الجزع والتأثر أكثر منا، واختمرت في رؤوس الجميع فكرة الثأر. قال أبي:

- لا عزاء إلا أن ندرك بثأرنا

واستشاط أخي الأكبر (رائد):

- لا أظنّ (أنمارا) يفعل ذلك أنا متأكّد من أنّها قضيّة مفبركة، ليغطّوا بها على خطيئة ابنتهم.

واندفع أخي (صافي):

- كان الأولى بهم أن يواجهوننا بالحقيقة لنحلّ المسألة من دون فضيحة!

بقيت ساكنا. الحق كنت متأثرا إلى أبعد حد. الذي شكّوا فيه هو الشبيه بي على المّرغم مني أننا نحن الإثنين لسنا بتوأم.. أمّي نفسها يختلط عليها وجهانا فتنادي كلّا منّا باسم الآخر. لم يتبيّنوا ملامحه... هو أنا. حينذاك أنقذني الظلام وشاحنة استدارت عند الفلكة القديمة. تشبّثت بها من الخلف وأنا ألهث. انتهاك... إثم.. جريمة.. شرف.. وكانت هناك لي لقاءات لكن لم يكن هناك اقتراف خطيئة وذنب.. كان أهل الضحيّة يشكّون بأخي، فصرخت بأبي وإخوتي:

- إنّه حقي... حقي أنا (أنمار) ولد بعدي وهو شبيهي أنا آخذ بثأره.

مع كلمتي تلك جرى شلال دم بين عائلتنا نحن آل (الحيّ) وعائلة آل (الفارس)، أخفيت سلاحي تحت ثيابي، وقصدت سوق العطارين الضيق القديم حيث العطور وليف الاستحمام وروائح الصابون المحليّ. هناك (نديم) ابن الحاج (عواد الفارس).. في غفلة مع زبون، ومن حسن حظّي أني بعد لحظات أبصرت أخاه يزيح ستارة الباب الخلفيّ فيقف عند الميزان. تراقص السرور في عيني، لابدّ من أن أمارس القتل.. عصفوران بحجر واحد هل أخذتهما العزّة بالإثم، فباشرا العمل، ولعل وجود أخيه حدث مصادفة. حثثت الخطى، وبسرعة البرق. مثل الذئب، انثنيت، وصرخت. أطلقت عليهما النار ثمّ انسللت بخفة الغزال..

لم ترتجف يدي

أحب الغناء

الطرب

الرقص

مع ذلك أثبت أنّ صدري مثل الحديد يمكن في لحظة ما أن يتخلى عن كلّ معالم النعومة ورهافة الحسّ.

اثنان بواحد

وحاول ضابط الشرطة أن يستنطق عدوّنا. استدعوا الرجال وبعض النساء، فأنكروا...

وفي الليلة ذاتها مشيت مرفوع الرأس، وذهبت شأني كلما أحسست بالنشوة إلى دارة (رودينا أبي لمعة) فعثرت على مطلبي. سكرت والتهمت الشاورما، وتمايلت مع رقصات بنات الريف، ثمّ ضاجعت بتحفّظٍ ابنة (رودينا أبي لمعة) (راجحة)ذات الأعوام الستة عشر.

كانت تثيرني أكثر من غيرها بنهديها المنتصبين وبطنها الضامر.

تكون بين يدي ولا أقرب عذريّتها. كانت تثيرني بشامتها الناصعة السواد على كتفها الأيمن، ووحمة بنية ترتسم أسفل سرّتها..

ويبدو أن الحيوية عادت إلي مرة أخرى، فغيّرت، ذهبت مع إحدى المحترفات ودفعت مبلغا مضاعفا، فغفوت في بيت (رودينا) ولم أستفق إلا قبيل الظهر.

هل أدوّن سيرة الدم الكبرى قبل حدوثها بل قبل أن أصبح في عداد الأموات!

3 - الهالة على وجهي

- الآن سأنادي على الطعام فلعلك جائع وبيتي بيتك أنت ضيف بالإسم فقط.

- أكلت في الفندق.. اسمي الجديد (ميلاد سالان) جواز سفر الدولة التي انتميت لها، قبل ثلاث ليالي نزلت في فندق (الأمل) وتجولت بوجهي الذي غطته السنين وتشويه في خدي اليمين.

هما جواز سفري الأصلي

تعويذة المرور.

لم يصبر أخي، وقاطع:

- لكن حقيقة ما الأمر.

- سأشرح لك فيما بعد قصة الهالة.. نزلت إلى الشارع فأيقنت أن لم يعرفني أحد، وهنا حين وصلت تعمدت أن أسأل طفلا عن بيتنا القديم تجنبا للمفاجأة، فاكتشفت أنّ لي أخا جديدا!

فقال مبتسما بمرارة:

تلك قصة النهاية للمأساة ولعلها أطرف قصّة.. بعد أن فقدنا اثنين من عائلتنا عزّ على أبي أن يفرِّط بي.. وأبوا أن يفرّطوا بمن بقي لهم فجرت الوساطة بيننا.. (خفض صوته، ثم سكت، فسمعنا طرقة على الباب، فنادى بصوت عال) أدخلي...

هزّني المشهد حقّا..

رشاقة

خفة

مشية باتزان...

هي

(فجر الفارس)، والسنين التي طبعت على وجهها مسحة حزن وكبرياء، كنت في طريقي إلى أن ألهو بها من دون أن أقترف إثماً ولا جُرما.. في الثامنة عشرة من عمرها، والآن تجاوزت العقد الرابع لكن جمالها مازال يتطاول على السّنبن. كنت أقول لها أنت حقا فجر... وأكثر من بدر.. كانت تظنني صافي النيّة. أحبّتني.. مع ذلك لهوت قليلا.. قبلتها وهصرت يدها.. جعلتها تضع رأسها على كتفي... قالت:

- هل تحبني؟

- نعم

أدرك أن في كلامي صدقا وكذبا.. لعلّ الكذب أكثر.. قد أكون أحببتها.. لكنّ طبيعتي جبلت على حبّ اللهو، لا أقبل أيّ قيد.. لا أنكر أنّ في علاقتي معها مسحة من الحبّ، وحين لمحني أحد أشقائها في الظلمة التبس عليهم الأمر.. فكان المطلوب شخصا آخر:

- زوجت (فجر الفارس)

لم يكذب نظري ولم تشطّ النظرة الأولى منّي نظرت إليها وخفضت بصري، لا أظنني زغت واستدرت قدر استطاعتي إليها بخدّي المشوّه:

- أهلا وسهلا. تشرفنا

- أهلا بك أخي العزيز.

يبدو أنّ ملامحي غابت في السنين، فخفيت عنها، وضعت صينية الشاي على المنضدة واستدارت من دون أن تنظر إليّ، فاستوقفها قبل أن تصل إلى الباب الذي يفضي إلى داخل البيت:

- أمّ (إياد) أيتها العزيزة، (ميلاد سالان) صديق قديم كان معي في الجندية، كان أحدنا يفدي روحه للآخر، وقد ترك بلدته ليعمل هنا أمرته نعم أمرته أن يترك الفندق لأن له بيتا هنا وسيبقى معنا إلى أن يعمل ويجد بيتا.

سبقتني:

- على العين والرأس

اعترضت، أحاول أن يكون كلامي معها قصيرا لئلا تستفزّها نبرة كلامي، فتعود إلى سنوات خلت:

- يا صديقي لا أريد أن أثقل عليك.

- والتفت إلى زوجته:

- أووه لا عليك منه.

فهمست في أذنه حالما اختفت:

- يبدو أنّك لا تعاملها كأنّها صفقة من الصفقات.

فابتسم عن انشراح:

العشرة تخلق الحبّ، أختنا عندهم حسب صفقة وهي مرتاحة مع زوجها ولها منه أولاد وبنات.

أحاول أن أقنع نفسي:

- لكن أريد أن أفهم إذا لمم يكن سؤالي يحرجك ذا، وكيف تزوّجت حبيبة أخيك المرحوم.

فقال بلهجة مرّة

- واقع لا بدّ منه. اشترطوا للصلح أن يتزوّجوا أختنا (نبيلة) وأتزوج أنا(فجر) ثمّ أصبحت العائلتان مثل السمن على العسل، وحين ماتت أمي بعد سنتين كمدا على أولادها، صاهرهم أبي فجاء أخونا الذي أوصلك إليّ ولنا أيضا أخت أصغر منه اسمها (سها).

فارتشفت بعض الشاي، وتأملت قليلا:

- يعني يسكنان مع أمهما في بيتنا.

- بالضبط.

فهززت رأسي كأني في غيبوبة:

سمعتك تناديها بكنيتها؟

فردّ كأنّ خجلا ما يراوده:

- (إياد) ابني الأكبر، يعمل ضابط شرطة على الحدود وقد ينتقل إلى محافظة ما، ولعلني أرتّب أمره بوساطات فيبقى في البلد قريبا منّا.

- كلّ عقدة تحلّ بالمال.. لا تحمل همّا.

- وعندي أيضا (درّية) أمّ الدرّ على اسم أمّنا تدرس الطبّ في العاصمة في سنتها الأخيرة.

- ماشاء الله ربّ زد وبارك. حديثك جعلني أشتاق لرؤيتهما.

ومدّ يده إلى كأس الشاي، فتردّد كأنّه يبحث عن شئ أو يتحرج في البوح عما يفكّر به، وكان عليّ أن أستدرجه لأعرف ما الذي يشغله فأُنْصتُ وأسْتمعُ أكثر مما أتكلّم فقد بدت المدينة والناس بشكل آخر لا يبعث فيّ الخوف. حين طال الصمت بضع ثوان:

- ماذا؟ هل من شيء؟ قل أنا أخوك الشقيق.

- الحقيقة لا أعرف. ظنّك الجميع ميتا. مقتولا.. فجرى تقسيم الميراث على وفق الحال الجديدة. (كنان) وأخته لهما البيت، ولي البستان الكبير، لست محتاجا، وأعطي من وارد البستان الأهل وأدعم سها وكنان، إنّما هي وصيّة أبي جاءت مع الشرع ولا بدّ من أن التزمها، (كنت شغوفا على ألّا أقاطعه، فالتقط أنفاسه وواصل) سآخذك غدا إلى محل الكهربائيات الذي أملكه، لكنّ ظهورك قلب الموازين!

- قل ماذا تفكر به بالضبط.

- قضية الميراث وحصتك فيه، لا أقدر أن أواجههم بظهورك، لكنّي لن أبخسك حقّك وسأتّحمل تعويضك وحدي....

بلا مبالاة:

- هذه قضيّة لا تعنيني فلدي المال الكثير وأنوي إقامة مشاريع في المدينة. فهل هناك من شئ آخر؟

- أخشى أن تظهر باسمك الحقيقي، فيهتزّ الماضي كلّه.. فتثور صدور الآباء... الأبناء.. الجيل الجديد.. سريع الانفعال... يتصوروننا خدعناهم وأخفيناك. الجميع يظنك ميتا فيدخل (آل الفارس) و(ىل الحي) في دم جديد...

فقاطعته متفائلا:

- وهذا أيضا لك ولن أسقطه من حسابي بل سأعمل به سترى وتسمع في الأيام القادمة عن الوجيه المعروف (ميلاد سالان)

فزوى ما بين حاجبيه:

من أنت؟

- (ميلاد سالان) لا تعجب يا عزيزي والدنا لم يرتّب أسماءنا حسب الحروف الأبجدية ولا على أي أساس.. أسماء عشوائيّة لا ترابط بينها، أمّا (ميلاد سالان) فاسمٌ يناسب التجارة ورجال الأعمال الكبار.. ثمّ تسهل كتابته باللغة اللاتينيّة فهل اقتنعت؟

4 - يُنسى ولا يُنسى

.. أوصلني أخي بسيارته إلى الفندق قبيل منتصف الليل، وظنّ أنّه يجدني في الصباح قد حزمت حقائبي حسي اتفاقي معه، وانتظرته.

لكني أجريت بعض التعديلات..

أثبت وغيّرت

محوت.

كتبت قدرا جديدا لي.

كنت مضطجعا على السرير في الغرفة، أراهن أثر السنين.. الربع قرن والتشوّه الذي طرأ على خدي. في إحدى معاركي.

هل تكتشف(فجر) شخصيتي حين أعيش عندها في البيت؟

كان أخي متسرعا في عرضه..

إنّي الآن أحمد الساعة التي عانق فيها ماء النار خدّي..

قبل أن أجمع ثروتي الهائلة.. اشتغلت في عدة أعمال.. قد يراها مجتمعنا وضيعة.. كناس.. حمال.. عملت علاقات مشبوهة ومارست التهافت على اللهو. هوايتي المفضّلة.. تجارة الممنوعات.. الحشيش، تزوير العملات.. فتحت بارا وصالة قمار.. إنّه اللهو الذي مارسته في بلدي من قبل…

 هوايتي

لا أدافع عن نفسي

منذ صغري أحبّ الفرفشة والعبث والغناء

هواية

مثلما هناك هواية الشعر والملاكمة والنحت

أصبحت ثريّا من واردات المرقص وتجارة الممنوعات، وكذلك الجنس. لست سخيفا لأعترف أنّ التشويه في وجهي الذي أخفى شخصيتي حدث بسبب شجار. قد لا ألوم نفسي، فما نجده في بلد عيبا يكون عملا غير مشين في بلد آخر.

 عندئذ أدركت وبكل رجاحة عقل أنّ عليّ أن أقف عند حدودي، فهذا البلد الغريب منحني كيانا: جنسية... اوراقا ثبوتية، ولغة أخرى، يمكن أن تعزز رغبتي في الانتقام.

لم يوقف رغبتي في الانتقام أنّي وجدت الأعداء أصبحوا إخوة..

بل

ازددت تصميما

لقد قتلوا أخي الشبيه بي

نصفي الآخر الذي يراه أبي وأخوتي وأمي النصف الحلو

الدعة..

البساطة

الهدوء

التدين

العفاف

فهل أسكت عن ثأري

ذلك زادني إصرارا على أن أمارس طريقتي الخاصّة...

في الساعة العاشرة صباحا زارني أخي، ارتسمت الدهشة على وجهه:

- أين حقيبتك؟ هيا لا تتكاسل.

- إسمع يا أبا (إياد) لقد غيّرت خطتي.

- معقول؟

- عليّ أن أحسب ألف حساب للأمر بقائي عندك فترة طويلة يكشف سري لزوجتك من زلّة لسان أحدنا أو تنصت على حديث..

قال بارتياح:

- إذا كان الأمر كذلك فلك ما تشاء.

- أظنّك أنت أيضا مهتم في الحفاظ على السرّ.

- طبعا. هل تذهب معي الآن إلى المعرض؟

وفي الطريق طلبت من أخي أن يعرج على مكان آخر في ذهني، فمالت بنا السيارة إلى حيث أقصد. وبدت لعينيّ المشاهد غائبة حاضرة في الوقت نفسه، تغيير فظيع كأنّ المدينة تنمو وترتفع إلى السماء أكثر.. طلبت منه أن يوقف السيارة، فترجلنا ونظرت إلى الجرف.

المكان نفسه..

بعض الملامح تغيرت

وأخرى لا أظنّ الزمن مهما تسارع لا يطالها

نظرت من الجرف، وحزمة البردي الكثيفة التي انحسر عنها الماء، لمست من حيث لا أدري كتفي:

- الآن جزر

- ليس الجزر وحده هناك جفاف وأصبح المجرى حتّى في أقوى مدّ لا يصل الجرف.

فقهقهت منتقما:

- هنا اغتالوني ومن حسن حظّي أنّ المدّ ليلتها كان يعانق الساحل. كنت عائدا من مجلس لهو في بيت (راجحة)، فجأة أصابتني رصاصة في كتفي، فقفزت في الماء والرصاص يتلاحق وقطرات من دمي على الجرف.

فوضع يده على كتفي:

- انس الماضي

فقلت له كأنّي أخرج من كابوس:

- هناك أشياء تنسى وقضايا لا تنسى

 عدنا إلى السيارة ثانية، وسط صمت مطبق ثمّ وصلنا بعد دقائق إلى معرضه. كان يدلّ على أبهة، والعاملون فيه مثل خلية نحل، ولفت نظري زبائن يخرجون أو يدخلون. كان المعرض الفخم صورة لمدينة صغيرة.. فتح باب المكتب وقال:

نجلس هنا بعيدا عن الضجّة، لقد قدمت الساعة التاسعة فتحت المعرض، ثمّ قصدت الفندق، وطلب من عامل فتجاني قهوة:

- دعنا ننعم بالقهوة ونفكر ماذا تقترح علي من عذر لعدم حضورك اتعلّل به أمام(فجر)؟

- اختلق أيّ سبب قل لها جاءتني مكالمة ضرورية فسافرت على أمل أن أعود بعد بضعة أيام.

فابتسم وهو يرتشف القهوة:

- عذر مقبول حقّا.

تابعت بخار فنجاني، فسألته قبل أن أرفعه إلى شفتيّ.

- قل لي هل تحبها؟

فصمت لحظة، وقال:

- إنّها طيبة القلب. البارحة سألتني قالت يمكن يكون صديقك بحاجة إلى مال!

فاستفزّني قوله:

- لم أسألك عن طيبة قلبها أمنا كانت طيبة القلب، الطيبة موجودة في طبيعة البشر لكني أسألك عن الحب؟

علا وجهه بعض القتام:

- لا تنس أنّها كانت ضمن صفقة... صفقة سلام أنهت الحرب.. أمّا الحب فقد خلقته العشرة، ولا أبالغ أن أقول إنها تعبدني!

فصمت، وصمت، وانتبه إلى السكون، قبل أن ينطق، دخل عامل وزبون يسألانه عن سلعة ما، فغادر وعاد بعد دقائق، أغلق الباب خلفه، وقال:

- معذرة قد تكون في شكّ ما أوحاه إليك الماضي، وهذا من حقّك، وحقّ أخينا المغدور، لكني تساءلت بعد زواجي، لأفترض أنّها تزوجت رجلا أحبته قبل الزواج ثمّ مات، ألا يحقّ لها أن تخوض تجربة زواج أخرى.. الأحياء يا أخي أولى.

فهززت رأسي بين مقتنع وشاك شأني في نظرتي للحياة:

- معك حقّ هناك ماض يمكن أن ننساه. إلّا بعض الماضي مثلي أنا هناك أشياء لا أقدر على أن أهجرها.

- أعرف.. الفرفشة!

استدرجته:

- يا أخي أين هي الفرفشة. منذ أن دخلت البلد لم أجد إلا لحى، وعمائم، ونساء يغطين شعورهن، أين أيام زمان، أين الغناء والطرب و (رودينا أبي لمعة) صحيح قل لي هل مازالت حيّة.

فضحك ونقر بقلم على ورقة مقوى بين يديه على المنضدة

- الله لا يعيد أيامها الفاجرة. ماتت وشبعت موتا، ومع قدوم الجماعة أصحاب اللحى كما تقول، هجرت ابنتها (راجحة أبي لمعة) المهنة، وفتحت معمل خياطة لملابس النساء، في مركز المدينة، مركز (الستارة)، وهناك همس في أنّه أكثر من ذلك.

5 - خال ووحمة

العالم يتغير

وهناك أشياء تظلّ في النفس، وخارجنا لا تتبدّل وتلك قضيّة لا تتعلّق بالنسيان.

معالم اللهو لا تشيب

الغناء يظل كما هو على مر العصور لا أحد يهجره

والخمرة هي هي.

وقد وقعت على بغيتي أخيرا.. (راجحة أبي لمعة) بغيتي، يا ترى هل تغيّرت.. كانت تمارس الجنس معي ومع آخرين، وهي عذراء. مع ذلك أحسّ أنّها تمنحني مالا تمنح الآخرين أو إذا جزّأت اللذة أظنّني أكسب حصّة أكبر مما تمنحه للآخرين.. وأجدها تنزعج حين أمارس مع غيرها. هناك أسماء في ذهني.. أسماء عاهرات جميلات بعضهن جئن من بلدان بعيدة..

هربا أم رحلة.. لا يهمّني معرفة السبب. سأختار حشدا منهنّ.. أكون حلقة الوصل بين الوحشة والفرح..، وانتشلني أخي الي عاد من إطلالته على محله الواسع:

- قل لي هل تحبّ أن نتغدى هنا في مكتبي اليوم؟ سأطلب كبابا الأكلة التي تفضَلها.

- لا... أرغب في أن أرى المدينة.. والأفضل أن تتغدّى مع زوجتك.

- نحن إخوة لا تشعر بالإحراج يمكن أن نذهب إلى المسجد القريب نصلي الظهر ثمّ نعود إلى هنا نطلب طعاما أو نتغدّى في أيّ مطعم.

فابتسمت مذهولا:

- عهدتك لا تصلي منذ متى بدأت؟

- بعد مصرعكم وبقائي وحدي لقد وجدت الحياة لا تساوي شيئا، حفنة تراب وحفرة وأسأل الله لك الهداية.

فنهضت ومازالت الابتسامة ترتسم على وجعي:

- سأذهب إلى المدينة

- هل أقلك إلى هناك؟

- لا حاجة إبق في عملك سأستقلّ سيّارة أجرة.

كان هدفي معرض (الستارة)، النافذة الجديدة التي انفتحت لي بصورة أخرى، ودفعتني إلى أن أتشبّث بفكرتي القديمة أكثر وأكثر. كم كنت أتعب في الجث عن وسيلة أخرى لو لم أجد (راجحة أبي لمعة) وقفت السيارة أمام المحل، فترجلت:

لحظات

بصري يلاحق العنوان: خياطة الستارة: لوحة أعلى المدخل عريضة، ونماذج لملابس نسائيّة محتشمة في العارضتين الزجاجيتين اللتين تحيطان بمدخل يفضي إلى باب محكم الإغلاق.

ثمّ

ضغطت على زرّ الحرس فانفرج الباب بعد دقائق، فأطلت عاملة في الثلاثين من عمرها ف، يغطي شال شفاف بعض شعرها:

- إنّي أسأل عن السيدة راجحة أبي لمعة صاحبة المعمل.

- ستأتي بعد ساعة.

- حسنا سأرجع من الضروري أن أجدها من أجل صفقة. قولي لها معرفة قديمة رجل الأعمال (ميلاد سالان).

كان عليّ أن أدع ذهنها يفكّر... من هو (ميلاد سالان)، أروم أن أستنزف خواطرها قبل أن أقابلها، الحظ يدعوني مرة أخرى.. سينشغل ذهنها بالماضي تبحث في صفحاته ولا تجدني، فالذين مرّوا بها كثر.. وجميع الأسماء متشابهة.. الواقع والخيال، أمّا أنا فما عليّ إلا أن أثبت لها. أنّي صاحب مشروع يعيد الماضي بصيغة أخرى... لا أظنّها تنكرني أو ترفض فلدي منها شارتان من الماضي البعيد أفاجئها بهما فتطمئن إليّ.

أقلتني سيارة أجرة إلى فندق الأمل السياحي، منحت موظف الاستقبال بعض النقود، وسحبت من الودائع حقيبة السمسنايت:

- قد تزورني خبيرة بالمساج المساء..

فهزّ رأسه مسرورا.. صعدت لجناحي، وأخرجت عقدا ثمينا، من الحقيبة، أعدت إغلاقها بالرقم السرّي، وضعت العقد الذّهبي في جيبي، وجلست أتأمّل.

أمارس الوقت

لم تبدأ عملية اللي بعد

ابتسمت ساخرا

رفعت سماعة الهاتف.. طلبت سيارة أجرة، وهبطت إلى صالة الاستقبال، أودعت الحقيبة، ودخلت السيارة..

كيف فاتني الأمر.. تفكيري في حفظ هويتي جعلني أهمل الأرقام كأنّها تفضحني، نسيت أن أصحب معي رقم هاتف أخي في العمل، والبيت، ومعمل (راجحة أبي لمعة).. التفتّ إلى أنّ خطتي المحكمة أوحت لي أن أستعيد الأرقام إذ تأكّدت الآن أنّي استفقت من زمن الفراغ الذي امتدّ إلى ربع قرن ودفعتني فيه الهواجس إلى أن أحذر الناس والحيوان وكلّ شيء.

خرجت من سيارة الأجرة، هذه المرّة وجدت الباب مفتوحا. وقفت في الممر، وسمعت أصوات مكائن الخياطة تأتي من الأعلى.. واجهتني عاملة بملابس زرقاء، وشال بنيّ يغلّف شعرها فسبقتها:

- السيدة راجحة موجودة؟

فدلفت في غرفة على جانب الممرّ الأيمن ثمّ خرجت، تصعد الدرج، وهي تقول:

- تفضّل

حالما دخلت، التقط بصري من ظلال الممرّ ضوء المصباح، فتراءت لي سيدة في الأربعين من عمرها، يغطي شعرها حجاب كثيف،

كدت لا أعرفها

وأكاد أعرفها

ربع قرن

مازالت تحتفظ بمسحة من الجمال، عدد الأيام والسنين لم يمحوا كلّ جمالها، وفي أيّة لحظة كانت تتأوّه بين يدي كأنّها عذراء

تتأوّه

تصرخ

تشدّ بيديها ورجليها

مع ذلك فقد كانت ساخنة دافئة، فهل أجادت التمثيل إلى حدّ غير معقول

مددت يدي مصافحا:

صباح الخير ست راجحة أنا (ميلاد سنان) هل تذكرينني؟

فتغيرت سحنة وجهها:

- (ميلاد سنان)؟ صوتك ليس غريبا عليّ

- دعك من صوتي. أنا من رواد مجلس والدتك.. لا أعاتبك يكفيك ربع قرن لتنسيني..

فازدادت دهشتها:

- أووه إنّه عهد بعيد.

- لا أبالغ أنّي كنت أفكر بك أكثر من الأخريات.. رحم الله والدتك.. ولكي تطمئنّي. (مددت يدي إلى جيبي، ورفعت العقد إليها) هذه هديتي المتواضعة.

فانبهرت، وقالت: هذا كثير..

- أبدا أبدا شيء يسير وسترين المزيد منه.

قالت ومازلت الدهشة مرتسمة على وجهها:

حقّا أولاد الأصول لا ينسون الزاد والملح.

فتحت درج مكتبها، ووضعت العقد بخفة، وضغطت على زرر اسفل المصباح، فدخلت الفتاة التي قابلتها أوّل مرّة:

- ماذا تحب أن تشرب.

- أي شيء فطلبت قدحي شاي، ولكي أزيدها ثقة وأتعجلها في أن تطمئن لي:

- تعرفين أنّي كنت معجبا بشيئين لم أرهما عند غيرك: الخال في أعلى كتفك اليمين، والوحمة الدائرة وسط أسفل سرّتك.

فأطرقت تداري خجلها:

- كان ذلك أيّام زمان. لقد كبرت ووجدنا عملا آخر...

- لكنك مازلت حلوة.

- أشكرك

طرقت العاملة الباب، وضعت قدحي الشاي، وأغلقت الباب خلفها:

- اسمعي راجحة، لديّ مشروع مهمّ.. مشروع تجاري كبير، هل تتعاونين معي، هل لديك الوقت.

فضحكت ضحكة مليئة بالثقة، وقالت:

- أنا وقتي ملكي...

- حسنا.. يمكن أن تأتي إلى فندق الأمل.. حاولي أن تجدي جناحا في الطايق الثالث، أسكن في الجناح السابع وأظنّ الثامن والسادس غير مشغولين بأيّ نزيل يمكن أن تحجزي أيّا منهما أو أي جناح آخر.

- أيّ وقت؟ الساعة الخامسة؟

- حسنا ليكن ذلك، ولا تنسي سيكون مشروعا ضخما في البلد ولك الحق في أن تجرِّبي ولن تخسري شيئا.

نهضت أشدّ على يدها.. طبعت قبلة على هامتها.. لابدّ لي من أن أعيد الماضي بصيغته الأولى حسب نمط جديد.. حين جاء هؤلاء من باب المصادفة سادوا البلد وتحكّموا بشؤونه.. جعلوا الدنيا بقالب واحد.. الحياة لا تسير بالحزن وحده ولا بالشرف من دون خيانة أو الخير من دون شرّ أريد أن أبعث النقيض من جديد:

أعترف:

الانتقام يحرّكني

لكن

هناك مشروع يضيف إلى الحياة التي يعيشها الناس بلون واحد نمطا آخر...

يدفعها إلى أن تكون حلوة أكثر.

أخي توفيق يئست منه منذ أن رأيته ارتبط بوشائج قربى مع آل الفارس. أعرضت أن أبثّه ما في نفسي. أصبح لعدوه أخا وصديقا وصهرا. برأيه الصراع انتهى، وأنا أبحث عن شبيهي بين القتلى.، ولا يعلم أخي توفيق أنّه دلّني على (راجحة) بحسن نيّة.

خرجت من محل الستارة وذهبت ماشيا إلى معرض أخي، فأخبرني العمال أنّه في البيت، التقطت بطاقة تحمل عنوان المحلّ، والهاتف، ورجعت بسيارة أجرة إلى الفندق، كنت أشعر براحة، وخدر...

هي البداية

إلى هذه اللحظة الأمور تسير على ما يرام

ارتميت على السرير، وسرعان ما غبت في نوم عميق.. كأنّ الراحة التامة دفعتني إلى أن أغيب عن الوعي.. فأثق بالنوم أكثر من ثقتي باليقظة نفسها. شخصت أمامي أوّل فتاة التقيتها بعد هربي.. أيّام الفقر والستة الأشهر الأولى.. السكن القديم البارد.. والمطعم الدافئ حيث المطبخ وغسل الصحون؛ وإذ مشى الزمن يسبقني تارة وأسبقه تكدست النقود أمامي في صالة القمار، وحين اشتعلت الحرب وسط أوروبا وتفتت بعض الدول آويت كثيرا من الهاربات. اشتغلن عندي راقصات وبائعات هوى، لست بخيلا أحيانا أتبرع لكنيسة ما.. أو مسجدا ما بمبلغ يلفت النظر.. قد أنسى الذكريات الحلوة أما المرة فتبقى عالقة في الذهن. تشاجرت. أقسى ما حدث لي أنّ أحد الخاسرين في القمار ظلّ يصرخ بوجهي... يتهمني أنني سبب إفلاسه.. فقد بثروته وبيته.. كانت قطرات ماء النار ترتسم على خدي..

فصرخت

هجت

كاد وجهي يضيع لولا أن انقض من خلفه بعض الحراس فشلّوا حركته، ولم يخرجني من عنف الحلم إلا صرير الهاتف جنب رأسي، فرفعت السماعة ليأتيني صوت أخي:

- أخبروني في المكتب أنك أخذت رقم الهاتف. ألله كم أذهلتني المفاجأة فنسيته..!

- كانوا رائعين كتبوا لي أيضا رقم البيت.

- أنا أخبرتهم. أنك أكثر من أخ وعليهم أن ينفذوا أي أمر..

- شكرا لك.

- لكن قل ما لصوتك؟

- كنت نائما وربما حلمت حلما مزعجا..

- آسف لإزعاجك.. أريد أن أخبرك أن (إياد) سيأتي الجمعة، وتكون معنا (دريّة) ألا تحب أن تراهما؟

بكل سرور.

جلست على حافة السرير، تكاسلت أن أنهض إلى الحمام.. ولم تدم جلستي طويلا.. صوت الهاتف من جديد، وموظّف الاستعلامات يقول إنها الغرفة السادسة..، فهرعت إلى الحمام. أغسل عن وجهي آثار النوم.. وبعد دقائق نقرت الباب ودلفت..

تبدو بصورة أخرى

كأنها استلفت أو سرقت.. بضعة أيّام من الماضي البعيد... بدت كما رأيتها من قبل

من دون غطاء رأس

ولا شيب يلوح على رأسها

- عيني باردة عليك. إنك في العشرين.

- إنّك تبالغ؟

- ليتني أعرف المبالغة!

كانت في السادسة عشرة من عمرها، رغبت فيها فقالت لي أمّها، إنّي أثق بك.. تصرف في كلّ شيء ماعدا بكارتها، تصورّت الأمر مذهلا، رهيبا، ومضحكا حتّى في الماخور يضعون في الحسبان البكارة، فلا أحد يعير أهمية لحبوب الحمل، وعمليات الترقيع، أما حين تزوجت راجحة من ثري فقد انتهى الأمر وانتهى حديث البكارة بعد وفاته... الزيجة الأولى.. سبقتها مداعباتي... ولمساتي. قرأت الخال على الكتف الأيمن والوحمة عند الفخذ. سواد ناصع، ولون بنّي فاتح. ولساني يترقرق عليهما.

جلست على الأريكة القريبة من البالكون، قالت بشوق:

- ماذا عندك؟

- الحديث عن الشغل في المشروع الجديد اتركيه على مائدة العشاء. أمّا الآن فلي معك حديث آخر..

تقدمت منها، وجلست على حافة الأريكة، تسللت يدي إلى كتفها الأيمن، وبخفة انتقلت إلى فخذها، علامتان أزالتا الشكّ منها، ومسكت يديها. نهضنا معا:

كيف تروّض امرأة اتخذت الحبّ حرفة؟

قالت: ظننتك ترغب في إحدى العاملات عندي!

بدأت تتعرى.. وخلعت ملابسي.. مازال في جسدها رونق.. هناك ترهّل أربعون عاما تكفي.. شفاه وأيد كثيرة مرّت ولم تترك عليه من أثر إلا القليل..

أصبحنا عاريين

نظرت بوجهي وتمعنت في الرقعة المحروقة

العلامة التي تخفيني

- صوتك ليس غريبا عني.

لا تحاولي أن تتذكري

- مهما كثر الرجال في حياة المرأة فهناك رجل يجب ألا تنساه

- يكفي أن صوتي يلامس إحساسك!

احتضن أحدنا الآخر...

ورحنا في عالم ثان

لا أدري إن كانت تمثل أم أنها تتأوّه عن يقين...

لحظات ساخنة

أو

كما خيل إليّ

والحق إنّها تأوّهت،

نسيت نفسي كأنّي ألمس امرأة للمرة الأولى، ولم أنس الخال ولا الوحمة...

- هل أعجبتك

ماذا أقول: جربت كثيرا، في الغربة أوّل صديقة لي.. لم أرتح معها.. هناك الحب والصداقة، ولم أرتح قطّ إلا مع هذا الصنف.. جميع من عاشرت لهنّ طعم آخر فكدت أنسى هدفي فأخرج بعض المال ألقيه على سرّتها فتذكّرت أنّي يجب أن أجعلها مديرة مشروع. موظفة عندي.. المسؤولة الأولى عندي.. يمكن أن تقبل الهدايا.. لا أجرا عن لذّة جسد عابرة...

لتكن صديقتي.

أمينة السرّ

العقل المنفّذ

- هل يضايقك أحد في عملك؟

فضحكت عن شماتة بالمجهول:

- في البدء ظننتك جامع ضرائب أو من هؤلاء أصحاب اللحى أو مبعوثا من جماعة ما تبتزّني.... فحسبت حسابي، لاتؤاخذني لكنني ازددت ثقة بك، فلم تكن ملتحيا ولا صاحب رقعة في الجبهة، وقدمت لي ذهبا ثمّ ازددت يقينا حين ذكرت لي خال الكتف ووحمة الفخذ.

- أيعرفون بعض الخصوصيات؟

فأطلقت زفرة خافتة:

- يعرفون أن المحلّ لا يعتمد على الخياطة فحسب.. بعض العاملات.. أنت تعرف الماضي.. يغضون النظر مقابل أن أدفع لهم نصف الإيراد.. لا يهمهم سوى المال.

- قصدك أجواء محافظة في الظاهر.. في الملبس وشكل الوجوه والجباه..

- هذا الواقع

انفتح لي رواق آخر

كوة واسعة أستطيع النفاذ منها. أصبحت أملك من هذه اللحظة أحد شرايين البلد.. مشاريع سياحة.. مولات.. فنادق.. صالات قمار.. ومدن ترفيهية تديرها نساء...

- هنا الأجواء حميمية ليكن حديثنا في المطعم.. معظم الصفقات تعقد بين الكبار على مائدة العشاء..

وقد فهمت قصدي، فلملمت ثيابها، ونهضت إلى الحمام، وعادت بأناقتها، فطبعت قبلة على خدها:

سأنزل قبلك أحجز لنا مائدة في زاوية بعيدة..

- كما ترى.

هبطت فقادني موظف الاستعلامات، إلى زاوية هادئة، شفافة اللون، يطلّ على عمقها حوض واسع لأسماك حمراء وصفراء وبيضاء تتراقص بخفة، شغلت بالنظر إليها تارة والتلصص على الموائد الأخرى المتباعدة التي احتلتها عوائل، ورواد منهمكون بالحديث ومضغ الطعام. وما بين انشغالي بالتطلع في السمك الراقص والموائد الأخرى أبصرتها تهبط الدرجات إلى الصالة، فنهضت أحييها كأنّي أقابلها للمرّة الأولى، كانت تلبس فستانا أزرق فاتح الزرقة، وترخي على رأسها شالا عنّابي اللون، فمددت إليها يدي:

- لا أريد أن أضيع وقتك، لقد عدت إلى البلد بعد ربع قرن من الغربة.. لا أخفي عنك لديّ مال كثير سأحوّل بعضا منه إلى المصارف هنا.. أبني مشاريع، مولات.. ملاهي.... مؤسسات استيراد وتصدير.

فقالت بحماس مفرط:

- حسنا تفعل المشاريع الاستثماريّة هي الناجحة فماذا في ذهنك.

- مشروع تجاري سوق وسينما، وصالات للهو وأنت تعرفين ما يعني اللهو، كلمة مطاطة تعني الكثير ولا أنسى أن أبني جنب المجمع مسجدا للصلاة مادام الجوّ يميل إلى الدين.

- هذا عمل مذهل.

- أفكّر في مدينة سياحيّة، أمّا عن معملك فسأوسعه وأستورد مكائن حديثة. لا تقلقي.. اعتبري كلّ شيء هديّة لك.

فساورها بعض الشكّ:

- لماذا هل كنت تحبني قبل أن تسافر.

فهززت كتفي:

- يمكن..

اعترضت شبه مطمئنة:

- هل نسقت مع إحدى المجموعات؟ لا بدّ من أن تدفع لهم، أنا أعطي مجموعة متنفذة لها سطوة في الدولة عشرة بالمائة من أرباح المعمل مقابل سكوتهم عمّا يدور في السرّ وحمايتهم!

- لا بأس لكلّ حادث حديث.

صمتنا حين قدم النادل، وضع طبقي السمك، والسلطة، أمامنا، وجاء نادل آخر بالعصير، فرفعت عينيها عن بركة الأسماك الملونة، حالما انصرفا:

- الآن أصبحت الصورة واضحة: أنت تحتاج إلى أرض تقيم عليها المدينة السياحيّة، وأرض تقيم عليها المسجد، وأخرى للمول، المجموعة التي تبيع الأرض غيرها التي توفر الحماية للمدينة والمول.

تأمّلت في كلامها، كانت تمضغ الطعام بتأن كأنّها تفكّر مثلي فيما يمكن أن يكون.. عالم مثاليّ يمكن أن يتحقّق في الواقع.. قلت مطمئنا:

- متى ترتأين أبدأ؟

- من غد إذا أحببت.

- ليكن عزيزتي، وغدا أبدأ اتصالاتي في الخارج لأحول مبالغ للداخل!

6 - حضور وغياب

 ثلاثة أيّام لم أمرّ على مكتب أخي، كنت أنسق مع المصارف، حسبت حساب ذوي النفوذ فصحبت راجحة معي في كلّ خطوة كأنّي أوحي لها أنّ مصيرها ارتبط بي. خبرت أخي ألّا يقلق، أكّدت أنّي في زيارة للعاصمة، ولقاء مسؤولين ثقال الوزن، وفي اليوم الثالث تعمدت أن أهاتف البيت. بعد التاسعة بقليل، أعرف أنّه موعد انصراف (توفيق) إلى شغله.:

- آلو...

- أنا ميلاد سالان..

- مرحبا بك سيد (ميلاد) (توفيق)في الشغل يمكنك أن تتصل هناك.

وضعت السماعة، لأدخل في نشوة لا أدرك مغزاها، ترى لم تعمدتُ الوقت ولم اتصلتُ بها؟ هل هو مجرد الحنين إلى الماضي الذي أحاول أن أعيده بأشكال وصيغ أخرى، أبرئ نفس من الخيانة هذه المرّة، كنت أبحث عن الراحة، يا ترى لو مرّت علاقتنا بسلام... لو ساومونا أهلها بدل العنف فتزوّجتها، هل أستطيع أن أحبّها؟ شيء ما يشدّني لشخصين فقط أخي (توفيق) و(فجر)أنسى أنّ لي أخا وأختا. أشعر أني أعير العالم اهتماما إلّا لتوفيق وزوجته.. إحساس يجعبني أشعر بالراحة ولا يخفف من غضبي، وقد ازددت حماسا لأنفّذ ما في ذهني حين وجدت (راجحة) تقف معي... ربما أحببتها فوجدت في (فجر) صورتها الأخرى.. رفعت سماعة الهاتف وطلبت المحل:

- ألو أنا (ميلاد)عدت إلى الفندق قبل دقائق.

- حسنا سأمرّ عليك لك عندي خبر.

- طيب أنا في الصالة بانتظارك!

خمنت شيئا ما يروم قوله.. تطلعت في فنجان القهوة طويلا. كنت على بعد هذه المرة عن حوض الأسماك أقرب إلى الباب الخارجي، وربما أوهمت نفسي أنّي أسمع لحنا حتّى رأيته يطلّ، فتوجّهنا إلى سيارته:

- كدتَ برفضك السكن عندنا تسبب في عتاب (فجر) لي.. قالت عنك هو صديقك الذي أنقذ حياتك خلال الحرب فكيف تتركه يسكن في فندق؟

- مهما يكن فالتحفّظ أولى.

- لك ما تشاء

- أهذا هو الخبر الذي وددت أن تفاجأني به؟

- ما رأيك لو دعوتُ الجمعة أخانا وأختنا لتعرفهما عن قرب هما من لحمنا ودمنا.

لم يفاجئني طلبه، فاعترضت:

- بصراحة لحد هذه اللحظة لا أشعر نحوهما بعاطفة.. حاولت... حاولت كثيرا.. أرجوك دع الزمن بسرعته وجبروته ومفاجآته.. هو كفيل ليجعلنا نلتقي أو نفترق.. نحب.. أليس كذلك.

- وماذا عن نبيلة؟

سؤال أشبه بمفاجأة أتوقّعها:

نبيلة نعم آمل أن ألتقيها يوما ما.

- مثلما تحبّ.

فجأة غيّرت الحديث:

- قل لي أتدفع شيئا ما لمجموعة عن محلك وشغلك.

- أراك تعرف كلّ السرائر.

- محل استيراد وتصدير لأدوات كهربائيّة وألكترونية.. خمسة بالمائة.

فضحكت ساخرا:

خمسة بالمائة؟

- نعم وإن لم أفعل يحرقون المحل.. يخطفون.. أو...

وواصلت سخريتي:

- إذن كم عليّ أن أدفع؟

- لم أفهمك؟

- سأشتري أرضا لبناء جامع. وأخرى لسوق تجاري. وثالثة أبني عليها مدينة سياحية.

كل ما كان من عمل في مدن الاغتراب أنسخه هنا.. صورة طبق الأصل.. التسميات مختلفة..، ولعلّه أحسّ ببعض التناقض:

- أعهدك صاحب هوى تحب الغناء والطرب والسكر فما علاقتك بالجامع هل تفكّر بالصلاة؟

فقلت بشيء من الضيق:

- ما المانع أن نجمع الآخرة والدنيا.

- آسف على تطفلي.

ونهضت وأنا أمدّ إليه يدي مودعا:

- عليّ أن أذهب... إنّ هناك أراضي تنتظرني.

 قصدت معمل (الستارة). كانت (راجحة) قد رتبت الوضع تماما، حين وصلت وجدت في مكتبها رجلا في الثلاثين من عمره، طويل القامة، نحيف الوجه يرتدي بدلة رصاصية، وقميصا أبيض من دون ربطة عنق. يحاول أن يبدو أنيقا ومتواضعا في الوقت نفسه، لكن وجهه لا يخلو من حدّة أو يتأرجح بين الصرامة والحدّة، وحالما صافحته، راحت راجحة تقول:

- ألم أقل لك يا سيد نصير، هؤلاء الذين يعيشون في الخارج مواعيدهم مضبوطة لا تنقص أو تزيد.

- (ميلاد سالان) من رجال الأعمال.

- (نصير الفاضل)

- أهلا بك.

لزمت راجحة الصمت، فسألني:

- سمعت أنك ترغب في شراء أراضي هنا في البلد.

وجدتها (راجحة) فرصة للتدخّل:

- أرض تُبنى عليها مدينة سياحيّة، وأرض لبناء مول، وأخرى يُقام عليها مسجد.

فتمعن لحظة في كلامي، وأشكّ في أنّه سمع التفاصيل من (راجحة) غير أنّه اعتاد أن يمارس أسلوبه البطئ في ترويض الآخرين:

- ستأتي معي لترى أيّة أرض تناسبك، وترافقني في نقل الملك باسمك سيكون الأمر سهلا مادمت تحمل جواز سفر أجنبيا، أما التفصيلات الأخرى فستخبرك بها السيدة راجحة!

لقد اختصر لقائي به مسافة طويلة، وأزاح لي عن أسرار، فبانت لي أراض كثيرة، اخترت ثلاثة منها، كان يعبّر عن صوت جماعة متنفّذة وضعت يدها على الأرض، فما إن يشأ أحد أن يبتاع قطعة إلا وعرف من يقصد. ولم أكن لأبالي إذا دفعت على الورق مبلغا للحكومة، ومثله لممثل الجماعة

أنا الذي أعرف كلّ شيء

ومعي الصديقة القديمة (راجحة) التي لا تخفى عليها خافية...

ستعود إليّ نقودي بطريقة آخرى، سيجد الفقير ملجأ عندي والعاطل عملا... فهل لا أغفر لنفسي أنّي جئت لأحقق انتقاما أو ثأرا صبرت عليه ربع قرن ولا أراه يخلو أيضا من نزعة خير.

7 - لقاء

يوم الجمعة قد يكون يوما استثنائيا.

لو خيّرت لتحاشيت اللقاء، وهناك الفضول يدفعني... أخشى حقا أن تكشف سري (فجر) من صوتي وبقايا وجهي القديم. بعض تأنيب الضمير يراودني حين أتساءل هل من المعقول أن يؤدي عبثي القديم إلى نتائج رهيبة. مذبحة، نساء يدخلن في صفقة مثل الجواري. وتزوير في وقائع تمس أخي شبيهي الذي كان بريئا من كلّ ماجرى.

(فجر) زوجة أخي التي اشتهيتها ذات يوم، لو طالت العلاقة بيننا، لجرى بيني وبينها ماجرى لي مع (راجحة) يوم كانت عذراء... كنت أضحك بصوت إذ ذكّرتها بالوحمة والخال ونحن عاريان في الفراش ليلة الفندق، فقالت إن أمّها كانت تراقبنا من ثقب سريّ لتقتحم الغرفة حالما ترى خطورة على بكارتها.

راقبت الجميع

إذن أنا لست استثناء

طز في التعري والجنس، فالسكر تلك الأيام يجعلك لا تبالي حين تكون مع امرأة، بنت قحبة عذراء، ولأكن صريحا مع نفسي ومع الآخرين الشغلة التي اشتغلتها أمّها مارستها في الخارج حتّى أصبحت ثريّا.

- النقيب (إياد) ابني (والتفت إليّ) صديقي العزيز (ميلاد)...

- أهلا (والتفتُّ إليه) ما شاء الله يشبهك.

في ذهني هل يعرف إياد نقيب الشرطة أنّ أمّة صفقة؟

- أما (درّيّة) فتشبه أمّها.

قال أخي، فعقبت مبتسما:

- سنّة الخلق الأبناء على آبائهم والبنات على أمهاتهم.

لم يستفز إلى هذه اللحظة وجهي نظرات النقيب، لست قبيحا، لكن التشوّه نفسه يمكن أن يثير الدهشة والخوف في نفوس الآخرين، والفضول عند رجل الأمن:

- لقد حدّثني أبي عن علاقتكم الحميمة وكيف أنقذت حياته.

قاطعت:

- نعم نعم عندما كنا في خدمة الاحتياط (التفتُّ إلى أخي) لا داعي لأن تذكر ذلك.

فتصنع التمثيل مقاطعا:

- الحادث جعلنا أكثر من أخوة.

أظنّ أن روح الفضول استفزت الضابط:

- يبدو أن الحادث ترك جروحا في جسدك. وارتفع صوت الأذان من جامع قريب، فقال أخي:

- البيت بيتك سأذهب للصلاة في الغرفة المجاورة معك (إياد) أو تحب أن تصلي.

- لا يا عم أتركني مع ضابط الشرطة أفضل.

فخرج وعاود الضابط فضوله:

- أعتقد أن ما فعلته من عمل فذّ دفعك للرحيل بعد أن وجدت أن الدولة لم تعطك حقّك.

قد أسوّغ لنفسي الكذب:

- كانت فكرة الرحيل تراودني قبل إصابتي بسنوات.

سمعت وقع خطوات خفيفة اهتزت لها أذناي، ولم يكن القادم سوى (درّيّة). كيف تجرفني المبالغة إذا تخيلت أن بها شبها كبيرا من أمّها.. الطول ذاته، المشية....

.... ودخلت

لم يكن خيالي خائبا، استدارة الوجه، الأنف، الحنك، البسمة البريئة سوى أنّها أكثر امتلاء من أمّها، ابتسمت فبان بياض أسنانها من دون أن يثير وجهي المشوّه علامة دهشة على وجهها فانتبهت أنّها تدرس الطب، وقد عاصرت تلك الظواهر.. مدّت يدها تصافحني:

- أهلا بك عمّي.

وقال أخوها:

- هذا هو عمّنا صديق أبي الذي ضحى من أجله بنفسه، وتعرّض للنار.

جلست على أريكة تقابلني، وقالت بنغمة رزينة:

- الوفاء قليل في هذا الزمن.

يخفق قلبي. أشعر بوحشة بخلو الصالة من (فجر) وحدي حيث لا شبيه لي، وشبيهتا تقابلني:

- الحمد لله الذي رأيتكم والدكم أخي..

وقالت:

- نعم الصداقة شيء عظيم.

- وقال (إياد) المثل يقول ربّ أخ لك لم تلده أمّك. (عاد إلى طبيعة الاستنطاق التي يتحلى بها رجال البوليس):

- هل تنوي أن تقيم معنا أم تعود لبلاد الاغتراب؟.

- نعم جئت لأستقرّ وأنا بصدد بناء مشاريع.

فقالت بكل براءة:

- مادام الأمر كذلك. أنت صديق أبي الروح بالروح. ولك فضل عليه فلم لا تسكن معنا؟.

- طيبة رقيقة القلب، يأتي كلامها عفويا، جريئة بحدود:

- أنا حلفت ألّا أضايق أيّ صديق في السكن ثمّ إنّي لا أرتاح إلّا إذا سكنت وحدي.

فابتسمت، وعاد الضابط للحديث:

مادمت تنوي الإقامة هنا... هل تروم العمل في التجارة تؤسس لمشروع... ؟

- لديّ عدّة مشاريع بدأت خطوتي الأولى.. مدينة سياحية.. مول ومسجد جنبه.. وقد أفكّر...

- بماذا تفكّر؟

أطلّ الأب، وهو يبتسم:

- بالمشاريع الجديدة قبّل الله!

- منّا ومنكم.

نهضت(درّيّة):

- عن إذنكم أساعد أمّي

وقبل أن تغادر قلت بثقة وصدق:

إسمعي وليكن عليّ شاهدا أبوك وأخوك سأبني لك مشفى حالما تتخرجين من الكلية!

- أشكر كرمك.

توفيق:

- شكرا لك لكن عملك يبقى ناقصا بغير صلاة وصوم؟

- بالتأكيد حين أبلغ الستين أتوب والله غفور رحيم..

ضحك أخي:

- من يضمن عمره!

وضحك الضابط قائلا:

- المهم سلامة النيّة!

ورجع الضابط إلى الحديث الذي كاد يضيع منه بدخول الأبّ:

- المهم أن تحذر وأن تجد من يسندك من جماعات النفوذ، ولا تخضع للتزوير، والنصب، وإذا احتجت لشيء استشرني فلديّ الخبرة في التعامل مع هؤلاء.

أبدى الأب انزعاجه بشكل خفيّ:

- لا تخش على عمك (ميلاد) فقد سافر إلى العاصمة ورتّب الأوضاع هناك.

فقهقهتُ ضاحكا:

- كل شيء تمام سيكون على الورق يماثله في التداول غير المعلن.

ودخلت من الباب الجانبي (درّيّة) تعلن عن اكتمال المائدة، فوقع بصري على التي خفق قلبي لها ذات يوم. قبل أن يقع على أصناف الطعام، كانت تقف عند طرف المائدة، توسعنا بابتسامتها الواسعة، ولا أظنّها تعرفني. لا أشكّ، وأقدّر أنّ أخي لم يسرّها.. سنوات من الغربة والدم تفصلني عنها، قالت:

- بالهناء والشفاء هنيئا مريئا

ومن دون إرادة اندفعت:

- ألا تتغدين معنا!

- عذرا أنا صائمة

وأردفت بديلتها أو شبيهتها بصوت هادئ:

أمي تصوم كلّ اثنين وأربعاء وجمعة، وشهر شعبان!

- يابختها

قلت عبارتي مجاملا، وتشاغلت عن أفكاري القديمة أو لهوت بالطعام، وودت لو حلّت فكرة المشفى في ذهني قبل أن أقابل (درّيّة) التي رأيتها أصبحت طبيبة قبل الأوان.!

8 - اعتراض

بدأ المسجد يرتفع بقبته الخضراء

هو الأول وقبل كلّ عمل..

مسجد الحاج (ميلاد سالان)

وشخصت مدينة اللهو، ووُضِعَ الأساس للمركز التجاري... رحت أتعاقد مع راقصات ومغنيات من أوروبا ودول عربية. كانت هناك ظواهر كثيرة وتعاملات يحظر على أبناء البلد ممارستها فاستفدت من امتيازاتي الأجنبية.

كنت ملكا

في الوقت نفسه، كلّ يوم أُعلِنُ في الصحف عن طلب عمالة.. راجحة أخذت تدير أعمالي، كنت مزهوا بعملي والثروة التي جعلتني أقيم علاقات مع كبار السياسيين..

راقصات أجنبيات

ملعب لسباق الخيل

كنت أستفيد من خبرة راجحة

وكان هناك القانون الذي يمنح امتيازات للأجانب ويحرم منها أهل البلد

وبدأت أحقق بعض ثأري....

الجانب الآخر من الوجه الخفي

يسمونه الوجه المظلم

معظم آل (الفارس) اشتغلوا في مشاريعي السياحيّة، مارسوا عملهم برضى وقناعة لا يشوبها أيّ شكّ... أما من وقف في طريقي وجعلني أخرج عن طريقتي الناعمة التي تحقّق ثأري من دون أن أسفكَ قطرة دم واحدة فهو أخي...

كلّ شيء وضعت له أكثر من خطّة إلا اندفاعه الغريب..

خلال الخطوة الأولى لنجاح مشاريعي، زارني في جناحي الخاص بالفندق. كان ممتعضا، وقاسيا، فاجأني بأسلوب جاف إلى حدّ ما:

- ما الذي يجري إنّه فعل مقزز.

- أهدأ.. أجلس وكلمني بهدوء. انقلب غضبه إلى كآبة وحزن:

- الجامع عمل خير، الأسواق، لكن راقصات أجنبيات، وفندق سياحي تمارس فيه الدعارة، خمور، وصالات قمار..

- ما لمانع؟ ولم أنت متذمّر وهائج، أنا حرّ (حاولت أن أحرف الحديث) هل تشرب شيئا.

مازالت نبرة حادة وسحابة غضب تتراوح على قسماته:

- لست طفلا أمامك حتّى تميّع الموضوع.

- يا أخي. يا عزيزي، وجدت البلد يعيش نمطا واحدا، حياة جادة كئيبة، لا انفعال فيها غير الحزن والبكاء.. كنّا وأنت جنبمي في مناسبات البكاء ونضخك طول العام.. فهل من العدل أن نبكي ونحزن طويلا؟

فهزّ رأسه بمرارة:

- هذا أيضا لا يعنيني

كاد صبري ينفد:

- ما الذي يعنيك إذن؟

- أنت تعرف جيدا قصدي.. كلّ أبناء آل (الفارس) وبناتهم تقريبا تقدموا لوظائف عندك.

- هل أنت زعلان لهذا السبب؟ أليسوا يتقاضون حسب العقود الموثقة أعلى الرواتب.

فضحك ساخرا، وعاد إلى نبرته الجادة:

- نعم في مدينة الملاهي، وصالات القمار.. قوادون وقحاب. قلها بصراحة.. هل هذه طريقة انتقامك؟

هززت كتفي وأجبت ببرود:

- تذكّرْ أم نسيت... ألم يقتلوا أخي وأخيك أم تراه شبيهي ولا يشبهك؟ أنت أخذت ثأرك لأخيك بطريقتك الخاصة وبقيت على جمر أطلبهم بثأري حين ظنوا أنهم قتلوني وبثأر شبيهي.

فازداد حدّة أقرب إلى الصراخ:

- بهذه الوساخة؟ تجعل من أخوال أولادنا وخالاتهم.. قوادين وقوادات وقحابا وتنسى أن لك أخا غير شقيق جذوره من آل (الفارس) وأختا تزوّجت منهم. سيصبح صهرك مدمن قمار وأبناء أختك وضيعين ستجعلنا كلّنا منغمسين في القذارة.

- عليك أن تدرك أن العالم يتغيّر ربع قرن مرّ وقد تغيّرت مع الزمن قواعد كانت تحكمنا قبل ربع قرن. حين تفهم ذلك ستعذرني.

رأيته ينقلب إلى وحش كاسر. ذئب طعين.. قوّة هائلة جبارة تجمعت في لحظة واحدة، رأيته يصكّ على أسنانه، وينفجر صارخا:

- إن لم توقف المهزلة فسأكشف السرّ.. سأعلن من أنت، ستكون واضحا للجميع.

أجبت بكل برود:

- عندئذ ستعود الحرب من جديد حين يعرف أعداؤنا القدامى أنّي مازلت حيا وقد أخذوا بنصف ثارهم قد يقتلونك أو يذهب ابنك ضحية.

وقد عاد إلى بعض هدوئه:

- ليكن الدم.. هذا أفضل من أن يفقد الجميع شرفهم.

وخرج

خرج مطأطأ الرأس ينظر إلى الأرض بين الحزن واليأس.. راودني بعض الخوف.. حتّى إنّي خشيت أن يسابق الوقت فيكشف سرّي ليفسد كلّ شيء.. معه حقّ ومعي أيضا..

لا ألومه ولا ألوم نفسي

هو ضحية انتقم لنفسه

ليس هدفي الثأر لجريمة قتل غير أن أعدائي قتلوني ولم يقتلوني. جعلوني معذبا. أعيش باسم آخر.. ووجه آخر...

انتظرت دقائق ثمّ رفعت سماعة الهاتف، وطلبت نمرة أخي:

تغيّرت لهجتي تماما:

- مازلت غاضبا منّي؟

بنغمة حزينة غير منكسرة:

- كنت مجبرا على مواجهتك.

اضطررت للتهدئة:

- معك حق لقد فكّرت بالموضوع جيدا.. لابدّ من أن أراك حتّى نسعى للأفضل

على الرغم من الحزن والجفاف لمست مسحة فرح خفيٍّ في صوته:

- أنا بانتظارك أيَّة وقت تشاء.

- سأتصل بك خلال بضعةِ أيّام.

حالما انتهت المكالمة، طلبت سيارة أجرة، وقصدت معمل (الستارة) وفي بالي فكرة ما لا أقدر على أن أرجع عنها قطّ.

9 - انتقام

- أريد فيلا شبه منعزلة لا تلفت النظر

- هل نويت أن تترك الفندق.

- ليس الآن..

دخلت رئيسة العمال تطلب بعض التجهيزات من المخزن، فصمت حتّى ناولتها المفتاح، وخرجت، فتساءلت:

- ما بك يخيل إليّ أنّ موضوعا يكدّر مزاجك.

- أريد فلا باسم شخص آخر.. هل ممكن؟

فضحكت وقالت:

- شخص له ألف اسم وألف وثيقة تجده البوم هنا وغدا في بلد آخر، سأدبّر طلبك خلال يوم وسندفع للشبح مبلغا يرضيه.

بعد يومين، وجدت مفتاح فلا ضخمة في أطراف المدينة، يمكن أن أقول عنها منعزلة لا تلفت الانتباه. وقد التقيت أخي خلال هذه الأيام في مكتبه كلّ صباح. طمأنته إلى أني تغيرت، تغيرت تماما إذ أدركت أنّه لا يتزحزح قيد شعرة عن المضي في إعلان حقيقتي. لا يهمه أن تدخل الأجيال الجديدة في حرب أكثر عنفا بدلا عن أن يصبحوا قوادين وعاهرات.

خلال الأيام الثلاثة السالفة، عزمت بعد أن وصلت إلى حدّ من اليأس، أنا والسرّ، الحبّ والجنون اللذيذ أم الحرب المسعورة التي ستحرق كلّ شيء.

هل أدعه ينبش الماضي؟

قلت له:

- أترغب أن ترى الفيلا التي أجرتها؟ أعجبتني ولعلني أجد واحدة تشبهها أشتريها.

- هل هجرت الفندق؟

- الليلة أخر ليلة لي فيه. هل تأتي معي؟

- سترى.

رحت أشير إليه، فأدلّه على الطريق. إلى الأمام...

خذ يمين الطريق

الاستدارة القادمة

هناك عند النقاط على اليسار

أشرت إليه أن يقف، ركن السيارة أمام البوابة، وقال:

- مكان هادئ وكل المكان يسكنها ذوو المكانة العالية.

اجتزنا البوّابة، وعبرنا الممر الذي تحيطه من الجانبين أشجار النخل والسدر وبنات ورد ذهبية تنتشر عند حافتيه ثمّ صعدنا الدرجات إلى الباب، فأدرت المفتاح...

أدرت المفتاح وبسطت يدي

- بيت فخم ممتاز

لا أدع الوقت يدركني.

هي رحلة طويلة عمرها ربع قرن.

وسامها وشارتها نقود هائلة لا تحصى وعلامة قبيحة مقزّزة على خدّي الايسر

دلف، فتبعته، سبّابتي تضغط على الزر، فيشع نور ساطع من ثريا دائريّة تتدلى من السقف وسط الصالة، ومع لفحة النور الساطعة، قبل أن يلتفت امتدت يدي إلى جيبي الداخلي، وهوت مثل البرق بخنجر على عنقه.

طعنة

ثانية

وأكثر

فتلوى

وكتم صرخة

خلت أنها على خفوتها جعلت الجدران تترنح والضوء يرتجف..

ثمّ تهاوي على الأرض المفروشة بسجادة رمانية اللون والدم يسيح من رقبته

- قتلتني.. قتل.. ق...

تحاشيت الفزع

ما رسمته في ذهني لن يضيع... قد أفقد توازني في لحظات... المشروع الذي في ذهني.. الانتقام الناعم... تحولت عن الجثّة إلى المطبخ.. شطفت الخنجر.. طردت الدم عنه بصنبور الماء، غسلت يدي تماما..

ومسحت الأثر

وقتها لم أشعر بالحزن وتأنيب الضمير التمست توازني بكلّ الصبر.. عدم المبالاة.. الحلم بالسلم واللعب واللهو. واجتناب حرب ثانية مهولة. والثمن رقبة..

لم أخرج من البوابة.. خرجت من المطبخ، عبرت المستطيل الضيق الذي تزينه شجرة عنق الدنيا، فتسللت من الباب الخلفي

لم ألتفت

سرت باتجاه طريق ضيق بقود في النهاية إلى نهر راكد تتكدّس على جوانبه نباتات القصب. كنت قد استطلعت المكان قبل يوم.. قضيت ساعة أو أكثر، وحين ارتسمت الفسحة بين القصب أمامي، التفت

التفت ثانية

وهبطت الجرف

انسلت لحركتي المفاجأة ضفدعة إلى عمق الماء الساكن، وكشف عصفور عن مكانه غير أنّه بقي يرفرف بجناحيه ولم يطر، انحيت على الماء.. أرمي الخنجر، وتراجعت ثانية إلى الطريق.

سرت إلى نهاية النهر حيث الطريق العام...

عندئذ

زاغ بصري بين السيارات

ربما غامت الدنيا بعينيّ

ربما رأيت غيوما

ألم يكن أمامي سوى هذا الحلّ؟

لكنّي

فجأة

وجدت نفسي أمام راجحة

في مكتبها

أغلقت الباب مذعورا وارتميت بين يديها

رحت أبكي

- ما بك يا (جلال)

إنها تنطق اسمي

تعرفني

شلتني المفاجأة

شلت دموعي ولساني:

- كيف؟ ماذا قلت؟

- لا تخف. اهدأ

- كنت مجبرا مثل شخص اضطر ليقطع يده لسلامة جسده.

التقطت أنفاسي، فتهاويت على الكرسي أمامها:

- دنيا عجيبة ظننته وحده يعرف السرّ فأنا وحدي بحت له به.

لا أخفي عنك أنّي شككت منذ أول لقاء لنا إذ لمحت لي عن شامة الكتف والوحمة أسفل سرّتي. كنت الوحيد من الذين لقيتهم يمسح وجهه وشفتيه بهما.. وعندما التقينا بغرفتك في الفندق رجعت إلى عادتك، فأيقنت أنّك هو ولا أحد سواك.

- ماذا تظنين سيحدث.

- لا شيء.. لا شيء.. اطمئن.. الذي أجر المنزل مجرد اسم.. مجهول المكان... سجلوه على الورق بصورة وهو في الحقيقة بصورة أخرى. لا مكان له...

- لكنّ ي اقترفت ذنبا.

- فعلت ذلك لتمنع حربا. أنت رسول السلام قتلت أخاك لتنقذ الآخرين من حرب لا نهاية لها.

فتحت ذراعيها، وضمّتني إلى صدرها رحت أنشج مثل طفل صغير كسر لعبته التي يحبها فراح ينشج..

ينشج..

وهي تشدّني إليها...

***

قصي الشيخ عسكر

انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة في

17\2\2025

نوتنغهام المملكة المتّحدة

عندَ المساءِ،

تَصْهَلُ أَفراسُ الليلِ،

تُغْريني بطَيْفِكِ المُلْتَحِفِ بالأسرارِ،

يَعُدُّ بأَصابِعِ الدَّهْشَةِ أَسْرابَ القَطا،

التي حَطَّتْ بينَ يديكِ.

*

يا أَنتِ،

أَيَّتُها المُسافِرَةُ نحوَ المُسْتَحيلِ،

أَبْحِري مَتَى شِئْتِ،

فَعَواصِفُ الشَّوقِ ما زالَتْ بَعِيدَةً.

تَشَبَّثي بمَوْجَةٍ هارِبَةٍ،

ثُمَّ تَعَلَّقي بأَسْتارِ هَزيمَتي.

*

تَعالي،

نَتَهَجَّأُ كالأَطْفالِ حُروفَ الهِجاءِ،

ونَرْسُمُ ذَوائِبَ للشَّمْسِ

على جَناحِ فَراشَةٍ تائِهَةٍ.

*

يا أَنتِ،

يا عُصْفورَةً أَتْعَبَها النَّدَى،

فَاشْتاقَتْ لِدِفْءِ غَيْمَةٍ وَحيدَةٍ عابِرَةٍ.

سَأَلْتُكِ مِرارًا أَنْ تُحْسِني الجَوابَ،

وأنْ تُلْجِمي دَلالَكِ

الذي أَضْنَى قَوايَ المُتَهالِكَةَ.

*

وحينَ لِقاءٍ…

نَوارِسُ تَصرخ مِنْ حَوْلِنا،

دُونَ أَنْ تُفْصِحَ النِّداءَ،

تَخُطُّ بمَناقِيرِها على كُثْبانِ الرَّمْلِ:

*

“أُحِبُّكَ سَيِّدي…”

“أَعْشَقُ صَمْتَكَ”

“الذي اقْتَرَبَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَقْرَبَ”

“مِنْ سَماواتِ العِشْقِ!”

*

وأنا،

أُحاوِلُ أَنْ أَجْمَعَ بَقايا وَجَعي،

وقَصائِدي…

لأَسيرَ بينَ حُطامِ المَرايا،

على صَهْوَةِ فَرَسٍ جامِحَةٍ

***

جواد المدني

 

(هذه القصيدة تتحدث عن زعيم عربي

لم يولد بعد ولكنه حتماً سيأتي...)

***

باهي سواكَ بما اسْتَطَعْتَ

من التقدمِ

في ميادينِ السلامْ

*

واحْذَرْ .. وخُذْ منها العِبَرْ

وكن خلاصاً للبشرْ

وكن كنخلةٍ إذا...

ترمي بأطيبِ الثمرْ

*

أبدًا فَلَسْتَ بِـ(مُزْمِنٍ)

حتى تَسِيحُ ...

وتَسْتَجِمُّ ...

وتستبيحُ يَـدَ الحَمَامْ!

أو سَوْط جلَّادٍ

يُفَتِّشُ فى ظهورِنا عن رُخامْ!

أو مِنْ دماء الشعبِ

يَشْرَبُ نَخْبَكَ الميمون

ازلام النظامْ!

*

باهي .. وباهي

ما اسْتَطَعْتَ تقدماً

فالأرض أجمعها

تُجِلُّكَ باحْـــتِرامْ

لا تَضْحَك الأيامُ عند سواكَ

إلا إنْ رَأَتْكَ بلا مقامٍ

او مقامٍ

أو مقامْ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

ألجدران التي بنيتموها في أعماقكم

لن تصبح بيوتاً

حتى لو توسلتم إليها بأكوامٍ من القبلات

ولو افترضتم أن عصا الساحر ستحوّلها بيوتاً

فهي لن تُؤجّرَ

أو تُباعَ

فليس من أحد

يستطيب السكن غطساً في المستنقع الآسن

يتنفّس الفِتن

ويقتات على النفاق

**

مهما بنيتم في أعماقكم من الجدران

مهما أعليتموها

متخذين من أعماركم بديلاً عن الملاط والحجارة

فستبقى عاجزة عن النطق

حتى لو مُنحتْ أساساتها ألسِنةً

وتكلمتْ مع الغيوم العابرة بلغة البلابل

وحتى لو نَمَتْ للجدران كروشُ ولحى

وأنها تكاثرت

وأصبح لها أبناءٌ وزوجات

فأنها ستبقى معزولة بلا جيران

ما دام يتصاعد منها

ما تنفثونه من دخان الحقد

**

لا تصغوا لنواهي المحبِطين

واصلوا بناء الجدران في أعماقكم

أطعموها المزيد من العتمة والخوف

لتكبُرَ وتطالبَكم بنصف الميراث

علّموها الشّراهة على شِبَعٍ

ففي غدٍ تصبحَ ضواريَ وتفترسكم

لكن مهما أعليتم جدرانكم

وزيّنتموها بنشارة أسنانكم المتطاحنة

فتزيين القبور عبثاً يُحيي الموتى

***

شعر / ليث الصندوق

لا تستهويني العناوين العريضة،

ولا الجمل المصقولة بطلاء لامع،

ولا الأجوبة المغلقة كعلب السردين،

*

لا تستهويني الكلمات التي تقف في طوابير الانتظار بأرقام معدنية،

ولا الحكايات التي تُباع في عبوات جاهزة، مع تعليمات الاستخدام المرفقة.

*

لا تستهويني الوجوه المختومة بختم القبول،

ولا العيون التي تشبه واجهات العرض،

ولا الضحكات المعلّبة بتاريخ انتهاء الصلاحية.

*

لا تستهويني المدن التي تخنقني بلطافتها الصناعية،

والشوارع التي تعيد نفسها كأشرطة التسجيل،

ولا الأزمنة التي تدور في دوائر مفرغة،

كساعة فقدت عقلها.

*

بل تستهويني الفوضى التي تنبت بين بلاط الأرصفة،

والحكايات المشردة التي لا تجد من يرويها،

والأحلام التي لا تخضع لمقص الرقيب،

تستهويني العيون التي تنسى نفسها مفتوحة،

والشفاه التي تخطئ في نطق المجاملة،

والقلوب التي ترفض أن تخفق بإيقاع التعليمات.

*

تستهويني الأبواب التي لم تُطرق بعد،

والرسائل التي لم تُفتح،

والأغاني التي لم تجد بعد من يفهمها،

*

تستهويني الأيدي التي لا تسارع إلى العنف،

لكنها تشعل أصابعها للحلم.

*

تستهويني الأشياء التي لا تحمل "باركودًا"،

ولا تدخل في حسابات السوق،

*

تستهويني الحرية،

بكل تجاعيدها، بكل عيوبها،

بكل فوضاها الجميلة....

***

مجيدة محمدي

 

بكت الريح

لكنها تكذب

نعم تكذب دائما

حين تصفق بابي

أنهض مذعورة

مَنْ الطارق..؟؟

اسمع صوتها هازئة

الموتى لا يعودون

**

المرآة

وجهه في المرآة يطالعني

كلما أمشط شعري

وفي كأس الماء أراه

وعلى صفحة كتابي

لكن قطارات الرحلة مسرعة

تكاد تلتهم الطريق

وما عاد للعمر فسحة الانتظار

**

هذيان

شحت الريح

وانكسرت المجاذيف

وتاهت أشرعتي

قالوا ان بوح المرأة طيش

فلا تعود صبية

كما يعود القمر هلالا

لكنها تغدو نجمة منسية

تغفو بين سطور الحكايات

ولا تداعب جفنيها الأماني

ولا تغريها حروف قصيدة

**

تتمنى

ان يوقد شموعه من اجلها

وان ينثر في ضفافها

ملامح قصائده

روحها ظمأى

غادرها الفرح

لكن الصدق غاية لا تدرك

ربما حكاياته لا تعنيها

**

أو ربما لامرأة أخرى

وربما قصائده

كذبة من أكاذيب

نيسان

***

نص شعر

سنية عبد عون رشو

 

إلّاها

خاتمتي

يعفّرها نزق

لأقدام بربرية

تهرول

وتهرول

لئلا تفلت من نزقها

خاتمتي

المؤبّنة والمدى

سرادقها

**

إياك أن تعوّلي

عليها

خاتمة يخلعون عليها

وصفا ابتدعوه

ليواروا

نتن أنفاسهم المهرولة

ومضمخها

خاتمتي المغدورة

**

تتلفت بجهاتها الأربع

بحثا عنها

خاتمتي المؤبَنة

والمدى سرادقها

***

إبتسام الحاج زكي

 

تأمل الشاب السيجارة بين يديه وهو يجلس وحيدا على مقعده المتأرجح فوق صفيحة معدنية باردة في ركن من أحد شوارع المدينة العتيقة، حيث تختلط ألوان الأزقة برائحة البخور المبعثرة وعبق الماضي وتمتزج رائحة الدخان بشذى الحنين، هناك، على طاولة صغيرة متواضعة بين جنبات سوقٍ قديم، احتفظ بكنزه الثمين، علبة سجائر بدا أنها تحمل في طياتها أسرار الذكريات وآثار الوعد الذي لا يموت، كان يبدو كمن يحتضن بين يديه عبق الذكريات وآثار وعود لم تخل من الشجن، فقد كانت سيجارته، التي لم يسحب منها نفسا قط، رمزا لعهد منقوش في قلبه، عهد سُطّر على ورق الزمن بحروف مشوشة، نُقشت بدقة على غلافها من قبل أنامل رقيقة سطرت اسمها الذي لا يُمحى.

كانت السيجارة تروي قصة عهد قُطِع حينما وعدها بألا يُشعلها يوما، وكأن نار اللهب قد تكون قادرة على تبديد طيف حُبّ رقيق، فلم يكن إشعالها خيارا أو عادة، بل كانت وصية نابعة من روح عاشقة تحثّه على حفظ ذاك الوعد، فحينما لمست الفتاة تلك السيجارة، شعر بدفء لمستها الحانية، كأنما كانت تعيد إليه نبض أيام مضت، أيام ملأتها الأماني والوعود التي رُويت على شفتيها، كانت قد خطت تلك الحروف حينما خطفت السيجارة من بين شفتيه بلمسة رقيقة، لتكتب عليها حروف اسمها وتُلزمه بأن لا يُشعلها أو يشعل غيرها، وكأنما بذلك تُخلِّد ذكرى لقاء واحد جمع بين قلبيهما رغم كل شيء، فكان يمسُّ سطح علبة السجائر بأصابعه المتهورة وكأنه يحاول استحضار أنفاس تلك الليالي الحالمة التي جمعت بينهما، فيما تتراقص حروف اسمها في ذهنه كأنها أوتار هادئة تعزف لحن الوفاء، لم يكن من عادته الإقدام على إشعال السيجارة، فكلما وقع بصره عليها، تسللت إليه ذكريات عابرة، ضحكاتها الخجولة، همساتها الناعمة، ووعدها العابر بعدم المساس بنيران الذكرى، وهكذا كان يقضي ساعاته في حفظ هذا السر الثمين، محافظا على العهد الذي قطعه لها في تلك اللحظات الخافتة، وعلى السيجارة التي لم تستعر نيرانها قط، معيدا إياها إلى علبتها الوحيدة التي احتوتها منذ يومها الأول، ليضعها أمامه على الطاولة الصغيرة، تلك الطاولة التي تكتظ بأنواع كثيرة من السجائر، وكأنها مكتبة فريدة لحكايات الضياع والذكريات الغابرة، في كل علبة قصة، وفي كل سيجارة رمز لحظة، لكن تلك السيجارة كانت الأقرب إلى قلبه، لأنها تحمل بين طياتها سرّ حب لم يُكتمل، وسرّ وعد كان معلقا بين أنفاس الزمن.

كانت جلسته على المقعد المعدني المتأرجح تتخللها لحظاتٌ من التأمل العميق، لتختلط الأحلام مع واقع قاسٍ، وهو يراقب بعينيه المتعبة امتداد أيادي الزبائن نحو تلك العلب الصغيرة، كأنهم يبحثون عن شيء ما يخفف عنهم وطأة الحياة اليومية، كانت أنامله ترتعش قليلا مع كل حركة يقترب فيها أحدهم من علبة السيجارة، تلك العلبة التي لم تحتوِ سواها، وكأنها قطعة أثرية نادرة تتحدى الزمن، كان الزبائن يحدقون نحو تلك العلبة بتلهف، وكلٌ منهم يدفع ثمن سجائره حاملا في قلبه رغبة عابرة، فقد كان عمله اليومي يتمثل في بيع السجائر، وجمع مبلغ زهيد من النقود، عمل بسيط أصبح ملاذه بعدما يئس من الحصول على وظيفة أفضل في عالم صار فيه الحلم نادرا كما الندى في الصحراء، ومع ذلك، لم يكن قلبه يخلو من متعة مراقبة الوجوه العابرة بين ضجيج الشارع المزدحم كأمواج بحر هائج، ليرتقي ببصره بين حين وآخر حيث شباك صغير في واجهة بناية ذات طابقين تقف على الجانب الآخر من الطريق، كان بمثابة نافذة على عالم آخر، عالم من الأحلام والآمال، فكان ينتظر أن تطل الفتاة بوجهها من ذلك الشباك لتبتسم له بابتسامة عابرة، أو تلوح بيدها بإشارة خافتة تحمل في طياتها وداعا لهموم اليوم الثقيل، وتُنسه تعب النهار.

لكن الانتظار طال، وتأخر الشباك عن موعد فتحه المعتاد، حتى بدت الدقائق تمر وكأنها ساعات، وبدأ الضجر يتسلل إلى قلبه بخفة، وبينما كان يتجول بعينيه بين تفاصيل الشارع، توقفت سيارة فاخرة بلون لامع بجانب الرصيف الذي كان يحتضن خطوات المارة، ليخرج منها رجل أربعيني، يحمل على وجهه ملامح الرفاهية والأناقة، بدا الرجل وكأنه جزء من لوحة فنية، يدور حول سيارته متلفتا يمينا ويسارا، كما لو كان ينتظر بشغف قدوم شخص ما.. في تلك اللحظة، ارتفعت نبضات قلبه، إذ رأى من خلف ذلك الشباك المألوف لمحة بدت كأنها تحكي قصة عشق من عوالم بعيدة، كان وجهها يلوح له من عوالم الأحلام، كما لو أن القدر قد خط لها عودة مفاجئة.. لكن المفاجآت لا تأتي دائما كما تُتوقّع، فسرعان ما تبخرت تلك البهجة، ففي تلك اللحظة العابرة التي كاد قلبه يرقص فرحا على وقع ظهورها، أغلق الشباك بهدوء غامض دون أن تترك له مجالا للنظر نحوها، لم يستوعب ذلك على الفور، فقد اندمجت حيرته مع تشتت أفكاره، حتى بدأ قلبه يشكّل من الحنين جدارا من الألم، وهو يرى تلك اللحظة تختفي كأنها حلم منسي.

لم تدم تلك الحيرة طويلا، ففي لحظة لاحقة، رآها تخرج من باب البناية مرتدية أفخر ملابسها، وهي تخطو بخطى واثقة لعبور الشارع المزدحم، اندفع قلبه سريعا من مكانه، حتى لم يعد قادرا على مقاومة الرغبة في الاقتراب والتحدث إليها ليفهم أسرار تلك النظرات البعيدة، فنهض من مكانه متوجها نحو باب البناية الذي طالما كان مدخله إلى عالم الذكريات، وقبل أن ينطلق نحوها وهو يحمل بين يديه أمل اللقاء الذي طالما حلم به، اندفعت مشاعر الغيرة والحنين معا، حين أمسك بيد أحد الزبائن قبل أن يمدها نحو علبة السجائر خاصته، وتحدث إليه بنبرة صارمة، وبصوت لا يكاد يخفي حدة مشاعره، قال: "إنها لي... اختر أي نوع آخر، إلا هذه العلبة".

كانت كلماته قطرة من أمطار الصدق، تركت الزبون مذهولا، فقام بسحب علبة سجائر أخرى ودفع ثمنها وغادر مسرعا دون أن يدرك عمق مشاعره المتراكمة.

استولى عليه شعور لم يستطع كبحه سوى الرغبة الشديدة في الاقتراب منها والتحدث إليها، ليفهم أسرار تلك النظرات البعيدة، ليسأل عن سبب اللامبالاة التي خطّت ملامحها حينما ابتعدت عن الشباك.. فبدأ يتحرك بخطواتٍ ثابتة نحو منتصف الشارع، وبينما كان يقطع المسافة بينه وبينها، أحس بأن الزمن توقف في تلك اللحظة، إذ مرت بجانبه دون أن تعيره أي اهتمام، غير آبة بوجوده وكأنه كان ظلا لا يُرى، وكأنما كانت تُحاك له رسالة صامتة تخبئ في طياتها وداعا لماضٍ لم يعد له أثر، لم يمض وقت طويل حتى تبلورت مشاعر الغضب في قلبه، غضب سطرته خيبات أمل طويلة، غضب ارتسم على وجهه حينما شاهدها تتسلل بخفة نحو السيارة الفاخرة يتبعها ذلك الرجل الأربعيني الذي بدت خطواته متوترة لينطلق بها وسط زحام الشارع المرصوف بالبشر والمركبات.

بدأت أبواق السيارات تعلو من حوله، كأنها تعبر عن حالة من الفوضى التي تسببت بها لقاءات العشاق في مدينة لا ترحم الأحلام، تداخلت همسات السائقين مع ضجيج الشوارع المتلاطم، وفجأة، سمع صوت أحد سائقي السيارات يصرخ فيه، صوت يأمره بالتحرك من وسط الشارع، فأجبره هذا الصوت على العودة إلى مكانه، حيث جلس منهكا، يرمي بثقله على صفيحة معدنية باردة، وكأنما يهدف إلى التخفيف من وطأة مشاعره، محاولا التركيز في أفكاره المبعثرة لإيجاد تفسير منطقي لتصرفها المفاجئ، لكن محاولاته للتركيز كانت تتلاشى مع كل ثانية تمر حيث لم يجد في ذاكرتِه ما يُبرر تلك اللامبالاة التي بسطت جناحيها على قلبه، ولم يجد سوى فراشات الوعود التي تلاشت مع زحام الحياة.

وبينما كان يقلب بين ذكرياته، تسللت إلى ذهنه صورة العلبة التي كانت تحوي سيجارته الثمينة، في لحظة من الجنون، رفع علبته بوميض من العزيمة والحنق وكأنه يحاول تحطيم القيود التي تكبل ذاك الوعد، عازما على تهشيم السيجارة التي لم يُشعلها قط، لكن ما إن فتح العلبة حتى شعر بأن ما كان يعتزم فعله قد انزاح عن طريق القدر حيث وجدها فارغة، لقد اختفت تلك السيجارة، ليجن جنونه ويبدأ البحث عنها بقلق متوهج بين العلب الباقية التي كانت مصطفة أمامه، يبحث عن تلك القطعة التي كانت تمثل له أكثر من مجرد سيجارة، فقد كانت رمزا للوعد الذي لم يُنس، وللحُب الذي طالما استقر في أركان قلبه، ينقب عن أثرها كما يبحث الفارس عن نجمة تهديه في ليل حالك، لكن محاولاته باءت بالفشل، حتى اجتاحه اليأس وكأنما استسلم لواقع لم يعد يحتمل شيئا منه، في تلك اللحظة، غاب عن ذهنه كل ما يحيط به، الزبائن والضوضاء والأبواق، فجلس هناك، مستريحا على مقعده، غير مبالٍ بمن يمرّ من حوله، مستغرقا في بحر من التأملات العميقة والأسئلة التي لا تجد لها جوابا في زوايا قلبه المكسور.

مرت الساعات ببطء مُرهق، وبدأ الناس يتسابقون عائدين إلى بيوتهم، وتحولت حركة الشارع إلى سباقٍ هادئ بين المارة، حيث تحول زحام السيارات إلى مشهد كأنّه رقصة هادئة لظلال الليل، كانت سلاحف الشارع في أعين البعض تتحول إلى غزلان رشيقة، تجوب دروب الحلم مع مغيب الشمس، حتى وإن كانت تلك اللحظات تبعث على التأمل في مدى هشاشة الأحلام التي تذوب في خضم الزمن، وبدأ الليل يهبط ببطء على المدينة، والأفق يتحول من ألوان الفجر الباهتة إلى ظلال من الظلام تخيم عليها هالة من السكون الخافت، ليتحول النهار إلى ممر مظلم، ومع حلول المغيب خفَّ زحام الشارع وتراجع ضجيج السيارات حتى باتت السكينة تلف المكان، لم يكن معتادا على هذا الهدوء المتسلل، فقد اعتاد على ضجيج المدينة وصخبها الذي كان يعيد له ذكريات الأيام الخوالي، وبدأ يستسلم للصمت جالسا على مقعده، مستغرقا في تأملات عميقة حول فقدان شيء لا يُقدر بثمن.. وفيما كان منهمكا في تفكيره العميق، بدا أن الليل قد أرخى ستاره على المدينة، فاستقر السكون على الأرصفة وتلاشى ضجيج النهار، ليتسلل إلى أذنيه صوت ضحكات خافتة، كأنها نغمٌ مألوف يصافح قلبه بذكريات عذبة، كان صوت ضحكاتها المسموعة من بعيد يرنّ في أذنيه كأنّه همس من الماضي، توقفت السيارة الفاخرة في نفس المكان الذي رآها فيه، وانكسرت حركة الزحام للحظة معدودة، حينما نزلت الفتاة من السيارة بخطوات مسرعة، مرتدية أجمل ما يليق بأميرات الأحلام، وتحاول عبور الشارع الذي بدا وكأنه يحرس أسرار الذكريات، لم يستطع أن يقاوم دافع قلبه، فنهض متحركا نحوها دون تردد، لكن القدر كان له رأيٌ آخر، فقد مرت بجانبه دون أن تعيره أدنى اهتمام، غير مكترثة بوجوده، كأن حياتها قد تجاوزت كل ما كان يربطها بتلك الوعود القديمة، هذا التجاهل جعل غضبه يتصاعد مثل نار مشتعلة في أعماق قلبه، فجأة، تحول كل ما كان يحمله من شوق إلى موجة من الإحباط العارم وهو يراقبها تختفي بين جدران البناية التي احتضنت أسرارها.

لم يمض وقت طويل حتى ظهر الرجل الأربعيني الذي رافقها في تلك اللحظات، متوجها نحوه بخطى واثقة وابتسامة هادئة مفعمة بالطمأنينة لا تحمل في طياتها سوى ملامح التفاهم والعزاء، وكأنه يحمل بين يديه رسالة ما تزال تحمل أصداء اللقاءات القديمة، مدَّ يده من جيبه وأخرج بعض النقود، مرددا بصوت خافت، لكنه كان واضحا في معانيه: "لم تكن موجودا حين أخذت سيجارة من سجائرك وأشعلتها... تفضل، هذا ثمنها".. كانت تلك الكلمات كالسهم الذي اخترق قلبه، محطمة كل آماله بأن تعود له تلك اللحظات التي حملت بين طياتها وعدا لا ينكسر.. تأمّل الشاب في تلك اليد الممدودة، يدٌ تحمل بين ثناياها بريق الوداع والاعتذار، وكأنها تعيد إليه شيئا فقده منذ زمن بعيد، وقف للحظة، مأسورا بين سحر اللحظة ومرارة الواقع، حيث أدرك أن الحياة بكل ما تحمل من مفارقات وأحداث غير متوقعة، لا تزال تكتب فصولها بقلم لا يعرف الرحمة، ليردّد بنبرة مختلطة بين الحسرات واللامبالاة: "يا لبخس الثمن"..

وبينما كان الليل يحتضن المدينة بنجومه الخافتة وكان الهواء يحمل رائحة المطر الوشيكة، وقف بجانب مقعده المعدني، يرنو إلى السماء حيث بقيت صورة السيجارة الغائبة تتردد في ذهنه كأنها لغزٌ لم يحل بعد، وكأنما يبحث عن إجابات لأسئلة لا تزال تُثقل كاهله، لم يكن يبحث عن مبرر لتصرفات الآخرين، بل كان يبحث عن نفسه في مرآة الزمان، عن ذاك الجزء الذي ظل متمسكا بالوعود رغم أن العالم حوله قد أصبح يهدمها قطعة قطعة، ليدرك أخيرا أن لكل شيء في هذه الحياة معنى، حتى وإن بدا صغيرا أو ضئيلا كما هو ثمن السيجارة التي فقدها.

***

جليل إبراهيم المندلاوي

سهــــران بتُّ وقــــد دنا الفجـــرُ

فإذا شكوتُ إليـــكَ لِـــي عــــذرُ

*

أنــا مثلُ موجــــكَ في تقلّبــــــهِ

قَلِـــقٌ فحــالي المدُّ والجـــــزرُ

*

مــــا للنوارسِ أقبلتْ زُمـــــــرا ً

لمّــــا التجأتُ إليكَ ما الأمـــــرُ

*

هـــلْ عــنْ بثينــــةَ َ عندهـا خبـرٌ

هـذي النوارسُ أيّـهـــا البحْــــرُ

*

فتّشـــتُ عنهــا فـــي مواطنهــا

فـــي البيْــدِ لا أثـرٌ ولا ذكْــرُ(1)

*

ومضيــتُ أبحــــثُ دونمـــا كـلـل ٍ

سيّـــان عندي السهْـلُ والوعـــرُ

*

وخُطــــايَ مِــنْ وادٍ إلى جبــــلٍ

تقتـــــادني ويضلّنــــي الفكــرُ

*

فـإذا أنــــــا في القفْــرِ ملتحِـــفٌ

وجْــهَ السمـا ووسادتي الصخْرُ(2)

*

والبـــدرُ مِن فوقـــي أراقبُــــــهُ

وأودُّ لــــوْ يتكلّــــمُ البـــــدْرُ

*

فلطــالمــا فاضــــتْ مشاعـــرنا

بطلوعِــهِ فشـــدا بها الشعـــرُ

*

وكرمشــةِ العيــــن انقضى زمـنٌ

وأتــــى زمــانٌ آخــرٌ مُــــرُّ

*

فمرضـــتُ أسبوعيـــنِ بعدهمــا

قـد نمــتُ نومـــا ً طولـهُ دهــرُ

*

كمنـــامِ أهــل الكهــفِ ، مثلهــمُ

لـمْ أدرِ حيـنَ أفقــتُ ما العصــرُ

*

وكأنَّ مـا قد عشـــتُ من عُمُــري

حُلـــمٌ مضـــى لمّـا بدا الفجْـــرُ

*

أبصرتُ دنيـا ً غيـرَ مــــا ألفــتْ

عينـــي كمـــا لو مسّني سحْــرُ

*

كانـــتْ بلادا ً لســـتُ أعرفـــها

مـِنْ قبــلُ مـا عنــدي بها خُبْــرُ

*

هــيَ لمْ تكُـنْ وطني الحجــاز ولا

شــيءٌ يدلـلُ أنّــــها مصـرُ (3)

*

بالحزْمِ قـــدْ عُرفــــتْ مليكتُهـــا

في الناسِ لا يُعْصــى لهـا أمــرُ

*

فذهبـتُ ألتمـسُ اللقــــاءَ بهــــا

قــالوا ستأذنُ إنْ مضــى شهْــرُ

*

الشهْـــرُ مــرَّ ونلتُ أمنيتـــــي

تـمَّ اللقــاءُ وضمّنــــا القصْـرُ

*

أبصـرتُ فيـها صــورة ً نطقــتْ

لبثينـــــة ٍ فانتابنــي الذعْـــرُ

*

فجميــــعُ ما فيهـــــا يُطــابقها

الوجْــــهُ والعينــانِ والشعْـــرُ

*

نظــرتْ إلــيّ فخلــتُ نظـــرتهـا

نفَـذَتْ إلى ما يضمـرً الصـــدْرُ

*

وســرتْ بجسمــي رعْشـة ٌ عَجَبا ً

وكـأنَّ فيــهِ قــد سرى القــرّ(4)

*

فهتفتُ إنّـــي يا بثينــــةُ مَــــنْ

قاسـى هـواكِ ومسّــهُ الضُــرُّ

*

ضحكــتْ وردّتْ وهْــيَ ساخــرةٌ

ماتـتْ بثينــــة ُ أيّـها الغِــرُّ(5)

*

فسقطـــتُ مغشيّـــا ً علـيَّ كمــنْ

صرعتــهُ أوّلَ شــربه ِ الخمــرُ

*

وإذا بصـــوتٍ راحَ يوقظنـــــي

انهـضْ فعنـدي يُعـرفُ الســرُّ

*

مـَلـك ٌ بثينــــة ُفي الســـماءِ ثوى

لا لـــمْ تمُـتْ مــا ضمّها قبْـــرُ

*

هـــيَ زهْـــرةٌ علــويّـة ٌ وجِدتْ

مِـنْ قبــل أنْ يتفتّـــح َ الزهْــرُ

*

هـيَ في الزهـــورِ جميعها عبــق ٌ

فـي كلّ منديـــل ٍ لهــا عطـــرُ

*

لكنّ  صوتــــا ً جــاء َ مُعترضـا ً

مِـنْ داخلــي ..... ما هكذا الأمــرُ

*

هــــيَ طينـة ٌ للأرضِ مرجعـهـا

أحببتهــا فسمـــا بهــا الفكـــرُ

*

أغـــراكَ شئٌ غيــر صـــورتها

فهـيَ البراءةُ زانــــها الطهــرُ

*

فاصـــدحْ بشعركَ يــا جميـلُ فمـا

فـي الكون ِ إلّا الحـــبُّ والشعْـرُ

*

الحـــبُّ خمـــر ٌ غيـرُ خمـــرتنـا

الحـــبُّ دنيــا ً كلّــها سُـكْــــرُ

***

جميل حسين السـاعدي

......................

(1) البيد: جمع بيداء وهي الفلاة أو الصحراء

(2) القَفْــر: الخــلاء من الأرض لا ماء فيه ولا ناس ولا كلأ

(3) الحجاز هي موطن الشاعــــــر جميل بن معمر وبثينة، أما مصر فهي المحطة الأخيرة في ترحاله، بعد أن توعده عامل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وهناك مرض بسبب فراقه لبثينة وتوفي

(4) القــرّ: البرد

(5) الغِـرّ: الذي خُدِعَ فانخدع

 

في نصوص اليوم