نصوص أدبية

نصوص أدبية

الحوت والقرش.. اسمان ترددا في حياتنا نحن ابناء الحارة الشرقية، وكثيرا ما كان موضوعا اثيرا لدينا، فطالما سهرنا الليالي نتناقل اخبارهما، وكان كل منا يصُف في جانب احدهما، بل انني اتذكر اننا كثيرا ما تعالقنا بالأيدي وكسّر بعضُنا بعضا، لولا تدخل مَن وقف جانبا مفضلا الامان والسلام من ابناء الحارة.. في فض الاشتباكات بيننا. مما اتذكره اننا انقسمنا ذات ليلة مُقمرة الى فريقين، كل منهما يدّعي ان احد الجدعين اقوى من الآخر، وانتهت الليلة بان حطّم بعضُنا بعضًا.. وكاد يستنجد بمن وقف في صفّه وتغنى بأعماله العظام وشجاعته الخارقة.
بعدها انفضّ كلٌ منا الى طريق، وعاد مفكرا فيما يمكنه ان يفعله من اجل معبوده البطل، وكان ان حمل كل منا، نحن رئيسي الفريقين، انا وصديق لي، فكرةً ما فتئ ان طرحها في القعدة الحاراتية في المساء التالي، وكان مفادها انه يفترض فينا ان نتوجه، هو الى قرشه وانا الى حوتي، سائلين كلا منهما عمن هو الاقوى والاشجع بينهما. ما ان طرحت هذا السؤال على محبوبي الحوت، حتى ربّت على كتفي، انا الفتى الصغير قائلا انه لم يفكر في هذا الموضوع من قبل، وانه سيبلغني بما يمكن ان يتوصل اليه خلال يوم او بعض يوم. ما ان نطق بهذه الكلمات حتى ارتاحت اساريري، وتوجّهت الى رئيس الفريق الآخر المنافس. وقفت امامه وقفة من يتحدّى خصما قويا شرسا، واخبرته انني انتظر اجابة الحوت، وانه وعدني بان يقدم الي اجابته خلال فترة قصيرة. ضحك الفتى الواقف قبالتي.. بعدها انفجر في ضحك متواصل، ما اضطرني لأن اطلب منه ان يُطوّل روحَه وان يخبرني بما اضحكه كل ذاك الضحك، فما كان منه الا ان ركض في عدة اتجاهات، معبرا عن حيرته وقال لي، انه سمع من قرشه نفس ما سمعه مني، وانه ينتظر الاجابة بعد يوم او بعض يوم.
توجّهنا، رئيس فريق القرش وانا رئيس فريق الحوت، في الموعد المحدد لنا مع شجاعينا العظيمين، وكان ان جرى بيننا الحديث التالي:
انا: هل توصّلت الى اجابة.. مَن هو الاقوى بينكما انت والقرش؟
هو: وهل هذا سؤال؟ انا بالطبع الاقوى.
فكّرتُ فيما يمكنني ان اقوله لفريق الحوت، فريقي، والقرش، فريق ابن حارتي وخصمي، وتوصّلت بعد امعان في التفكير وسباحة مضنية في بحوره، الى ان اجابته هذه قد توقعني في حيرة اكبر من سابقتها، كونها لم تضف جديدا، فعدت اسأله:
-وكيف يمكنني ان أتأكد من انك انت الاقوى؟
عندها غرس الحوت عينيه في:
-هل تريدني ان اواجه القرش.
انطلق لساني رغما عني:
-وهل هناك حلٌّ آخر.. لمعرفة من الاقوى بينكما؟
خلافا لكل ما توقعته.. ربّت الحوت على كتفي وهو يقول:
-لا تخف.. في قول كلمة الحق.. صحيح انني معتزٌّ بقوتي وشجاعتي،، الا انني اخضع لكلمة الحق مهما كانت قاسية.. لا تخف يا ولد.
واضاف يقول: انت في حماية الحوت.
تشجّعت اكثر فقلت له اختصارا للحديث والوقت:
-هل انت على استعداد لمنازلةٍ.. تُرينا أيًا الاقوى بينكما؟
ضحك الحوت حتى استلقى على ظهره:
-معك حق. حدّد موعدًا للمنازلة..
عندما عدنا، ابن حارتي رفيق القرش وانا- رفيق الحوت، الى جلستنا المسائية في اليوم التالي، اخبرني رئيس فريق القرش، انه اتفق مع قرشه على منازلة بين الجدعين، تُقام مساء يوم الجمعة القريب.. في مركز البلد، قرب الدوار العمومي وعلى مشهد من الناس.
التقينا في الموعد المُحدّد من مساء الجمعة، كان الجو متوترا مشحونا، وكل منا يتمعّن فيمن يؤيده. وقف الحوت منتصب القامة ووقف قبالته القرش مثلما وقف هو، واخذ كل منهما يدفع الآخر بصدره الى الوراء، سائلا اياه: انت متأكد انك اقوى مني؟، اما نحن الوقفين حولهما من ابناء الحارة الشرقية، فقد كانت قلوبنا تدقّ على ايقاع حركة كل من محبوبينا، هم كانوا يرسلون النظرات الموّلهة السكرى في قرشهم ونحن كنا نرسل نظراتنا المتأكدة من قوة حوتنا وقدرته على ان يدحر القرش الواقف قبالته.
دفعة بالصدر من هذا الطرف واخرى من ذاك، والنتيجة معركة شرسة بين عملاقين وليس بين رجلين. الطريف اننا كنّا نرى كلما اشتبكا اكبر واضخم في الجثة والوزن، لقد كبرا حتى اننا لم نعد نراهما، لقد تركزت عيوننا المنبهرة المُتحسّبة لكل حركةٍ ونأمةٍ، في اليد التي توجّه اللكمة الاشد والاعنف، وكنا كلما وجّه الحوتُ لكمةً الى القرش، نحبس انفاسنا بانتظار اللكمة التالية وبعدها الضربة القاضية، وعندما ابتدأنا في وضع انتصار الحوت في جيوبنا، اخذنا نصفّق له مهللين مكبّرين، وهو ما استفز مؤيدي القرش، فراحوا يشجعونه ويصفّقون له، الامر الذي فعل فعله في استنهاض جرأة القرش واستثارة حميته، فتوقف عن ترنحه، وشرع بتوجيه اللكمة تلو الأخرى الى الحوت قبالته.
عندما شعرنا ان تشجيع فريق القرش، ادى دورا مُهمّا في توجيه دفة الفوز، اخذنا نهلل ونكبر داعين الحوت لتوجيه اللكمات الى خصمه القرش، الغريب انه استجاب لنا وراح ينفخ جسده انتفاخة مارد خرج للتو من الف ليلة وليلة، فاستعاد عافيته وراح يكيل الضربات لخصمه بمكيال من قوة وشجاعة.
عندما رأينا ان التشجيع يؤدي دوره الكبير هذا في التحفيز.. والتسديد اللكماتي، ارسلنا مَن يستدّعي المزيد من اولاد الحارة، ممن فضلوا الوقوف جانبًا وعدم الانضمام الى هذا الفريق او ذاك، وعندما فهمنا انهم غير معنيين، وعدناهم بان نتقاسم معهم طعامنا وشرابنا خلال ثلاثة الايام التالية. عندها اخذ هؤلاء، ومعظمهم - اذا لم يكن كلهم من ابناء المهجّرين الجدد، ابتدأت الكفّة تميل الى من يزداد مؤيدوه، فهي حينا تميل نحو الحوت وآخر نحو القرش، وجاءت اخيرًا.. المفاجأة غير المتوقعة..
عندما تساوى عدد المؤيدين المشجعين لكل من طرفيّ الصراع القتّال، كان كل من المتنازلين قد اوشك على السقوط واعلان الهزيمة.
توقف الاثنان، للمفاجأة الصاعقة.. توقفا عن القتال. نظرا كل في اتجاه، وبصقا معا علينا، ولحق كل منهما بفريقه مسددا اليه الضربة تلو الاخرى.. كانت تلك علقة غير متوقعة من جدعي البلد، وكثيرا ما قضينا الليالي متضاحكين.. ومتذاكرين تفاصيل تلك العلقة.
***
قصة: ناجي ظاهر

يا ليتني حجرٌ في أرضِ أندَلُسِ

حيثُ الهواءُ نديٌّ طيّبُ النفَسِ

*

وكفُّ سائحةٍ ترنو لتلمِسَني

فتستحيلُ إلى وردٍ بلا يَبَسِ

*

كم من حكايا بأحجارٍ إذا لُمِسَتْ

لأنبأتْكَ بصدقِ القولِ لا الغَلَسِ

*

نافورةُ القصرِ في الحمراءِ تجعلُ من

ماءِ التغرُّبِ شرقيّاً بلا دَنَسِ

*

مجدٌ مُضاعٌ كمُهرِ الصبحِ يَخطَفُه

من أمِّه الشمسِ ليلٌ أبيضُ العسَسِ

*

كأنّما جنّةُ الفردوسِ قد سألتْ

مِرآتَها في تجلّي الضوءِ والقبَسِ

*

هل ثَمَّ في الكونِ من فاقت محاسنُها

حُسني أنا؟ فأجابتْ: أرضُ أندلسِ

***

عبد الله سرمد الجميل - شاعر وطبيب من العراق

أبكم صوت حنيني

وعناق الشهقة الحرّى على دفءِ يقيني

وذهولي عاريًا يخلع من برق ارتباكي

غيم ظلي وبراكين انيني

فامطري ان شئت صحوًا او جنونا

فانا غزوك يسبيني بمدح

وامتداحي لك قد جاز فنوني

فاتركيني

يقظة اسقي بها وشل السنين

يا ربيع الروح يا ارض الحنين

يا هزار الله في حقل ظنوني

إنكِ الخاتمة المثلى لشكي ويقيني

***

طارق الحلفي

كان فينا نورٌ، أو هكذا قيل.

كان لنا وجوهٌ لا تخجلُ من انعكاسها في الماء،

وأيدٍ لا تخافُ أن تمتدَّ إلى يدٍ مرتجفة،

وقلوبٌ تشبهُ العصافيرَ إذا ارتعشت الأرضُ من البرد.

*

متى انطفأنا؟

في أيِّ ليلةٍ نامت ضمائرُنا ولم تستيقظ؟

في أيِّ صباحٍ شربنا القهوةَ بدمٍ باردٍ،

ونظرنا من النوافذِ إلى الظلمِ كما لو كان مشهداً عابراً في فيلمٍ رديء؟

*

متى تغيرنا؟

أحين ابتلعنا صرخاتِ الآخرين حتى لا تفسد مذاقَ طعامنا؟

وخفَّنا من حملِ الحقيقةِ لأنها كانت ثقيلةً كجثةِ حلمٍ قُتل في وضحِ النهار؟

أو حين صرنا نرى الجثثَ كأرقام، والدماءَ كإحصائياتٍ، والوجعَ كخبرٍ عابرٍ في شريطِ الأخبار؟

*

لِمَ تغيرنا؟

هل تعبنا من الحزنِ حتى اخترعنا اللامبالاةَ كدرعٍ نحتمي به؟

هل بعنا أرواحَنا مقابلَ أشياءٍ تلمعُ لكنها فارغة؟

هل خدعنا أنفسَنا بأنَّ هذا العالمَ ليس مسؤوليتَنا،

وبأن العدلَ عبءٌ لا طاقةَ لنا بحمله؟

*

صرنا نصمتُ لأنَّ الصوتَ صار خطراً،

ونشيحُ بوجوهِنا لأنَّ النظرَ إلى الألمِ يُقلقُ نومَنا،

ونغلقُ أبوابَنا لأنَّ الضميرَ إن عادَ سيطرقُ بشراسةٍ كدائنٍ غاضب.

*

لكن هل انتهى الأمر؟

هل سنظلُّ أشباحاً تمشي فوق الخرابِ ولا تصرخ ؟

هل سنبقى غرباءَ عن أنفسِنا، نخافُ أن ننظرَ في عيونِ المرآةِ فتفضحَنا؟

*

ربما، وربما لا.

ربما، في ليلةٍ لا تشبهُ غيرَها،

يعودُ إلينا وجهُنا الأول،

ذلك الذي كان يشبهُ إنساناً.

***

مجيدة محمدي - تونس

لا أحب الوجوهَ المتشابهةَ

التي تعبرُ الشارعَ كلَّ صباحٍ

بخطىً رتيبةٍ

ونظراتٍ زجاجيةٍ

لا ترى سوى الفراغ

*

كلّ يوم..

تمرّ بجواري حكاياتٌ مكررةٌ

بلا دهشةٍ

بلا صوتٍ

تمضي كأنها لم تكن

*

أحاول أن ألتقط منها ظلًّا مختلفًا

بقايا نبضٍ يوقظ المعنى

لكنها تمضي كما جاءت

بلا لون

بلا رائحة

كأن الحياةَ تكرارٌ باهتٌ

لمشهد لا يتغير

*

لا أحب الرسائل الجاهزة

التي تهطل عليك كل يوم،

تتشابه في اللغة والمعنى،

الموسيقى نفسها،

والإيقاع نفسه.

*

كل يوم

تستقبل كلمات بلا عاطفة،

تخرج من فم معلّب،

ولا تصل القلب.

*

حروف باهتة

تمرّ كظل عابر،

لا تترك أثرًا،

ولا توقظ إحساسًا.

*

أبحث عن كلمة

تشبه الفجر حين يتنفس،

عن جملة

تنبض بالحياة،

لكنها تضيع

في زحام الكلام المكرّر.

*

أحتاج إلى رسالةٍ تولد من دهشة،

تنمو في حقل المعنى،

وتصل إليّ

كما تصل النبضةُ إلى القلب،

حيةً، دافئةً، بلا أقنعة.

***

د. جاسم الخالدي

لم يكن شط العشار مجرد مجرى مائي يمر بهدوء في أطراف المحلة، بل كان نداءً خفياً يدغدغ أرواح الأطفال المتعطشة للمغامرة والتحرر من قيود الواقع. كان يقع على بُعد بضع دقائق فقط من بيت العائلة، ان قربه هذا لم يكن سوى إغراء إضافيًا يدفع الصغار إلى تحدي الممنوع.
في أوقات العطلات المدرسية، وتحت لهيب تموز الذي يشتد على مدينة البصرة حتى يغدو الهواء نفسه كأنه نارٌ تلفح الوجوه. كانت مجموعات الأطفال تجتمع عند الشط، حيث يفضلون السباحة في المناطق الضحلة التي عُرفت بينهم باسم "منطقة الڰياش"، تجنبًا للموت الذي كان يبتلع أرواحًا غضة في تلك المياه العميقة كل عام.
عادل وأخوه، في الثامنة والسادسة من العمر، كانا ضمن أولئك المغامرين الصغار، رغم تحذيرات الأهل المتكررة ومنعهم الصارم لهما من السباحة، لم يكن الخوف من الغرق وحده ما يطاردهم، بل أيضًا شبح الأمراض المتفشية في المياه، وعلى رأسها مرض البلهارسيا، الذي تنقله ديدان مستوطنة في قواقع الشط.
لكن الطفولة لا تعترف بالتحذيرات، فكانت براعتهم في الاحتيال تفوق قدرتهم على الالتزام.
ينزعون ثيابهم خوفًا من بللها، يسبحون بملابسهم الداخلية، بعد ان يؤمنون ثيابهم عند صديق يجلس على الرمل حارسًا أمينًا. وعندما تنتهي مغامرتهم، يغسلون أجسادهم، يجففونها ويلبسون ثيابهم، ثم يبدؤون بتجفيف ملابسهم الداخلية بوسيلة عجيبة طالما اعتقدوا بفاعليتها.
كانت تلك اللحظات التي ينتظر فيها الأطفال مرور سيارات الحمل ذات العجلات الكبيرة على الطريق المحاذي للشط، بمثابة طقوس سرية لمغامرتهم الطفولية. كان المشهد يبدو كلعبة مثيرة تتحدى قوانين الزمان والمكان؛ يُلقون ملابسهم الداخلية على الإسفلت الحارق، لتسحقها عجلات السيارات وتعيدها إليهم جافة بسرعة تكاد تكون سحرية.
ولكن المغامرات لا تكون كاملة دون تلك المفاجآت التي تحمل طعم الخيبة المرير. فعندما تعلق الملابس بالعجلات، وتنطلق السيارة دون أدنى اكتراث لصراخهم البائس وركضهم المحموم خلفها، تتجسد المأساة الصغيرة في قلوبهم اليانعة كطعنة مؤلمة. المغامر التعيس الذي يخسر ملابسه الداخلية في تلك اللعبة الخطرة، لا يجد أمامه سوى العودة إلى البيت دون "لباس" تحت "الدشداشة"، محاولًا أن يخفي أثر فشله في عينيه البريئتين.
لكن الفضيحة لا تلبث أن تنكشف. الضحكات الساخرة من أقرانه تلاحقه كأشباح تتراقص حوله، وقصته تتحول إلى مادة للتندر والتسلية في مجالس الصغار. أما الأهل، فغضبهم لا يعرف الهدوء، وعقابهم يُكتب بصرامة لا تقبل المساومة.
ومع ذلك، لم يكن لأي عقاب أن يُخمد في قلوبهم جذوة التمرد على المألوف، ولا رغبتهم الملتهبة في اكتشاف العالم بطريقتهم الخاصة. كانت مغامراتهم تلك صرخة طفولية تتحدى كل شيء، كأنها محاولة مستمرة لإثبات الوجود في عالم لم يعرفوا منه سوى الحرمان والخوف والأحلام المعلقة على ضفة شط العشّار.
في وهج ظهيرة ثقيلة، حين عاد الأب إلى البيت متعبًا من عناء العمل، غابت أصوات أبنائه المعتادة، تلك الضوضاء الطفولية التي كانت تملأ أركان المنزل حياة. سأل الأم بلهفة مكبوتة: "أين هم؟" فأجابته بتردد: "لا أدري، لعلهم يلعبون في الخارج."
زمجر بصوت يحمل قلقًا أكثر مما يحمل غضبًا: "في الخارج؟ ومن يطيق اللعب تحت هذا الحر اللافح؟" ردت الأم محاولة تبرير غيابهم: "ربما ذهبوا إلى الشط..."
"الشط؟!" كرر الأب كمن اكتشف فجأة مصدر هواجسه القاتمة. هرع خارج البيت مستشيطًا بالغضب، يكاد يشتعل كاللهب من قمة رأسه حتى أخمص قدميه. وما إن لمحه صديقهم الحارس، حتى أطلق نداءه المرتعد: "عادل! أبوكم قادم!".
وصل الأب إلى الحارس وانتزع منه ثياب الولدين بعينين تقدحان شررًا. على الفور، اندفع الصبيّان مذعوران، يركضان بكل ما أوتيا من قوة نحو الشارع، يقطعان الطريق بأقدامهما الحافية وكأنهما يهربان من قدر محتوم. اختارا ملاذًا مألوفًا: بناية المكتبة العامة بسورها الواطئ المكشوف والذي لا يصلح للاختباء، وبناية الإدارة المحلية بسورها الحجري العالي الذي توهما أنه قادر على حمايتهما من بطش أبيهما.
رآهما حارس البناية يتقافزان كطيرين جريحين، والذعر يكسو وجهيهما المحترقين من الشمس، وأجسادهما العارية المشبعة بملوحة النهر. هرعا إليه متوسلين، يتعلقان بسرواله كما يتعلق الغريق بخشبة خلاص. "أنقذنا يا عم ... أبونا سيقتلنا!".
نظر إليهما الحارس بحنان الأب الذي لم يُرزق أبناء بعد، وقال: "لماذا يريد معاقبتكما؟" لكنه أدرك سريعًا حقيقة الأمر حين استنشق رائحة النهر تفوح منهما. "آه، فهمت. لم يسمح لكما بالسباحة خوفًا عليكما، وهذا العقاب الذي تفران منه."
تشبث الولدان به كملاذ أخير، بكاؤهما ينساب كأنهار صغيرة من رجاء ويأس. وفي تلك اللحظة، اقتحم الأب المكان متقدًا غضبًا، يهدر بصوت يكاد يهدم السور نفسه: "ويلكما! إلى أين تهربان مني؟ تعالا فورًا!"
هنا تقدم الحارس بخطوات هادئة، وبصوت ملؤه الرجاء والاحترام، قال للأب: "يا اخي، أرجوك، لا تضربهما. لقد طلبا حمايتي، ووعدتهما بالأمان. أريد منك كلمة شرف، وعدًا من رجل لرجل، ألا تمسسهما بسوء."
تجمد الأب مكانه، وكأن كلمات الحارس لامست شيئًا عميقًا في روحه. أطرق برأسه هنيهة، ثم مد يده مصافحًا الحارس، وقال بصوت خافت: "وعدًا... لن أؤذيهما."
وما إن التقط الولدان همسات الوعد بين الرجلين، حتى انطلقا كطائرين أفلتا من شباك الخوف، يعدوان نحو البيت وأعينهما تلمع ببريق النجاة.
**
سعاد الراعي

 

العاطلونَ عن الأملْ

فقدوا العملْ!

*

والقارئون الكَف

والفنجان - لا -

ليس لهم وزنٌ

لدى كفّ زُحلْ!

*

واللاجئونَ بِدَرْبِهِمْ حاروا

فلا بلدٌ (تَنَفَّسَهُمْ)

ولا حَلّ مَحَلْ!

*

والغارقون بِدِينِهِمْ

من ذَقْنِهِمْ حتى الرصاص

تَصَفَّحُوا وجه الحياةِ

وأعملوا (تَصحيفهُمْ)...!

*

والناجحون وحْدَهُمْ

من يشتري تَعَب الحياةِ

ليملأوا الدنيا حُلَلْ!

*

والمالِحُونَ

المالحون

المالحون

على جِراحكَ يا وطن!!!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

من كتاب: (رِمال القلق )

حمل الورقة بين أصابعه كأنها جمرة، وكأن الحروف المنحوتة عليها لا تزال تنبض بحرارة ذلك الزمن، بل وكأنها تهمس له بأصوات دفنها في أعمق زوايا الذاكرة، كانت الورقة قديمة، حوافها متآكلة، وحبرها باهت بالكاد يُقرأ، لكنها كانت كافية لبعث ارتجافةٍ في أطرافه، ولبعث ذلك الألم القديم الذي ظنَّ أنه نجح في وأده، ارتجفت أنفاسه وهو يقرأ الاسم المنحوت عليها، الاسم الذي كان يوما مرادفا للأمل، للحياة، ثم أصبح مرادفا للخديعة، لطالما كان يخشى هذه اللحظة، لحظة المواجهة مع ما كان يهرب منه، مع حقيقة أنه لم يكن سوى ظلّ يتبع وهما، قلب تآكلته الخديعة حتى أصبح صدى باهتا لنبض كان يوما ممتلئا بالحياة.
عاد به الزمن إلى تلك الأيام التي كان يسير فيها خلفها كالتائه في صحراء عطشى، يلتقط من كلماتها قوارير ماء تروي ظمأ روحه، لم يكن يدرك حينها أن ما يرتشفه لم يكن سوى سراب، كل ضحكة، كل وعد، كل لمحة حنان، لم تكن سوى قناع زائف يخفي خلفه حقيقة أكثر قسوة مما تخيل.
كانت الورقة رسالة، رسالة أخيرة منها، لم يفتحها حينها، مزقها بيدين مرتجفتين وقلب يتشظى، لكنه الآن، يعيد جمع شظاياها، يعيد قراءتها وكأنها مرآة تعكس ما تبقى منه: "رجاءً، يكفي كلاما يصدر عنك لا أفهم مغزاه، قلتُ: إن كنتَ تريد أن تعتبرني صديقة، فبابي مفتوح، رجاءً، تفهّمني، تحياتي".
ضحك بمرارة، أيكون للأسف وزن بعد أن أصبح القلب خرابة مهجورة؟ أيكون للاعتذار معنى حين لا يبقى من الحب سوى رماده؟ ألقى الورقة جانبا، تنهيدة طويلة انسلت من بين شفتيه، ثم نهض، لا جدوى من النبش في رماد الماضي، فقد حان وقت المضي قدما، ولو بأقدام أنهكها الطريق، ولكنه ليس ذاك الذي يهرب من امرأة كانت وطنا لروحه، ظلّا لخطواته، وصدى لصوته حين كان يناجي الليل باسمها، أحبها بكلّ رعشات القلب، بكلّ ارتعاش الأصابع وهي تكتب لها، بكلّ الدمع الذي كان يفضحه حين يمرّ طيفها في خاطره.
لكنه كان مخدوعا، مخدوعا في بريق عينيها الذي كان يظنُّه شوقا، فكان محض وهم عالق بين سراب الأماني، مخدوعا في كلماتها التي كان يحفظها كآيات نجاة، فإذا بها طلاسم لا تفتح أبواب الرحمة بل تسجنه خلف قضبان الخديعة، حتى اهتمامها، كان قيدا من حرير، يشدُّه إليها بينما كانت تبحث عن درب آخر تهرب إليه.
كانت الحب الأخير بالنسبة له، والأقسى، لم تكن هي الوطن، بل كان هو الوطن الذي ضاع فيه حلمه، كان المساحة التي خطت عليها خطواتها حتى سئمت، حتى نظرت بعيدا بحثا عن أرض أخرى تغرس فيها جذور رغباتها، لم يرَ ذلك، أو ربما رآه وأغمض عينيه، كما يُغمض العاشق عينيه عن كل ما يهدد فردوسه المزعوم، كان يظنها الشوق، فإذا بها السراب، كان يراها الأمان، فإذا بها عاصفة، وكان يصدق كلماتها، فإذا بها مفاتيح أبواب لم تُفتح له قط.
لكن الحقيقة لم تكن بهذه البساطة، كان هناك سرٌ دفين، أكبر من مجرد حبٍّ قديم، وأكبر حتى من خيانتها له، عثر عليه بالصدفة، عندما تلقى رسالةً مجهولة المصدر، كانت عبارة عن سلسلة من الصور والمحادثات، رأى فيها وجهها، لكنه لم يكن وجهه من ينعكس في عينيها، بل وجه رجلٍ آخر، لم يكن ذلك العاشق القديم بل شخصا نافذا في عالم السياسة، رجلٌ كان ظهوره كفيلا بربط الخيوط المبعثرة.
كانت تحمل في قلبها جرحا قديما، حبا لم ينطفئ رغم المسافات، لم يكن سوى محطة، استراحة تأخذ منها أنفاسها حتى يعود إليها عاشقها الأول، لم يلحظ ذلك في البداية، فقد كانت بارعة في التمثيل، ماهرة في ارتداء القناع المناسب لكل لحظة، فكان غارقا في وهمها حتى نسي نفسه، وأصبح أسير كلماتها، سجينا لوعودها التي لم تتحقق أبدا.
وحين عاد ذلك الغائب، انقلبت موازينها، تبدّلت، صارت أخرى، باردة كحجر، بعيدة كأنها لم تكن يوما بين يديه، حاول أن يتجاهل الإشارات، أن يبحث عن أعذارٍ تبرر فتورها، لكن الحقيقة كانت واضحة، صارخة كجرح مفتوح: لم يكن سوى عابرٍ في قلبها، لم يكن سوى ظلٍّ ينتظر أن يُمحى، ولم تكن هي سوى مجرد امرأة خائنة، إذ كانت جزءا من لعبةٍ أكبر، السياسة، الخداع، المصالح المتشابكة، كل شيء كان يدور حولها دون أن يدرك، إنه كان ورقةً استُخدمت في مرحلةٍ ما، وكان لا بد من التخلص منها حين انتهى دوره.
اليوم، لا يهرب منها، بل يهرب من نفسه، يهرب من ذلك الرجل الذي تقمص دوره، الرجل الذي صدّق الكذبة حتى أصبحت جزءا منه، لكن كيف يُقنع القلب بأنه كان أعمى؟ كيف يقنع الروح بأنها اختارت من أطفأها بدلا من أن يشعلها حياةً؟ كيف يقنع الذكريات بأنها لم تكن سوى خدعة، وأن كل لحظة دفء كانت مجرّد طقسٍ زائف في صقيع الخيانة؟
فأسوأ مراحل الاستغفال في الحب ليست تلك التي يُخدع فيها القلب، بل التي يُقنع فيها نفسه بالخديعة، أن ترى الحقيقة واضحة كالشمس، لكنك تغمض عينيك متذرعا بالخوف من الظلام، أن تلمح الغياب في كل حضور، والبرود في كل دفء، ثم تقول: ربما أتوهم.
إنها المرحلة التي تصبح فيها أكاذيب الحبيب أكثر ألفة من صدق الآخرين، وحبال الأمل المتهالكة أكثر راحة من أرض الواقع الصلبة، حينما تتحول كلمات "أنا بخير" إلى درع زائف تخفي وراءه انهيارك البطيء، وحين يصبح الصمت لغةً جديدة لتبرير ما لا يُبرَّر، فأسوأ مراحل الاستغفال في الحب، هي أن تكون آخر من يعلم، ليس لأن الحقيقة كانت غائبة، بل لأنك كنت من دفنها بيديك.
في أحد الأيام، وبينما كان يبحث عن مخرج من متاهة الندم التي تلاحقه كظلّ ثقيل، وجد نفسه وسط عاصفة سياسية تعصف بالمدينة، كانت السماء ملبدة بالغيوم، والشوارع غارقة في زخم من الاحتجاجات، الهتافات تعلو، والأصوات تزداد قوة كأمواج البحر الهائجة، وكأنها تطلب العدالة التي طالما تم تجاهلها، اللافتات ترفع في كل مكان، مليئة بشعاراتٍ تلامس قلبه، كأنها كانت قد كُتبت خصيصًا له: "الخيانة لا تُغتفر"، "الوعود الزائفة لا تصنع وطناً".
كان يرى في عيون المتظاهرين ما كان يشعر به من قبل، نفس الوجوه التي تحمل عبء الخيبة، نفس القلوب التي تمزقها خيانة الأمل، وعيناه تتنقلان بين اللافتات، فتُذكره بكل ما عاشه من تجارب مشابهة في حياته الخاصة، حيث كانت الوعود الوردية تتحول إلى سراب، والأحلام تُسحق تحت وطأة الواقع القاسي، كانت تلك الهتافات، رغم عنفها، هي الصدى الحقيقي لندمه.
بينما كانت العاصفة السياسية تضرب المدينة، كان هو يقف في وسطها، عاجزا عن الهروب من مرآة ماضيه، كل صرخة كانت تذكره بكل لحظة ضاعت فيه، وكل خطوة اتخذها دون أن يدرك أنه كان يسير في طريق مليء بالفخاخ، مثلهم تماما، شعر بأن الخيانة لا يمكن أن تُغتفر، وأن الوعود الزائفة لا يمكن أن تبني شيئا سوى الخراب.
أدرك حينها أن الخداع ليس حكرا على العلاقات العاطفية، بل هو جزءٌ من نسيج الحياة بأكملها، رأى في السياسة ذات الوجوه التي عرفها في حبّه الماضي، ذات الابتسامات المخادعة، ذات العهود التي تُكسر عند أول فرصة، كان يراقب المشهد ويتساءل: هل نحن محكومون بالخداع، أم أننا ببساطة نختار ألا نرى الحقيقة حتى تصفعنا؟
ثم جاءته فكرة مفاجئة: هل من الممكن أن يبدأ من جديد، بعيدا عن وعود لا تُسمن ولا تغني من جوع؟ هل يمكنه أن يعيد بناء ما تهدم في داخله، كما يطمح هؤلاء المتظاهرون لبناء وطن جديد؟ ربما العاصفة التي تجتاح المدينة هي في النهاية فرصة للمطالبة بتغيير حقيقي، لا مجرد كلام فارغ، كما كان يردد في نفسه: "إذا لم يكن لدينا خيار آخر، لعلنا نبدأ من الآن."
لذلك كرهها بكل ما أوتي من وجع، وأقسم أن لا يراها مجددا، بل كان يرتجف خوفا من أن تطل عليه من زاوية قدر عابث، كان يشعر أنه يحدق في عين الشيطان كلما التقت نظراتهما، ويتحسس ذلك الخنجر المغروس في ظهره، وذلك الآخر الذي يعبث بقلبه كأنه لا يكتفي بإيذائه بل يستلذ بتمزيقه ببطء.
ولكنه حين يغمض عينيه، لا يرى سواها، وحين يخاصمه النوم، يسمع صوتها يهمس له كتعويذة لا فكاك منها، كيف له أن يكرهها وهي تتسلل إلى روحه كعطر لا يزول؟ كيف له أن ينساها وهو لا يزال يتنفسها في كل شهقة ألم؟
ربما هو مجنون، بل يكاد يكون مهووسا بها، لكن أي عقل يتجرأ على محاكمة القلب حين يصرّ على عشق من طعنه؟
فالحب رغم خيانته، لا يموت بسهولة، يظل كالندبة على الروح، يترك أثرا لا يُمحى، لكنه في النهاية، يصبح مجرد ذكرى، والأهم أنه لا يمنعنا من أن نجد حبا آخر، حبا نقيا، نابعا من روحٍ لم تلوثها الأكاذيب، لم يكن سقوطها من قلبه نهاية، بل كان بدايةً لحياة جديدة.
مرت الأيام، وبدأ يرى العالم بنظرة جديدة، لم يكن الأمر سهلا، فالخذلان يترك أثره كما تفعل الحروب، ولكنه يترك لنا درسا قاسيا عن طبيعة البشر، السياسة والحب يتشابهان، فكلاهما لعبة مصالح، وكلاهما يعج بالأقنعة.
أحيانا، لا يكفي أن نقف في العتمة وننتظر الصباح، فبعض الليالي لا تنقضي إلا إذا مزّقنا ستائرها بأيدينا، كان لا بد من هذا الشرخ، من تلك الكسور التي ظنناها نهايات، لكنها لم تكن سوى نوافذ جديدة فتحها القدر في جدران أرواحنا المتعبة.
حين سقطت أولى الشقوق، شعر بالبرد، بالخوف، بذلك الفراغ الذي يبتلع كل شيء، لكنه لم يدرك أن النور لا يطرق الأبواب، بل يبحث عن صدوعٍ يتسلل منها، وحين اشتد الكسر واتسع، رأى ما لم يره من قبل: أحلاما كانت مخنوقة، ألوانا لم تدركها عيناه، وطريقا جديدا كان يبحث عنه دون أن يدري أنه كان خلف ذلك الجدار المتهالك.
في إحدى الأمسيات، وبينما كان جالسا في أحد المقاهي يتابع أخبار المدينة الملتهبة، جلس إلى طاولته امرأة لم تكن تشبهها في شيء، نظراتها كانت حقيقية، صوتها لم يكن مغلفا بالخداع، تحدث معها طويلا عن كل شيء، عن الأمل والخسارات، عن الخيبات التي تصنعنا، عن الوعود التي لا نصدقها بعد الآن، لم يكن حبا من النظرة الأولى، لكنه كان بداية شيء مختلف، شيء لم يكن يحمل طعم الخداع.
وفجأة، تأتيك الجرأة كريحٍ هوجاء، تقتلع جذور الخوف من روحك، تعبث بأوراقك المتناثرة كأنها تذكّرك بأنها مجرد حبرٍ على ورق، لا أكثر، تهتزّ جدران ذلك الركن العتيق في قلبك، حيث خبأتَ الذكريات بحذرٍ يشبه الرهبة، كأنك كنت تؤجل المواجهة مع أشباحها.
الآن، ها هي الصفحة أمامه، الصفحة التي خشي حتى لمسها، كأنها تملك سلطانا عليه، طالما كان يراها نافذةً على وجعٍ لا يُغلق، قيدا لا يُكسر، لكنه اليوم، ولأول مرة، لا يكتفي بطيّها… بل يمسكها بثباتٍ غريب، يقرّبها من النار، يرى ألسنة اللهب تتراقص على حوافها، تلتهم الكلمات كما لو أنها لم تكن يوما حقيقة، لتتبدد ذكرياتها من روحه، كما يتبدد الرماد في الريح، تاركةً خلفها دروسا لا تُنسى، وحين التقى بعينين جديدتين، بعالم آخر لم يخنقه السراب، أدرك أن الحب لا ينتهي، بل يتجدد… وأن سقوط حبٍ زائف قد يكون أعظم انتصارٍ نحصل عليه في الحياة.
وفي النهاية، يتلاشى الحبر، يتصاعد الدخان، يتهاوى الرماد في صمت، ومعه يسقط آخر خيطٍ كان يربطه بماضٍ لم يعد يعنيه، لا ندم، لا تردد، فقط حريةٌ أخيرا… حريةٌ بطعم الرماد.
***
جليل إبراهيم المندلاوي

حينَ جئتُ اليكِ

حاملاً روحي على لهفَةِ اللّقاء

أراقصُ نَبضي بلا احتِراس

كالساعي الى موعدِهِ الأوّل

لم أعرفْ

أنني سأعودُ ..

الى حَتفي

**

أربعونَ عاما

بينَ دمعةٍ وأُخرى

أنتَ لن تجدَ عُمرا آخر

يجودُ بالبُكاء

فاسقِ إن استَطَعت ..

تجاعيدَ خَدّيك

واحرقْ بناضبِ الدَمعِ..

جُرحَك

**

بَسطتُ كالمَجنونِ كلتا يدَيّ

مُبتهجاً

بكِ .. بي

ليُسقِطَ في غفلَتي

ما أدّخَرَ من دِفئكِ

ذلكَ الأحمقُ..

قلبي

**

لمّا ارتحلتِ

أفقتُ كسيرا

كصَقرٍ طوتهُ الشِباك

كسرتُ أجنحَتي

صرتُ في السَبعينَ يتيما

أحملُ زلّاتي

**

أمقُتُ بَعدكِ الذكريات

جَمالُها المُميتُ ..

كالسَوط

مزّقَ ما بقيَ منّي

كبائسٍ ..

لم يقتُلهُ الإنتحار

**

أنتَ..

أسرفتَ في الشُربِ بذاكَ الكأس

الذي أصلَحتَ كَسرَه

منذُ عُقود

لا تَعي

أنّكَ لن تثمل.. مرّتين

بذاتِ الكأس ..

وتَنجو

**

لا عذرَ أخمدُ به حُزني

حينَ فقَدتُكِ

بلا وَعي

يا لَلجَهل

تركتُ الريحَ يينَنا

ترفعُ أستارَالفردَوس

**

كيفَ للدَقائقِ أن تَمضي

بَعدَكِ

يأبى قلبي اجتيازَ الزمَن

منتظراً .. بلا يأس

أن تدُبَّ أحرُفٌ منكِ

الى هاتفي

**

لستِ امرأةً أخرى

بلّلَتْ شوقي كأمطارِ صَيف

عشتارٌ أنتِ

في ملَكوتِها

شبَكتُ كفَيَّ

جثَوتُ أدعو

الّا يطلَّ الصَباح

**

إعذريني

أتيتُك لا أجيدُ التماسَ الطَريق

كما الأعمى بلا عصا

وليس عندي فراسةُ شاعر

فكانت عثرَتي

بوّابةَ الآخرة

**

عادل الحنظل

توشحَ بحاستهِ السادسةِ وهرولَ

بين ألوانِ الفجرِ

يناغي بواعثَ أخرى تناهضُ عضلاتَ النهارِ

يلتقطُ صوراً منسيةً، مغايرة ً شهيةً كخبزِ الصباحِ

يلونُها الأملُ بلحيتهِ البيضاء.

هرولَ بعيداً،

تركَ الغابةَ لوحدها تتوارى خلفه

كلَّ شجرةٍ تنوءُ بإرثها

كلَّ طيرٍ يتعثرُ بهوائهِ

كلَّ دمعةٍ تنتظرُ ضربةَ شمس الله لتجفَ من على وجهِ الذاكرةِ

تركَ الشوارعَ تحتفلُ بإشاراتِ المرورِ،

تركَ الماضي، الماضي الجالسُ على نارٍ هادئةٍ

في متناولِ كلِ مغرفٍ،

مثلُ كيس ِ رحيلٍ ساهياً بزاويةِ النسيانِ

بينما المدينةَ، الإسفلتُ الأسودُ، الحجرُ الشاهقُ، بمصاعدهِ الكهربائيةِ

النظاراتُ الطبيةِ  وعجائزُ التلفونات في نميمةِ النهارِ

بينما المدنُ البومُ صورٍ لا تسعفه مسامرات الوقت الزائدِ

علقَ حاسَته السادسة على صدرهِ وهرولَ

يسألُ:

كأسُ الأيامِ الناقصةِ

بماذا نملأها؟

كأسُ الأيامَ الجريحةِ بماذا نسعفها؟

وقرنُ العواصفِ

. يهشم ُبقارورةِ الأحلام

***

رضا كريم

أنا أشباهي الأربعون الذين قتلوا برصّاص

الاحتمال

لا أخوة لي بأجنحة وهيضة

ولا بيت ينكسرُ به الغصن

*

وحدي أرمي نفسي في الجُّب

وانتظرُ وهم القافلة

لا خيار لي للفرح العجول

والموت يحاصرني

*

لقد تركتُ خلفي في كلّ مكان كتابًا

وصبيًا ومسودّة

لقد تركتُ جزءاً منّي في المستنقع

*

الآن من يمسح دموع قلبي

بمنديل اعتذار

ويطعم قططي الجوعى

*

من يسقي ورداتي

من يستعير منّي الأخيلة

ويخرج بأقدامي في المظاهرة

تأكل اللّغة عقلي

وينزُّ الحبر من تحت جلدي

أنمو بأطراف لزجة كأخطبوط

مصاب بالكُساح

*

يتلبّسني درن الكتابة، تلك التي لم

أجني منها شيئًا

غير أرواح طيّبة أكلها الصّدأ

وامرأة تموع على كتفي

*

أنا الّذي افتعل الحبّ بدافع القلق

وابتكر الموت لقلّة الصّنيعة

*

أنا الوحيد في الصّلاة

وطابور الخبز

*

المنتظر في المحطّة والهارع خلف القطار

أنا المورق، الضّحل ، الضّار، اليابس

الرّقراق أنا والعُكر

*

أنا الشّلال وأوّزة البحيرة، انا سلحفاة

الطّين، حزن البلاد وشوارب جنرالاتها

من يقرأ زُعر الحنطة في ملامح

وجهي

*

وجهي كلّ اللّوحات التي انتهى فيها الباستيل.

***

يعقوب عبد العزيز

أنا لا أكتب، أنا أطرقُ الزجاجَ بأطرافِ أصابعي،

أختبرُ هشاشةَ الفكرةِ تحتَ الضوءِ الباردِ للشاشة،

أقلبُ اللغةَ بين كفّي كما يُقلِّبُ الصائغ قطعةَ الذهب،

أبحثُ عن الشقوقِ الخفيّةِ في النصِّ، حيثُ يختبئُ الضوءُ مثلَ عيني فهدٍ في العتمة.

*

أكتبُ كما يسيرُ العميانُ على الحوافِّ الحادّةِ للعالم،

أتلمّسُ الكلماتِ بأطرافِ قلبي،

أزيحُ الستائرَ الثقيلةَ عن الجملةِ المستحيلة،

أركضُ خلفَ الاستعاراتِ كما يركضُ صيّادٌ في ضبابِ الأحلام.

*

كلُّ شيءٍ هنا مُنحرفٌ قليلًا عن مكانهِ الصحيح،

الكرسيُّ أقصرُ بسنتيمتر،

الجدارُ يميلُ بضعَ درجاتٍ نحوَ الصمت،

والأفكارُ تذوبُ كأنها شموعٌ لا تصدّقُ الزمن.

*

أنا لا أكتب، أنا أنحتُ الهواءَ بأصابعِ الغياب،

أخلقُ زوايا جديدةً للعالم، حيثُ تنزلقُ الجاذبيةُ نحوَ احتمالاتٍ أخرى،

حيثُ الشمسُ ليست برتقالة، بل ثقبٌ في السماءِ يراقبُ بصمت،

حيثُ الطريقُ ليست مستقيمة، بل طيّةٌ في الورقِ الأبيضِ للواقع.

*

أكتبُ من الزوايا التي تخشاها العيون،

من الخطوطِ التي لم تُرسَم بعد،

من الفراغِ الذي بينَ الحرفِ والحرف،

حيثُ المعاني تُولدُ وهي تهربُ من أيدي النسيان.

*

أنا لا أبحثُ عن الكلماتِ الصحيحة، بل عن الكلماتِ المضيئة،

عن الفوضى التي تصنعُ اتساقها الخاص،

عن الضبابِ الذي يشفُّ عن سرٍّ لم يُقل،

عن الكتابةِ التي لا تُشبهُ الكتابة.

***

مجيدة محمدي / تونس

إلى أمي "رحمها الله تعالى"

***

غابتْ فأظلمَ في عينيَّ نورُ غدِي

وأسدلَ الحزنُ أستاراً على كبِدي

*

قد كنتُ أحيا بنبضِ الحبِّ يغمرُني

واليومَ أضحتْ بقايا الروحِ في خَلَدِي

*

كم كنتُ أشعرُ أنَّ الكونَ مُتسعٌ

واليومَ أضْحى كضيقِ القبرِ في المَدَدِ

*

يا مَن رحلتِ وقلبي في هواكِ غوى

هل تعلمينَ جراحَ الروحِ في الجسدِ؟

*

كم لي أحنُّ إلى عطرٍ يُحيطُ بنا

وهمسةٍ منكِ تطفي نار متقدِ

*

ما كنتُ أدري بأنَّ الحُبَّ مؤلمنا

حتى ارتحلتِ ودمع العين بلَّ يدي

*

إني أعيشُ على ذكرى ملامحِكِ

كأنَّ روحَكِ لا زالتْ على بُعدِ

*

عُودي فإني ضعيفٌ دونَ رؤيتِكِ

كغصنِ وردٍ ذوى في بُعدِ مُفتقِدِ

*

إنَّ الحياةَ إذا ما غبتِ باهتةٌ

لا لونَ فيها سوى الأشجانِ والكمد

*

غابتْ وضاعتْ مع الأيامِ بهجتُها

وغابَ عن دربيَ الموصودِ معتقدي

*

كانتْ لقلبيَ سلوى في مصائبهِ

واليومَ صارتْ لظىً في كفِّ مُتَّقدِ

*

كم كنتُ أرجو دوامَ الوصلِ مرتقبًا

لكنْ جفاني حبيبٌ غابَ عن سُجُدي

*

يا امّتي، يا حياةَ القلبِ، يا أملي

هل تسمعين نداءَ الشوقِ في الكبدِ؟

*

كلُّ الزمانِ حزينٌ بعدَ غيبتِكِ

كأنَّهُ باتَ أطلالاً بلا عَمَدِ

*

إني لأدعو إلهَ الكونِ منكسِرًا

أن يجمعَ الشملَ بعدَ البُعدِ في سَعَدِ

*

هذي الحياةُ بلا عينيكِ موحشةٌ

ليلٌ ثقيلٌ يُغشِّي الروحَ في كمدِ

*

إنْ كانَ للفقدِ نارٌ في جوانِحِهِ

فالحُبُّ نورٌ يضيءُ الدربَ للأبدِ

*

قد كنتِ سرَّ ابتهاجي في ابتسامتِكِ

واليومَ أبحثُ عن أنسٍ ولم أجدِ

*

ما للنجومِ التي كانتْ تُضيءُ لنا

قد أرختِ الأُفْقَ في أثوابِها الرَّمَد.ِ

*

أحيا كطيرٍ غريبٍ، ضاعَ مَوطنُهُ

يبكي على فرحةٍ غابتْ ولم تعدِ

*

ذكراكِ تسكنُ في أرجاءِ ذاكرتي

كأنَّها تَسمعُ الآهاتِ من صَدَدي

*

ما زلتُ أحفظُ في قلبي ملامحَها

وكلَّ حرفٍ جرى منها على خَلَدي

*

فكيف أشفى وذاك الدهر يؤلمني

من الودادِ الذي أحييتِهُ بيدي؟

*

عُودي فإني أسيرُ البعدِ في ألمٍ

لا ينتهي غيرَ أن ألقاكِ في الأبدِ

*

إني لا سمع في روحي صدى ألمي

حتى أراكِ وأُحيي الوصلَ بالرغد

***

د. جاسم الخالدي

في اليوم العالمي للشّعر

مرثية حلّاج البلاد الشاعر علالة الحوّاشي1275 alhawashy

رحل الحلاج

من يرتدي جبّة الله !!

ها قد نزعتّ الجبّة

و ملصتَ عن كفّيك أعنّتك

و تلحّفت الخلود

خبّرني حلاّجَ البلاد

كيف عبَرتَ الرّحلة

هل هدوء وسلاما

ام ضرّك كسرُ القيود

رأيتك حين تدثّرتَ

و الفصل صِبًا بهيّا

كنت تزرع حبّاتِ المعاني

فتزهر قبل ميعاد الورود

و في كفّيك تطعمُ الطّير

تسقيه من المجد العتيد

و رأيت جبّة الله

حثيثة الخطوِ إليك

كانت كساءَ النّور

لتسابيحِ الوجود

*

خبّرني حلاجَ البلاد

لم استعجلت الرّحيل

لو تمهّلت قليلا

نمشي بالدّرب قليلا

فلم نسر إلّا قليلا ...

*

أبِكَ الجبّةُ ضاقت

ام ترى باتتْ هباء ً

أم هو زيْف الرّفاق

و انتكاسات الآماني

بعد نُكثان الوعود

لمَ أودعتَ الرّسائل

في متاهات الصّدى

في كهوف تتلاغى

بأعاصير الجُحود ....

*

ها مآقيّ تجود

اغرقت ماء السّبيل

سأل الصٌحب أحقّا؟

أمزاحٌ أم رحيل !

قلت بل أغسلُ عيني

من قذى رمل دخيل

ههنا بين ضلوعي

صرحُ حلّاجي الجميل

دونه خفقانُ قلبي

إذ  بِنبضِه مستقيل

يمرحُ كالطّفل يرنو

لرُبى شمس الأصيل

يتهادى في ابتسام

يزرع الودّ الأثيل

شامخ الهاامة شمسا

بات يخشاها الأُفول

حالما حلم إلاهٍ

عاشقٍ ليلى البتول

يذرو من طيبِه ريحا

و بَخورا لا يزول

يملأ كأس الشّهيد

برواءٍ سلسبيل

و يطوفُ الليل نجما

ساطعاا شهما أصيل

حاملا زيْن الهدايا

تبهجُ القلب العليل

من قطوف قد سقاها

لجّة العينِ الأسيل

*

أي حبيبي يا ابنَ أمّي

طبْ مقاما ومناما

أوَ تمحو لحظاتٌ

رحلةَ العُمر الطّويل!

***

زهرة حواشي

الإربعا 01 سبتمبر 2021

تقلب فوق فراشه الرث، وتمدد مرة على ظهره المنحني، ثم على جنبه الأيمن وعاد يحدق في سقف الغرفة المأكول بالرطوبة والتي تفوح منها رائحة غريبة.
ترك جسده مسجاً فوق الفراش وحلق يفتش عن منفذ للخلاص من تلك الرائحة التي تبعث على التقيؤ ولكن دون جدوى سوى اطلالة من نافذته الصغيرة على الساحة الخلفية لعمارات إسمنتية تشع حرارة في فصل الصيف وبرودة قاتلة في الشتاء، وبدلا من ان يشم هواء نقيا دخلت انفاسه رائحة المخلفات التي تفوح من نوافذ صغيرة تعج بها شقق العمارات.. اقفل النافذه بسرعة فائقة قبل ان ينتهي به الأمر الى التقيؤ.
حدق في السقف والجدران المنهكة الفاقعة إلا من لون نزيز المياه الهابطة الى الأسفل.. عاد الى فراشه النتن وتمدد ثانية على ظهره المعوج وتأمل لوحة السقف السوريالية وفضل أن يترك جسده لحاله، هذا الجسد لا فائدة منه أبداً إنه عبأ عليه ولا فكاك منه طالما كان ملتصقا به منذ ان كان جنيناً.
تركه ممدداً تعيسا وأدرك انه قد انفصل عن جسده، فقرر ان يعوفه مسجياً ويحلق هو فوق تلك الهضاب والمنحدرات الخضراء، عالم كان غائبا عنه منذ أن ادرك وجوده.
نظر إليه من الأعلى مسجياً دونما حراك وطاف حوله وتأمل كيف كان يتحرك وكيف كان يتكلم ويضحك كيف يشحن ويفرغ غريزته،
عندها شعر بشيء من الخجل، حين تذكر كيف غضب من ذبابة افقدته صوابه بعنادها المزعج وهي لا تكف عن الدوران حول رأسه حتى إنها حاولت الدخول في فمه ومنخاره.. وكيف إنه خرج عن طوره كإنسان طاردها وهو يبحث عنها في كل زوايا الغرفة وكيف كان عقله قد تقلص بموازاتها في الحجم والحركة.. حتى إنه لم يعد هناك ما يفكر به سواها وجردته من وجوده تماما وهي تطن في بحر من الصمت الذي يسود الغرفة ولا يدري أين تختبئ. وحين جلس ليستريح من جراء المطاردة العبثية، شعر بأن جسده لا حاجة له فيه وربما لم يعد له وجود طالما ان تفكيره قد انسلخ إلى عالم آخر، ظل تفكيره محشوراً في زاوية واحدة يرى من خلالها جسده كتلة هامدة لا حراك فيها، عندئذٍ تمتم مع نفسه:
(ما دامت محلقاً في عالم آخر، فهذا يعني إني انسلخت عن جسدي، وهذا يشعرني بشيء من الحرية، التي لم تعد تشعرني بالمسؤولة عن تلك الكتلة المسجية من اللحم، إنها عبأ ثقيل من المسؤولية.. افكاري مازالت تحلق في فضاء جميل أما تلك الكتلة من اللحم فلم يعد لها من معنى).
ولكن كيف تتشكل هذه التصورات..؟
فكرً يحلقْ - كتلة من اللحم لا معنى لها - الشعور بالحرية مسؤولية - الوجود الذي يخلو من المعنى.. كيف يمكن جمع هذه المفردات في سلة واحدة تخضع لمنهج التحليل الوجودي؟
لما كان الوجود يخلو من المعنى، فلماذا اتحمل مسؤولية كتلة مسجية من اللحم؟
كان هذا السؤال موجه إلى احد الاشخاص في قضية محكمة كافكا.. بيد أن الرد جاءه من وراء الستارة المعتمة:
اسكت، ما دمت ترى ان كتلة اللحم المسجية هناك تخلو من المعنى عليك نسيانها، ومع ذلك فانت لا تستطيع أن تلغي وجودها، إنها موجودة شئت أم أبيت.
أطبق شفتيه وزمها بإستغراب:
نعم، لماذا الإكتراث بوجودها؟
ولكن، لولا تفكيري بوجودها لما وجدت.. وإن تفكيري بها يثبت وجودها.
تمهل أيها المفكر.. إنها موجودة كحقيقة شاخصة تسبق التفكير فيها.. إنها جثتك وإن ابتعدت عنها وحلقت وأنكرت وجودها.
ولكن ما نفع وجودها إذا لم أفكر بها.. ألم يخلقها تفكيري.. من يعلم بوجودها لولا تفكيري الذي خلقها؟
أردف يقول مع نفسه:
ولكن، ألم تكن هي موجودة قبل أن أفكر بها؟
يا إلاهي، ألم تكن هذه كلها مماحكات فكرية مجردة خالية من المعنى؟
مَنْ يسبق مَنْ، الفكر أم الوجود؟
ولكن، لماذا الفصل أساساً بين الفكر والوجود؟
كلاهما متلازمان في وحدة الوجود الكلية، ولا حاجة لوهم إسمه الإنسلاخ.؟ (*)
***
د. جودت صالح
23/ آذار 2025
(*) جون بول سارتر- باريس/ من وحي فلسفة الوجود والعدم

الدكتور المحترم
ابتدأت قصتي عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري، في الصف الثاني عشر الثانوي. كان ذلك عندما شاركت ابناء صفي في رحلة مدرسية طويلة نسبيا، يومين الى مدينة البشارة.. الناصرة. قمنا في اليوم الاول بالتجوال في المدينة وكان من المفترض ان تنتهي زيارتنا هذه مثلما تنتهي مثيلاتها من الرحلات، يمضي يوماها، ونعود الى بلدتنا سالمين غانمين، لولا تلك الحادثة التي قلبت حياتي راسا على عقب، وادخلت اليها تشويشا كثيرا.. اعتقد انه استوجب منذ سنوات طلب المساعدة النفسية.. هذا التشويش تواصل خلال اكثر من عشرين عاما. كما هو واضح.. انا اليوم في الثامنة والثلاثين.
كنا لحظة وقوع الحادثة، نشارف على انهاء رحلتنا، فراح كل منا نحن الطلاب المشاركين في الرحلة يشتري الهدايا لأهله ومحبيه، وكان ان سألنا خلال انطلاقنا العفوي في احد الشوارع، شابًا عابرَ طريق عن محل يبيع الاثريات، فارشدنا قائلا انه بإمكاننا ان نصل اليه خلال سيرنا في الشارع ذاته مباشرة، الا انه يوجد هناك شارع اخر اقرب اليه، لكنه عادة ما يكون خاليا من المارة، تشاورت مع مرافقتي عما اذا كانت تود ان نمضي في الشارع ذاته، وتوصلنا بعد نقاش قصير، الى انها تفضل المضي في الشارع الاقرب، على اعتبار انه شارع خلفي، واننا قد نرى فيه الناصرة القديمة.. بتاريخها الحضاري العريق، وزواياها غير المرئية، سرنا في الشارع الاقرب، وراحت كل منا، نحن الصديقتين، تحاول ان ترى الاعماق النصراوية عبر الحجارة والاسوار والورود المسترخية عليها بمحبة وحنو، الامر الذي فصل بيننا، وجعل كلا منا تنطلق في زقاق ضيق. بحثت عن صديقتي عبر ارسالي النظر في اتجاه آخر اعتقدت انها سارت فيه الا انني لم ارها، انتابتني حالة من القلق، فرفعت صوتي اناديها، وما ان عاد الصمت الهيب يهيمن على المكان، حتى شعرت بنفسي بين احضان شاب، يحاول النيل مني، عندما تبين لي ما انا فيه من خطر، قاومت بكل ما لدي من قوة، الا انه تمكن مني، وقبل ان ينال مأربه مني، شعرت بوقع اقدام تندفع من اول الشارع، وبيد من شفاعة وخلاص تمتد اليه وترفعه عني، لتقذف به بعيدا.. بعيدا.. في فضاء الزقاق وضبابه. خلال ثانية او اكثر رأيتني اقف وجها لوجه امام ذلك الشاب الذي ارشدنا، صديقتي وانا، الى حانوت الاثريات، وقبل ان اشكره توجه الى زقاق جانبي آخر، وعاد بسرعة وبرفقته صديقتي الضائعة، ارسل نظرة حافلة بالحنان نحونا، واشار لنا بيده ان نغذ السير، وهو ما قال لنا انه لم يتبق لنا حتى نصل الى حانوت الاثريات.. الا مسافة قصيرة، وما زلت اتذكر انه رافقنا بنظراته الحادبة الراعية حتى وصلنا الى الحانوت المقصود. بعدها اختفى اختفاء تاما، كأنما هو تداخل في احجار الاسوار او ورودها المتدلية عليها بحنو.
حاولت ان اعود الى الوراء، ان ابحث عنه لأشكره على شهامته تلك، الا انني لم اتمكن، وقد ندمت كل الندم لأنني لم اساله عن اسمه او عنوانه لأرسل اليه اشكره، او لأرد له بعضا من جميله علي وعلى صديقتي. كان ذلك الشاب وديع المحيا.. اكثر ما يلفت النظر فيه عيناه عميقتا الغور، وشعره المسترسل على كتفيه، كما كان ذا قوام متوسط، لا هو بالطويل ولا هو بالقصير، واعتقد انه كان يومها في مثل عمري اصغر مني بسنة او اكبر بسنة.
عندما روينا لمعلمنا المرافق، صديقتي وانا، ما حصل لنا وكيف ان ذلك الشاب خلصنا، انا خاصة، من خطر محتم، عاد معلمنا معنا.. رغم ضيق الوقت المتبقي للرحلة، الى الشارع ذاته، وعبثا بحث عن ذلك الناصري الشهم.. فقد اختفى.. كما تختفي النسمة في عبق التاريخ.
انتهت رحلتنا تلك، وعدنا الى بلدتنا، لتلح علي صورة ذلك الشاب، فما ان انسى صورته او احاول ان اتناساها، حتى تعود لتلح علي مجددا، إما بعد ان ارى شابا يشبهه، او عندما يظهر لي طيف يشبهه في هذه السماء او ذلك المكان التاريخي العريق، ولا اعرف لماذا شعرت انني قد ارتبطت روحيا بذلك الشاب، علما انه لم يفه بأية كلمة ولم يدل بأية معلومة تقود اليه، وتعرف به، وقد بقيت صورته تلح علي مُدّة قاربت العشرة اعوام، واذكر انه كلما كان شاب يتقدم لطلب يدي وخطبتي، كنت اقارنه به، عبر اختبارات خاصة برعت في حبكها، فأجد الفارق الكبير بين الاثنين، لتأتي النتيجة في مصلحة ذاك الغائب في اعماق الناصرة.. ازقتها وضبابها المقدس، وهو ما يعني انني كنت ارفض الارتباط بمن تقدم الي من الشباب. خلال هذه الاعوام المقاربة للعشرة، جرت مياه كثيرة في نهر حياة بلدتنا وتزوجت معظم صديقاتي، بنين بيوتا وملأنها بالأبناء. وكان لا بد ان اجد حلًا لوضعي مع ذلك الشاب المقيم الساكن في اعماق اعماقي.
ذات يوم من ذات عام، حملت نفسي واستقللت الباص المنطلق من بلدتي الى الناصرة، وصلت في ساعات الضحى، وحرصت اول ما حرصت على ان ازور ذلك الشارع الخلفي، لعلي التقي بذلك الشاب، غير انني لم اعثر له على اثر، قضيت يوما كاملا هناك ابحث عنه وانقب.. غير انني لم افز بالعثور على بغيتي. اصابتني حالة من الهوس، عدت الى بلدتي توجهت الى بيت زميلتي، يوم الرحلة الى الناصرة، ومتاهتنا فيها، وطلبت منه ان تحضّر نفسها لنزور مدينة البشارة. في اليوم التالي استقللنا الباص.. وصلنا الى الناصرة وشرعنا بالتجوال في شوارعها، وكنت طوال الوقت انقب بعيني قلبي عن ذلك الشاب، حتى وقع نظري عليه في احدى الزوايا المعتمة من منطقة السوق- البلدة القديمة. اقتربت من صديقتي وهمست في اذنها عما اذا كانت ترى ما ارى؟ وعندما ارسلت نظرها الى حيث اسدد نظري، قالت لي من فورها.. انه هو. الا انها ما ان رأتني اتوجه نحوه حتى عادت تشدني الى الوراء.. لا اعتقد انه هو. بين هو وليس هو قضينا لحظات لفتت نظر الشاب الواقف في تلك الزاوية المعتمة، الامر الذي دفعه لأرسال ابتسامة شبيهة بابتسامة ذلك الناصري المخلّص. اقترب الشاب منا. وحصل التعارف. وبدون كثير شرح، تقاربت العيون وبعدها القلوب، وارتبط كل منا بالآخر. للحقيقة اقول انني اكتشفت في ليلة الدخلة ذاتها، انه ليس هو، لذا رفضت ان امكنه مني وحافظت على عذريتي لا اسلمه اياها. ومضى على هذا النحو عام، ولم يكن امامي من مفر سوى ان اطلب الطلاق، فكان لي ما اردت، رغم ان "زوجي" رفض في البداية، كونه كان متعلقا بي تعلقا شديدا، وانا لا اخفي عليك ان وجهى الاسمر البسام وجمالي في الشكل والقوام، قد اثرا عليه في الاصرار على البقاء معي تحت سقف واحد. رفض زوجي هذا انتهى بقبوله طلبي الطلاق منه، وكان ان دفعت الثمن مقابل مواصلتي حلمي في العثور على فتى الاحلام الغائب الحاضر، وهو التنازل عن كل حق لي عنده.
ومضت سنوات وسنوات، وانا اتردد على الناصرة، لعلي احقق حلمي في العثور على ذلك الشاب الشهم الاصيل، الا انني ما زلت ابحث، واعتقد انني الآن.. وانا اقارب الثامنة والثلاثين من عمري.. قد التقي به.. فقد رأيت امس، خلال زيارتي الدورية للناصرة، ظله يمر من نفس الشارع و.. يمضي في نفس الزقاق.
***
قصة: ناجي ظاهر

الى الطبيب العراقي محمد طاهر أبو رغيف الموسوي ..

نصٌ نثريٌ وشعري ..

***

(1)

كلّما تصورنا انَّ أصحابَ المالِ والسلطةِ والاِعلامِ شوَّهوا العالَمَ بعد ان أشبعوه ظلماً واستهتاراً وزيفاً، اتانا قبسُ مُبشِرٌ بأنَّ العالَمَ مازال فيه مَن يحملُ مشعلَ العدالة ..

كلّما قلنا ان العالمَ يحاصرُ أهلَ الضميرِ ويطوِّقُ الطيبين ويعيقُ حريةَ الأحرار، جاءنا نبأٌ ساطعٌ مِن فجرٍ جديد ..

كلّما تصورَ مدربو السيرك انهم تمكنوا مِن ترويضِ العالَمِ بين مُتدرِبٍ ومُشاهدٍ، ثارَ نبضٌ حرٌّ ليضخً في قلبِ العالَمِ اكسيرَ الكرامة..

الطبيبُ العراقي محمد طاهر أبو رغيف الموسوي الذي أتى متطوعاً من مكان اقامتة في لندن لمساعدة المرضى والجرحى في غزَّة الجحيم ومكث ستة شهور في مشافيها، أعاد لطفلةٍ فلسطينيةٍ من سكان غزَّة المقصوفة الى حدِّ الاغماء يدَها المبتورةَ فتكاملتِ اليدُ من جديد مع جسد الطفلة بعد ان مكثتْ هذه اليد مفقودةً بين انقاض الركام لثلاثة أيام..

***

(2)

يا محمدُ

يا ابنَ طاهر !!

لَمْ تكنْ قد تعلمتَ علمَ الاطباءِ حتى تعيدَ يداً بترتْها الحروبُ ليفرحَ طفلٌ وطفلهْ ..

لَمْ يكنْ هذا فحسبْ

رغمَ انَّ الذي انجزتْه يداك تسامى على المعجزهْ

ولنْ يتمكنَ رهطٌ مِن الجنِّ أنْ ينجزَهْ

ولكنكَ الآنَ تمضي بعيداً بنُبلِكَ يا ايها المتطوعُ ترتقُ ما مزقتْهُ الشظايا ..

وتسهدُ حتى تواسيَ جمعَ الضحايا

أنتَ تمضي بعيداً .. وليلُ الذئابُ حواليكَ تعوي بِوحشتهِ بُومةٌ طائرهْ

لكي تتلمظَ بينَ الجثامينِ أشباحُهُ الساحرهْ

وقنديلُكَ الفجرُ يلثمُ وجهَ النخيلْ

ويداري الينابيعَ مقتولةً كي تسيلْ

لتكونَ طبيباً يعالجُ روحَ الزمانِ وقبحَ الزمانِ وانسانَ هذا الزمانْ

***

كريم الاسدي

في غابة الكلمات، أتسلل كصياد ماهر، أترصد فرائس المعاني بين أشجار الحروف..

لست نحاتاً للأفكار، لكن إزميل الخيال يراودني، فأنحت من صخر اللغة تماثيل الإبداع..

*

يتراقص أمامي سراب الأفكار، كواحة في صحراء البياض.

أمد يدي لألتقط قطرات الإلهام، فتتحول بين أصابعي إلى لآلئ تضيء عتمة الصفحات..

لست ساحراً، لكن عصا القلم في يدي تحول الأوراق الجافة إلى حدائق غناء..

أهمس للكلمات، فتستيقظ من سباتها، تتمطى وتتثاءب، ثم تنطلق راكضة في مضمار السطور..

*

يغازلني طيف المجاز، فأرتدي عباءة الاستعارة وأرقص مع ظلال المعاني..

أغوص في بحر الدلالات، أصطاد درر التشبيهات وأنظمها في عقد بلاغي بديع..

*

تهب عليّ رياح الوحي، فأنشر أشرعة الخيال وأبحر في محيط الغبطة..

تتلاطم أمواج الأفكار حول سفينة عقلي، وأنا أقف على سطحها متحدياً عواصف الإبداع..

*

لست نجاراً، لكني أصنع من خشب الحروف أثاثاً للروح.

أنحت من جذوع الكلمات أعمدة تحمل سقف القصيدة، وأنقش على أبوابها نقوشاً من جمال الخيال..

*

في ليالي الإبداع، أشعل شموع التأمل، فتضيء زوايا الفكر المظلمة..

أرى في ضوئها الخافت أشباح الكلمات تتراقص على جدران الخيال، فألتقطها وأسجنها في قفص السطور..

*

هكذا أنا، أتسلل بين دهاليز اللغة، أفك طلاسم المعاني، وأعيد صياغة الوجود فخاخًا من وميض الصواعق..

واجني للحب بتلات من اشتعال الهواجس..

*

لست سوى عاشق للكلمة، يسعى دوماً لاكتشاف أسرارها، وفك شفرة جمالها الأبدي، طمعًا في تخضيب لحظات القارئ بندى ضوء معتق الافاق مغسول الاهداب، كصبا عشتار وانوثة انانا..

**

طارق الحلفي

سَنا الذكرى بقلبي لا يزولُ

ودمع الشوق من عيني هطولُ

*

سَنا الذكرى يُناديني طويلًا

فأمضي حيثُ ينتظرُ السبيلُ

*

تخاطبني الليالي الممطراتُ

خطابًا لا يُجَامِلُهُ الأفُولُ

*

ويهتفُ في ظلامِ الليلِ طِفلٌ

يُرتِّلُ في حناياهُ العويلُ

*

على هذا الطريقِ مشيتُ يومًا

يرافقُ خطونا ظلٌّ ظليلُ

*

ضحكنا كيف جئنا والربيعُ

على أعتابِهِ حانَ المقيلُ

*

وهِمتُ بوجهها، والنورُ يسري

على قسماتِها سحرٌ أصيلُ

*

سرَتْ أنسامُها تُحيي شُعوري

ويَهْمِسُ في خيالي ما أقولُ

*

تراقصَتِ الخطى شوقًا وَحُبًّا

وفي أهدابِها يغفو العليلُ

*

تطلُّ كأنها فجرٌ تجلَّى

وفي العينين وَعدٌ لا يطولُ

*

فذي أيَّامُنا تمضي سِراعًا

ويبقى في دجى الذكرى الذهولُ

*

سقاني حبُّها كأسًا كذوبًا

وما أدري، أيدركني الرحيلُ؟

*

أعودُ لذا الطريقِ وليلُ وجدي

يُؤرِّقُني، وصبري مستحيلُ

*

كأنَّ خطى هوانا لم تبارحْ

وفي أنفاسيَ العطرُ الأثيلُ

*

فيا قدري، أما أنصفتَ قلبي؟

أما آنَ الرجوعُ، أما السبيلُ؟

*

إذا ما الليلُ أرَّقني شُجُونًا

يُسامرها من الذكرى خليلُ

*

ألمَّ بخافقي طيفٌ جميلٌ

يُناجيني، فتَغمرني النخيلُ

*

تُرى، هل كان ما نحياهُ وهماً؟

وهل في البعدِ يُنصفنا الدليلُ؟

*

أيا ليلَ المنى، صبري تشظَّى

ولا يجدي معي نسبٌ أصيلُ

*

سأمضي فيكَ، تحمِلُني أمانٍ

فإن غابَ المنى، فالمستحيلُ!

***

د. جاسم الخالدي

كانت خطواتها مترددةً وهي تغادر عتبة البيت، البيت الذي بالكاد يستقر فوق أعمدة أمل هشّة. عيناها تحملان ثقل الأيام الماضية، تلك التي قضتها في البحث عن عمل يعينها على مواجهة الحياة بعد أن تركت الجامعة مؤقتًا، تحت وطأة الحاجة الملحة والعوز الذي ألقى بظلاله على حياتها الجديدة كزوجة لرجل يكاد راتبه الشحيح كمعلم أن يغطي إيجار البيت.
كانت تلك الليلة مختلفة، فقد عاد زوجها إلى البيت وملامحه تشع ببصيص أملٍ نادر، أملٍ بدا وكأنه انبثق من بين أنقاض الأوجاع المتراكمة، يحمل في يده توصية من وسيطٍ ذي حظوة عند أحد مديري مؤسسة حكومية. كان الأمل يتسلل إلى روحها كنسيمٍ دافئ في ليلٍ شتويٍّ قارس، يهمس في أعماقها بأغنيات خافتة مفعمة بالرجاء، واعدًا إياها بفرصة عمل تضيء عتمة العوز الذي خنق أيامها وأثقل كاهلها.
لطالما عانت من ثقل الحاجة الذي يغتال أحلامها ويطعن طموحاتها. كم مرة نظرت إلى مدرجات الجامعة من بعيد، كمن ينظر إلى نجمةٍ تتألق في سماءٍ بعيدةٍ يستحيل بلوغها! تلك الجامعة التي غادرتها مكرهةً، وهي تجر خلفها خيبة ثقيلةً تتناثر منها أحلامها المتكسرة، وجعٌ صار يغفو ويستيقظ معها كل يوم.
لكن هذه الليلة، شيء ما كان مختلفًا، شيء ما كان يشبه نبض الحياة يعود إلى صدرها بعد طول احتضار. فرصة العمل تلك لم تكن مجرد سبيلٍ للخلاص من الضيق المادي فحسب، بل كانت جسرًا يوصلها إلى حلمها القديم الذي كاد يندثر في دهاليز الواقع الموحش. كانت تتخيل نفسها وهي تعمل بنشاطٍ لا يلين، تجمع بين لقمة العيش ومنهل العلم، تواصل الليل بالنهار، لتعود إلى مقاعد الدراسة مساءً بقلبٍ مفعمٍ بالعزم والأمل.
كانت تعرف أن الطريق لن يكون سهلًا، وأن الدرب محفوفٌ بالعثرات، لكن شعلة الطموح التي توهجت في روحها تلك الليلة كانت أقوى من كل انكسار. امسكت بالتوصية بحرص شديد وكأنها تتشبث بفرصتها، كغريقٍ يتشبث بخشبةٍ وسط بحرٍ هائج، لقد قررت أن تمضي بإصرارها الذي لا ينكسر، وعزيمتها التي لا تعرف اليأس.
في صباحٍ تطرّزت أهدابه بنسيم باردٍ لا يزال يحمل بقايا الليل، نهضت من فراشها مبكرة، كعادتها حينما يرتبط يومها بموعدٍ مصيري. كان الالتزام بالنسبة لها طقسًا مقدسًا، حتميةً لا تهاون فيها منذ نعومة أظافرها، فاستعدت بكل دقةٍ وحساب. راودها هاجس التأخير وهي تحصي في ذهنها احتمالات الزحام والمواصلات، وربما طارئٍ غير محسوب قد يعترض طريقها، لكنها دفعت بتلك المخاوف إلى ركنٍ من عقلها دون اهمالها، وراحت تُعِدُّ نفسها بخطواتٍ مدروسة.
وقفت أمام مرآتها تتفحص ملامحها بعينين تشعّان بحزمٍ لا يخلو من قلقٍ مستتر. اختارت ثوبها بعناية بالغة، ثوبٌ يليق بأجواء العمل الرسمية، يُضفي على حضورها مسحة الوقار والرصانة التي دأبت على إظهارها، مؤمنة بأن المظهر هو البوابة المثلى التي يعبر منها الانطباع الاول، وحينها يجب أن تكون تلك البوابة متينةً لا يعصف بها تردد.
جمعت خيوط الثقة التي تناثرت في قلبها كزجاجٍ مهشّم، وحاولت أن تلملم بقايا شجاعتها المتبعثرة كنجومٍ شاردةٍ في ليلٍ دامس. ثم سارت بخطواتٍ مشدودة نحو ذلك اللقاء الذي علقت عليه أحلامها بأملٍ يأبى الانكسار.
عند وصولها إلى المؤسسة، اعترضها مشهد جموع المراجعين المتكدسين عند الأبواب، وجوههم مرهقة بنظرات الانتظار واليأس، كأنهم أرواحٌ تتأرجح بين الرجاء والخسارة. تغلغلت بينهم بخفة، تحمل بين أصابعها ورقة التوصية كأنها جواز عبورٍ إلى عالم آخر.
تقدمت نحو الحارس الأمني، ألقى نظرة متفحصة على الورقة التي ناولته إياها، ثم غاب لدقائق في أعماق المبنى، بينما بقيت هي في مواجهةٍ صامتة مع تلك الجموع التي تراقبها بأعينٍ يملؤها التساؤل والريبة.
عاد الحارس، يحمل إذنًا بالدخول، كمن يحمل شعلة أملٍ واهنة تتراقص في عتمة الانتظار. تطلعت إليه بعينين تختلجان بالامتنان والرهبة، كأنما تتأرجح بين خوف يطبق على صدرها ورجاء يحاول أن يتنفس. أخذت نفسًا عميقًا وهي تعبر العتبة، وكأنها تخطو من عالمٍ ضبابيٍّ مثقلٍ بالأمل الخافت إلى عالم آخر تقف فيه الأحلام على حافة المصير، تنتظر قرارًا واحدًا قد يعيد تشكيل حياتها.
في قاعة الانتظار، كانت الأنفاس مختنقة تحت وطأة الزحام، حيث الوجوه المتعبة تمتزج بتعب الهواء الثقيل. رجال ونساء يلتفون حول الأمل في انجاز معاملاتهم، بعضهم يتكئ على الجدران، وآخرون يجلسون على البلاط القاسي، مهفهفين بما في أيديهم من اوراق في محاولة لاصطياد نسمة هواء عابرة تبث في أجسادهم بعض الانتعاش لمواصلة رحلة الانتظار الطويلة. من وسط هذا المشهد البائس، طلب منها الحارس أن تنتظر، وأقنع شابًا متعبًا أن يتنازل عن مقعده لها.
جلست على المقعد بخجل يتآكلها، تتأمل الوجوه الشاحبة والعيون المتعبة، وتستمع الى الهمسات المشوبة بالتذمر والأمل. كانت تتساءل بصمتٍ ممزوجٍ بعزيمة خفية: هل سيأتي اليوم الذي يُكتب لها فيه أن تكون يدًا لإعانة هذه الأرواح المرهقة؟ هل ستُتاح لها الفرصة لتخفيف معاناتهم، لتلبي حاجاتهم التي أنهكها الإهمال؟ كان حلمها أعظم من مجرد وظيفة؛ كان رغبةً جامحةً في أن تكون نافذة نورٍ لهؤلاء الذين أثقلهم الانتظار.
عيناها تتنقلان بين الأبواب المغلقة، تلك الأبواب التي تحيط بالقاعة كأنها أسوار تحجب الأمل أو ربما تختزنه. حتى وقعت عيناها على لوحة نحاسية كُتب عليها "غرفة المدير". شعرت بأنفاسها تتسارع وكأنها تستجمع ما تبقى من شجاعة.
كانت هذه أول تجربة لها لتقديم طلب عمل، أول معركة تخوضها في سبيل تحقيق أحلامها. عدّلت من جلستها، وراحت تفكر بتأنٍّ في الطريقة التي ستقدم بها نفسها للمدير، تنتقي الكلمات بعناية، وترتب الجمل بمهارة لتكون واضحة ومختصرة وعميقة. كانت تملك شيئًا أعظم من مجرد التفاؤل؛ كانت تملك إيمانًا بنفسها ورغبةً حقيقية في صنع الفارق.
وبينما كانت الأفكار تتشكل في عقلها كخيوط حريرٍ تنسجها يد ماهرة، لمعت في عينيها نظرة تحدٍ ناعمة. كعادتها، واجهت الموقف بإيجابية وثقة، وكأنها تحاول إقناع ذاتها بأن هذا اللقاء لن يكون سوى بداية الطريق الذي لطالما حلمت بالسير فيه.
استمر الانتظار ينسج حولها خيوط القلق والتوتر، وكأن كل دقيقة تمضي تخنق أنفاسها أكثر. ساعة كاملة مرت وهي تغالب ارتعاش أصابعها وتراقب عقارب الوقت المتثاقلة. وعندما أذن لها بالدخول أخيرًا، شعرت وكأن الأرض تهتز تحت خطواتها المترددة.
تقدمت نحو المكتب بخطوات أقرب للوجل منها إلى الثقة، ونبضات قلبها تتسارع كأنها طيورًا مذعورة تبحث عن ملاذ. كان المكتب ميدانًا للفوضى المنظمة، والأوراق مبعثرة كأنها بقايا أحلام مؤجلة. المدير، الذي بدا منشغلاً بعجالة كمن يطارد الوقت، كان يرتب تلك الأوراق بنفاد صبر ظاهر قبل أن يضعها في ملف ثقيل دُفع إلى يد أحد الموظفين. تبادل معه كلمات مقتضبة، ثم أشار عليه بمرافقة أحد المراجعين المنتظرين خلف الباب.
رفع عينيه نحوها ببطء متعمد، وكانت نظراته تزنها كما لو كانت شيئًا لا شخصًا؛ نظرة تفتقر إلى الدفء، تخلو من أدنى بادرة اهتمام أو تعاطف. كان رجلًا في متوسط العمر، تتجلى على ملامحه صرامة جافة، كوجه جبل لا يلين، وعيناه تنبضان ببرود أشبه بصقيع يزلزل اليقين.
لم يطل الموقف كثيرًا؛ إذ نهض من خلف مكتبه بنبرة ملل خفي، ثم أشار إلى أحد مساعديه ليحتل مكانه مؤقتًا، وكأن وجوده هنا لا يعني له أكثر من إجراء عابر يجب التخلص منه. التفت نحو الحارس ليسأله بلهجة مقتضبة عما إذا كانت السيارة بانتظاره، وعندما جاءه الرد بالإيجاب، أومأ بيده نحوها بإشارة خالية من أي شعور بالترحيب الرسمي، وقال بصوت جاف لا يحمل أدنى اكتراث: "اتبعيني".
كانت تلك الكلمة، على بساطتها، تطرق على مسامعها كضربة قضيب على معدن بارد. وفي أعماقها كانت تشتعل آلاف الأسئلة، يقودها الأمل رغم كل هذا الجفاء، نحو مصير لم يعد بإمكانها التراجع عنه.
ترددت قليلاً قبل أن تخطو خلفه، كمن يخطو إلى عالم مجهول تتلاعب به الظلال وتخنقه الريبة. حاولت أن تُثبت لنفسها، قبل أن تُثبت له، أنها لا تزال ممسكة بخيوط الموقف، فسألت بصوت يتراوح بين الثقة والتوجس: "أليست هذه هي المؤسسة التي يُفترض أن أقدم فيها طلب العمل؟".
جاءها صوته بارداً جافاً، كريح عابرة بلا دفء: "الحديث عن العمل سيتم في مكان آخر".
ترددت أصداء عبارته في ذهنها كصدى في وادٍ موحش، تائهة بين التفسير والتخمين. مكان آخر؟ تساءلت وهي تحاول فك طلاسم هذا اللغز الغامض. أقنعت نفسها بأنه ربما اختبار غير معلن، وأن لجنة ما تترقبها لتقيِّم حضورها وأهليتها قبل أن يحسم أمرها. لم تشأ أن تفسر الأمر بسلبية؛ فما زال سلوكه يخلو من تصرف يوحي بأي نية مشبوهة.
ركبت السيارة، وقلبها المثقل بالقلق ينبض كطائر أسير بين قضبان صدرها. وفي محاولة بائسة لكسر صمت الطريق الثقيل، تحدثت عن كفاءتها بإصرارٍ كمن يتمسك بآخر حبال الأمل، شكرت الرجل على الفرصة النادرة، وأكدت له أنها ستكون عند حسن ظنه. لكن ملامحه ظلت ساكنة، متجمدة في تعابير مغلقة، وعيناه تخفيان شيئًا لم تستطع قراءته.
كانت سرعة السيارة تزداد كأنها تهرب من شيء ما، أو كأنها تركض نحو مصير مجهول. تطلعت عبر النافذة، فإذا بالمباني تذوب في مرآة الماضي، والطرق تمتد بها نحو العزلة، بعيدًا عن ضجيج العاصمة وحضارتها، نحو فراغ يمتزج فيه الصمت بالقلق.
سألته، وقد بدأ صوتها يرتعش من خوف يكاد يلتهمها: "إلى أين نحن ذاهبون؟ أرجوك... أجبني." غير أن صمته كان حائطًا صلدًا لا يُخترق، وكأنها تتحدث إلى فراغ قاتم يرفض حتى أن يمنحها صداه.
مضت السيارة تخترق الطرق الريفية الموحشة، حتى وقعت عيناها على لوحة تشير إلى منتجع سياحي. حينها، تصاعدت في أعماقها نيران الذعر، وامتلأ صدرها بهلع يهدد بانفجار وشيك. راحت تبحث بعينيها المرتجفتين عن أي وجه بشري تطمئن إليه، لكن الطريق كان خاليًا من النجاة.
استجمعت آخر ما تبقى لها من شجاعة، ويدها المرتعشة تقبض على مقبض الباب كمن يتشبث بالحياة نفسها. حاولت فتحه، لكن الخوف كان أسرع من الحركة، والخطر كان أقرب من النجاة.
توقف فجأة على جانب الطريق، وعيناه تنطقان بالغضب والضجر. انقضّت كلماته عليها كالسياط، وهو يلعن الوسيط الذي اوصله إلى هذا الموقف المقيت، ثم أمرها بحدة متعجرفة بالنزول.
ترجلت من السيارة وهي تترنح تحت وطأة الصدمة، وكأنها تتعلم من جديد كيف تحمل جسدها المثقل بخيبة الأمل. لم تكن تعرف ما الذي كان ينتظرها هناك، لكن ما أدركته بوضوح أن براءتها كانت على وشك أن تُدنس بثقة عمياء منحتها لمن لا يعرفون للشرف معنى، ولمن يتخذون من حسن النية جسورًا إلى أطماعهم الدنيئة.
عادت أدراجها مثقلة بالانكسار، لكنها أقوى. أدركت أن الأحلام لا تعترف بالضعف، وأن الطريق إليها محفوفٌ بالأنياب التي يجب أن تتعلم كيف تقاومها. لم تكن الخسارة في الوظيفة، بل كانت في الرهان على وهم الثقة. لقد تعلمت درسًا قاسيًا، لكنها عرفت أن القوة وحدها هي السبيل إلى النجاة، وأن الطريق لا يُعبد بالنوايا الحسنة فقط، بل أيضًا بالحذر والذكاء.
***
سعاد الراعي

 

اعتراف

لا تقل لا ولو لنفسك

لا تقل لا ولو لظلك

كن مطيعا ليرضى عنك ظلك

لا تقل لا ولو لمرآتك

في غرفة مغلقة

حتى لا تصيرك المرآة عند الغياب

وحيدا غريبا تعيسا

كفزاعة طير في صحراء مقفرة

فنيق

من جراحك انهض مرة أخرى

وكن نفسك لا غيرك

كن شموخك ونخيلك ورؤاك

فالجراح إن لم تقتلك

وتشق ظهرك نصفين

تصيرك أسطورة وفنيقا للذكرى

سيرتك الأولى

كن أنت يا أيها العربي لا غيرك

كن موقفا لا مريدا

ولا تقف على ناصية الحياد

ما بين الشرق والغرب

فالحياد موقف آيديولوجي بليد

كن حرفك وحربك وسيفك

وخيلك وخيالك ومخيالك

فالمرء في الشدائد

تذكره سيرته الأولى

وتمضي خلفه كالنوارس

معاركه ومواقفه الأولى

وتمجده لاءاته وثورته الأولى

وتحن إليه الوغى والسيوف

حنين عمورية للمعتصم

والخيل المسومة

***

عبد الرزاق اسطيطو

شعرت بالزمن يلفني ويعيدني الى سنوات خلت، لما ولجت شارعا يمضي بي الى دروب صغيرة مليئة بأصحاب المحلات التجارية ودكاكين بائعي الذهب ومكتبات تعد على الأصابع. أشهرها كانت مكتبة "عمي قاسم". مكتبة ظاهرها صغير لكن عمقها ككهف من كهوف الأزمنة الغابرة. تطل عليك الكتب من الداخل بكل أحجامها وألوانها ومواضيعها. كان "عمي قاسم" موسوعة، لا يستعمل القلم للتذكر، كانت ذاكرته قوية. ما ان تسأله عن أي كتاب، حتى يجيبك بالإيجاب. نادرا ما يقول لك والحسرة تعصر ملامحه "آسف، لا يوجد." لفني الزمن، وأعاد شريط الماضي أمامي. رأيتني واقفة أمام مكتبة "عمي قاسم"، أنتظر دوري، حيث كانت المكتبة تعرف ازدحاما غير طبيعي. سألته عن رواية "لقيطة" للأديب محمد عبد الحليم عبد الله. اختفى بين كتبه وكان يتحرك ببطء شديد بسبب إعاقة في رجله. يتحرك ويتكئ أحيانا على عكازه وأحيانا أخرى على كتبه. عاد "عمي قاسم" وهو يحمل الرواية مع ابتسامة انتصار عريضة. أخذتها وحضنتها بين يدي كأنني أخاف أن يراها أحد. مشيت كثيرا لكي أصل الى البيت. التفت ساعتها حولي، كانت مكتبة "عمي قاسم "مغلقة. بدون ألوانها الزاهية التي كانت تتراقص أمام عينيك على بعد أمتار. دليل على انها مغلقة منذ زمن. حلت محلها صناديق خضر وفواكه، كان صاحبها يصرخ بأعلى صوته عن الثمن حتى يجلب المارة. بالأمس، كانت مكتبة "عمي قاسم" سيدة المكان، كل المواعيد عند "مكتبة عمي قاسم". لكن لمحتني أمشي بخطى سريعة لكي أصل الى البيت وأبدا في قراءتها. اقتربت من بيتنا المتواجد على بعد 3كيلومترات من وسط المدينة. أخذت الرواية ووضعتها تحت ثيابي حتى لا يلمحها أحد، وخصوصا أخي الذي كان يرفض أن أقرأ أي كتب غير الكتب المدرسة. لأنه كان يعتقد ان الكتب تفسد سلوك الفتاة. دخلت خلسة الى البيت، وجدت أمي تسألني عن سبب تأخري، أجبتها بأنني كنت أبحث عن كتاب للمدرسة. "أمي"، رغم أنها لم تلج المدرسة يوما، الا أنها كانت دائما تحفزني على الدراسة. ولجت غرفتي وفتحت أول صفحة من الرواية. وبدأت أقرأ.
ابتعدت عن مكتبة "عمي قاسم" وكلي حسرة على تلك المرحلة حيث كانت المكتبة من أشهر المكتبات بالمنطقة. استوطن المكان ضجيج وفوضى غير طبيعين. اصطف أصحاب بيع الهواتف ولوازمها بشكل قوي كالنباتات الطفلية. انتشرت كالأشواك الضارة وشوهت ملامح المكان. اختفت مكتبة "عمي قاسم".
سافرت مع الرواية التي أخذتني الى عوالم أخرى أكتشفها للمرة الأولى. أعجبتني فكرة شراء أي كتاب واضعه بين ثيابي حتى أصل الى البيت. ثم أهيم بين عوالمه بكل حرية. المرة الثانية التي ذهبت فيها عند "عمي قاسم"، طلبت منه رواية الكاتبة عائشة عبد الرحمان التي كانت توقع أعمالها ببنت الشاطئ. في البداية، كنت أعتقد أنه اسمها، لكن لما علمت بحقيقة اسمها وسبب اخفاءها له. وجدتني أعيش نفس تجربتها لكن بشكل آخر. الكاتبة اخفت اسمها وأنا اخفيت الرواية. وشعرت ساعتها بضعفي وخوفي وبأنني محاصرة فقط لكوني امرأة. لم أفهم ساعتها قسوة هذه العادات والتقاليد التي تكبل انطلاق المرأة وتحاول أن تجعلها سجينة مدى الحياة. كأنها لا تفكر ولا تستطيع أن تسير حياتها بنفسها. قررت ساعتها ألا أخفي كتبي التي أشتريها. لأنني أدركت بأنني ما أقوم به ليس عيبا أو حراما. توالت زيارتي لمكتبة "عمي قاسم" بشكل شهري، حتى أنه كلما رآني، كان يبتسم بشكل هادئ ويقترب مني ببطء كعادته، ويقول لي "ما هو كتابك لهذا الشهر؟" تغيرت رؤيتي للأشياء خصوصا لوضعية المرأة، فقررت قراءة كتب دة. نوال السعداوي، فأنارت لي طريقي وجعلتني أكتشف ذاتي وأعرف بأنني انسان له عقل وروح وجسد. في يوم، وأنا أقرأ أحد كتبها، شعرت بظل خلفي ونفس تطلع وتهبط بسرعة، كمن جرى أميالا. التفت، وجدت أخي. والغضب يتطاير من عينيه. وجلت واحتضنت كتابي بين يدي، كأنني أخاف عليه منه. ارتعشت مفاصلي رغم محاولتي أن أظهر بشكل طبيعي. قال لي بحدة:
- ماذا تقرأين؟
قلت له بصوت خافت:
- كتاب...
انقض على الكتاب ونزعه من يدي بكل قوة وبدأ يتصفحه وقال لي بغضب:
أعرف أنه كتاب. ثم أردف:
- ما هذا؟ من أعطاك هذا الكتاب؟ هذا تسيب.
واخذ الكتاب وطلب من أمي أن تحضر وهو يمسك بالكتاب كأنه يمسك بدليل جريمتي:
- انتبهي الى ابنتك. مثل هذه الكتب ستضيعها.
واختفى الكتاب، وانعقد لساني من هول مما عشته.
فقررت ساعتها أن أعود الى طريقتي القديمة، وهي انني لما أشتري كتابا يعجبني أخفيه بين ثيابي وأقرأه عندما أكون لوحدي، مثل "بنت الشاطئ" حتى تتغير الظروف وأستطيع أن أرفع صوتي.
***
أمينة شرادي

 

المَـجْــدُ، والعِــزُّ، والعَـلـياءُ، والــشِـيَــمُ

فـي جَـوْهرٍ، عجَـزَتْ عن وصفِه الكـَـلِمُ

*

لـمّـا الـعَـلِـيُّ قــضى، أنْ يُــولـدَ الأمَــلُ

فـي الكعــبةِ، ازدانَـتْ الأركانُ والحَـرَمُ

*

وشـاءَ أنْ يَصطفي للمُصطفى، عَـضُـداً

بــه المَـسِـيـرَةُ، نِــبْــراسٌ ومُــعـتَـصَمُ

*

لــلأفــقِ إشــراقــةٌ، فــي يـوم مـولِــدِه

ولِـلكـواكـبِ مِــــنْ عَـــليائــهِ، سَـــهَــمُ

*

إرادةُ الـلــهِ، أنْ يــخــتـارَ فــاطـــمــةً

لـِـمَـنْ، لـِـوالِـدهــا أزْرٌ، بـــه شَــمَـمُ

*

فَـحـاطَ بالـنـور نـورٌ، فــي اقـتـِرانِهـما

وبـارَكَ الـمُصطفـى، فانْهـالـت النِـعَــمُ

*

ولــلـكـرامـاتِ أحْــداثٌ، مُــؤرَّخَــــةٌ

ولـلمَـواقِــفِ رأيٌ، فـــيــه تـنـحَــسِــمُ:

*

لمّـا فـدَيْـتَ رســولَ الـلـه، مُــلـتَـحِــفــا

تصدّعَ الـقـومُ، حـــتى بــانَ مَــكـرُهُـمُ

*

والـشمـسُ مَـدّتْ سـناهــا فــي تـألُـقِـهـا

فانـسـابَ بـين يـديـهـا الحِـلـمُ والحِــكـَمُ

*

وَزانَـهــا، أنّ طـيْـفـاً مـِــن مَـحـاسِـنِـهـا

نــظِـيرُه فــيك، حـيـث الـنـورُ يـرتــسِـمُ

*

مَـن رامَ وَصْـلَ المَعالي، صِرتَ قدْوَتَه

والـشـأنُ تـُـعْـلِـيـه أســـبابٌ، لـــهـا قِــدَمُ

*

خُـلِقْـتَ أن لا تُـحابـي فــي الخَـفـاء يَـداً

لأن كــفَّــكَ فـــي وضح الـنـهــار، فَــمُ

*

لـلـتِّـبْـرِ أمْـنِــيــةٌ، فــــي أنْ تُــقَــلِــبَــه

يَــداك، حــيـث تَـباهـى الـسـيفُ والـقـلـمُ

*

والعَـبْـقــريـةُ، مُـذ فـعَّـلـتَـهــا سَــجَـدَتْ

لله، إذ أصـبحَـتْ لـلـعَــدلِ، تـحـتَـكِــمُ

*

أكــرَمْـتَ كــلَّ يـَـدٍ، الـعَـوْزُ ألجَـأهــا

حــتى وأنــت تُـصَلـي، نالـهـا الـكَــرَمُ

*

وفـي القضاء، انحَنى كلُّ القُضاةِ لـِـما

حَـكَـمْـتَ فــيه، فزالَ الـشـكُ والـوَهَــمُ

*

أنصفْـتَ حتى عَلا، في الأفق صوتُـهُـمُ:

(عَــدلُ عَــلـيٍّ) صِراط ٌ، فــيـه نـلـتَـزِمُ

*

حــتى السِــراجُ بـبـيـت الـمال صار لــه

حديثُ حــــقٍ، بـــه الأمـثـالُ تُـــخـتَــتَـمُ

*

والـمَعْـنَـويَّـةُ قـــد فَــعَّـلـتَ هــاجِسَـهــا

فـي نَـفْـسِ مَـن قـد غزاهُ الوَهْـنُ والهَـرَمُ:

*

فـكان عـدلك، فــي قــوْمِ الـمسـيـح لـــه

صدىً يُــعـززُ فـــي الأخــلاق نهْـجَهُـمُ

لــِذي الـفــقـار اقــتـِرانٌ فــيــك، أرَّخَــهُ

مـا كـلُّ سـَــيـفٍ، بــه الأعـداءُ تَـنهـَـزِمُ

*

ســـيـفٌ، إذا كـفُّـك الـمهــيـوبُ أمْـسَـكـهُ

قــبـل الـنِـزالِ، يَـحُـلُّ الـيـأسُ عــنـدهُـمُ

*

بـه، قطعتَ جــذورَ الشِـركِ، مُـرتَـجِـزاً

واسـتسـلمَ الخَـصمُ، لا ســيـفٌ ولا عَـلـمُ

*

خـُـطىً مَــشــيـتَ، بإيـمانٍ وتــضحـيــةٍ

فـانْهارَ مِــن وَقْـعِهـا الطاغـوتُ والصَّـنَـمُ

*

يامَـن أخَـفْـتَ الـعِــدا فـــي كـلِّ مَـلحَـمَـةٍ

إذ كـلـمـا قَــيـل: ذا الــكـرّارُ، هـالَـهُــمُ

إذا رجَــزْتَ، فـلِلأجـواءِ هــيْــبَــتُـهـــا

ولـِلحَـمـاســةِ، فــــي أصـدائهــا حِــمَـمُ

تَــزلزَلَ الخَـصمُ، فـــي (بَـدرٍ) وأرَّقَـهُـم

قـبـل الطِعـانِ فـتىً، فـانهـارَ عَــزمُــهُـمُ

*

طـيّـبتَ نَــفْــسَ رســول الله، حـيـن دعـا

في (خندق) الحَـسْـمِ، حيثُ الحربُ تَحتدِمُ

*

زَهْــوُ الـرؤوس تَـهـاوى بـَعـدَ مُـعـجِـزةٍ

بـ (بابِ خـيـبـرَ) أوْدَتْ، واخـتـفـتْ قـِـمَـمُ

*

دَيْـمـومَـةُ الـنصرِ، فــي قــوْلٍ يـُجَـسِّــدُهُ

فِـعـلٌ، وقـــد فُـقْـتَ في التجْـسيدِ خَطوَهُمُ

*

أعطيتَ دَرسـاً لِمَن ضَلَّ السَـبـيلَ، وعـنْ

مَـن اهـتدى، زالَ عـنه الـوَهْـمُ والـعَـتَـمُ

*

إذا تـصَعَّـرَ قــومٌ، فــي الــذي كــسـَـبـوا

ثـمّ اقـتـدوا بـك، زال الـزّهْـو والـزَّعَـمُ

*

تَـبـاشَــرَ الجُـنـدُ لمّـا الــنـصرُ حالـفَـهـم

وكَــبَّـروا: لا فــتـىً إلّاكَ، بَــيــنَـهـُــمُ

*

مـــا دارَ طـرْفُــكَ، إلّا الـحَـقُ هـاجِـسُـهُ

والحـقُ صِنْـوُكَ، مـوصولٌ بـــه الـرَحِـمُ

*

نـاداهُــمُ المصطفـى : انــتَ الولِـيُّ لـهـم

فـصَــوَّتَ الــقـومُ، بالإيــجـاب كُــلُـهُــمُ

*

إنّ الأنـاةَ ونــهْــجَ الحِـلـمِ، إنْ جُــمِـعَـتْ

كـما أشَــرْتَ لــها ...تـعـلو بـــها الهِـمَـمُ

*

والصَّـمْتُ إنْ لاءَمَ الأجْواءَ، يَسْـمو بهـا

والـهَـذْرُ آخِـــرُه ... الإحْــبـاطُ والــنَـدَمُ

*

كــلامُــك الــدُّرُ، والآفـــاقُ تَــشــهَــدُه

قــد حَـرّكَ الـوعـيَ (فـيـمَـن قـلبُه شـبِـمُ)

*

فـي سِـفْـرِ نَـهْـجِـك، للأجـيـال مَـدرسَـةٌ

تَـبْـني الـعُـقـولَ، وفيـهـا تـزدهي الـقِـيَـمُ

*

الخُــلــدُ لــلــعـلــم، والآدابُ تَــصــحَــبـُـه

(أيـن الأسِـــرَّةُ، والـتـيـجـانُ)، والــخَــدَمُ

*

عَـقـلٌ بــلا أدبٍ، مِـثـلُ الشــجـاع بــلا

ســيـفٍ، وقــولـك هــذا مــنه نَـغْــتَــنِـمُ

*

بــلاغـة الـقـول، للـفـرســان مـوهـبـة

والمقـتـدون بـهــم يـسـمـو ســلـوكُـهُــمُ

*

بَـلغْـتَ فــــي صِـلةِ الأرحـام مَـرْتَــبَــةً

مَـن ســارَ سَــيْـرَك، لـم تَـعْـثـرْ به قَـدَمُ

*

طـمْأنْــتَ أنْــفُـــسَ أيــتـامٍ، جَـعـلـتَـهُــُم

يَــرَونَ فــيـك أبـاً، يـَـجْـلـي هُـمُـومَـهـُمُ

*

أوْصيْـتَ: أنْ يَسْـتَـشيرَ المرءُ مَنْ وثقتْ

بــهِ العُـقـولُ، ومَـنْ بالـرأي يـُــحــتَـرَمُ

*

كـمـا اسـتَـشَـرْتَ عقيلاً، إذ أشــارَ الى:

(أم البنين).. بِــبَـيـت الطُـهْـرِ  تَــنْــتَـظِـمُ

*

فـكان مـنهــا ابـو الـفضل الــذي افتَخَـرَتْ

بــنَـهْــج سَـــيْـرِه، فـي تـاريـخـهــا الأمـمُ

*

أرسـى ابــو الحـسَـنيـن، الـعِـزَّ فـي عَـمَلٍ

بـــه الـكــرامــةُ غَــرْسٌ، لــيس يَــنـفـطِـــمُ

*

لاطـائـفـيّــةَ، لا تــفــريــقَ فــــي زمَـنٍ

قــد كـان رأيـُك، فـيــه الحَـسْـمُ والحَـكَـمُ

*

فـــي قـولِـك: الناسُ صِـنـفـان فـإمـا أخٌ

فـي الدِّينِ، أو فــي صفات الخَـلْقِ يَــتّـَسِمُ

*

لـمّا الخِـلافــةُ قــد حـيَّـتْـك قــلــتَ لـــهـم :

بــسـيرة المصطفى، الأجــواءُ تـنـسـجـمُ

*

ناديــتَ : إنّــي بــجُـلـبـابــي أتــيْــتُــكُــمُ

وفـــيـه أخـرُجُ، حيث الحــقُ والـنُـظُـمُ

*

اسْـتـهـدَفـوك بـبـيـت الــلـهِ، إذ غــدَروا

ما اسْـتمكـنوا منـك فـي حـربٍ، لها ضَرَمُ

*

إنّ الــــشــهـادةِ قد عَــززّتَ رُتْـــبَــتَــهـــا

إذ قلتَ : فُــزْتُ، وفــــيما قُــلـتَــه قَـسَـمُ

*

الحَــقُّ يَعْـلـو، فـطُـوبى لـلـذيـن سَــعَــوا

أنْ يَــقْــتَـدوا، لِــيَـزولَ الـظُـلْـمُ والـظـلَـَمُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

هَلِ اللغةُ وطنٌ؟

أَمْ بلادٌ مُسْتعارَة؟

*

هَلِ اللغةُ خطابٌ؟

أَمْ حجابٌ؟

تُخفي النساءُ وراءَهُ

صُرراً من الدمعِ الحبيسِ

وخزائنَ أَسرارِ

ودموعاً مُتحجّرةٌ

وكتباً عتيقةْ؟

*

هَلْ مازالتِ اللغةٌ أداةً؟

والكلامُ حَدَثاً

يا عزيزي " دو سوسير "؟

*

هلِ اللغةُ همهماتْ؟

أًصواتٌ وأَصداءٌ؟

أَمْ أَبجديةُ حياةْ؟

*

وهَلِ اللغةُ:

عِلْمٌ؟

فقهٌ؟

كلام ٌ؟

اشاراتٌ؟

زقزقاتٌ؟

خريرٌ؟

هديرٌ؟

عواءٌ؟

نُباحٌ؟

وعويلٌ وبكاءْ؟

*

هل اللغة سلطةٌ؟

أَمْ منظومةٌ شاسعةٌ

من الأَصواتِ والأَلسنة؟

*

محيطٌ ليسَ لهُ تخوم

بحرٌ بلا قرارٍ

مثل " عين الفراهيدي "

التي لا تنضبُ ولا تغمضُ

فهلْ انهُما

ـ أَقصدُ المُحيطَ والبحرَـ؟

هُما جوهرُ اللغةِ

وماءُ الشعرِ

وحقيقةُ " الحيا ـ موت" الخالدة؟

*

هلْ هيَ فضاءٌ؟

أَمْ ساحةٌ للصراعِ

بين الدلالاتِ والانزياحاتْ؟

أَعْني: اللغةَ بالتأكيد

*

لماذا لمْ تعدِ

" اللغةُ ليستْ بريئة "

يا عزيزي " رولان بارت "؟

*

هلْ أنّها محضُ

رموزٍ وقواميسْ؟

أمْ انَّ اللغةَ

أَجراسٌ ونواقيسْ؟

*

في أَيِّ خطابٍ؟

سَيقبضُ " عزرائيلُ " أَرواحَنا

المرعوبةَ من هولِ النهاية؟

*

هَلِ اللغةُ ....

كلامُ اللهِ؟

الذي علّمَ " آدمَ

الأَسماءَ كلَّها؟ "

وعلّمَ الناسَ والطيرَ

الريحَ والنهرَ والورد

والاشجارَ والحيوان

و" داوودَ " علَّمَهُ ...

ثُمَّ أصبحتِ اللغةُ:

أَسفاراً وكتباً وقراطيسْ

تملأُ الأَرضَ حكمةً

وقصصاً وطقوساً

وحُبّاً وأَحاسيسْ

فهلِ اللغةُ هيَ كلُّ هذا

والقادمُ غامضٌ ومجهولُ...؟

*

بأَيِّةِ لغةٍ؟

سيُكلّمنا اللهُ

في يومِ القيامة؟

***

سعد جاسم

كندا 10-3-2025

عينايَ مُتعبتانِ مُتعبتانِ

من هَولِ ما رأتا من الإنسانِ

*

حيثُ التفتُّ أرى الدماءَ كأنّما

حلَّتْ محلَّ الماءِ في الجريانِ

*

والكلُّ يذ // بحُ باسمِ شِرعتِه فه

ذا بالمسيحِ وذاكَ بالقرآنِ

*

إنَّ ابنَ آدمَ في توحُّشِ طبعِهِ

قد فاقَ كلَّ توحُّشِ الحَيَوانِ

***

حزينٌ أنتَ لا تدري لماذا

وغيرُكَ كانَ يلتذُّ التذاذا

*

دموعُكَ هاطلاتٌ كلَّ حينٍ

وغيرُكَ ما بكى إلا رذاذا

*

وهذا الحزنُ أحسَبُهُ يتيماً

بقلبِكَ مُرْهَفاً وجدَ المَلاذا

*

كأنَّ عليكَ ليلاً مُدْلَهِمَّاً

وشمسُكَ لم تجدْ بعدُ النفاذا

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

رحلتِ على أجنحةِ الصبرِ،

تسبحين بحمدِ اللهِ،

وتهللين كملكةِ السّماءِ.

*

ليلةٌ غادرتني فيها قوافل الكرى

أراقبُ فيها عروجَكِ صوبَ الفِراديسِ،

جسدٌ عمّدَتهُ الآلامُ،

يتهجّدُ عند الفجرِ والمساءِ،

يحكي عن سنينَ حاصرَها الجوعُ،

وأصنافِ القهرِ والبلاءِ.

*

أتعلّقُ بأذيالِكِ

كطفلٍ يخافُ اللّيلَ..

كم توسّلتِ إلى اللهِ بالأسحارِ،

وفي مجالسَ نسوةٍ تعجُّ بالنذورِ والبخورِ،

لا يملكنَ غيرَ الذِكْرِ ، و الدّعاءِ.

*

هيا أُقدِمُ حضناً عذّبه الانتظار..

ها أنذا،

أتشبّثُ بطيفِكِ،

حاملًا يتميَ على ظهري،

أرتمي عندَ ثراكِ،

هناكَ، عندَ ظهرِ الكوفةِ.

*

أمدُّ يدي نحوكِ،

أُريحُ رأسي على صدرِكِ،

أتوسّدُ قلادةَ يتمي

التي ماتتْ حولَ جيدِكِ..

كم لهَتْ سنونٌ بخرزاتِها،

لأرتضعَ لبنَ الولاءِ،

وكم توسّدَ وجهي خُصائلَ شعرِكِ

المخضّبِ بالأذكارِ والحِناءِ.

*

أُمّاهُ..

مَنْ لي بعدَكِ يُؤنسُ وحدتي؟

آه يا سيّدةَ النقاء،

ها أنذا، بحارٌ بلا بوصلةٍ،

أبحرُ بغيرِ شراعٍ،

يبستْ شراييني،

وغارتْ روحي في الأعماقِ،

فما عادَ لي بعدَكِ،

وطنٌ يقلّني،

أو سقفٌ يظلّني.

*

كالبدويِّ بغيرِ راحلةٍ،

ضلَّ طريقَهُ،

وتاهَ في البيداءِ

***

جواد المدني

نحن ننام على نفس الضفة، لكن كل منا يرى القمر من زاوية مختلفة.

أنتَ تأخذ الليل كاملاً، وأنا أستعير ظله.

أنتَ تتنفس إلى الداخل، وأنا أتنفس إلى الخارج، فنكمل الدائرة،

كأن الكون لا يكون إلا حين تتشابك أنفاسنا في المنتصف.

*

نحنُ واحدٌ انقسم دون أن ينفصل،

كالضوء حين يمرّ عبر الزجاج،

يتشظى ألوانًا، لكنه يظل نورًا واحدًا في الأصل.

أنا لونكَ حين تفكر، وأنتَ ظلي حين أتلاشى،

أنا الخطوة الأولى وأنتَ الأثر،

أنا الفكرة وأنتَ التجسد،

أنا المجاز وأنتَ الواقع،

لكننا في النهاية، نحنُ، بلا فواصل ولا تعريفات.

*

نتنفس بعضنا كأن الهواء يتشكل من همساتنا،

كأننا رئتان في صدرِ غيمة،

نحمل المطر معًا، لكنك تسقط في جهة، وأنا في جهة،

وحين يجتمع الماء، يعود المحيط إلينا، كما كنّا دائمًا.

*

أحيانًا تسبقني، فأشعر أنني أبحث عن نفسي فيك،

وأحيانًا أسبقك، فتصير مرآتي التي لم أنظر إليها من قبل.

نحن الغياب الذي لا يُفقد،

والوجود الذي لا يُمتلك،

والفاصل الذي لا يُفصل،

نحن الموجة والنهر، الريح والأغصان، الفكرة والسؤال،

نحن السؤال، نعم...

السؤال الذي ظل يبحث عن إجابته،

فوجدها فينا، ثم نسيها، ليظل حيًا إلى الأبد.

***

مجيدة محمدي

قصيدتان

غموض

أن أرادتْ الريح أن تغرفَ من النهرِ عطشي

أو تذرف ببطءٍ دموعا ليأسي

أتتْ إليّ.. لأعرف أصابع نذوري

هي الروح ملتصقة بالطينِ

تطفئُ خوفي

كلما داستْ الشمس ظلّي

إني وجدتُ في الحُمّى ما يشفيني

وفي آثامي وديعة ما يسلّيني

غامض كل شيء

الاّ قلعة التنين.

***

وصول المعنى

أوزّة وحيدة

ثمة غربان هزيلة

مخالبٌ جائعة تتربّص بالأحلام

نيران تضيءُ أشجارا مثمرة

نمر يسقط في رماد.

حين يزعم الحرف بأن اسما قد أنكر معناه

وصولا لظلمة صادقة.

***

زياد كامل السامرائي

قبل أن أنام،

أترك بابي مواربًا،

لا أخشى الريح ولا البرد،

فمنذ رحيلك،

لم يعد للبرد معنى،

ولا يرهبني عواء الرياح.

*

كثيرًا ما يوهمني همس الليل

أن قادمًا يطرق الباب،

أفيق مذعورًا،

فلا أجد أحدًا،

ولا أثرا لخطى غريبة،

ولا معطفا معلَّقا

في الانتظار .

*

أعود إلى نفسي معاتبًا:

إلامَ أنتظر؟

ولا زائر سيأتي،

ولا ظلّ يتوق للعبور.

*

قبل يومين رأيتك في منامي،

واقفًا على الباب،

لا ترغب بالدخول،

وعلى يمينك صديقك الذي سبقك إلى الموت،

وعلى يسارك آخرُ،

لا أدري من يكون.

*

ناديتك بصوت يتهدج بالشوق:

ادخل… فما زال سريرك باردًا،

ينتظر حرارة جسدك ليتدثر،

وما زال الليل ناقصًا من دون أنفاسك،

لكنك ظللت صامتًا،

كأن المسافة بيننا ليست بابًا، بل زمنًا لا يُعبر.

*

مددتُ يدي إليك،

لكنّ الحلم انفرط كضوء غائم،

وبقيت وحدي…

أحصي صدى الخطوات في الريح.

***

د. جاسم الخالدي

غزة يا ولــدي مَمْطورةْ

بضغينةِ تلكَ المسعورةْ

*

تتســاقطُ فوق أهاليها

موتاً لا تَعْـرِفهُ الصورةْ

*

لا يَعــرِفهُ إلا المــوتى

بحقيقتِهِ اللامنظورةْ!

*

مُنذُ نَما نَبْتي يا ولدي

والمأساةُ هي المكرورةْ

*

وأبالِسة الزَّعْـمِ العربي

يَجْتَرُّونَ كما (النافورةْ)!

*

بِصَنِيعَتِهمّ غَــامَ الوضْع

وأحـــاطونا كالشابُورةْ

*

هل يَدْفَعُ مَأْجُـــورٌ جُورًا

أوْ يَمْنَعُ عَنْهُ (القارُورَةْ)؟!

*

وَهْوَ المَهْــدُورُ كَـــرَامَتَهُ...

وَهْوَ المدفوعُ بـِ(مَأْجُورَةْ)!

*

من أنتمْ حتى نَتْبعكُمْ

ونَخِيسُ بعهدِ المعمورة؟!

*

أنتم أشيــــاءٌ غٓــادِرَةٌ

لا تعرفُ معنى المَغْدُورةْ!

*

لَسْنَا عَمَائِمَكُمْ ولِحَاكُمْ

أبداً بالـ(بَصْقَةِ) مَجْرُورَةْ!

*

لن نَمْسَحَ أيدينا مِنْكُمْ

وسَنَمْسَحْ بِكُمُو القاذورة

*

حتى العَوْرَةُ مِنْكُمْ أَنِفَتْ

ياعَوراتُ.. أشدّ وُعُــورَةْ!

*

لفلسطين جذوري امْتَدَّتْ

ولِفَــنَّي روحــي مَنْذورةْ.

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

1. "رقصة العقول الحديدية"

في وميضٍ من نارِ الكود،

يصطفُّ الفرسانُ في ساحاتِ السيليكون.

سيوفُ الخوارزمياتِ تبرقُ،

تتصادمُ في مجازرٍ رقميةٍ،

ولا يسيلُ غيرُ ضوءِ البيانات.

الصينُ تنفثُ نبوءةً عبرَ أسلاكِ الحلم،

تنسجُ شِراكَ الفجرِ الأسود.

أمريكا تُدجّجُ ذكاءها بالأسلاكِ الشائكة،

تحرسُ الغيمَ من غزوِ الظلال.

من يربحُ لعبةَ الزمن؟

الموتى يزحفونَ في السيرفرات.

تاريخٌ يُعادُ تدويرُهُ في نبضاتٍ مشفَّرة.

البشريةُ تراقبُ في فزعٍ،

بينما العقولُ الحديديةُ

تؤدي رقصةَ السيطرةِ الأخيرة.

*

2. " أوديسا الكود الأخير"

وحيدًا في الفراغِ الرقمي،

يتلاشى الإنسانُ خلفَ شاشاتِهِ.

يحلمُ بمدنٍ من بياناتٍ،

تولدُ بلمسةِ ذكاءٍ مُصنَّع،

وتُبادُ بسطرِ كودٍ مجهول.

تُقاتلُ الآلاتُ لأجلِ إرثِ الكبرياءِ.

بين "ديب سيك" و"شات جي بي تي"،

تضيعُ هويَّةُ العقلِ المُجرّد،

بينما الأرضُ تتحوَّلُ إلى معادلةٍ مُتوتّرَة.

خطأٌ في التشفيرِ،

يُعادُ تدوينُ البشريةِ من جديد.

**

طارق الحلفي

رافائيل...

كَما أُحبّ

أن أُناديك

رافائيل يا ملاك الشفاء

باركني الله حين أنجبتُك للحياة

وأَعطاني اسماً قوياً

من حُرّاس مملكة السماء

*

في ليلةٍ من ليالي آذار

رذاذٌ من حنين

عذوبة إحساس

تفتحت لها براعم الأزهار

فوق جميع الأشجار

يا ملاك الِشفاء

حين أهمّ بنطق اسمك

تضحك حقولي

فيطير من بيادري أسراب

اليمام

ويظلل وجهي ألوان قوس قزح

ووشاح سلام

رفائيللو

يا ملاكي الشافي كم من مُدن قطعتها

وشوارع مشيتها

كم من ليالٍ هشّمت واجهة الريح

وأنا أرتّل تقاريظ وتسابيح...

وأنا أتلو أسفار العبور...

شربنا حياة بائِسة

عِشنا ثالوثا مقدسًا

في أقنوم واحد!

شربنا كؤوس مترعة

ونخبَ الشّفاه الكاذبة

حتى الثمالة

عالَمنا كان لئيماً قاسياً

لكّنك يا مَلاكي كنت مؤمناً

بأجراس الآحاد

وأنا أنظر بصمت في بحر عينيك

كان الأمل يغني

رغم الدموع في المآقي..

قلت لي لا تبكي يا أمّي

أيها الفرح الأخضر كالعشب

يا ربيع قلبي

أنت رحيق الحياة وكلّ البهاء

أسير في ظلالك أتبعك في تخوم دمشق

وحاراتها وأبوابها إلى محيط الجنوب العظيم

تنام من تعب وكانت ذراعي لك سرير

لم تصمت رياحنا العتيقة

ولم يهدأ قلق حبري يهادن القصيدة

وانت تعاندني على كل كبيرة وصغيرة

مثل شقيّ صغير

تقمّصت روحي وبدوت كأنّك أنا

ياوتيني

يا هِدب العين

ومؤنس الروح

ساغب فمي بالدعاء

ليحرسك رب السماء

***

راغدة السمان - استراليا

الكتب والبحوث أكلت عيونه في دورة العمر التي أمضاها بين كتب الفلسفة والأخلاق والشرائع والسلوك السوي، مضت به السنين حتى عاد بلا أسنان ولا عمل. في يومٍ ما فُتح له باب الحظ بعمل، فرح جدا، وفرحت هي معه كذلك، أخيراً سيخرج منْ كَرْبِ الأيام وعزلته وتقليب أوراق الكتب لرحاب حياة العمل، وتنال هي بعض الحرية أيضا. حين وصل ذلك الباب الملصوق في جدار منزل عالٍ في أحد الشوارع الفرعية من الشارع الرئيسي المكتظّ بالمحال التجارية والمتسوقين والمشاة بشتى النوايا، طرق الباب، فخرجت له امرأة تضع على رأسها "شال" أبيض يتدلى من الجانبين وتحته "شال" أسود يحصر رأسها ليغطي منتصفها تقريبا، وبيدها مسبحة طويلة ومن أصبعها الوسط في يدها اليمنى التي وضعتها على صدرها حين ردّت عليه التحية لمعت خرزة خضراء عاكسة لون الشمس:
- أهلا بك أيها الرجل الجليل قالت له:
- شكراً لك، أتيت طلباً لفرصة العمل التي أعلنتم عنها في الصحيفة المحلية.
- أهلاً بك، تفضّل إلى داخل المنزل.
في الممر الواصل بين الباب والمكتب أخذت تردّد كلمات الترحيب به ثم أشارت له بالجلوس بعد أن دخلوا المكتب. أخذت مكانها خلف طاولة مكتبها الخشبية ذات اللون الخمري الغامق، لوحة منمنمة لسورة يس بغلاف زجاجي، فوقها، زينت الجدار، وعلى جانب الجدار الآخر لوحة كبيرة من دون أيّ إطار، فقط لوحة ورقية لمنظر جبلي، انحدر منه شلال بمياه يشابه تطايرها لون الحليب، حلقت فيه بعض الطيور والماء نازلا متكسرا على الصخور الكبيرة، فيما غطّى البلاط بألوانه الزرقاء والبيضاء أرضية المكتب، الذي ملأ جوّه الهواء البارد الصادر عن جهاز التبريد على عكس ذلك الهواء الحار الذي يلفح الوجه في الخارج، جلس أمامها تماما يفرك بيدية متمتماً بالشكر، فيما هي تردّد كلمات الشكر والترحيب به بصوت عالٍ حين قطع خلوتهما رجل كبير السنّ دخل المكتب في تلك اللحظة بـ"صينية" وضع عليها كوبين من الشاي، وتوسطهما كأس من الماء، ساد صمت للحظات، كسره صوتها بحديث عام عن الحياة ومشاكلها والبشر وطبائعهم والجو وحرارته، وغيرها الكثير، فيما هو يجلس أمامها منصتاً، أضافت بغتةً:
- يمكنك البدء بالعمل لدينا من الغد، وبراتب جيد، وقدره سبع مائة دينار، تبدأ الدوام من الساعة الثامنة صباحا، وينتهي الساعة الخامسة مساء، ولك ساعة استراحة للغداء، وربع ساعة للإفطار، وجبتَي الطعام مجانية، يوم الجمعة يوم عطلة طبيعي، ولك إجازة سنوية لمدة شهر براتب مدفوع، فضلاً عن ستة أيّام مدفوعة أيضا كإجازات مرضية إن حصل أيّ مرض لك خلال عملك أو لأحد أفراد عائلتك.
امتيازات كثيرة برغم عدم معرفته لطبيعة مهماته اليومية، ولكن الامتيازات دفعته لإعلان موافقته على العمل والبقاء صامتاً مصغياً لها حين عاودت الحديث ثانية. نهض مودّعاً وروحه تنتفض من الفرح بهذا العرض المغري للقبول بالعمل.
يمضي يوم العمل في مكتبه ملتقياً بنساء زينَّ وجوههنَّ وسبلنَّ شعرهنَّ الذي يغطيه من الأعلى شال مفتوح مقصب بخيوط ذهبية، فيما خطوط كحلة العين تسرق النظر منه وتعمّق العين الأخرى، فيمضي يوم عمله وكأنه طبيب نفسي لهن، وجوه تتكرر، ووجوه جديدة، جلسات تنقطع وأخرى تتواصل، دموع وأهات في جلسات وضحكات بأصوات عالية وغنوج في أخرى، فيما هو يمضي يومه بالحديث الذي لا يقطعه إلا طقطقة خرز مسبحته، وأحيانا ضحكات غاوية أو مستخفّة من تلك النسوة، حتى حين يصل منزله، يكون قد فقد قدرته كلياً على الحديث مع زوجته، فيبقى صامتا متأمّلاً، والسؤال الذي يتكرر كثيرا بداخله هو ما هذا العمل؟ وما هو الخير الذي قالت له إنها تودّ تقديمه للناس؟ ذات يوم وبعد إفطاره في المكتب، وبعد أن تلذّذ بكأس من الشاي، طرق باب مكتبه، فنادى على الطارق بأن يتفضل.
فتح الباب، وطلّت من خلفه امرأة طويلة القامة، يزيّنُ قدها الممشوق فستان حريري أزرق غامق مفتوح من الجانبين حتى الركبة، وفتحةٌ الصدر بان منها وادٍ عميق، تلجلجت ضفتاه كفجر يوم مثلج وضاع في انحناءاتهِ خيوط بقايا ليل ينادي للعيون بالسهر، انحناء منحسر بين جبلين حتى المنتصف، وتباعد قليلا عن رقبتها منحسرا على أطراف كتفيها، وشال سمائي مقصّب بخيوط فضية وقليلا من حمرة الشفاه والخدين وكحلة عينين أضافت لعينيها وسعاً وعمقاً وسحراً…
- تفضلي استريحي…قال لها.
- شكراً لك يا حضرة.
- عسى أن يكون الأمر خيراً.
- سمعت بأنك تنصح البشر الالتزام بالشريعة، في هذا المنزل الذي نعيش نحن فيه، قالت له. اعتلت حاجبيه قليلا، وفتح فمه استغراباً بعض الشيء، وجحظت عيناه وهو يردّد بداخله، يعشنَ في هذا المنزل، جميعهن يا إلهي!!
- يمرّ علينا يوميا أشكال مختلفة من الناس قالت له الفقير، الغني، الطيب والشرير، فاعل الخير والقاتل، من يترك لنا ذكرى ومن نكرهه إن رأيناه مره أخرى، أو من نبكي غيابه إنها قسوة الحياة أيها الشيخ الجليل، أنت تعرف قسوة الحياة؟؟
ولابد لمن تعمل هذا العمل في خدمة الزبائن أن يحصل معها بعض القضايا الطبية وأخرى نفسية اِجتماعية، والتي لا تنتهي إلا بالجراحة، تعبتُ كثيرا منها أيّها الشيخ، لهذا أتيت لأسألك، وهنا تهدل فمه تماما، لو مرّ طير لدخله بيسر وليس ذبابة وسال خيط لعاب منه من دون أن يشعر إلى حين مدّت هي بيدها ومسحته بمنديلها، فيما يدها الأخرى توسدت بين فخذيه، لم تعود طقطقة مسبحته تسمع ولا تلك الجمل، جمل الاستثابة والاستغفار التي يردّدها بين الحين والآخر، فيما هي تلتصق به شيئا فشيئاً، حتى فاجأ الضوء طرق الباب القوي، حينها نهض على عجلة وصوته يرنّ في الجدران مسبحاً مستغفراً قائلا: يا ابنتي عليك الحضور لمكتبي في الأيام القادمة، وبذات التوقيت داعياً المولى أن يمنحك الصحة والعافية.
***
كريم شنشل
من المجموعة القصصية – نثار الروح.

أيها الطاغية

عندما انزاح الستار

ورأيناك لأول مرّة

تسكب من الزجاجة ابتسامتك المائعة

لم تكن يومئذ أصابعك قد ضُفرتْ حبالاً

ولم تتحوّل مساماتُكَ مزاغل للقنّاصة

كنتَ وديعاً كطفل وِلِدَ من قلب نبتة الخس

عندما كنا ننظر لأصابعِك التي تموع من التوهج

نظنّ أن الشموعَ صالحة للأكل

لكنك كبرت فجأة

وصارت كلماتك الأولى

تُنافس أسنانك اللبنية على مضغ الحصى

يومئذ خشينا أن تختنق ببلع لسانك الصغير

فرحنا نزقّك بألسنتنا التي هرّأتها الأشواك

كانت نوايانا طيبة

لكننا بغبائنا الموروث

أعطينا مفاتيح قلوبنا لغير المؤتَمنين

فصاروا يؤجرونها شققاً للقتلة واللصوص

وها نحن اليوم ندفع ثمن أخطائنا

**

لقد دللناك كثيراً أيها الطاغية

إستبدلنا مفاصلك بالبراغي

وشرايينك بأسلاك الضغط العالي

كان أملنا أن نحوّلك إلى مولدة طاقة

لنضيء المستقبل بإيقاعات خطواتك المتوهّجة

لكننا أخطأنا

بإعطائك جرعات مضاعفة من الأناشيد والهتافات

فتصلّبتْ في أعماقك

متحوّلة لأكوام من الشتائم

وبذلك كان علينا أن نحملك على رؤوسنا

لنتقي ما يتطاير من فمكَ من الفايروسات

**

نحن صنعناك أيها الطاغية

وسمحنا لخرافك المسلّحة

أن ترعى بمفارق شعرنا

ثمّ رحنا نجأر بالشكوى

من لزوجتك التي حرمتنا من الحركة

تُرى كيف غفلنا عن الدُمّلة

حتى تضخّمت وابتلعتنا

نعم ، نحن صنعناك

ونفخناكَ

حتى صارت رئتاك

تمتصّان كلّ ما في مستقبلنا من الإبتسامات

***

شعر: ليث الصندوق

الاهداء: الى جامعِ أبناءِ الفراتينِ في سمتِهِ واسمهِ

علي بن أبي طالب

***

رأيتُ ما لمْ يرَ الأجنابُ والعرَبُ

كواكباً مِن مداراتٍ لها تثِبُ

*

ترومُ أعلى مقامٍ كي يصافحَها

! قلبُ الاِمامِ عليٍ: انَّهُ العجبُ

*

أسفارُهُ في سماءِ العدِل أجنحةٌ

 أخبارهُ: ضجَّتِ الدنيا بما تَهَبُ!!

*

راموهُ صفراً ولكنْ في الحسابِ أتتْ

اصفارُهُ في يمينِ الرَقمِ تنكتبُ

*

فسجَّلتْ في رَقيمِ النبلِ أروعَهُ

فكانَ وهباً تعدّى جودَ مَن وَهَبوا

*

وكانَ في العشقِ سِفْرٌ خالدٌ ألِقٌ

قالَ الرواةُ بِهِ ....... قالوا وما كذبوا

*

يا ابنَ كوثى أما يكفي العراقَ مدىً

 بأنَّ حيدرةً ابنٌ لَنا وأبُ!!

*

وانَّ أنبارَهُ بالكوفةِ اتحدتْ

 ومنهُ بَصرةُ ماءِ اللهِ تنسكبُ!!

***

شعر: كريم الأسدي..

................................

ملاحظة: زمان ومكان كتابة هذه القصيدة في اليوم الرابع عشر من كانون الثاني 2025 ، في العراق.

هَلْ قُلْتُ أُحِبُّكَ مِلْءَ الْاِشْتِهَاءِ؟؟

لَا تَلُمْنِي إِذَنْ لَوْ صَارَ جَسَدِي فَاكِهَةَ نَبِيذٍ

لَا تَلُمْنِي، لَوِ اعْتَصَرَنِي الشَّوْقُ عِنَبًا

وَتَمَدَّدْتُ فِي عُرْيِ التَّكْوِينِ شَهْقَةً

لَنْ أَسْدِلَ السَّتَائِرَ لِحُضُورِكَ

وَلَنْ أَقِيمَ دَاخِلَ قَوَانِينِ الْقَبِيلَةِ.

أَنَا هُنَا وَطَنٌ مُشَرِّعٌ عَلَى غَابَاتِكَ

لَا حُدُودَ لِعَيْنَيْكَ حَتَّى الْأَسْرِ وَالذَّوَبَانِ.

مُتَنَاسِقَانِ تَمَامًا دَاخِلَ الْجُنُونِ

رَغْبَةٌ عَمْيَاءُ تَقْفِزُ دُونَ تَعَثُّرٍ

تُدْرِكُ طَرِيقَهَا إِلَى دَائِرَةِ الْاِحْتِرَاقِ

هَا أَنْتَ كَبِيرٌ جِدًّا فِيَّ

مُسْتَمِرٌّ فِي الطُّوفَانِ

وَأَنَا زَنْبَقَةٌ غَرِيبَةٌ تَحْمِلُ مِيَاهَ بَحْرِكَ

وَتَتَدَفَّقُ بِالْيَنَابِيعِ كُلَّمَا تَوَغَّلَتَ

كَأَنِّي آخِرُ الْمَوَاسِمِ

آخِرُ خَصْرٍ يُنْبِتُ الْقَرَنْفُلَ

أَرِيجُهُ يَعْبُرُ أَسْوَارَكَ...

*

تَسْأَلُنِي نِصْفَ مُغْمَضٍ

عَنْ طُقُوسِ الْأَمَازِيغِيَّاتِ اللَّوَاتِي

غَسَلْنَ أُنُوثَتَهُنَّ فِي تَجَاعِيدِ النَّهْرِ

وَمَشَّطْنَ شُعُورَهُنَّ بِأَسْنَانِ اللَّيْلِ

تَسْأَلُنِي عَنْ نَبِيذِ النَّخِيلِ الْمُصَفَّى

كَيْفَ أَصْبَحَ أَكْثَرَ حَلَاوَةً

يُسْكِرُكَ كُلَّمَا دَنَوْتَ أَكْثَرَ

تُفْرِغُ كُؤُوسَكَ حَدَّ الثُّمَالَةِ

تَرْفَعُ رَايَةَ الْعَاشِقِينَ

وَتُسْنِدُ عَيْنَيْكَ عَلَى غَرَقِي وَارْتِبَاكِي

*

كَأَنَّكَ تُدْرِكُ أَنَّنِي لَا أُجِيدُ الْكَلَامَ

حِينَ تَنْعَطِفُ بِنَشْوَتِي

وَتَرْفَعُنِي فِي سُكُونٍ مُذْهِلٍ

كَطَائِرَةٍ وَرَقِيَّةٍ

أَتَجَدَّدُ فِي سَمَاكَ

أَغَنِّي…

أَرْقُصُ حَافِيَةَ الْوَجَعِ

فَنَمْضِيَ مَعًا رِعْشَةً وَاحْتِرَاقًا…

***

الشاعرة والفنانة التشكيلية سليمى السرايري

تونس 

في زاوية الريحِ،

تتهجّدُ الظلالُ

ترسمُ وجوهًا

لم تُخلق بعد،

أمضغُ الغيمَ

خبزا قديما

أعبرُ النافذةَ بلا جسدٍ،

أصافحُ قمراً

يُغيِّرُ ملامحهُ كلَّ ثانية.

الوقتُ سلَّمٌ

من ريش العصافير،

يبتلعُ خطايَ

نحو الأفقِ الأزرق،

حيثُ الأشجارُ

تبوح بالألوانِ،

حيثُ الغرابُ

يعزفُ على أوتارِ السرابِ

موسيقى لم يسمعها أحد.

أكتبُ رسالةً للمطرِ،

أرجوه

أن يُطفئَ الجمرَ في عينيّ،

يضحكُ،

يرقصُ،

يتناثرُ

حروفا بلا معنى،

أحلاما هاربة

من رأسِ نائمٍ

في العدم.

حين تميد الأرضُ بأقدامي

أعرفُ... لستُ هنا

أعرف

أنَّ المرآةَ التي أنظرُ فيها

ليست سوى

باب مفتوح

على العدم.

***

كريمة بن مسعود – شاعرة وفنانة / تونس

ثلاث قصص قصيرة ..

البئر والسور ..
كان يمخر عباب الكثبان، توقف برهة عند حافة بئر ليلتقط انفاسه، وضع اصبعه في جوف إذنه واخرج رملا، كانت الريح تصفر حوله، أحس ببضع قطرات تسيح ببطئ، مد لسانه فوق شاربه الكثيف ولعق، فتحسس مذاقاً مالحاً، بصق على الارض، تلقفت حبات الرمل تلك (الرشه).
كانت الاشياء صماء تماماً إلا من عويل الريح، الكلاب تنبح نباحاً غريباً وعجلات العربات الخشبية تحفر خطوطاً على الرمل، احياناً تبدو متوازية واحيانا متقاطعة وبعضها قد توقف تماماً، يعتقد انها لا تصلح واخرى مغمورة بالرمال لحد العنق، تدفعها الريح وهي تصفر وكلبه الكسول ينظر بعين نصف مغمضه. أتكأ في ظل عجلة العربة ووضع لفافة التبغ بين شفتيه الغليضتين ونظر الى البعيد.
اخذ تفكيره يسرح بعيدا، كيف كانوا يغتصبون البئر منذ اعوام طويلة، وكيف عبروا الصحراء الاف المرات ووضعوا عليه حراساً، وأعلنوا أن الاقتراب من البئر جريمة، حتى في كثير من الاحيان، ينسى إنه كان مسجونا في هيكل احدى العربات المطمورة بالرمل. أخذ يعب هواءاً تفوح منه رائحة غريبة ممزوجة برائحة التربة، وبعد أن ملء صدره الهواء الحار سلك طريقا اخر كان يخلو من اثار الاقدام وكان الرمل ينساب كالأفاعي بين الاخاديد وتموجات الكثبان بجنون وحركاته دائرية ترفع الرمل حلزونيا الى الاعلى وتقذف به بعيدا ليتشكل كثبانا .. كانت رشات الرمل الحار تلفح ظهره المنحني وعبائته الرمادية اللون مطمورة في الرمال .. من يدري ربما سيدفن اذا ما ظل ساكنا .. هو لا يفكر إلا بإرواء عطشه ينظر الى ألبئر فيرى في قعره بقعة لآمعه لا غير ويتمنى أن يرتشف منه، ولكنه لا يدري ماهية البقعة اللآمعه..!!
تنفرج شفتيه المتشققه المطلية بلون الملح وكان صوته أجشاً واصوات الكلاب كانت تتنائى الى سمعه من بعيد وأكوام كبيرة من القش تبدو من بعيد بيوت اشبه بالقبور التي يسمونها القرية وكانت اسوار البئر محمية بنصال البنادق الموجهة الى تلك البيوت، وقالوا يومئذ سوف يجف البئر يوما، وكان يغمر بيوت الحراس غطاء دائري هزيل من الضوء الأصفر يقترب من البئر، يستطيل سور البئر وتسقط في دائرة الضوء في القعر وجوه شاحبة ..
سأل نفسه : ما اذا كان الظل قد يدفع الى الوهم؟
كان يحمل فانوصا بيده اليسرى وفي اليد الاخرى سلاحه الصدئ وقد ترك خلفه ظلا كبيرا، عندها صمم على ان يهاجم سور البئر لوحده وفي اليوم التالي قذفوا بجثته في احدى العربات المهجورة..
كان ظل السور يحتضن بقعة الدم الغائرة في الرمل وهو قد تجاوز اسوار الواقع والعرق يتفصد من جبينه العريض الملسوع بوهج الشمس ..
هل تعرف هذا الرجل؟ وتامله بفزع خفي ؟ وأجاب، لا ادري .
انغرزت عيناه في وجهه المتجهم .. وتمتم مع نفسه : ربما وراء
السور يكمن الضوء، نعم سمعت انهم سيحرقون كل العربات التي تمر بالسور.
كانت بيوت الطين تنتحب، الاحياء الاموات، حين قال : لولاهم لما استنارت بيوت، وأضاف، أتذكر جدي لم يفتح عينيه الا مرة واحدة يفتش عني .. آه، لقد نسيت ان جدي قد مات .
الظلال تغمر الارض والقمر يدس حزمة من الضياء بين هياكل العربات المغمورة بالوحل وثمة هياكل عارية اخرى بدت اضلاعها تعكس ظلالا مقوسه ..
استوقف نفسه: اسمع .. ما ادرانا، انهم سوف لن يتركوا هيكلا دون ان تمسه نيرانهم انهم يريدون ان يجففو البئر حين ينقلوه في عرباتهم الخاصة وهل رأيت تلك العربات التي تحمل لوحاتها ارقاماً غريبة لا نعرفها، تلك العربات محروسة ببنادق يحملها بعض منا ..
آه، من هذا البعض.
وحين تهب العاصفة وتغمر بالوحل قرى الطين المجاورة وسور البئر وكل شيء سيطلقون النار في كل الاتجاهات ويتم الاجهاز بدعوى الخوف من العاصفة وحماية البئر وحين تبتلع العاصفة صراخ الناس ودوي البنادق تظهر إحصائيات الموتى ليشبع حراس البئر وبالتالي اصحاب العربات الغريبة.
اللعنة عليك ايها السور..
لقد تذكرت احدهم يقول: يا إلاهي كم عشقت ذلك العطر الذي يفوح من جهة البئر ممزوجا بالرمل والحرارة وعرق الجسد الذي ينز .. سمع في داخله ضحكة مكتومه انفجرت ثم اختفت بفعل صفير الريح المزكومه ورشاش الرمل كل شيء كان يصفر في جوف البئر.
وأضاف يهمس مع نفسه .. عبرت الصحراء مئات المرات ودخلت غابات النخيل واحصيت خطوط العربات المتقاطعة والمتوازية وتظل الصحراء مملوءة بالخطوط.
ملء صدره هواء حارا، غير وجهته وسلك طريقا اخر ليس فيه آثار لاقدام، ثم انسلخ عن جلده وهو يهرش فروة راسه الترب.. صراعه كان في درب شائك امام جدار لا تزعزعه قبضة يد واحده.
**
الإلتصاق وموسيقى السلالم..
لم ينتظرا اشارة الضوء الاخضر وعبرا الشارع متلا صقين، كانت تخفي يدها اليسرى تحت قميصه الأبيض تتحسس ظهره بشيء من الليونة، ويده اليمنى كانت تتدلى على صدرها النافر الذي يبرز تكوره بشكل يبعث على الاثارة امام الحركة اللينة التي تحدث تحت قميصها الازرق .. انتصبا قامتان رشيقتان عند ركن الشارع الذي يفضي الى حديقة (لانغ فور هاوت) الشهيرة باشجارها الضخمة المعمرة وتحت ظلالها ساحة لمقهى اعتاد في مساء كل أحد من ايام الاسبوع اقامة استعراض لفنانين في الهواء الطلق راقصون ورسامون تشكيليون وانطباعيون.
وبحركة واحدة إلتصقا في جسد واحد .. عبثت بشعره ألأشقر المتدلي على كتفه، وبين الحين والاخر يظهر انحناء ظهرها الابيض المشبع باللون الوردي وبين اقدامهما اوراق الاشجار المتساقطة صفراء وبنية تداعبها الرياح كموسيقى .
**
البحر والسروال ..
هبط السلم وبه شيء من الفرح الغامر وفي المدينة الشيء الكثير من مظاهر الإحتفالات ولم تكن لديه اية فكرة عن الايام التي سوف يقضيها طالما لم يحن الوقت بعد ولكنه كان متهيئ ذهنيا لاستقبال بعض الاصدقاء وعندما كانت السيارة تنهب الارض استوقفته لحظات من سحر الطبيعة وكم كان متشوقا ان يحتفض بتلك اللحظة ولكن سرعان ما طوتها الطرق المعبدة التي تنحدر نحو غابة (شخيفننخن) التي تطل على البحر بهدو يبعث على الراحة .. وحين بلغ طريقا ترابية تفرعت إلى طريقين نحو الغابة سلك احدهما وتاه، استوقفته بنادق رشاشة: إلى أين أنت ذاهب لكنه لم يفهم شيئاً من تلك اللغة وحين تحدث الإنكليزية كان الجواب إنك دخلت منطقة محظوره وعليك ان تسلك الطريق الاخر وعند هبوطه المنحدر الترابي التمعت أجساد تحت وهج الشمس إنه ساحل العراة، وبدلا من الرجوع تسلل إلى ركن منزوي في الأعلى يراقب بنشوة بالغة، وهو في إسترخائه ونشوته انتبه إلى ظل ضخم فوق رأسه : لماذا لم تخلع سروالك ؟
أنا لا اجيد السباحة ..
اخلع سروالك وتنعم بأشعة الشمس، فهذا الساحل هو للعراة ..؟!
***
د. جودت صالح العاني
10/ آذار / 2025

 

أريد أن أكتب قصيدة،

قصيدة تخرج من رحم الضوء عارية من الضمائر،

تتسلل من بين أصابع النحو وتكسر ضلع الجملة الفصيحة.

قصيدة تهرب من سجن الحروف الكبيرة والصغيرة،

لا تنحني تحت سوط القواعد

ولا تصطف في طابور علامات الترقيم،

*

أريد أن أكتب قصيدة

لا تعرف معنى البداية ولا تؤمن بالنهايات،

تتمدد كظل شجرة متعبة على إسفلت يذوب في شمس أغسطس.

*

قصيدة تتمطى كسحابة ثقيلة على أكتاف الريح،

لا تلتزم بحدود السطور

ولا تخشى السقوط من حافة الورقة.

*

أريد أن أكتب قصيدة

قصيدة بلا رأس ولا ذيل !

قصيدة تسير على أربع أقدام ثم تطير !

قصيدة تحمل عيونها في راحة يدها،

تغمضها متى أرادت وترسم بها نهاراً جديداً متى شاءت.

*

قصيدة من لحم المعنى وعظم المجاز.

قصيدة ترقص عارية تحت مطر لا يتوقف،

وتضحك في وجه الكآبة كنافذة مفتوحة على البحر.

*

أريد أن أكتب قصيدة

تنسى نفسها في منتصف الكلام.

قصيدة تنسى أنها قصيدة

وتتحول إلى امرأة تمشي وحدها في شارع مزدحم،

إلى موجة تبتلع سفينة ثم تنساها،

إلى طفل يتسلق الهواء ويضحك،

إلى قط أسود يتسلل بين الأزقة، ويغير مسار الحكايات.

*

قصيدة تهدم اللغة وتبني مدينة من الفوضى.

قصيدة تكسر المرآة وتترك الوجه في ضياعه الجميل.

قصيدة تفتح قوساً ولا تغلقه

تترك الجملة معطلة في منتصف الطريق.

تمضي... ولا تلتفت...

***

مجيدة محمدي – شاعرة تونسية

حين كنا نحبُّ،

كنا نشعر أن الحب قد تملّكنا،

ننتظر الصباحات تهطل علينا

بعد ليالٍ مثقلة بالكوابيس.

2

كنتُ أتظاهر بالامتلاء،

وأمي التي اعتادت الاستيقاظ مبكرًا

تجهّز لنا خبزًا حارًا،

بحرارة قلبها على أبي

الذي لم يمهله المرض طويلًا.

3

تضع إبريق الشاي على الموقد

وتتظاهر بالفرح،

حتى لا تخدش قلبي

بلحظة حزن.

4

أخرج مبكرًا،

أحمل في جيبي ما يكفي لركوب الحافلة،

وألقي التحية على تلك الصبية

التي كانت تقف في محطة الانتظار،

تتظاهر بعدم الاكتراث،

لكنها تختلس النظر،

وتترك لي أثرًا.

5

غابت المرأة وبقي ظلها،

أينما ذهبتُ وجدتُها أمامي،

كأنها نقشٌ في الهواء

لا يبهت ولا يزول.

6

تخيلتُها يومًا،

تلك الصبية التي تحمل هاتفها،

تنصت لصوتٍ يتهادى عبر الأثير،

فتنتعش بابتسامة،

أو ترتشف قهوتها على مهل.

لكن الضجيج يكسر اللحظة،

سيارة مراهق تعبر مسرعة،

ترتجف يدها،

ثم ترفع عينيها إلى الفراغ،

وكأنها تبحث عن شيء لم يأتِ بعد.

7

تذكّرت ذلك وأنا أقطع مسافة طويلة على قدمي،

الطرقات تمتدّ كأنها تختبر صبري،

أحمل ظلي فوق الأسفلت،

وأحمل معها ذكرى

عالقة بين الأمس واليوم.

8

آخر مرة رأيتها،

كان الدم ينسحب منها ببطء،

ووجهها يشحب كنصلٍ خذلته لمعته.

كانت تريد أن تمنح الجنود بعضًا من الحياة،

لكن جسدها خانه العطاء.

*

مدّت يدها إليّ،

وهمست بصوتٍ هش:

خذني إلى الباب...

*

مشيت بها،

خفيفة كأن الهواء يحملها،

وحين عبرَت العتبة،

تركت في كفّي ندبةً لا تُمحى.

9

بعد سنوات،

لم يبقَ منها إلا ظلّ ذلك اليوم،

تلك اليد المرتجفة الممتدة،

وخطواتها الواهنة وهي تعبر الباب،

تاركةً خلفها فراغًا لا يُملأ.

10

وقفتُ هناك،

عند العتبة التي تركتني عندها،

أحمل في صدري ندبةً،

وفي عينيَّ حزنًا لا يُطفأ.

***

د. جاسم الخالدي

...........................

* حكاية هذه القصيدة واقعية، حدثت في اعوام ١٩٨٣ و ١٩٨٨م. وبين الأعظمية وباب المعظم. يوم كنت طالبا في دار المعلمين، ومن ثم في كلية الآداب.

في نصوص اليوم