نصوص أدبية

نصوص أدبية

بكت الريح

لكنها تكذب

نعم تكذب دائما

حين تصفق بابي

أنهض مذعورة

مَنْ الطارق..؟؟

اسمع صوتها هازئة

الموتى لا يعودون

**

المرآة

وجهه في المرآة يطالعني

كلما أمشط شعري

وفي كأس الماء أراه

وعلى صفحة كتابي

لكن قطارات الرحلة مسرعة

تكاد تلتهم الطريق

وما عاد للعمر فسحة الانتظار

**

هذيان

شحت الريح

وانكسرت المجاذيف

وتاهت أشرعتي

قالوا ان بوح المرأة طيش

فلا تعود صبية

كما يعود القمر هلالا

لكنها تغدو نجمة منسية

تغفو بين سطور الحكايات

ولا تداعب جفنيها الأماني

ولا تغريها حروف قصيدة

**

تتمنى

ان يوقد شموعه من اجلها

وان ينثر في ضفافها

ملامح قصائده

روحها ظمأى

غادرها الفرح

لكن الصدق غاية لا تدرك

ربما حكاياته لا تعنيها

**

أو ربما لامرأة أخرى

وربما قصائده

كذبة من أكاذيب

نيسان

***

نص شعر

سنية عبد عون رشو

 

إلّاها

خاتمتي

يعفّرها نزق

لأقدام بربرية

تهرول

وتهرول

لئلا تفلت من نزقها

خاتمتي

المؤبّنة والمدى

سرادقها

**

إياك أن تعوّلي

عليها

خاتمة يخلعون عليها

وصفا ابتدعوه

ليواروا

نتن أنفاسهم المهرولة

ومضمخها

خاتمتي المغدورة

**

تتلفت بجهاتها الأربع

بحثا عنها

خاتمتي المؤبَنة

والمدى سرادقها

***

إبتسام الحاج زكي

 

تأمل الشاب السيجارة بين يديه وهو يجلس وحيدا على مقعده المتأرجح فوق صفيحة معدنية باردة في ركن من أحد شوارع المدينة العتيقة، حيث تختلط ألوان الأزقة برائحة البخور المبعثرة وعبق الماضي وتمتزج رائحة الدخان بشذى الحنين، هناك، على طاولة صغيرة متواضعة بين جنبات سوقٍ قديم، احتفظ بكنزه الثمين، علبة سجائر بدا أنها تحمل في طياتها أسرار الذكريات وآثار الوعد الذي لا يموت، كان يبدو كمن يحتضن بين يديه عبق الذكريات وآثار وعود لم تخل من الشجن، فقد كانت سيجارته، التي لم يسحب منها نفسا قط، رمزا لعهد منقوش في قلبه، عهد سُطّر على ورق الزمن بحروف مشوشة، نُقشت بدقة على غلافها من قبل أنامل رقيقة سطرت اسمها الذي لا يُمحى.

كانت السيجارة تروي قصة عهد قُطِع حينما وعدها بألا يُشعلها يوما، وكأن نار اللهب قد تكون قادرة على تبديد طيف حُبّ رقيق، فلم يكن إشعالها خيارا أو عادة، بل كانت وصية نابعة من روح عاشقة تحثّه على حفظ ذاك الوعد، فحينما لمست الفتاة تلك السيجارة، شعر بدفء لمستها الحانية، كأنما كانت تعيد إليه نبض أيام مضت، أيام ملأتها الأماني والوعود التي رُويت على شفتيها، كانت قد خطت تلك الحروف حينما خطفت السيجارة من بين شفتيه بلمسة رقيقة، لتكتب عليها حروف اسمها وتُلزمه بأن لا يُشعلها أو يشعل غيرها، وكأنما بذلك تُخلِّد ذكرى لقاء واحد جمع بين قلبيهما رغم كل شيء، فكان يمسُّ سطح علبة السجائر بأصابعه المتهورة وكأنه يحاول استحضار أنفاس تلك الليالي الحالمة التي جمعت بينهما، فيما تتراقص حروف اسمها في ذهنه كأنها أوتار هادئة تعزف لحن الوفاء، لم يكن من عادته الإقدام على إشعال السيجارة، فكلما وقع بصره عليها، تسللت إليه ذكريات عابرة، ضحكاتها الخجولة، همساتها الناعمة، ووعدها العابر بعدم المساس بنيران الذكرى، وهكذا كان يقضي ساعاته في حفظ هذا السر الثمين، محافظا على العهد الذي قطعه لها في تلك اللحظات الخافتة، وعلى السيجارة التي لم تستعر نيرانها قط، معيدا إياها إلى علبتها الوحيدة التي احتوتها منذ يومها الأول، ليضعها أمامه على الطاولة الصغيرة، تلك الطاولة التي تكتظ بأنواع كثيرة من السجائر، وكأنها مكتبة فريدة لحكايات الضياع والذكريات الغابرة، في كل علبة قصة، وفي كل سيجارة رمز لحظة، لكن تلك السيجارة كانت الأقرب إلى قلبه، لأنها تحمل بين طياتها سرّ حب لم يُكتمل، وسرّ وعد كان معلقا بين أنفاس الزمن.

كانت جلسته على المقعد المعدني المتأرجح تتخللها لحظاتٌ من التأمل العميق، لتختلط الأحلام مع واقع قاسٍ، وهو يراقب بعينيه المتعبة امتداد أيادي الزبائن نحو تلك العلب الصغيرة، كأنهم يبحثون عن شيء ما يخفف عنهم وطأة الحياة اليومية، كانت أنامله ترتعش قليلا مع كل حركة يقترب فيها أحدهم من علبة السيجارة، تلك العلبة التي لم تحتوِ سواها، وكأنها قطعة أثرية نادرة تتحدى الزمن، كان الزبائن يحدقون نحو تلك العلبة بتلهف، وكلٌ منهم يدفع ثمن سجائره حاملا في قلبه رغبة عابرة، فقد كان عمله اليومي يتمثل في بيع السجائر، وجمع مبلغ زهيد من النقود، عمل بسيط أصبح ملاذه بعدما يئس من الحصول على وظيفة أفضل في عالم صار فيه الحلم نادرا كما الندى في الصحراء، ومع ذلك، لم يكن قلبه يخلو من متعة مراقبة الوجوه العابرة بين ضجيج الشارع المزدحم كأمواج بحر هائج، ليرتقي ببصره بين حين وآخر حيث شباك صغير في واجهة بناية ذات طابقين تقف على الجانب الآخر من الطريق، كان بمثابة نافذة على عالم آخر، عالم من الأحلام والآمال، فكان ينتظر أن تطل الفتاة بوجهها من ذلك الشباك لتبتسم له بابتسامة عابرة، أو تلوح بيدها بإشارة خافتة تحمل في طياتها وداعا لهموم اليوم الثقيل، وتُنسه تعب النهار.

لكن الانتظار طال، وتأخر الشباك عن موعد فتحه المعتاد، حتى بدت الدقائق تمر وكأنها ساعات، وبدأ الضجر يتسلل إلى قلبه بخفة، وبينما كان يتجول بعينيه بين تفاصيل الشارع، توقفت سيارة فاخرة بلون لامع بجانب الرصيف الذي كان يحتضن خطوات المارة، ليخرج منها رجل أربعيني، يحمل على وجهه ملامح الرفاهية والأناقة، بدا الرجل وكأنه جزء من لوحة فنية، يدور حول سيارته متلفتا يمينا ويسارا، كما لو كان ينتظر بشغف قدوم شخص ما.. في تلك اللحظة، ارتفعت نبضات قلبه، إذ رأى من خلف ذلك الشباك المألوف لمحة بدت كأنها تحكي قصة عشق من عوالم بعيدة، كان وجهها يلوح له من عوالم الأحلام، كما لو أن القدر قد خط لها عودة مفاجئة.. لكن المفاجآت لا تأتي دائما كما تُتوقّع، فسرعان ما تبخرت تلك البهجة، ففي تلك اللحظة العابرة التي كاد قلبه يرقص فرحا على وقع ظهورها، أغلق الشباك بهدوء غامض دون أن تترك له مجالا للنظر نحوها، لم يستوعب ذلك على الفور، فقد اندمجت حيرته مع تشتت أفكاره، حتى بدأ قلبه يشكّل من الحنين جدارا من الألم، وهو يرى تلك اللحظة تختفي كأنها حلم منسي.

لم تدم تلك الحيرة طويلا، ففي لحظة لاحقة، رآها تخرج من باب البناية مرتدية أفخر ملابسها، وهي تخطو بخطى واثقة لعبور الشارع المزدحم، اندفع قلبه سريعا من مكانه، حتى لم يعد قادرا على مقاومة الرغبة في الاقتراب والتحدث إليها ليفهم أسرار تلك النظرات البعيدة، فنهض من مكانه متوجها نحو باب البناية الذي طالما كان مدخله إلى عالم الذكريات، وقبل أن ينطلق نحوها وهو يحمل بين يديه أمل اللقاء الذي طالما حلم به، اندفعت مشاعر الغيرة والحنين معا، حين أمسك بيد أحد الزبائن قبل أن يمدها نحو علبة السجائر خاصته، وتحدث إليه بنبرة صارمة، وبصوت لا يكاد يخفي حدة مشاعره، قال: "إنها لي... اختر أي نوع آخر، إلا هذه العلبة".

كانت كلماته قطرة من أمطار الصدق، تركت الزبون مذهولا، فقام بسحب علبة سجائر أخرى ودفع ثمنها وغادر مسرعا دون أن يدرك عمق مشاعره المتراكمة.

استولى عليه شعور لم يستطع كبحه سوى الرغبة الشديدة في الاقتراب منها والتحدث إليها، ليفهم أسرار تلك النظرات البعيدة، ليسأل عن سبب اللامبالاة التي خطّت ملامحها حينما ابتعدت عن الشباك.. فبدأ يتحرك بخطواتٍ ثابتة نحو منتصف الشارع، وبينما كان يقطع المسافة بينه وبينها، أحس بأن الزمن توقف في تلك اللحظة، إذ مرت بجانبه دون أن تعيره أي اهتمام، غير آبة بوجوده وكأنه كان ظلا لا يُرى، وكأنما كانت تُحاك له رسالة صامتة تخبئ في طياتها وداعا لماضٍ لم يعد له أثر، لم يمض وقت طويل حتى تبلورت مشاعر الغضب في قلبه، غضب سطرته خيبات أمل طويلة، غضب ارتسم على وجهه حينما شاهدها تتسلل بخفة نحو السيارة الفاخرة يتبعها ذلك الرجل الأربعيني الذي بدت خطواته متوترة لينطلق بها وسط زحام الشارع المرصوف بالبشر والمركبات.

بدأت أبواق السيارات تعلو من حوله، كأنها تعبر عن حالة من الفوضى التي تسببت بها لقاءات العشاق في مدينة لا ترحم الأحلام، تداخلت همسات السائقين مع ضجيج الشوارع المتلاطم، وفجأة، سمع صوت أحد سائقي السيارات يصرخ فيه، صوت يأمره بالتحرك من وسط الشارع، فأجبره هذا الصوت على العودة إلى مكانه، حيث جلس منهكا، يرمي بثقله على صفيحة معدنية باردة، وكأنما يهدف إلى التخفيف من وطأة مشاعره، محاولا التركيز في أفكاره المبعثرة لإيجاد تفسير منطقي لتصرفها المفاجئ، لكن محاولاته للتركيز كانت تتلاشى مع كل ثانية تمر حيث لم يجد في ذاكرتِه ما يُبرر تلك اللامبالاة التي بسطت جناحيها على قلبه، ولم يجد سوى فراشات الوعود التي تلاشت مع زحام الحياة.

وبينما كان يقلب بين ذكرياته، تسللت إلى ذهنه صورة العلبة التي كانت تحوي سيجارته الثمينة، في لحظة من الجنون، رفع علبته بوميض من العزيمة والحنق وكأنه يحاول تحطيم القيود التي تكبل ذاك الوعد، عازما على تهشيم السيجارة التي لم يُشعلها قط، لكن ما إن فتح العلبة حتى شعر بأن ما كان يعتزم فعله قد انزاح عن طريق القدر حيث وجدها فارغة، لقد اختفت تلك السيجارة، ليجن جنونه ويبدأ البحث عنها بقلق متوهج بين العلب الباقية التي كانت مصطفة أمامه، يبحث عن تلك القطعة التي كانت تمثل له أكثر من مجرد سيجارة، فقد كانت رمزا للوعد الذي لم يُنس، وللحُب الذي طالما استقر في أركان قلبه، ينقب عن أثرها كما يبحث الفارس عن نجمة تهديه في ليل حالك، لكن محاولاته باءت بالفشل، حتى اجتاحه اليأس وكأنما استسلم لواقع لم يعد يحتمل شيئا منه، في تلك اللحظة، غاب عن ذهنه كل ما يحيط به، الزبائن والضوضاء والأبواق، فجلس هناك، مستريحا على مقعده، غير مبالٍ بمن يمرّ من حوله، مستغرقا في بحر من التأملات العميقة والأسئلة التي لا تجد لها جوابا في زوايا قلبه المكسور.

مرت الساعات ببطء مُرهق، وبدأ الناس يتسابقون عائدين إلى بيوتهم، وتحولت حركة الشارع إلى سباقٍ هادئ بين المارة، حيث تحول زحام السيارات إلى مشهد كأنّه رقصة هادئة لظلال الليل، كانت سلاحف الشارع في أعين البعض تتحول إلى غزلان رشيقة، تجوب دروب الحلم مع مغيب الشمس، حتى وإن كانت تلك اللحظات تبعث على التأمل في مدى هشاشة الأحلام التي تذوب في خضم الزمن، وبدأ الليل يهبط ببطء على المدينة، والأفق يتحول من ألوان الفجر الباهتة إلى ظلال من الظلام تخيم عليها هالة من السكون الخافت، ليتحول النهار إلى ممر مظلم، ومع حلول المغيب خفَّ زحام الشارع وتراجع ضجيج السيارات حتى باتت السكينة تلف المكان، لم يكن معتادا على هذا الهدوء المتسلل، فقد اعتاد على ضجيج المدينة وصخبها الذي كان يعيد له ذكريات الأيام الخوالي، وبدأ يستسلم للصمت جالسا على مقعده، مستغرقا في تأملات عميقة حول فقدان شيء لا يُقدر بثمن.. وفيما كان منهمكا في تفكيره العميق، بدا أن الليل قد أرخى ستاره على المدينة، فاستقر السكون على الأرصفة وتلاشى ضجيج النهار، ليتسلل إلى أذنيه صوت ضحكات خافتة، كأنها نغمٌ مألوف يصافح قلبه بذكريات عذبة، كان صوت ضحكاتها المسموعة من بعيد يرنّ في أذنيه كأنّه همس من الماضي، توقفت السيارة الفاخرة في نفس المكان الذي رآها فيه، وانكسرت حركة الزحام للحظة معدودة، حينما نزلت الفتاة من السيارة بخطوات مسرعة، مرتدية أجمل ما يليق بأميرات الأحلام، وتحاول عبور الشارع الذي بدا وكأنه يحرس أسرار الذكريات، لم يستطع أن يقاوم دافع قلبه، فنهض متحركا نحوها دون تردد، لكن القدر كان له رأيٌ آخر، فقد مرت بجانبه دون أن تعيره أدنى اهتمام، غير مكترثة بوجوده، كأن حياتها قد تجاوزت كل ما كان يربطها بتلك الوعود القديمة، هذا التجاهل جعل غضبه يتصاعد مثل نار مشتعلة في أعماق قلبه، فجأة، تحول كل ما كان يحمله من شوق إلى موجة من الإحباط العارم وهو يراقبها تختفي بين جدران البناية التي احتضنت أسرارها.

لم يمض وقت طويل حتى ظهر الرجل الأربعيني الذي رافقها في تلك اللحظات، متوجها نحوه بخطى واثقة وابتسامة هادئة مفعمة بالطمأنينة لا تحمل في طياتها سوى ملامح التفاهم والعزاء، وكأنه يحمل بين يديه رسالة ما تزال تحمل أصداء اللقاءات القديمة، مدَّ يده من جيبه وأخرج بعض النقود، مرددا بصوت خافت، لكنه كان واضحا في معانيه: "لم تكن موجودا حين أخذت سيجارة من سجائرك وأشعلتها... تفضل، هذا ثمنها".. كانت تلك الكلمات كالسهم الذي اخترق قلبه، محطمة كل آماله بأن تعود له تلك اللحظات التي حملت بين طياتها وعدا لا ينكسر.. تأمّل الشاب في تلك اليد الممدودة، يدٌ تحمل بين ثناياها بريق الوداع والاعتذار، وكأنها تعيد إليه شيئا فقده منذ زمن بعيد، وقف للحظة، مأسورا بين سحر اللحظة ومرارة الواقع، حيث أدرك أن الحياة بكل ما تحمل من مفارقات وأحداث غير متوقعة، لا تزال تكتب فصولها بقلم لا يعرف الرحمة، ليردّد بنبرة مختلطة بين الحسرات واللامبالاة: "يا لبخس الثمن"..

وبينما كان الليل يحتضن المدينة بنجومه الخافتة وكان الهواء يحمل رائحة المطر الوشيكة، وقف بجانب مقعده المعدني، يرنو إلى السماء حيث بقيت صورة السيجارة الغائبة تتردد في ذهنه كأنها لغزٌ لم يحل بعد، وكأنما يبحث عن إجابات لأسئلة لا تزال تُثقل كاهله، لم يكن يبحث عن مبرر لتصرفات الآخرين، بل كان يبحث عن نفسه في مرآة الزمان، عن ذاك الجزء الذي ظل متمسكا بالوعود رغم أن العالم حوله قد أصبح يهدمها قطعة قطعة، ليدرك أخيرا أن لكل شيء في هذه الحياة معنى، حتى وإن بدا صغيرا أو ضئيلا كما هو ثمن السيجارة التي فقدها.

***

جليل إبراهيم المندلاوي

سهــــران بتُّ وقــــد دنا الفجـــرُ

فإذا شكوتُ إليـــكَ لِـــي عــــذرُ

*

أنــا مثلُ موجــــكَ في تقلّبــــــهِ

قَلِـــقٌ فحــالي المدُّ والجـــــزرُ

*

مــــا للنوارسِ أقبلتْ زُمـــــــرا ً

لمّــــا التجأتُ إليكَ ما الأمـــــرُ

*

هـــلْ عــنْ بثينــــةَ َ عندهـا خبـرٌ

هـذي النوارسُ أيّـهـــا البحْــــرُ

*

فتّشـــتُ عنهــا فـــي مواطنهــا

فـــي البيْــدِ لا أثـرٌ ولا ذكْــرُ(1)

*

ومضيــتُ أبحــــثُ دونمـــا كـلـل ٍ

سيّـــان عندي السهْـلُ والوعـــرُ

*

وخُطــــايَ مِــنْ وادٍ إلى جبــــلٍ

تقتـــــادني ويضلّنــــي الفكــرُ

*

فـإذا أنــــــا في القفْــرِ ملتحِـــفٌ

وجْــهَ السمـا ووسادتي الصخْرُ(2)

*

والبـــدرُ مِن فوقـــي أراقبُــــــهُ

وأودُّ لــــوْ يتكلّــــمُ البـــــدْرُ

*

فلطــالمــا فاضــــتْ مشاعـــرنا

بطلوعِــهِ فشـــدا بها الشعـــرُ

*

وكرمشــةِ العيــــن انقضى زمـنٌ

وأتــــى زمــانٌ آخــرٌ مُــــرُّ

*

فمرضـــتُ أسبوعيـــنِ بعدهمــا

قـد نمــتُ نومـــا ً طولـهُ دهــرُ

*

كمنـــامِ أهــل الكهــفِ ، مثلهــمُ

لـمْ أدرِ حيـنَ أفقــتُ ما العصــرُ

*

وكأنَّ مـا قد عشـــتُ من عُمُــري

حُلـــمٌ مضـــى لمّـا بدا الفجْـــرُ

*

أبصرتُ دنيـا ً غيـرَ مــــا ألفــتْ

عينـــي كمـــا لو مسّني سحْــرُ

*

كانـــتْ بلادا ً لســـتُ أعرفـــها

مـِنْ قبــلُ مـا عنــدي بها خُبْــرُ

*

هــيَ لمْ تكُـنْ وطني الحجــاز ولا

شــيءٌ يدلـلُ أنّــــها مصـرُ (3)

*

بالحزْمِ قـــدْ عُرفــــتْ مليكتُهـــا

في الناسِ لا يُعْصــى لهـا أمــرُ

*

فذهبـتُ ألتمـسُ اللقــــاءَ بهــــا

قــالوا ستأذنُ إنْ مضــى شهْــرُ

*

الشهْـــرُ مــرَّ ونلتُ أمنيتـــــي

تـمَّ اللقــاءُ وضمّنــــا القصْـرُ

*

أبصـرتُ فيـها صــورة ً نطقــتْ

لبثينـــــة ٍ فانتابنــي الذعْـــرُ

*

فجميــــعُ ما فيهـــــا يُطــابقها

الوجْــــهُ والعينــانِ والشعْـــرُ

*

نظــرتْ إلــيّ فخلــتُ نظـــرتهـا

نفَـذَتْ إلى ما يضمـرً الصـــدْرُ

*

وســرتْ بجسمــي رعْشـة ٌ عَجَبا ً

وكـأنَّ فيــهِ قــد سرى القــرّ(4)

*

فهتفتُ إنّـــي يا بثينــــةُ مَــــنْ

قاسـى هـواكِ ومسّــهُ الضُــرُّ

*

ضحكــتْ وردّتْ وهْــيَ ساخــرةٌ

ماتـتْ بثينــــة ُ أيّـها الغِــرُّ(5)

*

فسقطـــتُ مغشيّـــا ً علـيَّ كمــنْ

صرعتــهُ أوّلَ شــربه ِ الخمــرُ

*

وإذا بصـــوتٍ راحَ يوقظنـــــي

انهـضْ فعنـدي يُعـرفُ الســرُّ

*

مـَلـك ٌ بثينــــة ُفي الســـماءِ ثوى

لا لـــمْ تمُـتْ مــا ضمّها قبْـــرُ

*

هـــيَ زهْـــرةٌ علــويّـة ٌ وجِدتْ

مِـنْ قبــل أنْ يتفتّـــح َ الزهْــرُ

*

هـيَ في الزهـــورِ جميعها عبــق ٌ

فـي كلّ منديـــل ٍ لهــا عطـــرُ

*

لكنّ  صوتــــا ً جــاء َ مُعترضـا ً

مِـنْ داخلــي ..... ما هكذا الأمــرُ

*

هــــيَ طينـة ٌ للأرضِ مرجعـهـا

أحببتهــا فسمـــا بهــا الفكـــرُ

*

أغـــراكَ شئٌ غيــر صـــورتها

فهـيَ البراءةُ زانــــها الطهــرُ

*

فاصـــدحْ بشعركَ يــا جميـلُ فمـا

فـي الكون ِ إلّا الحـــبُّ والشعْـرُ

*

الحـــبُّ خمـــر ٌ غيـرُ خمـــرتنـا

الحـــبُّ دنيــا ً كلّــها سُـكْــــرُ

***

جميل حسين السـاعدي

......................

(1) البيد: جمع بيداء وهي الفلاة أو الصحراء

(2) القَفْــر: الخــلاء من الأرض لا ماء فيه ولا ناس ولا كلأ

(3) الحجاز هي موطن الشاعــــــر جميل بن معمر وبثينة، أما مصر فهي المحطة الأخيرة في ترحاله، بعد أن توعده عامل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وهناك مرض بسبب فراقه لبثينة وتوفي

(4) القــرّ: البرد

(5) الغِـرّ: الذي خُدِعَ فانخدع

 

ها أنا ذا...

رعشةُ غَيثٍ شاردةٌ

أُداعبُ رفيفَ أَحلامكَ...

إيماءَةٌ مُبَلَّلةٌ بالنَّدى

أُهامسُ رموشكَ

نَشوةُ شوق ٍ تدحرجتْ

على درجِ الكاميليا

لتوقِظ نغمَ الذكرياتِ

اسْتَيقظْ يا حارسَ الشَّمس

إنَّهُ كرنفالُ الوطن..

إنهُ عُرسُ الحرِّيَّة

تَسَلَّقْ إلى هِضابِ فردوسي

وراقصْني

على أَوتارِ الشَّمس

تَنَفسْ من رئَتيّ

اِنْهلْ من ماءِ أَسراري

واختَبِئْ بين جَفنَيّ

كي لا يلمحُكَ اليَأسُ...

يأسرني طيفُكَ يا اِبنَ المُلَّوح

خُذ روحي ملجَأ ً

لاِنكِساراتِكَ...

وعمري فانوساً سحريًّا

لتَنهيداتكَ

واستَنِدْ إلى دفئِي

سأُدوِّنُكَ في وجدانِ نَخيلي

عِشْقاً أَبديًّا

وأُهدي إليكَ أُنشودةَ النَّصرِ

ضَلَّ الياسمينُ

فاختبأَ في أَنْفاسكَ

وَتاهَ اللُؤلؤُ في أَعْماقِكَ..

آهٍ .. آهٍ...

صمتُ عينيكَ تاريخِي

أَنْا عصفورتُكَ الدَّمشقِيَّةُ

ليس لي مأوىً

خارجَ مقلَتَيكَ

أَنا   جوريَّتُكَ اَلاِسْتثنائيَّة

ليس لي ندىً إلاَّ من شفَتَيكَ..

لأَجْل آهاتكَ أَنا مُعجَمُ حَنينٍ

لأَجْلِ خَفق ِ قَلبِك

أَنْا مَملَكةُ أنوثَةٍ..

لأنَّك مُعَتَّقٌ

بِنبيذِ الأُسطورةِ

أَنت ملحَمَتي

لأنَّكَ تَمْخُرُ عُبابَ البَحرِ

بأَجنحَة النوارس

أَنْا "ماريا" الحُلم

ولأنَّكَ تَنحَرُ اَلرِّيحَ أَنتَ فارِسي..

لأَنَّكَ قُربانُ المحبةِ أَنْتَ وَطَني..

ولأنَّكَ حبيبي أنا أَحيـا

***

سلوى فرح - كندا

 

اِسْقِني…ورَنَتْ اِسْقِنِي

طَفَحَ السّيلُ لَمّا سَقَا

*

صَبَّ فَيضًا على ظمإ

فَاِرتوَى الزّرعُ وائْتلَـقَا

*

والْبَـسَاتِــينُ اِزّيَّـنَـتْ

حُسنُها لاحَ إسْـتَـبْـرَقَـا

*

ضَمَّها ضمَّةً هَــزَّهَا

قَـدُّها مَائسٌ مِـنْ نَـقَـا

*

وَرْدُها فَتح واِنتَشَى

غُصنُها بَـعْـدمَـا أوْرَقَـا

*

مِثلُهُا شَهْدةٌ رَشَحَتْ

قَطرَةً…قَطـرَةً…شَبَقا

***

سوف عبيد - تونس

 

مٍنْ شقٍ خيوط الشمس

يأتي الصوت هفيفاً

فياضاً بالهمس..

وعند هبوط الليل

كانت (إنانا)*

شامخة في ظل شجيرة توت

كان الحس رهيفاً

حين انضمت

أصابع (إيفيدي) آلهة الحب

وأصابع بابليو نحو المجد

هروباً من وكر الصخب..

فبان الوحش خلف شجيرة توت

سقطت إنانا أرضاً

(فخر) الدم فوق العشب

وسالت بضع قطرات

مست عصبتها

بنقيع الدم

لم يدرك بابليو ان السقطة عابرة

لكنه، أيقن أن الوحش

لم يترك (أيفيدي) عشيقته تهرب

خلف سحابات الرعب..

وخلف الاشجار

فأغرز نصلاً

في جوفه

ومات من الحزن

عادت (إينانا) والدم يُقطْرُ منها

ليموتا معاً فوق العشب..!!

***

د. جودت صالح

2/ شباط 2025

....................................

* اسطورة بابلية في العشق تسبق مجنون ليلي بعقود غائرة في القدم .

 

(ثقوب في الذاكرة)

تركَ الخريفُ نُدوبَهُ وشحوبَهُ

أوشامَ شاهِدةٍ على

هَرَمِ اللُبابَةِ ماسخاً

أبهى الخلائقِ مومِياءَ بلا بريقْ

*

خَرَفٌ تَسوّسَ كعبةَ الألبابِ فانْهدمتْ

على حِكَمٍ بخاتمةِ السنينِ كما تهدّمَ

سورُ منزِلِهِ العتيقْ

*

وخُرافةٌ حصدتْ غضارةَ آخِرِ

الأسماء والأشكال في وجدانهِ كحصادِ أوراقِ النهى وضمورِها

أقصى نهاياتِ الطريقْ

*

صمتت بذاكرةِ الوَقورِ عنادِلٌ

فكأنها ما غرّدتْ دهراً ولا

عزفت لنا لحْناً سماويّاً رقيق

*

رحلت بعيداً كلّ أطيارِ الحمى

عن لُبّهِ فتصيّرتْ

تلكَ الديارُ بلاقعاً

أو غابةً جرداءَ هَشّمها حريقْ

*

وبها شجيرات الحياة تجرّدتْ

بأواخرِ المشوار عن ورقِ الحِجا

ومياسمُ الفصلِ الأخير تيبّست

مذ غاض في أنساغِها ذاك الرحيقْ

*

وأخالها من غيهبِ الظلماتِ قد مُدّتْ يَدٌ

حذفتْ رسومَ العالمين ملامِحاً

وتناثرتْ ما بينَ أوراقِ الخريفِ كما الدقيقْ

*

وَبِلَمْسةٍ عَدَميّةٍ مَسَحَ الغروبُ

جبينَ حافظةِ العجوزِ فأصبحتْ

كالشاشةِ البيضاء لا أثَرٌ بها

لحوافرِ الأعوام والماضي العريقْ

*

هَرَمٌ هَوى وتهاوتِ الأحجارُ

هازئةً بِألواحِ التجاربِ والحِكَمْ

*

وتناثرتْ في يوْمِ ريحٍ عاصِفٍ

مابينَ أعتابِ الكُهولةِ والهَرَمْ

*

وَبياضُ ذاكرةِ المشيبِ وَشيْبهِ

كدفاترٍ أوراقها البيضاء لم يمْسسْ

بكارَتَها قلمْ

*

شَبَحٌ تسلّلَ ماحياً آثارَها

فإذا بِعالَمِهِ هباءٌ مطلقٌ

وإذا بماضيه وحاضره سديمٌ أو عدم

*

فبدايةُ النفقِ الرهيبِ حرائقٌ برمادها

رشقت مرايا الروحِ بعدَ الذاكرةْ

*

وتصدعت قارورة الأزمان وانفجرت

رذاذاً في غيومٍ عابرةْ

*

ومناجِمٌ حملت كنوزَ الذكرياتِ كما

جبالٌ من عُصاراتِ النُهى

نضبت دناناً او جراراً ضامرةْ

*

كمصيرِ أعلى الراسياتِ قُبيلَ صُورِ الآخرة

*

جلستْ حفيدتُهُ جوارَ شغافهِ

فتحتْ ذراعيها ترومُ عناقَهُ

فتجمّدتْ إذ لم تجدْ

خفّاقهُ الحاني الشفيقْ

*

بدموعها راحتْ تودّعُ راحلاً

ومهاجراً لكهوفِ واديهِ السحيقْ

*

غرقت بأنهارِ الدموعِ وأجهشتْ

بسؤالها عن ضاعنٍ غرقت قوافله

بكثبان الرمال

*

وبدا العبورُ الى ضفافِ غيابهِ

حُلُماً بعيداً بل مُحالْ

*

فزعت وفي أعماقها هتف السؤال

أنّى لَكَ الرُجعى معافى للديارْ؟

ومتى الرجوعُ إلى حمانا دُلّني؟

فأتى الصدى

هيهات يذكركِ الغريقْ

هيهاتَ يعرفكِ الغريقْ

فلقد مضى في لُجّةِ الصمتِ العميقْ

***

د. مصطفى علي

 

تَعَوَّدَ الصَّبْرُ أنْ يَحْتَلَّ كُلَّ دُرُوبِ القَلْبِ،

وحينَ يَعْجِزُ عن فَكِّ طَلاسِمِ انْتِظَارِهِ،

يَهْرَعُ صَوْبَ مَغَارَةِ الرُّوحِ،

يُلِحُّ عَلَيْهَا

أنْ تَسْتَقْبِلَ حُلْمَهُ الغَائِبَ

وَسْطَ زِحَامِ الأُمْنِيَاتِ…

*

جَاءَتْهُ مُرْتَدِيَةً وِشَاحَ الخَوْفِ،

تَمْتَطِي صَهْوَةَ الصَّمْتِ،

تُخْفِي أَسْرَارَهَا في قَارُورَةٍ،

تَنْثُرُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ قَطَرَاتٍ مِنْ شَوْقٍ،

وَعِشْقٍ لَمْ يَنْضُجْ بَعْدُ…

*

يَخْفِقُ قَلْبُهُ المُكَبَّلُ بِجَبَرُوتِ الصَّبْرِ،

فَتُضِيءُ بِاللَّوْعَةِ وَاحَةً لِلْعُمْرِ،

أَشْعَلَتْهَا الذِّكْرَيَاتُ..

*

يَتَأَمَّلُهَا، فَإِذَا هِيَ مُبْحِرَةٌ

بَيْنَ أَمْوَاجِ الأَزْمِنَةِ النُّحَاسِيَّةِ

وَمَرَافِئِ الأَلَمِ،

يَرْجُوهَا أنْ تَرْسُوَ،

وَتَهْدِمَ جِدَارَ الوَهْمِ،

وَتُغَنِّي وَسْطَ حَارَاتِ الخَوْفِ

أُغْنِيَةً مِنَ الزَّمَنِ الغابرِ،

لِيَسْقِيَهَا مِنْ عَيْنَيْهِ كَأْسًا،

مَزَاجُهَا شَوْقٌ وَانْتِظَارٌ…

*

لَكِنَّهَا تَأْبَى إِلَّا أنْ تُحْرِقَ

أَحْلَامًا عُجِنَتْ بِاللَّوْعَةِ،

فَتَرْحَلُ،

تَارِكَةً خَلْفَهَا غَابَاتِ الفَرَحِ مُقْفِرَةً…

*

يَعُودُ القَلْبُ وَحِيدًا،

يَرْتَشِفُ رَحِيقَ الانْتِظَارِ المُرِّ،

وَيَغْفُو فِي زَاوِيَةٍ لِلرُّوحِ،

يَعُدُّ بِأَصَابِعِ الخَيْبَةِ

حَرَائِقَ

أَشْعَلَتْ خَرِيفَ العُمْرِ…

يَتَبَخَّرُ النَّدَى عَلَى رَاحَتَيْهِ،

وَيَتَلَاشَى قَوْسُ قُزَحَ من فَوْقَ فَنَارٍ .!!

***

جواد المدني

(إلى أخي الدكتور قصيّ الشيخ عسكر)

أطرقْ

ذاكرة الأيّامْ

أفتحْ دنيا الأصداء

في أرضٍ يزرعها النسيانْ

أمنحْ صوتك سرّ البستانْ ....!

بين الغربة –أدري-

قد ضاعتْ كلّ الأحلامْ

2-

لا تنسَ من مرّوا

يوماً في بالكْ

دعْ كلّ وجوه الأحبابْ

في عاطفة القلبِ

على صفحات خيالكْ

.....................!

3-

لا تسألْ عنْ ظلّكْ

عشْ وحدك

مدّ يديك إلى نخلكْ

كي تأكل أثمارا

وترى أشجارا

تنمو من زمنٍ في عقلكْ

4-

المسمارْ

لا دخل له

في هذي الأيّام

فالجدران

عليها لوحات

ترسمها الأحلامْ

في كلّ نهار

والليل يمرّ

على فمه ألف حريقْ

في هذا الدرب.. وذاك الدرب

بدون رفيقْ...!

5-

الذكرى

ما عادت عندي

غير بكاءْ

يسكبُ في عينيّ

دموعاً لا حدّ لها

ورمالاً من وسط الصحراءْ

وعواصف تمنحني الإعياءْ

أتساءل وحدي

هل أحلمُ..؟

مثل الناس

هل...؟

عبر خطى الأيّامْ

يلتمع النجمُ

أنامْ......؟

***

حامد عبد الصمد البصري

- نصوص قصيرة -

الليل مازال

صديقي

يمنح ضوء

نجومه

لقلبي

2 -

في الممر المؤدي

الى النفق المظلم

عانقتني غزالة

فاوقدنا معا

شموع الحرية

3 -

في طريقي الى

هالة القمر

قالت لي قبرة

الى اين انت ذاهب

قلت لها الى مدارات

النور الشافي

4 -

عند عتبة داره

راى ظلا

يركض خلفه

فاطلق من مسدسه

رصاصة فارداه

قتيلا

5 -

اه كم هي صعبة

معرفة الحقيقة

حين كل شيء يبين

الا ان القابضون

عل سوط

فشلهم

لا يفقهون

6 -

في ربيع العمر

الفراشة ابتسمت

لزهرة قلبي

وزهرة قلبي

ابتسمت

لهالة القمر

7 -

الليل يعانق النهار

والنهار يعانق الليل

وقلبي يخبيء شمسه

في نبضاته

ويمضي

8 -

لا لا تذرف دموعك

على زهرة ذابلة

فالنحلات المجدات

سيحتضن

رحيقها

9 -

عزف على

ناي روحه

لحنا فشرعت

العنادل تحط

على مرج قلبه

اسرابا .

***

سالم الياس مدالو

 

مدخل

يلح علي شعور غريب

ما بين اكتبي عن الحب

أو ارقصي على وتر بردك

بفنجان قهوة

**

المشهد الأول

هذا الفنجان وهذه الورقة

ألمح حديثك يترقرق

في المسافة ما بين الرشفة والحرف

يُعلِم الحب للوقت الكامن في جوف الشوق

ينهمر كنهر ضيع سيرته

في شعر امرأة سمراء

وبات يروج لفكر متطرف

ألا يتجدد إلا في إيماءة عينيها

ألا ينمو موجه إلا ليغازل منها الخصر

فتنتحر الضفة

ويموت شراع المركب

**

المشهد الثاني

في شهر العشاق

وباقات الورد تنادي

والمقهى في الناصية

يسرب لونا أحمر

يسرب أغنية تلو الأخرى

يفتح بوابات النور لمؤانسة الليل

فالليل حبيب أول

حبيب عالق

ينتظر تحت عمود النور

والمقعد خال

والظل مخاتل

والنسمة ترقد في كف حبيبة

والشمعة مصلوبة

والورقة بيضاء

ونحن

نتهجى العتمة

آه آه

ونختم كل رسائلنا

بسؤال حائر

حتى متى

وكيف وأين

ونلوذ بأجوبة محجوبة

فالحب لغة هوجاء

لا ترتاح؛ تظل

ترتب أفواج الحيرة

نعود ونذهب

وجيوبنا فارغة

إلا من برد

يراقص دفء الفنجان

في قلب قصيدة

**

المشهد الأخير

لا يمكن إلا أن تقرأنا الأيام

يقينٌ نحن

بلا شك يرتاد الأسطر

ويؤسس لبعاد فادح

صلاة في ناصية البوح

وتسابيح تسري منا تعود لنا

كل الأعوام مسارح دهشة

واسمي واسمك

قوافل ورد

تسافر في كل الدنيا

تحكي عن الحب

***

أريج محمد

 

رمضان الأسود عليكم

كان بيتنا قريباً من حّمام السوق الكبير بمائتي خطوة لا أكثر. أبي عامل الصيانة في مرآب "الأمانة"، مغرم بالذهاب إليه كل يوم، ويسعد بمرافقتي له، لذة العنقود، مثلما يسميني. رغم كل الإغراءات التي يقدمها لي، كنت أتهيب المكان ويتعبني مجرد التفكير فيه. جدرانه العتيقة، ظلمة الممر الضيق، الأنابيب القديمة المنداة، الأرض الكلسية الصفراء، البخار الذي يغطي ملامح المكان، قطرات الماء المتساقطة برتابة من جوف القبة، الرجال العراة وصدى الأحاديث، كأنها صادرة عن جبّ عميق.

كان يوماً شتائياً حين خرجنا من الحمام. ولكون جسدي الصغير ما زال يحمل دفء الحمّام، شعرت بالضيق من الملابس الثقيلة التي دثرني بها أبي. وددت التخلص منها، ولكن أبي كان يسحبني بعجالة للوصول إلى البيت.

عند المنعطف نادوا على أبي باسمه وبصوت حاد كأنه قادم من جوف قبّة الحمّام، توقفنا. ثلاثة رجال ينتظرون في العتمة. التزم أبي الصمت ثم مد يديه ورفعني ضاماً جسدي إلى صدره. شعرت بارتعاش جسده عندما تحركوا نحونا. توقفوا على بعد خطوات، كانوا بملابس غير معتنى بها، يحملون بنادق مصوبة نحونا. بادرنا صاحب النظارة الطبية السميكة.

ـ حمّام العافية.. دع الصبي يذهب إلى البيت.

تشبثت يداي برقبته، ولكني شعرت أن يديه تحاولان إعادتي إلى الأرض بصعوبة. طالعت بفزع وجهه المتحجر. نظرت عميقا في عينيه الكلسيتين. قبـلني ولم ينبس بكلمة، فوجدت جسدي ينسل من بين يديه، فدفعني من كتفي ففهمت.

هرولت خائفاً أتـلفت.. أجهشت أمي بنحيب رافقها لليال طوال دون عودة لأبي، بعد أيام جهزت أمي حقيبة وضعت فيها ملابسا وطعاماً، وغادرت الدار بعد أن أوصت أختنا حوراء  بي وبأخي الصغير وائل. لم يطل غياب أمي، وحين عادت بعد يومين، بكت بحرقة مع نسوة من أقاربنا، وكانت تلهج طيلة الوقت بعبارة واحدة، رمضان الأسود عليكم. لم أكن لأفهم كنه عبارتها تلك، ولكن بعد حين عرفت أن لا عودة لأبي.

***

فرات المحسن

اطرق

لكن

لا تؤذي المسمار ولا تجرح الحائط

2

انس

فالذكرى شرك

3

إنس

إذا تذكّرت ستجرح الزمان

4

امش في الشمس

بلا ظلٍّ إن تقدر

أو

تزجر ظلك ان يتبعك

5

هل تجعل خوفك واحة شعر خضراء

عندئذٍ لا تقربْ باقي الألوان

6

في كفك خطّ لا يقرؤه أحد غيرك

7

حين يرمى بك في قفص الأسد

لا تنظر في عينيه

8

ثق بالغربان إذا نعبت

بالشّر سيأتيك وتأتي

فالناس إذا وعدت

بالخير فلن يأتوك ويأتي

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

أنا لا أجيد ترتيب الفوضى،

تلك التي تلتف حولي كوشاحٍ من ضبابٍ ثقيل،

تلك التي تهمس في أذني: "ابقَي هنا، لا تتحركي"

*

أنا لا أجيد الفرار،

أقدامي مسمّرة في أرضٍ لم اخترها،

خطواتي ثقيلة كأنها تحمل أزمنةً لم أعشها بعد.

*

أنا لا أجيد التفسير،

لماذا تنمو الأشجار نحو الضوء،

لكنني أنحني نحو العتمة؟

لماذا أبحث عن وجهٍ لم أره،

وأسمع صوتًا لم يتكلم؟

*

أنا لا أجيد الإجابة،

لكنني مهووسٌة بالأسئلة،

تلك التي تهدم الجدران،

وتجعل الهواء أضيق من اللاشيء.

*

أنا لا أجيد التواصل،

لكني أجيد الانتظار عند العتبات،

أجيد رسم الوجوه التي لم أعرفها،

أجيد الكتابة عن الذين لم يأتوا بعد،

وعن الذين مرّوا كريحٍ في ليلةٍ صيفية،

تركت رائحتها في ملابسي،

ثم اختفت.

*

أنا لا أجيد الموت،

لكني أجيد توديعه كل ليلة،

أترك له كوب قهوتي نصف الفارغ،

وأكتب له رسالةً لا تصل،

أقول له: "لست جاهزًة بعد، عد لاحقًا."

لكنه، مثلي، لا يجيد الإصغاء.

*

أنا لا أجيد أن أكون شخصًا واحدًا،

كل صباح أفتح صندوقًا جديدًا،

وأجد وجوهًا ليست لي،

وأسماءً لم أخترها،

وأصواتًا تتحدث لغاتٍ لا أفهمها.

*

أنا لا أجيد أن أكون ثابتًة،

أغيّر ملامحي كما يغيّر البحر مده،

أكون قمرًا ناقصًا حين يكتمل العالم،

وأكون شمسًا محترقة حين يبحثون عن الظل.

*

أنا لا أجيد التصالح مع الوقت،

يمشي أمامي، وأمشي في دائرته،

يمسك يدي كطفلٍ مشاغب،

ثم يتركني في منتصف الطريق،

يضحك، ويقول: "إلى أين كنت تظنين أنك ذاهبة؟"

*

أنا لا أجيد النهاية،

كل جملة أكتبها تلد أخرى،

كل طريق أسلكه يتشعب،

كل حلمٍ أعيشه يفتح أبوابًا أخرى،

لكنني، رغم كل شيء،

أجيد الاستمرار....

***

مجيدة محمدي - تونس

 

الوقت ليلٌ، يتبخر من حولي الوجود

أتلمّسني. واتفقد المصير هنيهة

أغادر الغرفة الظلماء: واحاور الزمن الغاضب.

وأتفحص كيف يبدو النجم والسماء

انها سماويةٌ صافية

والبردُ يقرص الجلدَ الناعم والغليظ

*

أتمشّى وحدي أسمع صوت خطواتي

لا شيءَ سوى الذاكرة، آلامها المرةُ

جموحها ولغتها الهزيلةُ

كيف تعاد كل هذه العبارات مرةً أخرى في الذاكرة المحطمة تارةً

والخائرة في قواها تارة أخرى

*

أتفحص السماء مرة أخرى

لا، ليستْ سماويةً

هي الآن لحن يترجمه الخيال

هي لوحةٌ هي سلاحٌ وعَمى

هي ليستْ سماويةً الآن

*

اتمشّى وحدي، ليس سوى البردُ

الطير تحتضنه جناحيه

الفراشات في الشجر المبللِ غافيةٌ

وأطلال الحب على حالها،

هي الأطلال على حالها

حولها الذبولُ حولها الموتُ والغياب

*

أتوجّس وحدي في الطرقات

وفي أنفاسي، البردُ

أتابع الخطوات

.يا ولهي وحزني كيف بتُّ لا أسمعُ إلاّ الخطوات وهي تئنُ معي

وأنا أئن معها كلانا يوقظ الآخر والليلُ يوقظنا أن كدنا ننامْ

*

يا ايها الزمن القديم، الباهتُ

هل تسمع، تلك الخطوات، الوحدةُ وهذا البرد فينا...

أيهذا الزمن القريب، ربما البعيد

هل تسمع كيف يرجف العاشق حين يُخذلْ

حين يُترك بابه مكسورا

حين ينام وحيدا في العراء

في الجو المشحون بالمطر الغزير

ايها الحب اتسمع هذا النداء

هذا التمزّق والتوجّع في مهدِ الشتاء؟

***

كمال انمار

 

... عند هذا قال نَاهِقْ:

أيها الشيخ المُنافقْ

*

هاكَ خُذْ عني نهيقي

للمغاربِ.. والمَشَارِقْ

*

وتَحَلَّى بنهيقي

ربما تَلْمَسُ فَارِقْ

*

إنَّ فَنِّي لأَصِيلٌ

وأصيلُ الفَنِ سَابِقْ

*

لا يُعَابُ الفن أصلاً

مِنْ غُلاةٍ... ودَوَانِقْ

*

تحت نَعْلي وفِدَاها

كل آلاتِ العَوائقْ

*

مِنْ زعاماتِ انْشِقَاقٍ

وعِقالاتِ المشانِقْ

*

وشياطينٍ تَجَلَّتْ

هَيْئَةً في ثوبِ مَارِقْ!

*

ما أَصَبْتُمْ قَيْدَ عِلْمٍ

وأَغَثْتُم كل عَالِقْ!

*

بل أَبَحْتُمْ للأعادي

سَابقاتٍ ولواحق!

*

وصَنَعْتُمْ للزَّعَا

مَاتِ عُروشا ونَمَارق!

*

وكوؤسَاً كاسياتٍ

ومَلَاهٍ... وفَنَادِقٰ!

*

ما اسْتَحَقَّيْتُمْ رضَانا

كي تفوزوا ونُعَانِقْ!

*

سَدَّدَ اللهُ عَليكُمْ

بأبابيلٍ صَواعِقْ

*

مِثٰلَكُمْ شَذُّوا ولاذوا

بانْبِطَاحَاتٍ سَوابِقْ!

*

يافَظِيْلتكُمْ ويا..يا

سادس الخَمْسِ الفَواسِقْ!

***

محمد ثابت السَّمَيْعي - اليمن

 

ـــــ شِباك ــــــ

أسماكٌ

تلتهم أسماكْ

والجميع

في الشّباكْ

ــــــ سباق ــــــ

الشّابُ أَسرعُ في خَطوه

الشّيخُ

يعرفُ الطريق

ـــــــ قاب قوسين ــــــ

يا نارُ

كوني بردًا وسَلاما

فالفَراشُ قابَ قوسين منكِ

أو أدنَى

ــــــــ اللّوزة ــــــــ

رفقًا بهِ

يا لوزةَ القلبِ

قَشّريهِ

ولا تُلقي بالنّواةِ

ــــ العقد الفريد ــــ

أنتِ دُرّةٌ

قال

وأنتَ…قالت

عِقدُها الفريد

ـــــــ اِحتراق ــــــ

لا عزاءَ للشّجرةِ

عند الاِلْتهابْ

فَمِن خَشبها

عُودُ الثّقابِ

ـــــــــــــ اِنتظار ـــــــــــــ

مِن حينٍ إلي آخر

ينظرُ في ساعته

يُحرّك السُّكّر

بين حِينٍ وحَانْ

حتّى ذابت المِلعقة

! في الفِنجان

ـــــــ عاشقان ـــــــ

أروعُ عاشقيْن

سيجارةٌ تحترقُ من أجل حَبيبٍ

يمُوت هو أيضا من أجلها

! مع كلّ نَفَس

ــــــــ أبجدية ـــــــ

شفتاها أبجديّة

سيظل أبكمَ

طول العُمر

ما لم يَنطقْ بهما

ــــــــ أجندا ـــــــ

وحيدٌ

وحيدةٌ

ضربَا موعدًا

ليوم الإثنين

ــــ سماء ــــــ

تُونسُ ـ بغداد

على القَدمين

ـ ذَهابًا وإيّابًا ـ

مُضيّفةُ الطّائرة

ــــــ شارع الرّشيد ــــــ

على صُندوق ماسِح الأحذية

وبالخط الدّيواني

ـ تمامُ الأناقة لمَعانُ الحِذاء ـ

ـــــــ أمواج ــــــ

تقول الموجةُ لصخرة السّفح

عند كلّ مدّ وجزر

ـ مهلًا ... مهلًا

ستذُوبين ذرّةً....ذرّةً

في حلاوةِ المِلح

ــــــــ فَصَاحَةٌ ـــــــ

أَبْكَمُ وبَكْمَاءْ

جَلَسَا

نظر إِلَيْهَا...نظرتْ إلَيْهِ

تَلَعْثَمَا... هَمْهَمَا

ثُمَّ أَفْصَحَا... مَا أَفْصَحَا

فِي قُبْلَةٍ عَصْمَاءْ

ـــــــ مسافات ــــــ

من يَقترب منكَ

شِبرًا

اِقتربْ منهُ

مِترًا

يبتعد عنك مِترا

اِبتعدْ عنه

عُمرًا

ــــــ كبرياء ــــــــ

الوردةُ البهيّةُ الشَذيّةُ

في غٌصنها العَالِي

ذِي الخُيَلاءْ

إن لمْ تَستطعْ إليها صُعُودًا

اِنزلْ إليها

مِنْ سَماءْ

ــــــ إكرامية ــــــــ

منذ أربعين عامًا

أزيدُ ـ إكراميةً ـ حَلّاقي

لم يشفعْ لي مُشطُهُ

كلّ مرّة

يزيدُ شَعري

بياضًا

ــــــ حنان ـــــــ

فَتحتْ رَبْطةَ عُنقهِ

أزرارَ القميص

ورباطَ الحِذاء

كطفل وأُمْ

ثُمّ

لَبِستهُ

مِنَ الرّأس

إلى القَدمْ

ــــــ اِنحناء ــــــــ

...نعمْ

قد تراني أنحني

يا صديقِي

فقط

كي أرفعَ حَجرًا

من طريقِي

ـــــــــ إعجاز ــــــــ

معادلة مستحيلة

: أعجزتْ حتّى أنشتاين

ـ كيف لا يشتكي الرّاعي

ولا يجوع الذئب؟

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

 

هناك..

عندَ شواطئِ نهرَيْكَ..

ما بينَ رُكامِ الطّينِ، وتضاريسِ يدي..

أشمُّ رائحةَ أُمّي..

*

هناك..

أخفيتُ صَحائفَ تأريخي،

ومأساةَ غَدِي..

فصولٌ كتبتُها على قُصاصةٍ..

سَلَختُها من جَبِينِ أمجادي..

عنوانُها انتماءٌ إلى “مجدِ عروبتي”.

يُقالُ إنّها من بقايا عرشِ “كِسْرى”،

حُمِلَتْ على ظهورِ “الجاموسِ”،

كما يرويها أبناءُ عُمومتي..

*

رفاقُ دَرْبٍ.. تجمّلوا بالخيبةِ..

ونَسُوا حُلْمَ الوطنِ المُكَبَّلِ بالصّبرِ..

أقوامٌ.. أعاروا الهيبةَ “للسّلَفِ الصّالحِ”،

وأيادٍ تُشْهِرُ بوجهي قَميصَ “عثمانَ”،

عُلَبٌ مَحْشُوَّةٌ بالحِقْدِ، وَأَنِينَ المَظْلُومِينَ..

وبقايا أَصابعَ، ونُحُورٍ، جُمِعَتْ من كَرْنِفالاتِ القَتْلِ..!

قَدَرٌ.. قُيِّدَ بسلاسِلِ القَهْرِ، وظُلْمِ ذَوِي القُرْبَى..

*

مَدَدْتُ يَدِي أَغْتَرِفُ مِنَ الحُلْمِ المَمْنُوعِ..

فَعاجَلَنِي صُراخٌ يَخْنُقُ فَرَحِي..

قِفْ يا غَريبًا عن هذِهِ الأَرضِ..!

مَمْنُوعٌ أَنْ تَشْرَبَ أَوْ تَغْتَسِلَ مِنْ نَهْرَيْنَا..!

*

مَهْلًا بَنُو عُمُومَتِي..!

لا تَتَعَجَّلُوا قَتْلِي، فَأَنَا المَفْجُوعُ..!

فَهُنَالِكَ، لَيْسَ بَعِيدًا..

مَضَارِبُ قَوْمِي..

جِئْتُ أُعَمِّدُ صَبْرِي مِنْ نَهْرِ الفُرَاتِ..

ومِنْ دِجْلَةَ أَرْتَوِي..

فَهَلْ لِي غُرْفَةٌ مِنْ حُلْمٍ..؟

أَرْوِي بِهَا عَطَشَ المَنَافِي،

وَأُطَرِّي قَلْبًا بَاتَ أَسِيرَ المَنَايَا،

يَئِنُّ مِنْ سَقَمٍ تَشَرَّبَ فِيهِ، وَمِنْ أَلَمٍ..

*

سَقَطَتْ قَطَرَاتُ المَاءِ مِنْ فَمِي..

هَارِبَةً مِنْ بَدَوِيٍّ..

يَهْوَى الرَّدْحَ مِنْ وَرَاءِ الصَّحْرَاءِ..

يَغْرِسُ سَيْفَهُ فِي نَحْرِي..

وَيَعْرَبِدُ:

“مَا لَمْ تُغَنِّ لِلْفِتْنَةِ نَشِيدًا..

يُطْرِبُ أُمَرَاءَ القَتْلِ مِنْ زَنَادِقَةٍ وَعُتَاةٍ..”

“وَتُثْبِتُ أَنَّكَ تُتْقِنُ فَنَّ الذَّبْحِ..”

“وَتَتَبَرَّأُ مِنْ دَنَسٍ..

جَاءَ مِنْ بِلَادِ الهِنْدِ، وَفَارِسَ بَعْدَ الفَتْحِ..!”

“أَوْ تُقَدِّمَ رَأْسَكَ قُرْبَانًا لِلنَّهْرِ..!”

*

فَكَّرْتُ مَلِيًّا، وَحَاوَرْتُ رُوحِي..

فَأَشَارَتْ أَنْ أَتَشَبَّثَ بِأَغْصَانِ الحُلْمِ..

وَأُحَلِّقَ بَعِيدًا نَحْوَ الشَّمْسِ..

***

جواد المدني

 

منذ نعومة اظفاري نشأت صداقة وطيدة بيني وبين الصحف، فلا أنام في سريري أو يغمض لي جفن الا وبين يدي صحيفة اطالعها، وقد أدمنت مبكرا رائحة اوراقها كأنها رائحة خبز تنور حار وقت الغروب، وقد كان أخي مهدي مولع باقتناء مختلف الصحف اليومية في التسعينيات ومنه تعلمت هذه العادة، وفي احدى المرات وقد كنت على اعتاب المرحلة الثانوية، نزلت ماشيا كعادتي من بيتنا في حي الاسكان باتجاه مركز مدينة الرمادي لأحصل على حصتي من الصحف من المكتبة التي تقبع في ناصية شارع السينما العتيد، فهذه الناصية التي تمثل مركز السوق ولها مكانتها الأثيرة عند الناس، حيث لم يكن في المدينة سوى شارعين او ثلاثة لا اكثر، وقفت أمام الصحف كعادتي متأملا عناوينها، لأقرأ كل ما تقع عليه عيناي، وقبل أن أدفع لصاحب المكتبة ثمن الصحف سمعت صوتا خافتا بالكاد سمعته (اعرف حظك وشوف بختك من خطوط ايدك)، تتبعت مصدر الصوت، فاذا عجوز مسنة تسند ظهرها الى جدار المكتبة الخلفي تعرض خدماتها بقراءة الطالع مقابل ثمن زهيد.

لم استطع مقاومة رغبتي في خوض التجربة، وبلا وعي تقربت منها بدافع الفضول، وبدون تردد  أخرجت من جيبي المائة فلس والتي لا املك غيرها، وبالطبع كان مصدرها اليومي اخي مهدي وهو القارئ النهم، الذي علمني حب الادب والكتابة، فقد كان مثقفا واعيا، وكاتبا خطيرا، وبسرعة اخرجت المائة فلس من جيبي ووضعتها في يد العرافة التي  اخذت كف يدي اليمنى وبسطتها بين يديها الذابلتين، و راحت تمعن النظر في خطوط يدي المتعرجة، وبعد ان سحبت نفسا عميقا قالت (أنت محظوظ  يا ولد، فطالعك يبشر بالكثير، أرى في يدكِ قلما، ودنانير كثيرة، وأرى نساء جميلات تدور في فلكك)، وهنا اعترتني غبطة لا اعرف سببها، وتابعت كلامها (أراك تقف في حقول خضراء واسعة، ومن حولك تمرح قطعان من الخيول والغزلان) ثم صمتت برهة، واكملت (حينما تكبر عليك ان تخبرني بصدق نبوءتي)، ووعدتها أن افعل. 

قفلت راجعا دون ان احصل على ضالتي من الصحف، وتحججت (لمهدي) الذي كان ينتظرني مع الصحف، وتحججت له بأن السيارة التي تأتي بالصحف من العاصمة بغداد قد تأخرت عن موعدها، ولم اخبره الحقيقة، وأحسست بتأنيب الضمير، وبدلا من الصحف تحصلت على نبوءة العرافة الغريبة والتي تتزاحم فيها مفردات غريبة، قلم، ونساء، وفلوس، وخيول، وكأنني أقف امام لوحة سريالية!!.

مرت السنوات مسرعة، ولكنها لم تستطع محو تلك النبوءة من ذاكرتي، فقد بقي صوت تلك العرافة يرن في أذني، وكلما وقعت عيني على خطوط كفي تذكرت كل حرف قالته.

واليوم وبعد انقضاء ما يربو على الثلاثين عاما وجدت قدماي تجراني لشارع السينما ذاته، وراحت عيناي تلتهم كل شبر في المكان بنظرات خاطفة، غير أنني لم اجد اثرا لمكتبة الصحف تلك التي كانت من ابرز معالم السوق، غيران الشارع وناصيته بقيت كما هي تحكي تأريخ مدينة مرت بمنعطفات كبيرة وخطيرة، حينما شهدت الرمادي معاركا طاحنة ضد قوات الاحتلال الامريكي وانتهت بسقوطها بيد (داعش) بعد ان حاصرها التنظيم لسنة ونصف فتعرضت لدمار كبير، فلم يسلم بيت او شارع فيها الا وأصابه شيء من الدمار، ولكنها عادت من جديد واستعادت عافيتها  رغم كل ما مرت به من مآس ومحن.

وقفت متأملا في المكان وتسمرت قدماي فوق ارض الناصية، مستذكرا كل كلمة قالتها لي العرافة، ولكم تمنيت أن اجدها لأخبرها ان كل ما جاء في نبوءتها قد تحقق وصار واقعا باستثناء توقعها فيما يخص الخيول والغزلان والنساء، اذ لما كبرت وجدت نفسي محاطا بقطيع من الأغنام والصخول، فأينما أولي وجهي فثمة نعاج وسخلات وخرفان اجدها بوجهي، غير أن الاكثر ايلاما والأشد حزنا بعد كل هذه السنين أن (أخي مهدي) لم يعد ينتظرني كعادته حينما أعود له بالصحف!!.

***

د. محمد علي شاحوذ

 

هل خدع الضوءُ الطفلَ الذي كنته؟!

فانجذب نحو النهر الهادئ،

حيث ارتجت المياهُ تحت وقع خطواته الخفيفة؟

هل كان صدى الريح صيحةً مفاجئة؟

والنخلة أمست (طنطلًا)!*

أم ظنَّ السحابة وحشاً يطارده،

ألقى بنفسه في أحضان أمه،

يتنفس كعصفورٍ خائفٍ.

همستْ له بكلماتٍ كالندى.

مسحتْ دموعه بيدينٍ تشققتا من عمرٍ طويل.

رفعَتْ ثوبه الصغير،

فانهمرَ الماءُ كأنه نهرٌ صغيرٌ**

يدعوه إلى اللعب؛

ويذكره بأن الطفولةَ لم تغب بعد!

***

**

طارق الحلفي

.......................

* طنطل هو شخصيَّة خُرافيَّة ضاربة في التراث الشعبي العراقي

** في طفولتنا، بعد خوف، كانت امي تطلب منا ان نتبول، كي نهدأ.

قصيـــدةٌ أنتِ ما أحلى معانيـها

بالحبِّ والسحرِ قدْ شعّتْ قوافيـها

*

حكايةٌ أنتِ في نبضي مسافرةٌ

لمْ ألقَ بَعْدُ الذي يُصغي فاحكيــها

*

وخمرتي أنتِ لا ما كنْتُ أشربُهُ

لمّـا حضرتِ أراقَ الخمْرَ ساقيها

*

والأنْسُ أُنْسُكِ لا ما كانَ يؤنسني

وفرحتي بكِ لا شئٌ يُضاهيـها

*

لُقياكِ حقْلُ ورودٍ، روضةٌ عَبقتْ

بالعطْر ِ تُسكرُ أنفاسي أقاحيها

*

وأنتِ أجملُ أحلامي وأمنيتي

منْ بعدمــا طلّقَتْ نفسي أمانيها

***

عوّذت ُ مملكتي من كلِّ فاتنـةٍ

أصونها من غواياتٍ وأحميهـا

*

وحينَ أطللْتِ منْ أسوارِ مملكتي

سلّمْتـها لكِ طوعا ً بالذي فيها

*

لمّــا حضرْتِ وجدتُ النفْسَ حائرة ً

أمام َ سـاحرة ٍ تدري مراميـها

*

السحْـرُ يسكن ُ عينيها ومشْيتها

ومنْ أناملـها يجري ومِنْ فِيها

*

سافرتُ مُنْذ ُ زمــان ٍ غيرَ مكترثٍ

أطوي المسافات ِ بحثا ً عنْ مغانيها

*

وليْسَ في الرحْل ِمِنْ زاد ٍ سوى أمل ٍ

بأنني ذات َ يوم ٍ قَدْ أُ ُلا قيها

*

سامرْتُها في أحاسيسي وأخيلتي

وكُنْت ُ في جُلِّ أحلامي أناجيها

*

أنْت ِ التي كُنْتُ أهواها وأعشقــها

عرفْتُـك ِ الآن َ يا مَنْ لا أسميـها

***

رِفْقـا بروحي فقد قاسيت ُ في سَفري

رحْماك ِ كُثْرٌ جراحي لا تمسّيها

*

ضلَّت مسالكها في البحْرِ أشرعتـــي

فأصبحتْ سُفنـــي تنعى موانيها

*

قدْ كسَّــر َ الموجُ يا حسناء أشرعتي

وليس َ غيْرُك ِ يا حسْنــاء ُ يُحييها

*

في معْبد ِ الحب ِّ قد أعددتُ مبخرتي

وعفْت ُ تقديس َ أصنام ٍ لبانيها

*

روحي إلى الحبّ ـ حبّ الروح ـ ظامئةُ

لا الجاه ُ، لا المالُ، لا الألقابُ ترويها

*

وإنّني شاعـــــر ٌ رَقّت ْ مشاعِــــرُهُ

فراح َ خوفا ً مِن َ الإيذاء ِ يُخفيها

*

مشاعـــــــري هي َ أطفالي أدلّلهــــا

ومثل كل ِّ أب ٍ دوما ً أُ داريـهـا

*

أبثـُّهــا لك ِ يا حسناء ُ صادقــــــــة

كوني لها الأم َّ في لُطـف ٍ تناغيها

*

ولو تمكَّنت ُ صغْت ُ النجْـــم َ مبتكـرا ً

قلادة ً لك ِ يا حسْنــأء ُ أهديهــــــا

***

جميل حسين الساعدي

لم تعد القصيدة سلّماً

ولا جسرًا يعبر بنا إلى جرح المعنى

صارت الكلمات أثقل من أن تطير

وأضعف من أن تداوي هذا الألم

2.

كم كنّا مهووسين بالقصيدة!

نفتّش عن أنفسنا بين سطورها

نفرح كالأطفال حين تلامس أعيننا

قصائد مسطورة على الورق الأصفر

تمرّها الأيدي كأنها كنزٌ عتيق

كنا نحملها،

كأنها أسرارنا

كأنها شهادات ميلادنا

3.

لكن الكلمات خانتنا

صارت عاجزة عن التصريح

عن الصراخ بما نريد

كلما أردنا أن نقول:

"هذه كلماتنا"

شيءٌ ما يخرسنا

ربما لأن القصيدة

لم تعد قادرة على مواكبة هذا العالم

أو لأننا، نحن

لم نعد نعرف كيف نكتب

نحاول أن نلصق الكلمات

لكنها تتساقط

5.

ومع ذلك

نحن لا نكفّ عن المحاول.

نبحث عن قصيدةٍ

تكون أكبر من خيباتنا

قصيدةٍ تشبهنا

قصيدةٍ تعيدنا إلينا

حتى لو لم نجدها

حتى لو صرنا غرباء

يبقى الشعر فينا

كجرحٍ لا يندمل

وكحنينٍ لا ينتهي.

***

د. جاسم الخالدي

هنالك سماء سوداء

تحت السماء الزرقاء

تمطر حجارة

لم تجرحني

لكن صدی ألمها في روحي

وأنت جالس بجنبي

لا تفعل شيئا.

ماذا عن الفرسان البرية؟

يركضون بلا مبالاة

والخيول يتركن آثار الحَوافِر في رأسي

لا تسيل الدماء

لكني أشعر بعمق الثقب

في ذهني

وأنت جالس

لكنك لا تری شيئا.

مخلوق مركب

نصفه إنسان ونصفه تنين

يريد أن يلتهمني

أمسك بيدي نابه الأملس

لئلا أسقط

في عمق حفرة مظلمة

كبئر يوسف،

امتلأت حنجرتي صراخاً

وأنت جالس بجواري

ولم تسمعني.

ثم أهرول

بمحاذاة الخيام

سرعان ما ترتفع ألسنة اللهب

واحدا تلو الآخر

أسمع الصياح

ولم أرَ أحدا هناك

مع هروبي

تصبح آثار الاقدام حفرا

تخسف بها الارض سحيقا

لم تمد يدك الي

لتنقذني

وأنت شغوف بالغناء لنفسك...

أستيقظ فجأة

لأری أقنعة مزركشة

تحت كل واحدة منها

أكتشف الوجوه الحقيقية

اذ يقولوا لي:

الحلم والحقيقة هما نفس الشيء.

***

سوران محمد

 

لم أقلْ شيئًا،

لكنَّكِ سمعتِ النبضَ

في جدارِ المسافةِ البعيدة،

رأيتِ كلماتي

تتسلّقُ الهواءَ

وتلتفُّ حولَ عنقِ الصمتِ

كضوءٍ يختبئُ

في جفونِ الغيب.

لم أرسلْ شيئًا،

لكنَّكِ قرأتِ الرسالةَ

في رعشةِ الموجِ

على شرفةِ الحلم،

فُتِحَت النوافذُ بلا يدٍ،

وغنّتْ جدرانُ الغرفةِ

أغنيةً قديمة

لم يُسجّلها أحد.

حين أُغلِقُ عيني،

تمرينَ كعصفورٍ

في نفقِ الرؤيا،

حين تتنهدينَ،

يشهقُ الهواءُ في رئتي،

وحين تسقطُ نجمةٌ،

أعرفُ أنَّكِ ابتسمتِ

في مكانٍ لا أراه.

منذُ قرونٍ،

ونحنُ نكتبُ

على صفحةِ الماء،

نحفرُ وجوهَنا

في الريحِ،

نصنعُ مرآةً

من وهمٍ شفيف،

كلما نظرنا فيها،

وجدنا الآخر.

***

كريمة بن مسعود - تونس

 

عد يا غراب لموطنك

من ذا إلينــا هــرولك؟

*

كان الهدوء يســودنا

والعندليب هنا سـلك

*

حتى أتيت مزاحمــا

حـظٌّ هنـالك أوصـلك

*

سودت وجه حديقتي

أضحى غديري منهلك

*

حطمت عش حمامتي

أصبحت فينا كـ(الشلك)

*

كم طال غيهب دهرنا

هل كان ينقصنا الحلك؟

*

ماذا لديك سوى النعيق

صميت آذان الفـــــلك

*

صعب تجاورها الطيور

فالسلم ليس يروق لك

*

عجبا لمن قالوا الذكاء

بيـن البـريــة أكمــــلك

*

أغـراب واري ســوأتك

أتظـن ربــك أرســــلك؟

*

(قابيل) لا أحدا ســواه

في عينــه تبــــدو مـلك

***

نجيب القرن - اليمن

في زاوية معتمة من مقهى منعزل، مختبئ في زقاق بعيد عن ضجيج المدينة ولهاثها، جلس يحتسي قهوته الباردة، كانت عيناه غارقتين في صفحات الجريدة التي بين يديه، لكنه لم يقرأها كما يقرأ كتابا، بل تأملها وكأنها نافذة تطل على عالم يكتنفه الوحشية والظلام، تحدّق عينيه في الفراغ، في الهوة السحيقة التي صنعها العالم، فقد حملت الجريدة بين سطورها واقع صعب، واقع مرهق ترسم ملامحه على صفحة أولى تناثرت فيها العناوين وكأنها تئن تحت وطأة الدماء، إذ برزت فيها أخبار عن معارك دامية في أفريقيا، مذابح تهزّ آسيا، حرب طاحنة في أوروبا، جثث تتكدس فوق جثث، وكوارث تتوالى وأوبئة تتكاثر على وجه الأرض، كأن الجحيم قد قرر أن يطفو إلى السطح، ويلقي حممه على بشر لا حول لهم ولا قوة، بل وكأن الأرض ضاقت بأهلها فباتت تخاطبهم بصوت قاس وهي تلفظهم واحدا تلو الآخر.

ارتجفت يده التي تمسك بالصحيفة، واهتز قلبه المثقل بالخيبات والآلام، تنهد بعمق، كأنما يحاول أن يلفظ جزءا من هذا الحزن العالق في صدره منذ زمن بعيد، ثم أدار الصفحة هربا من بحر الدم المسفوح الذي اجتاحها، ليجد نفسه فجأة أمام مشهد آخر يدفعه إلى ضحكة ساخرة، فقد ارتسمت أمام عينيه ابتسامة مزيفة لعارضة أزياء، تلتها صورة أخرى لنجمة سينمائية تستعرض فيلمها الجديد، كانت الصور زاخرة بالبهاء والزيف في آن واحد، كأنما تعلن بأن المذابح التي اختلطت بعنف مع صفحات الجريدة قد تلاشت عند حواشيها وانتهت بمجرد قلب الصفحة، وكأن الدماء المسفوحة لا تستحق أكثر من بضعة أسطر عابرة قبل أن يحين موعد الاستراحة الإعلانية، بل وكأن الصحيفة ذاتها كانت تحاول مواساة قرائها بعد صدمة الخبر الأول، أن تلمس جراحهم بصور مصقولة وزيف معلب، وكأن العالم الذي يغرق في المآسي قرَّر أن ينهيها حين تقلب الصفحة وتنسى الأحزان.

تأمل صفحات الجريدة مجددا حتى اندلعت في نفسه نوبة ضحك كتمها بين رشفات قهوته الباردة، في تلك اللحظة، عاد إلى ذهنه مشهد تلو الآخر من الأماكن التي عمل بها، تلك التي كان يظن في ظاهرها أنها حامل الحقيقة، لكنها في الواقع أدوات صمَّمت لتصوغ الواقع وفق أهواء أصحاب النفوذ، وفي صمت عميق، صرخ في أعماق روحه ساخطا: "هذه هي الجريدة حين تقع في أيدي المتواطئين، حين تتحول إلى سيف يضرب أو درع يحمي، لا إلى مرآة تعكس الحقيقة"، أدرك حينها أن الصحف لم تعد تسعى إلى كشف الواقع، بل أصبحت تعيد تشكيل الرأي لتصنع وهما يخدم الطغاة، تخدع، تُضلل، وتُخرج المجازر من العناوين العريضة لتخفيها في زوايا الصفحات المهملة، ثم تزين المشهد بصورة امرأة جميلة، كأن الزيف قادر على حجب رائحة الموت.

وبينما كان يجلس في زوايا ذلك المقهى المنعزل، رفع رأسه متأملا الوجوه من حوله، حتى وقع بصره على طاولة مجاورة حيث جلس صديق قديم له، كانت ملامح هذا الصديق تتداخل مع صور مضطربة من ذاكرته، تذكارا لشخص كان يوما رمزا للصداقات المتوترة، رمزا لتلك الوجوه التي تخفي وراءها الكثير من النفاق.. تناثر رذاذ القهوة من شفتيه بعد أن عجز عن كبح ضحكته المكبوتة، ففي خضم ذكرياته المتداخلة، لم يتجلَّ له سوى ذلك الشخص الذي كان يذكره بتلك العاهرة التي تتوب مع إشراقة كل صباح لتعود سريعا إلى أحضان الرذيلة مع حلول المساء بفعل سحر الفسق.. لم يعد يتذكر بوضوح عدد المرات التي اختلف فيها مع هذا الصديق، إذ كانت الاختلافات كثيرة حتى لم يعد يفرق بين آخر لقاء جمعهما، هل كان على وفاق أم كان طيف خلاف لا ينتهي؟

كان صديقه يشبه تماما الصحيفة التي بين يديه، وجه تزيّنه أقنعة متعددة، شخص يختبئ وراء زيف معبأ بالجهل، وضيع يحمل في داخله عقدة نقص أزلية، يمقت من يذكره بحقيقته، فيحاول طعنه وتشويهه وجذبه إلى مستنقعه القذر، وحين يفشل في ذلك، يتحول إلى ممثل بائس يتقمص دور الضحية، يعزف على أوتار العاطفة، ويستجدي التعاطف من كل من حوله، لكن مهما طال العرض، ستأتي لحظة الانكسار، كما في كل مسرحية، فلابدّ أن يأتي اليوم الذي تنكشف فيه كل خبايا الزيف وتسقط الأقنعة، ليتجلّى للجميع كم كان وضيعا.

كان هذا الصديق القديم يتحدث بحماس مفرط عن استثمار جديد سيجني منه أرباحا خيالية، وكأن العالم بأسره انحنى ليبارك طموحه، بدا منتشيا بنجاحه المحتمل، لكنه في الوقت ذاته كان يحمل وراء كلامه سُمّا قاتلا، إذ من يعرفه حق المعرفة كان يعلم أنه لم يكن يوماً صادقا، لقد كان بارعا في لعبة الوجوه، يتلون كما الحرباء ويرتدي قناع التاجر الناجح أمام الناس، بينما كان في الحقيقة مجرد سمسار للمآسي، يستثمر في انهيار الآخرين ليحصد الأرباح من خسائرهم، ثم يمضي في حياته كأن شيئا لم يكن.

وفي لحظة من لحظات الهدوء المتخلّلة بين زحام الأصوات في المقهى، ترك ما تبقى من فنجان قهوته ونهض متثاقلا، واقترب من طاولة هذا الصديق ببطء وحذر كما لو كان يحذر من لمس جرح لم يندمل بعد، وبصوت مثقل بالمرارة، وبإشارة باردة إلى الجريدة، همس قائلا: "ألا تتابع الأخبار؟ العالم يحترق." كانت كلماته تترنم بصدى الألم واليأس، فيما كانت نبرة صوته الباردة تكشف عن سخرية عميقة لا تعرف الرحمة.

لم يكن ردُّ فعل الصديق إلا بمجاملة عابرة، حيث ابتسم ببرود، وأخذ الصحيفة وكأنما يقتات من صفحاتها، تصفحها بلا اكتراث، ثم قال بنبرة خالية من الانفعال: "أخبار الأمس تُنسى اليوم، وأخبار اليوم ستُمحى غدا... المال وحده هو الذي لا يُنسى." ثم تابع ببرودٍ، وأضاف: "ولكن أخبرني، هل تعرفني حقّا؟".. تلك الكلمة الأخيرة كانت كالسهم الذي يخترق كل ثغرة في قلبه، لتثير فيه موجة من الغثيان والارتباك.

شعر بالغثيان، نظر إلى صديقه كما لو كان يراه لأول مرة، وبدأ يتساءل كيف لم يكن قد لاحظ ذلك الوجه الحقيقي من قبل؟ كيف كان من الممكن أن يخدع بكل هذه الأقنعة التي ارتداها؟ أدرك حينها أن القناع الذي طالما اعتقد أنه صلب لم يكن سوى قشرة هشة، وأن ملامحه الحقيقية، المتأصلة في أعماق روحه، كانت دائما موجودة خلف تلك الواجهة المزيفة، لكنه لم يكن مستعدا لرؤية تلك الحقيقة المريرة التي اجتاحت وعيه كالعاصفة التي لا مفر منها.

تردد للحظة، تلك اللحظة التي بدا فيها الوقت وكأنه متوقف في فضاء من السكون، ثم نهض فجأة تاركا وراءه كل ما كان يرمز إلى الزيف، تاركا فنجان القهوة الباردة، تاركا الصحيفة، تاركا كل تلك الذكريات الملتفة حوله، ومضى بخطى ثابتة، تذكره بأن الأقنعة ستسقط دائما، مهما طال العرض، مهما حاول الإنسان إخفاء حقيقته خلف زينة الأكاذيب، ومع كل خطوة خطاها خارج المقهى، بدأت الأصوات المحيطة به تتلاشى تدريجيا حتى أصبحت همسات باهتة، بينما أخذت الليلة تلفّه بستارها العميق، كان الهواء البارد يحتضنه كحارس أمين، ينقله من عالم المظاهر الكاذبة إلى عالم يَعِد بالصدق والشفافية، عالم لا مكان فيه للزيف أو الخداع، عالم يحفزه على ألا يكون يوما أسيرا للأكاذيب، وأن يسعى جاهدا للكشف عن الوجوه الحقيقية، مهما كانت مريرة، أدرك حينها أن ما يدور في هذا العالم ليس سوى مسرحية ضخمة يلعب فيها الجميع أدوارهم المقررة، وأن يوم الانهيار قادم لا محالة، حين ستسقط الأقنعة وتنكشف الوجوه كما هي دون زينة أو زخرفة، فكل الأكاذيب لن تبقى سوى ذكرى باهتة في سجل الزمن.

وبينما واصل السير في شوارع المدينة التي بدت فجأة أقل ضوضاء وأكثر صدقا في ضوء القمر الباهت، استشعر كأن الليل يحكي له قصة قديمة عن أولئك الذين انغمسوا في زيفهم حتى نسوا حقيقة الوجود، كل زاوية وكل ظل كانا يشيران إلى أن ما وراء هذه الواجهات الزائفة يكمن عالم من الحقيقة النابعة من أعماق الإنسان، وفي قلبه يقين بأن الحقيقة، مهما حاول العالم إخفاؤها خلف أقنعة التظاهر، ستظل دائما مطروحة في أعماق الوجدان تنتظر أن تُكتشف.. في تلك اللحظات، شعر بأن روحه تستنهضها قوة جديدة تدفعه إلى رفض التعايش مع الأكاذيب والابتعاد عن تلك الوجوه المزيفة التي تسرق الضوء من الحقيقة، فقد أدرك أن الانفصال عن تلك الحياة التي تُكرّس الزيف والدهاء قد يكون الطريق الوحيد للوصول إلى ذواتهم الحقيقية، إلى ذلك السلام الداخلي الذي ينشده كل إنسان في أعماق قلبه، وهكذا، ومع كل خطوة خطاها في شوارع المدينة الهادئة، شعر بأنه كلما ابتعد عن عالم الوجوه المزيفة، كلما اقترب من عالم يحمل في طياته الأمان والصدق.

وفي نهاية تلك الليلة الطويلة التي بدأها في زقاق مظلم، وبينما كان صخب المدينة يتلاشى خلفه، ظلّت كلمات الصحيفة تتردد في ذهنه كمرثية حزينة: "الأقنعة ستسقط دائما، مهما طال العرض.".. ورغم كل الألم والمرارة، حمل في قلبه بصيص أمل، أملٌ بأن يوما ما ستنكشف الحقيقة بكل ما فيها من عظمة وضعف، وأن يُفتح باب جديد للحياة على أسس من الصدق والشفافية، وهكذا، تبعثرت الأفكار في ذهنه، ومع ازدياد الضبابية حول معالم الطريق، زاد إصراره على السير نحو النور، ساعيا إلى أن يجد في تلك الحقيقة المرة مرسى يقيه من أمواج الزيف التي تلتهم كل من اقترب منها، ومع بزوغ فجر جديد تكسوه أشعة الصباح الهادئة، أدرك أنه لم يعد بإمكانه العودة إلى الوراء، فقد كانت تلك الليلة بمثابة رحلة انتفاضة ضد الأكاذيب والواجهات المزيفة، رحلة نحو الذات الحقيقية، رحلة تعلم فيها أن المال والسطحية لا يبقيان أثرا سوى الذكريات الباهتة، وهكذا، وبينما بدأ العالم يستيقظ من سباته، حمل معه الوعد الذي نُسِج في جوف الليلة، وعدٌ بأن يكشف الزمن عن كل شيء، وأن الحقيقة مهما طال انتظارها، ستأتي في موعدها لتضيء دروب الأرواح المنسية.. وفي تلك اللحظة، كانت الأفكار تتلاحم في ذهنه، فتحدثت معه بصوت داخلي متمرد: "هذه هي الحقيقة التي لا تستطيع المظاهر تزييفها، هذا ما قرأته في الجريدة أيضا."

***

جليل إبراهيم المندلاوي

في لحظة إشراق، استيقظت روحها، لتختلس وقتًا لها من مشاغل الأمومة اليومية، رغبة في استعادة وهج موهبتها الدفينة. كانت الخياطة نغمة قديمة تعزفها أناملها منذ نعومة أظفارها، والآن حان وقت عودتها للرقص على أوتارها. بخيوط من حرير الأحلام وإبرة مغموسة في عطر الطموح، فكرت في خياطة فستان يليق بليلة التخرج المرتقبة.

في أروقة الذاكرة، تتراقص خيوط الماضي، حيث نسجت أنامل الطفولة براعة الخياطة. كانت جارتهم بوابة سحرية إلى عالم يفيض بالجمال والإبداع، حيث كانت تحول الاقمشة الملونة إلى قصائد حية ترتديها الأجساد. كانت عيناها تلتهمان كل حركة وغرزة من انامل جارتها الخياطة، لتثبّت داخل روحها جذور هذا الفن الجميل. وها هي اليوم تستعيد نداوة تلك اللحظات الثمينة.

في لحظة إلهام سامية، انبثق الشغف من أعماق روحها كنبع صافٍ. بعين ثاقبة وقلب خفاق، انتقت قطعة قماش متواضعة الثمن، لكنها غنية بالوعود. كانت ألوانها أشبه بألحان فرح تعزفها أصابع الربيع على أوتار الحياة، ونقوشها حكايات صامتة تروي قصص البساطة المتوهجة بوهج الأناقة.

حين غفا طفلها، مستسلماً لأحلام الطفولة البريئة، جلست في محرابها المتواضع، غرفتها الصغيرة، محولةً ساعات الفراغ إلى ملحمة إبداعية تتحدى الملل وتعانق الشغف. بين يديها، تحولت الإبرة إلى عصا سحرية، والخيط إلى شعاع من نور يرسم على القماش أحلاماً وآمالاً. انكبت متلهفة على تجسيد إرادتها، مستخدمة ولعها كوقود لرحلة الابتكار رغم مواردها البسيطة ومحدودية ظروفها. كانت هذه اللحظة ليست مجرد بداية لصنع ثوب، بل هي ولادة جديدة لذاتها التائهة، التي كادت تذوب تحت أعباء الأيام، وتأكيد لقدرة الروح على الازدهار حتى في أكثر الظروف عناءً.

بدأت تخيط بخطى وئيدة، وكأنها ترمم نسيج حياتها الممزق. كل غرزة كانت وشماً تحاكي غربتها الصامتة، ووحدتها الثقيلة. بأصابعها، كانت تنسج أحلاماً جديدة لمستقبلٍ ضلّ مجهولًا.

وحين اكتمل الفستان، بدا كأنه لوحة نسجتها أنامل الحلم، تفيض رقةً وجمالاً، تحمل في طياتها نبض الروح ودفء الذكريات.

عندما ارتدته لأول مرة، شعرت وكأنها تعيد اكتشاف ذاتها التي كادت تتلاشى في زحمة المسؤوليات. كان الفستان أكثر من مجرد قطعة قماش، بل هو عمل فني، يعكس بساطتها الممزوجة بحكاية تُروى بلا كلمات، وشهادة على قدرتها بتحويل الخيوط البسيطة إلى تفاصيل نابضة بالحياة، كأنها شهادة على رحلتها العميقة من الوحدة إلى الإبداع، ومن الإرهاق إلى البهجة، ومن عتمة العزلة إلى انعتاق الروح، فكل غرزةٍ فيه كانت نبضاً يعبر عن شغفها، وكل طيّة نسجتها بيدها تؤكد عزيمتها التي لم تدعها تخضع لليأس، بل قاومته بنبض الحلم وإصرار الروح. فهو لم يكن مجرد مظهر خارجي، بل كان انعكاسًا لجمال داخلي وأمل متجدد يرفض أن ينطفئ.

حينما سارت في أروقة الأكاديمية تدفع عربة طفلها، كانت كأنها قصيدة تتجسد أمام الأعين، يتراقص حولها عبق الإبداع وسحر الأناقة. خطواتها هادئة، لكنها تروي قصة نسجتها بخيوط الإصرار والصبر.

كل من رآها بالفستان شعر وكأنه أمام لوحة فنية تتحدث عن خفاياها. عيون الحاضرين كانت تلاحقها بدهشة وإعجاب، وكأنها نجمة في سماء تزداد بريقًا كلما تقدمت. وبين كل تلك النظرات، بدت عينا إحدى الأستاذات، تتألقان بشعورٍ صادق من الانبهار، وتساءلت بلهفة يشوبها الإعجاب: "من صمم هذا الفستان الجميل؟"

وبابتسامة تحمل مزيجًا من التواضع والاعتزاز بعملها، وبصوت هادئ تنساب منه نبرة فخرٍ خجول: اجابت: "لقد صنعته بيدي."

رفعت الأستاذة حاجبيها وسألت مستفسرة: "ودون ماكينة خياطة؟"

أومأت برأسها، قائلة بثقةٍ: "أجل... غرزةً إثر غرزة."

تأملته بإمعان وكأنها تحاول فك شيفرة الإبداع المنغرزة بين ثناياه، ثم سألتها بنبرة يتخللها رجاء خفي: "هل يمكنك أن تخيطي لي مثله؟"

ابتسمت مرة أخرى، مختارة أن تجيبها بعملها، طلبت منها أن تنتظر بضع دقائق. كانت تلك اللحظات تحمل في طياتها أكثر مما يبدو على السطح. لم تكن مجرد دقائق عابرة، بل كانت امتدادًا من الغرز التي خاطتها بحب لرحلة طويلة من العزيمة والكفاح، ومع ذلك، لم تر في طلب الأستاذة مجرد فرصة لإظهار موهبتها أو تحقيق مكسب مادي، لقد كان شيئًا أعمق من ذلك بكثير.

حين عادت قدمت الفستان هدية، وعلى ثغرها ابتسامة تحكي عن قلب طيب ونفس كريمة. وهي تعلم انها قد تخلت عن ثوبها لحفل التخرج.

***

سعاد الراعي

في يوم ربيعي دافئ، كانت إيناس، السيدة الجميلة ذات الابتسامة الساحرة، مستغرقة في عالمها الخاص، تجلس في مكتبها الواسع المليء بالأوراق، تمارس طقوسها اليومية المعتادة في حل الكلمات المتقاطعة.

 كانت تكتب بضع كلماتٍ لا ترتبط ببعضها تضعها جانبا لتجرب بها حل الكلمات المتقاطعة، التي كانت بالنسبة لها، ملاذاً للخروج من روتين الحياة اليومية، تستمتع بكل لحظة تمر عليها، وتعيش في عالمها الخاص.

بينما كانت إيناس غارقةً في عوالم كلماتها المتقاطعة، لاحظها زميلها الوسيم، الذي ظل معجباً بها بصمت لفترة طويلة، يتأمل جمالها وينتظر الفرصة السانحة للانقضاض عليها كذئب جائع.

وجد في تلك اللحظة فرصةً ذهبيةً للتقرب منها، وكأنه وجد ضالته المنشودة. اقترب بخطى واثقة، وقلبٍ مليء بالإعجاب، وقال بجرأةٍ وثقة: "ما هذا الإبداع الذي أراه أمام عيني؟ كلماتك تحمل بعداً رابعاً يجعلني أغرق في بحرٍ من الجمال الأدبي، وكأنني أسبح في سماءٍ من الإلهام! أنت شاعرةٌ مدهشة، لا مثيل لك في هذا العالم."

ابتسمت إيناس ابتسامةً خجولة، وهي تشعر بشعورٍ لم تعتد عليه من قبل، شعورٌ بالتقدير والاهتمام. فعدّلت من جلستها، ونثرت شعرها الحريري الطويل على كتفيها، وكأنها أميرةٌ تتحضر لرقصة باليه.

قالت بتواضعٍ وثقةٍ يفوح منها رائحة إحساسٍ مرهف: "لقد بدأت الكتابة منذ زمنٍ بعيد، في سنٍ مبكرة، عندما كنت أبحث عن وسيلةٍ للتعبير عن ذاتي ومشاعري. لكنني لا أحب أن أكون تحت الأضواء،

 فأنا أكتب من أجل نفسي، ومن أجل المتعة الشخصية. أكتب ما يجول في خاطري، دون الاهتمام بالشهرة أو الانتشار."

رد عليها زميلها بحماسٍ وإعجاب: "لا يجب أن تحتكري هذا الجمال الأدبي لنفسك، فكلماتك تستحق أن يراها العالم، وأن يقرأها الجميع.

غدًا، أحضري إحدى قصائدك الرائعة لنشرها في الجريدة،

 لدي صديق هناك، وهو صحفي موهوب، يستطيع مساعدتنا في نشر إبداعك. أنا متأكدٌ أنه سيقدّر موهبتك، وسيساعدك على الوصول إلى جمهورٍ أوسع."

أمضت إيناس ليلتها وهي تكتب ما تظنه شعرا حتى وقت متأخر من الليل.

في اليوم التالي، حملت إيناس بعضاً من كتاباتها، تلك الخربشات التي كانت تظن أنها غير مترابطة، لكنها كانت تحمل في طياتها مشاعرها وأحاسيسها. قدمتها لزميلها بإحساسٍ مرهف، وكأنها تقدم كنزاً ثميناً. وبعد أن تأملها بإعجابٍ شديد، طار بها إلى صديقه الصحفي، الذي رحب بها بحرارة، وأبدى إعجابه الشديد بقصائدها.

وفي اليوم الذي تلاه، فوجئت إيناس برؤية قصيدتها منشورةً على صفحات الجريدة، وكأنها حلمٌ تحول إلى حقيقة.

 أخذت مشاعر الفخر والغرور تتملكها، لكنها في نفس الوقت شعرت بالمسؤولية تجاه موهبتها. أدركت أن كلماتها أصبحت لها تأثيراً على الآخرين، وأنها أصبحت مسؤولةً عن إيصال رسالةٍ ما من خلال كتاباتها.

استمرت إيناس في الكتابة، وأصبحت قصائدها تملأ صفحات الجرائد والمجلات، وتنتشر بين الناس. تواصلت مع قريبتها، المذيعة الشهيرة والمحبوبة، وطلبت منها ترتيب مقابلةٍ تلفزيونيةٍ للحديث عن تجربتها الشعرية، وعن كيفية اكتشاف موهبتها، وعن رسالتها من خلال كتاباتها.

ظهرت إيناس على شاشة التلفاز، في برنامجٍ أدبيٍ شهير، وتحدثت بثقةٍ وحماسٍ عن إنجازاتها الأدبية، وعن حبها للشعر والأدب.

بدأ النقاد في إفراد صفحاتهم لتحليل قصائدها، التي لم تكن تفهم أبعادها بالكامل في البداية، لكنها مع الوقت أصبحت تدرك عمق معانيها. كانت تجيب عن الأسئلة بذكاءٍ ولباقة، وتستشهد بآراء النقاد، وتحاول أن تبدو بمظهر المتعمقة في الأدب، والمتمكنة من أدواتها الشعرية. مع أنها حقيقة لا تعرف ماذا تكتب.

مع مرور السنوات، تحولت إيناس إلى رمزٍ من رموز الأدب الحديث في الوطن العربي، وانتشرت دواوينها لتملأ رفوف المكتبات.  كانت تصدر دواوينها سنوياً، وتحظى بشهرةٍ واسعة، ويتحدث عنها النقاد. لكن في أعماق نفسها تقول هل أنا اضحك على الناس أم أضحك على نفسي أم الناس تضحك علي؟

سؤال لطالما أرق إيناس ولم تجد له جواب!

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

سكاكين

كنا نثلم السكاكين من دون أن نرميها في البحر

لتغور في الاعماق البعيدة

فنصبح في مأمن منها

كانت أشد إيلاما وهي تذبحنا

2

الموت

عاتبنا الموت فقال

أنا صديق الجميع أزور أيّا أشاء

في أي وقت اشاء

لا يزعجني

الا هؤلاء المنتحرون

الذين يتعجلون لقائي

3

جلْد

الوردة تجلدنا بالعطر

بالنور الشمس

بالأمطار الغيم

كلٌّ يرجمنا حسب هواه

هل أصبحنا منفيين إلى هذا الحد؟

4

لأنّ الطلل يأسف على شذاه القديم

لا يتشبّث بالرمال

***

من شعر اللمحة

قصي الشيخ عسكر

شاعرٌ مغتربٌ وحزين

يتمشّى الآنَ في شارعٍ أَجنبيٍّ

شاسعٍ ومصطخبٍ بالانوثةِ والحُبِّ والجمال

وهوَ يشبهُ " شارعَ الموكبِ " .

الذي كانَ " يَتَشَرْعَنُ " باذخاً وساحراً

في قلبِ بابل القديمة

التي كانتْ فردوسَ العالمِ

وجنَّتهُ السامقةَ حتّى أَعالي المُطلقِ

وغيومِ رهامِ الخِصْبِ

وسماءِ الرَبِّ والحقيقةِ،

التي لايعرفُ حقيقتَها،

غيرُ اللهِ ونحنُ الحكماء

والعارفينَ والخائفينَ والطامعينَ

والشعراءُ والمجانينَ والحمقى .

ولهذا يبكي الشاعرُ

على شوارعَ مدينتهِ المنسيةِ

في الخرائطِ، وفضاءاتِ الـ ...

" GPS "

و" يَثْغَبُ " على بلادهِ التي خرَّبَها

(اليانكيونَ) والخونةُ عَمْداً

ونكايةً بنورِ الحضاراتِ

و سِفْرِ " سومر " وآثارِها المهيبِة

والشاخصةِ منذُ سبعةِ آلافِ سنةٍ اسطورية

و " جنائنِ نبوخذِ نصَّرْ "

و أُنثاهُ الغريبةِ الديارِ والأطوارْ

وملحمةِ " السبي البابلي " .

و " ومسلَّةِ حمورابي ".

العادلةِ الدساتيرِ

ونورِ القوانينِ

وأَحلامِ " جلجامشَ".

بالخلودِ والخلاصِ

و " بوابةِ عشتارَ"،

وغرامياتِها المشتعلةِ

عشقاً ورغباتٍ

وغواياتٍ حُمْرٍ وجَهَنَّمية

وصحائفِ الخلقِ الاولى

وأَسفارِ التوراةِ

ووعودِ الميعادِ المزعومْ

في رؤوسِ الـ " بلفوريينِ "

وأَوهامِ سيدهِم السيئةِ

الصِيتِ والسمعةِ والأَسرارْ

ولذا فإنَّهم خبأوا ثاراتِهم

وضغائنِهم منذُ مهزلةِ السبي

حتى " سقوطِ بغدادَ " الأَوَّلْ

ومنْ ثمَّ سقوطِ صنمِ خادمِهم

وعميلِهم وعبدِهم الخائنِ

لكلِّ شيءٍ،

بدءاً من نفسهِ الشوهاءْ

وأحلامِهِ الحمقاء

ونواياهُ السوداءْ

حتى مزابلَ ومستنقعاتِ

شوارعِنا المنكوبة

وبلادِنا المركوبة

كأَيِّةِ فرسٍ مُعتلّة

وكأَيّةِ مُستوطنةٍ

مُحتَلَّةٍ ومُظْلِمةٍ ومظلومةْ

وشوارعُها لا تَشبهُ

هذا الشارعَ

الذي يمشي بهِ الآنَ

شاعرٌ عراقيٌّ مغتربٌ

ووحيدٌ وحزينٌ

اكثرُ من نبيٍّ مطرودٍ

إلى أرضٍ لاعودة منْها

ولَيْسَ لهُ فيها أَيُّ وطنٍ

ولا قبرٍ ولا شاهدةٍ

من طينٍ أَو رخامٍ

ولا حتى من هواءٍ فاسدْ

وهذا الشاعرُ

وأَعْني النبيَّ المطرودَ

هو أَنا ...

وربَّما هو شبيهي

أَو إنَّهُ ظلّي المُمتدُّ

من " ميزوبوتاميا "،

حتى منافي اللهِ

والوهمِ والثلوجِ

والقيامةِ الأَخيرةْ

***

سعد جاسم

 

أنا التي تلهث خلف الضوء،

كلما لامستُ أطرافه، انكسرَ في كفِّي،

كقطرةِ ماءٍ ترتجفُ فوق جمرة.

*

مجرجرتي،

حقيقتي ،

ظلٌّ على جدارٍ من دخان،

كلما اقتربتُ، انكمشت،

تلوّتْ كأفعى،

تلاشت كسرابٍ،

وأنا أجري وأجري وأجري،

كمن يلاحقُ ملامحه في مرآةٍ مشروخة.

*

ليست كائناً، ليست معنى، ليست يقيناً،

بل وهْمٌ ذكيٌّ،

يعرف كيف يختبئ في غبار الأسئلة،

كيف يندسُّ بين أصابع الفجر،

كيف يتسلل من نافذة التأويل،

ليضحك عليّ حين أظنني أخيراً قد أمسكتُ بها.

*

رمادُ يقينٍ، هي

وسائلٌ يقطر من خدوش الوعي،

جسدٌ هلاميٌّ، يذوبُ إن شددتَه،

يتبخرُ إن دفأتهُ،

ينهارُ إن بنيتَ فوقه.

*

وأنا العطشى، الباحثُة في المتاهات،

أجوبُ خرائب الفكر، أفتّش في سراديب الأحلام،

أقلب كتب الفلاسفة، وأستنطق الصمت،

فأجدُها هناك، تحت الطاولة،

تُطلُّ عليَّ بعينِ قطةٍ متأهبة للفرار...

*

الماكرةٌ،

تعدُني بلقاءٍ عند المنعطف،

وعندما أصلُ، تكون قد تركتْ وراءها

أثراً من غبار،

وعبارةً غير مكتملة،

وشهقةً في الهواء.

*

أنا التي ألهثُ خلفها،

والطريقُ يلتفُّ حولي كأفعوان،

كلما ظننتُ أنني أخيراً أمسكُ رأس الخيط،

تبدأ الحكاية من جديد...

***

مجيدة محمدي - تونس

 

حين تركتُ القرية

لم أكن أعلم أنني أغادر عالماً

يحفظ وجهي بين تفاصيله

إلى عالمٍ آخر

يشبه غريباً يطرق بابي للمرة الأولى

هناك، بين الحقول والممرات الترابية

كان الهواء يعرفني

وكانت الأشجار تهزّ أغصانها

كأنها تودّعني

2.

في المدينة

الأبواب مغلقة

الوجوه تمرّ دون أن تنظر

والشوارع تزدحم بالخطى التي لا تحمل اسماً

هل يمكن أن يحبك عالمٌ

لا يعرف ملامحك؟

شعرتُ للحظةٍ أنني

مجرد نقطة صغيرة

في بحرٍ شاسع

3.

لكن الحب

الحب هنا مختلف

لا يأتي من نظرة جارةٍ تطلّ من نافذتها

ولا من يدٍ تساعدك في الحصاد

يأتي فجأة

من قلب الازدحام

من ابتسامةٍ عابرة

تجعل هذا الصخب كله

يتوقف للحظة.

4.

وفي لحظة أخرى

أشعر بالغربة

كأنني غريبٌ عن نفسي

عن هذا الإسفلت الذي لا ينبت شيئاً

عن الجدران التي لا تحمل رائحة الطين

عن الأضواء التي لا تترك للنجوم مكاناً

أتساءل:

هل يحنّ هذا العالم إلى البساطة؟

هل تفتقد المدينة إلى وجه الحقل

كما أفتقده أنا؟

5.

الهجرة بوابة

لكنها لا تعني النسيان

كلما فتحتُ نافذتي

أبحث عن غيمةٍ تحملني إلى هناك

إلى الحقل

إلى القرية

إلى الأرض التي لا تنسى خطواتي الأولى

لكنني هنا الآن

أزرع الحب في إسفلت المدينة

وأحاول أن أجعل هذا العالم الآخر

بيتاً لي

حتى لو كان الحنين يسكنني.

***

د. جاسم الخالدي

 

سيزيفُ، متى تنتهي اللعبةُ؟

ملَّتْ منكَ الصُّخورُ

وأنت ترفعُ...

عبَثاً كانتْ تلكَ الحياةُ

ولكَ زيوسُ لا يشفعُ

مَن قالَ لك أنَّ الآلهةَ

يمكنُ أنْ تُجابَهَ

أو أنْ تُعانَدَ؟

فلا عَرَقٌ سيغفرُ لكَ

ما اقترفتَ مِن إثمٍ

ولا جهدٌ...

سيزيفُ، مَن علَّمكَ الدَّسيسةَ؟

عقيمٌ هو الجِدالُ

ومحكومٌ أنتَ بالقدَرِ

والخواتمُ موتٌ مُحتَّمٌ

من لقَّنَكَ فنونَ النَّميمةِ؟

ومَن أقنعَ العبدَ

بأنَّهُ مِن عرينِ الآلهةِ

قد يقتنصُ الغنيمةَ؟

جشعٌ وغرورٌ

ولعابٌ حولَ السُّلطةِ

يسيلُ

في اللؤمِ سيِّدٌ

وفي المَكرِ سبَّاقٌ

وفي الخديعةِ تنتصرُ

كلُّ الشُّرورِ باسمِكَ تُرتكبُ

فنونٌ في المعاصِي

والعقابُ مِن جنسِ العملِ

في البعضِ منّا

يرقدُ سيزيفُ

وفي بعضِ ما فينا

كثيرٌ مِن سيزيفَ

وبعضُ الأركانِ زيفٌ فينا

سيزيفُ، كيفَ الأنا

فيكَ قد تحكمُ؟

ولِمَ الفضائلُ في موازينِكَ

زهيدةُ الثَّمنِ

سيزيفُ كانَ منّا

والمكرُ كانَ فيهِ وفينا

سجلّاتٌ وأرقامٌ

فيهِ كلُّ الوجوهِ تُرتسمُ

والمثالبُ منذُ عهدِ قابيلَ

قد ورِثنا

سيزيفُ، وجهُكَ الحالكُ

ترِكةٌ لنا

فكيفَ الخلاصُ

وفي طوايانا ألفُ سيزيفُ

يَختبئُ؟

***

جورج عازار

 

مُدَجَّجُونَ بالجِرَاخ

مُدَجَّجُونَ بالجِرَاخ

رغيفنا بِدِفْئِهِ...

وضَوْئِهِ أباحْ:

براءة الأطفالِ في أطفالِنا

مهيضة الجَناحْ

ثقيلة (بـآااحْ)

نَجُوعُ حتى مَوْتِنا

نَصِيحُ لكنْ غيرنا

يَحُسُّ بارْتِياحْ!

*

تَبَـــاعَدَتْ خُطوطنا

وخَالَطَتْ أوراقنا الرياحْ

فَضَاعَفَتْ آهاتنا

وأَضْنَكَتْنَا عِيْشَة (الرُّبَاحْ*)

فَلَمْ تَعُدْ أُعْجُوبةً

تَصَلُّب الآراء

فوقَ دَفَّـــةِ النِّطاَحْ !

*

وهكذا ...

وهكذا، يا صَــاحَ

تَعَدَّدَتْ حروبــــنا

ولمْ تَعُدٰ أحزانـــنا

سوى جُسُــــورٍ بيننا

يَمُـــرُّ فوقها السِّلاحْ !

***

محمد ثابت السَّمَيْعي -اليمن

......................

* الرُّبَاحْ: القُرود

على ياسمينةِ قلبكَ

أسكُبُ قطْرةَ بَوحٍ

لحَرْفي ...

وأشْدو نشيدَ الغِيابِ

وأهْفو إليكَ

على بُقعَةِ الحلمِ

في شَمْسِ رؤياكَ

أنفثُ أسْرارَ ظِلّي

قصيدةَ نَجْوى

وأرسُمُ خطَّ الرجوعِ إليكَ

بِكَفّي ..

على بسْمةِ الضّوءِ

فوقَ جبينَكَ

يرتاحُ خوفي ..

وأنتَ تدفَّقُ فيَّ جنوناً

لترْوي بقُبلةِ شَوقٍ

شِتائي

وصَيفي

***

وتعْزفُ يا وترَ القلبِ

أصداءَ غرْبتِنا،

لحْنَ أوطانِنا،

فجرَ أحلامِنا،

شمسَ أعْلامِنا،

كَي يعودَ إلى وطنِ الحُبِّ

سِربُ الحَمامْ ..

وتغْزلُ كلَّ الدروبِ إليَّ

حقائِبَ حلْمٍ

أضمُّكَ لي زهرةً

وحروفاً من العشْقِ

*

في غربةٍ لا تنامْ ..

وتفتحُ كلَّ حدائقِ عمْري

سرائرَ غَيبٍ ووجْدٍ

وتحرسُ بسْتانَ روحي

وتهْفو إليَّ ملاكاً

قريباً .. قريباً

نَطيرُ سويّاً

وننْبشُ ذكرى هَوانا

عميقاً ... عميقاً

كبَوحِ العصافيرِ

غابتْ طويلاً

طويلاً ..

*

وكنتَ كنجمِ السَّماءِ

وحيداً ... وحيداً

تُخاطِبُ روحي

وأرحلُ عنكَ إليكَ وفيكَ

و أنّى اتّجهتُ أراكَ ..

يُضيءُ جروحي هواكَ

وتسكُنُ فيَّ لَهيباً شجيّاً

كقطنِ السَّحابِ...

كشَمسِ الغيابِ

كخَوفِ اللجوءِ

ومُرِّ السَّرابِ..

***

كإسْراءِ روحَينِ سرْنا

نَطالُ شموسَ البلادِ البهيّةِ

اِثْنينِ منْ شَغَفٍ

تحْتَ قوسِ العُلا..

وأُبْعِدُ عنكَ طيوفَ الحروبِ،

الخرابِ .. الغيابِ

لتركُضَ فيَّ

غزالاً شريداً

يَطالُ نَخيلا ..

وتجري دماؤكَ فيَّ

كدجلةَ أو كالفراتِ،

كنيلٍ تَهادى

على بَردى فضَّةً

واشْتياقاً ظَليلا...

***

شِعر: إباء اسماعيل

جلست على الشاطئ عند الشفق قبل أن يعلن الغسق عن حضوره؛ أنظر إلى الأفق، فأرى قرص الشمس يوشك على الاختفاء، إنه يوازي حواف مياه البحر الملتصقة بقبة الفراغ الأزرق، غارقًا تلك المساحة لهبًا حمراء يفيض اشتعالًا واتقادًا.
تأملت جمال ذلك المشهد الرهيب الذي أثار في نفسي مشاعر مختلطة، وصراعًا داخليًا وسط التحديات العاطفية والنفسية، وفي ظل التوتر بين الذكريات القديمة والحياة الجديدة حيال قراري بمغادرة الأرض التي أمضيت فيها أكثر من نصف حياتي إلى الأبد.
كنت أناقش الأمر مع نفسي:
ــ كيف لي العيش بعيدًا عن هذا الهواء المنعش، والماء الصافي العذب، والكرامة الإنسانية التي استعدتها هنا خلال فترة إقامتي الطويلة، على الرغم من العلاقات الاجتماعية المتنافرة والقانون الصارم الذي يحدد المسافة بين الأفراد؟
وردّ صدى صوتي:
ــ لا أستطيع أن أتصور صباحًا بدون ابتسامة النهار، ولا ليلة بدون حلم تنقلني إلى عالم الجمال.
بعد أن زفرت كل أنفاسي قلت:
ــ فهل قوة المثابرة والإصرار كافية لمواجهة المد المجهول القادم؟
الطقس الكئيب خلال فصل الشتاء الطويل يخفف من الرغبة في البقاء بسبب البرد الشديد، وتساقط الثلوج، والعواصف العاتية، حيث تختبئ الشمس خلف السحب الداكنة، فيجعل النهار شبه مظلم. حلَّت العتمة وأرخت سدولها على الكون، واختفى هزيز الريح في البحر، وبدأت النجوم تتلألأ في السماء شيئًا فشيئًا…
هكذا بدأت رحلتي الطويلة نحو عالمي الجديد، عالم يمتلئ بالتناقضات في لغته وثقافته وتقاليده وقوانينه. لم تكن رحلتي هذه غير متوقعة، فقد سبق لي أن زرت هذا البلد عشرات المرات كسائح، مما يعطيني بعض الألفة مع الوضع الجديد ويخفف من صدمة الانتقال.
منذ اليوم الأول لوصولي إلى منزلي الجديد، بدأت بتنظيم حياتي في هذه البيئة المختلفة. عشت في منزل واسع يضم أربع غرف نوم وغرفة معيشة كبيرة ذات أسقف عالية. قمت بإعادة ترتيب غرفة النوم بوضع السرير في منتصف الغرفة، بعيدًا عن الباب، مما أضفى على المكان شعورًا بالانسجام. وضعت الكمبيوتر في زاوية الغرفة والتلفزيون في الجدار المقابل للسرير، مما وفر مساحة مريحة للتفاعل اليومي. تنظيم المكان كان مصدر راحة وأمان نفسي، وأمرًا ضروريًا للاستقرار في هذه البيئة الجديدة.
استيقظت صباحًا على صوت موسيقى جنائزية صادرة من مكبرات الصوت في مكان ما بالقرية، معلنة خبر وفاة أحد سكانها. في هذه القرية، للحياة طابع مختلف ينقلك إلى عالم من الدفء والحنان، عالم ترتبط فيه القلوب بروابط اجتماعية وثيقة، لتوجه رسالة مفادها أن الناس لا يمكنهم الاستغناء عن بعضهم البعض، وأن الألفة والسلام هما أساس الاستقرار النفسي والجسدي. في هذه المناسبات الحزينة، يتوافد الناس لتقديم احترامهم والمساهمة بمبلغ صغير من المال، وهو تقليد متجذر بعمق في المجتمع.
كل صباح بعد الإفطار أخرج وأتجول حول القرية، بين الأزقة والبيوت، بعضها لا يزال قديمًا. أنا أسميها قرية، نظرًا لطبيعة الحياة البسيطة وأيضّا لوجود الكثير من الكلاب المنتشرة في جميع أنحاء المنطقة، فإن بعضها ضالة ووحشية. إنهم لا يتوقفون عن النباح عندما يتجاوز أحد حدودهم. هذا يجعلني أشعر بالقلق، لذلك يجب أن أحمل عكازًا يخص والد زوجتي حتى أتمكن من الدفاع عن نفسي، إن حاول أي منهم الاقتراب مني.
في الأوان الأخير، بدأت أقلل من خطواتي وأبتعد عن الأماكن الخالية من الناس والمنازل، خاصة على الطريق المطل على النهر. يحد هذا الطريق الترابي منطقة غابات كثيفة من الجانب الآخر للنهر. في أسفل منحدر الطريق، رأيت كوخًا طينيًا يتسرب منه دخان أسود من فتحة في الأعلى. علمت لاحقًا أنهم يصنعون الفحم للشواء.
وفي تلك اللحظة، أثناء سيري على الطريق الرملي بجانب النهر، لم أكن أعلم ما ينتظرني في هذا العالم الجديد. تركت خلفي كل شيء، ومع ذلك، كانت الحياة هنا تبدأ من جديد، برائحة الفحم ودخان المستقبل المجهول.
الحياة هنا تحمل طابعًا خاصًا، فالناس طيبون ويعرفون بعضهم البعض والعديد منهم أقارب. على الرغم من وجود بعض الشباب المدمنين على المخدرات، إلا أنهم يتصرفون بحذر خشية من الشرطة. تجارب الحياة تقوي الإنسان وتجعله لا يخاف من العواصف تحت أي ظرف، وهذا الشعور بالقوة الذاتية والقدرة على الصمود أمام اختبار الزمن كافٍ ليجعلني أتأقلم بشكل أفضل مع الحياة في القرية الجديدة.
ومع كل خطوة اتخذتها في تلك القرية الجديدة، شعرت بأنني أترك شيئًا من نفسي في كل زاوية. كان ذلك قرارًا لم يكن من السهل اتخاذه، لكنه منحني الإحساس بأنني أخيرًا تمكنت من تجاوز الامتحان الصعب.
***
كفاح الزهاوي

مر من أمامي هزيلا، منحي الراس، يستوطن جسده النحيل معطف بني عريض. يتمايل بخفة عند كل حركة كثوب معلق تخترقه أشعة الشمس. تذكرت ساعتها ذلك المعطف البني، عندما التقيته وهو يهم بمغادرة المؤسسة. قلت له يومها " معطف جميل" ابتسم وقال لي بخجل" شكرا لك". كان على مقاسه، وزاده رقيا. ظلت نظراتي تراقبه، فجاءت ريح صماء أحدثت بلبلة عنيفة على لباسه، وطار المعطف إلى اعلى، وظهر جسد عليل، يئن، لم يعد يحتمل أن يحمل أكثر مما يستطيع. إنه المرض اللعين الذي أنهك رقيه وأرغم معطفه البني على الركوع.

عادت بي ذاكرتي سنوات الى الوراء، وأنا أتابع خطواته المضطربة التي تبحث لها عن أرض متينة تقف عليها. كيف كان أنيقا ومسؤولا. أول الحاضرين للمؤسسة. كان يحمل دائما محفظة ثقيلة تتزاحم بداخلها سنوات عمره. لا تفارقه حتى أثناء فترة الاستراحة. كان لبقا في الحديث لكن يكره الخنوع والسلبية. تراه يناقش كل اللحظات العصيبة التي تمر بها أسرة التعليم. وإذا كان أحدهم يمرر خطاب اليأس والاستسلام. كان يرفع صوته ويده اليمنى كأنه في مرافعة ويقول: "أسهل سلوك هو الاستسلام. لكن الصمود والتضحية هما السلاح الوحيد من أجل التغيير."

استمر في طريقه، يحاول الإمساك بمعطفه الذي خانه، لكن صحته كانت لا تسايره. كان يمشي أمتارا ويتوقف ليستريح. ويعاود السير حتى أحضر له أحد المارين معطفه الذي كان يتسابق مع الريح. كأنه أرهقه الصمود والعناد هو الآخر ويفضل الهروب.

اقتربت منه، ترددت في البداية خوفا من ردة فعله. سلمت عليه وقلت له: "كيف حالك يا ذ. أحمد.؟"

التفت الي ببطء شديد، كأنه يعيد شريط ذكرياته ونظر الي وابتسم وحاول الوقوف بشكل مستقيم. وقال لي:" أهلا وسهلا."

قلت له: هل تذكرني؟

استوطنت الابتسامة ملامحه المرهقة وقال لي: لقد خانتني صحتي، لكن ذاكرتي مازالت حديد.

وضحكنا وغيرنا تجاه خطواتنا وعاد بنا الزمن رغما عنا، الى مرحلة بداياتنا في العمل. جلسنا في أحد المقاهي، وكان يعاند التعب ويحاول أن يسيطر عليه عند كل حركة. حاولت مساعدته بالجلوس. رفض وقال لي: رغم هواني، انني بخير. تعلمين أنني أرفض الاستسلام يا صديقتي.

وكانت بداية الحديث من عند كلمة "الاستسلام".

طلبنا قهوة وقلت له بعدما استرجع قليلا من أنفاسه الهاربة منه: هل تذكر يا ذ. أحمد، كم كنت تكره هذه الكلمة في نضالاتنا؟

أخرج سيجارة وأشعلها بكل الرقي الذي لازمه طيلة حياته وقال: الاستسلام يعني الموت. وأصعب إحساس هو أن تموت وأنت مازلت تتنفس.

كان دخان سيجارته يسافر عبر نافذة المقهى ويعلو في الفضاء كأنه يعلن أن النضال مازال حيا.

سألته بتردد:

- لماذا غيرت المؤسسة ونحن كنا بحاجة اليك. الى نضالك وحماسك؟

ابتسم كعادته لما يكون منتصرا لكنه منكسر النفس وقال:

- كنت مكرها يا صديقتي. أنت تعلمين أنني كنت أرفض الصمت والخنوع لأن في ذلك ضياع لكل حقوقنا المشروعة. وبما أنني كنت المحرك الرئيسي بالمؤسسة، جاءني انذار في نهاية السنة يحذرني من تحركاتي التي تؤثر على السير العادي بالمؤسسة. وما سيأتي فيما بعد أنهكني وجعلني أعيد حساباتي.

ساد صمت طويل بيننا، تأملت رعشة يده عندما كان يشرب قهوته. وتذكرت ساعتها كم كانت تلك اليد تتحرك في الفضاء عند كل لقاء من أجل التعبئة وشرح ضرورة الصمود من أجل مكتسباتنا. يد صارت ترتعش وجسد يئن وذاكرة تعيد شريط الذكريات. حاولت أن أعيد للحظة تفاؤلها وقلت له:

- الجميع كان يحترمك ويعلم مدى مصداقيتك.

طلب قهوة أخرى وأشعل سيجارة أخرى. ولم أفهم لماذا إصراره على تخريب صحته وهو يعاني من المرض. سألته:

- لماذا لا تفكر في الإقلاع عن التدخين؟ إنك تضر صحتك.

عدل من معطفه البني الذي كان شاهدا على حضور بهي وراقي في يوم من الأيام وقال لي:

- التدخين غير مسئول عن تدهور حالتي الصحية. يوم أجبرت على تغيير المؤسسة، انقلبت حياتي رأسا على عقب يا صديقتي. كنت كمن نفي الى جزيرة.

سعل بشدة كأن ذكرياته أزعجت نوم ذاكرته المؤقت، ورشف من قهوته قليلا ثم قال لي:

- الإحساس بالوحدة يا صديقتي أصعب من الموت. هو شعور يأكل كل ما هو جميل فيك كالنار في الهشيم. وقد نجحوا في ذلك.

عدت بذاكرتي الى يوم تأججت فيه نضالاتنا وصمودنا. حيث تم تعنيف أستاذ من طرف تلميذ خارج أسوار المؤسسة. يومها كان ذ. أحمد ثائرا كالبركان. رفع صوته وقال: "انها حدود حمراء تم تجاوزها. والصمت عن هذا هو اذلال وقهر لكل أسرة التعليم." تضامننا مع الأستاذ المعنف أقلق الإدارة التربوية لأنها كانت تريد أن تنهي مع الموضوع بأي شكل. فسألته وهو هائم ويتأمل كل الضجيج الذي أمامه.:

- هل تذكر يا ذ. أحمد، يوم اتحدنا مع الأستاذ الذي عنف وكانت هناك ضغوطات من طرف المدير من أجل أن يتنازل.

ضحكات متتالية وفرح عابر ظهر على ملامحه، فقال لي:

- ياه، يا أستاذة، كانت معركة حياة أو موت بالنسبة الي. لكن للأسف الشديد، لقد دفعت الثمن غاليا. ونفيت الى أقصى البلاد حتى هاجمني المرض وصرت غير قادر على الحركة كما أريد. ولم أجد سوى التدخين يمتص آلامي وحزني.

وسقطت دمعة، هاربة من وراء قضبان الصمت والصبر والألم. حاولت التخفيف عنه. قلت له:

- لقد حاولنا كثيرا الاتصال بك. لقد كنت لنا نبراسا يا ذ. أحمد. ستعود صحتك فقط يجب عليك الإقلاع عن التدخين.

رمى سيجارته بعنف ووقف وهو يرتعش محاولا التمسك بمعطفه البني وقال لي:

- شكرا لك يا صديقتي على هذه اللحظات الجميلة.

تردد في الانصراف ثم عاد ونزع عنه معطفه البني ووضعه فوق الكرسي الذي كان جالسا عليه وقال لي:

- لقد انهزمت يا صديقتي. لقد نجحوا في ذلك.

***

أمينة شرادي

كل يوم أذهب نحو الليل

بأقدام متثاقلة

همهمات ترثي الانتظار

المشلوح على رصيف العتمة

مكلوما.. يتمدد

بعدما استنفذ حبوب الصبر

أرجو المسافات أن تطول

كي لا أصل معبد الظلام

حيث كهنة النار يقيمون قداس الوجع=

*

لهمزة مكسورة.. أثقلها التلويح

للراحلين.. للعائدين.. للقابعين

في ذاكرة النسيان

كريح تعبر محطات لا تجيء

حين غلقت الأيام أبوابها

ونبت تحت كل مدينة بركان

يؤرق صبرها..

*

نون مجوفة..

في حضنها نامت الخيبات..

تناسلت وأنجبت طفولة

تعتلي صهوات خيول متعبة

في ساحات المحن

توزع أوسمة الموت

ونياشين الضجر

*

سين.. تهدهد الأحلام الباكية

في القلوب الطيبة

على أرجوحات معلقة

بين الدمع المشرد..

والعيون المهربة

نحو كابوس فاغر ذعره

لالتهام ابتسامات نيئة

*

ألف.. تسامقت قصبا

تعزف الحكاية موالا حزينا

لجرح الذاكرة.. وحكم القدر

على القرى بالغرق

في بطون الأودية

والأحجار ثابتة عند حدود الغصة

شاهرة مايات الغضب

استقبالا للناجين من لجي الانحناء

*

ونون أخرى تقعرت..ثم تفجرت

استجابة لدعوات شمس

لا تقبل إطعام الأفواه جوعا

كيما تغني البطون للفقر

على إيقاع الوجع الدامي

في عالم فسيح القهر

غني بالظلام..

*

زمرة المكلومين العائدين

من حرائق الشرود

على صدر قصيدة بلا عنوان.. ينامون

ليس يمنعهم عن كتابته سوى

ليل طويل

لم يعثروا له على.. ال.. التعريف

ودمعات جفت في حضن التناهيد

استدارت غصة

في حلق العنادل

فهل تولد الأغاني

من حلم صلب

لا يتسرب إليه الماء والهواء؟

***

مالكة حبرشيد

المغرب

كغصن انفصل عن جذعه،

إستلقي مثل فكرةٍ لم تكتمل،

نصف عمرٍ مضى، نصف نومٍ آت،

ولا شيء يكتمل إلا الفقد.

*

الرُّوحُ كَمِزلاجِ نافذةٍ صَدِئ،

تَتَأرْجَحُ بينَ ماضٍ يَنْحَسِرُ كمدٍّ بَعيد،

ومُسْتَقْبَلٍ يَتَكَسَّرُ كالأمْوَاجِ عَلى ضِفَّةِ الأَمَلِ المُنْكَمِش.

أَيُّ نِصْفٍ يَتَوَحَّدُ في هَذَا السُّكُونِ المُفْرِط؟

أَيُّ ظِلٍّ لِلرَّجُلِ الذِي يَتَأَمَّلُ خَطُّوْطَ وَجْهِهِ

فِي مِرْآةٍ تُشْبِهُ زُجَاجَ المَطَرِ المُتَكَهِّف؟

*

إنَّهُ وَقْتُ التَّخَلِّي،

حينَ تَصِيرُ المَفَاصِلُ أَثْقَلَ مِنِ الذِّكْرَيَات،

والطُّرُقُ أَطْوَلَ مِنْ أَيِّ نِيَّةٍ لِلرُّجُوع.

الرَّغْبَاتُ الخَفِيَّةُ تَتَسَلَّلُ كَقِطٍّ ضَجِر،

تُقَلِّبُ فِي الدَّرْجِ المُغْلَقِ

عَنْ بَقَايَا قَصِيدَةٍ لَمْ تُكْتَبْ،

عَنْ نَصٍّ مُؤَجَّلٍ،

عَنْ اسْمٍ كَانَ لِه يَوْمًا،

وَلَمْ يَعُدْ.

النُّورُ هُنا ضَعِيفٌ كَمِصْبَاحِ مَوْتَى،

يَتَسَلَّلُ مِنْ أَطْرَافِ السِّتَائِرِ كَشَفَقٍ نَادِم،

يُلْقِي بِظِلٍّ بَاهِتٍ عَلَى جِدَارٍ خَالٍ،

لَكِنَّهُ لا يُضِيءُ شَيْئًا.

*

هَذَا النِّصْفُ الَّذِي يتَمَدَّدُ فِيهِ

لَيْسَ لَيْلًا،

وَلَيْسَ يَقَظَة،

لَيْسَ عُمُرًا،

وَلَيْسَ مَوْتًا.

*

إِنَّهُ أَثَرُ خُطُوَاتٍ فِي طِينٍ قَدِيم،

إِنَّهُ وَعْدُ الشَّمْسِ الَّتِي قد تَأْتِي...رغم رهج السديم ...

***

مجيدة محمدي - تونس

في نصوص اليوم