نصوص أدبية

نصوص أدبية

هربتُ من المدينة،

من الطرق الإسفلتية التي تحبس أنفاسي،

ومن الأبراج الزجاجية

التي تعكس وجهي كغريبٍ بلا ملامح.

ذهبتُ إلى حيث تبدأ الحكايات،

إلى الغابة

التي ما زالت تحتفظ بسرّها القديم.

2.

هناك، تحت شجرةٍ عجوز

تأبى أن تموت،

جلستُ أراقب ظلها

وهو يرسم على الأرض خرائطَ بلا وجهة.

الجذور تلتف حول نفسها

كأنها تبحث عن قلب الأرض،

وأنا أبحث عن نفسي

في حضنها الدافئ.

3.

الريح هنا لا تعرف الأكاذيب،

تصفّر بلحنٍ صادق،

تحمل حكاياتٍ من بعيد،

من أماكن لم تلوثها أصوات البشر.

سألتها:

كيف تنسى الطبيعة جراحها؟

فأجابت:

كل جرحٍ يندمل حين يعود إلى أصله.

4.

لم أعد أحتاج إلى الوقت،

فالزمن هنا ينساب

مثل جدولٍ هادئ،

لا يضغط على أكتافي

ولا يسابقني نحو اللاشيء.

كل لحظةٍ تتنفس ببطء،

تملأ روحي بصبر الشجر

وحكمة الحجارة.

5.

حين مددتُ يدي

لألمس جذع الشجرة،

شعرتُ بنبضها.

هل تسمعونها؟

الأرض تتحدث،

لكننا نسينا لغتها.

كل نبضةٍ تقول:

"عد إلى جذورك،

هناك حيث لا يحتاج الحب

إلى كلمات."

6.

عدتُ إلى المدينة،

لكنني لم أعد كما كنت.

حملتُ معي رائحة الغابة،

صوت الريح،

وظل الشجرة العجوز.

في كل زاويةٍ من هذا العالم الصاخب،

أبحث عن قطعةٍ صغيرة

أعيد فيها زراعة قلبي

***

جاسم الخالدي

وتلفتت، تبحث عن أشلائها

فوق السرير تمهلت

وتهافت الظن الرحيم

على الوسادة وانحنت

تمسح عن اجفانها قهر الهوى

وتساءلت،

لا ضير في كل الذي يجري

ولكن أين موعدك السخي؟

وأين تلك النبرة الحمقاء

أن لا تسكبي دمعا

في كؤوس الصبر

حتى في دروب محبتي

فخيار عشرتنا سخي

في وحدتي وتوحدي..

**

هذي شياطين القوافي

كلهن على المدى

يعبثن كالإعصار

كالولد الشقي..

**

لا تسكبي دمعاً

يزيد شهيتي

ان اركب الموج العتي

بلا شراع او رياح

حتى بصيص الضوء يهرب

في سراب نهايتي..

**

فتريثي وتمهلي

فأنا سليل الطارق المتوسد

نجم السماء

ومخمل الغيم الندي..

ما زلت أمرح في سماء محبتي

أجتاح هذا الكون عبر سحابتي

لا تسكبيني

في إناء جوارحي

فأنا ما زلت أمسك بالبروق

وبالرعود وكل

قافية الجمال دعاباتي..

لا تسكبيني في كؤوس الغيب

كالعطر الندي

فانا سقيم دواخلي

فالعطر يخدش مخملي

والسهد (يسبيني) سبي..

لا تكثري اللوم الشؤوم على الهوى

او تسلبيني

الصبر والتقوى

وعرش نبي..!!

***

د. جودت صالح

29/ كانون الثاني 2025

إلهي أعِدْنِي إلى محطاتي القديمة

نسيتُ هناك بعض الفواصل

وبعض النقاط التي أخطأتُ توزيعها

يسألني أبي بهدوئه المعتاد

أين خبأتِ مشابك شعرك الوردية

فأتساءل:

تلك التي بلون الحلوى؟

أم الأخرى أخت القمر

يجيبني:

مشابك العيد التي اقتنيتها هذا اليوم

*

اليوم بعد كل الأعياد تذكرت ُ يا إلهي

أنها مخبأة بذاكرتي أعدني الهي لأدل أبي عليها

أعدني الى محطاتي القديمة

إلى منزل رسمته على الأرض دون باب

فغادره الأهل والصحاب

أعدني إلهي لأشد الوثاق على سوره بكلتا يدي

*

أعدني إلى قرية في الضباب

وحين صحوت كنت انقسمت: أمّا وطفلا

أعدني لأحمل طفلي بشكل مريح

أعدني الان أعدني

لاني تعلمت كيف ألاعب طفلي،

وأنجب طفلي دون جروح

اعدني الهي فكل المحطات أقفرت

قبل مواعيد القطار

وكل المحطات انزوت قبل مرور حذائي الجديد

أعدني عساني أعدل خيطا بهذا الطريق

***

سميرة بالنصر

رقدت في المستشفى لفترة ثلاثة أشهر إثر سقوطي من شرفة الشقة التي كنت أسكنها وحدي. سُجل الحادث عند الشرطة كحالة انتحار، وفسرت اللجنة الطبية في سلطة المدينة الحادث بالمعنى ذاته، الذي استقر عليه تقرير الشرطة، بالرغم من أقوالي التي دونت أيضا من قبل الضابط، وقلت فيها بأني قفزت من الشرفة بدوافع محاولة إنقاذ صديقي فؤاد المضرج بالدم، والذي كان يلوح لي بيده، وصوته يذوي ويختفي ثم يعلو بين التأوه والتوجع. لقد مزقته الشظايا، والثقوب ظاهرة موشومة ببذلته الخاكية، والدم ينز منها بقوة. أردت الاقتراب منه، حاولت الوصول إليه، لم يكن بعيدا عني. حزمت أمري وما كنت مستعداً لمنع نفسي من إنقاذ صديقي. استطعت إمساك سياج الشرفة بمكنة وقوة وتركت جسدي يتدلى نحوه. كان صوت فؤاد يختلط بضجيج مربك، وهواء كثيف يندفع يرفعني نحو الأعلى. لامست أصابعه، سحبتها ولكنها تمطت وخلعت من كفها، أيضا كنت أنا أتمدد وأجرجر قدميّ بتثاقل لكي أصل إلى ما بعد الساتر حيث يرقد فؤاد. شاهدت دموعه وشعرت مقدار الوهن الذي كان عليه.

كان هناك صوت عميق ثقيل يندفع صداه في أذنيّ. أصغيت له جيداً. شعرت ببرد قارس وثمة ألوان كثيفة تتجمع في عينيّ. كان جسدي ينسحب خفيفاً في الفضاء مثل ريشة، والسماء تقترب مني شديدة الزرقة، تشع من خلالها ألوان تومض مثل البرق. انزلق جسدي وهويت.

لم أفق بعدها، أظن أني رقدت مغشياً عليَّ لفترة طويلة. وحين أفقت من غيبوبتي وجدت نفسي أرقد في المستشفى، مسجّى فوق سرير برائحة عطرة مركون قرب النافذة. تحسست جسدي فوجدتني لا أستطيع تحريك يديّ وقدميّ من الجانب الأيسر، ورأسي تغطـّيه لفافة ثقيلة. قال لي الطبيب إن غيبوبتي استمرت لأكثر من أسبوعين، وراودهم اعتقاد بأن المدة ستطول بسبب إصابة الرأس، ولكن يبدو أن جسدي يمتلك القوة الكافية للتماثل على الشفاء. هذا ما قاله وهو يسلط ضوء الكشاف داخل عيني.

 دوّن في تقرير الشرطة ان ليس هناك شخص باسم فؤاد يسكن بالقرب من شقتي، أو يمت لي بصلة في المدينة أو خارجها. وأكـّد التقرير على أن الحادثة كانت محاولة انتحار، ربما سبقها تناول بعض حبوب هلوسة أو مهدئة، تلك التي وجد مثلها بالقرب من سريري. اعترضت على ما جاء في تقرير الشرطة، وحاولت إفهامهم بأن ما حدث كان واقعا صحيحاً كل الصحة، وأني لست مختل العقل، ولم أتناول طيلة حياتي أي نوع من الممنوعات أو الشراب المسكر. وكنت بكامل وعيي حين شاهدت ولمست ما حدث لفؤاد، ولم يكن حلماً أو هلوسة. لم يصغ لي أحد، ولم يرغبوا الاستماع للوقائع التي عشتها وشاهدتها لا بل لمستها. لم يصدق قصتي سوى ممرضة عجوز طيبة. كانت تواسيني وتضمد جراحي كأم رؤوم، وتجلس في الكثير من الوقت جوار سريري تحكي لتسليني وتبعد السأم والخوف عن روحي. كانت تعتني بجراحي التي سببت لي بالنتيجة إعاقة في أطرافي اليسرى وشلتني عن الحركة.

قضيت الأشهر الثلاثة في المستشفى وأنا أتقلب بشكل يومي بين يدي الأطباء. قضيت معظم وقتي أراقب مرآب السيارات وحركة الناس أمام نافذتي، وأتناول الطعام في السرير وأشاهد برامج التلفزيون المعلق في زاوية الغرفة، وطيلة الوقت أحاول تذكر الحادث وإعادة تصويره في ذهني المرتبك المشوش. كنت على يقين تام بأن ما حدث معي لم يكن هذياناً أو أضغاث أحلام أو حتى هلوسة. صحيح أني مرتبك في نومي، وأعاني من قلق وفزع وكوابيس دائمة، وأتناول عند الحاجة بعض الحبوب دفعاً للأرق، ولكني كنت أنظر للأمر بوضوح شديد ويقينية. ولكني كنت دائماً، حين أتذكر كل تلك الأشياء وما حدث لنا في تلك الحرب المفجعة، أجد نفسي بين حالتي الغضب الذي يخالطه الحزن فتسيطر عليَّ مشاعر من كآبة شديدة تلتهم أيامي دون رحمه. شخّصها الأطباء بكآبة مرضية متواترة ورهاب، ولم أفهم لحد الآن معنى الكآبة المتواترة ولا حتى الرهاب.

***

فرات المحسن

 

بَكيْتكَ

بكيتكَ يا وطني

بَكيتُ أجراسَ المَحَبةِ فيكَ،

مَآذنا تعانقُ السّماءْ.

بَكيتُ ليسَ ضَعفاً

ولا مَذلة ً، ولا حباً بالبكاءْ.

**

بَكيتكَ يا وطني

بَكيتُ المَحبّة َ

بكيتُ الصّباحَ

بكيتُ المَساءْ،

طفولة ً فقدتْ، غرسَة زيتون ٍ، بركة ماءْ.

بَكيتُ... دعوتُ ... أعَدتُ الدّعاءْ.

**

بكيتكَ يا وطني

ياعشّ الحمائم ِ

أيقونة َ عابدٍ

قد كسَرَتها

أيادي الفندالْ*

جُنودُ الدولارْ

قطعانُ الغُرباءْ.

**

بكيتكَ يا وطني

بَكيتُ ترانيمَ شاعِر،

صَرخَة ثكلى،

شلالَ رَجاءْ.

**

بكيتك َ يا وطني

بَكيتُ الصّدق فيكَ

فنجانَ القهوة ِ

حَبات ِ الهال ِ

مَعشَرَ الأوفياءْ.

**

بكيتكَ يا وطني

ناديتُ الأشرافَ

من بنيكَ

خاطبتهُم ... قبّلتُ جباهَهُم ... كرّرتُ النداءْ.

بَكيتك يا وطني

صَباحَ كلّ يوم ٍ... وفي ليالي الشّتاءْ.

***

بقلم الدكتور إسماعيل مكارم

روسيا الإتحادية – شتاء 2014

..............................

 * الفندال: قبائل متوحشة سكنت شمال أوروبا،  كانت تهاجم قرى الفيكينغ العامرة، وتقتل وتنهب، وتحرق كل شيء حَضاري.

 

على الدفء المقدّس للكراسي

تذوب أجسادُ الحُكّام الشحمية

ثمّ يتجمّد الشحم الذائبُ في قوالب الكراسي

متّخذاً شكل أرجلٍ ومساند

وبذلك تصبح الكراسي هي الحكّام

ويصبح الحكّام هم الكراسي

- 2

في معهد الكراسي للحكام المبتدئين

حيث الخشب المصبوغ ببصاق التاريخ هو العميد

والمسامير هم الهيئة الإنضباطية

يُعاقبون بالنخس الأعجاز العصيّة على الإنتفاخ

بينما سوسة الخشب هي معلمة القتل الناعم

تُعلّم طلاب الصفوف الأولى

أنْ ليس الخشب وحدهُ ما يُنخر

بل كلّ ما يصلح لمأدبة مجانية:

ميراث اليتامى

والقلوب التي في مرحلة الرضاع

والأحلام المحلقة بأجنحة جيل لم يولد بعد

- 3 –

بعد التخرّج في معهد الكراسي

يُرقّى الحكام إلى مرتبة طغاة

عندئذ ينقلون إقاماتهم إلى سبطانات بنادقهم

ينامون هناك

ويتغوّطون

ويتخذون من رائحة البارود زوجات وعشيقات

مطمئنين إلى أن أصابعهم المطلية بالغِراء

تجلب كلّ ما يُلامسها

ربما لا تشبه أسنانهم مِفرمة اللحم

ولا أفواههم مغاور اللصوص

لكنّ شخيرهم يفضحهم

فهو استغاثات الذين افترسوهم

- 4 –

كلّ الحكّام طغاة

حتى لو كانوا دُمىً من طين

ليس من الطين الذي يلعب به الأطفال

بل الذي يُدفن به مستقبلهم

***

شعر / ليث الصندوق

 

(صورةٌ لقريتنا في الستينيات من القرن الماضي)

سَأقُصُّ كالرُؤيا بِدايَةَ راحِلٍ

وَأخُطُّها

بِيَراعَتي وَمِدادِ بَحْرِ الصمْتِ من وَحْي العَزاءْ

*

قَلَمي يَحيدُ عَنِ المَديحِ سَليقَةً

وَيَراهُ في المعنى نقيضاً لِلْرِثاءْ

*

حيثُ المَدائحُ قِشْرَةٌ وَحَراشِفٌ

أمّا مَصاديقُ الجَوى فَسُلافَةٌ

كَعُصارةِ الوجدانِ في لُبِّ المَراثي واللحاءْ

*

وَخُطى المراثي تَقتفي

مَطَرَ الصلاةِ على الفقيدِ تَأمُّلاً ثُمّ الدُعاءْ

*

لِتَهُزَّ أعْذاقَ الثِمارِ بِروحِهِ

فإذا بِدُرّراقِ القصائِدِ ناضِجٌ

كَنَضيدِ كُمّثْرى الرُؤى والِكِسْتَناءْ

*

نَبَتتْ بَواكيرُ القوافي والرُؤى

في قَرْيَةٍ مَنْسيّةٍ

لكنها ألْقتْ على أحلامِ فِتْيَتِها الرَجاءْ

*

وَغَداً سَيَذْكُرُها الأنامُ تَحيَّةً

ما مَرَّ سارٍ في الفلاةِ وَما

أحيى بها الأضيافُ ذكرى الشعراءْ

*

كُرْمى لِمَنْ شَهِدَتْ وِلادَةَ شاعِرٍ

نَحَتَ الفُؤادَ قصائداً

حدَّ التَغرُّبِ والشَقاءْ

*

هِيَ قريةٌ منسيَّةٌ

حَضَنَتْ فُراتَ اللهِ وإختَصرتْ

كَقُرى العراقِ بِروحِها

زمنَ الشدائدِ والرخاءْ

*

يجري الفراتُ يَمينَها مُتَبخْتِراً

فَتَرى النخيلَ بواسقاً بِضفافِها

شَغَفاً يُراوُدْنَ السَماءْ

*

وَيَسارُها خلفَ الهِضابِ (بُحيْرَةٌ)

تمتدُّ ماءً في الصحارى كُلّما

سالتْ دموعُ الثلجِ في أقصى الشمالْ

وَتَفجّرتْ صيفاً ضِفافُ النَهرِ

أمواجاً وَماءْ

*

وَبِقلبِها المُخْضرِّ ثَمّةَ شارعٌ

يَنْسلُّ في فردوسها المفقودِ مِثْلَ الأُفْعُوانْ

ينسابُ بينَ بيوتِها ونخيلها مُتَلهّفاً

لِعِناقِ أبوابِ البيوتِ وأهلِها

وَعَلى حَياءْ

*

فَبيوتها السمراءُ قانِتَةٌ

مُحاذاةَ الطريقِ يَؤُمُّها

شَجَرٌ تَسوّرَ بالعنادلِ والنخيلْ

*

كُنّا نَشمُّ رَوائحَ الخُبزِ الشَهيّةِ

من تنانيرِ البيوتِ وطينِها

وَقْتَ الشروقِ تَجلّياً وَمَعَ الأصيلْ

*

كَمَذاقِ ترتيلِ المَعوذَةِ والضحى

وَتِلاوةِ الأنعامِ والسبْعِ المَثانْ

*

وَحَلاوةِ النَغَماتِ في أبهى تلاحينِ

الأغاني أو مقاماتِ الأذانْ

*

عَسَلاً تفيضُ دموعُها

كَـ(البَرْبَنِ) المعسولِ مِهْروقاً على ظهرِ اللسانْ

*

وَتَكادُ تَهْجَعُ قريتي

شأنَ الطيورِ إذا مضى عنها النهارْ

وَتَلاشت الأشْفاقُ وإرْتَحَلَ الضياءْ

*

والناسُ تسهرُ في البيوتِ على

بريقٍ لاهِثٍ بِذُبالةِ الفانوسِ

أو جَمْرِ المواقدِ أُلْفَةً

والتمرُ مائدةُ العَشاءْ

*

وَقلوبهم تلتفُّ حولَ جِمارِها

طَمَعاً بِدِفْء الوِدِّ في بردِ المساءْ

*

وَهُناكَ تشتعلُ الحناجرُ

بالأحاديثِ النَديّةِ والحكاياتِ

التي تندى بِآياتِ الثَناءْ

*

تنْهلُّ كالمطرِ اللذيذِ على

عَطَشى الشِفاهِ تشوُّقاً لِنَدى الرَواءْ

*

وَتَذوبِ كالحلوى مَجازاً في خَيالِ الساهِرينْ

وَأبي يُردّدها مِراراً حولَ موقدةِ الشتاءْ

وَيقولُها مُتباهِياً وَبِكبْرياءْ:

*

هُوَ أوّلُ الأشبالِ تلميذاً بِقريتنا

يُكرّمُهُ الزعيمْ

*

أهداهُ مكتبةً بِها ألْفا كِتابْ

كَرَماً وَجوداً من لَدُنْ عبدِ الكريمْ

*

لِفَتىً لَبيبٍ بعدَ أنْ طرقَ النبوغَ مُبكّراً

ومضى يلحّنُ نفْسَهُ وَنفوسَ مرضاهُ

التي قد هَمّها ضَرَرٌ أليمْ

*

عَجباً أرى ذاك الفتى عندَ اليُفوعةِ والصِبا مُتَنعّماً برعايةِ البطلِ العظيمْ

*

وَلَدى الكُهولةِ مُهْملاً

بِزمانِ حاضرنا اللئيمْ

*

وأتى أخي:

لِيُعيدَ مَزْهوّاً على آذانِنا

ذاتَ الحِكايةِ عن فتىً

شَهِدَتْ مواهبَهُ الدفاترُ والصُفوفْ

*

حتى إذا غرستْ أناملُهُ زهورَ الياسمينْ

رَفَلت شذىً بِأريجِها كلِّ الرُفوفْ

*

كَشُجيْرَةِ البستانِ وارفةٍ ودانيةِ القُطوفْ

*

وَعُذوقُها حُبلى بِناضِجةِ الثِمارِ فَواكِهَ

الألبابِ من شتى الصُنوفْ

*

كَشَفتْ أساريرَ النُفوسِ فأشْرَقتْ

شمسٌ بها بعدَ الكُسوفْ

*

فَتَرَمّمتْ فيها الرضوضُ نقاهةً

وَتَحصّنتْ بالروحِ من شَبَحِ الوساوسِ والحُتوفْ

*

واليومَ قد بلغَ النهايةَ بعدما

شرِبَ المرارةَ كلّها من شَرِّ داءْ

*

وَرَمٍ تَشعّبَ في الخَلايا هازِئاً

بِمَشارِطِ الجَرّاحِ كيداً والدَواءْ

*

في البَدْءِ قاوَمَ جاهداً سَرَطانَهُ

بِرؤى القوافي والقصائدِ إنّما

لَمْ تمنحِ المعلولَ آلاءَ الشفاءْ

*

في آخِرِ المشوارِ سلّمَ راضياً

بالموتِ حقّاً حيثُ خاتمةِ التوجّعِ

والتميّزِ والمَطافْ

***

د. مصطفى علي - شاعر

 

"أمّي، دعيني أنضمّ إلى المسيرة،

أمّي، دعيني أرفع رايات السّلام."

"لا، يا بنيّتي، أركضي إلى المسجد العمرّي،

تحت قبتة العتيقة،

إرفعي يديك البريئتين بالدّعاء."

*

تركض الأمّ المذعورة،

تمدّ صوتها تحت الرّكام،

تنادي ابنتها التّي أصْمِتَتْ ظُلما،

كإصمات فتياتِ "بالادِ بيرمنغهام." *

*

بضع  مسيرات و لافتات،

تُنسى الفتاة،

ونُسِيت دموع الأمّ على قبر أحلام طفولة مُحَطّمة.

***

نزار فاروق هِرْمَاسْ

أستاذ دراسات الشّرق الأوسط وجنوب آسيا

جامعة فيرجينيا

.......................

* في عام 1969، كتب الشّاعر الأمريكيّ الأسود دودلي راندال قصيدته Ballad of Birmingham”/أغنية بيرمنغهام”،  حول  التّفجير الذي استهدف كنيسة للأمريكيين السّود في برمنغهام، وأودى بحياة أربع فتيات أمريكيّات من أصل إفريقي. في القصيدة، تسعى طفلة للانضمام إلى مسيرة للسّود المضطهدين، لكنّ والدتها تمنعها من ذلك خوفاً عليها وتأمرها بالتّوجه إلى  إلى كنيسة للسّود لتُقتل ابنتها  في هجوم  عنصري في الخامس عشر من أيلول/سبتمبر 1963.هذه القصيدة ألهمت لاحقاً الرواية الشهيرة The Watsons Go to Birmingham – 1963 للرّوائي كريستوفر بول كيرتس، التي أعادت تصوير المأساة من منظور عائلة أمريكيّة أفريقيّة في ظلّ التّوترّات العرقيّة العنيفة في الجنوب الأمريكيّ.

الخطوة الأولى، انزلاق في الفراغ.

لا وزن. لا صوت.

نقطة صغيرة في العدم

تتمدد مثل وهمٍ قرر أن يكون.

و الهواء يختنق من ثقل الاحتمالات.

هل هذه بداية؟ أم صدى شيء بدأ منذ الأزل؟

*

الخطوة الثانية، الشوارع بلا ملامح،

الأحذية بلا ذاكرة،

والإسفلت يشبه جلداً بشرياً نام طويلاً تحت الشمس. أضواء إشارات المرور تصرخ دون صوت،

كأنها تقاطع الزمن نفسه.

أين نذهب؟ ولماذا كل شيء يُعيد نفسه؟

*

الخطوة الثالثة، المسافة تتآكل.

كل خطوة تأكل ظلَّها،

وكأن الأرض تتضوّر جوعاً .

المدينة تحاول أن تقنعنا أنها ثابتة،

لكن الأرصفة تتحرك ببطء،

تقترب من بعضها ثم تتباعد،

كأنها تحلم أن تصبح متاهة.

الخطوة الرابعة، الجدران تهمس.

الأحذية تتباطأ، تشعر بثقل العيون التي لم نرها.

هناك من يمشي معنا.

ربما نحن نسخ مشوهة من أنفسنا،

نراقب سيرنا من نوافذ مكسورة في طوابق منسية.

*

الخطوة الخامسة، هل ثمة نهاية؟

أم أن الخطوات ليست سوى دوران لولبي،

كلما تقدمنا ابتعدنا،

كلما توقفنا انجرفنا،

وكلما استسلمنا ولد طريق جديد؟

*

الخطوة السادسة، الرصيف أصبح بلا ملمس،

الشوارع تتحلل تحت الأقدام.

الفراغ يبتلع التفاصيل،

يلتهم أسماء الشوارع، أرقام الأبنية، حتى أسماءنا.

*

الخطوة السابعة، نحن الآن بلا أسماء، بلا ذاكرة،

مجرد كائنات مصنوعة من خطى.

ندور، نكرر، نبحث عن نهاية ليست سوى بداية أخرى.

الخطوة الأخيرة، لا توجد خطوة أخيرة.

***

مجيدة محمدي – شاعرة تونسية

 

النافِثُـونَ ضِبَــابهُمُ في المنـــبرِ

يَتَحَمَّمــــونَ بمُنْــــكرٍ.. وبأنْـــكرِ

*

ويُنَشِّفُونَ خِطَـــــابَهُمْ بقداسـةٍ

مُبتلَّةٍ بنجـــــــــــاسةِ المُتَنَـــكِّرِ

*

في حَلْقِهِمْ بالَتْ صهاينَةُ الأذى

وتغوَّطَتْ فيهِ بكل تَبَخْــــــــتُرِ

*

يّسْتَعْمِرونَ عقولنا بسخـــــافةٍ

ويُبَرِّرُونَ سخـــافةَ المُسْتَعْمِـرِ!

*

يَسْتَقَطِبُونَ (قَضِيـــــبَهُ) بتَوَدُّدٍ

(أفقيّ أو رأسيّ) دون تذَمُّـرِ!

*

ياليْتَهُمْ غَطُّــــوا على عوراتِهم

وتَعَلَّموا شَرفَ الرجولةِ بالعُرِي!

*

صارتْ لِحَــــاهُمْ للقِـــوَادَةِ آيةً

وطَوَتْ عَمَائِمـــهمْ صريح مُزَنَّرِ

*

يَسْري (سَلُولٌ) في كيانِ دِمائهم

ويَؤُمّهُمْ نحو الكيــــان الأَكْفَــرِ

*

ما خَصَّـــهُمْ بالدِّيــنِ هل هُمْ ربنا

أم خَصّهُمٰ بديــانةِ المُسْتَهْـتِرِ؟!

*

ليَظَلّ مَنْطِقهـــــا الدنيءُ مُخَنَّثٌ

كـ(شيـــوخِها) بِمُحَـدَّبٍ ومُقَـعَّـرِ

*

(ســوريا) بهم لن تَنْطَفِئ ويلاتهـا

سَتَظل غَرْقى في ظَــلامَ الأحمرِ

*

لا أَصْــــلَحَ اللَّهُ لهُــمْ حـالاً...ولا

صَلحَتْ لَهُمْ دنيا وأُخْرى بـآخرِ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

5/1/2025

.........................

* الأصدقاء الأعزاء: طال غيابي عنكم بسبب مرض السكري المزمن، دعواتكم لي بالشفاء

 

في غرفةٍ مكتظةٍ بالضوء الأزرق،

حيث لا نافذة تُطلُّ على الشوارع القديمة،

ولا أصواتُ الباعةِ تخترقُ الزجاجَ العازل،

يجلسُ الإنسانُ أمامَ صندوقٍ بلا ذاكرة.

يبحثُ عن ظلِّه بين الحروف،

لكنه لا يجدُ سوى انعكاسٍ

مكسورٍ على شاشةٍ صامتة.

*

هل يعرفُ أحدٌ

كيف فقدنا أصواتَنا؟

كنا نُحدّثُ الأشجار،

ونسمعُ وشوشةَ الرياح في المساءات الطويلة.

الآن، كلُّ شيءٍ يُقالُ

يموتُ في الأثير

قبل أن يصل.

*

كانوا يقولون:

"هذه التقنية ستختصرُ المسافات،

وتقربُ الأحباب."

لكنهم نسوا أن المسافةَ

لم تكن أمتارًا،

بل كانت حنينًا.

*

في هذه الغرفة،

أحاول أن أكتبَ رسالةً

لكن الحروفَ

تتساقطُ من يدي كأوراقِ خريفٍ

لم يجدْ شجرةً تأويه.

كلُّ كلمةٍ تخرجُ باردةً،

عاريةً من المعنى.

حتى الحزنُ صارَ مُعلّبًا

في رموزٍ

أُرسلها دون أن أشعر.

*

أين نحن؟

وأين العالمُ الذي كنّا نعرفه؟

كان للصمتِ هيبته،

وكان للحضورِ ثقله،

لكننا الآن

نعيشُ في ضجيجٍ

لا صوتَ له.

*

ربما يومًا ما

سنتذكرُ

أنَّ الإنسانَ كان يحتاجُ

إلى أكثر من آلةٍ

ليحيا.

***

د. جاسم الخالدي

براءَةٌ أَدمَتْها الأَشواكُ

فهوتْ تَنْزفُ بين هضابِ الحيرَةِ..

لؤلؤَةٌ ثَمِلَةٌ تَموجُ

على شَواطِئِ النِسْيان

سِنديانَةٌ ثَكلى تتَرنَّحُ

على بُحيرةِ اَلآهاتِ

كم من آمالٍ أطْفَأَها أَنينُ اَلشُموعِ

وأَحْلامٍ شرَّدَتْها كُثْبانُ الوهمِ؟

عَصِيَّةُ اَلدَّمْعِ

لن أَذرِفَ دُموعِيَ

على أَعْتابِ القَهر

ما زِلتُ أَتَحدَّى

أنا جُلَّنارَةُ اَلشرقِ , عَذْراءُ الروح

لا أَنحَنِي

والقَمَرُ لا يَستَكينُ إِلاَّ لإِمارَتِي

لا تُساومْنيَ على ذاتِي

شامخَةً أُبْعثُ

زهْرةَ رُمَّانٍ على ثَغْرِ الفِينيق ِ

لا تَأسِرْ أُنوثَتِي

ولا تَحبسْ شَهَقاتِي

خلاصُكَ بعَذبِ أنْفاسيَ

ظَبْيَة ً أتهادى بدَلاَلٍ

فلا تُجازفْ

لن أَكونَ تَوابلَ عشْق ٍ لشهواتِكَ.

تَعَرَّ من غُروركَ أَمام أَسْوارِ قلبي

واعْتِقْ أغْلالَكَ عند مَنارةِ أحْلامِي

على أَجْنحَةِ ملائكَتي نَواميسُ العِشْقِ

*

حَلَّقْ صَوْبَ اَلشَمسِ

كي تُهْدِيني ضَفائِرَها

وانْسُجْ بَتَلاتِ البنفْسَج

إكليلاً لروحِي...

أَنا مهرة من ريح

وطنٌ لا أُزْهرُ إلا بقَطراتِ اَلخُلود

ولا أُبْحرُ إلاَّ بأَشْرعةِ الحريَّةِ

***

سلوى فرح - كندا

 

احنُ...

لو كنتِ معي

يتعتق شوقي ونذوب.

لو كنت معي

لا معنى للهجرِ!

فانت في العين

ونحن الدروب!

لو…

لو كنا معا

ماذا يعني البعدُ

وروحينا ترقص

بين أصابعنا كالرمشِ

لو ....

لو.....

قتلتني… طوال العمر، لو...

أرددها وأغفو

مكسورًا على كأسي

وأصحو على لا شيء

صمتٌ يمزق الأمل

والسكون يحملُ ذرات غبارٍ

تلتف على ذاتها

يكشفها ضوء الشمس واضحة أمامي،

غير الضوء…، ترى منْ يكشف للروح السرَّ!

ستحترق خطواتي شوقًا للرحيلِ

سأشتري بعض الصمت

إن نفد صمتي

سأنسى الظهيرة

وامضي صوب المساء

اقسم دمعتي بينهما

وبين اللقاء

وإن تأخر

أزيد من الخمر... خمرًا

لحلمٍ قد يمر.

لا شيء....

غير الخمرِ.....

لو تخمرت أنا...

من سيشربني!!

أي الشفاه تتبللُ فيّ

واي الشجون يبوح بها الشاربُ!!

كأس يعاقر كأسًا

والليلُ يدور... رحى

واللحن فيه صفير

وأنتِ..... ببحر غيابك كالأمير،

غصنٌ يتأرجح عاريًا

بكل الاتجاهات

أراكِ... تمرين أمامي

ويكسر كأسي النظر

تكحلهُ دمعةٌ اشربهما.....

فيكبر الصمت

وأغفو ثانيةً

علك تمرين الآن

تخطفين يدي

فاختم يدك...

بشفتي وأصحو

واسأل...

أسألك....

ما سر الغياب

وغياب العتاب

ولقاء الأحلام

وسر الفيض...!!!!

***

كريم شنشل

 

1. طفولة بين بيئتين:

كان الابن البكر يعانق العاشرة من عمره حين قررت العائلة أن تهاجر، لتلتحق بفرصة العمل التي توفرت لها في اليمن. عاش الطفل سنواته الأولى في بلغاريا، حيث تناغمت أجواؤها الاجتماعية والثقافية المنفتحة مع طبيعتها الخلابة. كانت العائلة وأرجاء الطبيعة هناك ملعبه الأثير، ومسرح طفولته المشرقة. نشأ في بيت مثقف وعلمي، بعيد عن قبضة التزمت الديني وأغلال العادات الشرقية التقليدية، فكان لذلك أثر عميق في تشكيل وعيه المبكر.

في بيئته الأولى، تشرب حرية الاختيار والرفض، وتعلم أن يفكر بصوت عالٍ، ويعبر عن آرائه بلا تردد أو خوف. لكن القدر، في منعطف حاد، ألقاه بين ليلة وضحاها في عالم آخر، أجواؤه مثقلة بالقسرية والتقاليد الموروثة، حيث يُفرض كل شيء، الدين، العادات، والتقاليد والاعراف، بقوة التلقين والاكراه. وجد نفسه فجأة محاطاً بجبال صخرية صماء كجبال عدن البركانية، تحاصرها وحشة لا تخففها إلا أمواج البحر العربي التي كانت بالكاد تكسر جمود المشهد.

أول العقبات التي واجهته كانت اللغة. كان يجيد البلغارية والروسية بطلاقة، بينما اقتصرت معرفته بالعربية على نطاق التخاطب العائلي. غير أن الأسرة، وبدعم خاص من والده، بذلت جهداً استثنائياً في تمكينه من تجاوز هذا الحاجز. أظهر الطفل انضباطاً مذهلاً واستيعاباً ذكياً مكّنه في غضون شهر واحد فقط من إتقان العربية نطقاً وكتابة.

 حين خطت قدماه لأول مرة داخل مدرسة في عدن، كان شعوره بالغربة جلياً. الفصل الدراسي بدا له أشبه بمرآة لعالم مختلف تماماً. اللهجة اليمنية، التي تتداخل فيها الحروف كأنها أسرار مغلقة، أضافت إلى إحساسه بالعزلة احساسا مضاعفا بالغربة. العلاقة بين المدرسين والتلاميذ كانت تحمل صرامة غير مألوفة، وكأنها امتداد لتقاليد عالم غريب عليه. أما زملاؤه، فقد كانوا ينظرون إليه ككائن غريب، يثير فضولهم وتساؤلاتهم

فحاصروه بأسئلة تحمل أحكاماً مبطنة:

- "هل أنتم مسلمون؟"

- "لماذا لا ترتدي أمك الحجاب؟"

- "لماذا لا يذهب والدك إلى الجامع؟"

كان يجيبهم ببراءة وصراحة، كما تعلم في بيئته الأولى، دون أن يدرك أن صراحته ستؤدي إلى عزله وتعرضه للهجوم. كانوا ينبذونه ويصفونه وعائلته بالكفر، ويلقون عليه تهديدات تتصاعد من الوعيد بالنار إلى تهديدات بحرق المنزل والقتل.

لم تتوقف المعاناة عند التنمر اللفظي. خلال الاستراحات المدرسية، كان يتعرض للضرب على يد زملائه، خاصة بعدما رفض حضور حصة الدين، التي كانت إلزامية في هذه المدرسة، خلافاً لما اعتاد عليه في بلغاريا. لم يكن يفهم لماذا يُجبر على شيء كان اختيارياً في مدرسته الروسية. في إحدى الحصص الأولى، سأله المدرس بنبرة متعجرفة:

من خلقك إذا كنت لا تؤمن بالله؟"

أجاب "أنا نتاج تطور طبيعي، كما تقول نظرية داروين."

كانت الإجابة كالصاعقة. أدهشت المعلم وأحرجته أمام التلاميذ، فقرر استدعاء والده.

واجه الطفل الاعتداءات الجسدية بالمثل، مما أثار غضب بعض أولياء الأمور، فتم استدعاء والده إلى المدرسة. إلا أن موقف الوالد كان صارماً وواضحاً؛ فقد أعلن أمام المدير:

"من حق ابني الدفاع عن نفسه وعن رأيه. إنني أفتخر به وأثق بسلوكه، وعليكم أن تتعاملوا معه باعتباركم تربويين، لا بأساليب استفزازية كهذه."

ورغم ما واجهه من تحديات خلال سنته الأولى، لم يسمح لهذا الواقع القاسي أن يطفئ جذوة اعتداده بنفسه وطموحه الإبداعي. في السنة الثانية، انصرف خلال فترات الاستراحة إلى النشاطات الفنية والثقافية المدرسية. برع في تصميم المجلات المدرسية، وأبدع في الرسم واعمال الترميم حيثما تطلبت. قبل نهاية السنة الدراسية الثالثة له، رسم لوحة جدارية كبيرة على حائط المدرسة الداخلي تمثل العلم والتعليم. كان يسكب روحه في لوحته، يطعمها بألوان الحلم، متجاهلًا تعبه بعد يومه المدرسي، مستبدلًا راحته بمتعة الإبداع. وحارس المدرسة يثبت السلم له كمن يثبت جناحي طائر على وشك التحليق. وحين اكتملت أثارت إعجاب الجميع. امتدحه مدير المدرسة أمام التجمع الصباحي للمعلمين والطلاب، ووقف يقدم الفتى، الذي كان يوماً غريباً منبوذاً، كقدوة للطالب النموذجي.

 هكذا، استطاع الطفل أن يحول غربته إلى مساحة للتميّز، ورفض الآخرين له إلى حافز للإبداع، ليصبح في النهاية نموذجاً يُحتذى به، وإن كان ذلك في عالم لا يعترف بسهولة بمن يختلف عنه.

2. حين تنسج الحرب ملامح الصبا:

كانت نيران حرب 1994 تلتهم الأرض بين شمال وجنوب اليمن. لم يكن الخوف استثناءً، بل كان رفيق كل بيت، يطرق الأبواب مع كل انفجار قريب. كغيرهم من الجنوبيين، عاشت الأسرة أيامًا يملؤها الذعر، وسط انقطاع الماء والكهرباء وكل سبل الحياة الأساسية. لكن وسط هذا الدمار، كان هو يقف، صبيًا لم يتجاوز الرابعة عشرة، لكنه يحمل في قلبه رجولة تفوق سنّه. كان يتجاوز المخاطر دون تردد، يرافق شباب الحي في سيارة حمل متواضعة، يخترقون أجواء الحرب، باحثين عن الماء قرب مناطق الاشتباك، مؤمّنًا للعائلة ما تحتاجه من ماء وقناني الغاز، مدركًا أن دوره لا يقتصر على كونه الابن الاكبر، بل كان رجل البيت الثاني، يواجه الحياة بمسؤولية يفرضها على كل من حوله، بصلابة لم تكن قابلة للانكسار.

بعد الحرب، وجدت العائلة متنفسًا بانتقالها الى حيٍّ آخر في عدن، يُعرف بالحيّ الدبلوماسي، لوجود السفارات والأجانب فيه، وحيث كانت الحرية تتنفس هناك بجرعات أخف وطأة.

 قرب الشاطئ، وجد عالمه الخاص، ذلك الفضاء الواسع الذي يتسع لأحلامه وانطلاقته. كان يمضي ساعات ما بعد الظهيرة في تمارين الكاراتيه، التي كان يتعلمها في النادي الرياضي المجاور. قوّت الرياضة جسده، شدّت عضلاته، فجعلته يبدو كأنّه تجسيد للحيوية والجاذبية، صبيٌّ، بسمرته الدافئة وشعره الأسود اللامع الذي ينسدل على جبينه، يقف على الشاطئ عند الغروب، عاري الصدر، كأنه كائن من عالم آخر، محاطًا بنظرات الإعجاب وخاصة من الفتيات التي كانت تتابعه في صمت، تُغريه بالاستمرار، وتمنحه إحساسًا خفيًا بالتحرر من القيود التي أحاطت به طويلًا.

لكن جسده القوي لم يكن سوى وجهٍ آخر لروحه المتعطشة للحرية والمعرفة. كان يلتهم الكتب بنهم، يتنقل بين رفوف مكتبة العائلة وكأنه يكتشف عوالم خفية. لم تقتصر قراءاته على القصص والروايات، بل امتدت إلى كتب الفلسفة والمحاضرات العميقة التي تخص والده، حتى جاء يومٌ فاجأ فيه والده بسؤال لم يكن يتوقعه:

 "كيف يمكن فهم قوانين مربع أرسطو في المنطق والاستدلال؟ وكيف تُقرأ؟" صمت الأب للحظة، متأملًا في دهشة، ثم سأله: "أين قرأت ذلك؟" فأجاب ببساطة: في كتاب، من المكتبة، يتحدث عن منطق ارسطو."

لم تكن والدته بحاجة لأدلة لتدرك ما يعصف به من تغيرات، فقد قرأت مشاعره في نظراته، في حركاته، في التفاصيل الصغيرة التي لم يكن يصرّح بها. لاحظت كيف كان يراقب فتاة الجيران بإعجاب خجول، كيف كانت تمارينه في "البوكس" تمتد لساعات في فناء البيت، حيث يواجه جذع الشجرة الكبير، يضربه كما لو كان يحادثه، يبوح له بما يختلج في صدره، يشكو له ما لا يستطيع البوح به لأي أحد. كانت تلمح الفرحة التي تضيء عينيه حين تطلب منه إيصال شيء إلى منزل الجيران، أو حين تدعوهم لزيارتها مساءً. ينتظر بلهفة أن يحظى بفرصة، حتى لو عابرة، لرؤيتها.

لكن للحرب طرقًا خفية في طمس الأحلام، فقد كان الشماليون، بعد سيطرتهم على الجنوب، يسعون لمحو كل ما يعتقدون أنه مخالفٌ لمعتقداتهم، فجّروا مستودعات المشروبات الروحية، بزعم أنها محرّمة. أحد تلك المستودعات كان قريبًا من منزلهم، وعندما دوّى الانفجار، ارتجّت جدران البيت كما لو أن الحرب اشتعلت من جديد. عاش الجميع لحظات من الهلع، وكانت صرخاته تملأ المكان، يغلبها يأس مختنق: " هذا يكفي، علينا أن نغادر اليمن... أن نعيش بسلام!" كان يردد بمرارة اليائس تلك المقولة اليمنية، الشعبية الشائعة: "اليمن من دخلها مفقود، ومن خرج منها مولود."

في تلك اللحظة، لم يكن مجرّد صبيٍ يعبّر عن خوفه، بل كان روحًا تحلم بالخلاص، تنشد برَّ الأمان، تبحث عن موطئ قدمٍ حيث يمكنه بناء مستقبله بعيدًا عن أصوات الرصاص وأشلاء الأحلام المتناثرة.

***

سعاد الراعي

 

حُلْمٌ تَسَلَّلَ في الفَجْرِ

عَلَى أَجْنِحَةِ النُّورِ

تَوَشَّحَ بِنَمَشِ الفَرَاشَاتِ

وَتَعَرَّشَ عَلَى ضَفَائِرِ الأَمَلِ

تَضَرَّعَ لِلسَّمَاءِ بِأَكُفِّ المُنَى

كَسُنُونُوَةٍ هَائِمَةٍ بِالدِّفْءِ

*

إِنَّهُ حُلْمُ البَنَفْسَجِ

سَقَطَ بِغَيْرِ عَمْدٍ فِي سَحِيقِ الشَّقَاءِ

بَاتَ حِكَايَةَ الخَوَاءِ

وَشُحُوبَ رَبِيعٍ وَالهَبَاءِ

هُنَاكَ، فَوْقَ الأَرْصِفَةِ البَارِدَةِ

أَمُوتُ وَأَحْيَا وَأَتَجَرَّعُ السَّقَمَ

أَنَا المُجَرْجِرُ فَوْقَ نِصَالِ الأَلَمِ

سِيزِيفُ أَنَا

*

يَغْشَى الضَّبَابُ انْتِظَارِي العَبَثِيَّ

مِثْلَ انْتِظَارِ غُودُو

كَبَحَّارٍ مَهْزُومٍ أَعُودُ بِمِلْحِ الخَسَارَاتِ

وَالمَخْدُوعِ بِغِنَاءِ السِّيرِينَاتِ

وَكُلُّ شَيْءٍ بَيْنَ أَضْوَاءِ المُدُنِ الكَبِيرَةِ

يَغْدُو كِذْبَةَ نَيْسَانَ

وَيَحْتَرِقُ حَطَبُ القَلْبِ فِي هَسِيسِ لَيْلٍ

وَيَبْقَى رَمَادُ الانْكِسَارِ

*

يَنْحَبُ القَصَبُ

يَبْكِي الصَّفْصَافُ

جُرْحًا لَا يَبْرَأُ

وَوَجَعًا لَا يَهْدَأُ

وَصَدْعًا لَا يَأْرِبُ

*

أَنَا القَادِمُ مِنَ التُّرَابِ

بِلَوْنٍ وَاسْمٍ وَعُمْرٍ وَقَدَرٍ

وَالحُلْمُ هُوِيَّتُهُ السَّرَابُ

***

فاطمة عبد الله

 

ما الذي يعيدك إلى قفزات طرق الجبال الوعرة؟

كأنها زجاجة انكسرت

مرت كفكرة عابرة بعد حلم اليقظة

مهما فعلت فلن تستعيد تلك اللحظات

ستكون اليوم ابتسامة في لحظات الغد المحطمة

اضحك مع المآسي العارية

كل ما لديهم هو قلب ودود وأياد قصيرة مليئة بالعطاء

لكن الآن كل ما تغطي المساحات هي أقنعة كاذبة،

الكلمات المنتفخة،

وألسنة رطبة لا تستطيع أي شباك اصطيادها

ما الذي يعيدك إلى الينابع الصافية تحت خيم النقاء؟

اليوم أصبحت خرابا وتم بناء السجون الصماء عليها

تحدث مع نفسك بعيدًا عن كل الحشود

وقد وضعت يدك في يد ظلال الأيام البيضاء

دون الاكتراث بالموت

تنظر بعيدا الی غبار أقدام جياد القدر

إلى أين ذاهب؟ لا تعلم من تصيبه سهام الخلود؟

من سيعطى رسائل القاصد؟

في كل دائرة الوجود يسمع صوت ويرى قانونا للكلام

وتكتب على السبورة السوداء للمدارس التي لا نوافذ لها

ثم تتلاشى وتكتب بخط مرتجف مكانه:

الدرس الأخير .. الراحة... فالرجوع إلى بيت أنطولوجيا الخاوي

أحيانا تقع منطقة خارج نظريات الرياضيات

ستكون النتيجة شاذا ولا تحيط بها القواعد

ثم الانتحار الجماعي على طريقة (جونزتاون)

تغطي زاوية الرٶيا في الآفاق..

أين تريد أن تنظر لترى؟

معرفة الوقت ومجيء تضاريس التغيير؟

الكلمة الماردة كضوء المرآة

تصطدم بحائط شارع مليء بالشعارات

لا يُعرف مصدر الاشعاع، تصدر من أين؟

علامة لمجيء الموسم الخامس أم التحام لاجزاء مبعثرة؟

لم يكن سهلا كبح جماحها

لا يمكن شراؤها بحفنة من الاتربة اللامعة

أكسر شيئا من جليد تلك الصخرة، قاسية القلب..

لتری قارة طليقة ليست بعيدة، مثل الفجر علی بعد خطوات

ارمي حبلا في بئر النسيان

كم ابتسامة حزينة تنتظر بداخله شفق السعادة؟

انظر إلى مكان كسر رأس القمة

في أي قطعة قماش حمراء تم دفن الرسالة غير الموصولة؟

يا له من يوم نحس زقاق الشعر، كما يقولون!

يمر الواعظ ومعه طبل الوعي

يبحث عن ساق قلم مبتور

يد ذات إصبعين لكلمة

رقبة منكسرة لنداء جهور

على حافة غروب هذا العصر الجريح

من يمسح الادران على وجه الدموع؟

ماذا لو لم يسأل أرسطو كل هذه الأسئلة؟

ولم تنكسر كل هذه الزجاجة في رأس سقراط؟

اجلس لحظة في محطة التناغم

سترى آثار الخطوات علی خط الفكر الهيولي

ستأخذك الى طريق الوادي والمنحدرات الوعرة

هذه المرة اتخذ مسارًا آخر من هناك

أنظر إلى دفتر قافلة الشروق متى ستصل؟

هنالك أحذية ممزقة متناثرة

تنتظر الاقدام

أمدا بعيدا

***

سوران محمد

 

إلى

"طفل غزة.. من بقي حي الموت"

***

كان طفلا

طفلا وحيدا

يكتب قصائد للروح

ويرسم ملامح ليل

ثم...

يودع الظل في خراب

*

وتلك الأم هناك...

حين تمضي

تئن السماء وتشتاق

وترتج الأرض

*

تمحو أمواج بحرِك

أفق رحيلك المؤجل

نحو الشمال... ونحو الجنوب...

*

هناك طفل

يحمل دمعة في يديه

وبسمة أمه على الشفاه

وفي غزة... حين الوداع

ينثر الورود وينعى الحنين

ثم

يحفر قلبه قبرا

ليسكن الذكريات

ويدفن العواطف... ويودع الخصلات

وحين مات فؤاده

رحل...

رحل...

*

ثم

ارتقى... ومضى تاركا أحلامه

عند أبواب الطفولة الثكلى

*

وهو طفل من غزة

يعيش في موته... ليبعث حيا...

*

وهناك القاتل... قاتل يموت سرا

وطفل آخر هنالك يقول:

أنا باخوس غزة...

وما تبقى مني ... قدس الأقداس

وبيت لحم...

وناصرة...

وكنيسة مهد... وصليب مسجى

أنا من استوطن محراب الأقصى

وهدّ مشانق الموت... والقتل، في بلادي

***

عبد العزيز قريش

 

أحبّته جميلة الخازن كما لم تحب امرأة رجلًا، أحبت فيه طموحه وتطلعه إلى الأعالي والمرتفعات الابداعية، أحبت فيه عنفوانه في مواجهة العقبات والعثرات. صحيح أن زوجها الراحل في حرب عام 1982، قبل نحو الاربعين عاما كان رجلًا حقيقيًا، ولا تفوته فائتة، وتشابه معه في العديد من الصفات الرجولية، إلا أنه تفوّق عليه في اشرئبابه نحو المجهول وفي عزمه على ارتياد متاهات واغوار سحيقة في دنيا الامل. حُبّها هذا له جعلها تنتظر يوم الثلاثاء لتلتقي به ولتتبادل معه النظرات والحكايات التي فاتها أن تتبادلها مع زوجها الراحل.. قبل نحو الأربعين عامًا. أما هو الفنّان المبدع صاحب سفينة الحلم والامل الماخرة في عُباب بحرها الوردي، فقد أعجب بها وذكرته بأيامها العذبة، أيام ارتبطت بزوجها وتركته يلوك اطراف الحسرات والندم ويلعن التهجير الذي قذف باهله وبه بالتالي إلى مدينة الأضواء والاحلام الهاربة. في تلك الأيام تمنى أن يرتبط بها، وحلم أيامًا ولياليَ بنظراتها الساحرة وشعرها المسترسل المُسبل وكأنما هو من عالم الف ليلة وليلة إلا أنه قال لنفسه " أنت وين وهي وين؟..". وتمضي السنوات كأنما هي لحظات، ليتابعها.. تتزوّج وتترمل بعد تلك الحرب وليعود للتفكير فيها، غير أن فارق المنبت المريع بينهما جعله دائم الاحجام وأبعد ما يكون عن الاقدام. الأمر الذي دفعه دفعًا إلى عالم الغناء والموسيقى، فأبدع في عالمه هذا أجمل المقطوعات و.. أحلى الأغاني.

هكذا توقفت هي عند حُبّها له في أخريات الأيام، بالضبط كما توقّف هو في حبّه لها منذ اوائلها!!، هي تكتم حبّها لأنها آلت على نفسها أن تكون محافظة على علوّ منبتها الرفيع، كما آلت على نفسها أن تكون وفيّة لذكرى زوجها الراحل، امانة لوعد قديم أبرمته معه، وهو الفنان زين العمر، وهذا هو اسمه الكامل، تشرّب من أيام الحرمان، الحب والعذاب، وبقي رهنها لا يتقدّم خطوة. ومع أنهما كانا يلتقيان كل يوم ثلاثاء، إلا انهما بقيا لسببها من ناحية ولسببه من أخرى، مثل تمثالين واقفين في حديقة مُزهرة غنّاء، كلّ منهما يُحدّق في الآخر ولا يتقدم. ونحن إذا ما تعمّقنا في الامر وتمعّنا في خباياه وخفاياه، فإننا سنلاحظ أن بذور البُعد والإركان إلى عالم الحرمان والعُزلة إنما تمّ بثُّها دائمًا وطوال الوقت بيدها البضّة الرخصة.. في أرضه العطشى لتنبت زهورًا شائكة تُدمي الراح وتُضني القلب.

هي.. وليس سواها مَن اختارت البُعد ونعمت في رحابه الضيّقة. وهي مَن اتخذت قرار الكتمان، كتمان ما أضمره قلبُها وفاضت به روحُها.. خاصة في ليالي الوحدة الطوال. وحتى عندما لفت نظرها موظّف يعمل في دائرة الجمارك، وسهّل عليها كلّ ما واجهها في استيراد هذه اللعبة أو تلك السيّارة، نعم السيارة، انصاعت لأوامر قلبها وعينها.. وابتدأت تبادله النظرات والاشارات الموحية بالقبول، غير أنها ما إن حاول ذلك الموظف المسكين أن يُعبّر لها عمّا أضمره لها من مَعزّة، لا نقول محبّة حفاظًا على نقاوة التعبير والقول في مثل هكذا مواقف، حتى في حالة وقوفها على حافة بداية جديدة بعد بدايتها المعتّقة مع زوجها ذاك، حتى في مثل هكذا حالة فضّلت الانسحاب وانصرفت إلى موظّف آخر، فغي بلدة أخرى بعيدة، تطلب منه ما تحتاج إليه من خدمات..

لقاؤها الأسبوعي المُغلق كلّ يوم ثلاثاء بمن أراد الاقتراب منها طوال أيام العمر ومتاهاتها المتشابكة، كان أحد الأسباب، بل ليكن واضحًا أكثر، كان السبب رقم واحد في رفضها تلك الهدية السماوية التي جادت بها عليها دائرة الجمارك، فرفضتها ونبذتها.. كما تنبذ امرأة عربية أصيلة المحتدّ وسليلة المجد، حُلمًا وفداءً لعينيّ فنّانها الموسيقي المغني زين العمر صاحب الاغنية المشهورة " العيون السود قمرهم ليل..". من أجل عينيه لم تعد ترى أي عينين أخريين، وكانت تعي وتُدرك تمام الادراك أن هناك الف مَن يتمنّاها رغم انها مرت بتجارب، مواقع وأفكار ناف عمرُها على عمر كلّ عمر تقريبًا وزاد بشحطات.. لم تُبعدها عن تلك الصبيّة الفاتنة ذات الشعر الاملس المسترسل.. إلا لتقرّبها منها.

أما هو، زين العمر، فقد دأب على اللقاء بها كلّ يوم ثلاثاء، وكان عندما تطلب منه هذه الإذاعة أو تلك المؤسسة التربوية، أن يقيم احتفالًا تربويًا موسيقيًا غنائيًا يقول لها إنه فاضي الاشغال وحاضر للأعمال كلّ أيام الأسبوع باستثناء يوم الثلاثاء. وعندما كان مَن يسأله يطلب منه أن يُخبره بما يشغله في هذا اليوم بالذات وهو الأشد مناسبة لا قامة الاحتفال، كان يَشعر بحُمرة خفيفة تجتاح وجهه المُغنّي الشيخ المليء شبابًا، ويدير وجهه إلى البعيد.. البعيد مُرسلًا نظرة غامضة.. لا يمكن لأي عبقري تفكيك شفرتها وفهمها. هذه الحُمرة كانت مِن يعض نواحيها، تذكّره بحُمرة مماثلة في وجهها.. هي مُلهمته وسارقة لُبّه.. جميلة الخازن. فكان يحلم بها في غيابها، بالضبط كما كان يفعل خلال لقائه بها.. في يومه الموعود.. يوم الثلاثاء اللعين والمبارك في الآن..

هكذا أمضت جميلة أكثر من عشر سنوات في التفكير فيه وفي أغانيه المُطربة، وأمضى هو زين العمر، مدة مساوية وربما تزيد عليها قليلًا،. وفي حين كان يعذّبه بُعدها عنه.. بنفس قربها منه.. وربّما يزيد، كان ينتظر اللحظة التي ستعترف له بحبها التاريخي له. كان مُدركًا أنه مهما طال الزمن أو قصر، فإنها ستقدّر له حبه الصامت.. مديد العمر.. وسوف تأتي إليه ذات ليلة ليلاء لتعبث بشاربه الفنّان.. الكثّ .. والمُهذّب أيضًا.

مع مُضيّ الوقت وتعاقب السنين ابتدأ فنّان البلاد المُبدع.. العالم الكبير في عالم الموسيقى والغناء.. في الغرق أكثر فأكثر، وهكذا ابتدأ سؤال الحبّ المُلحّ يطرح نفسه بحدة أكثر فأكثر.. وكان ما يزيد في الحاح هذا السؤال هو تيقنه/ زين العمر، مِن انه هي/ جميلة الخازن/ ذاتها، إنما تُحبّه كما لم تُحب امرأة رجلًا في هذه البلاد العاقر، فلماذا هي تتمنّع عليه وقد زالت كلّ نلك العقبات التي اعترضت مَسيل الحُبّ بينهما.. هما الاثنان.. هي وهو.. زاد في هذا السؤال إلحاحًا أن الفنّان.. استيقظ ذات صباح ليجد في باحة بيته وردة تنادي عليه وتسأله حزّر فزّر أي يد مُحبّة القتني هنا في ديارك ورحابك الساحرة. للحقيقة شعر هو أنها إنما ملّت مِن كتمانها المُزمن، وأرادت أن تُصارحه بما خبأته له من محبّة لا تقلّ عن محبته لها.. وجودًا وعنفوانًا، وعندما تحوّلت الوردة في الصباح التالي إلى إضمامة ورد.. كان لا بدّ له.. هو الفنان المبدع.. مِن أن يسهر الليل بعرضه وطوله.. ليتأكّد من أنها هي وليس سواها مَن القى بتلك الورد في ساحة بيته.. في الليلة الثالثة، شعر بحركة دافئة في القرب من باحته.. فاقترب مِن السور المحاذي ليرى معطفَ طيفِ امرأة مديرًا ظهره وموليًا.. حتى لا يراه أحد.. من أهل البيت، يحاول أن يقذف بإضمامة ورد جوريّ أحمر إلى باحة بيته، عندها اعتلى السور.. ليتأكد مَن تكون تلك المرأة وليعلّم عليها إذا كانت هي.. غير أنه لم يتمكن من رؤيتها.. فقد مضت بإضمامة وردِها الرائعة.. عائدة من حيث أتت.

***

ناجي ظاهر

بإمكانك فتح نافذتك للرّيح حين تصدأ الذّاكرة ....

*

لا تتأمّل وردتك حتّى الذّبول ..

بامكانك ان تقطّر لها من روحك قبلة

وعن بسمتها تكتب قصيدة ..

*

بإمكانك مراوغة الصّمت لمرّة واحدة ..

فتهذي باسمي ..على الأرصفة...أو تلعن الفقر والحاكم...والمدينة ...

مثل مجانين المدينة تهذي

تعرّي الكلام

*

حين نلتقي...انس ما قاله كافكا لميلينا

ما قاله درويش لريتا...

بإمكانك مراوغته الكلام مرة واحدة

بإمكانك..فقط

معانقتي

***

حياة بن تمنصورت

 

كان الظلام يوماً صديقنا،

حين كنا نتحدث بصمتٍ عن الأحلام.

كنا نجلس تحت النجوم

نتأمل الفراغات بين الضوء،

وننسج خيوطاً من أملٍ لا تُرى.

لكن الآن،

الضوء الأزرق يقتحم ليالينا،

يغسل وجوهنا دون أن ينير أرواحنا،

ويسرق الحكايات

التي كانت تولد في صمتٍ عتيق.

2.

جلسنا جميعاً في الغرفة الواحدة،

نطالع شاشاتنا الصغيرة.

كل منا يبني مدينةً

من وجوهٍ بلا ملامح،

وكلماتٍ لا صوت لها.

كنا قريبين،

لكن الطرق بيننا

تلتفُّ كمتاهةٍ بلا نهاية.

كلما مددت يدي

لألتقط ظلك،

وجدت شاشةً تفصلني عنك.

3.

هل تسمعني؟

أنت هناك، خلف الحروف الرقمية،

تنتظر رداً سريعاً،

لكنني أبحث عن كلمات

لا تخرج بضغطاتٍ صامتة.

أبحث عن صدى صوتك

الذي تاه في أروقة الشبكات.

كيف أستعيد صوتاً

غاب بين أرقامٍ لا نهائية؟

4.

كان العالم يفيض بالحكايات،

كل نافذةٍ تحمل أسرارها،

كل زقاقٍ يهمس بقصته.

لكننا أغلقنا النوافذ،

وصار العالم صورةً واحدة،

نقلبها يميناً ويساراً،

حتى بهتت ألوانها

وضاعت الحكايات.

5.

لا أريد أن أعيش

في ذاكرةٍ تمحو نفسها كل ليلة،

في صورٍ لا تنتمي لشيء،

وفي كلماتٍ تذوب

قبل أن تصل.

أريد أن أكتب بيدي،

أن أسمع صوت الورق

وهو يتنفس.

أن أرى الحبر وهو يتمدد

مثل شريانٍ ينبض بالحياة.

6.

ذات ليلة،

قررت أن أغلق كل شيء.

أطفأت الضوء الأزرق،

وتركت الغرفة تغرق في الصمت.

كان الظلام مختلفاً،

يحمل صوتاً دفيناً،

صوت الأرض وهي تتنفس،

وصوت القلب

وهو يعيد ترتيب نبضاته.

ربما، في هذا الصمت،

يمكننا أن نبدأ من جديد.

***

د. جاسم الخالدي

(عزيزتي).. تلك هي الكلمة التي كان يناديها بها حين يحدّثها، مفردة تنمّ عن الحبّ والاحترام، لكن وقعها عليها مزمجر، بل كجرس إنذار يقول لها: انتبهي! فأنا لست كبقية الرجال، على الرغم من أنها لم تنسَ ذلك أبداً! لكن ما يُفقد تلك الكلمة خصائصها أنه كان يقولها أيضاً لزميلاتها من اللواتي كنّ معها في القسم ذاته. كم كنت أتمنى أن يناديني باسمي أو حتى يا حلوتي، كما كنت أناديه في سرّي (قحطان)، محدثة نفسها.

كان طويل القامة، حسن الهندام، عريض المنكبين، سامقاً، وكأن يديه تلامس النجوم، وقوراً، يخالط شعره الشيب، في عينيه وجدٌ صارخٌ، وابتسامته تجعل الورد يزهر، ذلك ما اتسم به ، وشده اليها وجعلها في حيرة من أمرها.

مثابرتها وإصرارها كانا يثيران إعجابه بها، يقول لها: أنت إنسانة ذكية ولبقة، وهذا ما جعلك أقرب صديقة إليّ، إنك أكثر من كونك إحدى طالباتي، كم تذكرينني بشبابي. ثم يصمت، ويأخذ نفسَاً عميقاً، ويقول: أين كنت قبل ذلك بكثير، وكأنها هيمنت عليه.

ثم يعتدل في جلسته وكأن وعيه قد ارتد إليه، قائلاً لها: عزيزتي لا يذهب تفكيرك بعيداً، سوف أتابع معك كلّ شيء، وسأعمل جاهداً على أن يحصل بحثك على درجة جيد جداً أو ممتاز، لستِ أول من أقف الى جانبه، كثيرون قبلك قدمت إليهم المساعدة والنصيحة، تلك هي رسالتي في الحياة، (زكاة العلم تعليمه).

ما يعرفه الجميع بأنه كان يعيش وحيداً منذ أن انفصل عن زوجته، منسجماً مع وحدته، مكتفياً بشرب كأس من النبيذ يتوحّد فيه مع ذاته بعد أن نذر نفسه لطلابه، متفانياً في عمله كأستاذ جامعي كفء، خصوصاً وأنه على مشارف الستين من عمره، ولا يفصله عن السنّ التقاعدي سوى شهور قليلة.

أصبحت في تحدٍّ مع ذاتها كي تثبت له نجاحها وتميّزها عن الأخريات، بدأت تتواصل معه، وتبدأ صباحتها بأن ترسل له صورة وردةٍ حمراء، وحين يسألها: لمَ هذا اللون تحديداً! تردّ عليه: يستهويني اللون الأحمر. يضحكان معاً، ويقوم بإرسال وردتين إليها. وتسأله إن كان تواصلها معه يسبّب له الإزعاج، أو يأخذ من وقته!!

أبداً عزيزتي، يمكنك أن تكتبي أو ترسلي إليّ أيّ شيء متى أحببت. لا أعلم لمَ أشعر بارتياح حين أحدّثكِ، كما وتعجبني ضحكتك، وأسعد بنجاحكِ واجتهادك. سأهديك بعض الكتب والمراجع المهمة التي ستنفعك كثيراً.

أدمن الحديث معها بعد أن اعتاد على وجودها واهتمامها به، شغلت تفكيره، وكانت سبباً في إقلاعه عن التدخين، إذ كانت تقول له وبإلحاح: كفّ عن تدخين السجائر التي ستحرق رئتيك. كما تغيّرت أشياء كثيرة فيه، إذ أصبح يرى تقاسيم وجهه بوضوح محدّثاً نفسه: أنا لم أعد أشبه نفسي، لقد دفنت فؤادي بيدي، فؤادي الذي أصبح اليوم سرمدياً بهوى العشق، آه يا مدللتي يعتريني الشغف بك، لماذا كلّ شيء فيك يعجبني.

مضت عدة ايام دون اتصال منها، أو سؤال عنه وإن كان بإرسال وردتها الحمراء!! مما أثار تذمّره منها، وكان يتجرع فنجان قهوته الصباحيّة بصمت. لقد راوده شعور بأنها تعبث به، أو أنها كانت من منمقي الكلام، واهتمامها به وتواصلها معه ما هو إلا للمنفعة الشخصية لا أكثر. دخل غرفه نومه، واستلقى على سريره وقد طال انتظاره وأقلقه غيابها، محدثاً نفسه: أين أنت يا عصفورتي الجميلة!

فجأة أضاء هاتفه برسالة منها، تقول: مساء الخير، كيف الحال. نهض من سريره، وشعر بشيء من الفرح. جاءها ردّه سريعاً وكأنه كان يقف خلف شاشة هاتفه النقال: أهلاً!!

ساد بعدها صمت لدقيقتين، ثم أردفت: هل لي أن أرسل إليكَ بعضاً مما كتبتُ بخصوص البحث!؟

هل هذا كلّ ما تودين قوله لي، لم أذق النوم لساعات! لن أعاتبك أكثر كي لا تموت الأشياء الجميلة التي رسمتُها عنكِ: أعتذر عزيزتي.. في الوقت الحالي لدي عمل أنجزه، لا وقت لدي لأضيعه في بحث ليس بالمستوى المطلوب، تحياتي، ثم أقفل الهاتف.

جنّ جنونها، وانتابها حزن شديد.

في اليوم التالي اتصلت به، وحدثته بأسلوب خجول تعتذر فيه عن عدم تواصلها معه في الأيام الماضية، إذ إنها انشغلت بمرض والدتها. ضعف أمام كلماتها ونبرة صوتها الأنثوية الناعمة.

- حسناً، لا بأس.. أرسلي إليّ ما أنجزت من عمل، سأطلع عليه. اشتد بها التملق وهي تعبّر عن مدى سعادتها وشكرها له، بعد أن وعدها بأنه لن يتخلى عنها حتى النهاية، ثم أردف قائلاً: عزيزتي تتكدر حياتي حين تغيبين عني، ويذهب فكري وعقلي، يا ليتني لم أكن بهذا العمر يا حبيبتي.

- هل قلتَ حبيبتك!؟

- نعم.. بل أكثر، أنا أشعر كأنك زوجتي، حين لمست اهتمامك وحرصك على صحتي وغيرتك عليّ.

-  ما الذي تقوله، أنت متوهم، لستَ بالنسبة إليّ سوى أستاذ وصديق مقرّب. أنا لست فاكهة تشتهيها، الخيال كلّ ما يتمناه المرء. أرجوك اترك عنك تلك الأوهام، ثم ساد الصمت بينهما.

ردة فعلها صدمته كثيراً، وأشعرته بالندم والسخط على نفسه.

 سارع إلى شرب كأسٍ من الخمر علّه ينسيه ما سمع منها، ثم كأسٍ ثانٍ وثالث إلى أن أدركه النوم الذي أفاق منه في اليوم التالي بشرب فنجان من القهوة.

باتت الحقيقة واضحة أمام عينيّ، وتقلّب قلبي كتقلّب مزاجكِ، مع أنه مازال أعمى بهواك، مُحدّثاً نفسه.

قرّر أن يخرج من حياتها بهدوء، ولأنه قد قطع لها العهد سابقاً بأنه لن يتخلى عنها، قام بمحادثة أحد زملائه من الأساتذة، وإعطائه معلومات كاملة عنها واسمها بالكامل واسم القسم الذي تدرس فيه.

- أوصيك خيراً بتلك الفتاة ..

- نعم أعرفها جيداً، فقد كنت على عـلاقة سابقة بها، بل وكانت مسلوبة العقل بي.

***

نضال البدري – قاصة عراقية

 

صبيحة السابع والعشرين من كانونْ

رأيتُ ما رأيتْ

يا هولَ ما رأيت

رأيتُ سيلاً هادرا ضاق به الزمان والمكانْ

كأنه الطوفان

رأيته شلالَ عنفوان

يَنصَبُّ فوق شارع الرشيدْ

قد رُجّت الأرض ومادَتْ طربًا تزهو

رأيت مهرجانْ

سمعتُ من بعيدْ

دَوِّيَهُ المُجلجِلَ العنيد

زغرودةَ النساء آهةَ الشيوخ

غضبةَ الشباب صرخةَ الوليد

سمعتُها تكبيرةَ الحجيجِ نفرةَ العودةِ

فالصباح صبحُ عيدْ

تصنعُهُ غزة من صمودها

ومجدها الطارِفِ والتَليدْ

*

يارَوع ما رأيتُهُ في شارع الرشيد

وهذه الجُموع

زاحفةٌ هادرةٌ وجهتها الرُجوع

صابرة صامدة ما ضرَّ أن تَعرى وأن تجوع

كأنما من وَجدِها قد نسيت عيونها الدموع

عالمةً موقنةً بأنها تعود للرُكام

بيوتها وزرعها وضِرعها حُطام

لكنها تواصل المسير للأمام

ما ضامها الموتُ ولا الأسرُ ولا التشريدُ

ما طاب لها المقام

إلا عل رُفات منزلٍ تُدركه

تنصب فوق حجر منه تَبَقَّى خيمةً

وعندها يحلو لها المقام

قريرة العيون ملء جفنها تنام

*

رأيت عائدينْ وموج لاجئين

يجرفهم تدافع ويستفزُّ شوقهم حنين

رأيت شيخًا طاعنا وقد حنا قامتَه تتابُعُ السنين

يقول: قد حفظتها وصيةً عن جدي الشَريد

ووالدي الشهيد

ترنيمةً أحدو بها

تشتاقها مسامعي

أسمعها، صبحيةً، عشية، شَجية التَرديد

يغفو على تَرنيمها الوليد والوليد

يُورِثُها الوليد للحفيد

لأنها النشيد

(لا بد أن نعود)

والعودُ أحمدٌ لا بد أن نعود

وهذه الرؤى التي تُطِلُ في نهارنا السعيد

عودتنا الصغرى التي تُقرِّب البعيد

*

رأيت وسط زحمة الجموعْ

الذاهلينَ الحالمين السائرين في خشوعْ

رأيت طفلةً في عامها السابع تذرع الطريق

حافيةً تحمل فوق كتفها شقيقة ما جاوزت عامين

ذاهلةً ذابلةً مُطفأَةَ العينين

يسألها أحدهم: من أين؟ وتذهبين أين؟

ولم تُجب إلا بدمعتين

وواصلت صوب الشمال سيرها وما درت لأين

*

رأيت بين من رأيت

رأيتها مُغبرَّةً شَعثاءْ

ترفع كفيها وعينيها إلى السماء

سمعتها تلهجُ في الدعاءِ

مُستغيثةً راجيةً أن لا يخيب من دعائها رجاء

تقول: أولا ندفنُ أو نزورُ من قضى

وثانيا: سننفضُ الغبارَ والترابَ والصَدا

وثالثا: نَعُبُّ من هوائها

برغم ما خالطه: الدخانُ والبارود والتراب والرفاتُ:

كلُّ ما خلفه العِدا

*

ووسط سيل العابرين وقعت عيني على فتى

يَغذُّ سيره الحثيثَ واثق الخطى

يشدُّ نحو صدره طفلين حالمين مثل نجمة الصباح

وعابرا مُصليًا على النبي قبل أن يبسم للطفلين في انشراح

سمعت والديهما الفتى محييا يرد بارتياح:

يوم نزحنا معنا طفلٌ، وعدنا معنا طفلين

فالحمد لله الذي أنعم مرتين

وواصلت قافلة العودة سيرها

ولستُ أدري لمتى أو أين؟

***

فيصل سليم التلاوي

27/1/2025

 

في خِضَمِّ الانتظارِ، تلتَهَمني أَسئِلَةُ الغياب؛

وتَتَراقَصُ في خاطِري تَساؤلات غائِمة:

رُبَّما غادَرَتْ نَجمتي سَماءَها؛

فتَعَثَّرَتْ خطواتها في حَقلِ الريحِ؛

وتاهَت بينَ غُيومِ الزمانِ.

أو رُبَّما أرادَت الانغِماس في صَمْتِ الليلِ؛

باحِثَةً عَنْ صَوتِ القَلبِ.

رُبَّما انشَغَلتْ بمَسيرتِها نحوَ الأُفُقِ؛

لِتَتَسَلَّمَ من ضَوءِ القَمَرِ خَيطَ هِدايَةِ؛

لسَريرِ كَوكبِها..

فغابَت عن مَلامِحِ الفَجرِ.

أو وقَعَتْ في شِباكِ لَحنٍ عابِرٍ.

او اختَارَتْ الغَرَقَ في بَحرِ اَلوَقتِ.

أو لعلَّها، بينَ أضواءِ الأحلامِ؛

سَافَرَتْ إلى حيثُ لا يَكُونُ هناكَ غيرُها.

تُلملِمُ خيوطَ الذكرياتِ في سماءِ الروح؛

وتعودُ لتسكنَ في حضنِ الغياب.

فِي غِيابِها، أَنا مَن تاهَ في وهم ِالانتظارِ.

**

طارق الحلفي

كوني أنتِ

كوني...

خيطَ الشمسِ

أو خيطَ الوصلِ

بعضَ ضياءٍ

أو محيا بسمتي.

لحظةُ صمتٍ

تتأملُ عينيك

فرحي أو حزني

فأكونُ لكِ النفسَ

يعبدُ طريقَ الدمْ

في دروبِ الجسدِ

كوني

كتابي المدرسي

دفترَ يومياتي

وكوني القلمَ

سأرمي ممحاتي في البحرِ

وابقيْ عطرَ حروفِكِ في القلبِ

كوني

موجةَ روحي

تغسلُ رمشي

في اللقاءِ

أو الفراقِ

أو الوداعِ

كوني الشجرةَ

أسقيك بماءِ الله

وأهديكِ الأملَ

ما من شيءٍ

يبعدُ جفنَك عن عيني

أو أنفاسك عن شفتيَّ

أو ذاكرة الهمسات

وتفاصيلَ دروبي اليومية.

***

موتٌ

ماتَ على الرصيفِ

جائعٌ، رثُّ الثياب

سار خلفَه الناسُ، يكبِّرون

مؤمنون، كروشُهم تسبقُهم… مقبرة

وثيابُهم أكفانٌ بيضاءُ معطرة

بقاياه لُفَّت بقميصٍ

ورأسه دُفن بقندرة

زادَ الصراخُ عليه

صلاةُ جنازةٍ وآخرة.

***

كريم شنشل

نَلُوذُ بِغُربَتِنَا فِي دُرُوبِ المَدِينَه

وتأسِر لُبَّنَا المَحْمُومَ فِيهَا

حِكاياتُ سِحرٍ وعِشْقٍ تَلِيدٍ

لَمْ نَجْلُهَا فِي صُروفِ الزّمانِ

ولَا حتّى فِينَا..

نطرُق بابَ الحنينِ

إلى رَائحَةِ الأرضِ مُنذُ سِنِينَ

فِي ذَلك الزّمنِ البَعِيدِ

مَعَ أهلِهِ الطّيّبِين

نَبحَثُ عَن مِرآةِ فَجْرِ

تَبزُغُ لِوجُوهِنَا مِن جِباهِ الجِبالِ

تُسرِجُ شغَفًا في الرُّوحِ يَسٰرِي

بِرَشْفَةٍ مِن دُمُوعِ النّسِيلِ

مِن بُكاءٍ بَدَا فِي أعيُنِ الثّمْرِ

وفِي الرُّوحِ نَبْضٌ مَازَالَ يَهفُو

إلى عُشٍّ فِيهِ سَكَنَّا

وفِيهِ أمِنَّا.. وفِيهِ دَفِئنَا

إلى نَزْرِ عِطْرٍ.. مَازالَ بَعدُ يَسكُنُ فِينَا..

ونَطرُقُ بَابَ الحَياةِ

بَيْنَ جُدرَانِ المَدِينَةِ الشّاهِقَاتِ

حَيْثُ.. عَلى قَسْوَةِ الأسفَلتِ

نَسِيرُ فُرَادَى..

وبَين ألْوَاحِ الرّخامِ الصَّقِيعِ

نَحِنُّ فُرَادَى

ونحلُمُ خَلفَ بُيُوتٍ مِن قدِيمِ الزّمَانِ

أضَاعَتْ مِن قَديمِ الزّمانِ مَلامِحَهَا

ووُعُودَ الغَرامِ

ومَا حَمَلتْ مِن نُقُوشٍ وزِينَه..

*

وعِنْدَ مَحطّاتِ المَدينَةِ..

فِي غُربَةٍ كَتَبَتْهَا الظّرُوفُ عَليْنَا

نَذكُرُ يَومَ القَرارِ العَصِيبِ..

يَومَ طَفَقنَا نُخَامِرُ بَعضَ التّحَدِّي

وصَبرَ المُغامَرَةِ والسّفَرِ..

وحُلمًا شَرِيدًا بَنَيْنَاهُ

بِطُوبِ الطُّمُوحِ ومَاءِ الظَّفَرِ..

لا شَيءَ حَزمْنَا عَليْهِ الحَقَائِبَ

سِوَى وَجَعٍ وقُطُوفٍ ضَنِينَه..

وخُضْنَا غِمَارَ الرَّحِيلِ..

تَلَحَّفْنَا عَزمًا وصِدقًا

حَنَوْنَا عَلَى زَهرَةٍ فَاتِنَةٍ

تَرَعْرَعَتْ وَسطَ قَلبٍ شَفُوقٍ

شَغُوفٍ بِحبِّ الجَمالِ...

بِحُبِّ الأنامِ.. بِحُبٍّ كَبِيرٍ..كَبِيرٍ..

لِهذِي البِلَادِ.. حتّى الهُيَامِ

وإنْ ضَرّجَتْهُ كُلُومٌ ثَخِينَه..

وهَذِي المَدِينَةُ.. سِرْنَا إلَيْهَا

وقَد أوْجَعَتْنَا المَسافاتُ

ونَحْنُ حُفَاةٌ.. عَلى شَوْكِهَا

ونَحْنُ وَحِيدُونَ فِي شَوقِنَا

قِبلَتُنَا عِشْقٌ مُرِيدٌ

لِمَعنَى جَمِيلٍ.. لِفِعلٍ أثِيلٍ

مِنَ القلبِ وَدَّ.. مِنَ الصّدقِ مُدَّ..

مِن حُرْقَةِ الحَرْفِ قُدَّ

بِكُلِّ مَا مِنَّا وكُلِّ مَا فِينَا..

مَا هَمَّنَا أنْ ظَمَأنَا اِغتِرابًا

مَا هَمّنَا أنْ وُئِدْنَا

تَحْتَ صَقِيعِ جِدَارٍ مَهيضٍ

ونَحْنُ عَزمْنَا عَلى أنْ نَسِيرَ

إلى حَيثُ الوُرُودُ تَمِيسُ

عَرائِشُهَا مِن حُرُوفٍ حَزِينَه..

وهَذِه الغُربَةُ تأخُذُ مِنّا

مَعَ كُلِّ خُطْوَةِ شَوْقٍ.. وشَوْكٍ

حُلْمًا وعُمْرًا..

وتَنفُثُ مِنْ طَعٰمِ حَنظَلِهَا

مَا يَخْذُلُ دَفْقَ المِدَادِ النَّقِيِّ

مَا يُلهِجُ الحَرٰفَ فَوْقَ البَيَاضِ البَهِيِّ

وَ يُثْنِي الحَيَاةَ أنْ تُسْعِفَ

حتّى ذَمَاءً مِنَ الصّدقِ فِينَا..

اِغْتَرَبْنَا.. ونَحن.. وَهْمًا..

نَجُوبُ سَمَاءَ المَدِينَه

هَرَبْنَا مِن شَوْكِ أرضِهَا والحُفَرِ..

وتُهْنَا نُلاحِقُ سِرْبَ سَرَابٍ

وبَعضَ أفرَاحِنَا التي بَدّدَتْهَا

رُكُومُ خَيْبَاتِنَا والسّفَرِ

رَكِبنَا مَعَ القَاطِرَاتِ زَمَانَا سَرِيعًا

ورُحنَا نُسَابِقُ رِيحَ التَّنَازُعِ

سَبْقًا مُرِيعًا

و مِنْ حَولِنَا عُيُونُ زُجَاجٍ

لَا رُوحَ فِيهَا

و لَا نُورَ أو مَعنَى فِي مَآقِيهَا

يُخَضِّبُ بِالدّفْءِ قَلبَ الحَياةِ الرَّهِينَه

*

آهٍ.. يَا حَيْرَةَ الغُربَةِ

تَلْهَثُ تَحْتَ غُبَارِ المَدينَه..

يَا فِكرَةً مِنْ وُجُودٍ وَضِيءٍ

سَحَقَتْهَا رَحًى مِنْ مَخَالِبَ

و صَادَتْهَا فِي ألعُمْقِ شِرَاكُ العَنَاكِبِ

و نَحْنُ عَلى نَارِهَا البَارِدَةِ

نَنْضُجُ.. كَيًّا فَكَيًّا.. نَحُثُّ المَسِيرَ

و حَمّالَةُ الحَطَبِ تَقْفُو بِحَبْلٍ زُعَافٍ

خُطَانَا الوَهِينَةَ..

و لَا أحَدَ مِنهَا حَمَانَا

و لا أحَدَ حَاوَلَ حَتْى..

أنْ يَمنَعَ عَنّا أذَاهَا وسُمَّ الضَّغِينَةِ

يَا صُبحَنَا وَسْطَ هَذا الصَّقِيعِ

وقَهْوَتَهُ التي لا أرْجَ فِيهَا

و قِدْحَهَا وَضِيعَ الوَرَقِ

وأُغنِيَةً لَا رُوحَ فِيهَا

تَحجُبُ عَنَّا مَدَانَا البَدِيعَ

و َزمًا ارْهَقَهُ فِي الزِّحَامِ

ضَجِيجُ الطّرُقِ..

يَا يَومَنَا كُلَّهُ يَمْضِي هَبَاءً

إذِ السَّعْيُ فِيهِ يَظَلُّ أمَانٍ سَجِينَه..

*

مَا أبْرَدَ الحُبَّ والمَوْتَ

بَينَ رُمُوسِ المَدِينَةِ..

لَو كُنّا نَعْلَمُ مَوعِدَ مَوتِنَا

وانَّا سَنُقْتَلُ فِي سِجْنِ أسوَارِهَا

بَردًا ووَجْدًا وحِقْدًا

لَاختَرنَا ظَرْفًا يَلِيقُ بِنَا..

لَاختَرْنَا مَوْتًا يَلِيقُ بِنَا..

لأوْصَيْنَا مَنْ قَتَلُونَا

أنْ يَشجُعُوا عِندَ أخْذِ القَرارِ الأخِيرِ..

وانْ يُخبِرُونَا

وانْ يُمْهِلُونَا ولَو بَعضَ وَقْتٍ

لِكَيْ نَخشَعَ فِي الوُضُوءِ الأخِيرِ..

لِكَيْ نَهجُدَ فِي الصَّلَاةِ الأخِيرَةِ

ونُسدِي لِبَعضِ الرُّبُوعِ وَدَاعًا

يَلِيقُ بِهَا.. ونُخْبِرَهَا

لِأوّلِ مَرّةٍ.. وآخِرِ مَرّةٍ

انّا تَخَذْنَا لَهَا فِي خَبَايَا الضُّلُوعِ

جِنَانًا خَصِيبًا يَلِيقُ بِهَا..

وأنّا ذَخَرْنَا فِي مَخبَإّ مِن نَبْضِنَا

مَكَانًا قَصِيًّا حَفِيًّا لَهَا..

وأنّا وَذَرْنَاهَا فِيهِ مَع غُصْةِ هَذِهِ الغُربَةِ

صَبرًا وجَمرًا وسِرْا دَفِينَا..

وأنّ كَمَدَ الوَجْدِ آنَسَنَا فِي دُرُوبِ المَدِينَه....

***

كوثر بلعابي

جراح الحزن يدميها

جراحاً نزفه فيها

تحيط العمر أهواء

وأجواءَ

لها مخمل..

تقول اليوم إذ كنا

وما زلنا

أرى في رمشها الأكحل

علامات

تزيد الظلمة الكأداء

إذ ترحل..

**

سلاماً يا سهوب الصبر

في اطيافها تحفل..

سلاماً يا طيور الماء

في الأجواء إذ ترفل..

غيوم في السما

سربَ من (الوزاة) لا (تجفل)..

فلا تحزن على ما فات

في الدنيا ولا تبخل..

فحد العمر مرهون

إذا ما فاته يشهر

أهاذا كله يقهر؟

نواميسَ، هي الاقوى

هي الأعلى

هي الأجدر..

تريث، إنها الدنياً

تلاجيناً هي الدنيا

نشم عبيرها سهداً

نشم نسيمها عنبر..!!

***

د. جودت صالح

27/1/2025

أفقٌ رماديُّ الرؤى كالطيــــــــنِ

انفاســـــهُ حجريّـــةُ التكويــــِنِ

*

لوّنتــه ُ بخواطري فوجــــــــدته ُ

مستعصيــــــا ً حتى على التلويـن ِ

*

كاشفْتـُـــــه ُ سِـــرَّ الجراح ِ بنظرة ٍ

فأجـــابنــــي بتثاؤب ِ التنّيــــــــن ِ

*

فوجدتُـــني والصمْت ُ يذبحُ لوعتي

كالطيـــر ِ يأمــل ُ رحْمة َ السكين ِ

*

وحــدي أجر ُّ خطـايَ دوْن َ موؤنة ٍ

متحـــــديّا ٌ قَـــدَري برُمْحِ يقيني

*

كمـــؤذن ٍ في الريح ِ ينْدُب ُ راية ً

من أمْــس ِ قَـدْ تُـرِكتْ بلا تأبين ِ

*

ساءلْت ُ نفســي ايَّ ذنب ٍ قدْ جَنـَتْ

حتّـى تكون ّ الموحشـات ُ عريني

*

ولِمَ استباح َ الليل ُ شمْس َ مقاصدي

وامتـدَّ عـثُّ الموج ِ نَحْو َ سفيني

*

هـــذا أنا فَــرَسي الرياحُ وبيرقــي

و َهْـم ٌ يرفرف ُ في سماء ِ جنوني

*

للحُـزْن ِ آيات ٌ عظـــام ٌ نُزّلَــــتْ

رتّلْتُـــــها في صومعات ِ سكوني

*

لكــن َّ وجْــهك َــ فاِتنــي ــ لمّــا بدا

خَلْـف َ المدى ولّــى ظلام ُ شجوني

*

قَبّلْتُـــه ُ صبحا ً فريدا ً مــا رأتْ

أنوارَه ُ الأبصــارُ منــــــذ ُ قرون ِ

*

فــي مقلتيك َ قرأت ُ سِــر َّ حكايتي

وعرفت ُ اصْــل َ مسـرّتي وأنيني

*

وعلــى شِفاهِــــك َ بسمـــة ٌ سحريّة ٌ

سَبَقــتْ عصور َ الخلْق ِ والتكوين ِ

*

مـــــا أنت َ إلاّ نَفْحـــــــة ٌ قُدُسيّـــة ٌ

وشـــرارة ٌ في هيكـل ٍ منْ طين ِ

*

لمّــــا رأيتُك َ في دروب ٍ حُوصِـرَتْ

بالثلج ِ والظلماءِ مِثْـلَ سجيـــن ِ

*

غنّـــــى الربيع ُ نشيـــدَه ُ في خافقـي

واخضـرَّ عودٌ في عجافِ سنيني

*

رَقَصت علـى خضْرِ الضفافِ وريدة ٌ

وأنارَت ِ البسمات ُ وجْه َ حزين ِ

*

ومراكب ٌ عادتْ إليـــها بَعْدَمــــــا

هجَعَتْ خيالات ُ الهوى المجنون ِ

*

نَشَـرَت ْ صواريــها لتحتضن َ المدى

والريح َ تجري لا على التعيين ِ

*

مَرَقـتْ كرعْــد ٍ في السكون ِ وأشعَلَت ْ

نارا ً على مذرى رماد ِ حنيني

*

هــــذي هي َ الأقـــــداحُ قدْ فَرغتْ وَلَـمْ

تبلـغْ سواحـل َ من بحار ِ ظنوني

*

ألوى بهـــا الإعيــــــاءُ يلعن ُ بعْضُــها

بعضـا ً تُحـدَق ُ فـي سماء عيوني

*

مسحـــــورة ً وهِــي َ التي عًرِفَــتْ بما

فيهــــا من الإغـراء ِ والتطمين ِ

***

جميل حسين الســـاعدي

ترابً يراقص نسائم العودة،

"يا أرضي،

كيف حفظتني؟"

كيف تذكرتني؟

*

كنتُ غريبًا في مدن الزجاج،

أبني بيتي من لهجةٍ ليست لي،

أقنع نفسي أن الخراب كان خيارًا،

لكن كلَّ مساءٍ كنت أحنُّ

لرائحة المطر على الإسفلت المتشقق،

للطرقات التي تعرف أقدام أجدادي.962 Back

هل الوطن رائحة؟

هل هو صوت المؤذن حين يتداخل مع صوت الباعة؟

أم هو جملة قصيرة قالها أبي:

"هذا بيتنا، هنا ولدتَ."

فهمت أن الوطن ليس مكانًا،

بل هو سؤالٌ يلازمك،

وإجابة تجدها حين تلامس كفّيك التراب.

*

عدتُ اليوم،

أحمل حقيبة صغيرة،

مليئة بالحكايات التي سردتها المدن البعيدة ، والمنافي ...

لكنني تركتها عند الباب،

لأن الأرض لا تحتاج رواية الغريب،

فهي تعرف كل شيء.

*

رأيت العصافير تنقر بذور الشمس،

رأيت الحقول تتنفس بلا قلق،

والريح كانت تشاغب أغصان الزيتون.

*

"لماذا تأخرتُ كل هذا الوقت؟"

فهمس لي التراب:

"الوطن لا يسألك متى تعود،

بل يحتضنك حين تعود."

*

وهنا،

في هذا المدى الممتد،

حيث الزعتر يهمس للأرض عن زمن مضى،

أعدت ترتيب أنفاسي.

أدركت أنني لا أحمل الوطن،

بل هو الذي يحملني،

في كل خطوة،

وفي كل صمت،

وفي كل رائحة ترابٍ،

تحفرُ في ذاكرتي جذور البدايات.

***

مجيدة محمدي

 

دعوني أرسم احلاما وردية

فوق رمال تعشقها الريح

أشعر بالدفء الحالم

أنسى الماضي خلف تلال طفولتي

فهناك بكيت فاجعة أبي

والفرح المؤجل مذ ذاك التأريخ

وكل الأبواب المؤصدة

أحاول ان أنسى / أهرب

أنسى

كل مساءاتي ومرارة قهوتي

دعوني أرسم أحلاما وردية

دعوني أكذب وأكذب

وأصدق أكاذيبي

دعهم يملؤون أرواحنا

بهزائمهم

دعهم يدقون مساميرهم الغبية

دعونا نكتب ثورة مجنونة

نواسي هذا القلب

في غربته

مسكين يحلم بالبرق وبالرعد

ولعل الكمأة تفقأ عين الأرض

وغبش يلملم عذاباته

وان كان بحلم كاذب

في الرؤيا بين الاغفاءة والصحو

رأيت كأني

أمسك بيدي وردة وبطاقة

وأقف بمحاذاة النهر

كأني هنأته بعام جديد

فخفق القلب مثل صبية

تكتب أول رسالة عذرية

***

سنية عبد عون رشو

يطل بروح عاشق من قزحية الفصول، مبرقعا بجذوة برد، متأبطا حفنة من أنواء عشقهِ، وبعضاً من ندا لياليه الموشمة بمزاج غيوم مبللة بعذرية الدموع، يزحف عنوة برياح إشتياق متسمرة روجات حلم متلكئ الهدوء بوسوسة مشاعرنسمات تغافل أحداق المناخ، ربما تنحسر أقطاب جريانه صاغرةً، من صدى عاصفة أفلَت من أشلاء الإتجاهات، باصدافِ الشجنِ على حين ارتجاف، تنسلُ على أوداج الصقيع مغامرات ذكرى، بطارق إنجماد بصمت نشوة الأجواء، فيما تتلاشى ظلال شمس خجولة السطوع بقناع ظهيرة، تداعب أنفاس الشتاء قداح الليمون بلآلئ ثلج تتدلى هنيهات غرام ذراري برد، تندس قرقرات قطتي الوردية باحضان صغارها، تمكث بأضلاع المواقد عسعسة دفء، نستنشق زفير رئات الود قدود عافية، هذا الشتاء يحتضن همسات صفصافة متيمة باطلالة برق الانتظار، لعل تنهدات الوجد زخات رضاب مطر، ومشاعر أرَقْ المخاض براءة نطف السحاب انسكاب متمرد لفجر ضباب بلهفة بياض حالك، تلوح لغبطة عواصف فاض غيض قزحها من مغيب زوبعة شتات على دنو التلاقي، حتى بح برق الرعود من هطولٍ بارد، اجتاح حقول القمح بوسامة حشود جواري الإنتعاش، بارة سبابة الزرقة بأبناء الطين، كلما يذبل ريق الودق، ترسم وجه الغيوم عيون باكية .

***

إنعام كمونة

26/1/2025

لست الوحيد

المبحر بصورة تلك الديار

ولست بالوحيد

الذي استراحت على زوايا أحداقه

ولست بالوحيد

الذي لا يعرف لماذا،

لست الوحيد

مَنْ تفاجئه ذرات التراب

عالقة على الأهداب عند كل مساء

أو تـفاجئه طابوقتها المرصوفة بدم القربان

بظلها كرحمة واسعة

في خضم الضجيج

على سبيل الأمل،

كل هذا ليس حنينا،

ليست حيازة لذكرى،

وليس تفرد،

إنها،

دمغة من مرح الشمس على الجسد بين أركانها،

رسم طفولة على الجدران

لسد نقص في حياة العائلة،

أما الفتاة

التي أغويتها

لمسامرة على متن حلم اليقظة

ثم أجلستني تحت كوة عينيها

تشرح زرقة السماء

بعيدا عن سطوة الحارس الخفي

كم كانت حكيمة

رغم قصر جدائلها

الأقصر من الحياة

بثوبها القصير ذو الأبعاد المتنوعة

ولاسيما التحرش بغنج الهواء،

لست الوحيد

مَنْ ينتظر أغنية في الضحى العالي

وعلى سبيل المثال

(حاكيني يا يمه... غريبه من بعد عينك يا يمه

يمه)

كل ذلك لم يكن بعيدا

يأتي بكل صباح

يجلس على راحة اليد

عابرا للقارات

مع أبخرة كوب القهوة حيث

تومئ الديار كي أدخلها

بطوافات النجاة،

حامل كل حيرة الأمس

بحبوحة الجسد،

أتجول بين زوايا غريبة

بحثا عن طريق.

***

رضا كريم

 

في ظلال الحيرة حيث تهيم العقول، وبين أعمدة الكلمات التي تتشابك كخيوط عنكبوت عملاق، كان هناك رجل يدعى خضور الصغير. وبمأن اسمه لا يثير الفضول اتخذ لنفسه اسما حركيا يدعى خدروفيسكي، كما أطال شعر رأسه ولحيته وشاربيه مقلدا بعض الفلاسفة والكتاب في عصر النهضة. إلا أن ذهنه كان عالماً مضطرباً، محكوماً بأفكار متشابكة وشعور دائم بأنه الكاتب الأعظم الذي لم يُنصفه الزمن.

كان خضور يقضي أيامه في مقهى صغير، تطفو على جدرانه بقع القهوة القديمة مثل آثار معارك فكرية عنيفة. هناك، يجلس خضور برفقة دفتره البالي، يُمسك قلمًا غليظًا كأنه يحمل سيفًا، ويبدأ بكتابة كلمات لا تنتمي إلى أي سياق معروف:

“في البداية، كان السكون. لكن السكون لم يكن سكونًا، بل كانت هالة غريبة، كأنها صوت الصمت يصرخ في الفراغ. والفراغ لم يكن فراغًا، بل كان امتلاءً بالشعور باللاشيء.”

يمسح خضور جبينه، يحدق في السطور، ويبتسم. “يا له من عمق!” يتمتم لنفسه. “لن يفهمها العامة، بالطبع، ولكن النقاد سيدركون عبقريتي.”

وفي محاولة لخلق شخصية رئيسية فريدة، أطلق عليها اسم "العاصفة المُضادة"، شخصية لا تعيش في العالم المادي بل في بُعد متداخل مع أبعاد الرمزية الغامضة. كتب عنها:

“العاصفة المُضادة ليست رياحًا ولا عاصفة، بل هي فكرة. والفكرة ليست فكرةً، بل هي انعكاس للفراغ في مرآة التنافر.”

ومع كل صفحة يكتبها، يشعر خضور بأنه يقترب من المجد الأدبي. كانت الرواية تمتلئ بجمل مثل:

“الزمن مثل حذاء قديم؛ يضيق حين لا تحتاجه.”

“الشمس ليست شمسًا، بل هي قمر مُقنَّع بالخديعة.”

“اللون الأزرق هو صرخة الألم في قلب الطيف.”

وحين ينتهي من فصل طويل مليء بهذه التأملات، يُسميه: "الفصل الأول: التشريح اللازمني للكينونة المتلاشية". كانت الفصول تمتد بلا غاية واضحة، وكلما شعر بنقص في المحتوى، أضاف مشاهد عبثية:

"جلست العاصفة المُضادة على كرسي من الهواء، ترتشف كوبًا من الشاي المصنوع من الزمن المنصهر، وتحدثت إلى ظِلِّها الذي لم يكن ظلًا بل كان انعكاسًا لفكرة ظل.”

وفي محاولة لجعل النص أكثر إثارة، أضاف مشهدًا آخر: "في منتصف الليل، حين تتشابك الأرواح فوق أسطح المباني الخاوية، سمعت العاصفة المُضادة صوتًا لا يمكن وصفه. لم يكن صوتًا، بل كان إحساسًا يتحدث من خلال صرخات الزمن المكسور."

كلما عرض خضور مقاطع من روايته لأصدقائه في المقهى، كان يواجه بالصمت، وأحيانًا بتنهيدات عميقة. لكن خضور كان يفسر ذلك على أنه دليل على الدهشة والانبهار. كان يقول بفخر:

“أعلم أن الأمر يتطلب وقتًا لفهم عبقريتي، فليس من السهل على العقول البسيطة أن تستوعب هذا المستوى من الإبداع.”

وذات يوم، قرر إرسال مخطوطته إلى إحدى دور النشر الكبيرة. كتب رسالة ملؤها الثقة:

“إلى السادة القائمين على الأدب العالمي،

أرفق لكم هنا روايتي التي ستغير مسار الأدب للأبد. أنا خضور الصغير، كاتب الزمن القادم. أرجو أن تُجهزوا أنفسكم لاستقبال العمل الذي سيصبح معيارًا للعبقرية.”

بعد أسابيع، وصله الرد:

“السيد خضور الصغير،

نشكرك على إرسال مخطوطتك. للأسف، لم نفهم مضمونها. نتمنى لك التوفيق في مشاريعك المستقبلية.”

لم تُثنِ هذه الرسالة عزيمته. بل ابتسم ابتسامة عريضة وقال: “هذا دليل آخر على أنني سابق لعصري. سيأتي اليوم الذي تُدرَّس فيه روايتي في الجامعات.”

وهكذا، استمر خضور في الكتابة، مقتنعًا بأنه ينسج أدبًا خالدًا، بينما يتوه قراؤه (إن وُجدوا) بين الكلمات المتشابكة، غارقين في بحرٍ من الرموز الغامضة والأفكار التي تتناثر كأوراق خريفٍ لا تعرف اتجاه الرياح.

وفي لحظة تأمل غريبة، قرر أن يُضيف للرواية فصلًا جديدًا يحمل اسمًا أكثر غرابة: "الفصل الذي لا ينتهي: انعكاسات الضوء في مرآة الزمن المحطم". في هذا الفصل، كتب: "حين تتلاقى الأبعاد، لا يبقى من الحقيقة إلا شظايا حلم مبعثر، والكون يصرخ في صمت أبدي، معلنًا عن ولادة فكرة لا يمكن لها أن تُفهم."

كانت روايته تنمو مع كل يوم، مثل نهر لا يعرف إلى أين يسير، لكنه مستمر في الجريان. ومع كل صفحة جديدة، كان حامد يشعر بأنه يقترب من تحقيق خلوده الأدبي، حتى وإن لم يدرك أحد سواه هذا الخلود.

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

يا صُورةً…مِنْ شبابِي * ذِكراكِ شوقٌ وغِـبْـــطُ

مِلْءَ الأماني أَرانِــي: * فالوجهُ صافٍ وبَسْـــطُ

عامٌ يُلاحقُ عامًــــــا * لا نُوقفُ الدّهرَ قَـــــطُّ

ساعاتُنا…بالثوانِـــي * يا لَيْتَ قد صَحَّ ضَبْـــطُ

في مثلِ هذا الزّمان * كُلُّ الحساباتِ غلْــــطُ

تلكَ النّجُومُ تَهــاوَتْ * والشّمسُ هَاتِيكَ سَقْـــطُ

شَيْـبٌ وقالوا وَقـــارًا * لكنْ في الرّأسِ وَخْـــــطُ

كالمُهرِ كنّا شبابًـــــــا * ننثالُ والقَدّ سَبْــــــــطُ

بَيْنَ الصّبَايَا دَعَــــــانَا * مِنْهُنَّ جَفْـنٌ وَقُــــــرْطُ

في الصّيفِ والبحر ذُبْنَا *كَمْ أَعْذَبَ العِشقَ شَطُّ

فالعفوُ ! إنْ كان فيـــهِ * رَغْمَ البراءةِ خَبْـــــطُ

كمْ مِنْ رُسومٍ خَطَطنَا * لكنّهُ اَلْمَحْـوُ خَــــــطُّ

أينَ الأَحِبّةُ راحُـــــــوا * دُنيَا شَــتَاتٌ وفَــــرْط

يا صورةً مِنْ شبــابِي * رَغم الأسَى إِذْ يَحُــطُّ

رغمَ الجراحاتِ كُثْــرٌ * فالقلبُ دَومًا يَنُـــــطُّ

إنّ الجوادَ الجَمُـــوحَ * منذُ البداياتِ شَمْـــطُ

أشواقُهُ العارمـــاتُ * تُدْنِيهِ إِذْ زادَ نَشْــــطُ

تلكَ المسافاتُ نادتْ: مازالَ في الحُلم قِسطُ

***

سُوف عبيد - تونس

....................

نشرتْ جريدةُ ـ الصّباح ـ التونسية صورةً لي قديمةً من عهد الشباب مع عدد من الشّعراء التونسيين وقد مضى عليها ـ حينها خمسة وعشرون عاما فلم أتبيّن ملامحي عند النّظرة الأولى بل تساءلت من يكون هذا الشاعر بين أولئك الشعراء

فكانت هذه القصيدة

زُجاج يتكسر. عالم ينهار.. يتدمّر. يختلط الأسود الأبيض، الاحمر والاخضر. تغيم الصورة في عينيها. عالم يتدمّر. عيون تتنمر وأطفال تتدهور. كلّ شيء يختلط ويفقد خصوصيته فرادتها. تنطلق الصرخات من كلّ مكان حتى من أعماقها، هي الام القلقة على ابنتها وابنها الصغيرين. شعور جارف يأخذها من قُبالة شاشة التلفزيون، يبعدها عنها غير أن شعورًا طاغيًا يقول لها يصرخ في أذنها.. ان عودي لتري إلى أي نهاية ستمضي الأمور. إنها تهرب من مشاهد الدمار لحظة.. غير أنها سرعان ما تعود إليها مثل فراشة كان لا بدّ لها من الدوران حول الضوء المشتعل الحارق. مشاعر متضاربة تجتاحها.. إنها تعي كلّ ما يحدث.. سوى انها لا تعي ما يخبئه الغد..

تتحرّك في مقعدها قُبالة الشاشة الصغيرة. منذ غادر زوجها تاركًا إياها مع طفيهما، هو وهي، منذ أدار ظهره لها متخلّيًا عن مسؤوليته الابوية وهي تشعر ببهاظة المسؤولية في تربية صغيرها المحبوبين.. جليلة ابنة الأربعة أعوام وجلال ابن التسعة أعوام. وهي تقوم بمهمتها الامومية في تقديم ما يمكنها مِن رعاية. بل أكثر مما يمكنها. عندما خطر في بالها اسما ابنيها الغاليين، انتابها شعور بخطر هُلامي يستولي عليها ويصبغ عالمها باللون الأحمر القاني. خوفها على ابنيها كان قاتلًا. حاولت أن تهرب من تلك المشاهد المثيرة للدموع في العيون. ازالت دمعتين من عينيها. توجّهت إلى التلفاز الموضوع على الكومودينو العتيق. تذكرت أنه كان بإمكانها أن تتحوّل إلى محطة أخرى بواسطة الكونترول الموجِّه. عادت إلى مقعدها.. ضغطت على رقم آخر. محطة أخرى.. علّها ترى ما يُفرح القلب ويهدّئ الروح القلقة، فعلت ذلك وسط كلّ ما أسبغه عليها عالم التلفزيون من الاحزان. بيد أن ما حصل هو أنها إنما كانت تنتقل من خراب إلى خراب رغم أنها كانت تنتقل من أخبار بلدان مختلفة.. قريبة وبعيدة في الان.

توجّهت نحو المطبخ الصغير في بيتها المتواضع، علّها تتخلّص مما حلّ بها من مشاعر الاسى والشجن. فتحت الثلّاجة الصغيرة. تناولت كيسًا مليئا بحبات البطاطا. راحت تقشرها بسرعة مَن يريد أن ينسى.. الا مُرغمًا انه يتذكّر. هي ستسرع في إعداد البطاطا المقلية. جليلة وجلال يحبانها. عرفت ذلك يوم قدّمت صحنًا مليئًا بالبطاطا المقلية لابنتها جليلة فاختطفه من بين يدها ابنها جلال وراح يتناول البطاطا بشهية لافتة. لم يعبأ جلال يومها ببكاء اخته الصغيرة، فتوجّهت إليه، هي أمه المحبوبة، طالبة منه أن يقدّم لأخته الصغيرة بعضًا مِن شرائح البطاطا.. بيد أن ما حصل هو أنها ما إن نظرت إلى صحن البطاطا بين يدي ابنها حتى فوجئت به وقد فرغ عن بكرة ابيه. وهو ما اضطرها لقلي كمية أخرى من البطاطا. التي سينظر إليها جلالها بنوع من الفجع وسوف ينتزع الصحن من بين يدي اخته الصغيرة تاركًا لها.. هذه المرة .. بعضًا من الشرائح.. توقيًا لحنق امه وصوتها المدوي. "جلال يحب الحياة" قالت ذات يوم لأبيه وتابعت" هذا الولد نفسه طيبة ويُحب الطعام"، يومها أفرحها زوجها.. الهارب من المسؤولية حاليًا.. بقوله، " ان كل ولد يحب طعام أمه".

تحرّكت الام المتوترة نوعًا ما باتجاه الباب الخارجي للبيت، هي لن تعود إلى التلفزيون سلوتها الصديقة الغالية في هذا اليوم المتلبّد الغائم. يكفيها ما رأته فيه من مآسيَ وآلام تنوء بحملها الجبال، يكفيها ما نالها من مشاعر التضامن مع معذبي العالم في كلّ أماكنه" عالم مجنون هذا"، قالت لنفسها وهي تغلق الباب وراءها. نظرت إلى الساعة المُنتصبة في وسط المدينة كانت عقاربها تقترب من الثانية. في الثانية والنصف سينتهي دوام ابنيها. ستصل قبل هذا الانتهاء بدقائق. وها هي تمضي على مهلها وأقل من مهلها. ها هي تتوقّف قرب هاته المرأة أو تلك الدكانة لتستمع إلى أخبار الزجاج المتكسّر تنتشر في مكان، زاوية وركن من أركان الطريق المؤدي إلى المدرسة. إنها تستمع إلى احتجاجات واستنكارات الكثيرين. "الله يستر"، قالت لنفسها وهي تُتابع الطريق باتجاه المدرسة، كي ترافق ابنتها صغيرتها الغالية ذات الشعر الذهبي المسترسل. أما ابنُها صغيرُها مُحب طعامها الخاص .. وآكل البطاطا النهم، فقد تعوّدت منذ فترة ليست بعيدة من الوقت على تركه يعود إلى البيت دون مرافقة، فقد أرادت أن تخلق منه طفلًا مستقلًا ومعتمدًا على نفسه.

وصلت بوابة المدرسة. ها هي مُنظّمة تسليم التلاميذ الصغار إلى أمهاتهم تسلمها جليلتها.. وها هي تحتضن قارب الذهب الوردي كما أطلقت عليها. وتمضي في طريق العودة إلى البيت.. بيتها.. رافعة الرأس وواثقة مِن أنها إنما تؤدي دورها على أكمل وجه، في مقابل إهمال زوجها، وتخلّيه عما يُفترض أن يقوم به في عالم يتدمر. عندما وصلت إلى الباب الخارجي لبيتها لاحظت أنه ما زال مغلقًا بالضبط كما تركته قبل قليل. لقد عوّدت ابنها.. صغيرها.. محبوبها البطل على أن يترك ذلك الباب مفتوحًا، عندما يعود إلى البيت بعد انتهاء دوامه. فتحت الباب المُغلق. أدخلت ابنتها قبلها.. وتبعتها.. نادت ابنها غير أن أحدًا لم يردّ. حملت صغيرتها.. وخرجت إلى الشارع المحاذي.. انتظرت أن يُطلّ ابنها من الطريق التي اعتاد على العودة منها بعد انتهاء دوامه، غير أن أحدًا لم يظهر أو يمرّ. توجّهت إلى المدرسة مرة أخرى. وعندما وصلت إلى هناك، وجدت بوابة المدرسة مغلقة. حالة من القلق الموازي لذاك الذي انتابها خلال متابعتها للمآسي التلفزيونية. شعور بالجفاف استولى على لسانها. وضرعت إلى السماء" يا رب السماوات.. أين ذهب ابني"، اكفهرّ وجهها أكثر فأكثر. احتلت الحيرة كلّ ما في عينها من مساحة. توقفت في باب المدرسة تفكّر فيما عساها تفعل. استولى عليها شعور بأنها تغرق في بحر من الألم العميق. ولم يخرجها مما هي فيه.. سوى رؤيتها مُساعدة طلاب المدرسة ومسلّمتهم إلى أهاليهم. فعندما التقيت عيناها بعيني تلك المرأة المُخلّصة حتى سألتها أين ابني جلال.. هل رأيته؟.. "لقد جاء والده واصطحبه من هنا.. الم يعد إلى البيت؟"، سالتها فلم ترد الام القلقة عليها وإنما انطلقت إلى حيث يقيم زوجها الهارب من مسؤوليته الابوية.. فلم تجده.. عندها طارت إلى بيتها.. الحمد لله باب البيت مفتوح هذه المرّة.. تنفّست الصعداء ودخلت البيت لتحتضن ابنها وزوجها العائد إلى بيته وابنيه العزيزين الغاليين.. " كنت أعرف أنك لن تتخلى عنّا في هذه الأجواء المشحونة.. هتفت بزوجها وهي تعود إلى احتضان ابنها البطل.. وتنظر الى البعيد.

***

قصة: ناجي ظاهر

(حين وردني نعي العزيز كتبت قصيدة أشبه بالارتجال وقد نقّحتها وأضفت إليها مع الشكر سلفا للمثقّف)

***

كفكف دموعك هل يفيد نحيب

أم يرجعنَّ من الممات حبيب

*

أأبا عديّ ألف كلا لم يمت

من كان  في حبِّ الحسين يذوب

*

جبل تسامى للسماء رزانة

تبكي عليه نواظر وقلوب

*

يا أيها السند الذي بفراقه

سُدَّتْ عليّ متاهة   ودروب

*

يوم به الأحزان حلت فجأة

فالفجر من شَجَنٍ يكاد يغيب

*

أحلامنا خلف السّراب تشتّتت

والليل يطبق والفراغ رهيب

*

تجري أمانينا فتسبق يومنا

ليردّنا عن نيلها المكتوب

*

ماذا أحدث عن زمان بائس

متلوِّن فيه النقيّ غريب

*

الحاقدون عليك لم يتغيروا

أيحول عن طبعٍ لئيمٍ ذيب

*

وإذا النفوس على الدنايا غُذِّيت

عجزت رُقى عنها وحار طبيب

*

غنيتَ للأمل  الجميل ملاحما

والخوف باد والزمان مريب

*

ونسجت في آال الرسول قصائدا

حيث القوافي  وقعهنّ قشيب

*

ونطقت بالحق  الصريح  بموقف

الموت يسأل والدماء تجيب

*

تدعو إلى الخير العميم بعالم

قد أرهقته مطامع وحروب

*

فعليك من رب غفور رحمة

يندى بها مسك الجنان وطيب

***

قصي الشيخ عسكر

 

من أَي كوكبٍ هبطَ طيفُكَ

على قَلبي

وأَيقَظ غَفوةَ النِّسْرينِ

في دْفق شَراييني

وبسماتِ المانوليا

في وجَناتِي؟

ما بين نَسْمَةٍ ونَسْمَة

أستَنشقُكَ عطرَ خُلودِي

وما بين زهرةٍ وزهرة

أُخبئُكَ أَيقونةَ عشْقِي

ماسةَ عُمري ..

مابين دمْعَةٍ ودمْعَة

نجمةُ الصَّباح سَكرت بِأشْواقي

وثَمل قلبي حَنينًا...

يا حُلمَ وُجودي

قادمَة ٌ إلى روحِكَ

على جَذوةِ حبِّي

يحملُني شُعاعُكَ إلى الفردوسِ

أَأنْتَ من كوكبِ المُنى

أم نسيَكَ الدهرُ في سلةِ زَهرٍ

عَلى ضِفافِ وَطَني؟

نَيسانِي مَلَّ  آهاتِ الزَّمان

أَعدْ لربيعِيَ سَوسَناتِه

ولعَينيَّ أمواجَ البحر...

أَلق ِ على حُزنِيَ وِشاحَ البَقاءِ

حِكْ خَلَجاتِ أَنْفاسِي

ما بينَ غَيْمَةٍ وغَيْمَة..

أَعومُ في محرابِكَ السّماويِّ

لأُتوِّجَكَ توأماً لروحي العذراء

ضُمَّني إليك ليُزهِرَ ياسمينُ مَدائني

خُذ ْ نَبْضي...

أنا أموتُ وأَحْيا .....

لأَجلكَ ...

***

سلوى فرح - كندا

 

(بغداد)... المقطع الأول

كمْ كبا خطوُها ثمَّ عادتْ

لتسرجَ مِن سابحِ الريحِ ظهرَ جوادْ

كمْ خبا ضوؤها ثمَّ آبتْ

كوكباً يمطرُ النورَ فوقَ سجونِ البلادْ

يقولونَ بغدادُ ثمَّ يضيعونَ عنها ولكنَّهم يرجعونْ

حين يأتي هتافٌ يزلزلُ أوديةً وجبالْ

فيصبحُ ما كان ضمنَ احتمالِ المحالْ

ممكناً، ويصيحُ المحبونَ بغدادُ بغدادُ بغدادْ

فيصهلُ مِن سابعِ الملكوتِ نورُ الجواد1

***

(بغداد)... المقطع الثاني

.. ودجلةُ قبلَ النبيينَ مرَّتْ، أتـتْ والفراتْ ..

وكيما تمرُّ الحياةْ

يحاورُها الكونُ عبرَ دهورِ الخليقةِ اذْ يسمرُ الطيرُ فيها

وتفهمُ أحرفَهُ والكلامْ

وتعودُ لَهُ واقعاً عادَ في حلمٍ باهرٍ في أعالي المنامْ

أنها روحُ نهرٍ عريقٍ كريمٍ عظيمٍ شجيٍ وللماءِ فيهِ شجونْ

تجمَّع مِنْ كلِّ عينٍ زلالٍ ليحملَ بَهجتَهُ في التماعاتِ ماءٍ يمورُ وقدْ ذرفتْهُ العيونْ

الشذى في بناتِ الضفافِ مشى والأسى في الغصونْ

فالشروقُ اساريرُ ماءْ

والغروبُ مسيلُ دماءْ

فكمْ خبَّأتْ دجلةُ الخيرِ كيْ تطردَ الشرَّ سحراً وماءً ونورْ

وكمْ عبرتْ قارباً في الأعاصيرِ عصراً فعصراً

فاِنْ رحلتْ ذاتَ يومٍ فقلْ غرقتْ كلُّ هذي العصورِ وتلكَ العصور2.

***

(بغداد)... المقطع الثالث

بغدادُ فيها الى الماشينَ شطآنُ

بغدادُ فيها الى الشطآنِ خلّانُ

*

فيها المكانُ: مقاماتٌ، وأفئدةٌ ـ

سلالمٌ، وقياماتٌ، وأزمانُ

*

حريَّةٌ، وسماءٌ، واحتدامُ هوىً

ماذا سيسجنُ في بغدادَ سجّانُ

*

في الكاظميةِ أحداقٌ وأشرعةٌ

في الأعظميةِ أشجارٌ وغزلانُ

*

وفي مرافئِ كرّاداتِها شجنٌ

لَحْظَ الهيامِ كأنَّ الأرضَ أشجانُ

*

سارتْ اليها فتاةُ الحسنِ قصدَ ندىً

لشاعرٍ يقتفيهِ الانسُ والجانُ

*

فليتَ ودَّ الدنى يمشي لدجلتِها

روافداً، ونجومَ النهرِ أكوانُ

*

ان شحَّ ودٌّ على ربِّ القصيدِ فلا

كان الودادُ، ولا كانت، ولا كانوا3

***

شعر: كريم الأسدي

..........................

1- زمان ومكان كتابة هذا النص اليوم السادس والعشرون من آب 2023، في بغداد

2- زمان ومكان كتابة هذا المقطع الثاني من قصيدة (بغداد) اليوم السابع والعشرون من آب 2023، في بغداد.

 3- هذا المقطع من القصيدة من وحي زيارتي الأخيرة لبغداد في آذار 2024 وقد اخترت له اسم (بغداد) اذ أرى ان هذه الكلمة تكفي كعنوان مفردةً وحيدة، وسأضمه الى مجموعة من قصائد كتبتها عن بغداد

 

مع قدوم النوارس

وهي تحمل بمخالبها الشمس

رفعتُ أشرعتي المنسوجة من لهاث الغرقى

وبيدين منحهما الإصرارُ آلآف الأصابع

أمسكتُ بالزمن الهارب

وصلبته على السارية

لم أصغ لاستغاثاته

فقد كان الهواءُ ملغوماً بعيون الحاسدين

وعلى نهج السُفن المثقلةِ بأنّات العبيد

فرشتُ خارطة عنادي

ثم أطلقتُ من شراييني صرخة دامية

وبدأتُ الإبحار

**

- 2 -

عندما انكسرَ أولُ مجاذيفي

قلتُ : المعركة في أولها

ولا يحسمُها سقوط أولِ الجنود

ما دام بإمرتي جيش من أشرس المجاذيف

فلن تهزمني رغوة صابون

- 3 -

عندما انكسر ثاني المجاذيف

قلتُ : حتى لو سقط القمر مغشياً عليه

فلن أعود

لقد علّقتُ الماضي على المشاجب وأشبعته ضرباً

لن أطربَ بعدَ اليوم لأغاني الألسنة المبتورة

سأواصل التجذيف حتى ولو بأضلاعي

فإذا ما تصلّبتِ الأمواجَ جدراناً من الحجر

فسأقضمها بأسناني

- 4 –

عندما انكسر خامس المجاذيف

قلتُ ما دامت الأمواجُ لامعة من الغضب

فلن أستفزّها بشحذ مجاذيفي

سأبطيءُ قليلاً

قليلاً

كي لا أكونُ نِدّاً للموت

- 5 –

عندما انكسر ثامن المجاذيف

قلتُ: أنّ حسابات الأرقام الصمّاء كاذبة

سأعيدُ حساباتي بأرقام ذاتِ صنوج وطبول

فالرجوعُ عَارٌ

والوصولُ مستحيل

واللعب مع الأمواج

كاللعب مع أسود جائعة

- 6 –

عندما انكسر عاشر المجاذيف

قلتُ: ما جدوى كلّ هذا العناء؟

سأتخلى عن حلم الوصول إلى الشمس

ما دام في أعماقي بصيصُ مصباح متوهج

- 7 –

عندما انكسر آخر المجاذيف

قلتُ: لقد انتهت الرحلة

سأمكث وسطَ الأمواج

مستسلماً لأفواه الحيتان

***

شعر / ليث الصندوق

 

في أروقة الأكاديمية، حيث الأحلام تتسرب بين الجدران كأشعة شمس تتوسل نافذة مفتوحة، ولدت حكايات لا تُنسى، حكايات التقت فيها الأرواح لتكتب فصولًا من الفرح، بعضها امتد ليُصبح رِباطًا أبدياً جمع بين رفاق ورفيقات. وسط هذه الأجواء المفعمة بالأمل، برزت بدلة زفاف بسيطة، اشترتها إحداهن لتحتفل بزواجها في غربة بعيدة. لم تكن تلك البدلة مجرد قطعة قماش بيضاء، بل تحولت إلى رمزٍ مشترك، رحلة تتنقل بين القلوب، لتُوثِّق لحظة استثنائية في أعمار من ارتدَينها.

كانت الفتيات، يستعرن البدلة، واحدة تلو الأخرى، ليحتفلن بها، ولو في صورة فتوغرافية عابرة، تُعيد إليهن شذرات من حلمٍ لم يكتمل، وتُزين بشيء من النقاء، ذاكرتهن، كزهرة تنبت في أرض الغربة القاحلة. كانت كل صورة تؤخذ بذلك الفستان تحمل في طياتها قصة صغيرة، أحلامًا محلقة، وقلوبًا تبحث عن معنى، ولو في لحظة مؤقتة من البهجة والفرح.

وفي زاوية خفية من هذه الحكاية، برزت امرأة لم تكن تشبه الأخريات؛ فقد وضعتها الأيام على شاطئ بعيد عن البدايات، بعيد عن الأحلام الصغيرة التي لطالما داعبتها في صباها. كانت حياتها ممتلئة بالواجبات، مثقلة بتحديات الاغتراب والغربة، ومع ذلك، بقي في قلبها ركنٌ صغير يحنّ إلى ما كان. لم تكن الوحدة محض شعور عابر، بل غدت ظلًا يرافقها حيثما حلت، الغربة التي تُضخّم ذلك الصمت الذي يفصل بينها وبين ذاتها، وبينها وبين زوجها.

في إحدى الأمسيات، استيقظت في أعماقها رغبة دفينة، رغبة لم تكن وليدة لحظتها، بل كانت تراكمًا لأمنيات مؤجلة، أمنيات تتوق لتُلامس واقعها. أرادت شيئًا بسيطًا، ولكنه يعني لها الكثير: أن ترتدي بدلة الزفاف التي أضحت أيقونة للفرح في الغربة، أن تلتقط صورة بها ومعها، ليس فقط لها وحدها، بل لتجمعها مع زوجها. كان الحلم بسيطًا في ظاهره، لكنه كان رسالة حب عميقة، رسالة فيها رغبة في إحياء شعلة قد خبت تحت وطأة الأيام وثقل المعاناة.

عندما طلبت منه تحقيق هذه الأمنية، كان صوتها هادئًا، لكنه مشبع برجاء عميق، كأنها تتوسل لحظة تعيد دفء الحياة إلى ما تآكل تحت غبار الغربة. تأمل الزوج وجهها مليًا، قرأ في عينيها حنينًا يُشبه اللحظة الأولى التي صارحها بحبه لها، وصدقًا لا يحتاج إلى تفسير. وافق دون جدال، ربما لأنه شعر بضرورة تلك اللحظة لها، أو ربما لأن كلماتها لامست شيئًا في أعماقه لم يكن يعلم بوجوده.

وفي استوديو التصوير، حيث الأضواء تُلقي على الأشياء بريقًا خاصًا، ارتدت بدلة الزفاف البيضاء. لم يكن القماش الأبيض مجرد لون، بل كان مرآةً تعكس أحلامها القديمة التي لم تكتمل بعد. كل طية، كل خيط، كانت تُعيدها إلى تلك اللحظة التي تمنت أن تعيشها يومًا. عندما وقفت بجانبه، شعرت انها لم تكن لحظة عابرة. كان كل شيء فيها مُفعمًا بالمشاعر: البساطة التي تُخبئ خلفها عالما عميقًا وهائلًا، وفرحًا يكمن في تلك التفاصيل الصغيرة.

التقطت الصورة، لكنها لم تكن مجرد مشهد فوتوغرافي. كانت قصة مكتملة الاركان، رمزًا للعودة إلى الذات، ولإحياء الحب الذي ربما اعتراه الصمت طويلًا. الصورة الوحيدة التي جمعت بينهما في الغربة، والتي كشفت كل ما لم يُقال: أملًا يتجدد، حبًا يعيد صياغة نفسه، وطمأنينة تُرسل عبر المسافات إلى والدتها.

كانت تلك الصورة رسالة عابرة للزمان والمكان، رسالة تقول: "أنا بخير، وأنا أجد في الغربة لحظات من الفرح، رغم كل ما يحيط بي. هناك دائمًا ما يستحق أن نعيش من أجله."

لم تكن الصورة نهاية الحكاية، بل بداية لفصل جديد. وعدٌ صامت بأن القادم، ربما يحمل فرصًا أخرى للحب، للمواقف التي تصنع الذكريات الأعمق. وفي قلب كل ذلك، بقيت تلك البدلة البيضاء رمزًا خالدًا، شاهدًا على قدرة اللحظات البسيطة على أن تمنح الحياة معنى يفوق الكلمات.

***

سعاد الراعي

 

بعد أن يندمل الجرح،

أو هكذا أتصور،

أعود ثانية لأنبش في دفاترنا القديمة.

أضع يدي على ورقة لم تزل تحتفظ بنضارتها،

أقرأ سطرين منها،

ثم أرميها بجانبي.

*

أتذكر...

كيف كان درس النحو صعبًا،

وكيف كنت أحاول أن أُتقن فنّ إيصال

بعض موضوعات لم تكتمل.

كنت أنفق مسودات كثيرة،

أمزّقها،

وأعيد صياغتها من جديد.

*

بعد كل ذلك،

كان يضحك بسن أبيض،

"بابا، أنا أحب دروسك،

لأنها تخرج من قلبك."

*

مرة توسلت به،

لنلتقط صورة،

لكنه دار وجهه باتجاه السماء،

لعله كان يدري

أنها الصورة الأخيرة.

*

اليوم...

أنبش في تلك الصورة،

ألتمس منها حياة

هربت من بين أصابعي.

أضعها أمامي

وأكاد أسمع صوته:

"بابا، لا تتركني وحدي

في دفاتر النسيان."

*

أبتسم،

أجمع أوراقي القديمة،

وأعيد ترتيبها،

كأنني أعيد ترتيب الذكريات

لأحفظها في قلبي،

حيث لا يمحوها الوقت.

***

د. جاسم الخالدي

في نصوص اليوم