نصوص أدبية

نصوص أدبية

حكايات جدات للطفولة

أسماء ضحايا حرب

مشاهدة بحر أول مرة

وصراخ أم قبل ولادة

هي أشياء لا تنسى

*

حين عدت يوم حزن

ناقصا منك

وقد تركت بعضك

في مقبرة

وأحلامك شاردة هناك

هي أشياء لا تنسى

*

طريق إلى مدرسة

جلوس أحبة حول مساء

غفوة يد أمك

على وجنتيك

وبكائك سيرتها

هي أشياء لا تنسى

*

لقاء بعد طول انتظار

ليلة عن حب

ميلاد طفل بكر

لقاء، ليلة وميلاد

هي أشياء لا تنسى

*

سفر قلب إلى اسمها

تبادل قبل بين عشاق

حضن بعد حضن

ورسائل حبك القديمة

هي أشياء لا تنسى

*

ليل وأنت وحدك

يمتد بك الغياب

إلى أخطائك وذكراها

وتحاور الأمس

هي أشياء لا تنسى

***

فؤاد ناجيمي

قالت لنصلي، قلت ما فعلتها من قبل، لدينٍ أو ميتٍ...

فلنصلي للحب قالت...،

قلت: قولي أذن، بل قل أنتَ....

فقلت سنصلي سجود الاحادِ ثنايا،

فقلت ...وردتْ بعدي:

*

قبلتكِ قبليني

ضميتكِ ضميني

أسمعتك دقات القلب

لروحك خذيني

يامن أرى فيك الحياة

وأنتِ تريني

خذيني لقلبك خذيني

يا من ملكتي مني

الشغاف والحشا

أنا عبدك..

أهديني...

***

كريم شنشل

 

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

كأنها تُخبرُ المارين أنّ الليل

ليس سوى وشاحٍ من البرد والصمت،

يُطوّق خطواتَ العابرين.

*

في الزقاق المهجور،

أقدامُ رجلٍ تتردد،

خفيفة كأنها تخشى أن تُوقظَ الحجارةَ

من سباتِها الطويل.

عيناه تبحثان عن وجهٍ غريب،

عن دفءٍ غائب،

عن أملٍ دفنته الأمطارُ تحت الأرصفة.

*

في البعيد،

أضواءُ المدينة ترتعشُ كنبضات قلبٍ خائف،

والريحُ تعزفُ سيمفونية الشتاء،

تنحني الأشجار،

كأنها تُواسي ظلالها المتكسّرة.

*

الرجلُ يُواصل السير،

يحمل على ظهره حقيبةً ثقيلة،

لكن أثقل منها،

ذاكرةٌ مكتظةٌ بالوجوه التي غادرت.

في يدهِ ورقةٌ قديمة،

تتآكل أطرافها،

كتب عليها:

"أنا آسف."

*

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

لكنّ البرودةَ لا تسكن في الأرض،

بل في قلب الرجل،

في عينَيهِ اللتين فقدتا القدرة على الحلم،

وفي صوتِه الذي لم يَعُد يعرف كيف يهمسُ للحياة.

*

يقترب من بابٍ خشبيٍّ قديم،

يضربه الهواءُ فيصدر أنيناً.

يتوقف،

يمدّ يده المرتعشة،

ويطرق الباب.

*

لا أحد يجيب.

يسقطُ الصمتُ بينه وبين الباب،

كهاويةٍ لا يمكنُ عبورها.

يطرق مرةً أخرى،

وثالثة...

ثم يُدرك.

البابُ ليس إلا شاهداً،

على غياب الذين لن يعودوا.

*

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

لكن الرجل لا يتوقف عن المشي،

يحملُ خطاياه فوق كاهله،

يتبع ظله الممتد كأنه دليلٌ للضياع.

*

على الجدرانِ المتهالكة،

كتاباتٌ قديمةٌ تتلاشى تحت المطر:

"من هنا مرّ عاشقٌ ذات يوم."

"من هنا بكت طفلةٌ تبحثُ عن أمها."

"من هنا ضاعت أحلامُ رجلٍ كان يظنّ أن الغد أجمل."

*

يمرُّ الرجل بتلك الكلمات،

يتوقف لحظةً،

ثم يمسح عينيه،

ليواصل المسير،

وكأنه يطارد خيطاً رفيعاً من نورٍ،

بين عتمة الأرضِ وسماءٍ بلا نجوم.

*

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

لكن في نهاية الطريق،

صوتاً خافتاً ينبعثُ من الداخل،

كأنّه همسُ الحياة.

يبتسمُ الرجل،

يُغمض عينيه،

ويترك خطاه تذوبُ في صمت الليل.

***

مجيدة محمدي

صَومَعةٌ

مِئذنتُها الجَمرُ

جيدُها البِلّورُ والنّحاسُ

قَدُّها الماءُ والأنفاسُ

مُنتَصِبةٌ

رَقراقةٌ

والشّذَى

المُتعَبُ مُستَريحٌ

عندَها

كَمَنْ تجلسُ في حَضرتهِ

أحلى النّساءِ

*

بيضاءُ اِمرأةُ الحَيّ العتيقِ

في لِحافِها الأبيضِ

تَشُقُّ العَتَمَةَ

بيضاءُ سَاريةُ المَرمرِ

عندَ قَوسِ الزُّقَاقِ

بَيضاءُ عِمامةُ الشّيخِ

بِرغم عُكاّز الثّمانينَ

مازالَ يَرفُلُ في الجُبّةِ البيضاءِ

لا يَنحنِي إلاّ لبَلغتِهِ

فَيَشرَعُ صِبيانُ الكُتّابِ

في مَحْوِ الألواحِ

وغِناءِ البَسْملةِ

*

يا اِمرأةَ بُرج النّار

بُرجِي بالماءِ

ما بَالُ تَاجِكِ أصبحَ رمادًا

ما بالُ صَدري أضحَى بالخَريرِ

هذا الغُلامُ يَهُبُّ بالجَمرِ

والمِرْوحةِ

ـ سيّدِي…

تَمُرُّ العَصا البيضاءُ

بِجاهِ الأولياءِ الصّالحينَ

وببَركةِ الجُمُعةِ

تَمُرُّ عَدَسةُ السَّائح

بائعُ السّجائر

عَناوينُ الورَقِ

يَمُرُّ الياسَمينُ

في رحلةِ العَرقِ

*

شَمسُ البِلّور بينَ القِبابِ

بيضاءُ أناملُ الماءِ

عَلى الحَصيرِ

تَرسُمُ أحلامَهَا

في الزّاويةِ

ظلالاً

على جَبينِ الصّيفِ

***

سُوف عبيد - تونس

 

جبال الثلج ستذوب

ستذوب

وستشرع الازاهير

والسنابل بالنمو

وقطعان

الثعالب بنات اوى

والذئاب بالهروب

صوب جحورها

الخربة المظلمة

وقمر البهجة الخضراء

والامل الاخضر

سينبثق في قبة السماء

وستشرع قطعان

الغزلان والايايل

في الهضاب

في السهول

بالابتسام لعصافير

لعنادل وهداهد

المرج المضيء

والاوزات العاشقات

والمهاجرات صوب

بحار وبحيرات

امالها احلامها

ورؤاها فرحة

ستعكس على مرايا

قلوبها عنادلا

عصافيرا

مبتهجة

وسرب يمام .

***

سالم الياس مدالو

 

(1)

سـيـدتـي الـبـعـيـدةُ / الـقـريـبـةُ..

الـجـمـرُ / الـنـدى..

الـجـنـونُ والـرُّشــدُ..

*

أيـتـهـا الـرَّحـمـةُ والـنـقـمـةُ..

والـجـنـوحُ والـحِـكـمـةُ..

والـسـفـوحُ والـقِـمَّـةُ..

والـبـسـتـانُ والـقـيـدُ..

*

والـغـضَـبُ الـعـاصِـفُ

والـودُّ..

*

تـقادمَ الـعـهـدُ عـلـى وعـدِكِ لـلـعـطـشــانِ بـالـمـاءِ..

ولـلـجـائِـعِ بـالـزادِ ..

ولـلـصـحـراءِ بـالـعـشـبِ

*

وبـالـقـنـاديـلِ تُـضـيءُ ظُـلـمَـةَ الـدربِ

*

والـمَـنِّ والـسـلـوى

وبـالـحـبـلِ لـ " يـوسـفَ الـفـراتِـيِّ " الـذي

ألـقـى بـهِ عــشـقُــكِ فـي غــيـابـةِ الـجُـبِّ..

*

تـقـادَمَ الـعـهـدُ

وهـا مـرَّ قـطـارُ الـعـمـرِ

أيـن الـوعـدُ يـا عـهـدُ؟

*

تـقـادَمَ الـعـهـدُ ونـحـنُ:

الـجـزرُ والـمَـدُّ

*

الـعـلـقـمُ الـبـرِّيُّ فـي ثـغـري

وفـي أحـداقِـيَ الـسـهـدُ

*

وفـي سـريـري الـشـوكُ والـوحـشـةُ

والـبـردُ

*

وأنـتِ يـا حـديـقـةً ضـوئـيـةً

أشـذاؤهـا الـتـبـتُّـلُ الـصوفـيُّ

والـلـذةُ والـريـحـانُ

والــرَّنـدُ

*

الـتـيـنُ والـزيـتـونُ فـي روضِـكِ..

والـظِـلالُ فـي خِـدرِكِ..

والـكـوثـرُ فـي نـهـرِكِ..

والـوردُ:

*

يـضـوعُ مـن شِــقِّ قـمـيـصِـكِ الـحريـريِّ

وتـسـتـفِـزُّنـي حـمـامـتـا صـدرِكِ

يَـصـهــلُ الـسـؤالُ فـي دمـي

وأنـتِ لا ردُّ..

*

أمـا لِـكـأسـي مـا يُـبِـلُّ الـعـطـشَ الـوحـشـيَّ

يـا شــهــدُ؟

*

هَـيَّـأتُ أحـطـابـي

فـهَـيِّـئـي لـيَ الـتـنـورَ حـتـى يـنـضـجَ الـرغـيـفُ

مـنـكِ:

الـمـطَـرُ الـعـذبُ..

ومـنـي:

الـبـرقُ والـرعـدُ

***

(2)

قـالَ لـيْ الأعـمـى:

أنـا أرضٌ يَـبـابْ

*

لـيـس يـعـنـيـنـي إذا أشـرَقَـتِ الـشـمـسُ

أو الـبـدرُ عـن الـشـرفـةِ غـابْ

*

مـا الـذي تـخـسَـرُهُ الـصـحـراءُ

لـو جَـفَّ الـسَّـرابْ؟

*

مـنـذُ شَــيَّـعـتُ شــبـابـي:

وأنـا هـيَّـأتُ جُـثـمـانَ تـرابـي

لِـيُـوارى فـي الـتـرابْ

*

فـعـسـى أنَّ يـمـيـنـي ـ لا يـسـاري ـ سـوفَ تـزدانُ

بـقـنـديـلِ الـكـتـابْ

*

لأعـيـشَ الـدَّهـرَ ـ كـلَّ الـدّهـرِ ـ فـي الـفـردوسِ

كـأسـي خـمـرُهـا الـشـهـدُ

وصـحـنـي خُـبـزُهُ عـشـبُ الـشــبـابْ(*)

***

يحيى السماوي

................

(*) عشب الشباب: المراد به عشب الخلود الذي جاء ذكره في ملحمة كلكامش.

 

إهداء إلى من غنت

(أنا أعشقك)

***

ماذا تقولُ لحسنكِ الأبياتُ

أُعطيتِ ما لمْ تُعْطَهُ الملكاتُ

*

من أينَ أبدأ بالحديث وأنتهي

قد أ ُحْرِجت في وصْفكِ الكلمات ُ

*

أصبحت ِ أجْمَل َ أ ُغنياتي كلّها

تُوحي بها عيناك ِ والبسماتُ

*

غنّيتها فتردّدتْ مُلْءَ الفضا

وإلى المجرة ِ طارت ِ النغمات ُ

*

لا تسأليني كمْ أ ُحبّك ِ ليسَ لي

كيْلٌ أكيل ُ به ِ ولا أدوات ُ

*

ولْتعذري لغتي إذا هي قصّرتْ

هلْ تحْصر ُ الحبَّ الكبيرَ لغات ُ

*

إنّي أ ُحبُّك ِ فوق َ كلِّ معدّلٍ

حُبّا ً به ِ تتحدث ُ النجمات ُ

*

تشدو به ِ الأطيار ُفوق َ غصونِها

وتحدّث ُ الركبا ن ُ والفلوات ُ

*

وتذيعُه ُ النسمات ُ في سَرَيانها

وتضمه ُ الأزهار ُ والروضات ُ

*

نُشِرَت ْ على الدنيا حكاية ُ حبّنا

فلها جميع ُ الكائنات ِ رواة ُ

*

الليل ُ كم ْ أصغى لهمْس ِ حديثنا

وتنفّست ْ في صمته ِ الخطرات ُ

*

والبحر ُ كم ْ ضحكتْ شواطئه ُلنا

وتراقصت ْ لغنائنا الموجات ُ

***

اليوم ُ أ ُولد ُ يا فتاتي عاشقا ً

تصحو على اشواقِه ِالطرقات ُ

*

فلقدْ رَميت ُ كتاب َ أمسي جانبا ً

ونسيْتُ ما تتضمّنُ الصفحات ُ

*

فالعمر ُ يبْدأ ُ من بداية ِ حبّنا

لم ْ تعْن ِ شيئا ً قبله ُ السنوات ُ

*

والعيش ُ لا يحلو بدونك ِ لحظةً

وبدون ِ أن ْ ألقاك ِ فهْو َ سُباتُ

*

أهفو إلى لُقياك ِ كُل ً دقيقة ٍ

وأود ُّ لو ْ تتعانق ُ الخطواتُ

*

بلقائنا تغدو الأماكن ُ جنّة ً

من بهجة ٍ وتزغرد ُ الأوقات ُ

*

تمضي بنا الساعات ُ جارية ً كما

لو أنّها في جريها لحظاتُ

*

وأراك ِ في زخْم ِ المفاتن ِ لوحة ً

خلاّبة ً سَكرَتْ بها النظرات ُ

*

حان َ الرحيل ُ حبيبتي لا تقلقي

الحب ُّ ما أُ ُسقى وما أقتات ُ

*

مهما أسافر لن ْ تضل َّ مراكبي

فإليك ِ دوما ً تنتهي الرحلات ُ

*

وبدون ِ حبّك ِ سوف َ أ ُطرد ُ مرغما ً

من جنّتي وتحل ُّبي اللعنات ُ

*

سأكون ُ في دُنياي َ أشقى خاطئ ٍ

لا الدمْع ُ ينجيه ِ ولا الصلوات ُ

***

جميل حسين الساعدي

همساتُ الرذاذ تباشير هدنة تصحو باكرةً تدغدغُ نافذتي الحزينة، فـ تمسح صبر دموعي الحيرى، كم عشعش القتل يدمر مآقيها ويمسحُ تصاوير أحباب غيّب آثارهم هذا الدمار؟! الدموع المكابرة عادت تصلي خاشعة لربّ رحيم تبحث عن سكينة تسقي زهور الروح أرهقها كثيراً كثرة الرحيل، غداً سترحل الحرب من نسيج نصوصي المثقلة هموم وطن مزّقته حراب الخيانة،  وستهطلُ الأمطار مقدسيّة تعمّدُ محرابي، فـ يعودُ أبي يحملُ الشمسَ، وأمي تزرع الأمل ينبتُ أحلاماً سعيدة تطهّرُ ارضنا، وستحكي لنا جميعاً جدّتنا حكاية الفارس الهمام يحمل فوق صهوة جوادهِ يقين مستقبلِ أجمل، لابدّ أن يسطع النهار وتغسل الامطار كلّ هذا الخراب وتعود اسطورة وطني جنّة حاضرة ترسمها الكلمات، وستعود اسراب السنونو تحمل افراحها صامدة تملأ أفق عيني تكحّل فجراً جديد.

***

بقلم: ناديه محمد عوض – فلسطين

قبل أن أصل إلى حيث توقّفت متلكئة، رأيتها وهي تمُدّ يدها إلى كلّ مَن يمرّ من جانبها.. سواء كان كبيرًا أو صغيرًا.. امرأة أو رجلًا. كانت تُمدّ يدها إليهم بصمت يُشبه صمت القبور، كأنما هي تقول لهم وترجوهم أن يعطفوا عليها وعلى ثيابها الرثّة المتسخة المشردة. كانت تلك واحدة من المرّات القليلة النادرة، التي رأيتها فيها.. أما سبب اهتمامي بها فقد قام على غليان داخلي.. ارتفع لهيبُه حتى كاد يحرق قلبي. عندما وصلت إلى حيث توقّفت، افتعلت حركة ابنة تودّ أن تطلب مِن أبيها معونة.. مهما كانت قليلة قد تساعدها في التغلّب على مرارة الحياة.. معونة حتى لو بنزر يسير مما توقّعت أنني خبأته في جيبي. وما واريته في قلبي من مشاعر الابوة، وتبدّى لي أنها نظرت إلي بكلّ ما لديها من مشاعر البنوة. توقّف كلّ منّا يحدّق في الآخر ولا يدري ماذا بإمكانه أن يفعل. شعور عميق جعل كلًا منّا يتحرّك في مكانه.. لأجدها لاحقًا.. تبتعد عن حيث توقفت.. ولأبتعد بدوري عن حيث أدارت كبوتها المهترئ الرثّ.. ومضت..

تمعّنت في إيلائها ظهرها المحدودب ألمًا وحزنًا فهالني أنني رأيت فيها ظهر ابنتي. ابنتي لا تكبرها كثيرًا فكلّ من الاثنتين في الأربعين أو تجاوزتها قليلًا، وابنتي أيضًا بحاجة إلى المساعدة، مثلما تحتاج هذه المسكينة ابنة الشارع المشرّدة الوحيدة. أرسلت نظري إلى البعيد.. البعيد.. حيث تبدّى لي أنها تبتعد رويدًا رويدًا.. وبقيت أرقبها وأنا في حَيرة من أمري، إلى أن اختفت وراء الزاوية الأخيرة في الشارع الطويل. شعور قاتل انتابني وهمس في أذني.. اذهب إليها.. لماذا لم تعطها شيئًا مما منحك إياه الله. تحفّزت لأن اجري حيث توارت مبتعدة، غير أن شعورًا لاهبًا حارقًا قال لي.. لا تركض وراءها فقد ابتلعها الشارع المسكين.. ولن تراها مجددًا..

انطلقت في الطريق ذاته.. لا الوي على شيء وتصوّرت تلك الغريبة المسكينة تلحّ عليّ.. انها تشبه ابنتي حدّ التطابق، باستثناء أمر واحد هو رثاثة ثياب هذه وهندمة ثياب تلك. أما في الجوهر فقد كاد الامر يلتبس عليّ فلا أميّز بين الصورتين اللتين امتدتا على المساحة الاوسع من تفكيري. كان ما شعرت به في البداية ثقيلًا مختلًطًا بشيء مِن الرتابة والبطء، غير أنني اكتشفت فيما حلّ مِن وقت أنني ابتدأت أخفّ حتى صرت بخفة الريشة في عاصفة مفاجئة.. هوجاء وقاصفة. هذا الشعور دفعني لأن انطلق في الشارع ذاته حيث انطلقت مسكينتي الجديدة. عندما أيقنت أنني في النهاية سأصل إلى بيت ابنتي، قرينة تلك المسكينة، انتابني شعور أنني أكاد أتوقّف عن السير و.. أطير.

أغمضت عينيّ وفتحتهما لأرى إلى المشهد الماثل قُبالة عينيّ. قرب بيتها كانت ابنتي بعينيها التائهتين، تتمعّن في الفضاء الرحب، لم تكن لتراني، وحدست نفسي ترى بماذا تفكّر ابنتي؟ .. أنت تعرف بماذا أفكّر يا أبي. قال مشهدها الوحيد المسكين. نعم .. نعم يا ابنتي.. نعم أعرف.. أعرف. وغام العالم في عيني. عدت إلى أيام خلت كانت فيه هذه الصبية، الام الوحيدة المطلّقة حاليًا، كانت طفلة صغيرة. تحبو في حاكورة بيتنا، خاصة عندما أعود إلى بيتنا بعد يوم عمل شاق، كانت تحبو.. وتحبو باتجاهي.. كأنما هي تريد أن ترحّب بي وبعودتي الغالية إلى حيث هي. وكنت أرى في عينيها الكثير مِن المحبّة والوفير من الامل. كنت أفتح عينيّ على وسعهما كأنما أنا أريد أن أحتضنها بهما وأغطيها بجفنيّ. كنت أرفعها بين يديّ.. احتضنها بكلّ ما في قلبي من مودّة ومحبّة، وكانت هي تحتضنني وتبادلني المشاعر ناسية أنها ما زالت في بداية تفتحها على الحياة وغارسة في قلبي كلّ ما في طفولتها من أمل.. وأمل. الفيلم ابتدأ في التفتح. أعرف أنك عانيت يا حبّة عيني. أعرف.. أعرف. إذا كنت تعرف لماذا تركتني يا أبي.. لماذا تركتني أعاني في عالم لا رحمة في قلبه ولا حنان. لم تكن هناك أي فائدة مما قالت عيناها، ومما قالته في المقابل عيناي. كان كلّ منّا يعرف عن الآخر كلّ شيء.. هي كانت تعرف أنني اردتها أن تعتمد على ذاتها وأن تواجه الحياة بإرادتها الخاصة. وهي كانت تستمع إليّ.. خاصة عندما نصحتها بألا ترتبط بذاك المأفون الذي يكبرها بسنوات.. ويمثّل دور الثري الغني. قلت لها حينها إنه كما فهمت من أصدقاء مشتركين على حافة إفلاس. وإنك إذا ما ارتبطت به سوف تحكمين على ذاتك بالفقر ما تبقىّ لك من أيام وليالٍ في هذه الحياة. فردّت عليّ.. لكنه يصرف بقوة وكرم. جيوبه دائمة الامتلاء.. وعيناه مليئتان بالمحبّة. ماذا أريد أكثر يا أبي؟.. خطر في بالي حينها خاطر طالما راودني ولمسته لدى آخرين مشابهين في الموقف والتطلّع، فمن أدراني أنه إنّما يصرف في البداية.. ويبخل في النهاية. فقد علمت أنه إنّما يقف على حافة منحدر الإفلاس. قلت حينها لابنتي. فأصرّت. على الارتباط به مدفوعة بإعجاب آخرين وأخريات من فقراء العائلة به وبكرمه. يومها اضطررت لأن أكتب اتفاقية فيما بيني وبين ابنتي تلك. مفادها أنني لست متحمّسًا لارتباطها بذلك الرجل. وانني مع هذا لن أتخلّى عنها. كنت أعرف كلّ ما يُمكن أن يحصل بل كنت أعلم علم الحاضر الجاري وليس علم الغيب الناري. بعد كتابتي تلك الاتفاقية وقّع عليها كلّ منّا. ابنتي وأنا، وعندما وَقعت الواقعة ونزلت الفأس القاتلة على الراس.. راس ابنتي الطرية. هرب ذلك الكريم المعطاء مولّيًا ظهره للجميع واختفى في ثنايا الشوارع وزواياها المتعرّجة. منذ ذلك اليوم لم نسمع عنه شيئًا.

تحرّكت في مكاني أريد أن الفت نظر ابنتي.. غير أنها بقيت غارقة في شرودها.. تصوّرت نفسي منطلقًا في شارع بلدتي الطويل، فعدت أجري في الشارع ذاته.. علّي أدرك تلك المسكينة طالبة العطاء.. جريت وجريت.. وكنت كلّما جريت.. ظهرت لي صورة ابنتي أوضح فأوضح.. كنت أركض وراء الاثنتين.. وأتخيّل أنني إنما أركض وراء العشرات من المنكوبات المختلطات.. ما ألطف البنات.. ما أقسى الحياة.

***

قصة: ناجي ظاهر

هذي الجراحُ وهذا النزفُ والألمُ

وهذه النارُ والبارودُ والحِمَمُ

*

طـــوفانُها الهادرُ الجبّارُ باغتهم

تدفاقُهُ إذ توالى سَيلُهُ العَرِمُ

*

من بعدِ عامٍ ونَيفٍ لا انقطاعَ لهُ

ما كان ماءً ولكنَّ المَسيلَ دمُ

*

دمٌ تحدّى شِفارَ السيفِ مُنتفِضًا

ما راعهُ كل ما دكُّوا وما حَطَموا

*

يا غزة العزِّ والراياتُ خافــقةٌ

كأنما هـــــــــي خيلُ اللهِ تلتحمُ

*

في مرجِ حطّين قد عادت مظفرةً

وعاد يَخفقُ فؤق الصخرةِ العلمُ

*

يا غزةَ المجدِ في ساحِ السَرايِ

بدت هذي الجموعُ التي تترى وتلتئمُ

*

ما ضامها الجوعُ والإفقارُ، صابرةٌ

برغمِ ما قتلوا منها و ما ظلموا

*

تدافعت مثل مـوج البحر هادرةً

أبيــــــــةً تملأ الساحات، تقتحمُ

*

تزجي التحايا لمن ضحوا وما وهنوا

ومن على أرضها بالروح قد كَرُموا

*

للفتيةِ الصادقين الوعد ما وهنت

منها السواعد أو خارَت لهم هِمَمُ

*

للنخبة المنجزين العهدَ صادقةً

وعودُهمْ عندما بَرّوا بما قَسموا

*

كأنهم يوم ميدان السراي وقد

ضاقت بهم أرضهُ والخلقُ تزدحمُ

*

كأنما ليلة الطوفان قد بدأت

ما رفَّ جفنٌ ولا زلّت بهم قدمُ

*

إكليلها عندما هَبَّتْ مُحَجَلةً

غراءَ مُلتفةً بلهيبِ النار تَضطرِمُ

*

وزلزلت كل ما في الكون صرختها

وأسمعت بنداها من به صَممُ

*

مشارقُ الأرضِ نادتها مغاربها

فردد الصرخاتِ العُربُ والعجمُ

*

إلا الخوالفَ من أبناءِ جِلدتها

ما شدَّهُم نسَبٌ منها ولا رَحِمُ

*

يا عارَهُم إذ تَوارَوا يوم محنتها

واليوم بانوا ليصطادوا ويقتسموا

*

والحاطبينَ بليلٍ خاب سَعيُهمُ

وخاب ما خططوا ليلا وما رسموا

*

إذ هَيئوا يومها التالي بما وهموا

ففاجأتهم وضاع الوهمُ والحُلُمُ

*

في يومها الأولِ الوضاءِ ظافرةً

كتائبُ الحقِ تمحو كل ما وهموا

*

أما الأعادي وقد عادوا بخيبتهم

كأنما غـــــزوة الأحزاب تُختَتمُ

*

ولو تراهم عصا السنوار تلسعهم

كأنهم ما غزوا يومًا وما اقتحموا

*

نصرٌ أعز به الرحمن صَفوتَهُ

والمجرمون بسيف الحق يُصطَلموا

*

طوبى لغزةَ هذا المجد تصنعه

ما حازهُ قبلها ســــــــيفٌ ولا قلمُ

*

ولا ارتقى قبلها عِزًا ومفخرةً

وشِـــــرعةً تحتذيها بعدها الأممُ

*

يا غزة العِزِّ والأيام شـــاهدةٌ

لكِ المفاخــــرُ والأمجادُ والشَمَمُ

*

من بين أنقاضها َدوَّت مُزغرِدةً:

يا دارنا نحن من نبني الذي هدموا

*

هذي فلسطين من عزٍّ ومن ظفرٍ

لا تلتقي المــــــوت إلا وهي تبتسمُ

***

شعر: فيصل سليم التلاوي

20/1/2025

 

(القصيدة الأفقية السردية التعبيرية)

لا أُجيد رتق التهجي من فصاحة الوجود، ولا أخدش قريحة اللفظ  في ذهن المشاعر، لكن يعمدني ماء الفضول فأصطاد فوارس الكلمات بنفير أصابعي، أنا لست بشاعرة لكن عنان حلم يفوح بمرآة وهم العنوان، هكذا أنا حين تسيل بين أناملي همزات وصل شاعرية وتلتف حول معصمي بنبض تمرد، تضج ترانيم عشقي لشناشيل لغة مكتظة الحنين منذ مهد أبجديتي،  يسامرني شاهين الخيال بصورة شعرية آسرة التوق، أضمّها الى تلابيب الإنزياح حتى تحتدم قُبل الدلالات، وتضئ على غُرة الإيحاء فنار ضرورة،  أنا لست شاعرة،  لكن فوضى قراصنة التأمل تمزح بموج المداد،  تجرف سكينتي إلى خلجان الشعر،  تطاردني أنفاسه نفائس أشواق،  ريثما تبحر أشرعتي في تلافيف التيار،  تتزاحم لهفة العناد على ضفاف ساحل تغازل اسطوله ساحرة الإلهام بتروٍ خاطف،  تعتصرني روح التناص من غنج المعنى،  فاستعير من زقورة القافية إيقاع تجلٍّ، تنتشلني قصيدة من مناجاة الغرق، ربما قلمي سارية نجاة من خفقات رموز كليم النبض،  أشد به راحلة إحساسي، وأجدف نسغ الزرقة حين يتغلغل بي الوجع من شمس خيبة،  تاهت ظلالها على مهب انفعال،  أدون على ذاكرة الصدى شهد غليلي،  كي لا يجدب الكون من صوته الرخيم،  و لا يكف لازورد الضوء عن لسان تواضعه،  كلما تَبَتّلَ صداح الفجر شغفاً على سمفونية الوسن، فاوغل في مسارات عشقه عبر ذاكرة حلم لا تنفد!.

***

إنعام كمونة

كأن النساءَ زهورٌ.

ملكاتُ نحلٍ.

ما إن أحبهن قلبي

حتى مات.

2

ما إن… التقينا

حتى عجزنا عن الكلام

كان الصمتُ ظلاً

والحبُ نديماً.

3

غريبان التقينا

خوفًا من العيون

وافترقنا دون قُبل!

ألا ترى العيون

الحبَ في عيوننا.. قُبل؟

4

أغنية مرت

على شفتيَ

بلحنها…

فغفت روحي

بين حروفها…قبلْ

5

كنا كنباتات الماءِ

كزهور الضفاف

ونسائم الظل

زقزقة عصافير للحب

تنصت لها أغصان الشجر

كنا لقاءً وسفراً

6

تنصت كلُّ آذانٍ

لزغردةٍ في القرية

دون معرفةٍ

ترددُ الأمهات الأغاني

ويزداد فرح الصبايا كحلا

الآن... الآن

كأنا في خسوفٍ

أو كسوفٍ

أو مقبره.

7

النساء ورودٌ

تعطر المكان

أسقوهن

وافتحوا لهن

النوافذ

والثغور

وقللوا اللمس...

***

كريم شنشل

من ديوان وهم آخر

 

في لحظة وداع لبلغاريا كانت أقرب إلى مرآة تنعكس عليها تفاصيل الزمن، وتتداخل فيها أصداء الماضي بتوقعات المستقبل في مشهد يضج بالمشاعر المتناقضة. لقد كشفت لها صورة مصغرة لوجودها، الوجود الذي بدا لها بمثابة خلاصة لكل ما مرت به وبداية لكل ما ينتظرها.

جاء قرار الحزب بالانتقال إلى اليمن الجنوبي، انتدابًا للعمل وخدمة للتجربة الاشتراكية الناشئة هناك. وكان هذا التكليف إضافة أخرى إلى سجل رحلتها الطويلة، المحملة بالآمال الكبيرة، والتوقعات المثيرة، رغم ثقل الهموم داخلها.

كانت ليلة الوداع في الأكاديمية مزيجا من الاحتفال والترقب والرهبة، اختلطت فيها أصوات الموسيقى الصاخبة مع رائحة ونكهة الطعام النفاذ وأضواء القاعة الساطعة، مما أضفى على المشهد بريقا فريدا وغريبًا، كأنها لوحة سريالية، او كرنفالاً موشى بلحظات احتفالية لا تنسى.

بعد كلمات الوداع التي تحدثت بها إدارة الأكاديمية، بدأت الدبكات الشعبية البلغارية، تلك الرقصات التي اشعلت الحضور بالحيوية والنشاط والحبور واضاءتهم بالمرح وعطرتهم بالبهجة، كنسيم شذي يتخطى حدود التعبير.

انخرط الجميع في الدائرة، باستثناء قلة وقفوا على أطراف القاعة يراقبون بعينين مفعمتين بالاستمتاع أو التأمل. هي وزوجها كانا ضمن هؤلاء، صامتين في ركن هادئ، حيث تتشارك نظراتهما أسئلة لم تُسأل، وتغرق أحاديثهما في صمت أعمق من كل ما يمكن قوله.

 تقدم المدير مبتسمًا، حث المجموعة الصامتة على المشاركة. التفت إليها وإلى زوجها، ملتمسًا منهما الانضمام. بادرت بالاعتذار بلباقة، معللة بأن عليها تفقد طفلها النائم في القاعة المجاورة بين الحين والآخر. لم تكن تتوقع حينها أن يبادر زوجها، ببرود ظاهري وإصرار خفي، ليقول: "سأعتني بالطفل"، كانت تلك الجملة غير المتوقعة صاعقة غير متوقعة، أدهشتها بقدر ما أربكتها. شعرت للحظة أن الأرض تهتز تحتها، وكأنها أُجبرت على مواجهة شيء أعمق من مجرد رقصة عابرة، شيئًا طالما تهربت منه.

وجدت نفسها تسير نحو حلقة الرقص، كما لو أن قدميها تتحركان بإرادة غير إرادتها. لم تكن تعرف شيئًا عن قواعد الرقص، ولكنها شعرت بأنها تُساق إلى هناك لا لتؤدي عرضا، بل لتطلق العنان لشيء مكبوت في أعماقها. وسط الحلبة، مع أولى الخطوات المرتبكة، أغمضت عينيها، مستسلمة للحنٍ أشبه بشريط حياة يمر أمامها. في تلك اللحظة، لم تكن ترقص، بل كانت تبوح. كل خطوة، كل التفاتة، كانت كشفًا مستترًا عما حملته روحها طويلاً.

 رقصت وكأنها تفرّغ أثقال سنينها دفعة واحدة. مرّت أمامها صور الأيام التي نقشت على قلبها ندوبًا لم تلتئم بعد. استعرضت ماضٍ أرهقها بتحدياته، وحاضرًا يثقلها بآلامه، ومستقبلًا يكتنفه الغموض. شعرت للحظة بأنها تطير في فضاء لا نهاية له، تحررت من المكان ومن الزمن.

مع تسارع الإيقاع، شعرت بأنها تنفصل عن الجسد لتسبح في فضاء لا يحده سوى إيقاع قلبها المتسارع. نبضات قلبها تتسابق مع الموسيقى. شعرت أنها تتقاطع مع كل قصة كانت تسكنها. عذابات الغربة، قسوة الأحلام المؤجلة، وحتى فرحة الأوقات العابرة التي كانت تخفي تحتها حزنًا دفينًا. كل ذلك انفجر في حلبة صغيرة، تحت أنظار ممن حولها الذين توقفوا عن الرقص واكتفوا بالمشاهدة مندهشين.

كانت مغمضة العينين، وحين فتحتهما، كان الجميع يصفق بإيقاع متناغم مع الموسيقى، وكأنهم يشهدون مشهدًا لا يُنسى. عيونهم حملت شيئًا أشبه بالإعجاب، وربما الحيرة. توقفت فجأة، ألقت تحية خفيفة عليهم، ثم انسحبت بخفة، وكأنها تحررت من كل ما كان يثقلها.

لكن تلك الخطوات التي اخذتها للخارج لم تكن عادية. شعرت وكأنها تسير في فضاء جديد، خفيف وواسع. بدا لها أن كل تلك الصخور الجاثمة على صدرها قد سقطت، أصبحت روحها أخف، حرة طليقة، أشبه بطائر حلق عاليًا بعد سنين من القيد. تلك الرقصة كانت شيئًا يشبه الاعتراف، طقسًا سريًا لمصالحة الذات، حيث واجهت كل مخاوفها وآلامها، ثم تركتها تسقط عنها واحدة تلو الأخرى.

حين عادت إلى حيث كان زوجها ينتظر، لم يتحدثا، تبادلا نظرة طويلة فقط، نظرة كانت كافية لتُقال فيها كل الكلمات التي لم تُنطق. كانت النظرة بينهما أشبه برسالة غامضة تحمل مزيجًا من العتاب والتفهم. 

تلك الليلة، لم تكن مجرد وداع لأكاديمية، بل وداع لجزء من الذات. وكأنها قالت لنفسها وللعالم: "ها أنا أرقص كالطير مذبوحة من الألم، ولكنني سأظل أطير."

**

سعاد الراعي

ونحن الآن وما قبل الولادة

والبحر مخاض الراحلين

لا بحارة هنا ليسعفوا الميناء

وساعة ريح تدق

وتعلن عن مولد غزاة جدد

وعقرب لاتجاه غرب ينحني

وموج من وقت المبعدين عسير،

أسأنا إليك يا برنا

حين خرجنا

وتركنا السور خلفنا عاريا

إلا من سيرة الشهيد،

وأغلقنا بعدك الذاكرة

أسأنا إليك

قد مات آخر الحرس

والجنازة مومسات لليلة النبيذ

*

هل أحمل عنهم هذا الليل يا أبي؟

لا عليك يا بني

كل ما حملتُه عنك

على جرحي نشيد،

فكن جديرا بثقل الرمادي

واصعد إلى حزنك

خاليا من مساء الشعارات

لا لك ولا عليك

ودع رؤاك للسماء ينجلي الليل

ولا تعد إن عادوا

ولا تقل كلامك للسراب

فالصحراء هنا كل هنا

غطت الأمس والآتي

والظمأ نال من الجياد

وصدى الفرسان وحيد

وإن أبصرت مدينة لا تدخل

وألق سلامك من بعيد

*

لا عيلك،

قل شكرا للتي علمتك القسوة

لمن أجلت فراشاتك للخريف

من قالت نعم

حين قلت لا

و" لا " آخر الأحصنة

فامتطيها وارفض

واسخر من خيبتك

على حين صدفة افتعلوها

وقف على سطح صمتك

غيمة، أو معنى

لك الخيالي أرضا

إلى أن تدرك من يحبك

المجاز سلاحك يا بني

لا شأن لك بلغات البدو

قد كذبوا حين قالوا

إن مرايانا أجمل النساء،

وإن خير الطعام التريد

لك الوعد يا بني

وعلى من استباحنا الوعيد

***

فؤاد ناجيمي

...............................

مقطع من القصيدة الديوان.. ديوان أبي

 

كنتُ أرسمكَ ظلاً على جدران الروح،

خطوطاً غامضة، ألواناً مبهمة،

أراكَ في خيوط الشمس حين تسقطُ على نوافذي،

وفي ارتعاشةِ قهوتي حين تسافرُ رائحتها....

*

كنتَ حلما جميلاً،

تُشبه المدن التي لم تُخلق بعد،

والطرقات التي لم تمشِ عليها أقدام البشر.

أراكَ في اللازمن، في اللامكان،

تختبئُ بين السطور، بين الصدى، بين السؤال الذي لم يُسأل.

*

وحين أتيت،

كأنّ الكون توقّف للحظةٍ لينظر إليكَ،

كأنّ الزمن انحنى ليُحيي خطواتك الأولى نحوي.

كنتَ كالعاصفة،

تقتلع الصمت من جذوره،

تزرعني شجرةً جديدةً على أرضٍ كنتُ أظنّها قاحلة.

*

في عينيكَ خرائط لا تنتهي،

مدنٌ تضيع فيها الطرق،

وبحارٌ تُغرقني كلّما حاولتُ السباحة فيها.

كنتُ أهربُ منكَ إليكَ،

وكأنّ المسافات بيننا حكايةٌ بلا نهاية.

*

يا رجلاً صنعتهُ الأحلام من نسيج المستحيل،

علّمني كيف أكونُ مرآةً لصوتك،

كيف أُعيد ترتيب قلبي ليصبح بيتاً يسعُك،

كيف أُطارد خُطاكَ دون أن أتعثرَ بخوفي.

*

في حضوركَ،

تتبدل الأشياء، تُولد الكلمات بلا ألم،

تُعيد الشمس رسم وجهها كلّ صباحٍ لتليق بك،

تتعلّم الرياح أن تكون هادئة حين تُداعبُ أطراف معطفك.

*

يا رجلاً كان خيالاً، فأصبح وطناً،

حين اقتربت، أدركتُ أنّ المسافات كانت لعبةً سخيفة.

حين همستَ، أدركتُ أنّ الصمت كانَ أكذوبةً عابرة.

وحين أحببتك، أدركتُ أنّ الحب ليس فكرةً،

بل حقيقةً تُشبهكَ تماماً،

غامضة، مشرقة، وكاملة.

***

مجيدة محمدي

لم يعجبني شئ خاص بشاعر

كما تعجبني خيانة محمد الماغوط

لوطنه

كم مغري أقتفاء جميله

2

أينما ألتفت أجد أسم الوطن

في الصحف

على ألسنة الحكام الطليقة

في الأغاني والأشعار

في قلوب الاطفال

في دموع الامهات

في خصوصية بعض الاعشاب والأشجار

على جثث الآباء وأعقاب البنادق

أينما ألتفت أجد هذا الكنز

في ضياع الى ضياع.

3

قال: أنت واهم

،فلا خوف ولا موت ولا تفجير

لا فساد ولا يحزنون

أنت واهم

كل يعرف قامته بالأمتار

ويعرف الشوارع والساحات بلا أسماء

يعرف المدن

التي يغرف منها ما يشاء

أنت فقط دعك من هذا

أنظركم حلزوني هذا السلم

***

رضا كريم

 

جئتك اليوم أحمل اسراري اليك وبؤسي وأشواقي مع كل سنة تسربت من عمرينا وهي تحمل بصمة اللاجدوى.

هزني الشوق اليك فأعذرني يا ملاكا يسكن روحي منذ الف عام شاهدة سنوات وجعي وخوفي من البوح الرخيص للآخرين. لمن ابوح وأشكو هذا الشوق والبعد وكلانا أمسى في واد سحيق، فموت الأماني لا يعني اللقاء.

هرب من ضجيج أحفاده وقرع طبولهم داخل رأسه المتعب بحكاياته القديمة وصوت التلفاز الذي لا يتوقف ساعة واحدة، وانشغال أبنائه بضروب الحياة، أعياه صراخ الباعة المتجولين. وروتين حياته بين النوم والطعام وكأنه حيوان مدجن داخل داره وأحيانا أخرى حارسا لأحفاده بعد خروج أمهاتهم لوظائفهن.

 فقد الجزء الأكبر من ذاكرته بعد فقده لزوجه التي لم يكن يعشقها ولا يتمنى ان يتذكر تلك الأيام التي عاشها صامتا معها محافظا على كياسته وطريقة تعامله معها. فما ذنبها هي الأخرى حين أصرت أمه ان تكون هذه المرأة بالذات زوجا لولدها.

وما ذنبه هو وقد خسر قديما حبيبة صباه التي أقسم لها بكل مقدس لديه ان لا يفترقا الا بالموت لكنه لم يحنث هذا القسم العظيم ولم يحنث حبه الكبير داخل روحه.

 وكذلك كان شأنها هي (حبيبة صباه)، كان وفاؤها يفوق التصور والخيال. أحبته ليس بقلبها بل بكل جوارحها وبأدق مسامات روحها انه حب من نوع خاص لا يجيده الا قلة قليلة من البشر. مثل حب جميل وبثينة أو حب قيس ولبنى.

لنتساءل اذن من المسؤول عن فراقهما.؟؟

ففي تلك السنين المرعبة يقولون هامسين، لا يسمح للطيور ان تغرد خارج السرب. مثلما لا يستطيع السمك ان يعيش خارج الماء وهكذا رجال ينتمون للسلطة أو الى وحدات عسكرية في الثمانينيات. والويل لمن يحمل نجماته اللامعة فوق كتفيه. والويل كل الويل ان لم يحصل على موافقة جهاز الاستخبارات العسكرية بشأن المرأة التي قرر ان يقترن بها. وصاحبنا لم يحصل على هذه الموافقة أبدا بحجة انتماء أحد اخوانها لحزب يساري معارض، وكان يعد ذلك بمثابة جريمة كبرى في نظر وحدته العسكرية والأهم من ذلك بنظر رأس الهرم الذي كان يحيي ويميت حسب ظنه.

وضاعت حبيبة صباه للأبد دون ان يعرف عنها أي خبر.

تزوج امرأة أخرى لا تعرفه ولا يعرفها ولم يرها الا بالنظرة الشرعية على حد قولهم. ولكن أصبحت بينهما رحلة طويلة مع السنين ومع ثلاثة ابناء فيما بعد، لا يحملون منهما سوى جيناتهم المشتركة. فأخذوا من أمهم زرقة عينيها واتساعهما. لكنه بقي دائما وأبدا يئن ويتحسر على عيني حبيبته السوداوين الصغيرتين. وورثوا منهما حالة الصمت وقلة الكلام.

ومع فقدانه للجزء الأكبر من ذاكرته خرج يوما ماشيا من داره بلا هدف معين ودون ان يتوقف للراحة أضناه طول الطريق الممتد والمتشابك مع طرق فرعية عديدة. فكان كل طريق يسلمه لطريق أكثر وعورة ولا يدري كم أستغرق من الوقت في مسيره ربما ليوم كامل أو ربما أكثر لا يدري. حتى وجد نفسه في مكان لا يعرفه ولم يمرّ به في سالف أيامه الماضية. صرخ بأعلى صوته مستغيثا دون ان يسمعه أحد ثم غاب عن وعيه .

في اليوم التالي استفاق من غيبوبته ليجد نفسه محاطا برجال غرباء لا يعرفهم ولا يعرفونه. تعلو وجوههم سمة الحزن والكآبة والغريب في الموضوع انهم من نفس فئته العمرية. وقد غزى الشيب رؤوسهم. فأغمض عينيه كي لا يسألونه شيئا.

استيقظ مرة أخرى ليجد أمامه ملاكا بثوب ابيض وتاجا بلون ثوبها انها ممرضة دار المسنين التي أوضحت له كل المشهد الذي أتى به لهذا المكان.. وأخبرته ان ادارة المشفى قد نشرت صورته مع صورة لهويته ليتعرف عليه أهله ومعارفه.

مرّ اسبوعان دون ان يسأل أحد عنه وهو مازال واجما دون ان يتكلم بجملة واحدة بل اقتصرت اجاباته بنعم أو لا.

وتهامس نزلاء الدار عن قصته وتساءلوا عن سبب صمته وحين يلتفون حوله مساء بادره احدهم أ. لك أولاد أم انهم تخلوا عنك ورموك في هذا المكان. ؟؟ يكتفي بنصف ابتسامة ساخرة من طرف فمه ثم يخلد للنوم.

وفي صباح اليوم الثاني حضرت امرأة أنيقة الملبس مهيبة بمشيتها ولا يمكن التكهن بعدد سني عمرها لما تمتاز به من لباقة الكلام ورقي الاسلوب وخفة الحركة في بحثها بين الغرف لتسأل عنه.قادتها ممرضة المشفى اليه.

أيها السيد :ـ ان هذه المرأة تبحث عنك. القت تحيتها ثم جلست فوق حافة السرير قريبة من قدميه.

أعتدل بقامته وجلس قبالتها وهو في حالة من الإرباك والخجل ثم بادرها قائلا:ـ من أنتٍ.؟؟ وماذا تريدين مني. ؟؟

ضحكت ثم قالت له:ـ ألا عرفتني بالله عليك. ركز نظرك مع نظري وستعرفني حتما.

هب واقفا وأحمرت وجنتاه وبرزت حبيبات العرق فوق جبينه فوقفت هي ايضا قبالته وبان الخجل على محياها مع رجفة خفيفة بيدها وهي تحاول ان تمسك حافة السرير وكانت تنتظر جوابه.

ساد صمت بينهما لدقائق. وهو مازال جامدا مثل التمثال لكنه ركز نظره على ملامح وجهها وقد اتسعت حدقتا عينيه لشدة دهشته وانفعاله وهي مازالت ايضا تنظر لوجهه تارة ثم تخفض ناظريها للأرض تارة أخرى وحاولت ان تتغلب على خجلها.

فصرخ بأعلى صوته باسمها. ثم تذكر كل شيء 

فتجمعت شظايا اللهفة بضمة أيديهما في عز الحنين لذاك الماضي البعيد 

***

قصة قصيرة: سنية عبد عون رشو

إهتضمتْ أزهارها الملوّنةِ المترنّحةِ ايدي التقاليد الخشنة، شققتْ ملمسها آثار (العمّالة)* وزناد البنادق الرعناء تتجولُ في بساتينها الغافيةِ، رائحةُ المكر تشوّهُ نظراتها الخائفة، عطشُ الحيوانات الهاجعة تحتَ براثنِ السطوة تغدقُ الدموعَ توسلاً انوثتها المتنرجسةِ تفيضُ براءةً أمامَ هيكلِ العنادِ المتشامخ غباوةً يحرقُ أحلامها الصغيرة قطعةً قطعةً قطعةً، وكـ قطّةٍ تحتمي بـ الظلام، تخفقُ خابيةً على سريرِ التدّنيس يلتهمها . حشَّتْ سننُ القبيلةِ أفراحها ودميتها السمراءَ تطالعُ حجابُها الذابلَ الطلاسم مذهولة كيفَ تتخلّى عنْ جِيدها وأساورها يتوسّدها التراب، تتنهّدُ في خزانتها المفجوعةِ حتى شرائط المدرسةِ البيضاءَ، تحزّمتْ بها دفاترها الجديدة، حروفها مسجونة لا يخطّها قلمُ الرصاص، سلبَ رونقها سجنٌ بعيدٌ أرهبَ قاصتها، فظلّتْ نقودها المعدنيّة تنتظرُ الصدأَ يمحو ملامحها وقد غادرتها أنامل تشكوها ملابس تحلم أنْ تلاطفها وترتدي عطرها الخافتَ كـ أشعةِ الشمس عبرَ النافذةِ المسدلةِ، دوما تبحثُ عنها وتختلي بـ خيالها الشاحب. اندفنت الثلوجُ التي خلّفها الشتاء فوقَ صدرها، سكنتها ذئابُ الوحشةِ دائماً تعوي مخالبها القاسية، رسمتْ خارطةً أخرى تكوي رياحينها منزويةً في كهفِ زمانها الطووووويل، تتحسسُ رغبات سنابلها المخضّبةِ بـ الصهيل، تنزعُ أعنّتها تستريييييييح وتلمُّ بروقها الملوّحةِ للشمسِ، تصوغُ شرنقةَ صمتٍ تحصدُ الخيبات .

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

.....................

* الفصْليّة: المرأة "الفصلية" ضحية زواج الدم، الذي ينص على تزويج إحدى بنات العشيرة المعتدية إلى الشخص المعتدى عليه أو أحد أقاربه بعنوان "الثأر" في أغلب الأحيان. وهذه المرأة تعيش خلال هذا الزواج في الغالب تحت ضغط نفسي "صعب جداً.

* العمّالة: نسبة الى العامل الذي يعمل في البناء، غالبا ما تكون يديه خشنة .

مثل كاتبة تكتبُ نصًا جميلًا من الغزلِ لرجلٍ واحد، يقرأه الجميع ما عداه؛ هكذا بدت رسائلي إليك...

لم أستطع أن أتخلص من عادة انتظار بريدك الصباحي...ولم أستطع أن أقنع قلبي أننا انتهينا...ولم أتقبّل فكرة أن يومي لم يعد ممتلئًا بأحاديثنا...

موجوعة حد النخاع؛ لغيابك، وأفُول نجمك عن حياتي، وجع استشعره كهاجس يواكب كل زفير وشهيق لروحي التواقة لك، كشوق طائر مهاجر لعشه الأول...

***

بعد هجرك وغيابك؛ قررتُ أن استمر في كتابة رسائلي إليك، رغبة لا تشبه الحلم، محاولة لمواصلة الوصل مع طيفك، طيفك الذي يحومُ حول ذاكرتي، قد أجد جوابًا يأخذ بقلبي بعد حين إلى مسرب نور يخرجني من نهاية الشوق العميق؛

لماذا مزّقت ما بيننا من عهود؟

تركتني أركض لأتسلّق قلقي وسط عاصفة الأفكار، ارتكز من جديد إلى عزلتي، أعود لها مثل ترس من ورق! وأواجه يقظة نهاري الأخير، مخدّرة مثل عصر أدركته النهاية.. فتجلّد؛

تركتني أشعر بالظمأ إلى ذلك الحنان الصافي الذي كنت أراه في عمق عينيك، إلى أبوّة فيك تعادل العشق، هل كان زيفًا؟

كيف استطعت أن توهمني بأنك أمني وأماني؟

لأجد نفسي تالياً سفينة راسية على شاطئ من وهم! في أيّ اتجاه أبحرت سفينة الكلم الحلو؟

تركتني ظمأى لتلك اللثغة الموشّاة المحببّة، حين تتسرّب من بين شفتيك وتختبئ بين أحضان سمعي، وأنت تنطق اسمي.

عاشقة أنا أضناني الشغف.

***

لم أعد ألتقط موسيقى السموّ؛ كنتُ اسمعها في صوتك حين تهاتفني، فترنّ تراتيل الشوق مثل أجراس الكنائس في الأعياد.

وكنتُ آمنتُ أن كلامك تعويذة خلاصي من التيه والفراغ والوحشة.

انتظرتك طويلاً.

نتيجة الانتظار الطويل، موت الرغبة وفتور الشغف بما كنت تنتظره؛ هكذا يقولون؛

لكنهم مخطئون... إذ كلما يمرّ يوم وأنا انتظر مجيئك المرتقب الذي أحجمتَ عنه! تزداد رغبتي في عناقك لوقتٍ أطول مما أتخيله.

هل أنا معذورة، لكوني بحاجة إلى دفئك؟

***

سأَلتني عنكَ صديقتنا " كرمة الشام"، قلتُ لها بأنكَ ما زلتَ تائها في الكون، تبحث عن مجرّة تتسع لحبّنا، لم تقتنعْ، خاصة بعد أن لاحظت السواد تحت عيني:

ـ  يشاغلكِ بالأمل، ويعلنُ فراقًا مشوشّا جديدًا! واضح جدًا هذا السواد من الحزن والبكاء.

ـ لا.. أنه من السهر والجفاء.

قالت لي:

لا تفرضي نفسك... مشاعرك.. وجودك...على حياة شخص لا يعتبرك عنصرًا مهمًا في حياته.

فغمرتني كآبة دفعتْ شحيح الأمل إلى خلف حائط عالٍ من الألم.

***

كلانا غريبان؛ وكلانا نحتاج أن نتدفأ ببعضنا من برد المنافي وغدرها؛

الحب الكبير والحقيقي؛ هو الحب الذي لا تترجمه جميع مفردات اللغة؛ مثلُ حبّي لكَ، هذه الرسالة العاشرة كتبتها خلال هذا الأسبوع.

اليوم وأنا أجلس في المقهى التركي، هل تذكره؟

المقهى الذي اتفقنا أن نلتقي عنده منذ عام!

لمحني مصادفة رفيقك " سراب"، جلس كالعادة من دون أن يستأذن، لم يسألني عنك! لاحظ انشغالي بالكتابة، كنتُ أكتب إليك...

سألني بعد أن طلب فنجانًا من القهوة:

ـ هل ما زلتِ تنشدين ذلك الفرح الأخضر العميق؟

أجبتهُ:

ـ وأنشدُ سنابل الكلام التي تطعمني الشوق كذلك.

ـ لكن صوتكِ يوحي غير هذا، كأنه بعثرَ في حنجرتكِ حرشًا من الأشواك والعاقول!

لم أكن أريد أن أدخل معه في سجال عنيد، كانت مواجع فراقك تثقل رأسي، حتى شعرتُ كأنه يتدلى أمامي ويكبر.

رفيقك حدّثني عن حبيبته وهو يضحك، يقول:

عندما التقيتها في إحدى المكتبات العامّة، كانت تبحث عن كتاب "التأملات" لماركوس، أعجبتُ بها، فالمرأة التي تقرأ كتب الفلسفة، لا تعترف بالهشاشة، وتعشق بصدق، وتحرص على عقلها من الصعاليك مثلي، غير أني لم أعرف كيف أعشقها، كل ما أتذكره في آخر لقاء بيننا حينما باغتتني بسؤالها الغريب:

ـ غيمة الله أم غيمة هارون؟

قلتُ لها: غيمة هارون.

قالت:

لكن أنا غيمة الله؛ والأرض التي اتنزل عليها... سيكون خراجها لصاحبها، أما أنت فابقى انتظر غيمة هارون، وأمسك بها إن مرّت من فوق رأسك... لو استطعت!

ثم تركتني ومضت بعيدًا.

وبدأ يقهقه عالياً، حتى نَسيَ ظله فوق الطاولة وذهب هو الآخر بعيدًا.

رفيقك " سراب " يشبهك.

***

كنتُ صادقة جدًا في مشاعري معكَ، أفرغتها كُلها في حضرة عينيك، ولم أدّخر شيئًا لمثل هذا اليوم، لم أتخيل أننا سنفترق بعد اللقاء الثاني! بعد أن منحتك نهر ريحاني، وشهد أنفاسي.

لم أتخيّل أبدًا أنكَ لا تختلف عن الباقين، ولم يخطر في بالي أبدًا هذا الغياب الطويل.

خيرًا فعلت؛

فقد علّمتني أن لا أمنح الحب لأي مذّكر يطرق باب عواطفي، ولن أثق بمن يبيع مدارات الكلام بين الخسوف والكسوف.

أشعرُ بالخيبة والهزيمة هذه اللحظة، وحان الوقت لتعرف أنَّ مشاعري اتجاهك غادرتْ، والمشاعر الجميلة إذ تغادر لا تعود أبدًا.

أعطيتك أكثر من فرصة، سامحتك أكثر من مرّة، لذا لا تنتظر العودة بعد رحيلي.

الآن اقتنعت أنكَ غير معتاد على اقتناء الأشياء النفيسة، وأيضًا غير معتاد على إتمام المواسم.

***

بين الوهم والتذكّر تستدير الفكرة، أتساءل:

كيفَ تصحّر قلبك؟

كم غبتَ؟

وقت طويل... أطول من الرغبات البريئة، تلك التي تسعى لتمسك بظلال الروح؛

أطول من البدايات التي تفتحُ أفواهًا في المجهول، وأطول من النهايات التي تتحول إلى أفق من سديم.

ماذا تظن لو جئت الآن؟ بعد هذا الغياب؛ لتسأل بكل برود عن حالي، كما تفعل بعد كل انقطاع.

هل أخبرك أني اشتقت لك حد البكاء المرير؟

أم أخبرك كم انتظرت اتصالك، أو رسالة منك ؟

أم أخبرك كم مرّة قلبّتُ صورك ورسائلك القديمة؟

كم مرّة أحدّثها؟

كم مرّة أقبّلها؟

انشطر، أتوالد، أصير مجموعة أسئلة، وأتيه بين شكّ أسود يشلّ العقل، ويقين أبيض يغمر العين والقلب، وبين الحال وتقلّب الأحوال، وجدتك غير مبالٍ، فجمعتُ تفاصيلنا...

كل التفاصيل... كلّ الذكريات والوعود والأمنيات، وركنتها خلف زاوية القلب، داهمها الاصفرار والشحوب، وحكايتنا تفتّت وأصبحت ظلال ذكرى.

لم يبقَ من قوّة يقيني بكَ سوى وهم... الوهم الذي علّمني أن النهايات صِنو حقيقتنا.

***

اقتربتْ ذكرى يوم عيد ميلادك.

كنتُ أفكرّ أن أكتب لك قصيدة، أو أقتبس بيتًا من شعر الغزل لشاعرٍ أو شاعرة، بيد أني شعرت بسذاجة تفكيري.

لابد أن أصنع لك شيئًا فيه ضوء نجمة مثلاً، أو دفء نبضة، أو وهج قُبلة؛

كأن أنسجُ شالًا يقيك برد المسافات وأوقات الغياب، أو أصنعُ سلّة من خوص القلب، لتجمع فيها قُبلاتنا، تلك التي أزهرت... على جانبّي موائد المواعيد المؤجلّة، أو لوحة بسبعة عيون وشتات هذا المنفى، لتعلّقها على جدار الوقت، الذي أصبح حاجزًا بيني وبينك...

وهكذا عكفتُ لأسابيع وأنا أصنع هدية تليق أن تتذكرني بها... كنتُ ابتسم؛ كلما انجزت فيها مسافة، أتحدّث معها، أحاورها، أقصّ عليها اشتياقي، شغفي، أمنياتي، أحلامي، ثم أوصيتها ألّا تستوحش إن نسِيتها في درجٍ ما لوقتٍ طويل، كما نسيتني تمامًا...

غلّفتها بأنفاسي، ثم انتظرت...

وانتظرت...

حتى علمت أن صندوق بريدك، لم يعد يسع حبّي وهديتي.

***

صباح الخير على عينيكَ التي تشبه وهج الفصول.

أصبحتْ وسيلتي الكتابة إليك... استقطب التواءات الأمنيات، رغم أن مغيب الفرح يتوغّل داخل نفسي، متلصّصاً على نبض قلبي.

ماذا تفعل المرأة، عندما تحتاج إلى الرجل الذي أحبتهُ، ولم تجدهُ؟

عندما تساوم أحلامها، أوهامها، رغباتها، وتلجأ إليه... ولم تجده؛

محمومة تستيقظ من غفلتها وغفوتها؛

تتقاسم أوقاتها مع غصّة ألم عتيق، ألم يدفعها لملاقاة مصير مرتعش، قد يقودها إلى أن تطرق بابًا آخر!

من دون رغبّة، ولا هدف، ولا حُب... هكذا تأخذ الأمر عِـنداً وتهورا.

تركب البحر بقاربٍ منخور، وعصا من صلصال بارد، فجيعة لا أريد أن أصل إليها.

أتوارى عنها بالكتابة إليك يومياً؛

هذا الأمر موجع - ربما لكلينا – ليتك تعلمني سبب هذا الرحيل والغياب؟

فتحتُ عينيَّ على سعة الحقيقة؛

فلم أجدك...

وأنا امرأة ترنو إلى المكان الفسيح، وإلى أفق القلب، وإلى صباحات تشرق من أقاصي النخل، رحلتي في الحياة مستمرة، ولم اعتد أن أقف وانتظر مرافق متردد، بدأتُ استوعب ابتعادك وإهمالك، كذلك هيأتُ أيامي القادمة ودرّبتها على عدم الالتفات للوراء.

***

اكتفيتُ بأن انكفئ على أحزاني، وأنتظر فوق ربوة تأملاتي، القادم من الأيام؛

وكأنني أراهن على حصان هوايَ، أو على حمامتي التي درّبتها كي لا تضيع درب العودة!

جعلتُ جلّ أحلامي اللقاء بك... رغم معرفتي أنني آخر اهتماماتك!

كنتُ أفرح مثل طفلة، عندما تخبرني بأننا سنلتقي قريبًا؛

أفتح خزانة ملابسي، فتصيبني الحيرة، أيّ فستان أختاره للقاء بك؟

أتذّكر الألوان التي ترغبها، أقوم بتنسيق الفستان مع الإكسسوارت والحقيبة، أضعه جانبًا، بانتظار مكالمة منك، تخبرني فيها بموعد اللقاء...

أحلم بالجنّة الموعودة، العناق الحار، تشابك الأيدي، تبادل الضحكات والنظرات، إغفاءة مطمئنة على ساعديكَ...

انتظر مكالمتك... وانتظر، فأدركُ أن كل ما حلمت به، محضّ خيال أو أمل؛

فأنهض لأنفض الغبار عن فستاني، وأعيدهُ إلى الخزانة من جديد.

وهكذا سارت أيامي مع وعودك، مرّة إلى نأي اللقاء، وأخرى إلى عذاب الانتظار.

***

كم مرّة قلتَ لي بأننا سنلتقي، ولن نفترق؟

كم مرّة اشتقتَ لي؟

هل تذكر عندما أخبرتني أنني وطنك؟

حبيبتك التي تشبه قلبك... واحتك التي عندها تحطّ رحالك، وتروي عطش خلاياك، وتسرد حكاياتك، من دون قلق وخوف... كيف استطعت أن تهجر هذا الوطن؟

هل تذكر عندما أخبرتني أنك وجدتَ السلام، والأمان، والدفء قربي؟

كيف تآلفت مع الشتات والبرد وتركت هذا السلام؟

إن كنتَ لا تعني كُل هذا؛ لماذا قلتهُ لي وجعلتني أعيشه؟

أوجعتَ قلبي كثيرًا...

***

أحببتكَ إلى أبعد حَدّ وأقصى درجة؛

بكل ما أوتيت من قوّة، وأنتَ تماديت كثيرًا في تجاهل هذا الحب!

هل الأزمان تنتظر من يتأخرون في الحضور؟

هل الأحلام تكبر، وتتحقق في متاهات الضياع، والبَراري غير الآمنة؟

رأيتك الجانب المضيء من عتمة هذا البؤس.

جعلتني أتلو نفسي وسط المحبّة، وأشعرتني- لوقتٍ قصير- أنّني إنسانة بمقدورها التحليق بجناحين من فرحٍ وضوء، وكأنك أخرجتني من حبسٍ، فرضته عليّ التجارب التي جعلت صوتي يضمر، ونَفَسي ينقطع.

كنتَ كشلاّل عشق، منحتني وجودًا، وسقيت جذوري زهوًا ومعنى.

أخذتني إلى عالم السحر والأمنيات، إلى ضفّة مترعة بترف الوله الجميل، وسرعان ما تركتَ يدي في الفراغ.

ووجدتُ نفسي وحيدة، صحبتني مزنة دمع إلى روابي صدق وشوق، أبحث عن النهر الذي يطفئ ضرامي.

هل أستحق هذا العناء؟

مشكلتي الكبرى، أين أهرب من ذكرياتنا؟

وأنتَ بدر العمر، وشمس الأغنيات، وبوصلة الاتجاهات، وصوت الحروف!

مشكلتي؛ لا أقدر أن أنساك.

***

هل أُدين سهو نزقي؟  أم أتعاطف مع ما تبرّره؟

عدتُ أطرد ذلك الخوف المزمن، من الدنوّ الحميم الذي أصبح هاجسي.

حاولت أن أتصالح مع أفكاري، وألقي خلف الشمس عبء تلك الخيبات المريرة.

حاولت أن أنقش على ذراع النهار، تحية تحلّ بها عقدة لسانك، أو تعويذة أعلّقها على جناح طائر وأطيّره صوبك.

هناك شيء ما يحول بينك وبيني، شيء أكبر منك ومنّي، وأصغر من أن نراه، شيء أسرع من الضوء، وأبطئ من أن نتجاوزه، شيء يشبه الزمان الضنين الذي جرحني، ويشبه المساء

الأخير الذي فزّزني قبيل غفوة الضياء الأول.

أقنعتُ نفسي أن غيابك قدر، ولابد أن أؤمن به، لكن أصعب ما مررتُ به...

هو عندما أعدّتك غريبًا، كما كنتَ قبل أن ألتقيك، لم أعد أتابع صفحاتك، لم أتفحص بريدك، لا أهتم بتغيير حالاتك على مواقع التواصل، تقريبًا ضيّعت ملامحك وسط ضباب كثيف؛ حينها عرفتُ أني لا أكتملُ بك، ولن أنقص دونك، لكن فقط... ربما كنت سأشعر سعيدة جدًا باستمرار علاقتنا!

بصورة أدقّ أعترف أن وجود علاقة ــ بغض النظر عن فرص التواصل ــ أية علاقة ستكون ديدن يبرر استمرار النبض في عروقي...

أرجو أن تكون قد وصلت أهم الرسائل، بغض النظر عن اشكالية الارسال والتلقي...

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

شتاء 2023

عَجفاءْ

من وهْج الصّيف وبرد الشّتاء

جاء الخريفُ

يا عُرسَ السّماء

*

مَددتُ للمطر كفّي

قطراتٌ تجمّعت في كفّي

يا ظمأ كفّي للماء

*

رأيتُها غَيثًا وحَرثًا كفّي

رأيتُها بذرًا وزرعًا كفّي

في كفِّي

أفجّر الجَدب

يا تفجيرَ الجَدب في الأكُفِّ!

***

سُوف عبيد - تونس

1975

 

سأكتبُ بلونِ الدَّمِ

عَناوينَ مَوتنا ..

وصَرْخَةَ الحُزنِ

في صَمَمِ الآذانِ

سأغسلُ

كلَّ الصًّفحاتِ بالمَطَرِ

وأغسلُ جنازَةَ ضمائركم

وأنتم ترقبونَ

رُسلَ الجوعِ والتَّشُّردِ

ونحنُ

نَسجِدُ على أبوابِ الدُّعاءْ ..

ولا نملِكُ سِوى لعنَةِ الزَّمنِ

ونحفرُ في جَليدِ العمرِ

بَعضَ العتابِ

حيثُ

يَتَدفَّقُ في عروقِ اللحظةِ

كلُّ هذا الشَّقاءْ

خَذَلَتني المسافَةُ

وأنا أعانقُ قدري

أرقب الغيومَ

وأصطادُ عنقَ السَّحابِ

***

سلام البهية السماوي

 

سكــرَ الهــــوى وتكسّرت أكــــوابي

فلنختـــم ِ اللقيا بدون ِ عتـــــــــــاب ِ

*

مــا عادَ لــي قمــرٌ يســـامرُ وحشتي

مــا عادت ِ النجمــات من أصحابي

*

اليوم غير الأمـــس ِ شئ ٌ آخــــــــر ٌ

فلننـــــه ِ جلستنــــا بغيـــــر حساب ِ

*

لا تســأليني عنْ زمــان ٍ قدْ مضـى

أو أن تضيعي الوقت َ في استجوابي

*

الحــــبُّ مرّ شبـــــابهُ وربيعـــــــه ُ

مـــا أقبـح َ الدنيـــــا بغيــــر ِ شباب ِ

*

جفّتْ ينابيـــــــع ُ الهوى وريـاضنا

حجـــر ٌ تبعثـــــر َ في ركـام ِ تراب ِ

*

ما عادَ يسقينـــا الهوى من خمـــره ِ

لمْ يبق َ عنقــــــود ٌ من الأعنـــــاب ِ

*

فردوسنا الأرضــيّ صــارَ جهنمــا ً

وزماننـا النشــوانُ ســـوط َ عـذاب ِ

*

كلمـــــاتنا نظـــــــراتنـا بسمــــــاتنا

قــدْ فارقتنـــــا واختفتْ كســــــراب ِ

*

أنا لا أحبّـــــذ ُ أن يطـــــولَ جلوسنا

فنكـــــون تمثــــالين ِ مــن أخشــاب ِ

*

قــــدْ قلت ِ لي منْ قبــلُ إنّـك َ مُنقذي

ومــلاذي َ المأمــــون ُ بينَ ذئـــــاب ِ

*

يا من رسمـتُ لــهُ بقلبـــي صــــورة ً

وحملتُــــها كالكحْـــل ِ فــي الأهـداب ِ

*

أهديتـَـني بالأمــــس ِ أجمــــل َ وردة ٍ

فشممــتُ ألوانـــــا ً من الأطيــــــاب ِ

*

ما زلْـت ُ أنشق ُ عطـرهـا متهاديــــــا ً

ينسابُ فـــي شَعْـــري وفوق َ ثيابي

*

قــــدْ قـــلت ِ هـــذا كلّـــهُ فجعلتِنــــي

سكـــــران َ منتشيـا ً بدون ِ شــراب ِ

*

وصحـوتُ يومـــا ً لمْ أكُنْ بمُصـــدّق ٍ

إنّــــي أرى الثعبــان َ فــي محرابي

*

أنـا لمْ أعُدْ طفــلا ً بريئــــا ً ســـاذجا ً

متعلّقـــــــا ً باللهـــــو ِ والألعـــــاب

*

قررت ُ أن أحيــــا بدون ِ خــــــرافة ٍ

وأريـح َ مِنْ وَهْــم ِ الهوى أعصابي

*

وسأختـم ُ الفصْــــل َ الأخيــرَ فلمْ يعُدْ

لـــي غير أن أنهــــي فصولَ كتابي

*

فليقـــرأ العشّــــاقُ مــــا سطّـــــرتُهُ

ولينتفـــعْ مـــــن بعضــه ِ أحبـــابي

***

جميل حسين الساعدي

إيقَاعَاتٌ مُتَبَاعِدَةْ

بَيْنَ اَللُّعْبَةِ وَالْأُلْعُوبَةْ

بَيْنَ اَلدَّهْشَةِ وَالْأُعْجُوبَةْ

بَيْنَ سِنِينٍ نَائِمَةٍ

وَسِنِينٍ بَاكِيَةٍ

وَسِنِينٍ مَقْلُوبَةْ

كُنْتَ تُبَعْثِرُ أيّامَكَ

وَتُغَرْبِلُ أحْلاَمَكَ

في ذاكرة مَثْقُوبَةْ

تَسْمَعُ نَوْحَ سِنِينٍ مَسْلُوبَةْ

وترى إِنَّكَ

مَا عُدْتْ تَرَى

في مِرْآتِكَ وَجْهَكَ

مَا عُدْتْ تَرَى

ماذا قَبْلَكَ

ماذا بَعْدَكَ

***

مَنْ بَدَأَ اَللُّعْبَةَ،

مَنْ؟

مَنْ أَيْقَظَ دَهْشَةَ أَحْلاَمِكَ،

مَنْ؟

هَلْ تَسْألُ نفسكَ

أَمْ تَسْألُ غَيرَكَ

أَمْ إنَّكَ

ما عادَ بِوِسْعِكَ

أَنْ تَسْألَ إنْسَانًا

أَحْيَانًا؟

***

مُرَاهِنٌ في بِئْرٍ

كَانُوا يَتَبَارَوْنَ وَأَرْجُلُهُمْ

تَتَنَاوَبُهَا

رَكَلَاتٌ مَعْطُوبَةْ

بِمُبَارَاةٍ يَشْهَدُهَا سَوَاحٌ

جاءوا مِنْ مُدٌنٍ مَنْكُوبَةْ

رَاحَ يُرَاهِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا:

مَنْ يَرْبَحُ هَذِي اَللِّعْبَةَ؟

مَنْ يَخْسَرُهَا؟

كَانُوا يَدْرُونَ بِأَنَّ جُيُوبِي

فَارِغَةٌ

وَنُدُوبِي نَازِفَةٌ

قَالُوا رَاهِنَ مَعَنَا

قُلْتُ لَهُمْ لَا أَمْلِكُ مَا أَدْفَعُهُ

سَرَقُوا أرديتي، قَذَفُونِي

فِي بِئْرٍ

لَا تُبْصِرُ شَيْئًا مِنْهُ عُيُونِي

***

شعر: خالد الحلّي

كانتْ شفتاكِ كالضوءِ

منذُ الحلم

حينَ اختمرَ الحرفُ عليهنَّ

وسَكِرْنا بالحرفِ الآخر.

2

حين تفترقُ الأشجارُ

وتبقى القُبَلُ في الانتظار

تجفُّ الروحُ

ويذبلُ النظر...

3

أبقيتُ على خميرةٍ

من قُبلِ الأمسِ

كي لا أموتَ

أو أفقدَ سرَّ الخمر

حينها ستهتزُّ الأرضُ

ويغضب الربُّ.

فسُكِبتْ كلُّ الكؤوسِ

على الدروبِ إجلالًا

كي يظهرَ القمرْ..

4

آهٍ من محطَّاتِ السفر

أضعتُ بها أنفاسي

ومزَّقْتُ حقائبَ السفر

وكلُّ الاتجاهاتِ يركضُ فيها نظري

هنا… هناك .. هيَ .. لا

رحل القطارُ

وبقي العمرُ

شاخصةٌ تدورُ

كطاحونةِ الهوى 

5

ضاعتِ الاتجاهات

وأمحلتْ دروبُ القمر

وأنتِ نائمة…

ليس سوى عطرِك

يجذبُ الروحَ

لمحطَّاتِ السفر..

***

كريم شنشل 

لم أعد أصدق شيئا

إلا السماء

وصلاة أمي

لا شيء يستحق ندمي

*

هذي الخَطايا

تتناسل بيننا

كما يولد الموت

في السواد

لا دور لها هنا

إلا ما ترك الحب

بعد رحيله

من سلالة الطغاة

نسميها حينا لعنة

وحينا نسميها حياة

تشبه الحرب

وتغتال دمي

*

خارطة الجريمة

تشتد حول الرؤى

ليكتمل المشهد

بالضحية

تباغت الطفولة

على حين براءة قبرا

وتحفره ما تبقى

ألمي

منذ قاتل أخيه

إلى قلمي

*

ورثنا الملح

صحراء عن صحراء

*

دعوني

أتأمل نهايتي

بين الترادف

والتلاشي، ريثما

يتسع المدى للوضوح

لا شأن لكم بي

إن حدثت غيمة

ولا شأن لي بالصور

الصور جفاف الروح

تحت سقف الغموض

على البدو إن شاؤوا

التشبه باللغات

وعلي أن أعيد

تكويني في المفردات

وأنصرف إلى نفسي

كما انصرف

إلى حلمه حلمي

*

هي اللامبالاة

آخر معاني الحب

وما يحكي الصمت

من تفاصيل

كي يحبك أكثر

تعود على غيابه

هذا العالم لا يشبه أمي

***

فؤاد ناجيمي

 

الوقت امسى

سكينا خنجرا

سيفا ينحر

رقاب الطيور

الغزلان

البطاريق

النوارس

والانسان

والوقت امسى

مروجا حقولا

حدائقا وبساتينا

للثعالب

لبنات اوى

وللذئاب

والوقت امسى

هروبا هروبا

وفرارا فرارا

للعنادل

للعصافير

لاطيار القطا

واليمام

وينبوع قلبي

امسسىى سلسبيلا

للطير للزهر

للنخل الحزين

وللانسان .

***

سالم الياس مدالو

 

البارحة لمحتها وحيدةً تتهادى وسط الشارع العريض المحاط بأشجار البوهيميا المزهرة والمفضي إلى زقاق آخر بعيد بعض الشيء، ولكنه يذهب أيضا نحو السكن. لم أتجرأ الاقتراب منها رغم إدراكي أهمية مثل هذه الفرصة التي ربما لا تسنح لي طيلة العام. في المدرسة تراني أتحاشى الاقتراب منها وهي كذلك لا تروم ذلك، وحين تكون هناك فترةُ استراحة، فكلانا لا يفعل سوى تبادل النظرات من بعيد. أو هكذا أعتقد أنا.

هي في الصف المنتهي من الدراسة الثانوية وأنا ما يزال أمامي فصل آخر لأنهي دراستي وألتحق بالجامعة، كلانا جاء مع عائلته من ذات البلد وفي ذات السنة وعلى ظهر نفس المركب، حين تم تهريبنا، وكاد المركب يغرق وسط لجة البحر وهياج الأمواج وزحمة الركاب. ثم وضعنا جميعا في معسكر واحد قريب من مدينة فالون السويدية، ومن ثم حددت لنا منطقة السكن، ودخلت وإياها مدرسة قريبة من وسط المدينة، سبقتني هي في فصل دراسي وتخلفت أنا عنها عاما واحدا بسبب نفوري من اللغة السويدية. لم أنتبه لأهمية وجودها جواري قبل هذا العام الدراسي الذي لم يتبقّ على نهايته غير ثلاثة أسابع. لاحظتها وجلبت اهتمامي حين شاركنا سوية في التحضير لاحتفالات نهاية العام الدراسي لطلاب الصفوف المنتهية. كنت أتقدم في السنة الثانية الإعدادي وهي في نهاية سنتها الثالثة. وأنا أراقبها وجدتها قوية ذكية تتحرك بخفة وحيوية، ولها ذوق رفيع في اختيار الألوان والزخارف والشرائط التي توضع فوق الجدران الداخلية للمدرسة لتتدلى من فوق أبوابها وشبابيكها.

 كنت عازفا عن مخالطة الفتيات، وأنا مع ثلاثة أخوة لم نتعرف في حياتنا المنزلية على فتيات من أقاربنا أو من الجيران، حتى حينما كنا في العراق، لذا لم أجد في نفسي الجرأة للاقتراب منها بادئ الأمر، ولا حتى محاولة النظر إليها واكتشاف وجودها قريبا مني، لم تكن مثل هذه الفكرة لتخطر على بالي أو تراودني طيلة الزمن الذي انقضى، ولكن مثل تلك اللحظة جاءت مصادفة، وحين تنبهت لوجودها اعترتني رغبة جامحة لا أعرف طبيعتها، رغبة في الاقتراب منها ومحادثتها. لم أفعل بادئ الأمر سوى إلقاء التحية باستحياء فأشاحت بوجهها عني، ولكني سمعتها تجيب تحيتي بصوت خافت ثم استدارت لتواجهني وكأن ثمة ابتسامة خفيفة قد ارتسمت فوق محياها، هذا ما شعرت به، وساورني الشك بذلك.

 راقبت أوقات خروجها من شقتهم ووجدتني أتتبع خطاها باستحياء محاذرا الاقتراب منها، ولكني كنت في كل مرة أحاول إثارة انتباهها.

نصل المدرسة سوية فتلتفت نحوي لنتبادل النظرات فأشعر ببلاهتي وبشيء من الخذلان. في إحدى المرات تجرأت وقلت لها إن فستانك اليوم أجمل ما رأيت، فشكرتني باستحياء وأسرعت الخطى نحو السكن. لعدة أيام وبشكل متكرر كانت ترتدي ذات الفستان وتنظر نحوي برقة ترافقها ابتسامة خجولة تحاول إخفاءها. لم أدع الأمر يمر اعتباطا دون أن أحاول إيجاد تفسيرا له، لذا سألت أخي الكبير عن معنى أن تقول لشخص ما، إن ما ترتديه جميل جدا، فيقوم ذلك الشخص بتكرار ارتدائه لأيام متتالية، ضحك أخي بصوت عال واكتفى بالقول، إنها محاولة لجلب الأنظار لا بل هو الرضا بالحب يا عزيزي، وهذا ما أكده أيضا البعض من أصدقائي الذين حدثتهم عن الموضوع.

على ذات المنوال مضت السنة نحو نهايتها وأنا طيلة الوقت أكتم حبي وألوك بداخلي خجلي ورعبي من مصارحتها. لم يتبقَ سوى أيام لتكون هي في الجامعة وأقبع أنا سنة أخرى في مدرستي أنتظر اللحاق بها. من الجائز أنها ستـُقبل في إحدى الكليات وربما تكون الكلية في مدينة أخرى، وهناك ستكون الوقائع مختلفة كليا عما أرغب فيه، ولكن في داخلي صممت أن ألحق بها في أي كلية وفي أي مدينة تكون.

 البارحة حين لمحتها وحيدة تميس باتجاه السكن انتابتني أول الأمر مشاعر رهبة وقررت أن لا أقترب منها، ولكني فكرت مليا بتلك الرحلة الطويلة التي أوجدتنا في هذا الوضع، سوية في سكن قريب ومدرسة واحدة واليوم تدخل هذا الزقاق الذي لم تكن لتطرقه سابقا، فتساءلت هل هي الصدفة أم أنها تعمدت اختيار المكان وهي التي تعرف جيدا بأني ألاحقها منذ فترة طويلة، واليوم حتما ترغب في لقائي. ترددت لبضع دقائق ثم اكتسحني شعور غريب وكأن فرحا غامرا غطى كياني وجعلني خفيفا محلقا، فأسرعت الخطى لأجاورها ملقيا تحيتي، فابتسمت وردت التحية، تلعثمتُ ولم أستطع بعد التحية أن أتفوه بكلمة أخرى، استدرنا سوية باتجاه المنعطف المفضي إلى شارعنا الذاهب نحو السكن. عند الخطوات الأولى ظهر أمامنا شاب طويل جميل الملامح مكتمل الرجولة يرتدي ثيابا بيضاء فضفاضة، وبابتسامة عريضة تقدم نحو محبوبتي وضمها إلى صدره، توقفت جوارهما وكأن قدمي أصابهما شلل، شعرت بجفاف لساني وتيبس حلقي وسمعت دقات قلبي وكأنها تريد الخروج من صدري وسالت قطرات عرق هابطة رويدا فوق ساقية ظهري. أدارت وجهها نحوي قائلة: أقدم لك خطيبي رياض، سوف أنتقل معه إلى مدينة كارلستاد بعد الزواج، ثم مالت نحو خطيبها قائلة، هذا جارنا وطالب معي في المدرسة، وهو ابن العائلة العراقية التي تسكن بالقرب منا، أظنني حدثتك عنهم. تلك اللحظة لم أعد ألوك بداخلي خيبتي وخجلي فحسب وإنما ابتلعتهما بكامل مرارتهما وألمهما.

***

فرات المحسن

 

رافِقيني يا صَبيّة

نعزفُ الوقتَ غراماً

بينَ (رُكْنِ الدينِ) آناً

ثُمّ آناً في دروبِ (الصالِحيّهْ)

**

رَدّدي بوحَ المُغنّي:

في زنازينِ الطُغاة

وصدى (الساروتِ) دَوّى

في الميادين القَصيّة

**

قَدُّكِ الميّاسُ يهفو

مثلَ روحي لِقُدودٍ حَلَبيّهْ

**

وَصباحاتُ الأغاني في المقاهي

كَفَناجينِ النَدامى تَتَشهّى

قهوةَ الشامِ الشَهيّهْ

**

إذ دِمَشقُ الشامِ تبدو

بعدَ سِتّين عِجافْ

مُهْرةً جذلى أبيّهْ

**

بَرَدى فاضَ إشْتِهاءً

بعدَ قَحْطٍ وَجَفافْ

**

وغدى أبهى عروسٍ

تزدهي حولَ الضفافْ

**

تَتَمرأى في مرايا مهجتي خلفَ الشِغافْ

**

وَأنا الضامي لِكأسٍ من نَبيذْ

عُتِّقتْ ستونَ عاماً

في العيونِ العسليّهْ

**

نادِميني يا بهيّهْ

وإشربي نَخْبَ الضحايا

وأذْكُري (حِمْصَ) العَديّهْ

**

وَلْتُعيدي بَهْوَ (وَلّادَةَ) عشقا وبهاءً سَرْمديّاً

يَعْتلي طوقَ يَمامَهْ

وَرُؤىً أسرارُها أنْدَلُسيّهْ

**

وفراشاتُ الفراديسِ بِريفِ الغُوطَتيْنْ

بعدما حَرّقها جَزّارُها المعتوهُ غَيّاً

فَرَثاها دمعُ عيني والبُطينْ

**

رَجَعتْ سَكْرى

تَعيدُ الزَهْوَ للألْوانِ في قوسِ قُزّحْ

في سمائي وفؤادي والوَتينْ.

**

تَسْكُبُ الأكوابَ للأحرارِ عَذْباً

كَفُراتِ العاشقين

**

فَتَعالي

ياشَذى الآسِ المُحَنّى بالندى والبَيْلَسانْ

وَرَذاذَ الغيمةِ العجلى كَدمْعي

يُشْعلُ الدنيا حَياءً في خُدودِ الياسمينْ

**

وَهَلُمّي:

نَتَهَجّى عَتَباتِ الدورِ أغنيةً وذكرى

بينَ حاراتِ الشآمْ

عَلّنا نعلو مقاماً

في طريقِ السالكينْ

**

لم أجِدْ في الشامِ فَرْقٌ

بينَ أهْلِ الدارِ حقاً والضيوفِ الزائرينْ

**

إنّما أرواحُ أبناءِ الشآمْ

وأهاليها الكِرامْ

مثلَ ياقوتٍ وتِبْرٍ

وحَريرٍ وعقيقْ

**

كَأريجِ الزَهْرِ والنارَنْجِ نشواناً يُحاكي

(بَحْرَةَ) البيتِ الشآميِّ العتيقْ

**

فإتْبَعيني.

خلفَ أصداءِ الأغاني وظلالِ الزيزفونْ

**

حيثُ فيضُ البُنِّ في مقهى المدينة

مثلَ خمرٍ يحتسيهِ الطيّبونْ

**

وَبِها الحَكّاءُ يروي

للورى جَمْرَ الحَكايا

خلفَ قضبان السجونْ

**

رُبَّما يبكونَ حيناً آملين

أن يَجُفَّ الدمعُ يوماً

في الحنايا والعُيونْ

**

لَيْتَهم ينسونَ ثاراتِ اليتامى

ليْتَ شِعْري يَصْفحون

**

أهْلُ داريّا وَدوما أو حَماة

ليتهم لا يذكرونْ

**

غيرَ عَزفِ النغمةِ الأبهى صَدىً

في (مَيْسَلونْ)

**

عانقيني

عندَ سَفْحٍ ماثلٍ حَذْوَ الشآمْ

بعدما فرّت ذئابُ الليلِ قسراً

وغدا حُرّاً أشَمّاً (قاسِيونْ)

**

د. مصطفى علي

أورثني أبي، ساعة حائط لا تعرف الوقت،

عقاربها تدور للخلف أحيانًا،

لتعيد لي لحظات لم أطلب استعادتها،

وأحيانًا تتوقف تمامًا،

لأسمع صمتًا يُشبه النسيان.

*

أورثني كومة أحلام مستعملة،

بعضها مُمزق الأطراف،

وبعضها يحمل رائحة مطر لم يهطل بعد،

وقال لي: "هذه لك، جربي أن تحلميها."

*

أورثني بابًا قديمًا،

قال إنه كان يُفتح على حرية،

لكنني وجدته مغلقًا بمفتاح فقد في عاصفة،

فصرت أطرقه دون أن أسمع صدى.

*

أورثني ضحكة غير مكتملة،

كأنها تُركت في منتصفها،

وعينين أرى بهما الأحزان،

لكنهما لا تبصرا سوى نهايات مؤجلة.

*

أورثني وصية مكتوبة على ورق الشجر،

قال لي: "إقرئيها إذا ضعت"،

لكن الرياح كانت أسرع مني،

فلم أقرأ إلا كلمة واحدة: إنتظري .

*

أورثني أرجوحة،

تأرجحني بين حافة اليقين

وهاوية الشك،

قال إنها كانت تضحكه،

لكنني شعرت بالدوار.

*

أورثني حبلاً من الضوء،

قاسٍ كالصبر،

لين كالكذب،

وقال: "اصنعي به طريقك."

*

أورثني أبي ميراثًا من الرماد،

جمعه من حرائق لم أشعلها،

وطلب مني أن أبحث بينه عن شرارة جديدة،

لكنني وجدتني أنثره على الريح،

لأُبقي على شيء من الذكرى.

*

أورثني أبي كل شيء...

وأخذ معه كل ما لم أستطع فهمه،

ترك لي ظله،

ليذكرني أنني امتداد لحكاية لم تكتمل....

***

مجيدة محمدي

لم أعرف أما لي غيرها حتى أني كنت أناديها أمي، كانت بوجه مستدير يحيط به إيشارب أبيض يغطي رأسها ويجعلها تبدو كملاك، لها ابتسامة تعكس إشراقتها أحد أسنانها المغلفة بالذهب، دفن معها حين رحلت كما يدفن الملوك سابقا بجواهرهم وحليهم الذهبية.

حين كبرت قليلا وعرفت أنها جدتي، سألتها لماذا تركتني أمي التي ولدتني!! الجميع في الصف يسخر مني ويظن أني متبناه، هل ما يقال عني صحيح؟

لم يتركك أحد ولست متبناه، أنت حفيدتي وأنا أمك، الأم الحقيقة ليست من تلد بل هي من ربت وسهرت الليالي ستفهمين ذلك حين تكبرين، لا عليك منهم ولا تشغلي رأسك الصغير بالتفكير لو كنت تحبينني بحق تفوقي في دراستك، وذلك ما يجعلني أفخر بك دوما ويوما ما سأقول تلك ابنتي التي ربيت..

بعدها تنهدت أخذت نفسا عميقا و هي تنظر إلى قائلة: أنا من تعب عليك وسهر الليالي حين كانت تأخذك نوبات الاختناق.

- كيف ذلك حدثتني!

كنت نحيفة جدا وتعانين من التهاب القصبات المزمن (الربو)، انشغلت أمك عنك بعد أن ولدت أختك فقد كانت الطفلة خارقة الجمال بعينين زرقاوين كأنهما من الزمرد، كانت بالنسبة للجميع أشبه بطفرة وراثية، تلا قفتها الأحضان واستولت على اهتمام الجميع وأولهم والديك. ثم انتقلوا بعدها للعيش في سكن آخر بعد أن ضاق بنا المكان، أنت أول أحفادي من ولدي البكر، تصدقين لو قلت لك اني أحبك أكثر من أمك التي ولدتك ! كنت اهز لها برأسي نعم.

في سري كنت أتمنى أن أعيش وأكبر مع أبواي وأختي هذا ما فكر به حين كنت أنام بجانب جدتي وأغفو على صوت شخيرها، كان فراشي أشبه بفراش الملوك ولي وسادة من الستان مطرزة بالزهور، دس داخلها حجاب مثلث الشكل ضم داخلة ورقة كتب بين سطورها حرز يحميني من العين والحسد، مع أني لا أرى في شكلي ما يبعث على الحسد، لم يكن نومي على صوت أنثوي ناعم لأم شابه تقص لطفلتها قصص الأميرة والأقزام السبعة، أو (سنو وايت)، و لم أكن أحلم بالطيور والفراشات، أو يكون لي ثوب زهري طويل كثوب الأميرات، بل كنت أنام على وقع صوت حبات مسبحة جدتي، وهي تنسدل تباعا الواحدة تلو الأخرى مع أذكار المساء وتسبيحها التي كانت ترددها بسرعة كبيرة، بالكاد كنت أفهم ما تقوله وبعد أن تنتهي منها، تحدثني عن الجنة والنار وجحيمها ثم تلقنني قبل أن أنام الشهادتين أشعر وكأنني لن أدرك الصباح بعدها وسأموت ولن أصحو ثانية، لكن ما حدث في أحد الصباحات، وماكنت أخشاه أنا دوما، حدث مع جدتي، أن نامت هي ولن تصحوا ثانية.

***

نضال البدري / العراق

 

(القصيدة التي تشرفت بإلقائها في جلسة افتتاح: مهرجان الإمام علي "ع" للإبداع الشعري في دورته السابعة" في النجف الأشرف يوم 10/1/2025)

***

أمـسـي ويـومـي فـي الـهـوى خـصـمـانِ

أأنـا الــمُــضـامُ؟ أمِ الـمُـضـيـمُ الـجـانـي؟

*

يَــتــقـاتــلُ الــضِــدّانِ تـحــتَ أضـالـعـي

نــورُ الإلــهِ وظــلــمــةُ الـــشـــيـــطــانِ

*

وكـلاهــمـا رغـم انـتـصــارِهــمـا عـلـى

بُـقــيــا غـدي الــمــأسـورِ مُــنـهــزمــانِ

*

فـأنـا عـدوّي فـي الــطـعـانِ ونـاصـري

وأنــا وقـــودي والــلـــظــى ودخـانـي

*

ما الـعُـجـبُ إنْ غُـصـنـي يُـحـاربُ جَـذرَهُ

وتــخــافُ مــن أهــــدابـهــا أجــفــانـي؟

*

أعـمَـتْ غـواياتُ الـشـبـابِ بـصـيـرتـي

فـجــنـحــتُ عــن نــورٍ الـى نــيــرانِ

*

حـتـى أتــيــتُــكَ ســيـدي مُـسـتـشـفـيـاً

بـــهـــواكَ لا بــسُــلافــةٍ وغــوانــي

*

فـأضـأتَ قـلـبـي قـبـل ظـلـمـةِ مُـقـلـتـي

وردَمــتَ بــئــرَ أســـايَ بـالــســلــوانِ

*

مـولايَ مـا شـرَفُ الـهـوى إنْ لم يـكُـنْ

يُـفـضـي إلــيــكَ بــنـبـضِـهِ شــريـانـي؟

*

آمــنــتُ أنَّ مـحــمــداً خــيــرُ الــورى

فـي الـعـالـمـيـن وأنـتَ مـنـهُ الــثــانـي

*

فـكأنـنـي أكـمـلــتُ نــصـفَ ديـانــتـي

بـكَ سـيـدي فـنـجـوتُ مـن نـقـصانـي

*

أبـدلــتَــنـي نــورًا بـديـجـورٍ فــمـا

مـعــنـى صـلاحِ فـتـىً بـلا إيــمـانِ؟

*

إنـي عـثَـرتُ عـلـيَّ فــيــكَ فـلا مُـنـىً

كـرضاكَ عـن عـشـقِ امـرئٍ هَـيـمـانِ

*

أسـرى الـى الـنـجـفِ الـشـريـفِ بُـراقُـهُ

قــلــبٌ عـلـيُّ الــنــبــضِ والــوجــدانِ

***

مـولايَ شــكــوى فــاطـــمــيٍّ راعَــهُ

زَيْــغٌ عـن الــنــاســوتِ فـي الــقــرآنِ

*

مـولايَ واخـتـلـطَ الـصـدى في يـومِـنـا

مــا بـــيــن صــوتِ ربــابــةٍ وأذانِ .. !

*

الـقـائـمـون الـى الـصـلاةِ جــبــاهُـهـم

كالـقـائــمـيــنَ الـى كـهــوفِ غــوانـي

*

الـخـيــبــريــون اســتــبـاحـونـا عـلـى

مــرأى الـكـتـائـبِ مـن بـنـي عــدنـانِ

*

بـتـنـا أبـا الـحـسـنـيـنِ لا مـن حـاسِــدٍ

فـجـمـيـعـنـا فـي الـنـاسِ رمـزُ هَـوانِ

*

"قـومي هـمـو قـتـلـوا أمـيـم أخي" وهم (1)

أغـووا بـنـي صـهـيـونَ بـالـعـدوانِ

*

الـمـوصـدون بـوجـهِ غـزةَ بـابـَهـم

والـفـاتـحــون الــبــابَ لِـلــذئــبــانِ

*

الـشـامـتـونَ بــقــتـلِ أشــرفِ ذائــدٍ

عـن غــزَّةٍ تُـسـبـى وعـنْ لــبــنـانِ

*

لا مـازنٌ قـامــتْ لِــغــزَّةَ نُــصــرةً

بـاسـمِ الـحـنـيـفِ ولا بـنـو شَـيـبـانِ

*

كـم مـلـجـمٍ فــيــنــا وأبــرهــةٍ وكـم

هـنـدٍ وكـم من عـصـبـة الـسـفـيـاني

*

بَـلغ الـزبى فـيـنـا الـهَـوانُ ولـيـس من

شـمـسٍ تضيءُ الـلـيـلَ فـي الـمـيـدانِ

*

كُـنّـا نُـجـيـرُ المُـسـتـجيـرَ إذا اشـتـكـى

ظُــلــمـًا قـصِـيٌّ فـي الــبــلادِ ودانـي

*

والـيـومَ صـرنـا نـسـتـجـيـرُ ولـيس مـن

سَـيـفٍ يـسَــلُّ عـلـى الـعِـدا وسِــنـانِ

***

يـــومـي بــهِ لــيـلانِ مُــتــصــلانِ

أمّـا صـبـاحـاتـي فــبـعـضُ ثـوانـي

*

يـشـكـو زمـانـي لـلـمـكـانِ ويشـتـكـي

زمَـنـي الـمـؤرَّقُ مـن خـرابِ مـكاني

*

زادي قـلـيـلٌ والـطـريــقُ طـويـلــةٌ

ويــدايَ راسِــفــتــانِ والـعــيــنــانِ

*

حـاولـتُ أكـفـرُ بـالـعـراقِ وأهـلِـهِ

فـاعـتـابـنـي شَـرفـي وشُـلَّ لِـسـانـي

*

وأردتُ تـجـربـةَ الـخـيـانـةِ مــرةً

فـتَـحَـجَّـرَتْ مُـقـلـي وهُـزَّ كِـيـانـي

*

لـي طـبـعُ بـاديـةِ السـمـاوةِ رمـلُـهـا

لـم يـشـكُ جـمـرَ الـقـيـظِ لـلـغـدرانِ

*

كـفـرتْ بـغـيـر نـدى الفراتِ فـراشـتـي

وأبـى ســوى أمـواجِــهِ بُــســتــانـي

***

مَـولايَ لا زَعــمًـا ولا مـدحـًـا ولا

طـمَـعـًا بِـجــاهٍ فـي الـورى وجِـنـانِ

*

منذُ اعـتـصـمـتُ بِـحـبلِ عِـشقِـكَ سيدي

عَـرفَـتْ خـطـايَ الـدربَ لِــلإنــســانِ

*

فـأغِـثْ مُـريـدَكَ سـيـدي بِـشـفـاعـةٍ

يــومَ الـــورودِ إذا يـحــيــنُ أوانـي

***

يحيى السماوي

.....................

(1) ما بين المزدوجات: من بيت للشاعر الحارث بن وعلة الذهلي .. ونصّه:

قومي همو قتلوا أُميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

 

ضاعتْ بدورٌ..

أضعتُ عمري وفي قلبي العراقُ بقي

ضاعت بدورٌ، وبدرٌ ظلَّ في أُفُقي

*

لذا جفاني منامي كيفَ أتركُهُ

وهو السميرُ وأُنسُ الليلِ في أَرقي

*

لديَ قلبٌ عظيمٌ في بسالتِهِ

وفي الهوى ما مشى في كلِّ مفترقِ

*

هنا جموعُ جواسيسٍ مُلثَّمةٌ

هناكَ جندٌ تهيلُ الصخرَ في طُرقي

*

لَمْ أفترقْ عن حبيبي قيدَ أُنمُلةٍ

أنا الفريدُ وجيشُ الوجدِ مِن فُرقي

*

لو ينشفُ النهرُ في روحي سأوْدعُهُ

نهراً عظيماً سيروي المجدباتِ سقي

*

رهنُ الاشارةِ حُبِّي لا سدودَ لهُ

أمواهُهُ حرَّةٌ اِنْ قلتُ: انطلقي

*

حتى تعودَ الى الدنيا نقاوتُها

وعِشْقُها مضربُ الأمثالِ في العِشِقِ

***

(2)

..أقولُ جديداً

أُريدُ جديداً لا يُمَّلُ ولا يُسلى

سعاداتُنا ثكلى، وأوقاتُنا عجلى

*

أُريدُ وداداً طافَ في النجِمِ سارياً

ومازجَ نورَ الكوكباتِ جوىً أحلى

*

أريدُ حبيباتٍ سيحلفنَ للهوى

بأنَّ كرامَ العاشقينَ همُ الأَولى

*

بهنَّ على الأنذالِ شحٌ وهيبةٌ

لهنَّ معَ الأطيابِ وصلٌ دعا وصلا

*

كفى أنْ نسمي الوغدَ شهماً وسيداً

ونمدحَ مَن خانَ الديارَ اذا ضلّا

*

فباعَ ترابَ الأرضِ والترْبِ والندى

وأنكرَ كونَ الأَهلِ والنهرَ والنخلا

*

أُريدُ من الأصحابِ مَن كانَ صوتُهُ

صدى قلبِهِ بوحَ الضمير اذا صلَّى

*

وأعلنَ انَّ الكائناتِ أَمانةٌ

وانَّ نفوسَ الناسِ مِن سافلٍ أعلى

***

شعر: كريم الأسدي

طويل هذا المساء

وقلبي هرّ سجين.. يموء في غرفة مغلقة

رسمت نافذة.. اطلقته يرافق قطط المدينة

في الشّوارع الخلفيّة ..

قد تتّضح الرّوائح...اكثر

*

فتشتعل شهوة القفز..على أرصفة باردة

ثمّ في ركن دافئ قد يتكوّم هرّي ..

سعيدا بيومه الكثير...

*

" سأطارد هرّي في الشّوارع الخلفيّة .."قلت:

لن احتاج حذاءً كعبه عال ..

انا مثله سانطّ.. واقفز، ومثله سيوقظني دفء الغزالة في ميناء بعيد...

*

في الغرفة المغلقة رسمت بابا..

وحين حاولت....

صفعني ..الجدار

***

حياة بن تمنصورت

كيف لو جفَّت الريحُ

قبل أن تَلمسَ عبيرَكِ؟

كيف لو أُطفئتِ النوافذُ،

وصمتتِ الشوارعُ

عن حكاياتِ خطاكِ؟

*

ماذا لو نسيتِ

كيف تُعيدين ترتيبَ الريح؟

أو كيف تفتحين أبوابَ الصباحِ

بمجردِ التفاتةٍ؟

*

ماذا لو كان للوردِ

أيدٍ تمتدُّ

لتتعلمَ منكِ

فنَّ أن يزهرَ دون صخبٍ؟

*

يا امرأةً

تَفتحُ الزهرَ

بلمسةِ يديها،

تُعيدُ للمطرِ ذاكرته

حين ينسى الطريق.

*

لو اختبأتِ خلفَ غيمِ الغياب،

ماذا أقولُ للنهارِ

الذي لا يعرفُ غير دفءِ وجهِك؟

وماذا أتركُ للشعرِ

إذا ضاعَ من الحروفِ وهجُ حضورِك؟

*

أنتِ النسيمُ

الذي يلتقطُ أنفاسَ المساء،

والظلُّ الذي

يُعيدُ للشمسِ توازنها.

*

علِّميني

كيف أرتّبُ الوقتَ

بينَ انتظارِكِ وإطلالتِك،

وكيف أكتبُ حُباً

لا يذوبُ في غيابك،

بل يشتعلُ أكثرَ

مع كلِّ ارتعاشةٍ في قلبي.

*

يا امرأةً

حين تغيبُ

يصبحُ العالمُ

قصيدةً لم تُكتب،

وحين تأتي

تصبحُ القصائدُ

كلُّها أنتِ.

*

يا امرأةً

حين تحضرُ

تكتملُ الأشياءُ

وتتلاشى الأسئلةُ،

وحين تغيبُ

يصبحُ الوقتُ رماداً

يُثيرُ الحنينَ دون أن يُجيب.

*

علِّميني

كيف أكتبُ حباً

لا يشبهُ قصائدَ العاشقين،

ولا يلتقطُ ظلالَ الماضي

بل يصنعُ ضوءاً جديداً

بينَ كلِّ نبضةٍ ونبضة.

***

جاسم الخالدي

أيُّ حُزن

كأنّه إلى الأبد

في هذا البلد

مَضى شتاءُ ثورةِ الخُبز

والجراح

وأتى صيفُ صُفوف المَوز

والتفّاح

هذا الصّباح

لن أقول صباحَ الخير لأحد

لن أمُدَّ لأحدٍ يدِي

***

السُّكّر أسودُ مالح

الحليبُ بالبَرص

القهوةُ كالبَوْل

وخُبزُنا

مُغَمَّسٌ بالدّم

صباحُ الخير

بل صباحُ الويْل

***

هذا الصّباح

لن تُشرقَ الشّمس

لن يتنفّس الصّبح

هنالكَ

وراء الأسوار

خلف الأبواب

عَشرُ أزهار

مُلقاةٍ على الإسمنتِ

ذابلةٍ مُختنقهْ

طيورٌ عَشَرَهْ

لا رَفْرفَهْ

لا زَقزقَهْ

تنتظر

حَبلَ الْمِشنقَهْ

***

سُوف عبيد

1984

......................

* كتبت هذه القصيدة إثر أحداث ثورة الخبز بتونس سنة 1984 التي سقط فيها عشرات الضحايا من بينهم الشاعر فاضل ساسي وحُوكم فيها عديد الشبّان بالإعدام وقد نشرتها بجريدة ـ الطريق الجديد ـ بتونس بتاريخ 16 ـ 6 ـ1984

لا أحدَ، كانَ يجرؤُ على الولوجِ إلى تلك البنايةِ الخربة، التي أخذتْ تتهدَّمُ عاماً بعد عام، وشهراً بعد شهر، ويوماً بعد يوم، كانتْ مبنى شاهقاً، يناطحُ عددُ طبقاتهِ عنانَ الغيوم.

 مبنىً متعدِّدُ الاستعمالات، للسكنِ والسياحةِ والتجارة، ويمكنُ أن نضيفَ، للصناعةِ والزراعة، فمحالهُ الواسعةُ الأنيقة، تبيعُ المنتجاتِ الصناعيَّةِ والزراعيَّة، وكلَّ شيء.

شققُهُ مختلفةُ الأحجامِ والتصاميمِ والأثاثِ، يقطنها أناسٌ من مختلفِ القوميات، الذينَ بعدَ أن كان يجمعهُمُ السكنُ والاسترزاقُ في هذا المبنى، باتتْ تجمعهُمُ التعاملاتُ اليوميَّةُ بتفاصيلِها المختلفة، من حبٍّ وتسامحٍ، ولؤمٍ ونكدٍ، وغيرةٍ وحسدٍ، وكراهيةٍ واعتداء.. ولكن لا أحدَ منهم، كانَ يعرفُ أنَّ هناك ملجأً عملاقاً متعدِّدَ الطّبقاتِ أيضاً، تحتَ المبنى الشاهق، وكأنَّهما مبنيانِ عملاقانِ أحدهُما يشهقُ فوقَ الأرضِ، والآخرُ يزفرُ تحتَهُ.

ملجأٌ مجهولٌ سوى لزمرةٍ قليلةٍ من حاشيةِ الطاغية الأكبر، هي زمرةٌ مستعدةٌ لتلقّي أوامر فوريَّةٍ من الطاغية، متى ما أرادَ الولوجُ فراراً إلى الحصنِ العملاق، إذا ما عَلمَ عن بدء انطلاقِ ضرباتٍ خارجيةٍ جويةٍ تأديبيةٍ للطاغية.

لم يخَفْ عبُّود العنتيك، وهذا ما يُطلقهُ عليه العامَّة، بسببِ جرأتهِ في التهجمِ على الطاغيةِ وحاشيتهِ، وكذلك لامتهانهِ الأعمالَ، التي تتطلبُ جهداً عضلياً كبيراً، لم يخَفْ يوماً من تلك الغاراتِ، بل يطلقُ سبابَهُ وشتائمَهُ بأعلى صوتٍ، فالضرباتُ تنصبُّ على الطبقاتِ الفوقيةِ فتصيب الناسَ ومهاجعَهم، وإذ علمتِ القوى المهاجمةُ للطاغيةِ وحاشيتهِ، بأنَّه لم يُصبْ بأذىً، استخدمتْ قاذفاتِ الصواريخِ المحمَّلةِ برؤوسٍ نوويةٍ، جعلتِ البناءَ الشاهقَ مُهلهلاً، حينها بدأتِ الراداراتُ تتحسَّسُ ما هوَ تحتَ الركامِ، ولم تتحسسْ لأنفاسِ الطاغيةِ الذي هربَ إلى مكانٍ مجهول.

الهربُ وقى الناسَ والحيواناتِ والأشجارَ من استمرار الضربات. كلٌّ بدأَ يبحثُ عن قتلاه، وآخرونَ يبحثونَ عن مأوى، بعد أن اختنقت أروقةُ المبنى بكثافةِ الإشعاعات، وأصبحَ خطرُ الإصابةِ بالسرطان قائماً، يصيبُ كلَّ من يبقى في هذا البناءِ المهزومِ، بُنية وأناساً، فاشتدَّتْ قوافلُ الهجرةِ من المبنى إلى مبانٍ أخرى بعيدة، والإيواءُ إليها أكلافه باهظة، لا يقوى عليها كلُّ الناس، ولكنَّهم غادروه، حفاظاً على البقيَّة الباقيةِ من أولادهمْ وأحفادهمْ، فهمُ الجيل الثاني والثالث، أما الجيلُ الأولُ.. الآباء والأمهات، فقد انقرضوا.

غادر الأولادُ والأحفادُ المبنى، اضطرَّ بعضُهم إلى المبيتِ في العراء، أو في أكواخٍ ينشؤونَها من خوصِ النخيل، وبعضها من موادَّ أخرى، مثل طوبِ الطين، وأصبحت بمجموعها مهاجعَ عشوائيةً تتناثرُ على محيطِ دائرةٍ مركزها ذلك المبنى الشاهقُ الحزينُ، الذي أصبحَ مهجوراً بالكامل.

وحدهُ كانَ عبودُ العنتيك، بثيابهِ المهلهلةِ، ولحيتهِ الكثَّةِ وشَعرهِ الطويل، كان يطوفُ على تلك المهاجعَ البائسةِ، ويلومُهم على تركِ المبنى الكنز، والاغترابِ في العراء، حيثُ البردُ القارسُ الذي أصابَهم بأمراضٍ أخرى، خاطبَهمْ: - لن تسلموا من الأمراضِ هنا أوهناك.

كانتْ هيئتهُ الهزيلةُ، لن تُغوي أحداً في الإصغاء اليه، حسموا أمرهُ على أنَّه مجنون، كانَ يثرثرُ في المقاهي والتجمعاتِ عن الطاغيةِ وأفاعيله، ومجونِ أولادهِ وحاشيتهِ وفسقهم، ويقادُ إلى سجونِ الطاغية تحت الأرضية، فيلاقي صنوفاً من التعذيب، ما أنزلَ الله بها من سلطان، لكنهُ ابن وجهاءٍ يسارعون بالتوسّط لدى أفراد متنفذين من حاشية الطاغية إلى الالتماس بإخراجه من السجن، وبمعيَّتهم وثائقُ طبيةٌ تثبتُ ذلك.

عبّود المتينُ البنية، يَصبحُ هزيلاً كهُزالِ المبنى، لا أحدَ يأويهِ بسببِ الشّتمِ والسبابِ لكلِّ من هجرَ المبنى، بمن فيهم أهله. لكنهُ يقدمُ على خطوةٍ جهنَّمية، حينَ يأوي إلى المبنى المهجورِ المرعب، الذي يترقَّبُ ساكنو الأطرافِ انهيارهُ كليةً، خاطبهُ أغلبُهم نساءً ورجالاً:

- إرجعْ يا عبُّود سَتَهلك.

لم يبالِ بكلِّ تلك المخاطبات، بل وقفَ أمام المبنى، يخاطبهُ، لعلّهُ يُصغي إليه، يقولُ بأعلى صوته:

 - نحنُ متشابهانِ بهُزالِنا وخَرابِنا..

لم يجبْه كائنٌ ما سِوى الصَّدى، ومن ثَمَّ تجيبهُ قهقهاتُ بعضِ الناس، ودموعُ آخرينَ، على كلِّ هذا الدمار، الذي سيبتلعُ مجنوناً، ولكنَّه واحدٌ منهم.

لم يصعدْ عبّود إلى طبقاتِ المبنى المُضَعضَع.. بل انحدرَ إلى أسفلهِ، واكتشفَ أجواءً فارهةً لملجأٍ عملاقٍ سبقَ وإن اقتيدَ إلى ما يشبههُ أو هو ذاتهُ، لكنّهُ غيرُ متيقّنٍ من ذلك، لأنَّه كانَ معصوبَ العينين.

لاحظَ أنَّ الملجأَ لم يصبْهُ الكثيرُ من الأذى، وكأنَّهُ مكانٌ قابلٌ للعيش... لكنَّ الأنوارَ مُطفأة، التجأ إلى لوحةِ أزرارٍ ضخمةٍ، وبدأَ يفكِّرُ بما بقيَ عندهُ من عقل، وبما تحصَّل عليه من خبرةٍ في أعمالٍ حرةٍ عندما كانِ سليمَ العقل، لكنَّ اللوحةَ أزرارُها غريبةُ الشَّكلِ، فضلاً عن أنَّها مفتوحةٌ جميعُها ماعدا واحدة، ابتسمَ لذلك، فحينَ يضغطُ عليها بإصبعه، ستشتعلُ الأنوارُ ويعيشُ ملكاً متوَّجاً في هذا المكانِ الفردوسي.

ضغطَ عليهِ وإذا بسيلٍ هائلٍ من الموادِ المشِعَّةِ يتجهُ إليه من كلِّ مكان، وترديهِ جثةً افترستها النيران، حتى تلاشت نهائياً.

وفي لمحِ البصرِ، أصابتْهمْ غشاوةٌ، ناسُ الأطرافِ المترقبين لما يحدثُ بعد ولوجِ عبود العنتيك المبنى الآيلَ للسقوط، ومن ثَمَّ فُتحتْ عيونُهم بعصا ساحر، ليجدوا المبنى الشاهقَ الذي كان يضمُّهم جميعاً، عادَ كما كان، بمساكنهمِ العموديةِ ومحالهم ومكاتبهم، كلها عادتْ زاهرةً مضيئةً، وقبلَ أن يهرعوا، كلٌّ إلى مكانه، خرجَ عليهم خطباء، اجتمعوا في كلماتهم على أنَّه قبل أن يلجوا المكانَ، عليهم أنْ ينحتوا الآن نصباً تذكارياً عملاقاً لعبود العنتيك، الذي لا يعرفونَ الآنَ هل هو حيٌّ أم ميتٌ لأنَّ روحهُ، إن كانَ شهيداً، وهذا ما يتوقعونهُ، ستحرسُ المكان، وتمنعُ كلَّ واحدٍ أن يتجاوزَ على حقِّ آخر. غالبيةُ السُّكانِ، أصغوا جيداً إلى ما قالوه، عدا من تململوا من خطاباتِ الحكماء، لأنهم لن يستطيعوا أن يحرزوا مكاسبَ إضافيةً، فوقَ ما يمتلكون.

شرعَ المعماريونَ والفنانونَ لتصميمِ نصبٍ عملاقٍ يناظرُ المبنى في عملقتهِ، وانطلق البسطاءُ من المهرةِ حدّادينَ ونجّارينَ وكسبةً بالمشاركةِ في تشييدِ النّصبِ بأسرعِ وأفضلِ ما يمكنُ أيضاً.

كأنَّ روحَ عبود العنتيك حلَّتْ فيهم، وكانتْ مخاطبتهُ للمبنى التي سمعوها جميعاً:

- نحنُ متشابهانِ في هُزالنا وخَرابنا، أخذوا يردّدونها أيضاً- ولكنَّهم أضافوا لها- كما نحنُ متشابهانِ في انتصارنا وازدهارنا.

***

قصة قصيرة: باقر صاحب

.....................

* العنتيك: هي مفردةٌ عاميةٌ عراقية، ومعناها: الشخصُ الذي يوقعُ نفسهُ في الشدائدَ والمآزق.  

 

نهوضٌ قادمٌ نحوَ العراقِ

وحاديةٌ لمشوارِ اتْفاقِ

*

بهِ الأزمانُ تَرعى احتفالا

تُناصرهُ ميادينُ السباقِ

*

كطيرٍ من رمادِ البينِ يَحيا

يُجابهُها بواهبةِ انعتاقِ

*

ويُغريها بمبتدئٍ عريقٍ

يُعلمها مَراسيمَ العِناقِ

*

بعاصمةٍ من التفتيتِ ترقى

مُحصنةً بممنوعِ افتراقِ

*

بلادٌ كلّ ما فيها جميلٌ

وإشراقٌ بأوديةِ انبثاقِ

*

على الأزمانِ سادتْ واسْتقامتْ

بحاضرنا تواصَتْ باعْتراقِ

*

تواجهُنا الحوادثُ باحْترابٍ

وتدعونا لواهبةِ الوفاقِ

*

بها صُحفٌ من الويلاتِ تُسقى

كتبناها بواهبةِ انْهراقِ

*

طوَيْناها بلا ألمٍ وشكوى

تُبادلنا الأسى بدمٍ مُراقِ

*

تشنّأ جَمعُها برؤى التلاحي

فأضْحى حَيْفها حلوَ المَذاقِ

*

مَشيْناها على مَضَضٍ لشأوٍ

وما بَرحتْ تنادي للتلاقي

*

فهلْ وصلتْ لمأواها بليلٍ

وهلْ عرفتْ مراسيمَ الصَداقِ

*

تعمْرَمَتِ المساوئُ والخَطايا

وأنجبتِ التفاعلَ بالخِناقِ

*

كأنَّ سلوكَنا مَحضُ افْتراءٍ

وأنَّ وجودَنا إبنُ الخَلاقِ

*

سَنهزمها إذا جارتْ ودامَتْ

بأجْيالٍ أتَتْ روحَ انْدفاقِ

*

مَعالمُها تراءتْ من بَعيدٍ

مُرصّعةً برائعةِ اتْساقِ

*

هيَ البغدادُ ما عَرَفتْ قنوطاً

إذا خَمَدتْ سَتسعى للحاقِ

*

لها وطنٌ به الأوطانُ تَرقى

مَسيرتُها مُؤجِّجَةُ اخْتراقِ

*

عليها صالتِ الدنيا وجارتْ

وما تَعِبَتْ وعاشتْ بارْتفاقِ

*

غشيمٌ في مواطنها تردّى

جهولٌ إذ يراها كالوثاقِ

*

تحيّاتي إلى بَغدادَ روحي

مُعَطرةً بأحْلامِ ائتلاقِ

*

سَلوا عنّا زماناً عاشَ فينا

سيُخبركمْ ببرهانِ اعْتناقِ

*

أرى الدنيا عراقاً مُستنيراً

بألبابٍ مُناهِضَةِ النفاقِ

*

سَنعلو فوقَ هاماتِ البرايا

نذكّرها بمانعةِ انْمحاقِ

*

ألا تبّتْ يدا زمنٍ عَضوضٍ

سَنَرْدعهُ بأجْيالِ انْطلاقِ

*

تواصى كلّ موجودٍ بفعلٍ

يؤسسُ مَعلماً فوقَ المَحاقِ

*

بنا رَجحتْ ودامتْ في سُطوعٍ

مُدوّرةً مُسوّرةَ الطِواقِ

*

بها الأذهانُ كمْ بلغتْ مُناها

وبيتُ حِكْمَتِها قمرُ اسْتباقِ

***

د. صادق السامرائي

المَـجْــدُ، والعِــزُّ، والعَـلـياءُ، والــشِـيَـمُ

فـي جَـوْهـرٍ، عجَـزَتْ عن وصفِه الكـَـلِـمُ

*

لــمّـا الـعَـلِـيُّ قــضى، أنْ يُــولــدَ الأمَــلُ

فـي الكعــبـةِ، ازدانَــتْ الأركانُ والحَـرَمُ

*

وشـــاءَ أنْ يَصطفي للمُصطـفى، عَـضُـداً

بــــه المَـسِـيـرَةُ، نِــبْــراسٌ ومُــعـتَـصَمُ

*

لــلأفــقِ إشــراقــةٌ، فـي يــــوم مـولِــدِه

ولِـلكـواكـبِ مِــــنْ عَـــليـائــهِ، سَـــهَــمُ

*

إرادةُ الـلـــهِ، أنْ يــخــتـــارَ فــاطـــمــةً

لـِـمَـنْ، لـِـوالِـدهــــا أزْرٌ، بـــه شَــمَـمُ

*

فَـحـاطَ بالـنـور نـــورٌ، فــي اقـتـِرانِـهـما

وبـارَكَ الـمُــصطفـى، فانْـهـالـت الـنِـعَــمُ

*

ولــلـكـرامـاتِ أحـــداثٌ، مُـــؤرَّخَــــةٌ

ولـلــمَـواقِــفِ رأيٌ، فـــيــه تـنـحَــسِــمُ:

*

لــمّـا فـدَيْـتَ رســـولَ الـلـه، مُــلـتَـحِــفــا

تــصدّعَ الـقـومُ، حـــتى بــانَ مَـكـرُهُـمُ

*

مَـن رامَ وَصْـلَ المَعالي، صِرتَ قــدْوَتَـه

والـشـأنُ تـُـعْـلِـيـه أســـبابٌ، لــهــا قِــدَمُ

*

خُـلِـقْــتَ أن لا تُـحابـي فــي الخَـفـاء يَــداً

لأن كــفَّــكَ، فـــي وضـح الـنـهــار، فَــمُ

*

لـلـتِّــبْـرِ أمْــنِــيــةٌ، فــــي أنْ تُــقَــلِــبَــه

يَــداك، حــيـث تَـباهـى الـسـيفُ والـقـلـمُ

*

والعَــبْـقــريـةُ، مُـذ فـعَّـلـتَـهــا سَــجَـدَتْ

لله، إذ أصـبحَـتْ لـلـعَــدلِ، تـحــتَـكِــمُ

*

أكــرَمْـتَ كــلَّ يـَــدٍ، الـعَــوْزُ ألـجَـأهــا

حـتـى وأنــت تُـصَلـي، نـالـهــا الـكَــرَمُ

*

وفي القضاء، انـحَـنى كلُّ الـقُضاةِ لـِـما

حَـكَـمْـتَ فــيـه، فـزالَ الـشــكُ والـوَهَــمُ

*

أنـصفْـتَ حـتى عَـلا، في الأفق صوتُـهُـمُ:

(عَــدلُ عَــلـيٍّ ) صـِراط، فــيـه نـلــتَــزِمُ

*

حــتى السِــراجُ بـبــيـت الـمال صار لــه

حـديثُ حــــقٍ، بـــه الأمـثـالُ تُـــخـتَــتَـمُ

*

والـمَـعــنَـويَّـةُ، قـــد فَــعَّـلـتَ هــاجِسَـهــا

في نَـفْـسِ مَـن قـد غزاهُ الوَهْـنُ والهـَـرَمُ:

*

فـكان عـدلك، فــي قــوْمِ الـمسـيـح لــه

صدىً يُــعــززُ فـــي الأخــلاق نـهْـجَهُـمُ

*

لــِذي الـفــقـار اقــتـِرانٌ فــيــك، أرَّخَــهُ

مــا كـلُّ سـَــيـفٍ، بــه الأعـداءُ تَــنهـَـزِمُ

*

ســـيـفٌ، إذا كــفُّـك الـمهــيـوبُ أمْـسَـكــهُ

قــبـل الــنِـزالِ، يَـحُـلُّ الـيـأسُ عــنـدهُــمُ

*

بـه، قَـطعـتَ جــذورَ الشِـركِ، مُــرتَـجِتـزاً

واسـتسـلـمَ الخَـصمُ، لا سـيـفٌ ولا عَـلـمُ

*

خـُـطىً مَــشــيــتَ، بإيـمانٍ وتــضـحـيــةٍ

فـانْهارَ مِـن وَقْـعِـهـا الطاغـوتُ والصَّـنَـمُ

*

يامَـن أخَــفْـتَ الـعِــدا فـــي كـلِّ مَـلـحَـمَـةٍ

إذ كــلـمـا قَــيـل: ذا الــكـرّارُ، هـالَـهُــمُ

*

إذا رجَــزْتَ، فـلِـلأجـواءِ هــيْـــبَــتُـهـــا

ولـِلــحَـمـاســةِ، فـــي أصـدائهــا حِــمَـمُ

*

تَــزلزَلَ الخَـصــمُ، فــي (بَـدرٍ) وأرَّقَـهُـم

قــبـل الطِعـانِ فـتىً، فـانهـارَ عَــزمُــهُـمُ

*

طـيّـبتَ نَـفْــسَ رسـول الله، حـيـن دعــا

في (خندق) الحَـسْـمِ،حيثُ الحربُ تَحتدِمُ

*

زَهْــوُ الـرؤوس تَـهـاوى بـَـعـدَ مُـعـجِـزةٍ

بـ (بابِ خـيـبـرَ) أوْدَتْ، واخـتـفـتْ قـِـمَـمُ

*

دَيْـمـومَةُ الـنصـرِ، فـي قــوْلٍ يـُـجَـسِّــدُهُ

فِـعـلٌ،وقـد فُـقْـتَ في التجْـسيدِ خَطوَهُـمُ

*

أعطيتَ دَرسـاً لِمَن ضَلَّ السَـبـيلَ، وعـنْ

مَـن اهـتدى، زالَ عـنه الـوَهْـمُ والـعَــتَـمُ

*

إذا تـصَعَّـرَ قــومٌ، فـي الــذي كــسـَـبــوا

ثـمّ اقـتـدوا بـك، زال الـزّهْـو والـزَّعَـمُ

*

تَـبـاشَــرَالجُـنـدُ لمّـا الــنـصرُ حالـفَـهـم

وكَــبَّـروا: لا فــتـىً إلّاكَ، بَــيــنَـهـُــمُ

*

مـــا دارَ طـرْفُــكَ، إلّا الـحَـقُ هـاجِـسُـهُ

والحـقُ صِنْـوُكَ، مـوصولٌ بـــه الـرَحِـمُ

*

نـاداهُــمُ المصطفـى : انــتَ الولِـيُّ لـهـم

فـصَــوَّتَ الــقـومُ، بالإيــجـاب كُــلُـهُــمُ

*

إنّ الأنـاةَ ونــهْــجَ الحِـلـمِ، لو جُــمِـعَـتْ

كـما أشَــرْتَ لــها ...تـعـلو بـــها الهِـمَـمُ

*

والصَّـمْتُ إنْ لاءَمَ الأجــواءَ، يَــسْـمُ بهـا

والـهَـذْرُ آخِـــرُه ... الإحْــبـاطُ والــنَــدَمُ

*

كــلامُــك الــدُّرُ، والآفـــاقُ تَــشـــهَـــدُه

قـد حَـرّكَ الـوعيَ (فـيـمَـن قـلبُه شـبِـمُ)

*

فـي سِــفْـرِ نَـهْـجِـك، للأجـيـال مَـدرسَـةٌ

تَـبْـني الـعُـقـولَ وفيـهـا تـزدهي الـقِـيَـمُ

*

الخُــلــدُ لــلـعـلـم، والآدابُ تَــصـحَــبـُـه

(أيـن الأسِــرَّةُ،والـتـيـجـانُ)، والـخَــدَمُ

*

عَــقـلٌ بــلا أدبٍ، مِـثـلُ الشـــجـاع بــلا

ســـيـفٍ، وقــولـك هــذا مــنه نَـغْــتَــنِـمُ

*

بــلاغـة الـقـول، للـفــرســان مـوهـبـة

والـمقـتـدون بـهـم يـسـمـو ســلـوكُـهُــمُ

*

بـلـغْـــتَ فـــي صِـلــةِ الأرحـام مَـرْتَــبَــةً

مَـن ســارَ سَــيْـرَك، لـم تَـعْـثـرْ به قَـدَمُ

*

طـمْأنْــتَ أنْــفُـــسَ أيــتـامٍ، جَـعـــلـتَـهُــُم

يَــرَونَ فــيـك أبـاً، يـَـجْـلـي هُـمُـومَـهـُمُ

*

أوْصيْـتَ: أنْ يَسْـتَـشيرَ المرءُ مَنْ وثـقتْ

بـــهِ الـعُـقـولُ، ومَـنْ بالـرأي يـُــحــتَـرَمُ

*

كـمـا اسـتَـشَـرْتَ عــقيلاً، إذ أشــارَ الى:

(أم البـنين).. بِــبَـيـت الطُـهْـرِ تَــنْــتَـظِـمُ

*

فكان مـنهــا ابـو الـفضل الــذي افـتَخَـرَتْ

بــنَـهْــج سَـــيْـرِه، فـي تـاريـخـهــا الأمـمُ

*

أرسـى ابـو الحـسَـنيـن، الـعِـزَّ في عَـمَلٍ

بــه الـكــرامـةُ غَــرْسٌ، لــيس يَــنـفـطِـــمُ

*

لاطـائـفــيّــةَ، لا تــفــريــقَ فــــي زمَـنٍ

قــد كـان رأيـُك، فـيــه الحَـسْـمُ والحَـكَـمُ

*

فـــي قـولِـك: الناسُ صِـنـفـان فـإمـا أخٌ

فـي الدِّينِ، أو فـي صفات الخَـلْقِ يَــتَّـسِمُ

*

لـمّا الخِـلافــةُ قــد حـيَّـتْـك قــلــتَ لـــهـم :

بــسـيرة المـصطفى، الأجــواءُ تـنـسـجـمُ

*

نـاديــتَ : إنّــي بــجُـلـبـابــي أتــيْــتُـــكُــمُ

وفـــيـه أخـرُجُ، حيــث الحــقُ والـنُـظُـمُ

*

الحَــقُّ يَعْـلـو، فـطُـوبى لـلـذيـن سَــعَــوا

أنْ يَــقْــتَـدوا، لِــيَـزولَ الـظُـلْـمُ والـظـلَـَمُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

(وجع الحرية)

 عندما ارتديت ثيابي في يوم الإفراج عنا شعرت أنها لشخص آخر غريب عني، وكذلك ضوء النهار الذي استقبلني في باحة السجن ومن ثم خارج البوابة الأمامية التي نسيت أي أمل بعبورها نحو الحياة الاعتيادية، وأني سوف أرى اناسًا يمشون في الشوارع بكل حرية، دون قيود ولا أوامر ولا تهاوي العِصي الغليظة لدى تعليقنا بالفلقة حتى نفقد الوعي. لوهلة كدت أطلب من السجان أن أبقى في زنزانتي حيث اعتدت التأرجح ما بين الحياة والموت، دون السماح بالاتكاء على أي حائط ولا القيام بأي حركة لمدة اثنتا عشرة ساعة، لأنني لا أدري إن خرجت في أي اتجاه أمضي، فقد ضاعت مني اتجاهات مدينتي وشوارعها وميادينها ومناطقها، حتى أني خشيت ألا أستطيع المشي ولو لعدة أمتار حتى أعثر على سيارة أجرة تقلني إلى منطقة الكرادة، فلا بد من الابتعاد عن مبنى السجن الكبير مسافة كافية كي لا يخشى ركوبي السائق الذي لزم الصمت طول الطريق متوجسًا من هيئتي الغريبة، وقد بدوت في المرآة الجانبية الصغيرة، والقريبة من جلستي إلى جواره، بقصة شعري الغريبة والمضحكة عن عمد وبقسمات وجهي المتورم أشبه بشبح خرج من قبر شخص مات مقتولًا دون أن يعرف سبب مقتله.

 ظلت السيارة تجوب بي الشوارع، من سجن (أبو غريب) نحو منطقة العامرية، ومن اليرموك نحو تمثال الفارس العربي، ولمَا مرت من أمام جهاز المخابرات شعر السائق بما اعتراني من رجفة سرت في كل أنحاء جسدي الذي تغور فيه أوجاع الجروح والرضوض والكدمات، فمد يده نحو ركبتي المرتجفة كي يهدئني، كما لو أنه اعتاد فعل ذلك، وحاول الإسراع قدر ما يستطيع كي يبعد عني شبح الاعتقال مجددًا، ثم أوقف السيارة إلى الرصيف المحاذي لمتنزه الزوراء، خشيت أن يطلب مني النزول، إلا أنه التفت نحوي مبتسمًا، وقد بدا لي في مثل عمري، بملامح تنم عن طيبة أصبحت غريبة عني، ثم قال أنه سوف يجلب لي عصيرًا وشيئًا آكله، على حسابه، فقد بدا له أني لا أملك نقودًا، مع ذلك قبَل أن يوصلني. تجرأت وأخبرته أني أشتهي سيجارة الحرية أكثر من أي شيء آخر.

 أخذت أتنقل بنظراتي عبر سياج الزوراء وشارع دمشق العريض بجانبيه من أمام محكمة بداءة الكرخ ومعهد الفنون الجميلة، وأكثر ما شد انتباهي الزي العسكري الذي يرتديه الشباب، كما لو أنه (مودة) أشبه ببناطيل (الجارلس) الفضفاضة وياقات القمصان العريضة والسوالف الطويلة في السبعينات، إلا أن قرار إطلاق السراح أكد أننا في عقد الثمانينات.

 رحتُ أحدق في كل صورة تمر السيارة من أمامها في (علاوي الحلة) و(الصالحية) و(حافظ القاضي)... صور كثيرة، في كل الزوايا تقريبًا، متباينة الأحجام، منها صورة كبيرة جدًا، شعرت أنها تحتويني وتحتوي كل المدينة، وتغشى حتى قطع القماش السوداء المعلقة إلى الأسوار وبعض الحوائط، تنعي الشهداء في قواطع جبهات المدن الحدودية جهة الشرق.

 لم يحاول السائق أن يتكلم معي كلمة واحدة، فتواطأت معه على الصمت، وكأن كلًا منا يتلمس رجفة الخوف الذي يراود الآخر، لكن عندما وصلنا منطقة الكرادة لم أستطع تمالك نفسي أكثر، فأجهشت ببكاء ربما أكون اختزنته على مر سنوات، وكأني أشم عبق أمي وأبي بعد عمر من الغياب، دفء البيت ورائحة البخور التي كانت والدتي تحب أن تعَطر بها مكان جلستها بصورة خاصة، أمام المدفأة النفطية التي يعلوها دورق الماء المغلي (الكتلي) يرتكز فوق فوهته دورق الشاي (القوري) (المهَيَل). كانت تنتظر عودتي المتأخرة بصبر وعينين قلقتين من أسى اعتقال جديد يبعدني عنها لفترة لا تعرف أمدها، أو من تفتيش يقلب البيت رأسًا على عقب حتى أُنهكت من ترتيبه كل حين، إلا أنها لم تعد تقول شيئًا تحاول من خلاله إثنائي عن الطريق الذي اخترته منذ أن كنت في السادسة عشر من عمري، تكتفي فقط بالتنهد الحزين الذي راح يغور في أوصالي مثل سكين حاد حتى استطعت تذكر شارع بيتنا، بعد أن مررنا بعدة أحياء ومحلات وشوارع، فأخذت ذاكرتي تسترجع أسماءً كثيرة غابت عني، رغم أنها كانت فيما مضى بمثابة الشرايين والأوردة المتشعبة في أوصالي. كان الدمع يغَبش نظراتي المتطلعة إلى ذلك التوهان الجميل، وكأن السائق تعمد أن يروي بعض حنيني إلى عمرٍ آخر أوجعني مدى غربتي عنه، كما لو أن القيود تواصل حزَ جسدي والضربات توالي طعن أضلعي وعظامي بألمٍ مبرح لا يرضى أن يفارقني.

 أشفق السائق على نظرات ذهولي فتخلى عن الصمت أخيرًا وأخذ يتلو على مسامعي أسماء (البوشجاع)، شارع (السيد إدريس) (الزِوية)، (رخيتة)، (أبو قلام)، محلة (البو جمعة)... كان يبدو كمن يستغل الفرصة كي يتغزل بصفات محبوبة سكنها الحزن منذ سنوات، فيما أواصل النحيب مثل الثكالى ممن يفقدنَ أحباءهن في حرب تقيم مجالس العزاء هنا وهناك كالوباء المنتشر بسرعة في أوصال المدينة، بينما لا يحق لذوي القتلى منا تحت وطأة التعذيب الجهر بذرف الدموع لدى تشييع الجثامين نحو المقابر. كنت شبه أكيد أن السائق الذي لم يستطع كبت دموعه لدى اقتراب عثوري على بيت والدي، كما لو أني اغتربت عنه منذ كنت صغيرًا أكاد لا أعي في الدنيا شيئا، مبتلى باعتصار الفقدان الذي يقبض على حسراتي الحرى بعد أن طال كتمانها، وأن له حكاية لعلها تفوق حكاية هزائمي على أيدي الرفاق مرارة، مع ذلك لم يفضِ بمواجعه، وبدَوري لم أشأ أن أضيف نزيف ألم آخر إلى غصة اختناقي.

 عندما ترجلت أخيرًا أمام باب بيت والدي لم يرضَ الانتظار حتى آتي بالنقود من الداخل، فقط أخبرني أن أحرص ألا أعود إلى (هناك) مجددًا مثلما حدث لأخيه الصغير، فلم يصله خبر عنه سوى شهادة وفاة، واكتفى بهذا القدر دون شرحٍ أكثر، ثم مضى بالسيارة سريعًا كما لو أنه شارك بجريمة شنعاء ويخشى اكتشاف أمره.

 أولمّا عبرتُ الباب الخارجي لبيت أهلي الكبير، والذي كان يبدو لي مثل قلعة شامخة لا يمكن لشيء النيل منها، ولا حتى الزمن، هجست أكثر فأكثر أني أمام واقع مغاير لكل ما ألفت، واقع ليس لمناضل منبوذ مثلي القدرة على تغييره ولا حتى التغاضي عنه، ودوي قصف غارة جديدة يكاد يدك الأرض من تحت قدميّ كما لو أنه يصدني عن الدخول كي أستأنف حياتي من جديد.

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

حين انتخبَ الفؤاد

رايةَ السلامِ مستقرّاً

أشرعْتُ بابَ القلب

لتدخلَ الحمامةُ البيضاء

مسكنَها

في عشِّها اللازورديّ

الموشَّح بالزهرِ

والنهرِ

ونخلِ الله....

**

وحينَ حلَّقتْ بعشِّها

صوبَ النجومِ البارقاتِ

بالقبابِ

وحروفِ الرفع

تساقطَتْ مجراتٌ

في حضنِي،

وأشعلتْ فتيلَ مصباحي

فامتلأتْ أزقتي

بمهرجانِ النورِ

والحبورِ

والسطورِ الفائضةِ

بالكلامِ

منْ عسلٍ مصفّى

ألقيتُه

على لسانِها الأخضر

فانطلقتْ سِرباً

منَ الحمامِ

فوق هامتي

وهدلتْ...

لكي أنامَ على فراشٍ

منْ أمان...

***

عبد الستار نورعلي

 

في نصوص اليوم