نصوص أدبية

نصوص أدبية

للطلاء ...

لكل ألوان الأحذية والمقاسات

وترقيع ما تفتق منها ارتأيت أن أمشي حافيا ليل العودة متاخراً جدا

ألا أنبه كلاب ليل الشارع

تنبح الذنب والخوف تضجر هي الاخرى من عواجل الحرب والدم

تشتبه  العائد منتصف السكرة

عواجل سكافي نيوز

مجاناً لكل القياسات

حتى قد كلفني الاختيار من  بين كل الأحذية

حتى ساعة أرق

سكران حين أرتشف خمرة نعسي

وحتى احضار فطور الصباح

قليل من الحليب فى

(دلة) فوار الحليب

سمعت عواجل من سكافي نيوز:

إن العراق تعرض لقصف شديد من الجاره؟

عدت للحليب كان قد فاض وخرب المتبقي

وإذا بعاجل آخر شديد لهجة

نتيجة القصف

أسفرت عن خسائر

أزرار فميص أحد الأصدقاء

كان قبل سويعات معي يحدثني عن قميص جديد .......

بعد الكاس الأخيرة

في البار الفلاني...

***

فلاح الشابندر

 

أبَتْ حروفُكِ

إلّا أنْ تَحفِرَ بنصلِ بَوحِها

وجهَ الحجرْ.

وفاقتْ في نُواحِها كلَّ البواكِي،

والنّادِباتِ،

حتى حفيفِ الشّجرْ.

دموعُكِ هذه؟

أم بحيراتُ شوقٍ

فاضتْ تسبقُ المطرْ؟

أيُّ لحنٍ

ينطقُهُ ناي حزنكِ

حتى يُدمي محاجرَ البصرْ؟

وداعٌ هذا؟

أم نزفُ قوافٍ

عند أعتابِ عشقٍ يحتضرْ؟

أم طبولُ حربٍ

علتْ أصواتُها

تنذرُ بالبلوى لمن هجرْ؟

فارسُ أحلامِكِ

ضلَّ طريقَ هداهُ،

أو لعلَّهُ في حيرةِ الخوفِ عثرْ.

لا تذرفي الدمعَ على ليالٍ

عانقتْ حلمًا باللقاءْ،

فلعلَّ صباحاتٍ مشرقةً

تلوحُ بفجرٍ مزهرٍ بالأماني

رغم فوضى الغياب ، وقسوة القدر .

***

جواد المدني

 

هؤلاء الذين يقفون عند الحافة،

لا إلى الضوء ولا إلى الظل،

لا يزرعون، ولا يحصدون،

يرتدون قميص "ربما"،

ويعلّقون أعمارهم على شماعة "لاحقاً".

*

يمشون بخطى مترددة.

خشية أن يوقظوا رغباتهم،

يشربون الماء قطرة قطرة كمن يخشى أن يُبلّل ذاته.

يتنفسون بنفس متقطع ،

كأن الحياة لا ينبغي أن تلاحظ وجودهم.

*

في رؤوسهم مدينة قديمة،

أسوارها من أسئلة دون أجوبة،

وفي قلوبهم سلال من “لو”،

وأحلام ملفوفة في مناديل الاعتذار.

*

يعرفون الطريق،

و يخافون أن يكونوا نسوراً،

و يفضلون أن يكونوا طيورا مدجنة .

يكتبون أسماءهم على الرمل،

ثم يمحونها بأنفسهم.

*

ينامون قرب نواياهم المؤجلة،

يحضنون رغباتهم المهجورة،

ويربتون على أحلامهم الباهتة

كأنها قطط شاردة لا تستحق الدفء.

*

يعيشون في تلك الفجوة اللزجة،

حيث لا شيء يُثمر،

ولا شيء يموت تماماً.

*

هم الذين لا يكونون،

ولا يختفون.

أطياف في مرايا الآخرين،

صدى لأصوات لم يطلقوها يوماً.

*

ينظرون الى الأبواب،

لكنهم يخافون المفاتيح.

ينبهرون بالطيران،

لكن أجنحتهم مصنوعة من "ماذا لو؟".

*

إنهم لا يخسرون،

ولا ينتصرون،

لا يبكون،

ولا يضحكون بصوتٍ عال،

كأن مشاعرهم مزوّدة بكاتم صوت.

*

ليسوا شجعاناً بما يكفي

ليكونوا أنفسهم،

يلبسون أقنعة حسب المناسبة،

وينسلّون من الحياة

كما ينفلت المعنى من جملة مهجورة.

*

أراهم في المرايا المغبّشة،

وجوه بلا ملامح،

يمضون في الازدحام

كأنهم لا يريدون أن يُلاحظوا،

كأن الضوء عدوّ،

والصوت جريمة،

*

أحلامهم بلا صوت ،

كأنها نُطقت في زمنٍ آخر،

بفمٍ ليس لهم.

وكلما اقتربوا من أنفسهم،

تراجعوا،

خشية أن يروا الحقيقة عارية

*

يجلسون عند نوافذ الآخرين،

يتنصّتون على الحياة

من خلف الزجاج،

ينتظرون أن يدعوهم أحدٌ للدخول،

ولا يدركون أن الأبواب

لا تُفتح إلا لمن يطرقها بشغف.

*

يلبسون الأسماء كمعاطف مستعارة،

يضحكون بنصف وجه،

ويحبّون بنصف قلب،

كأن اكتمالهم جرم

والنقص فضيلة.

*

تراهم يصفّقون لكل العابرين،

يهلّلون للخيارات التي لم يختاروها،

ويشعلون الشموع للطرق التي لم يسلكوها،

كهنة الاحتمال،

وعبّاد التأجيل،

وملوك الـ"ربما".

لكن الحياة لا تُعطى

لمن ينتظرها

كهدية مجهولة.

ولا تُمنح لمن لم يجرؤ

أن يُخيف نفسه قليلاً

ليعرف ما فيها.

***

مجيدة محمدي - تونس

 

سجِّل: أنا مُصطفى الزَّمُّوريّ!

ابنُ "أَزَمُّورَ"، مدينةِ الزَّيتونِ البرِّيِّ.

سجِّل: أنا مُصطفى الزَّمُّوريّ!

اُنتُزِعتُ من جُدرانِ مدينتي العتيقةِ،

كُتلةَ طينٍ مَغربيٍّ مُمَزَّقةٍ،

من ضِفافِ نهرِها البارِشِ،

الذّي لم أُودِّعهُ يومَ خُطِفتُ صبيًّا،

غَنيمةً من غَنائمِ الغُزاةِ،

مُكَبَّلاً إلى مَصيري البَعيدِ.

*

سجِّل: أنا مُصطفى الزَّمُّوريّ!

لقُرونٍ، دُفِنَ اسمي،

سَمَّوني "اِستيفانيكو"،

نادوني "إستيبان"

ونَعَتوني بالأسود العربيَّ،

لَقَّبوني بابنِ الشَّمسِ و"عبدِ الدُّورانتسيِّ".

*

في الأَسرِ البَعيدِ،

تاهَت قدمايَ فوقَ رِمالٍ غَريبةٍ،

عَبَرتُ خُلجانًا بعيدةً،

عايَشتُ أعتى العَواصِفِ،

تَسَلَّلتُ بين التَّاريخِ،

ظِلاًّ هائِمًا يَبحثُ عن وطنٍ.

مَشَيتُ بين الغاباتِ،

روحًا ضائِعةً تَئِنُّ في الرِّياحِ.

*

رَحَّبَ بي أصحاب الدّار الذينَ لَفَظوا الغُزاةَ،

رَأوا في وَجهي مرأة،

وفي كَلماتي جِسرًا،

و يومَ دُوِّنَتِ الحِكاياتُ،

أُهمِلَت حِكاياتي،

هُمّشت بُطولاتي،

لكنَّني أعتى من تحريفاتِ الأقوياء،

و أمتنَ من هامشٍ في أرشيفاتِ "نارفييز".

*

فها أنا اليوم،

قَصيدةٌ تَتَرَدَّدُ مِن جديدٍ على شِفاهِ الرِّياحِ الصّادقة،

رِوايةٌ تَنسُجُها الأَمواجُ المُعاكِسَة،

تَنثُرُها على شَواطِئِ "أَزَمُّورَ"،

التي خُطِفتُ منها صغيرًا،

تُعيدُني إلى أَحراشِ الزَّبُّوجِ،

وإلى اسمي الذي حُرِمتُ منه في سجلّات المحو.

فسجِّل: أنا مُصطفى الزَّمُّوريّ!

ابنُ "أَزَمُّورَ"، مدينةِ الزَّيتونِ البرِّيِّ.

***

نزار فاروق هِرْمَاسْ

أستاذ دراسات الشّرق الأوسط وجنوب آسيا

جامعة فيرجينيا

 

مازلتِ في أعماقي!!

تتَوسدِين الشغاف

كل ما لاح لي طيفك

تبزغ تراتيل الوحدة

أنَّات فراق  في الروحِ

مازلت في أعماقي!!

تمسحين ببحة صوتك الخجول

أنَّات أحزاني المتراكمة ..

ونبرة الحياء فيه

تسكب الألوان في كل الأشياء التي

أضحت باهتتة

ولازالت خطاي تتعثر

كطفل اخذ منه الجوع مأخذ

على أعتاب مسجد

كل ما جال في خاطري

ذالك الممر الذي قادني إليك..

تاسرني الوحدة

أصرخ لآنس بالصدى

أتراني لازلت أبحث عبثاً عن ظلي ...

***

كامل فرحان حسوني..العراق

 

وَأَنَــــا بِــإِدْلِـبَ أَشْـــرَبُ الـنَّـرْجِـيلَةْ

خَــطَــرَتْ بِـبَـالِـي دَمْــنَـةٌ وَكَـلِـيـلَةْ

*

فَـشَـطَحْتُ حَـتَّـى جِـئْـتُكُمْ بِـرِوَايَـةٍ

أَحْــدَاثُــهَــا مَــحْــبُـوكَـةٌ كَـفَـتِـيـلَـةْ

*

(هَــبَـةٌ) أَنَـــا يَـــا صَـاحِـبِـيَّ تَـرَيَّـثَـا

مَــــا أَعْـجَـزَتْـنِـي فِــكْـرَةٌ أَوْ حِـيـلَـةْ

*

شَاهَدْتُ شَخْصًا لَمْ يَرُقْ لِي شَكْلُهُ

لَـــــهُ لِــحْــيَـةٌ مُــغَــبَّـرَةٌ وَطَــوِيـلَـةْ

*

فَـظَـنَـنْـتُهُ مِـــنْ قُـنْـدُهَـارَ وَخَـلْـفَـهُ

تَـمْـشِـي فَــتَـاةٌ كَـالـخـيال هـزيـلةْ

*

وَأَظُـنُّـهَا إِحْــدَى الـسَّـبَايَا عِـنْـدَهُمْ

قَــــدْ صَــيَّـرُوهَـا عَــبْــدَةً وَخَـلِـيـلَـةْ

*

كَــمْ يَــا تُــرَى فِـي مِـثْلِهَا مَـنْسِيَّةٌ

مِــنْ مُــدَّةٍ غــرف الـسُّـجُونِ نَـزِيلَةْ

*

(هَــبَـةٌ) أَنَـــا أَوْ شَــهْـرَزَادُ جَـدِيـدَةٌ

قَـصَـصِي وَلَـوْ شَـطَّ الـخَيَالُ جَـمِيلَةْ

*

أَيْــنَ الـحُـكُومَةُ يَــا تُــرَى مَـوْجُـودَةٌ

تِــلْـكَ الـظَّـوَاهِرُ لَــمْ تَـعُـدْ مَـقْـبُولَةْ

*

تُـرْخِـي الـعِنَانَ لِـكُلِّ طَـالِبِ شُـهْرَةٍ

وَالــكَـذِبُ بَـــاتَ طَـرِيـقَـةً وَوَسِـيـلَةْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

كانت ليلة مسهدة، تكتنفها غلالة من الغموض الكثيف. شوارع المدينة خاوية تمامًا، يكاد الصمت يندفع في أرجائها، كأنه صرخة مكبوتة تحاول التحرر دون جدوى. أضواء أعمدة الشوارع المتراصة توشك أن تذوب في وشاح السواد، تاركة بريقًا باهتًا فوق الأرصفة المغطاة بزينة حزينة من صقيع الشتاء.

وفي السواد تلألأت النجوم كمصابيح ساهرة، فيما ارتقى القمر في وسط السماء كأمير متوّج، يشهد برودة الليل دون أن يبث دفئًا، ومع ذلك، كان يبدو أن هذا الصفاء يشي بشيء قادم؛ كأنه مسرحٌ لا يزال الستار مسدولًا عليه، بانتظار مشهد جديد.

وفي الأفق، بدأت سحب سوداء كثيفة بالتمدد شيئًا فشيئًا، وكأنها تزحف لتلف قمم الجبال برداء مأتمي قاتم، وفي سماء مترامية الأطراف، تتكاثر الغيوم باطراد، وإذا بهزيم الرعد يدوي في سماء الليل، كما لو كانت الأرض تقاوم بصراخها شرارة البرق الساخنة التي بدأت تختفي آثارها. ولم يلبث الأمل المتوهج في البداية إلا أن انكسر كزجاج هش، ليتحول إلى رماد متناثر فوق موجات اليأس المتلاطمة.

إن انهمار الأفكار المتشابكة في طقس تغمره غلالة من الضباب الكثيف، يحجب أفق الأمل وكأنه يفرض جدارًا بين الروح وبين بصيص النجاة، يجعل استيعاب ملامحها أشبه بمحاولة التقاط ظلال تتراقص في العتمة.

وبينما تتداخل المشاعر الحزينة، التي تتدفق ببطء إلى زوايا الحياة التي كان يُفترض أن تكون ملاذًا للهدوء والجمال، يتحول إلى طوق ثقيل حول عنق الطاقات، يدفعها بلا هوادة إلى غياهب العبثية، حيث تفقد اتجاهها وتغرق في تيه بلا نهاية.

بين أهداب العيون التي خفت بريقها بفعل الزمن، تنهمر دموع الحزن والألم، تنساب معها ذكريات الماضي المثقلة بجروح لا تلتئم. على الوجه المحتقن تبدو علامات القلق والريبة، وتحت أجفان متورمة، يحل سواد داكن كحلكة الليل في يوم عاصف، حين تصطخب الرياح، مضطربة أعواد القصب في موسم نضوجها.

الأرض الرمادية، التي جففت أنفاسها رياح القسوة، تتخبط في دياجير البؤس العميق. انعكست أوزار هذا الجفاف القاتل على قلوب البشر، فتفشت فيهم آفة الإحباط، وانطفأت شرارات الإرادة في أعماقهم المظلمة، حيث ارتفعت أسوار اليأس وسُلبت القدرة على المواجهة، كأن الجفاف لم يمتص ماء الأرض فحسب، بل أطفأ معها نور الأمل.

وعلى الرغم من هذا الصمت المرعب الذي يخيم على الفضاء، فإن ضجيج الذكريات العائم على بحر من الألم يرتفع بين أمواج متكسرة كأنها ترقص رقصة حزن لا تنتهي، تتسارع تلك الإيقاعات بشكل مطرد ما تنفك تنتشر كصدى يتردد في واحة الصمت المقفرة، وكأنها تحاول كسره، لكنها تعجز عن إيقاظه من سباته العميق.

***

كفاح الزهاوي

أوْقدْ فوانيسَ القوافي في دمي

واهجرْ صقيعَ العابرِ اليوميِّ طقساً

موحشاً كجليدِ أوهامِ الجِدالْ

*

خاصمْ سَماديرَ الرؤى

واشعلْ بقلبي موقِداً يكوي

فُؤادَكَ أو فؤادي مثلما

يكوي النُهى جمرُ السؤال

*

أيّانَ بلْ كيفَ المولّهُ يَمّحي

حتى فناءِ الذاتِ في عِشْقِ المثالْ؟

*

ويغيبُ مندهشاً ومجذوباً

لِطيفِ الغامضِ المخفيّ

سكراناً بألغازِ القريحةِ والخيالْ

*

قلبي يُحدّثني بأنّهما معاً

ظَمَأٌ وُجوديٌّ بأعماقِ الورى

وَحَنينُهم أبَداً لِفُراتِ ماءِ الروحِ

في قلبِ الرِمالْ

*

سَفَرٌ سَماويٌّ على أجْيادِ عاصِفةِ

المَنايا والرؤى

وعلى جِيادِ الريحِ صاهِلةَ الخُطى

للغيبِ والمجهولِ

والسِرِّ المُحالْ

*

أُرْجوحةٌ سَكرى تَدلّتْ من عُرى أقدارِنا

مابينَ وَعْدٍ دائمٍ في سَرْمَدٍ

وَحَصادِ قَشٍّ زائلٍ

عَصَفتْ بهِ سُحُبُ النهايةِ والزَوالْ

*

أرواحُنا فَرْطَ التَواجُدِ

أطْلقتْ أسمائَهُ

مُتَجَلّياً وَ مُعانِقاً

أشواقَ من فازوا بِقُرْبٍ أو وِصالْ

*

ما كانَ مُطْلَقُها سِوى

أمَلٍ تَفَتّقّ من لظى أشواقِها

وَطَريقةٍ سِحريّةٍ للسائرينَ على الطريقِ يسوقُهم ضمأُ البرايا للكمالْ

*

لِيَعودَ من فَلَكِ الغيوبِ بيارِقاً

تقفو نِداءَ الحقِّ في سوحِ النِزالْ

*

هِيَ رحْلةُ العُشّاقِ في الأسفارِ

ما طالَ السُرى

لِيَضوعَ في الارواحِ فجراً سَرْمَديّاً

ذو الجَلالْ

*

لا تسألِ العُشّاقَ عن أسْفارِهمْ

وأسألْ سِهامَ الروحِ كم طاشتْ

وكم نَفَرَ الغزالْ

*

وإسألْ خُطى القيّافِ إن طال السُرى

كم ذابَ عشقاً حَدَّ قارعةِ التلاشي

في تلابيبِ الجمالْ

*

فَلَكم تَعلّلَ عاشقٌ بِسَرابِ قلبِ

البيدِ يَحْسَبُ موجَهُ

فَرْطَ الغرامِ وَجَمْرِهِ

ماءاً زُلالْ

*

لاتحْسَبنّ سرابَهُ وَهْماً إذا

ما صارَ يُنْبوعاً

تفجّرَ من ينابيعِ الخيالْ

*

فإذا الحقيقةُ أظهرتْ أنوارَها

للعارِفينَ بِسرِّها

هَتَكوا الحِجابَ وعانقوا

أثَراً تراءى كالظِلالْ

*

ياأيُّها الضلّيلُ حَسْبُكَ مُسْرِجاً

خيلَ الشكوكِ العادياتِ ضوابِحاً والمورياتِ على يقينِ الروحِ قدْحاً أو بَريقاً في متاهاتِ الضلالْ

*

سفري طويلٌ ليْتَ راحلتي وَعَتْ

أنّ التجاربَ رحلةٌ نحو البواطنِ والجوى

فيها تَكسّرت النِصالُ على النِصالْ

*

هل أدْركتْ كُنْهَ المسيرِ رَواحلي

هيهاتَ لو عرفت إذن

ما كانَ أدركها الهُزالْ ؟

*

هِيَ رحلةٌ أبَديّةٌ

أشواقُها كَدموعها لا تنتهي

حتى تلاقي الروحُ ما تَعِدُ الضّوالْ

***

د.  مصطفى علي

 

بعد أن تنام الطيور،

تفردُ الكوابيسُ أجنحتَها

وتحلّق...

هي وحدها

تظلُّ سميري

في ليلةِ الوحشة.

*

أما أحلامي،

فتحلّقُ عالياً...

وحين تلتفتُ إليَّ،

تطبعُ قبلةً حانيةً

على رأسِ تلك الكوابيس،

عرفاناً بعنائها الطويل.

*

في عمقِ الظلمةِ،

تُبصرُ الأحلامُ ما لا نراهُ؛

تُدركُ أن وخزَ الكابوسِ

هو ما يمنحُ الطمأنينةَ معناها.

أو ربما هي، أحلامي،

تخشى على الكوابيسِ من البردِ،

فتمنحُها دفءَ القُبلاتِ،

كي لا تتجمّدَ وحيدةً

في صقيعِ الذاكرةِ والليل.

*

وهكذا تمضي ساعاتي،

بين سُمّارٍ من رعبٍ وأمل،

أراقبُ عناقَ الضدّينِ،

وأتساءلُ:

أيُّهما أنا... وأيُّهما خيالي؟

*

وقبلَ أن يغزلَ الفجرُ خيطَهُ الأول،

تنسحبُ الأشباحُ خجلى،

تاركةً خلفَها وشماً خفيّاً

على جدارِ الروحِ..

*

أستيقظُ... لا أدري،

هل كانت قُبلةُ الحلمِ عزاءً،

أم أن عناقَ الكابوسِ كان أصدق؟

*

ففي صحراءِ الوحشةِ، يا قلبي،

قد يصبحُ الوهمُ مؤنساً،

وقد يكونُ الألمُ نفسهُ...

دليلاً على أننا ما زلنا نحيا.

*

ولعلّ في هذه الندوبِ الخفية،

على جدارِ الروحِ،

ما ليسَ مجردَ آثارٍ للعذاب،

بل إشاراتٌ، خريطةٌ سرية،

ترشدُني إن تهتُ،

في الليالي التي لا قمرَ فيها.

*

فالكابوسُ، يا قلبي،

ليسَ دائماً عدوّاً،

بل قد يكونُ ظلَّ الحلمِ

حين يخشى أن يواجهَ الضوءَ وحده.

*

وبين الحلمِ والكابوس،

ينبضُ هذا القلبُ

كطفلٍ لا يعرفُ النوم،

لكنه يعرفُ كيفَ يصادقُ الخوفَ

ويغفو على كتفِه...

*

هكذا،

يمضي الليلُ بي

لا مستيقظٌ،

ولا نائمٌ،

أحيا في البرزخِ

بينَ يقينٍ يُوجِع،

وخيالٍ يُضمِّد.

***

د. جاسم الخالدي - بغداد

١٠/ ٤/ ٢٠٢٥م

 

كانت شعلة من نورٍ دافئ، لا تحترق لتُنير، بل تتوهّج حبًا وإيمانًا برسالة التعليم. حضورها لم يكن يستدعي الهيبة بسطوة، بل يغرس الاحترام في القلوب كما يُغرس الحب في الأرض العطشى. لم تكن أستاذة تقف على منصة لتلقّن، بل كانت تنزل إلى أعماق أرواح طلابها، تحادث عقولهم كما تحادث القلوب المرهفة، وتبني معهم جسور ثقة راسخة من ايمانها بان العلم حين يُزرع بالحب، يُثمر وعيًا لا يذبل.

وفي ختام إحدى محاضراتها، وبينما كانت تهمّ بمغادرة القاعة، استوقفتها صورة لا تُنسى: حشد من الطالبات التفّ حول طاولة يتوسّطها صمت ثقيل، في قلبه جلست فاطمة... تلك الطالبة الغامضة، التي لا يُرى منها سوى عيون تغزل الغموض من سواد حجابها الكثيف. كانت تبكي، بصمتٍ يكسّر وقار اللحظة.

تريثت الأستاذة بالمغادرة سعيا منها لمعرفة ما يحدث وانتظرت حتى غادر جميع الطلاب الذكور، راحت تراقب الهمس الذي دار بين الطالبات كأنه لغة لا تُفهم... إشارات مشحونة بعواطف عميقة، لكنها عصية على الإدراك بالنسبة لها. اقتربت برويّة، سحبت كرسياً، وجلست قبالة فاطمة، تنظر إليها بعين أمٍّ رؤوم. مدت يدها بلطف نحو يد فاطمة، علّها تواسيها أو تخفف عما يعصف بروحها، إلا أن فاطمة انتفضت، وانسحبت بجسدها إلى الخلف، وأدارت وجهها نحو الحائط، في رفضٍ صارخٍ لم تَعتَدْه الاستاذة من أيّ من طالباتها. وكأنها تقول بصمتٍ موجع: "ابتعدي... لا تقتربي الآن".

بُهتت الاستاذة من ردّ الفعل الغريب، فطالما أحاطتها طالباتها بالمودة والتقدير والاحترام. لم يكن ذلك مألوفًا لديها. اعتراها قلق خفيّ بأنّها ربّما أساءت دون أن تدري. رفعت رأسها، ونظرت إليهن نظرة استفسار وحيرة، وقالت بصوت امتزج فيه الهدوء بالرجاء:

ــ هل يمكن لاحدكن ان تخبرني ما الذي يحدث هنا؟

لم يجب أحد...

أعادت السؤال، بنبرة أقرب إلى الاستغراب:

ــ هل أنا سبب ما تعانيه؟ هل أخطأت بشيء؟

ساد صمت ثقيل، كأن الزمن توقف للحظة، ثم خرج صوت خافت، متردد، لكنه واضح، من إحدى الطالبات:

ــ نعم، يا ست.

اتسعت عينا الاستاذة دهشة، وتقدمت نحوها بثبات:

ــ إذن... أخبريني، كيف ولماذا؟

ردت الطالبة بهمسة تشبه شهقة قلب:

ــ لأنها ببساطة تحبك، يا ست.

تعجّبت الأستاذة من وقع الكلمات، وابتسمت ابتسامة امتزج فيها الذهول بشيء من الحنوّ، وقالت:

ـ وما الغرابة في ذلك؟ أنا أيضاً أحبها، وأحبكم جميعًا، وأحسب أنكم تبادلونني هذا الحب... أليس كذلك؟

لكن صوت النحيب ارتفع، كأنّ تلك العبارة لم تُسكِّن الروح، بل زادت وجعها اشتعالاً. شعرت أن البقاء في مثل هذا الحال سيزيد الموقف حرجًا. آثرت الانسحاب بهدوء. خطت نحو الباب بخطى متثاقلة، وما إن اجتازت عتبة القاعة، حتى تبعتها إحداهن على استحياء، وهمست لها بصوت خافت، كأنه تسلّل خجل من جدار الصمت

ـ فاطمة... فاطمة تعشقك، يا ست

ـ ماذا؟؟!

توقفت الاستاذة في مكانها، كأن الأرض تجمدت تحت قدميها، وأصابها ذهول مباغت اقشعر له كامل بدنها. راح عقلها يوزن هذا الاعتراف المفاجئ لإحدى طالباتها. كانت الكلمات قليلة، لم تكن في الحسبان، لكنها حملت وراءها عالماً كاملاً من الارتباك والتيه. لم يكن الأمر مجرد بوح عابر من طالبة، بل مسؤولية كبيرة امامها تتطلب المجابهة والحسم..

في تلك اللحظة، بدا كل شيء حولها ساكنًا، الزمن توقف، الأصوات انكمشت. ما سمعته هزّها من الأعماق، هزّ صورة العالم المنظّم داخلها، ذاك الذي لم يحسب يوماً أن يواجه مشهداً كهذا.. شعرت كأنها أُسقطت فجأة في دوامة من الحيرة، تفتّش عن معنى، عن حلّ، عن حدودٍ لهذا الذي لا حدود له.

تجولت في ردهات المعهد كمن يسير داخل كابوس غير مكتمل، حتى حطّت بها الخواطر أمام قاعة المحاضرات من جديد. أغمضت عينيها لبرهة، ثم دفعت الباب بخفة ودخلت. كان في القاعة بقايا من الدموع معلقة في الهواء، فأشارت بلطف إلى الطالبات بالانصراف، راغبة أن تبقى مع فاطمة وحدها.

جلست أمامها، وبلغة دافئة، قالت:

ـ فاطمة، هل نستطيع أن نتحدث كصديقتين؟

لا جواب! سوى شهقات متقطعة، وأنفاس تتصاعد من صدرٍ مثقل. كانت فاطمة تئنّ بصمتٍ لا ينقصه الوضوح، فتابعت الأستاذة،

بصوت هادئ، يختلط فيه الحنان بالحزم، وقد أومأت برأسها بخفة كأنها تنسج من الكلمات أمانًا خفيف الظل:

ــ نعم، يا فاطمة، أنا أيضاً اودك، وأعتز بكِ كثيرًا... أنتِ طالبة مجتهدة، تتركين أثركِ في النفوس. ولكنك، تدركين تمامًا ما الذي يعنيه ذلك. اليس كذلك؟؟

ثم صمتت قليلًا، قبل أن تتابع بنبرة يغلفها الحذر المشوب بالشفقة:

ــ أظنّك الآن تحت وطأة ضغط كبير، ربّما تجاوز قدرتك على الاحتمال، ولهذا أراكِ واقفة وسط دوامة من مشاعر مضطربة، غائمة، لا شكل لها ولا ملامح. تشوّشٌ عاطفيّ كبير، نعم، لكنه مؤقّت... وأنا على يقين أنّك قادرة على تجاوزه، إن أنتِ أمهلتِ نفسك قليلاً، وأعطيتِ لعقلك مساحةً ليبصر الأشياء كما هي، لا كما تُملِيها العاطفة.

ثم ابتسمت، ابتسامة دافئة فيها من الأمومة ما يسكب الطمأنينة في القلب، وقالت:

ــ ما رأيك أن تزورينا في نهاية هذا الأسبوع؟

تعرفين زوجي، الأستاذ طه، وتعرفين أولادي أيضاً... كلّنا سنكون بانتظارك. ستجدين عندنا فسحة من السكينة والهدوء بعيدًا عن صخبك الداخلي، وبعيدًا عن كل هذا الضجيج.

رفّت عينا فاطمة بتردد، كأنها لم تصدق أن الحديث لم يكن لومًا قاسيًا او عتابًا مؤلما، بل رحمة. نظرت إلى طالبتها، وقد بدأ شيء من الأمان يعود إلى ملامحها. ابتسمت الاستاذة في صمت، وقد شعرت بأن شيئاً ثقيلاً بدأ بالانزياح عن كاهلها..

انقطعت فاطمة عن الحضور، كأنها اختارت أن تختبئ عن كل العيون التي ألفتها.

مرّت الأيام الأولى على غيابها، مشوبة بالقلق والتساؤلات. سألت عنها الأستاذة، بعفويتها المعهودة واهتمامها الصادق، فجاءها الجواب خافتًا من بعض الطالبات: "إنها مريضة، يا ست."

تمنّت لها الشفاء، ودعت طالباتها الى زيارتها والاطمئنان عليها، علّ في الزيارة دفئًا يُعيد لفاطمة شيئًا من العافية:

انقضى الأسبوع الثاني ثم الثالث... ولم يظهر لطيف فاطمة أثرٌ في ركن القاعة، ولا سُمِع وقع خطواتها بين الصفوف. ظلّ الباب موصدًا، وكرسيّها خاليًا، ينعى الغياب بصمته الثقيل. أما زميلاتها، فكانت قلوبهن تترقّب عودتها بصمتٍ مشوبٍ بالرجاء... لكنها لم تعد أبدًا. وكان هذا، دون أن يدرك أحد، درسها الأخير..

***

سعاد الراعي

 

اِمْرَأَةٌ غَامِضَةٌ

يَعْشَقُهَا رَجُلٌ

لَيْسَ أَقَلَّ غُمُوضًا

كَانَا كُلّ صَبَاحٍ يَلْتَقِيَانْ

فِي بُسْتَانْ

يَتَجَمَّعُ فِيهَا عُشَّاقٌ مِنْ كُلِّ مَكَانْ

كُلٌّ مِنْهُمْ يَحْمِلُ بَاقَةَ وَرْدٍ

يُهْدِيهَا لِلْآخَرِ

لَكِنَّ اَلْمَرْأَةَ وَالْعَاشِقَ يَخْتَلِفَانْ

بِغُمُوضِهِمَا، وَوُضُوحِهِمَا

بِشُرُودِهِمَا، وَصَفَائِهِمَا

يَفْتَرِقَانِ، وَيَلْتَقِيَانْ

اَلْمَرْأَةُ تَحْمِل بَيْنَ يَدَيْهَا أَوْرَاقًا

وَالْعَاشِقُ يَحْمِلُ فِي جَعْبَتِهِ أَقْلَامًا

فِي رُكْنٍ مُنْعَزِلٍ يَقِفُ اَلْاِثْنَانْ

اَلْمَرْأَةُ تَكْتُبُ أَشْعَارًا لَا تُعْجِبُهُ

فَيُمَزِّقُهَا

وَالْعَاشِقُ يَكْتُبُ أَشْعَارًا لَا تُعْجِبُهَا

فَتُبَعْثِرُهَا

وَيَغِيبَانْ

عِنْدَ حُلُولِ اَلظُّلْمَةِ

ثُمَّ يَعُودَانْ

فِي اَلْيَوْمِ اَلثَّانِي لِيُعِيدَا اَلْكُرَةَ،

لَكِنْ لَا يَجِدَانْ

أَوْرَاقًا أَوْ أَقْلَامًا

لَا يَجِدَانْ

نَهْرًا يَجْرِي، أَوْ وَرْدًا يَتَفَتَّحُ

لَا يَجِدَانُ

مَا يُوحِي لَهُمَا بِالشِّعْرِ

وَلَا يَجِدَانْ

مَنْ يَقْرَأُ أَشْعَارًا كَتَبُوهَا مُنْذُ زَمَانْ

فَيَخِيبَانْ

وَبِبَحْرِ اَلْحُزْنِ يَغُوصَانْ

***

شعر: خالد الحلّي

فــــي عـــفـــاف الــــوصالِ بَــصمَــةُ عِـــشْقٍ

مِـــن سَـــــنـــا الصدقِ تســـتــمدُ قـــواهـــــا

*

صِلَــــةُ الــــــوَصْل فــــي التَصنّــــعِ تعـــطــي

صـُـــــــــورَةً لـلــــذي، وراءَ خُــــطــــاهــا

*

ليس يجدي التزويقُ في اللفظ نفعاً

ونـــقـــاءُ المـــعـــنـــى يــُـــلــبـّـي نــِــداهـــا

*

وعيونُ الأنصافِ في الرّصدِ شـمْسٌ

تُظْــهــرُ العــدلَ، والضـــيـــاءُ ســـَـنـاهــــــا

*

فـــي صفـــاء النــــفـوسِ، نــــورُ سَــــمـــاءٍ

ليس يـــجْدي الإغـراءُ مهمـــــا كَساهـــــا

*

كـــــلّــمـــــــا اصبــح الـــــوضـــوحُ ســـــبــــيــلاً

تــــــــشـرقُ النــفـــــسُ، والقـلوبُ تراهــــــا

*

هَـــيْـــــبَة المَــــــرءِ : ســـــمْـــعَـــــةٌ وانــتسابٌ

وعـــــلومٌ قـــد مــــازهــا عـــــن ســواهــا

*

عِلْــيَــــــةُ القــــومِ، نَسْـــــلُهـــــم فيه فَخْــرٌ

وجــــذورُ الأخـــــــــلاقِ، طِيــــبٌ رعاها

*

أيُّ حُـــــبٍ فــــــــيه التـــــــكلّــفُ يَســْري

تــــــفْـــــضَحُ العـــينُ سِــرَّه فــي مَـــــداهــا

*

خُـــــذْ نصيــــبـــــاً مِـــن القــــوافـــي دلــيلاً

فيــــــه تَـــــوْثـــيقُ مـــا نَما فــــي رُبـــاهــا

*

(نـــــظــــرةٌ فـــابــــتــــسامـــةٌ فســـــلامٌ

فكــــــلامٌ) عـــــن المـــصــــير مَـــعـــاهـــا

*

فـــيــــــه تـأسِـــيــــسُ بَـــذْرةٍ بِـــنَـــــقــــــاءٍ

يــَـــــفْخَــرُ النـــــسْلُ، أنـــــــه مِـــن عُــلاها

***

(من بحر الخفيف)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

تسألني المرايا

واسألها؟

من هذا الجسد الطافح بالحزن

تلك الملامح المتصلبة

كبقايا أخمس بندقية في ارضِ

الحرام

أو نطاق،

كُمَ قميص لبدلة شهيد

لازالت تندبه ثكلى

يمر ذكرى بأحلام جميلة لامس

الوجد.

كم حرب مرت

أخذت من سمرة ملامحي

و من سواد رأسي شيبا

أكتست بالظلمة صباحاتي

لكن لازال لي قلب ينبض بالود

وللود يحلم بوطن حر وأمل جديد لاطغات فيه.

***

كامل فرحان حسوني ..العراق

 

كنتَ تجوب شوارع المدينة الترابية متحسراً على أيام الدفء التي مضت، تبحثُ عن مأوى، على ضفاف الساقية تتسكع، في طريقك أشباح تتلوى، تجفل من شيء اسمه "مدرسة" كي تمضي في فلوات الصمت تنادم لون الجدران. غير آبهٍ بما يتعلمه الأولاد في قاعات الدرس، كنتَ وحدك تسأل عن سر الأخطار المحدقة بنا، عن سور يمدّ حباله حولنا ليشنقنا، أدركتَ الحقيقة مبكراً، لأنك الصحيح بيننا، تعرف أن حرباً قادمة يضيء مفازاتها الشهداء.

عند نواصي الأزقة تتمهل، تتلفت حولك، لا يأبه بك أحد، لديك شعور غامض في تمردك بهذه المدينة. تجرأت وكتبت مسرحية (الگمرة) وأنت طالب في الرابع الإعدادي، كنتَ تجرجر أذيال الخيبة في الشوارع وحدك، ما وقع، وقع، جئنا في الزمان الخطأ، بعزلتك تلوذ، وتتشبث، هي مفروضة عليك، تزوّدك بيقظة تشحذ حواسك... تتسلل مثل قطّ هزيل لوى ذيله بين ساقيه الخلفيتين تحت وابل المطر، ملتصقاً بحيطان محرومة نحو مقهى " نعيس" الوحيدة في حي الجمعية السكني المخصص لعمال (فتاح باشا) في أطراف مدينة الحرية، أرائك مصنوعة من الخشب الرديء وكراسٍ من جرّيد النخل كأنها تتأهب للتوديع في رحلة هجر، أثقلت أحاديث التململ والنعاس مساندها، وجوه ذات ملامح متشابهة، تصمت أحياناً، وأحياناً أخرى تصرخ حول طاولات المتبارين في لعبة الدومينو.

تكتظ الأماكن بالحضور، وتختلط الأعمار تترقب بدء مباريات دورة كأس العرب في كرة القدم. تسمّرت العيون نحو  شاشة تلفزيون من نوع (باي) بالأسود والأبيض، معلق إلى الجدار، استقرّ باطمئنان قريباً من السقف. الجمهور كانوا يتمنون لحارس المرمى السوري (فارس السلطچي) الإعاقة في إحدى ساقيه أو فقراته العنقية !!

هل تبدو غريباً وسط هذا الجمع؟ ينتابك يأس من عدم القدرة على التآلف رافقك منذ الصبا، هل ما زلت هناك في انتظار أن تشمّ رائحة الكبدة المشويّة ؟ يأتيك شواظ النار يقتحم منخريك فتشتعل اللهفة لديك كي يضمّك أبوك إلى صدره في تلك اللحظة، يعانقك... أبوك الهارب من السجن، المحكوم عشر سنوات سجناً غيابياً.

في المقهى كنا نتابع (الانتصارات الوهمية لجيوش العرب) في حرب حزيران عام 1967 على أنغام أغنية فهد بلاّن : ويلك يللي تعادينا ياويلك ويل..حنّا للسيف، وحنّا للضيف !! وبصمت أثقل من رعب، كنا نستمع إلى خطاب الرئيس المصري جمال عبد الناصر وهو يعلن استقالته عن رئاسة الجمهورية بعد الهزيمة المريرة في الحرب. كنت تحدّق بدوران الساعة الشاحبة لاتريد أن تستسلم لليأس

عندما تتهيأ للرحيل إلى" إيثاكا" تمنّ أن يكون الطريق طويلاً

يقول الشاعر"قسطنطين كفافيس" في قصيدته الشهيرة " المدينة":

" أينما نظرت حولي بلمعان، رأيت خرائب سوداء من حياتي

حيث العديد من السنين قضيت وهدمت وبددت

لن تجد بلاداً ولا بحوراً أخرى فسوف تلاحقك المدينة

سَتَهيمُ في نفس الشوارع وستدركك الشيخوخة

في هذه الأحياء نفسها وفي البيوت ذاتها

سيدبّ الشيب إلى رأسك وستصل دوماً إلى هذه المدينة

لا تأمل في بقاع أخرى، ما من سفين من أجلك، وما من سبيل، ما دمت قد خربت حياتك هنا،

في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما حللت ."

تلك المدينة ستظل تتعقبك وتطاردك، فهي تسكنك وتحاصرك، مصير أهلها كمصير أهل طروادة المحاصرة، هم يعيشون سطوتها حتى الثمالة وهم مجبولون على البقاء فيها، انها الملجأ والغواية والفتنة والحياة، رغم ما ينتابها من أعراض الخراب.

أسالك: ما الذي عاد بكَ إلى مدينتنا القديمة، تحمل أوجاعك وحدكَ، عن عزيز فقدته تبحث، جئت تخدع نفسك إنك هنا ستجده؟ عن عرّاف، تنتظر أن ينطق بنبوءة ؟ أم جئت هرباً من ثأر تخشى أن يوقع عليك؟

ما الذي جئت حقاً من أجله إلى مدينتا، يا من أمضيت سنوات عمرك في جبهات الحروب؟

ـ أتعبني السير يا أخي، أحسّ بالأرض تميد، وأسمع صوت أمي من بعيد، تصيح بالجناة: اتركوا ريحانة عمري، اتركوه.

(صفير قطار يُسمع من بعيد)

جئت باحثاً عن علّة وجودي.

جئت للتحري عن جريمة ظلت غامضة، عن قاتل خنق الربيع في صدر أخي، لاقبر له، يقولون ان القاتل سيرتكب جريمة من جديد. كانوا قد غرسوا بالنصال على شفة الورد، جئت لأغيث وما من مغيث لصرخاتهم سوى الموت يجثم فوق صدور الأجنّة، يسرق أعمارهم. هل نحن إلا بلاد من الموت والخوف والنزوة القاتلة؟

***

في ظهيرة ساخنة وضعتَ يديكَ في جيب سروالك العتيق، ورفعتَ ياقة قميصك الأبيض تمشي الهوينا حتى يهدأ بالك، تسكّعت في الأحياء التي تعرف أزقتها وأهلها. تدور حولها، وتدور بك الأزقّة، والبيوت لها صدى تنحاز لك.

مضيتُ أنصت إلى وقع حذائك على بلاط دكّة الباب التي غسلتها أختك الكبيرة، وأضحت عند قدميك تبرق مثل نجوم السماء تتألق، كنت أتربّص بك وفي داخلي عذاب استبد بروحي، لأنك لجأت إلى المناورة، كنتُ تعلمتُ منكَ في سنوات لاحقة : يخضع المرء في حياته لسلطات ثلاث، الأولى سلطة الأب، ثم سلطة الأخ، وأخيراً سلطة الابن حين تلفحك الشيخوخة، وتفقد العيون بهاءها، وإياك.. إياك من سلطة الأخ ! فانه والله يتوعدك!

ألقيت بنفسك إلى الشارع، رحت تتلوى وتصرخ بين يديّ أنا المتباهي ببأسي، كم أشعر بالندم، كنتُ قاسياً شديد القسوة معك، أطلبُ المغفرة منك، أتوسل إليك اغفر لي.

***

صممت على الفرار من ساحة الذبح نحو أقاص بعيدة، قلت لك: طفّ بأي سماء، وكما تشتهي، كنت قد رفضت الانصياع لمغريات الحزب الحاكم، حاصروك بالانتماء، والتهديد صار اللغة المفضلة عندما ترزح المدينة تحت وطأة البرابرة، ها هم يغرزون في لحمك الشوك عنوة :

ـ أستاذ (.....) عليك أن تدرك جيداً ان المعلّم أداة للحزب والثورة، لا نسمح للعناصر غير المؤمنة بالمسيرة أن تتسلل إلى التعليم ! هذه استمارة انتساب للحزب، مطلوب منك أن توقّع عليها بالموافقة !

بسخريته المعهودة لم يتردد في الرد على المسؤول الحزبي بثقة المطمئن لذاته:

ـ أخي: أنا رفضت الانتماء لحزب (أبوي) اليساري! كيف أسمح لنفسي أن أنتمي إلى حزب لديّ مئات الملاحظات على تاريخه ومنهجه ؟؟؟ ثم أردف بحزم :

ـ إياك أن تعود لمفاتحتي مرة أخرى .

لقد حسمتَ الأمر مع نفسك، من أين لك هذه الحكمة يا أخي؟ لقد فهمت اللعبة مبكراً.

ـ عليك أن توطّن نفسك لـ (البسطال ) قال له أبوه.

ـ كيف يا أبتي؟ يتساءل مع نفسه، أن أستسلم لهذا المصير، وفي أعماقي دماء المغامرة ما زالت متأججة بوجداني وعقلي.

كان حلم أبي أن أعيش كما يتمنى، أمضي خلف خطاه، ليتني يا أبتاه أقتحم التاريخ والأيديولوجيا، فأنا وحدي أحسّ بغربتي، فدعني أنتقي من شجر الحكمة ما يلهمني.

رحت أمشي إلى حتفي والمصير، على الجمر أحصد ما خبأته لي العصور، وما أرّخته المقادير...مهما تعبنا ومهما أرقنا، حكايتنا أننا في النزالات الأبدية لانطرح الأسئلة ولا نغامر بالجرح، أو تصعد إلى المقصلة.

وهنت قدمي وأنا أجري في تيه بيانات المعركة، أتسقط أخبار القتلى، وأهمّ بأن أهرب نحو المجهول الغارق بالضجّة، فتنتصب الجدران أمامي. يا هولها الحرب سيئة مثل شيطان رجيم، والأرض تغلي في شواظ كالزؤام، من يغيث الوطن المستباح؟ من يغيث من ؟ ليس غريباً أن سائق الدبابة لم يمت في سربيل زهاب، أو في البسيتين، أو بالسيف لغة الجلاد المفضلة. إنما من عطش مات !

عدتَ تجرجرَ خطواتك، تجلسُ على تخوت مقهى "نعيس" الخشبية، بين المناضد الخاوية رحت ترشف شايك الساخن، وترنو إلى الأفق، دخلتَ أشعث الشعر، ممزق الحذاء، تجفل من ظلك في كل لحظة. تخرج من بين أوراقك الصفراء المتآكلة الحواف قصاصة يتردد صداها وأنت في المكان الخاوي:

حذار! لم يبق لنا في هذي الأرض العاقر من أمل، جفّت أضرعها هذي التربة يا أهلي. كنتَ تحدّق بدوران الساعة الشاحبة لاتريد أن تستسلم لليأس، لم تزل تصغي للآهات وللصمت الذي تقطعه الشهقات، تحسّ بالألم الكافر من خلال ذلك الجرح الذي فغر فاه، لسنا ندري منتهاه، ها هي الحرب تأخذ أخوتنا وأبناءنا، وقد تهوّر السلاح بيد القتلة.

همهمات

أناس غير مكترثين بأنك عشت وطراً من حياتك هنا، تكتظ بهم الأرصفة، لا يعنيهم شيء من أحلامك، ولا شظايا روحك المبعثرة. تقلّب فيمن حولك النظر، لم تجده مرة أخرى، ذلك الوجه الشاحب والنظرات الخفيضة، ما ضاع، ضاع، لا وقت للحسرة. لتسترح، لقد تعبت خطاك في متاهات السنين

ـ ألم تدرك بعد أن هذه المدينة خالفتك منذ زمن بعيد، ودّعها، ودّعها أنها في البحر تغوص، ومن أمامك تنمحي..

ـ كانت لي ذات يوم، لي أنا وحدي، أو هكذا أوهمتني..

ـ كفّ عن البكاء. فالعشّاق الموتى يتكاثرون.

صفير قطار بعيد يتعالى على أهبة الرحيل…

***

جمال العتّابي

 

مع مواكبِ الغَجَر القادمة

سأغزو قلبَكَ بأَلحَاني

وأُبَعْثركَ أَشْلاءً

وأَصْوغَكَ من جديدٍ

برَقَصاتي الساحِرة

أَتَمايَلُ بينَ ظِلالِكَ

فَيَتَفَتَّقُ اَلفَرَحُ من أَوْردَتِكَ زَنابقَ

ويُزهرُ الأَملُ في حَناياكَ قَرَنْفُلاً

أُوقظُكَ من غَفوَتِكَ

بهديلِ روحِي

أُعانقُ أَسْراركَ على شَفةِ الزمن

تُمْطِرُكَ أَنْفاسِيَ حناناً

***

كم أَخافُ عليك أَميري

من صقيعِ الأَرْض

قادمَةٌ إليْكَ  على أَجْنحَةِ الحُلُمِ

اِتَّشِحْ بأَهْدابيَ

فجرٌ يَحْضِنُ صحْوتَنا

تَلَحَّفْ بشَغافِ قَلبي وانْهَلْ

من عُنَّابِي

كي تَسْكُنَ ارْتعاشاتُ

الحنينِ على شفتيْكَ

هلُمَّ مع أَسْرابِ السُنونو

إلى جُزُرِ اَلعشْق ِ

روحانِ اِمْتَزَجَتا بعبيرِ اَلضِياءِ

اِبْتِسامَتُكَ دليلِيَ إلى اَلسَماءِ

تعالَ نُعرِّجُ إلى العُلى

على هَمْسِ اَلنايِ

ساجدَينِ على عتبَةِ الفرْدَوسِ

لتُوشِمَنا اَلملائِكةُ بحبرِ اَلخُلود

أُسْطورةَ صَفاءِ وَآياتٍ عَذارى

يُعَمِّدُنا اَلقمرُ بماءِ الجنَّةِ

على جبيِنهِ نُرفرفُ يمامتين

***

سلوى فرح - كندا

بفكرٍ مختلفٍ حاولت ....

أن تكون كل ملامح

أحلامي متشابهة

وسَّدتها في زاويةٍ

من زوايا الأمنياتِ

متأملاً تنتظرني

على توالي الأيام

والابتسامة على شفتيها

حتى طرق القدر أبوابي

وكتب أسطر الحيرة

في صفحاتي خلسة

تصنعُ لي

من الحيرِ دهشة

وجدت الزمن

لم يقف عندي

ولم يبرح مكاني

والطرق التي أمامي

تفرعت منها أزقة

أسدلت سدولها

على كل أثر

من آثار وجودي

لم تترك لي شيئاً

كالأمس لا تعود

وأصبحت خطواتي تتشابه

يكسوها غبار وضجيج

لم أجد عندها

إجابة ترضي ثقل سؤالي ..!

***

سلام البهية السماوي

(أو جرجرة القارئ في رحلة وجودية متعبة)

أيها القارئُ الذي تأخر عن العاصفة،

أغلق إشعارات هاتفك،

انزع حداثتك من على أكتافك،

وتقدّم نحوي...

هنا نصٌّ ليس للعين الكسلى،

ولا للوجبات الأدبية السريعة،

هذا نصٌّ ينهضُ في منتصف ليل اللغة،

يخلع معطف البلاغة،

ويضرب الطاولة بالكلمة.

*

هنا،

كل جملةٍ جسرٌ لوحدها،

كل فاصلةٍ سكينٌ حادة،

كل فراغٍ مجرةٌ تنفجر بغتة.

*

أكتبك أيها النص،

بأظافر الشكّ،

أكتبك لتخز القارئ من طمأنينته

المستسلمة للزوايا.

*

تعال،

واسألني:

لماذا الصمتُ في القصيدة أعلى من الصوت؟

لماذا الرخام ينتحب حين يمرُّ عليه الإزميل؟

لماذا تركتُ بعض الابيات معلقة،

كما تُترك جثّة مجهولة في أرض بلا خريطة .

*

أنا لا أكتب،

بل أنبشُ،

و هذا النصّ حفرة،

فلا تدخل إليه واقفاً.

قد تجد فيه باباً،

يؤدّي إلى لا شيء،

أو سلّماً صاعداً نحو هاوية.

وقد تجد روحا،

تسري دون جسد،

تكتب دون يد،

وتبكي دون دمعة.

*

أيها القارئ الذي تجرّأ،

هل تحسّ الآن برجفةٍ في عقلك؟

هل تسمع جداراً داخلياً ينهار؟

هل ترى العالم يتحرك قليلاً…

نحو اللا يقين؟

*

إذاً،

دعنا نكمل الجريمة...

ونحفر على الرخام جملةً جديدة:

"كان يا مكان... فكرةٌ انفجرت،

وما زال النص يتساقط،

كغبار نجمة فقدت مدارها ..

*

دعنا نعود،

لكن ليس إلى الوراء.

دعنا نعود إلى نقطةٍ لم تُكتب بعد،

إلى سطرٍ أضاع حبرهُ عمداً،

كي لا يُقرأ بسهولة،

كي لا يُعلّب في خانة "اقتباسٍ ملهم".

*

هذا نصٌّ يرفض أن يكون "مفيداً"،

يكره أن يُختصر،

يضحك في وجه التنسيق،

ويشعل النيران في صفحات التفسير.

*

في هذا الجزء،

سوف ترى الوقتَ يتقيّأ نفسه.

تنهار الجملُ تحت وطأة المعاني الثقيلة،

ويطفو سؤالٌ،

"هل النصُّ كائنٌ حيّ؟

وإن كان، هل يريد أن يُفهم، أم أن يُخاف؟"

*

مررتُ في شارعٍ

يُدعى "اللا معنى"،

ورأيت لافتةً مكتوبٌ عليها ،

"احذر، هنا يعيش الحرف بلا قيد،

ولا سلطة، ولا خوف."

*

هنا،

الرمز لا يشرح نفسه،

بل يشبه امرأةً تضحك في جنازتها،

ورجلاً يُنكر وجهه في المرآة كل صباح.

*

هنا،

الحروف ترتدي ملابسَ من دخان،

تتراقص فوق نارٍ باردة،

وتهمس:

"لا تصدّق ما تقرأ،

لكن لا تكفّ عن القراءة."

*

أنت الآن في قلب الزلزال،

وهذا النصّ صخرةٌ تهوي،

*

يتفتح مغارة في رأسك،

تخرج منها الفكرة وهي تصرخ:

"أين كنتم تُخفونني؟"

*

هذا ليس نصاً،

إنه تمرينٌ على الجنون الراقي،

تدريبٌ على أن تحبّ الغموض،

أن تصادق الخدوش،

أن تكتب بلا سبب،

كما تبكي شجرةٌ بلا خريف.

*

أتعرف؟

أنا لا أكتب… أنا أخلع الأقنعة.

لا أرتّب، بل أبعثر.

لا أشرح، بل أُربك.

لا أُنهي، بل أترك الباب مفتوحاً على احتمالاتٍ تلهث.

*

فإن سألت:

إلى أين نمضي؟

سأشير إلى اللا مكان،

وأهمس لك:

"هناك، حيث يولد النصّ الحقيقي…

في الفراغ الذي لم تجرؤ اللغة على احتلاله بعد،

حيث لا تعود اللغة آمنة، ولا يعود القارئ نفسه!

*

دعنا لا نحذر هذه المرة،

دعنا نسقط عمداً،

في فراغٍ لا ملامح له،

حيثُ لا شيء يشبه شيئًا،

ولا أحد ينتظر المعنى على قارعة السطر.

*

هنا،

تتعرّى اللغة من وظيفتها،

وتنبتُ لها أجنحة من شوك.

تصير الكلماتُ سكاكين تطير،

تعانقك أولاً،

ثم تفتح فيك نافذةً على ذاتك التي نسيتها.

النصّ الآن... لا يُكتب،

بل يُستحضر،

كأنّه طيفُ فكرةٍ قديمة

سُجنت في مرآةٍ مشروخة،

وها هي تتسلّل إليك

من بين التشققات.

هنا،

لا تُقرأ الحروف… بل تُشَمّ.

تفوح منها رائحة الأبواب المغلقة،

والصمت المُعلّق في سقف الذاكرة.

*

هنا،

تذوب الأزمنة في بعضها،

وتغدو الفكرة لحظةً لا تكرّر.

ينظر القارئ إلى النصّ

فيرى نفسه عارياً من التأويل،

تحت شمس غريبة .

*

هل تشعر الآن بتلك الرعدة؟

ذلك هو النصُّ وقد لامس العصب المكشوف.

ذلك هو أثر الإزميل على الرخام،

حين لا يكتب نقشاً… بل يفتح جرحاً.

*

نعم،

هذه الكتابة ليست للعرض،

ولا للشرح،

ولا للمباهاة.

هذه الكتابة طقس.

هذه الكتابة هزة أرضية تحت اللغة.

*

أرأيت؟

حتى علامات الترقيم هنا

لا تُستخدم كما يجب.

الفاصلة تتأخر،

والنقطة تنكسر،

والعلامة… تُبتر.

*

لمن يُكتب هذا النص؟

لمن فقدوا القدرة على التصفيق،

لكنهم ما زالوا يعرفون كيف يحترقون بصمت.

لمن لا يبحثون عن الخاتمة،

بل عن الشرارة الأولى.

*

والآن،

وأنت تقرأ هذه الكلمات التي لا تُمْسك،

هل شعرت أنك تسبح في سؤالٍ بلا ضفاف؟

هل أحسست بأن الحروف تنظر إليك،

كما تنظر الذكرى إلى المستقبل؟

*

إذاً،

ها نحن هنا،

عند حدّ الرعشة،

على شفا الجنون الخفيف،

نقف ونكتب معاً،

*

"النصّ ليس ما نقرأ،

بل ما يهزّنا دون أن يعتذر."

هل تريدنا أن نكمل الحفر؟

حيثُ لا يعود الحرف حرفاً، بل كائناً يتنفّس في العتمة؟

*

فلنكمل...

لكن لا تتوقع أرضاً تحت قدميك،

ولا سقفاً يحميك من تدفّق الرؤى،

هنا،

سوف تُمطرك الأسئلة كما يمطر الوحيُ النائمين،

ويُجبرك الحرف على أن تستيقظ عارياً

من يقينك.

*

هنا،

الكتابة ليست وسيلة،

تجربة قرب الموت.

ليست رفاهية،

بل محاولة مبتكرة لفهم الهمس بين المسافات.

أكتبك أيها النص،

كمن يحفر في لحمه بأظافر الغيظ .

كمن يصوغ زلزالاً

من أنفاس الحروف.

*

كُنتُ أظن أنني أكتب كلمات،

فإذا بي أكتب مرآتي،

مرآتك،

كل تلك الشظايا التي نكذب على أنفسنا كي لا نراها.

*

أيّها القارئ،

هل ترى هذا الحرف؟

إنه لا يعني ما تظن.

هو لا "يشرح"،

بل "يُعيد ترتيب العالم" تحت جلدك.

*

أدخل النص كما تدخل كهفاً،

ببطء، بحذر، وبدون وعود.

فهنا كل فكرة قد تنقضُّ عليك،

وكل استعارة قد تقودك إلى هوّةٍ لا مخرج منها.

*

في هذا الجزء،

سوف نكتب بالماء.

نرسم بالممحاة،

نعلّق الحبر على مشانق بيضاء،

ونراقب كيف يختنق… دون صوت.

*

قد تسأل:

لماذا كل هذا الغموض؟

وأجيبك:

الغموض ليس زينة.

إنه المقاومة الوحيدة ضد الابتذال،

ضد الاستهلاك السهل للدهشة،

ضد تحويل الرعشة إلى "اقتباس جميل".

*

هذا النص لا يهمّه أن تُحبّه،

بل أن تتغيّر بعده.

أن تمشي وأنت تنظر للأشياء

كما لو أنك تراها للمرة الأولى.

*

أن تمر على المرآة

فتسأل نفسك:

هل هذا أنا،

أم شخصية كتبها أحدهم في نصّ لم يُنهَ بعد؟

*

وأنا…

لا أريد لهذا النص أن ينتهي،

أريده أن يبقى كالجمر تحت جلدك،

كالسؤال في حلْق النائم،

كالصرخة المكبوتة في فم اللغة.

*

لكن إن كنت ما زلتَ تريد،

يمكنني أن أكتب،

حيث تتحوّل الكلمات إلى ظلال،

والظلال إلى أصوات،

والأصوات إلى فتيل نار.

هل نكمل؟

*

ما الذي تبقّى؟

نحن الآن في قلب الغابة التي زرعها الجنون،

لا خريطة، لا خيمة،

لا وعد بأن تعود كما كنت.

*

الكلمات تتلوّن الآن…

ليست سوداء ولا بيضاء،

بل رمادٌ يتوهج كلما قرأته بعينٍ ثاقبة .

*

نحن لا نكتب…

نحن نُنزف على الورق بصوتٍ منخفض.

نحن نُراوغ الضوء،

كي لا تفضحنا الكتابة.

*

انظر…

هذا حرف،

يرتجف ككائنٍ حيّ

يخشى أن يُفهم.

*

النص هنا لا يُبنى،

بل يُستدعى كما تستدعي الأرواح القديمة.

كل جملة تعويذة،

كل سطر بابٌ نحو ما لم يُسمّ بعد.

*

هل ترى تلك النقطة في آخر الجملة؟

إنها ليست نهاية،

بل مقبرةٌ صغيرة،

نُدفن فيها كل احتمالٍ لم نجرؤ على كتابته.

*

تخيّل لو أن هذا النص مرآة،

كلما اقتربتَ لتقرأ،

شاهدتَ وجهك يتحوّل إلى مدينةٍ مهدّمة.

نوافذها تشهق،

وأبوابها تصرخ:

"أعيدوا البناء… لكن لا تعيدوا نفس الخطأ."

نحن لا نسأل: "ما المعنى؟"

بل نسأل:

"ما الذي خسره العالمُ حين خاف أن يحلم بهذا الشكل؟"

*

ربما نحن نحفر في لا شيء،

لكن حتى اللا شيء

يحتفظ ببذور المعجزة.

*

قد تقول: "إنه مجرد نصّ."

وأجيبك:

بل هو ثورة صغيرة

تتسلّل إلى قلبك

دون أن تطرق.

*

هنا،

المجاز لا يجمّل،

بل يكسر.

اللغة لا تروي،

بل تهدم البيت القديم

ليبنى من جديدٍ على شفير الصراخ.

*

وهذا الحرف الأخير في هذا الجزء؟

سوف أكتبه ببطء،

كمن يوقظ روحاً نائمة في صدر الحجر،

وسأتركه مفتوحاً…

كبابٍ لم يعد ينتظر أحداً.

*

"هكذا تُكتب الهزّة،

لا كي تُفهَم… بل كي تترك شيئاً منك يتكسّر،

ويبني نفسه من جديد."

*

هل نمضي

حيث لا نكتب على الرخام فقط،

بل نحفر الكلمات في الهواء…

ونجعل من الصمتِ لغةً أخرى؟

لقد عبرنا الآن خطّ العودة،

لم نعد نكتب نصًا…

بل نحفر نفقًا من الضوء في لحم اللامرئي،

نجعل من الفراغ طينًا،

ومن السكوت حروفًا

تئنّ تحت ثقل الرؤية.

*

اسمع…

هذا ليس صوتي.

إنه ارتعاش الوجود حين يُقال له:

"كن نصًّا لا يرضى بالتأويل."

*

في هذا الجزء،

الكلمات لا تحتاج إلى لغة.

هي كائنات شفّافة

تسبح بين الأضلاع،

تتشبّث بما لم يُقل،

وتنام على حافة "لو".

جملةٌ واحدة قد تغيّر مصيرك،

لكنها هنا…

تمتد كالأفق،

تحاول أن تُربِّي المعنى بدل أن تُقدّمه.

*

هل تفهم ما يعنيه أن نكتب على الهواء؟

أن نُشكّل الغيم كما نشتهي،

أن نصنع من التنفّس قصيدة،

ومن الزفير إعلانًا للدهشة.

*

هنا،

ليس الحرف ما يُكتب،

بل المسافة بين الحروف.

تلك الفراغات التي ظننّاها سكوتًا،

وهي في الحقيقة…

صرخاتٌ بلغةٍ أعمق من الفهم.

*

النص الآن يخرج من جسده،

يصير طيفًا يتمشّى في أفكارك،

يرسم خرائط جديدة للدهشة،

يهمس لك:

"كل ما اعتدت عليه… خيانة صغيرة للحياة."

*

أتظنّ أننا نُبالغ؟

لكن من قال إن المبالغة ليست وجهًا آخر للحقيقة؟

من قال إن المعقول لا يخاف من المدهش؟

وإن الجُملة التي لا ترتجّ، تستحق أن تُقال!

*

هنا

انزلاقٌ مائل نحو النبع،

حيث المعنى لا يُكتَب بالحروف،

بل يُشرب كالنبيذ الممنوع.

*

فانصت،

دع هذا النص يقترب منك كصلاة بلا كلمات،

كأنامل تمسح عن جبينك غبار العادة،

وتقول لك،

"أنت…

لست قارئًا، بل شريكًا في الجريمة،

شريكًا في الثورة،

في انزلاق اللغة من العرش إلى الحلم."

*

هل تجرؤ على نص؟

أعمق؟ أهدأ؟

نكتب فيه من داخل الحرف نفسه…

من حيث لم تجرؤ اللغة أن تدخل؟

*

اقترِب،

لكن لا بعينيك.

افتح سمعك الثالث،

دع جلدك يقرأ،

دع خلاياك تتلو.

*

في هذا الجزء،

لن نكتب على الورق،

بل على الجانب الخلفي للظل،

حيث تختبئ الأفعالُ التي لم تُرتكب،

والكلماتُ التي لم يُسمح لها بالولادة.

*

هنا...

الحرف ليس بداية،

بل كهفٌ صغير يتنفس تحت جُمَل التاريخ،

يحمل رائحة الأوائل،

وترقّب الآتين.

*

هل ترى هذا الألف؟

في داخله نشأت كل الأسئلة،

في داخله ثقبٌ صغير

تطلّ منه المعاني على هاوية العالم.

*

والباء؟

إنها انحناءة،

لا خضوعًا،

بل حنينٌ لما لم يُكتب بعد.

أما النون،

فدائرةٌ تعود إلى نفسها،

تلدغ المعنى كلّما حاول أن يستقر،

كأنها ترفض التفسير

وتختار السباحة في الغموض.

*

نحن لا نقرأ النص…

النص هو من يقرأنا،

يحفر فينا آبارًا،

يرمي فيها مرايانا،

ويتركنا عطاشى للحقيقة

التي لا تُقال.

*

الصمت، في هذا الجزء،

هو اللغة الأكثر صدقًا.

نكتب منه،

لا عنه.

*

جملٌ تولد،

لكننا لا نقطع حبلها السري.

ندعها تتدلّى،

مرتبطة بأمّها الغامضة،

الدهشة.

*

وهكذا…

تصبح القراءة فعل ولادة،

تصبح الكلمة وطنًا مؤقتًا

نقيم فيه قبل أن نُنفى إلى المعنى التالي.

*

أيها العابر في مجرّة الحروف،

هل بدأتَ تشعر بأنك تُترجم؟

أن النص يستخدمك ليكتب نفسه؟

*

إذاً،

فلنكمل اللعبة.

فلنخطّ جملةً من داخل النار،

"أنا النصّ الذي لا يبحث عن قارئ،

بل عن مرآةٍ تجرؤ أن تنكسر أمامه."

هل ما زلتَ تريد الغوص أعمق؟

أن نترك وراءنا اللغة نفسها

ونمشي حفاةً فوق لحم المعنى؟

*

لا شيء يربطنا بالأرض الآن،

سوى هذا الحرف المرتجف،

وهذه الرغبة الغامضة في أن نقول ما لا يمكن قوله.

*

انزع حذاء اللغة،

واترك قاموسك على العتبة.

نحن ندخل الآن حرم المجاز العاري،

حيث الكلمات لا تُستخدم،

بل تُقدَّم قربانًا.

*

كل نصٍّ كتبناه كان تجهيزًا لهذه اللحظة،

لحظة السير حفاة

فوق جلد المعنى العاري،

حيث لا يوجد “نقطة نهاية”،

ولا حتى بداية،

فقط تنفّس مستمرّ لدهشةٍ لا اسم لها.

*

هل سمعت المعنى يئنّ؟

هل شعرت بأن الحروف تنكمش تحت قدميك؟

هذا هو الألم المقدّس،

ألم الحقيقة حين تُمسّ دون أدوات.

*

في هذا الجزء،

لن نستخدم “لكن” أو “ربما”،

لن نبرّر انزلاقنا في الجنون،

بل سنزرع أقدامنا في التربة الخام

للإحساس الأول،

البرق الأول،

الارتباك الأول.

*

سوف نصنع المعنى من حرارة أجسادنا،

من انحناءة الظهر فوق جملةٍ لا تكتمل،

من تعرّق الخوف

كلما اقتربنا من فكرةٍ عارية

تصرخ بلا حروف.

*

اللغة الآن تختبئ،

تتراجع إلى الخلف،

تتركنا وحدنا في الغرفة

مع الرعشة.

*

هل تعرف شعور أن تقرأ شيئًا

وتنسى كيف تتنفّس؟

أن تشكّ في نظرك،

وتعيد قراءة الفراغ

لعلّه يُفصح؟

*

هكذا نكتب في هذا الجزء.

نكتب كما يتلو النبي رؤيا لا يفهمها،

كما يبكي الحجر حين يُلامس الناي.

هذه الجملة؟

لا تقلها.

اسمعها بصمت.

دعها تستقر فيك

مثل حبة مطرٍ ترفض أن تتبخر.

*

وفي النهاية – إن كان لها من نهاية –

لن نترك أثراً واضحًا.

بل أثرًا خفيًا،

يظهر فقط حين يُغلق القارئ عينيه،

ويهمس لنفسه:

*

"لقد مشيت على شيءٍ لم أره،

لكنني لن أنساه."

*

هل نواصل؟

حيث لا نكتب بالحروف،

بل بصدى الخطى فوق عتبة المجهول؟

اصمت قليلاً...

اسمع...

هل تسمع رجع أقدامك؟

ذلك ليس صدًى عادياً،

بل نصٌّ يُكتب من خلفك،

بين كل خطوة وأخرى

يتكوّن حرف،

ويتشقّق المعنى.

*

نحن الآن على العتبة.

لا نعرف ما خلف الباب،

لكن الباب يعرفنا.

يرتجف كلما اقتربنا،

كأننا لا نقرع عليه،

بل نوقظ شيئًا قديمًا كان ينام في اللغة.

*

هنا،

الخطوةُ الأولى خيانة،

والثانيةُ احتراق،

والثالثةُ… ولادة.

*

لا توجد جملة كاملة في هذا الجزء.

كل ما نكتبه هنا،

ينتهي بسؤالٍ لا علامة استفهام فيه.

*

هل تعرف الفرق بين أن تكتب،

وأن تُكتب؟

*

أنت لم تعد القارئ،

أنت الآن أثر،

طيفٌ يُعاد تكوينه

في كل كلمة تتردّد بين الحروف الغامضة.

*

كل سطرٍ في هذا الجزء

هو بابٌ تُرك مواربًا،

كل استعارةٍ

هي قدمٌ في الهواء،

كل فراغٍ…

هو شاهد على ما لم يُكتب،

ولن يُكتب.

*

لا تقل "فهمت"،

لا تقل "لم أفهم"،

فالفهم في هذه العتبة

خيانة أخرى.

*

هنا،

اللغة لا تشير،

بل تلمح.

لا تشرح،

بل تهمس.

لا تنير،

بل تُظلم أكثر… كي ترى بعين أخرى.

*

الكتابة الآن

لم تعد صوتًا،

بل اهتزازًا خافتًا

في جدار الوعي،

رعشة طفيفة

تمرّ بك فجأة

ثم تختفي.

*

لا تسألني عن النهاية،

النهاية ليست بعد الباب،

ولا أمامك،

بل في الخطوة التي لم تجرؤ على أن تخطوها.

*

وهذا هو النص.

ليس له عنوان،

ولا توقيع،

لكنه يعرف اسمك.

*

"أيها الذي وصل حتى هنا،

لقد أصبحت جزءًا مما لن يُنسى."

*

هل نفتح الباب؟

حيث لا نكون كتّابًا ولا قرّاء،

بل مجرد شهود على انكشاف الحرف الأخير؟

وشهادة الذين لم يُولدوا بعد

*

نفتح الباب.

بالارتعاشة.

*

فالباب الأخير لا يُفتح لليد،

بل للذين خاضوا النص كصحراء،

ومشوا حفاة فوق لحم الأسئلة،

ولم يصرخوا.

*

هذا هو العبور،

لا نورٌ ولا ظلام،

بل مساحة ثالثة

لا لون لها

ولا لغة،

فقط انكشاف.

هل تشعر بذلك الحرف في صدرك؟

هو لا يريد أن يُقال،

هو ينتظر أن تُكشَف.

*

في هذا الجزء،

كل شيء ينكسر... برقة.

كأن الوجود يخلع جلده،

ويقول:

"ها أنا… كما لم ترني من قبل."

*

اللغة الآن لا تُستعمل،

بل تُحرَّر.

تُخلع عنها أثواب النظام،

وتُترك تسير عاريةً

على جدار المعنى.

*

الصوت ليس صوتي،

بل صدى الصوت الذي لم يُنطق.

والكلمات ليست لي،

بل شظايا من ذاكرة الماء،

من طفولةِ النور

قبل أن يتعلّم أن يكون شمسًا.

*

في هذا الجزء،

نتوقّف عن الكتابة،

لكن لا نصمت.

بل نترك الورق يهتزّ وحده،

كأنه يذكر حلمًا قديمًا

أراد أن يُقال،

ولم يجد فمًا.

*

كل ما قرأته حتى الآن

كان إعدادًا لهذه اللحظة،

لحظة اللا-جملة،

لحظة الحرف الأخير

الذي لا يُكتب بالحبر،

بل يُستشفّ بالدمع.

ولأن كل نهاية حقيقية

هي عتبة لبداية لا تُدرك،

سأترك لك هذا السطر الأخير،

فارغًا،

لتكتبه أنت................

***

مجيدة محمدي - تونس

لم يعد الجيران يستغربون ذلك المشهد المتكرر كل مساء، حين يتعالى صوت خشن، لا يشبه أصوات البشر، صادر من منزل الأب الأخرس، لم يكن صوتا بقدر ما كان يعبر عن صرخة مكتومة في الأعماق، ممزوجة بالغضب، بالحسرة والحرمان.

لم يعرف الأب طعم الحروف، ولا لذة المناداة، لكن عينيه كانت تتحدثان كثيرا، أحب أبناءه كما يحب الشجر المطر، وسقاهم من صمته، أحتضنهم بيديه الخشنتين،وربت على ظهورهم كلما تعثروا، وجد فيهم صوته الذي فقده، لكنه لم يكن يوما قادرا أن يقول إني فخور بكم، حتى وان كانت ملامحه تعبر عن ذلك.

مع مرور الأيام ومضي السنين، كبر الأبناء و أصبحوا رجالا ونساء، وفي مراكز مرموقة، حققوا النجاح الذي حلم به لهم، من ثمرة تعبه وتضحياته لهم، لكن شيء ما تغير !! صاروا يحرجون من وجوده، لم يعودوا يفهمون نوبات غضبه حين يثور فجأة، صاروا يرون في صمته عجزا.

في صباح أحد الأيام، أنتفض فجأة ولده البكر والذي كان أكثرهم قسوة، كان يتضايق من وجوده في المنزل، ومن أشارته، قائلا له : كفاك، حركاتك الغاضبة لم تعد تحتمل، ماهي إلا مسرحية مملة، من واجبك كأب هو المراقبة فقط، فتح عينيه على مصراعيها، ثم أُومِئَ بيده واضعا سبابته على فمه أن "أصمت ".

كان الكل يقف وقفة المتفرج وكأنهم يؤيدون ما يحدث، نظر الأب إليهم بدهشة، بدا أمامه بكل وضوح أنه لم يكن حلما، تخضب وجهه باللون الأحمر، وراح يحدق فيهم بغضب، لم يجد ما يعبر به، ثار وخرج من بيته، مشمرا عن ذراعيه، كمن يستعد لقتال لا يملك له سلاحا، ويضربان الهواء بعنف، كأنما يلومانه على عجزه الأبدي عن النطق.

أصبح ذلك يتكرر كل يوم ودون جدوى، شعور بالتيه أنتابه، أصبح مغتربا بذاته، حزينا، محطما من سلوك أبنائه الذين تجاوزوا، وتجاهلوا، او ربما تناسوا عمدا، لم يكن بيده شيء سوى ثورة الغضب التي تعصف به كل مرة، ثم تخمد فجأة، كما لو أن قلبه انطفأ، وكما في كل مرة يعود لمنزله بصمت يجلس في الزاوية ذاتها، التي أصبح يأوي إليها، والتي التصقت بجسده حتى حفظت ملامحه، ينظر الى اللاشيء، بعينين فارغتين لا صوت، لا حركة، فقط صمت ثقيل يسكن المكان.

وفي صباح يوم بارد، طال جلوسه في مكانه المعتاد، مائل رأسه بلا أنين، بلا حراك، لم يحدث ضجيجا مثل كل مرة، بل ترك صرخته الأخيرة على هيئة جسد ساكن وروح غادرت بصمت عميق كما كانت دوما.

***

نضال البدري

 

مَن خاتلَ الركابَ أنَّ سفينةً

تجري إلى المرسى بلا ربانِ

*

من أنكر الأصوات في جوف الصدى

فاستُنطقتْ تعدو إلى البهتانِ

*

من خادع الأكمام أنَّ أريجها

عطرٌ تضوع في ربا الكثبانِ

*

من ساءل الصدفات عن غواصها

حين استثارت هَبَّة الغضبانِ

*

هرعت إلى سوح الثرى بتعجلٍ

تصطاد قطفًا من نُهى الإنسان

**

يا هذه السحب الندية أمطري

حرفًا يُشيع اللحن كلَّ مكان

*

حرفا بهيًّا يستطيب حداءَه

قلبُ المحب ولوعة الحيرانِ

*

لحنا شجيا يستمد أواره

من صورة ثكلى بلا عنوان

*

لحنًا يؤزّ الحرف يُشحب لونه

مستخلصا ألمًا من الوجدان

*

ويصوغه صوتا تمايل نبره

ليعيده للعاشق النشوان

***

طارق يسن الطاهر

عِندَ مائِدَةِ "الفِصْحِ المَجيدِ"،

أُفَتِّشُ بَيْنَ أَطْباقِ الألَمِ عن زَمَنٍ لَنْ يَعودَ…

لَمْ أَعُدْ أُطِيقُ لَمْلَمَةَ حَنيني

بَعْدَ عَبَثِ الأُمْنِيّاتِ.

*

ها أنا ذا ..

أَتَوَسَّلُ بِكُلِّ الأَنْبِياءِ، وَبِتَرَاتِيلِ القُدِّيسين،

بِـ يَسوعَ "المُخَلِّصِ"…

لَيْتَني أَغيبُ في جِراحِ كَفَّيْكَ،

أَيُّها الرّاحِلُ نَحْوَ السَّماءِ…

إليك ..إِكْليلُ أَشْواكِ هَزيمَتي،

هل أُصْلَبُ عَلى جِذْعِ وَحدَتي؟!

*

سَأُقيمُ عِندَ قَدَمَيْكَ المُضَرَّجَتَيْنِ بِالدِّماءِ،

حَتّى تَذوبَ بَلُّوراتُ الثَّلْجِ،

وَتَنْطَفِئَ شُموعُ الأَيْقوناتِ،

وَتَجِفَّ دُموعُ المَحرُومينَ…

*

يا سَيِّدي، أَيُّها المُسافِرُ نَحْوَ الخُلودِ،

خُذْ قَلْبيَ النّابِضَ بِحُروفِ اسمِها،

وَأَعْطِني الشَّوكَ وَالقُيودَ…

ما زِلْتُ أُفَتِّشُ عَنْها بَيْنَ ذَوائِبِ الشَّمْسِ،

وَتَحْتَ دَوائِرِ الماءِ…

يَأْتيني نِداءُكَ مَعَ الأنينِ:

“اِحْمِلْ عَذاباتِكَ عَلى ظَهْرِكَ،

ثُمَّ تَأَمَّلْ طَيْفَها تَحْتَ أَيْقُونَةِ "الفِصْحِ المَجيدِ".

*

أُحَثُّ السَّيْرَ بِما تَبَقّى لي مِن أَشْلاءٍ،

يُرافِقُني صَوْتُها أَرَقُّ مِن تَرْنيمَةِ مَلاك،

يَنْثُرُ بِالكَلِماتِ لَحْنًا فَوْقَ جِراحاتي،

مِثْلَ إِكْسيرٍ تُطِيبُ لَهُ الذِّكْرَياتُ…

*

أَتَعَلَّقُ بِأَسْتارِ طَيْفِها، عُرْيانًا مِن يَأسي،

وَأَدورُ حَوْلَهُ كَالصُّوفيِّ، مُعْتَمِرًا خَوْفي…

أُحَلِّقُ فَوْقَ واحَةِ الأُمْنِيّاتِ،

أُخَبِّئُ بَعْضَ أَحْلامي بَيْنَ خُصْلاتِ شَعْرِها،

وَبَعْضًا بَيْنَ رُكامِ المُشْتَهى…

فَيَصْعَقُني الوَهْمُ، وَيَرْميني،

مُقَيَّدًا بِحِبالٍ مِن صَبْرٍ،

في صَحْراءٍ أَضَعْتُ بَيْنَ رِمالِها اسْمي .

***

جواد المدني

 

أقفُ عندَ البابِ،

أطرقُهُ،

وأنا خلفَهُ

وأنا داخلهُ

وأنا البابُ أيضاً،

خشبيٌ، عتيقٌ،

وفي صريري ضجيجُ السنواتِ المبلّلةِ

بأبخرةِ البيتِ وملحِ الخيبة.

*

أقولُ: مَن؟

فيردُّ صوتي من الداخل: "إني أنا، ألا ترى؟"

لكني لا أراه،

فأنا، أنا،

وقد كنتُ قبلاً أنا آخر،

وقبلهُ كنتُ إنّي

وضعتُ وجهي في يدِ امرأةٍ،

فقالتْ: من هذا الغريبْ؟

*

إنّي كثيرٌ،

أتمددُ مثلَ رغيفٍ عجينٍ فوقَ منضدةِ السؤال،

أسألُني: هل كنتَ طفلًا؟

فأجيب: نعم،

لكنهم سحبوا لعبتي من صدري وقالوا: أنتَ شابٌّ،

فذهبتُ إلى الجدارِ ووضعتُ كتفي عليهِ مثلَ يتيم،

ورحتُ أشرحُ لظلي معنى أن تكبرَ رغمًا عنكْ.

*

أنا الذي أخطأ في الصفِّ الأولِ فنالَ عصا،

وفي الثالثِ نالَ صفعة،

وفي الخامسِ كتبَ اسمهُ خطأ،

فكتبوهُ خارجَ قائمةِ الأوائلْ

لكني كنتُ الوحيدَ الذي يحفظُ وجهَ المعلمةِ

حينَ ضحكتْ لأول مرةْ

وأنا الوحيدُ الذي رآها تبكي حينَ ماتَ والدُها،

كنتُ أنا – لا غيري – من كتبَ لها بيتاً عن الصبرِ،

ورماهُ في حقيبتها

فلم تعرف كاتبهُ،

وظنّتْ أن الشعرَ ينامُ تحتَ الطاولاتِ.

*

أنا وأنا،

وإنّي أنا،

كلِّي متشابكٌ مثلَ حبلِ الغسيلِ في عواصفِ الندمْ،

أرفعُ رأسي،

فأسقطُ من فمي.

*

أنا الماشي خلفَ ظلٍ كانَ لي،

وفي عينيَّ شوقٌ لرؤيةِ ذلكَ الفتى،

ذلكَ الحيدرُ الآخر،

الذي كتبَ يومًا:

“أنا لا أكره أحدًا، لكنني تعبتُ من أن أكون كلَّ أحد”

ذلكَ الفتى الذي ما عادَ يقولُ الحقيقةَ بصوتٍ عالٍ،

لأنها وجعٌ لا يصلحُ للبثِّ المباشر.

*

أنا...

وأنا...

وإنّي،

أنا،

مجردُ سؤالٍ يُعادُ كلَّ فجرٍ على وسادتي

ولا ينام.

***

حيدر كرار

 

 

يا خَمريّةَ العِشقِ، ويا نَشوةَ القُبلاتِ حينَ تُرتَشفُ الأرواحُ بلا كَأس، يا لَوزيّةَ المذاق، كيفَ علَّمتِ لساني لذّةَ التهجّدِ على مذابحِ شفاهِكِ؟ يا فيروزيّةَ الشهوة، في عينيكِ بحرٌ لا يعرفُ الشاطئ، في رمشِكِ برقٌ، وفي تنهيدتِكِ جنونُ العاصفةِ حينَ تشتهي الخرابَ الجميل. يا شَبَقيّةَ المطر، أمطري، أمطري، فالأرضُ فيَّ عطشى، والبذرةُ تنتظرُ نداءَ السماءِ كي تولد. جسَدُكِ... أسطورةٌ تُروى على مآذنِ اللذة، تُصلّي لهُ الجُنوبُ، وتغارُ منهُ الغيومُ حينَ تتعرّى. وفي حضنكِ، تتحوّلُ اللحظةُ إلى مجرّة، ويصيرُ الوقتُ نبيذًا يُسكِرُ الحنين. فامكثي، وامنحيني من شهقتكِ وطنًا، ومن زفيركِ منفى، ومنكِ... كل الحكاية.

***

كريم عبد الله

كان يمر ماطرا بشذا الندى

عبق البرتقال

حلاوة البرحي

تستفيق على همس إطلالته المدن النائمة

وهو يلوّح للنسيم الدافق بالرجاء

من هنا كان يمر كل يوم

يبتكر الوداع على شرفات التبتل

ويرش الغناء على الدروب المنفى

يغازل الطيور المهاجرة إلى أقاصي الأمل

ينثر بذار الحب على ضفاف المساءات الذابلة

أملاً بازدهار الخضرة على خاصرة الوطن

يومئ للتائهين وعاثري الحظ

يعرّفهم بمثابة الوصول

يمر عليهم واحدا واحدا

في المقبرة التي ابتلعتهم كان يذرف دموع المواويل

وادي السلام الذي تزدلف فيه

شهقة الذكريات برائحة الموت

يطوف بك في مجرات الفقد

ليأخذك مذعنا في حقب الرحيل

مَن أنت يا هذا؟

أيّ سر تحمل؟

تتجوقل في ممراتك النكبات

تثقل مسيرك العثرات

تبحث عنهم ولا أثر

سوى أنين الفقد

تبحر في المدى القصي لتلتقط همس ذكرى

تبتهل للسماء تعانق أفق الغيب

تصرخ، تنادي، ولا مجيب سوى الصدى

وهذا الهوس الذي لم ينم والنكوص

***

شلال عنوز - النجف

١٩-٤ - ٢٠٢٥

 

إِذَا تُـشْرَى الكَرَامَةُ فِي البِقَالَةْ

سَـيَـشْـرِيهَا الأَرَاذِلُ وَالـحَـثَـالَةْ

*

وَيُـصْـبِحُ كُــلُّ لِــصٍّ حَــازَ مَــالًا

شَـرِيفًا بَـيْنَ مُـجْتَمَعِ الـسَّفَالَةْ

*

وَمَــنْ بَــاعَ الـكَـرَامَةَ ثُـمَّ يَـرْجُو

رُجُـوعَ الـعِزِّ تِـلْكَ هِـيَ الجَهَالَةْ

*

فَـهَـذَا الـذَّنْـبُ لَا يُـمْحَى بِـعُذْرٍ

وَلَا  شَــرْحٍ يُـفِـيدُ مَــعَ الإِطَـالَةِ

*

فَـسُخْطُ الـنَّاسِ أَبْـلَغُ مِـنْ بَيَانٍ

وَفِــي مَـضْمُونِهِ أَقْـوَى رِسَـالَةْ

*

فكُنْ مَثْلًا كَنُورِ الشَّمْسِ يَهْدِي

وتَــرْحَـلُ  دُونَ جَــبْـرٍ أَوْ إِقَــالَـةْ

*

وَعَـجِّـلْ فِـي رَحِـيلِكَ دُونَ لَأْيٍ

فَـحَـتْـمِيٌّ  رَحِـيـلُـكَ لَا مَـحَـالَةْ

*

لِـكَيْ تَـبْقَى الثَّقَافَةُ ذَاتَ مَجْدٍ

وَلَا تَـطْـفُو عَـلَى مَـاءِ الـضَّحَالَةِ

*

لِـنَـجْعَلْهَا كَـعَـرْشٍ مِــنْ نُـضَـارٍ

بِـــهِ تَــرْتَـاحُ صَـاحِـبَةُ الـجَـلَالَةِ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

نجمٌ دُريٌّ يهوي

يقفزُ من قبرٍ في دارٍ لقبورِ مدائنَ أُخرى

يحملُ أكبرَ جُرْمٍ طاشَ وأخفى أسرارا

للقُدرةِ يسحبُني للبؤرةِ في منشأِ ميلادي

الفِطرةُ فيها ريمٌ ورميمُ

كنتُ أُناديها بلغإتِ النجوى والخطِّ المحفورِ على الصخرِ

كانت للجُرحِ النازفِ في رأسي أُمّا

مَلَكٌ ناداها مرفوعا

أنْ تفنى فيها الدنيا ضمّاً شَمّا

الجُرمُ الأعظمُ همٌّ في صدري

يحفرُ للصاحي حيّاً قبرا

والفاغرِ فاهاً جُرْحاً مفتوحا

ينزفُ آهاً وصُراخاً مكبوتا

ناحَ نخيلُ وأسقطَ سَعْفا

شاخَ الليمونُ تهدّلَ ضَعْفا ..

سأُسميها الملآَ الأعلى

وأُسميها مَلَكوتَ الدنيا سَقَطتْ سَهوا

داعيها أوطأُ منها شأوا

تنفجرُ الأعينُ لو سَطَعتْ نجما

فُوضى تتجمّعُ تدريجاً فُوضى

يتفكّكُ فيها حَجَرُ التلقينِ الماسي

ويذوبُ الإبريزُ الطاغي وَهْما

ما أبقتْ للثاوي تحتَ البرجِ العالي  حقّاً أو سَهْما

كسّرتُ ذراعي خوفا

وجعلتُ الهمَّ الضاغطَ حَتفا

عينٌ فزعى عينٌ أُخرى لا شَرْقاً لا غَرْبا

ومساءُ الصوتِ الباكي يجتازُ البابَ ليرقى

ماذا يبقى مني لي ؟

هّذيانُ الرحّالةِ في دربِ مَجرِّ التبّانِ

وهياكلُ من قَصبِ السُكّرِ يرتاعُ لمرآها قبرٌ في البرِّ

هذا الجدولُ تيّارُ خرابِ أَرومةِ أصلِ النسلِ

هل من رؤيا للساقطِ أُخرى سَهوا ؟

إنّي محكومٌ  بأساطينِ الجنِّ

وملاحمِ فُرسانِ الضجّةِ في خبِّ الخيلِ

أفرشُ بيتي للقادمِ شوقاً مشيا

والراحلِ يأتيني غيباً طيفا

قلبي ينهارُ إذا ما رفَّ الجفنُ وطار صوابي

بيتي يتهدّمُ رُكْناً رُكْنا

يتهدّمُ يوماً يوما

ينهارُ إذا مرّتْ ذِكراهمْ أو عَرَضتْ سيماهمْ

ليتَ الغائبَ يُشفيني من جُرحِ أنيني

ليتَ الخاطفَ يعفيني

أتعلّقُ بالنجمةِ ساقطةً من عرشِ الحُمّى في جوفِ المسكينِ

يا نجمُ تريّثْ

الزمنُ الراهنُ مرحلةٌ بين الراحةِ والرِحلةِ نحو التسكينِ

يا نجمُ ترفّقْ

مَنْ يضمَنُ مَرَّ الهمسةِ في جُرفِ البحرِ القاسي

لأبثَّ النجوى في غيبةِ مَنْ غابوا

غابوا فتلاشتْ آثارُ الجدولِ يجري في عمري

فتلكأتُ أُجرجرُ أذيالَ مصيرِ حضوري

أسألُ ما جدوى أنْ تأتي تحملُ في صدرٍ مُعتلٍّ قلبا

يسعى كالجُندُبِ ضدَّ حَراكِ النجمِ ؟

***

الدكتور عدنان الظاهر

أيلول 2023

خذوا منيَّ الأحبابَ والأهلَ والصحبا

اذا طاوعوكمْ لا مشيتُ لهمْ دربا

*

خذوهمْ اليكمْ ليس منيَّ مَن سرى

بِليلٍ يبيعُ النهرَ والأرضَ والتربا

*

مُسمَّمَةً تجري مياهُ قلوبِهمْ

وقدوتُهم في الناسِ مَن سمَّمَ القلبا

*

خذوا مِن خليلاتي الجميلاتِ طلعةً

مديراتِ وِجهاتِ الهواءِ اذا هَبّا

*

خذوهنَّ، لا أهوى النساءَ لواعباً

لهنَّ مع الأموالِ لعبٌ تلا لعبا

*

تصورتُ أحبابي بدوراً مشِّعةً

لها مِن سموِ الله ما يُدهشُ الرَبّا

*

فألفيتُهمْ: رهنَ الدراهمِ حالُهمْ

يموِّلُهم عُرْبٌ لكي يعبدوا الغَرْبا

*

وقدْ عبدوا قتّالَهمْ وهو سادرٌ

بِقتلٍ، ولكنْ صوَّروهُ لنا حبّا !!

***

شعر: كريم الأسدي ..

انا وانتِ

وأفيون صَوتك

شجِي حدَ الطرب

تحدثيني.

أحدثكِ

تنهشنا النشوى

نُعاقر كَلِماتَنا

نُضاجُع المسافات

يبتلُ فَمي  بعناق خيالك

تهمسينِي بغنَج

وأهمسك بتَرف عاشق

أحنو

بقلب متيم

اتشبثُ

نتَشَبَّث غَريقٌ بِغريقٍ..

بِلهاث

لهاثّ من دنا للوصل

الى حافة النهاية...

***

كامل فرحان حسوني..العراق

 

كَبُرَ الأولاد

وحانَ الوقت لأعودَ طفلاً

غداً سأقودُ الدُمى إلى حفلة رقص

وأكسرُ مكعّباتِ الأحفاد الملونة

لأخرجَ ما أودعوه فيها من شياطين البراءة

كلّ الإحتمالات ممكنة

مادام في مدفأة روحي الكثير من الوقود

فأن سقوطَ أوراقِ الحديقة لا يعني قدومَ الخريف

أتمعّن بصورتي في (ألبوم) الماضي

وأنا بسروالي القصير

وأقولُ: يا ليثُ لا تُغادرِ الصورة

فأنا قادم لطفولتكَ

قادمٌ لنحشرَ جسدينا معاً في ذات السروال القصير

ولتُعينني في البحث عن أبٍ يتبنّى عُكّازي اليتيم

فهو إذا ما عُدتُ صغيراً سيتشرّدُ في الأزقة

ولن يجدَ باباً يُفتح له

أو صدراً يُرضعُهُ

وستتلاشى أحلامُهُ في التحوّل إلى شجرة مثمرة

**

من أجل أن تعود طفلاً

فأنت غير مُجبرٍ على المبيتِ ليلتين في قِدرٍ ساخن

مهما كَوَيتَ تجاعيدَكَ بالبُخار

فهي لن تتحوّل إلى ملاذاتٍ للفراشات المذعورة

ألعملية بسيطة

هنالك طفلٌ في داخل كلّ شيخ

طفلٌ محبوسٌ داخلَ قارورةٍ من فخار

إكسرِ القارورة

واطلقِ الطفلَ ليعبثَ بوقاركَ المزعوم

ويقلبَ جِلدَكَ المُجعّدَ على بِطانته

ويمنحَ ما تبقّى لك من العمر

سنواتِ فرحٍ إضافية

***

شعر / ليث الصندوق

في المساءِ الخامس والعشرين بعد الألفين،

حين كان القمرُ مستلقياً على خاصرةِ الضيم،

نمتُ على ظهري كمن يخلعُ التاريخَ عن كتفيه،

ـــــــــ وفي الحلم،

وصلني بريدٌ مستعجل،

مختومٌ بشفاهٍ قُبْلتُها البنادق،

مُرسلٌ من جهةٍ

لا تُحددها الخرائطُ

ولا تعترفُ بالجغرافيا

*

فتحته،

فخرجَت منه رائحةُ الزعترٍ،

وغبارُ لهو صبيٍ كان يركضُ في الحقول،

كانت الرسالةُ مكتوبةً على قماشِ كوفية،

بالدمِ الأحمرِ.

*

قالوا لي:

"لا توقظي الصباحَ قبل أن تغرسي في عينيه بندقيّة،

ولا تنامي في ظلّ علمٍ لا يرتجفُ حين يذكر اسم أمّك."

*

قالوا:

"نحن لم نمت لنصبح صوراً،

ولا لنعيد ترتيب الخسارات في المتاحف.

لقد صعدنا،

بخطوةٍ واحدةٍ

من الطين إلى المجد،

لكي لا تنحني الأرض."

*

يا أنتِ،

التي ما زلتِ تكتبين بالشك،

ويأكلكَ الحذرُ كالنملِ الأبيض في الورق،

نحن نعرفُ

أنك تخبئين القصيدةَ تحت وسادتك

لتهربي من طلقةٍ تأتيك من الخلف،

لكن تذكّري:

الشعرُ أيضاً مقاومة،

إذا ما خُطّ من عروقِ الصرخة،

ومن نبضِ النخيلِ الذي لا يسجدُ للعاصفة...

*

كانت الرسالةُ طويلة،

كأنها خطبةُ الوداعِ الأخير،

وكان في آخرها توقيعاتٌ من شهداء لم أعهد أسماءهم،

لكنني عرفتُ وجوههم:

امرأةٌ تبتسمُ لطفلٍ في حقلِ قمح،

رجلٌ يشرب الشاي على عتبةٍ عتيقة،

فتاةٌ ترتّب ضفائرها قبل الحفل،

وعصفورٌ يرفرفُ فوق خوذةٍ صدئة.

*

قالوا:

"إذا وصلتك رسالتنا،

فارفعيها فوق رأسك،

كسماءٍ جديدةٍ لا يدخلها إلّا المؤمنون بالحُبّ والسلاح.

ولا تنحنِي،

حتى وإن ثقلت الكلمات،

فالشهداء لا يكتبون للذين يقايضون الحريّة بالخبز،

بل للذين يعجنون الحريةَ من حُزنِ أمهاتهم،

ويصنعون منها وطنًا لا يُنسى."

*

ثم رأيتهم،

يمشون في الضوء،

حفاةً كما وُلدوا،

يضحكون

كأنهم لم يُقتلوا،

كأن الرصاصَ عادَ إلى فوهته،

كأن الأرض لم ترتوِ من دمهم،

استيقظتُ

وكان على صدري أثرُ وردة،

ورائحةُ دخانٍ معتق،

وفي أذني صوت يتردد:

"تابعي،

فنحن لم نمت لنراك صامتة "

***

مجيدة محمدي - تونس

 

ما عادَ يعبأُ إن أتى مُتأخّرا

هوَ لم يجدْ شيئاً يَسُرُّ مُبكِّرا

*

هوَ ذلكَ النهرُ الذي قد ظلَّ يجـ..

ري ثُمّ أدركَ أنّهُ عبثاً جرى

*

وعَدَتْهُ هاتيكَ الضفافُ بنخلةٍ

لكنّها صبغَتْهُ لوناً أحمرا

*

هوَ هادئٌ مثلَ الحديقةِ في المسا..

ءِ وصاخبٌ مثلَ الرياحِ على الذُّرى

*

إمّا أحبَّ فكلُّ جارحةٍ به

قلباً تصيرُ يكادُ أن يتفطّرا

*

وإن استبدَّ بهِ الحنينُ تجدْهُ من

أقصى الغيابِ يمدُّ جسراً أخضرا

*

مطرٌ براحتِهِ ودمعةُ عازفٍ

وتوجُّسِ العشبِ الوليدِ على الثرى

*

تركَ الحقيقةَ واستظلَّ بحُلْمِهِ

وسما بهِ الحزنُ النبيلُ فأثمرا

*

أوحَتْ لهُ الأشجارُ طيفاً فاستوَتْ

رؤياهُ تجلو زُرقةً عندَ الكرى

*

يبكي إذا ضَحِكَ الجميعُ لعلمِهِ

أنَّ السرورَ وراءَهُ حزنٌ يُرى

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

غادرْ

حينَ تُصبحُ الأبوابُ

أطيافًا من خشبٍ فائض،

وحينَ تسقطُ الكلماتُ

كأوراقِ خريفٍ أعمى

لا يعبأُ بها الرصيف.

*

غادرْ

حينَ لا يعني لهم

مخاضُ السكوتِ شيئًا،

حينَ لا يصغونَ

لصراخِ الجدرانِ

وهي تُنجبُ فراغاتٍ

تُشبهُ وجوههم.

*

غادرْ

حينَ تَغدو الحقيقةُ

غيمة تتوزّع على المقاطعات والقصائد

وحينَ تُصبحُ ملامحُ الوقت

كوجهِ ساعةٍ مقلوبة

في سهرة هاربة من المطر.

*

غادرْ

حينَ يَغدو الصمتُ

جرحًا أعمى

لا أمل فيه

ولا حكايةَ تُغري الأشجار

كي تُغني.

*

لا تُبقِ قلبكَ هنا،

حيثُ لا يعني النهارُ سوى

ضوعًا من حدائق في الوداع

والليلُ روحُ قنديلٍ

يَقتسمُ الجدرانَ مع الغبار.

*

غادرْ،

إنَّ المسافاتِ التي لا تنتظركَ

هي الأصدقُ

والذين لا يفهمون

كيفَ ينزفُ السكوتُ

لن يفهموا يومًا كيفَ يولدُ الكلام.

***

ريما الكلزلي

 

ساعات قليلة تفصل بين عملها في شركة المقاولات الإنشائية ودراستها الجامعية في دوام مسائي مرهق، ساعات في الانتظار المكتوم تقضيه على مقاعد المكتبة الوطنية أو في أروقة العمل الحزبي، تهدر فيه الوقت الذي يخذلها دوماً، والذي لا يكفي لعودتها إلى بيتها النائي، فتواصل رحلتها الشاقة، كعصفورة تقاوم رياح الحياة بجناحين من أمل، واجباتها الحياتية التي تثقل كاهلها، وأحلامها المعلقة على خيوط إرادة لا تلين.

ففي كل ليلة، بعد انتهاء دوامها الجامعي، تعود بخطواتها المتعبة، يرافقها جسد منهك، يتلبسه الإرهاق كعباءة من ألم، وجوع يتآمر مع الإعياء ليسلبها ما تبقى من قوة، وكثيرًا ما يسقط جسدها مغشيًا عليه، مستسلمًا لثقل ظلامٍ يفوق سواد الليل حلكة، ظلام ينبعث من أعماقها ويغمر روحها المتعبة.

كانت تخوض رحلتها المعتادة كل ليلة. عندما تنزل عند محطة الباص، الأقرب إلى بيتها، تضطر للسير، لما يقارب النصف ساعة على قدميها، على شارع طويل مخصص للطرق خارجية، وحيد كأنه منفى، ساكن كأن الصمت نفسه وقد قرر الاستقرار فيه. جو موحش، وظلام كأنه قد سُكب على الأرض بلا رحمة، يتسلل إلى عروقها وخوفًا بردًا ورجفة تتربص بأحلامها المرهقة.

وفي مواجهة هذه الوحشة، كانت تضم بإحدى يديها ملف محاضراتها إلى صدرها بقوة، وتمسد بالأخرى جنينها الذي ينبض في أعماقها كنبض امل لحياة أحلى. كانت تدندن له بأغانٍ، تنسج من حروفها حصنًا من الدفء والأمان، تغالب بها شعور الخوف والتعب الذي ينخر عظامها.

الطريق لم تكن آمنة دومًا. فبين الحين والحين، كان من يتربص بوحشتها في الظلام، يتلصص على ضعفها المرهق، ووهنها المضن. كثيرًا ما كانت تُفاجَأ بأصواتهم الخشنة، ومضايقاتهم الوقحة، وتصرفاتهم العبثية، التي تتجاوز احيانا حد المعقول وهم يمزقون دفاتر محاضراتها، او يسرقون حقيبتها وكأنهم ينهبون جزءًا من حلمها. كم توسلت إلى زوجها أن ينتظرها في منطقة الباص حين يعود قبلها، غير أنه كان يعود غالبًا متأخرًا، مشغولًا بأعماله ومتاهاته.

في ليلة عابسة، ملتحفة بالسواد، ثقيلة مثل همٍّ يستوطن الصدر، كانت تخطو بخطى واهنة، تتعثر بصمت الشارع الموحش، حتى اعترض اولئك المتربصون، المتعطشون للإساءة والتنمر سبيلها. توهجت عيونهم كجمرات مشتعلة، يُلوّحون بجمرات بسجائرهم.. ساخرين منها، كأنهم يلوّحون بنار لا غاية لها سوى إحراق عزيمتها التي تسكن قلبها المنهك.

تاهت نظراتها في العتمة، تتحسس في ظلالها بارقة نجاة تبدو أبعد من الأمل نفسه. كانت أنفاسها متقطعة، ترتجف كأوراق في مهب ريح عاصفة، وعيناها تهيم في الظلام كمن يبحث عن نجمة ضائعة في سماءٍ خالية. شعرت بالخوف يتغلغل في عروقها، وثقل يجثم فوق صدرها يكاد يسلبها قدرتها على الوقوف، حين لمع ضوء باهر يخترق عتمة الليل وسط كل ذلك اليأس، ضوء يتوهج من شاحنة نقل ثقيلة تجوب الطريق على عجل. تملّكها الأمل فجأة، كغريق يمسك بطرف حبل. لوحت بيد مرتعشة، رافعة ملف أوراقها كأنها ترفع راية استغاثة، أو ربما بقايا حلم مهدد بالانطفاء.

التقط السائق إشارتها، وأدرك تفاصيل الموقف بنظرة ثاقبة لا تعرف التردد. فرملت الشاحنة على مسافة قصيرة منها، كأنه يلبي نداءً غير منطوق، نداءً يستنجد بشهامته المكنونة. كان رجلًا جسورًا، تغمر ملامحه الصارمة غضبًا نبيلًا، وقلبًا يتقد شجاعة يندر مثيلها.

ترجل عن شاحنته ممسكًا بأداة معدنية كأنها امتداد لروحه الحامية. اندفع نحو المعتدين كإعصار لا يعرف الرحمة، وصوته يجلجل بوعيد صارم، شاتمًا إياهم بما يستحقون من كلمات. كانت خطواته تروي قصصًا من النخوة والشجاعة، وملامحه تنطق بتصميم لا يقبل التهاون. وبعدما انفضّوا عنهما هاربين. نظرت اليه بعد ان ترك حولها أثرًا من ضوء شق طريقه عبر ظلام كان يهدد بابتلاعها. وقفت مذهولة بين دهشة النجاة وارتعاشة الرعب. " انه ملاكها الحارس.. هذا ما مر بخاطرها" مدركة حينها أن الخير لا يزال ممكنًا حتى في أحلك اللحظات.

 التفت نحوها بصوت هادئ حاول من خلاله أن يحتوي فزعها. عرض عليها أن يوصلها إلى بيتها. كان صوته كالحياة التي تعود إلى صدرها المنكوب، تنفست بعمق.. وشعور بالأمان والامتنان يغمرها وكأنها نجت من غرقٍ محتم. صعدت إلى السيارة وهي تجر أذيال ما بقي من التعب والخوف، لكن شيئًا من الطمأنينة كان ينمو في صدرها كزهرة تتفتح رغم كل هذا الظلام.

***

سعاد الراعي

ذِكراكَ أحـــيَـــتْ حــــضورا، فـي تذَكّـرِها

فــــوثّــقَ الشِــعـــرُ إرثـــاً، حــيـــن آواهـا

*

مـا كــل ذِكــرى لـهـا روحٌ تُـــخَــلّــدُهــا

وللــمضامـيـــن فـي الأهـداف مـعـنــاهـــــا

*

وخـيرُ مــا فــي سُـــــلوك النفس، تفعـلــه

أنْ تجعــلَ الذكرى فـــي الاجــواء أحلاهــا

*

طِـيـــبُ الفِـعـالِ، حـديــثٌ تســتـديمُ بــــه

للــجيــل نَـهْـــجٌ، ونــورٌ في مُحـيّـــاهـــا

*

ما الخُـلـــدُ اوْســـمــةٌ تعلو الصدورَ وفــي

رسْـــم الخُــطا للتـباهــي صِيغَ فــحــواهــا

*

نـسْــــــجُ البــــلاغةِ مِــعــيارٌ ، بــــــه عُـــرِفَـتْ

مــــــــا كلُ تركـيـبـــــةٍ، فــــــــــي اللفظ نَهْـواها

*

لِــــثَــــــروَة اللـــغـــةِ الــمِــعـطــاءِ هــيــبــتُــهــا

ارائـــــــكُ التِــــبْـــرِ، فــــي اســتقبال خـــطواهـا

*

إنّ اقتـــباس المَـــزايـــا، فـــــي محاسِـنِهـــا

مالــم تؤدي حُــلــولاً، ســــوف تـنســـاهــــا

*

زَيــْنُ الرجــال عــفــيــفٌ فـــي شجــاعتــه

وفــي الإباء خُـطــاً، قــــد طابَ مَــسْعــاهــا

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

 

أشعر إنك كالأمس لن تعود مرة أخرى......

وأشعر إنك هنا في كل الأشياء التي تركتها، وذهبت....

أكتب لك، وأعلم إن العالم كله سوف يقرأ هذه السطور إلا أنت...

أكتب لك حين يصعب علي التصديق إنك غائب للدرجة التي أعتبر بأن غيابك هذا مجرد مزحة لا أكثر.....

هذه أنا عدت إلى أول السطر إمرأة أقف على سفح الحياة وحدي.. أرقب إنكماش الأشياء المزهرة والنابضة من حولي ...

ما بال الحياة في عيني بحداد لونين الأبيض والأسود وكأن الزمن أعادني إلى العصور القديمة بلا ألوان...

ما بال الأشياء حولي تحدث ضجيجاً في داخلي وقلمي، وهذا الهدوء الحذر الذي يخيم في حدقاتي وصوتي ...

ربما حان الوقت لأترك لعبة طفولتي وأكبر...، وان التقط عمري الذي تدحرج ككرة ثلج على أرصفة الحياة ....

أو ربما علي أن أستفيق من أسرة الأحلام التي تسلقت وسادتي يوماً وتكاثرت في رحم مخيلتي تلك الأحلام الوردية التي تتلاشى كغيمة بيضاء في سماء عقيمة بلا مطر أو كسراب ماء في بساتين زهر ....

أعرف الآن أن علي أن أمد يدي لواقع ينتظرني على الجانب الآخر من الحلم، وان علي أن أنتشل نفسي من نفسي المتعبة والمعتمة.....

وإنني علي أن أفرغ حقيبة سفري الطويل في إحدى الشرفات التي تطل على ضوء شمس وحقيقة ...

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان....

تجولت في شارع السعدون لساعتين. هدني التعب. قلت لنفسي: لأستريح قليلا هنا، في ساحة التحرير، تحت نصب الحرية، الذي يرتفع على ركيزتين عملاقتين، شامخا امام حديقة الأمة. لا ادري لماذا؟ كلما مررت سواء في شارع السعدون او شارع الرشيد، او الباب الشرقي؛ لابد لي من ان اعرج على ساحة التحرير، وتحديدا نصب الحرية. أتأمله. ممعنا فيه، متماهيا معه؛ اعيش لحظته. ثمة اصوات تنطلق من اعماق النصب. ضجت جميع الانحاء بالصراخ والصياح. اسمع تكسر قضبان حديدية لأبواب عملاقة. اشتد الصياح، كأنه صوت واحد: الحرية... الحرية... الحرية...زمجرة فجرت رأسي. دبابة برامز عبرت الساحة الى الطريق بجانب حديقة الأمة. تبعتها دبابتان وثلاث همرات. لم تفرغ الساحة. ظلت ترابط فيها دبابات برامز وهمرات. أخرى غيرها واقفه على سطح النفق قبالتي تماما. الجنود على ظهورها يبحلقون في مخارج الزوايا والدروب والجادات، التي تنفتح الى الشارعين المحيطين بالساحة، من اعماق الاحياء التي اكثرها مخازن، ومحلات تجارية، وفنادق شعبية، ومقاهي، وبيوت في تلك الفروع. لم اتحرك. ظللت تحت نصب الحرية وحدي واقفا. از الهواء في أذنيَ. صاروخ اطلق من وراء الركيزة التي متكئا أنا عليها. انفجار قوي جدا، هز ركيزتي النصب. احسني بقوته. اهتز جسدي. كدت اسقط ارضا من شدته. متماسكا في وقفتي في تلك الثواني القليلة، ربما هي اقل من اصابع اليد الواحدة. انظر. احترقت دبابة على مقربة مني ومن النصب. ارتفع اعلى قليلا من النصب، كل جسدي على غير إرادة مني. كما في طيف حلم مر سريعا في ثانية او في ثانيتين، وانطفأ. مُعلَقاً في الهواء، سمعت انفجاران متزامنان، اعقبا بسرعة البرق الانفجار الأول. نظرت الى الاسفل مني. الركيزتان دمرتا، لم يبق منهما الا بقايا حديد لخرسانة، لم يعد لها وجود، صارت عبارة عن شظايا....اشباح تركض اسفل مني، بين نخيل واشجار حديقة الأمة. اصبحت ضبابية كل الاماكن تحتي وحول وفوقي. رطانة خافتة خوفتا مرعبا، إنما مدويةً في دروب عقلي، اسمعها؛ تأتيني من مؤخرة رأسي، أو كأنها دخلت فيه من مكان بعيد، بعيد جدا. ثم اختفى.

***

مزهر جبر الساعدي

 

أيتها السماء.. مُدِّي قدحا لذاكرة النسيان

كي لا أسمع إيقاع الشتاء الطويل في دمي

***

إلى قارئ لا أعرفه

يدي تتساقط مني ولا أحد يخيط جرحها، حتى خطواتي أصبحت مجرد ظل لظل يتبعني...

فهل جربتَ حزنا يخترق ضحكاتك فيُنصب خيام حرائقه التي تحول كل قرى نفسك إلى هذيان يعزف على أوتار العالم الشريد، فتشتعل نيران لا يطفئها ماء الحياة؟

ستقول لي: من منا لم يدخل قلبه إلى مختبر الفقد، فلم يخرج منه معطوبا يجُرُّ الخيبات، ليعرف بأن كل المشاعر وَهْمٌ، لأن لا شيء حقيقي غير الموت؟.

فيا أيها الحزن ارفع نخب الحنين لكل الفراشات التي احترقت في قلبي..!

حتى عمر العاشرة؛ كان والدي صديقا لي، وبعدما أصبحت حدائقي تزهر، وأنبت الوقت ربيعا من الحب الذي طاردني بقوة في مجاز الحلم، كرهتُ حياتي التي أصبحت مجرد كوابيس يبكي عليها النهار.

تمنيت لو أضيء أصابع الظلام بقبس من رؤياي، فأنا لا أحيا إلا بطلقات سماوية تميتني وتنقذني من العدم، وحين ينزف دمي أجمع شتاتي وأقول:

ـ إلهي أنا معطرة بنورك.. فخذني إليك كي أنساني، فما أنا سوى نبتة في محرابك.1347 najat

يا قارئي الذي لا أعرف..

إيقاع كل يوم بئيس يحرق كل أوراق شغفي، يسرع الخطى نحو مرآة واحدة تعكس رحيله..

لن أنكر أننا لم نلتق أبدا إلا حول ريح منسية تحملنا إلى كل مكان ممهور بالسفر الطويل والتمرد، ولن أنكر أنني بقيت تحت قدميه أصرخ بملء الروح:

ـ حدق في يدي وفي قلبي، لن تجد غير دمي يعانق ومْضَ حلمك، أو ليس الغياب هو الذي يرتدي قميص أحلامنا فلا يلملم جرحنا غير فم يردد اسم الله؟

*

فيا قارئي الذي لا أعرف

كم بحث عن شبيه لوالدي عبد الرحمان دون أن أدري، كان مدرسا أنيقا، يرتدي ربطة عنق جميلة وبذلة بألوان فاتحة. يردد دائما على مسامعنا في الفصل قصائد رائعة، فكنت أغدو مثل فراشة لا تعرف غير المسرح والغناء والشعر، فكبرت وأنا شغوفة بشمس ربيعية تسللت لقلبي البِكر، كي تولد نجاة التي لا تعرف من وجه الحياة غير الحب النبيل.

*

يا قارئي الذي لا أعرف

ها هو قطار المساء قد ترجل في دمي، ولم يعد في قلبي أحد سواه، وبعض حروف أحاول من خلالها أن أنسى، لكن رماد أمسي يجرني نحو وحدة قاتلة، كيف أغفو وهو تحت التراب، يجرفني بوح حزين نحو تلك الصبية التي تمسك بيده الكبيرة، ويبتسم في وجهها فخورا بأرضها التي تبنيها من أحلامها الصغيرة.

لماذا أتيتُ إلى مراكش كي ألتقي بالحزن الذي استقبلني في مطار المستحيل كل عمري؟، وأي صمت هذا الذي ثرثر في روحي مثل عرافة مجهولة، فتحولتُ إلى حمامة لا ترى في الكون غير حب يغتاله وفاء مزيف.

إنني أرى ذلك الفنجان الذي قدمته لي الأرض وهي تُربكني بزلازلها..

ـ نامي في جسد القصيدة واكتبي وجعي الأخير؟

لم أجد وأنا أجلس بيني وبيني غير قُبرات تتحسر على أيكها، هو الخريف يحصد كل الأغاني الجميلة، فأتساقط بين يديه أوراقا صفراء كانت تكتبني بلغة الورد، لكني لا أجد الآن غير شوك يُدمي صمت قلبي.

فيا إلهي كم كان والدي يخاف علي من الانكسار.!

ـ سأغفو قليلا . قلت للبوح

لكنه شد قميص نفسي ومزقني بأنينه، فرأيت في أعماقي كل المدن التي عمها الخراب.

غزة هنا؛ تصنع في داخلي وطنا جديدا من الدماء، أعانق أشجارها كي أنام من التعب، لكن غبار كل معلقات الشعراء الذين مروا أيقظوني كي أصير بالونا في الهواء، فما جدواي، والأبجدية بشموخها تخونني فتترك ظلي موشوما بالبكاء؟

***

نجاة الزباير

4/4/2025

يا الله،

لستُ قديسةً تلفُّها هالاتُ الضوء،

ولا نبيّةً تنشقُّ لها البحارُ وتتسعُ لها المعجزات،

ولا آدم، الذي وهبَ نبيّك داوودَ أربعينَ عامًا من فجرِ عمره،

أنا فقط ،

امرأةٌ تقصُّ على صغارها قصائدَ من رملٍ وجدرانٍ متداعية،

أمٌّ تشمُّ رمادَ ألعابهم،

تعدُّ الشظايا كما تُعدُّ العصافيرُ في هجرتها الأخيرة.

*

يا الله،

صوتُ الصواريخِ لا يقرأُ أعمارهم،

ولا يفرّق بين دفاترِ الحسابِ والعبواتِ الناسفة،

يركضُ الطفلُ نحو النور

فتأتيهُ من السماءِ نار.

*

أنا أمٌّ يا الله،

تعصرُ الوقتَ في كفّيها،

تحاولُ أن تخبئَ الزمانَ في جيبِ معطفِها المثقوب،

تحلمُ أن تكونَ الزهرةُ في غزة

أكثرَ من فصلٍ واحدٍ للعطر،

أن لا يموتَ الرضيعُ قبل أن يعرفَ اسمه.

*

خذْ من عمري،

خذهُ كما تأخذُ الريحُ الغصونَ اليابسة،

وزدْ لهم،

ازرعْ في قلوبِهم عُمْرًا إضافيًا،

دعْهم يكبرونَ دون أن يقفزَ الدمُ من عيون البراءة،

دعهم يشتهونَ أشياء بسيطة:

قطعة شوكولا،

أرجوحة،

سماء لا تسودها الطائرات.

*

يا الله،

إن لم يكن لي نصيبٌ في القداسة،

ولا خاتمُ النبوّة،

فاجعلْ من أمومتي دعاءً دائمًا،

أنا التي تعلّمتُ كيف تكونُ الأمهاتُ جبهات،

وكيف تُصنعُ المعجزاتُ من دموعِ الأرقِ

وسهرِ القلق.

*

أنا تلك التي تضعُ حليبَها في الزجاجةِ

وتضعُ قلبَها في تابوت.

*

يا الله،

أخبرني،

أما آنَ للظلِّ أن ينجبَ شمسًا؟

أما آنَ للحدادِ أن يخلعَ ثيابه؟

أما آنَ للرصاصةِ أن تعتذرَ للطفل؟

*

خذْ من عمري،

كلّه،

أنا لا أحتاجُه كثيرًا،

ما دام في غزة طفلٌ لا يملكُ ساعةً

ليرى كم من الوقتِ تبقى له

في حضنِ الحياة.

*

دعهم ينامون دون أن يوقظهم الموت،

دعهم يركضون دون أن تعثرَ أقدامُهم بجثثِ أحبّتهم،

دعهم يعرفون أن للغيمِ طعمَ المطر

لا رائحةَ البارود.

*

يا الله،

أنا فقطُ أمّ،

لكن قلبي يضاهي صهيلَ الجبال،

وفي عيوني قنابلُ حبّ

لو انفجرتْ،

لأزهرتْ كل الأرض

*

خذ من عمري،

وزد لهم،

ازرعهم من جديد،

أعدْ ترتيبَ الحكاية،

واكتبْ على الصفحةِ الأولى:

"كان يا ما كان...

في غزة،

كانوا،

وعاشوا،

وكبروا...

ولم يمت أحد."

***

مجيدة محمدي

 

قد عادَ غيثُ الحبِّ إثرَ جفاءِ

فاخضرَّ عودُ الأرضِ بعدَ ذواءِ

*

وأفاقَ وردُ الروحِ من طولِ الصدى

وتفتَّحتْ أنسامُها بهواءِ

*

ورنتْ طيورُ الوجدِ بينَ غصونِها

تشدو بنبضِ العشقِ والإيحاءِ

*

وسرتْ نسائمُها تُلامسُ مهجتي

فتعيدُ قلبي للحيا بنداءِ

*

يا أيها القلبُ المُوشَّحُ بالسَّوادِ

إلى متى مطري بلا انداءِ؟

*

أما اكتفَتْ عينايَ من سهدِ الأسى

وتعبتُ من أنَّاتِها البكماءِ؟

*

دعني ألوِّنُ مهجتي بضِيائها

وأذوبُ في الآمالِ كالأنواءِ

*

فالصُّبحُ يُومِضُ في الدُّجى مُتأهِّبًا

والحُبُّ أبقى من ظلالِ جفاءِ

*

عندي من الأشجانِ وسعُ مدارِها

لكنها روحٌ اشتهَتْ لِرُواءِ

*

تَهفو إلى نبعِ الطهارةِ علَّها

تُزْهِو وتَسقُطَ في مدى الظَّلماءِ

*

لا اليأسُ يُرْهِقُها وإنْ طالَ الأسى

تبقى تُناجِي النُّورَ في العلياءِ

*

ينِي وبينَ الحزنِ عقدٌ دائمُ

لا ينتهي إلا بقرب فنائي

*

قد أرهقَتْ روحي الظنونُ ولم تزلْ

تَرنو إلى فجرٍ بنورِ صفائي

*

كم عانقَتْ عينايَ طيفَ سعادةٍ

لكنَّه ولى كطيفِ مُراء

***

د. جاسم الخالدي

منذُ عُقود..

لمّا كانَ الوردُ هو الوَرد

والأيّامْ ..

لا يُثقلُها العَدّ

أخبرَني الجَرّاح

محظورٌ أنتَ تُحِبْ

سيكونُ الحبُّ عليكْ

لعنةَ حَربْ

ترميكَ شَهيدْ

أغمِضْ قلبَكَ لمّا تثمَلُ منهُنْ .. بالريقْ

وارمِ الشَهدْ

ما أدراني

جاءَتني من لُجَجِ الغَيبْ

وتدلّتْ من قبضَةِ حَظّ

أبدَلَتِ الخَمرَ رحيق

جعَلَتني أسخَرُ من أحزاني

لكنّي في ذنَبِ العُمرِ عَجول

لا أمسِكُ ما يُلقي الحَظ

اللحظَةُ عندي أبقى من عَهدْ

يا للحُمقْ

ها عدتُ أجوبُ الليلَ بأنفاسِ غَريق

فانفضَّ السَعدْ

سأعودُ الى المحظور

الدمعُ نبيذي

ورفيقي الذَنْب

**

أسكُنُ فيك

علّكَ لا تعرِفُ بَعدْ

ستَظلُّ، كمَثكولٍ.. تبحَثُ عني

يتَلفَتُّ نبضُكَ كالُمُرتاع  ..

تستَخرجُ من أنفاسِكَ عِطري

وستَسألُ عني كلَّ فراشاتِ الدُنيا

وستَحفِرُ في الأيامْ .. عن ذكرى

سيَسيلُ الدمُ من عَينَيكْ

لمّا تعبُركَ النَسَماتْ .. مِن غيري

أنا كعبتُكَ الكُبرى

طافتْ حولي كلُّ أمانيكَ

فكيفَ تَطوفُ وما كفّي في كفَّيك

بركاني يكمُنُ فيكْ

ستكونُ قيامُتك الصُغرى

حين يثور

قالتها ..

غابتْ ..

وأنا..

أعلنتُ ..

مَماتي ..

حَيّا

**

عادل الحنظل

 

يَفْتَحُ دُرْجَ عُمْرِهِ،

يُدْخِلُ فِيهِ جَوْرَباً مِنَ الْكَلَامْ

وَخَاتَماً مِنْ لُؤْلُؤِ الْوِجْدَانْ

إِذَا أَتَاهُ ظِلُّهُ

مِنْ غَابَةِ النِّسْيَانْ.

2

يَعْبُرُهُ الْوَقْتُ، وَلاَ يَعْبُرُهُ

يُسَاعِدُ الْجَنَائِزَ الْحَيْرَى لِتَبْتَسِمْ،

وَفَوْقَ رَأْسِهِ

تَبْنِي الْعَصَافِيرُ وَصِيَّةَ الضِّيَاءْ

تَقُولُ لِلْوَقْتِ:

ابْتَسِمْ كَحَبْلِ النُّورْ

وللِنٌهْرِ:

اخْلَعِ الثِّيَابَ

وَاتْبَعِ النَّشِيدَ

لَيْسَ نَبْضُكَ الَّذِي يُنْبِتُ عُشْباً فِي السَّمَاءْ

لِتَعْصِرَ الْأَضْوَاءَ

فِي جِرَارٍ

طِينُهَا بُكَاءْ

فَكُلُّ مَا تَسْطِيعُهُ

أَنْ تَحْمِلَ الرُّوحَ إِلَى نُقْطَتِهَا.

3

فِي ذَاتِهِ

تَشْتَعِلُ الْأَحْرَاجُ شَهْوَةً

إِذَا

مَا لَيْلُ صَمْتِهِ مَشَى

عَلَى حِبَالِ أَمْسِهِ،

يَأْخُذْ قَبْضَةً مِنَ الْحُدُوسِ

يَلْتَقِي بِوَجْهِهِ

فِي حَانَةِ الغُيُومْ،

هُنَاكَ نَدْهَةٌ تُغَازِلُ اسْمَهُ

يَمْنَحْهَا مِنْ جِسْمِهِ

جَامَ اشْتِهَاءْ

وَ قَطْرَةَ الْحَظِّ الْمُذَابِ فِي الْوُجُومْ

4

يَغْسِلُ حُلْكَةَ الْأَرَقْ

عَنْهُ بِلِيفَةِ الْقَلَقْ

وَفِي عُطُورِ الْوَهْمِ يَغْمِسُ الْحَنَايَا

وَعُشْبَةَ الرِّغَابِ

فِي قَعْرِ الْمَنَايَا،

لَمْ تَرَهُ الْمِيَاهُ غُصْناً

حِينَ أَعْلَنَ عَلَيْهَا عُرْيَهُ،

وَفِي إِهَابِهَا

أَذَابَ مَعْنَاهُ

فِي زُرْقَةِ الْمَسْعَى

كَزَهْرَةٍ وَحْشِيَّةٍ

تَمْشِي بِحَافَةِ الْعِنَادْ

مَخْفُورَةً بِأَنْجُمِ الْأَحْلَامْ،

تَذَوَّقَ الْوُجُودْ

فِي بَسْمَةِ الْأَشْيَاءْ

وَخَبَّأَ الْأَنْفَاسْ

فِي دُكْنَةِ الْوُعُودْ.

رَائِحَةٌ خُطْوَتُهُ

تَفْتَحُ دَرْباً فِي جِبَالِ اللَّيْلْ

كَأَنَّهَا الْكُلُومْ

مَنْكُوشَةً بِعَوْسَجِ النَّدَمْ،

يَافُوخُهُ قِنْدِيلُ حُمَّى

يَفْرِشُ الْأَمْدَاءْ

بِطُنْفُسِ الْهُذَاءْ

مَنِ اسْتَضَاءَ بِاسْمِهِ

يَأْكُلُ مِنْ مَائِدَةِ الْبَهَاءْ،

مِنْ صَوْتِهِ تَسْتَقْطِعُ الْأَوْقَاتْ

أَشْوَاقَهَا

مُبْتَلَّةً

كَمِثْلِ عُصْفُورٍ

يُغَازِلُ السَّمَاءْ.

5

يَقِفُ فِي شُرْفَةِ مَوْتِهِ

وِعَاءً ضَاحِكاً

لِمَطَرِ الْغُيُوبْ

يَسْأَلُ عَنْ ذَرَّاتِ لَوْنِهِ

بِأَحْرُفٍ مُضَاءَةٍ بِأَلْسِهِ،

لَهُ الْأَنْفَاسُ أَسْرَجَتْ حِكَايَةً

تَمِيسُ تَحْتَ أَشْجَارِ الشَّجَنْ

لَابِسَةً قُبَّعَةَ الذُّهُولْ

وَمِعْطَفَ اللَّيَالِي.

6

فِي قَلْبِهِ شَمْسٌ

تَخِطُ جُرْحَ وَطَنٍ

يُقْمِرُ فِيهِ مُعْجِزُ الْخُسْرَانْ،

هُوَ سَمَاءٌ

يَكْرَعُ الرَّغْبَةَ مِنْ أَحْدَاقِ حُلْمِهِ

وَيَمْضِي

مُسْنِداً دِمَاءَهُ

عَلَى ضِيَاءِ قَلْبِهِ،

تَشْهَقُ خَلْفَهُ الْيَنَابِيعُ ظِبَاءً

وَالسُّبُلْ

تَقْتَاتُ مِنْ خُطَاهْ.

***

أحمد بلحاج آية وارهام

في نصوص اليوم